البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

زواج أُمّ كلثوم.. قراءة في نصوص زواج عمر من أُمّ كلثوم بنت عليّ (عليه السلام) (1)

الباحث : 
اسم المجلة :  تراثنا
العدد :  75
السنة :  السنة التاسعة عشرةرجب ـ ذو الحجّة 1424 هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 16 / 2016
عدد زيارات البحث :  6912
زواج أُمّ كلثوم.. قراءة في نصوص زواج عمر من أُمّ كلثوم بنت عليّ (عليه السلام) (1)

بسـم الله الرحمن الرحيم

إنّ قضية تزويج أُمّ كلثوم ابنة الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) من عمر بن الخطّاب من الأُمور التي تُثار بين الحين والآخر ، على شبكات الإنترنيت والصحف والمجلاّت ، وهي ليست بالقضية الجديدة ، بل هي من القضايا القديمة ، وقد أُثيرت لأوّل مرّة في عهد الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) ، واستمرّت حتّى يومنا هذا.
وبما أنّ المسألة ترتبط بالتاريخ من جهة ، والفقه والعقائد من جهة أُخرى ، فقد التزمنا دراسة هذه القضية مع ملابساتها الاجتماعية والتاريخية بقدر ما يسعنا الوقت في هذه العجالة.
لكن قبل بيان حقيقة الأمر لا بُدّ من الإشارة إجمالاً إلى الأقوال المذكورة في هذه المسألة ; كي يكون القارئ على بصيرة من ذلك.
والأقوال في المسألة ثمانية :
أربعة منها من مختصّات الشيعة ، والقول الخامس والسادس والسابع

(109)








قال بها بعض الشيعة وبعض العامّـة ، والقول الثامن هو المشهور عند أبناء العامّـة..
أمّا الأقوال الأربعة التي قالت بها الشيعة ، فهي :
الأوّل : عدم وقوع التزويج بين عمر وأُمّ كلثوم.
وقد ذهب إلى هذا الرأي الشيخ المفيد ( ت 413 هـ ) في المسائل السروية ( المسألة العاشرة ) ، وكذا في المسائل العكبرية ( المسألة الخامسة عشر ) ، وله رسالة بهذا الصدد ، طبعت مستقلّة ضمن منشورات مؤتمر الشيخ المفيد.
هذا ، وقد كذّب خبر التزويج علماء آخرون ، كـ : السيّد مير حامد حسين اللكهنوي الهندي ، في كتابه إفحام الأعداء والخصوم بتكذيب ما افتروه على سيّدتنا أُمّ كلثوم ، والشيخ محمّد جواد البلاغي ، في كتابه تزويج أُمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين وإنكار وقوعه ، وغيرهم.
الثاني : وقوع التزويج لكنّه كان عن إكراه.
مستدلّين بنصوص متعدّدة ، ذكروها في كتبهم.
وقد ذهب إلى هذا الرأي السيّد المرتضى ( ت 436 هـ ) في كتابه الشافي ، و تنزيه الأنبياء ، والمجموعة الثالثة من رسائله (1).


(1) الشافي 3 / 272 ، تلخيص الشافي 2 / 160 ، تنزيه الأنبياء : 191 ، مجموعة رسائل السيّد المرتضى 3 / 149 و 150 ; وانظر : بحار الأنوار 42 / 107 ، الصوارم المهرقة : 201 ـ 202 ، الصراط المستقيم 3 / 130.

(110)




وفي بعض روايات وأقوال الكليني ( ت 329 هـ ) في الكافي (1) ، والكوفي ( ت 352 هـ ) في الاستغاثة (2) ، والقاضي النعمان ( ت 363 هـ ) في شرح الأخبار (3) ، والطبرسي ( ت 548 ) في إعلام الورى (4) ، والمجلسي ( ت 1111 هـ ) في مرآة العقول و بحار الأنوار (5) ، وغيرهم ; ما يشير إلى ذلك.
الثالث : إنّ المتزوَّج منها لم تكن ابنته (عليه السلام) بل ربيبته.
وهي : ابنة أسماء بنت عميس زوجة الإمام عليّ بن أبي طالب ، أي أنّها : ابنة أبي بكر ، وأُخت محمّد بن أبي بكر ; وبذلك تكون أُمّ كلثوم ربيبة الإمام عليّ وليست ابنته.
انظر هذا الكلام عند الشيخ النقدي في الأنوار العلوية : 426.
قال السيّد شهاب الدين المرعشي في تعليقاته على إحقاق الحقّ : ثمّ ليُعلم أنّ أُمّ كلثوم التي تزوّجها الثاني كانت بنت أسماء وأخت محمّد هذا ، فهي ربيبة مولانا أمير المؤمنين ولم تكن بنته ، كما هو المشهور بين المؤرّخين والمحدِّثين ، وقد حقّقنا ذلك ، وقامت الشواهد التاريخية في ذلك واشتبه الأمر على الكثير من الفريقين ، وإنّي بعدما ثبت وتحقّق لديّ أنّ الأمر كان كذلك ، استوحشت التصريح به في كتاباتي ; لزعم التفرّد في هذا الشأن ، إلى أن وقفت على تأليف في هذه المسألة للعلاّمة المجاهد


(1) الكافي 5 / 346 ح 1 و 2.
(2) الاستغاثة : 80 ـ 82 ; وعنه في مستدرك الوسائل 14 / 443 ـ 444.
(3) شرح الأخبار 2 / 507.
(4) إعلام الورى 1 / 397 ; وعنه في بحار الأنوار 42 / 93.
(5) مرآة العقول 20 / 42 ، بحار الأنوار 42 / 109.

(111)



السيّد ناصر حسين الموسوي اللكنوي أبان عن الحقّ وأسفر ، وسمّى كتابه : إفحام الخصوم في نفي تزويج أُمّ كلثوم (1).
وقال ـ رحـمه الله ـ في مكان آخر : أسماء بنت عميس تزوّجها جعفر ابن أبي طالب ، فولدت له : عوناً وجعفراً ، ثمّ تزوّجها أبو بكر ، فوُلد له منها عـدّة أولاد ، منـهم : أُمّ كلثوم ، وهي التي ربّاها أمير المؤمنين وتزوّجها الثاني ، فكانت ربيبته (عليه السلام) وبمنزلة إحدى بناته ، وكان (عليه السلام)يخاطب محمّداً بـ : ابني ، وأُمّ كلثوم هذه بـ : بنتي ، فمن ثمّ سرى الوهم إلى عدّة من المحدّثين والمؤرّخين ، فكم لهذه الشبه من نظير ؟! ومنشأ توهُّم أكثرهم هو الاشتراك في الاسم والوصف ، وأنّ مولانا عليّاً (عليه السلام) تزوّجها بعد موت أبي بكر (2).
الرابع : إن عليّاً زوّج عمر جنّية تشبه أُمّ كلثوم.
إذ الثابت عند الشيعة أنّ للنبيّ والإمام سلطةً على الجنّ بإذن الله ، كما كان لسليمان (عليه السلام) سلطة عليهم (3) ، وأنّ وقوع الشبه ليس ببعيد ; فقد شُبِّه على الظلمة عيسى بن مريم بيهوذا فقتل وصلب.
هذا ما رواه القطب الراوندي ( ت 573 هـ ) في كتابه الخرائج والجرائح (4).


(1) إحقاق الحقّ 2 / 376.
(2) إحقاق الحقّ 3 / 315 بتصرّف.
(3) انظر مثلا : سورة ص 38 : الآيات 35 ـ 40.
(4) الخرائج والجرائح 2 / 825 ـ 827 ; وعنه المجلسي في بحار الأنوار 42 / 88 ح 106 ، وفي مرآة العقول 21 / 198..

(112)




هذه هي الأقوال المختصة بالشيعة.
وأمّا الأقوال التي ذهب إليها بعض الشيعة وبعض العامّة فهي :
الخامس : إنكار وجود بنت لعليّ (عليه السلام) اسمها أُمّ كلثوم.
لأنّ أُمّ كلثوم كنية لزينب الصغرى (1) أو الكبْرى (2) أو لرقيّة (3) ، أمّا وجود بنت اسمها : أُمّ كلثوم ، فلم يُعرف عند المحقّقين ; إذ لو كان ذلك لعُرف تاريخ ولادتها ، ومكان دفنها ، وبما أنّ الأخبار خالية من ذلك ، فإنّ هذا يشير إلى التشكيك في وجودها.
وقد ذهب إلى هذا الرأي جمع من العامّـة والشيعة ; فقد نقل عن الدميري أنّه قال : أعظم صداق بلغنا خبره صداق عمر لمّا تزوّج زينب بنت عليّ ; فإنّه أصدقها أربعين ألف دينار (4)..
ومعنى كلام الدميري : أنّ زينب هو اسم لأُمّ كلثوم ; وذلك لاشتهار تزويج عمر بأُمّ كلثوم لا بزينب.
وروى البيهقي : عن قثم مولى آل العبّاس ، قال : جمع عبد الله بن جعفر بين ليلى بنت مسعود النهشلية ، وكانت امرأة عليّ(رضي الله عنه) ، وبين أُمّ كلثوم


وانظر : المجدي في أنساب الطالبيّين : 17 ، ومستدرك سفينة البحار 2 / 121 ، ومدينه المعاجز 3 / 203 ، والصراط المستقيم ـ للبياضي ـ 3 / 130 ، وغيرها.
(1) انظر : الإرشاد ـ للمفيد ـ 1 / 354 ; وعنه في بحار الأنوار 42 / 74 ; وهذا هو الرأي المشهور عند المؤرّخين.
(2) وهو ما يفهم من شعر الشيخ إبراهيم بن يحيى العاملي والسيّد عبد الرزّاق المقرم الآتي ، وغيرهم.
(3) المجدي في أنساب الطالبيّين ـ للعمري ـ : 17 ، عمدة الطالب ـ لابن عنبة ـ : 63 ، ينابيع المودّة : 3 / 147 ، ملحقات إحقاق الحقّ 10 / 426.
(4) التراتيب الإدارية 2 / 405 ، عن المختار الكتبي في الأجوبة المهمّة.
(113)



بنت عليّ لفاطمة (عليها السلام) (1)..
ومعنى كلامه : أنّ أُمّ كلثوم هي زينب ; لأنّها كانت زوجته على القطع واليقين ، ولم يثبت طلاقه لها ، حتّى ماتت وهي عنده.
وقد كتـب الشيخ إبراهيم بن يحيى بن محمّد العاملي ( ت 1214 هـ ) على جدار مقام السيّدة زينب بدمشق هذه الأبيات ; لاعتقاده بأنّ زينب هي أُمّ كلثوم :

مقام لعـمرو الله ضمّ كريمـة زكا الفرع منه البرية والأصلُ
لها المصطفى جَدٌّ وحيدرة أبٌ وفاطمةٌ أُمٌّ وفاروقهم بَعْـلُ (2)
ومن الشيعة الإمامية : السيّد عبد الرزّاق المقرم ، في بعض كتبه كـ : نوادر الأثر ( المخطوط ) ، و السيّدة سكينة : صفحة 38 ، وعدّة مواضع من كتابه مقتل الحسين.
والشيخ المامقاني في تنقيح المقال ; إذ قال : أُمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين : هذه كنية لزينب الصغرى ، وقد كانت مع أخيها الحسين بكربلاء ،


(1) السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 7 / 167 ، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 8 / 465.
وقال ابن حجر في فتح الباري : عن ابن مهران ، أنّه قال : جمع عبد الله بن جعفر بين زينب بنت عليّ وامرأة عليّ ليلى بنت مسعود.
وقد حاول الزهري الجمع بين الروايتين ـ في زينب وأُمّ كلثوم ـ بأنّه تزوّجهما واحدة بعد الأُخرى ، مع بقاء ليلى في عصمته.
انظر : فتح الباري 9 / 127 ، وتهذيب التهذيب 8 / 324 ترجمة قثم بن لؤلو.
لكنّ جمعه باطل بنظرنا ; وذلك لصغر سنّ أُمّ كلثوم عن زينب عندهم ، ولأنّ عبد الله ـ أكبر أولاد جعفر ـ كان قد تزوّج زينب ـ أكبر بنات علي ـ أوّلاً ، ولم يثبت تطليقه لها حتّى ماتت عنده ، ومن المعلوم بأنّ الشرع لا يجيز الجمع بين الأُختين ; فتأمّل.
(2) انظر : أعيان الشيعة 5 / 514.
(114)
وكانت مع السجّاد إلى الشام ، ثمّ إلى المدينة ، وهي جليلة القدر ، فهيمة بليغة ، وخطبتها في مجلس ابن زياد بالكوفة معروفة ، وفي الكتب مسطورة ، وإنّي اعتبرها من الثقات..
والمشهور بين الأصحاب أنّه تزوّجها عمر بن الخطّاب غصباً ، كما أصر السيّد المرتضى وصمّم عليه في رسالة عملها في هذه المسألة ، وهو الأصحّ ; للأخبار المستفيضة (1).
السادس : هو أنّ أُمّ كلثوم لم تكن من بنات فاطمة بنت محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بل كانت من أُمّ ولـد.
وقد ذهب إلى هذا الرأي بعض أعلام العامّـة والشيعة كذلك ; ففي تاريخ مواليد الأئمّة (2) ، و نور الأبصار (3) ، و نهاية الإرب (4) :... وكان له زينب الصغرى وأُمّ كلثوم الصغرى من أُمّ ولد.
السابع : تزويجها من عمر ، لكنّ عمر مات ولم يدخل بها.
وإلى هذا ذهب بعض أعلام الشيعة وبعض العامّـة ; فقد قال النوبختي


(1) انظر : تنقيح المقال ط قديمة ( الفصل الثاني : في الكنى ) 3 / 73.. هـذا ، وقـد اعترض السيّد الأمين في أعيان الشيعة 3 / 485 ( ما بدأ بـ : أُمّ ) على ما قاله الشيخ الطريحي في تكملة الرجال بقوله : فما في تكملة الرجال ، من الجزم بأنّ زينب الصغرى المكنّاة : أُمّ كلثوم هي زوجة عمر ، في غير محلّه ، بل هي غيرها
(2) مواليد الأئمّة : 15.
(3) نور الأبصار : 103.
(4) نهاية الإرب 20 / 223.

(115)



ـ من أعلام القرن الثالث الهجري ـ من الشيعة الإمامية في كتابه الإمامة : أُمّ كلثوم كانت صغيرة ، ومات عنها عمر قبل أن يدخل بها (1).
وقال الشيخ جعفر النقدي في الأنوار العلوية :... فروي أنّه ] أي عمر ] لمّا دخل عليها كان ينظر شخصها من بعيد ، وإذا دنا منها ضُرِبَ حجاب بينها وبينه فاكتفى بالمصاهرة (2).
وقال أبو الحسن العمري في المجدي في أنساب الطالبيّين : وآخرون من أهلنا يزعمون أنّه لم يدخل بها (3).
وقال الزرقاني المالكي ( ت 1122 هـ ) في شرح المواهب اللدنّية : وأُمّ كلثوم زوجة عمر بن الخطّاب ، مات عنها قبل بلوغها (4).
هذا ، ولم يذكر المسعودي أُمّ كلثوم بنت عليّ في أُمّهات أولاد عمر في كتابه مروج الذهب ، بل عدّ عبد الله وعبيد الله وحفصة وزيداً وعاصماً من أُمّ واحدة (5).
وقد ذكر الطبري أسماء أولاد عمر ، فقال : وزيد الأصغر وعبيد الله قُتلا يوم صفّين مع معاوية ، وأُمّهما : أُمّ كلثوم بنت جرول بن مالك بن مسيب بن ربيعة ، وكان الإسلام فرّق بين عمر وأُمّ كلثوم بنت جرول (6).
أمّا القول الثامن : وهو المشهور عند العامّـة ، فملخّصه : إنّ عمر


(1) بحار الأنوار 42 / 91 ، مناقب آل أبي طالب 3 / 89.
(2) الأنوار العلوية : 435.
(3) المجدي في أنساب الطالبيّين : 17.
(4) شرح المواهب اللدنّية 7 / 9.
(5) مروج الذهب 2 / 330.
(6) تاريخ الطبري 3 / 269 ، الكامل في التاريخ 2 / 450 ، البداية والنهاية 7 / 156.

(116)

تزوّج أُمّ كلثوم ودخل بها وأولدها : زيداً ورقيّة.
ونحنُ وإن كان المنهج العلمي يدعونا إلى دراسة الأقوال الثمانية كلّها ثمّ الوقوف في ضوء ذلك على الرأي المختار.
لكنّ تلك الأقوال تستدعي الدراسة الوافية لها والترجيح بينها ، وهو ممّا يحتاج إلى مزيد وقت لا نمتلكه الآن ; فاكتفينا بالتعليق على القول الأخير ، على أمل أن نلتقي مع القُرّاء في دراسة شاملة عن هذه القضية ، آملين أن نكون قد قدّمنا شيئاً في هذا المضمار ، مشيرين إلى أن عملنا سيكون في ثلاثة جوانب :
1 ـ الجانب التاريخي :
وفيه نبيّن ملابسات القول الثامن تاريخياً وعقائدياً واجتماعياً ، ونناقش النصوص التاريخية الواردة فيه على وجه التحديد ، وهل أنّ هذا القول يمسّ عقائد الشيعة الإمامية ، أم أنّه يمسّ العامّـة ، أم أنّه لا يمسّ أيّاً منهما ، أو أنّه يمسّهما معاً ؟
2 ـ الجانب الفقهي :
وفيه بيان لكيفية دخول الروايات الداعمة للرأي الثامن في كتب الفقه والحديث الشيعية ، ومدى حجّية تلك الأحاديث ودلالتها.
3 ـ الجانب العقائدي :
وفيه نبحث عن الإشكاليات المطروحة في هذا الزواج ، وأن القول بالتزويج لا يمسّ بعقائد الشيعة بقدر ما يمسّ بأُصول الفكر السُـنّي ; لأنّ

(117)






لازم هذا القول هو خروج عمر بن الخطّاب عن الموازين الأخلاقيّة ، والضوابط العرفية ، المتعارف عليها في المجتمعات الإسلاميّة.
وعليه ; فنحن لسنا ـ وحسبما أكّدنا ـ بصدد ترجيح رأي على آخر ، أو تبنّي رأي تاسع في المسألة ، بل كلّ ما في الأمر هو بيان ملابسات القول الأخير ـ أي الثامن ـ ومحاكمة النصوص فيه ، وكيفية تداخل النصوص بين الطائفتين ، ومدى تأثيرها على الأُصول والمفاهيم عند الفريقين ، لا اعتقاداً منّا بصحّة تلك الأخبار سنداً أو دلالة ، بل إلزاماً للآخرين القائلين بوقوع هذا التزويج ، ليس أكثر من ذلك.
مؤكّدين للقارئ العزيز بأنّ عملنا هذا ما هو إلاّ محاولة بسيطة في هذا السياق ، وإجابة لأشهر الأقوال ، وأكثرها شيوعاً على شبكات الإنترنيت ; إذ لم نحقّق بعد كلّ جوانب هذه المسألة ، للخروج بالنتيجة المطلوبة.
وإليك بعض النصوص في تزويج عمر من أُمّ كلثوم ، أتينا بها من كتب السيَر والتاريخ في مدرسة الخلفاء ، لتكون مقدّمة لِما نبغي الوصول إليه.

(118)












نصوص في التزويج

ترجم ابن سعد لأُمّ كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في الطبقات الكبرى ، فقال :
تزوّجها عمر بن الخطّاب وهي جارية لم تبلغ ، فلم تزل عنده إلى أن قُتل ، وولدت له : زيد بن عمر ، ورُقيّة بنت عمر...
ـ إلى أن يقول : ـ أخبرنا أنس بن عياض الليثي ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه : أنّ عمر بن الخطّاب خطب إلى عليّ بن أبي طالب ابنته أُمّ كلثوم ، فقال عليّ : إنّما حبست بناتي على بني جعفر.
فقال عمر : أنكحنيها يا عليّ ، فوالله ما على ظهر الأرض رجل يرصد من حسن صحابتها ما أرصد.
فقال عليّ : قد فعلت.
فجاء عمر إلى مجلس المهاجرين بين القبر والمنبر ، وكانوا يجلسون ثَمّ عليّ وعثمان والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف ، فإذا كان الشيء يأتي عمر من الآفاق ، جاءهم فأخبرهم ذلك واستشارهم فيه..
فجاء عمر فقال : رفّئوني. فرفّؤوه وقالوا : بمن يا أمير المؤمنين ؟ قال : بابنة عليّ بن أبي طالب.
ثمّ أنشأ يخبرهم ، فقال : إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : كلّ نسب وسبب منقطع يوم القيامة إلاّ نسبي وسببي ، وكنت قد صحبته فأحببت أن يكون
هذا أيضاً (1).
وفيه أيضاً : قال محمّد بن عمر وغيره : لمّا خطب عمر بن الخطّاب إلى عليّ ابنته أُمّ كلثوم ، قال : يا أمير المؤمنين ! إنّها صبيّة.
فقال : إنّك والله ما بك ذلك ، ولكن قد علمنا ما بك.
فأمر عليّ بها فصُنّعت ، ثمّ أمر ببرد ، فطواه وقال : انطلقي بهذا إلى أمير المؤمنين فقولي : أرسلني أبي يقرئك السلام ، ويقول : إن رضيت البُرد فأمسكه ، وإن سخطته فردّه.
فلمّا أتت عمر قال : بارك الله فيك وفي أبيك ، قد رضينا.
قال : فرجعت إلى أبيها فقالت : ما نشر البُرد ولا نظر إلاّ إليّ.
فزوّجها إيّاه فولدت له غلاماً يقال له : زيد (2).
وفي الإصابة ، و غوامض الأسماء المبهمة ، والنصّ للأوّل : عن ابن أبي عمر المقدسي ، حدثني سفيان ، عن عمرو ، عن محمّد بن عليّ : إنّ عمر خطب إلى عليّ ابنته أُمّ كلثوم ، فذكر له صغرها ، فقيل له : إنّه ردّك ، فعاوده فقال له عليّ : أبعثُ بها إليك ، فإن رضيتَ فهي امرأتك ، فأرسل بها


(1) الطبقات الكبرى 8 / 463.
رفئوني ، أي : قولوا لي : بالرفاء والبنين ; وهذا كان من رسوم الجاهلية ، وقد نهى عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فقد روى الكليني في الكافي 2 / 19 بإسناده عن البرقي رفعه ، قال : لمّا زوّج رسول الله فاطمة (عليها السلام) ، قالوا : بالرفاء والبنين.
فقال (صلى الله عليه وآله) : لا ، بل على الخير والبركة.
وفي مسند أحمد 3 / 451 بسنده عن سالم بن عبد الله ، عن عبد الله بن محمّد ابن عقيل ، قال : تزوّج عقيل بن أبي طالب فخرج علينا ، فقلنا : بالرفاء والبنين.
فقال : مه ، لا تقولوا ذلك ، فإنّ النبيّ قد نهانا عن ذلك وقال : قولوا : بارك الله لك ، وبارك الله عليك ، وبارك لك فيها.
(2) الطبقات الكبرى 8 / 464 ، المنتظم 4 / 237 ، تاريخ دمشق 19 / 486.

(120)
إليه فكشف عن ساقيها.
فقالت : مه ، لولا أنّك أمير المؤمنين للطمت عينك (1).
وفي المنتظم لابن الجوزي ، و تاريخ دمشق لابن عساكر ، والنصّ للأوّل : أنبانا الحسين بن محمّد بن عبد الوهاب بإسناده ، عن الزبير بن بكّار ، قـال : كان عمر بن الخطّاب ـ رض ـ خطب أُمّ كلثوم إلى عليّ بن أبي طالب ، فقال له عليّ : صغيرة.
فقال له عمر : زوّجـنيها يا أبا الحسن ، فإنّي أرصد من كرامتها ما لا يرصده أحد.
فقال له عليّ : أنا أبعثها إليك ، فإن رضيتَها زوّجتكها.
فبعثها إليه ببرد ، وقال لها : قولي : هذا البرد الذي قلت لك.
فقالت ذلك لعمر ، فقال : قولي : قد رضيته ، رضي الله عنك ، ووضع يده على ساقها وكشفها.
فقالت له : أتفعل هذا ؟! لولا أنّك أمير المؤمنين لكسرت أنفك ، ثمّ خرجت ، وجاءت أباها فأخبرته الخبر ، وقالت : بعثتني إلى شيخ سوء.
فقال : مهلا يا... (2).
وفي رواية الطبري : إنّ عليّاً أرسل ابنته إلى عمر فقال لها : انطلقي إلى أمير المؤمنين فقولي له : إنّ أبي يقرئك السلام ، ويقول لك : قد قضيتُ حاجتك التي طلبت ، فأخذها عمر فضمّها إليه ، فقال : إنّي خطبتها إلى أبيها


(1) الإصابة في تمييز الصحابة 8 / 465 ، غوامض الأسماء المبهمة 2 / 787.
(2) المنتظم 4 / 237 ، تاريخ دمشق 19 / 482 ، الطبقات الكبرى 8 / 464 ، مختصر تاريخ دمشق 9 / 159 ـ 160 ، الفتوحات الإسلامية 2 / 455 ، شرح نهج البلاغة 12 / 106 ، سير أعلام النبلاء 3 / 501 ، الاستيعاب 4 / 1954 ـ 1955 ، المستدرك على الصحيحين 3 / 153 ح 4684.

(121)
فزوّجنيها.
قيل : يا أمير المؤمنين ! ما كنت تريد إليها ؟ إنّها صبية صغيرة.
فقال : إنّي سمعت رسول الله يقول : كلّ سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلاّ سببي ونسبي... (1).
وذكر الخطيب البغدادي بإسناده ، عن عقبة بن عامر الجهني : خطب عمر بن الخطّاب إلى عليّ بن أبي طالب ابنته من فاطمة ، وأكثر تردّده إليه ، فقال : يا أبا الحسن ! ما يحملني على كثرة تردّدي إليك إلاّ حديث سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : كلّ سبب وصهر منقطع يوم القيامة إلاّ سببي ونسبي. فأحببت أن يكون لي منكم أهل البيت سبب وصهر.
فقام عليّ فأمر بابنته من فاطمة فزُيِّنت ، ثمّ بعث بها إلى أمير المؤمنين عمر ، فلمّا رآها قام إليها فأخذ بساقها ، وقال : قولي لأبيك : قد رضيتُ قد رضيتُ قد رضيت.
فلمّا جاءت الجارية إلى أبيها ، قال لها : ما قال لك أمير المؤمنين ؟ قالت : دعاني وقبلّني ، فلمّا قمت أخذ بساقي وقال : قولي لأبيك : قد رضيت.
فأنكحها إيّاه ، فولدت له : زيد بن عمر بن الخطّاب ، فعاش حتّى كان رجلاً ثمّ مات (2).


(1) ذخائر العقبى : 169 ; عن الدولابي في الذرّيّة الطاهرة : 114 ، سيرة ابن إسحاق : 233.
(2) تاريخ بغداد 6 / 180.

(122)

وروى الزرندي الحنفي في نظم درر السمطين (1) ، وابن الجوزي في المنتظم (2) ، والنصّ للأوّل :
إنّ عمر بن الخطّاب ـ رض ـ خطب إلى عليّ ـ رض ـ ابنته أُمّ كلثوم ، وهي من فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (3) ، وقال عليّ : إنّها صغيرة.
فقال عمر : زوّجنيها يا أبا الحسن ، فإنّي أرغب في ذلك ، سمعت رسول الله يقول : كلّ نسب وصهر ينقطع إلاّ ما كان من نسبي وصهري.
فقال عليّ : إنّي مرسلها إليك تنظر إليها.
فأرسلها إليه ، وقال لها : اذهبي إلى عمر ، فقولي له : يقول لك عليّ : رضيتَ الحلة ؟
فأتته ، فقالت له ذلك ، فقال : نعم ، رضي الله عنك. فزوّجه إياها في سنة سبع عشرة من الهجرة ، وأصدقها ـ على ما نقل ـ أربعين ألف درهم ، فلمّا عقد بها جاء إلى مجلس فيه المهاجرين والأنصار وقال : ألا تزفّوني ؟! وفي رواية : ألا تهنئوني ؟!
قالوا : بماذا يا أمير المؤمنين ؟
قال : تزوّجت أُمّ كلثوم بنت عليّ ، لقد سمعت رسول الله يقول : كلّ نسب وسبب منقطع إلاّ نسبي وسببي وصهري ، وكان به (صلى الله عليه وآله وسلم) السبب والنسب ، فأردت أن أجمع إليه الصهر.
فزفّوه ودخل بها في ذي القعدة من تلك السنة (4).

(1) نظم درر السمطين : 235.
(2) المنتظم 4 : 238.
(3) لم يكن في النصوص السابقة أنّها : من فاطمة بنت رسول الله ; فتأمّل.
(4) انظر : الاستيعاب 4 / 1954 ـ 1955.

(123)
وقال اليعقوبي في تاريخه : وفي هذه السنة ( أي سنة سبع عشرة ) خطب عمر إلى عليّ بن أبي طالب أُمّ كلثوم بنت عليّ ، وأُمّها فاطمة بنت رسول الله. فقال عليّ : إنّها صغيرة.
فقال : إنّي لم أرد حيث ذهبت ، ولكنّي سمعتُ رسول الله يقول : كلّ نسب وسبب ينقطع يوم القيامة إلاّ سببي ونسبي وصهري ، فأردت أن يكون لي سبب وصهر برسول الله (1).



(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 149.

(124)











البحث التاريخي
قبل الدخول في صلب البحث لا بُدّ من الوقوف على مقدّمتين :
أُولاهما : الوقوف على نظرة العامّـة إلى الخليفة والخلافة ، وهل أنّ الخليفة عندهم منصوص عليه من قِبل الله ورسوله أم لا ؟
ثانيهما : ما هي تصوّراتهم عن الخليفة ؟ هل أنّه معصوم أم أنّه إنسان عادي يصيب ويخطئُ ؟
من الثابت المشهور عن العامّـة أنّهم لا يعتقدون بلزوم كون الخليفة منصوصاً عليه من قِبل الله ورسوله ، بل إنّ أمر الخلافة عندهم راجعٌ إلى الأُمّة ، فتحصل تارة ببيعة أهل الحلّ والعقد ، أو ببيعة اثنين ، أو واحد ، وأُخرى بالشورى ، وثالثة بالإجماع ، و... فمَن انُتخب صار إماماً للمسلمين وخليفة لرسول الله !!
أمّا المقدّمة الثانية :
فهم لا يقولون بعصمة الخلفاء ، بل نراهم يحدّدون ويحصرون عصمة الرسول في ما يبلّغه عن الباري جلّ شأنه فقط ، ومعنى كلامهم : أنّهم يذهبون إلى تخطئة الرسول الأكرم في الموضوعات الخارجية ، وحتّى في الأحكام الشرعية التي لم ينزل فيها وحي من الله تعالى ; لكونه مجتهداً ، والمجتهد قد يخطئ وقد يصيب.
هذا بصرف النظر عن واقع الخليفة ; فالسير التاريخي والوقائع والنصوص أكّدت لنا خطأ الخلفاء وجهلهم في كثير من الأحكام والمواقف ،

(125)
لكنّنا لا نرتضي جرّ هذا القول ـ وبالمعكوس ـ على ساحة الرسول الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والقول بأنّه كان يخطئُ أو يجتهد في الأحكام الشرعية ; لأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان متّصلا بالوحي ، يأخذ تعاليمه ومواقفه منه ، فلا حاجة به للاجتهاد والإفتاء طبق الظنّ والتخمين.
نعم ، إنّهم قالوا بهذا القول كي يرفعوا بضبع بعض الصحابة من خلال الهبوط بمنزلة ومستوى الرسول الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم) ; فتراهم يذهبون إلى أنّ الله تعالى عاتب رسوله على أخذ الفداء من أسرى بدر ، وأنّ العذاب قرب نزوله ، ولو نزل لَما نجا منه إلاّ عمر.
بهذه النصوص والأقوال أنزلوا الرسول المصطفى إلى منزلة رجل عادي ، يخطئ ويصيب ، ويسبّ ويلعن ، ثمّ يطلب الرحمة لمَن سبّهم.
وقد أجبنا عن هذه الافتراءات والترهات وأمثالها ـ شارحين كيفية نشوء فكرة اجتهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومن ثمّ تأطُّر مدرسة الاجتهاد والرأي عند العامّـة ، والأسباب والدواعي الكامنة وراء تناقل مثل هذه الأقوال ـ في كتابنا منع تدوين الحديث ، فمن أحبّ فليرجع إليه.
إذاً يمكن للباحث ـ وبمطالعة سريعة لتاريخ صدر الإسلام ـ الوقوف على أُمور كثيرة صدرت من قبل الشيخين ، ومَن تبعهم من الخلفاء ، كعثمان ومعاوية و... بُنيت على المصلحة الوهمية والرأي الشخصي ، وغالبها منافية للأُصول الإسلامية..
كـ : رفع الخليفة الأوّل الرجم عن خالد بن الوليد مع ثبوت دخوله بزوجة مالك بن نويرة وهي في العدّة (1)..
(1) تاريخ الطبري 2 / 503 ، البداية والنهاية 6 / 355 ، أُسـد الغابة 1 / 588 ، الكامل في التاريخ 2 / 358.

(126)
وتعطيل الخليفة الثاني لسهم المؤلّفة قلوبهم (1) ، مع أنّ الله قد فرضه لهم في كتابه العزيز بقوله : (... للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلّفة قلوبهم ) (2)..
وتشريعه للطلاق ثلاثاً (3) ، مع أنّ الباري جلّ شأنه قال : ( الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) (4)..
وابتداعه لصلاة التراويح ، مع اعتقاده بأنّها بدعة ، وقوله عنها : نعمت البدعة هي (5)..
وحرق الخليفة الثالث للمصاحف ، مع ثبوت نهي الرسول عن حرق التوراة (6) ; فكيف بالقرآن العزيز ؟!
كلُّ هذه الأفعال والمواقف وأضعافها من هؤلاء الخلفاء اعتبرت بأنّها شرعية تحت غطاء شرعية المصلحة والاجتهاد !! وعُلِّلَ الأمر بأنّ هؤلاء الخلفاء والصحابة يعرفون مصالح الأحكام وروح التشريع أفضل من غيرهم..
فهل كانوا كذلك ؟!
وإذا كانوا كذلك ; فكيف يمكن رفع التعارض بين مواقفهم إذاً ؟!


(1) فتح القدير ـ للشوكاني ـ 2 / 373.
(2) سورة التوبة 9 : 60.
(3) صحيح مسلم 4 / 183 ، المستدرك على الصحيحين 2 / 196 ، مسند أحمد 1 / 314.
(4) سورة البقرة 2 : 229.
(5) صحيح البخاري 2 / 252 باب : فضل من قام رمضان ح 1906 ، موطّأ مالك 1 / 114 باب : ما جاء في رمضان ح 250 ، تاريخ المدينة 2 / 714 ، الطبقات الكبرى 5 / 59 ، تاريخ اليعقوبي 2 / 140.
(6) كما في حديث عائشة ; انظر : الكامل في الضعفاء 1 / 173.
(127)
ومَن هو المحقّ : هل إنّ عمر هو المحقّ في تهديده لخالد وقوله له : أرئاءً ؟! قتلت امرءاً مسلماً ثمّ نزوت على امرأته ، والله لأرجمنّك بأحجارك. ولا يكلّمه خالد بن الوليد ولا يظنّ إلاّ أنّ رأي أبي بكر على مثل رأي عمر فيه ، حتّى دخل على أبي بكر ، فلمّا (1)...
أم أنّ أبا بكر هو المحقّ في قوله : يا عمر ! ( تأوّل فأخطأ ) (2) ، فارفع لسانك عن خالد ، فإنّي لا أشيم سيفاً سلّه الله على الكافرين (3) ؟!
ولماذا يصرّ أبو قتادة الأنصاري على موقفه من خالد ؟!
ومَن هو المحقّ : أبو قتادة ، أم أبو بكر في نهيه له (4) ؟
وماذا يعني منطق الخليفة الأوّل : ( تأوّل ) ؟ وكون أعدائه ـ المسلمين ـ من الكافرين ؟
هل جاء هذا الموقف لاحتياجه إلى خالد في مواقفه الأُخرى ، أم لشيء آخر ؟!
وكيف ساغ لأبي بكر أن ينهى أبا قتادة عن التعرّض لخالد ، مع أنّ اعتراض أبي قتادة كان نابعاً من القرآن الكريم والسنّة المطهرة ؟!
وماذا يمكننا أن نقول في : المؤلّفة قلوبهم ؟ ومَن هو المحقّ في القرار : هل هو أبو بكر أم عمر ؟
فقد جاء في كتب التاريخ : إنّ أبا بكر كتب إلى عمر بأن يعطي المؤلّفة قلوبهم حقَّهم ، فلمّا أتوه مزّق الكتاب وقال : إنّا لا نعطي على الإسلام


(1) تاريخ الطبري 2 / 504 ، تاريخ دمشق 16 / 259 ، سير أعلام النبلاء 1 / 378.
(2) الإصابة 5 / 561.
(3) تاريخ الطبري 2 / 589 ، البداية والنهاية 6 / 355 ، أُسـد الغابة 2 / 95 ، وغيرها.
(4) الكامل في التاريخ 2 / 358.

(128)
شيئاً ، فمن شاء فليؤُمن ومن شاء فليكفر ، ولا حاجة لنا بكم.
فرجعوا إلى أبي بكر وقالوا : هل أنت الخليفة أم عمر ؟
قال : هو إن شاء (1).
وبعد هذا ; كيف يمكن لغيرنا أن يصحّح المنسوب إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : اقتدوا باللّذين من بعدي : أبي بكر وعمر (2) ، مع ما يراه من الاختلاف بين مواقفهما ؟!
ولو صحّ هذا الخبر ; فلماذا نرى تخلّف كثير من الصحابة عمّا شرّعه الشيخان ؟ وتخطئتهم لهما في ما اجتهدا فيه في بعض الأحيان ؟!
وما يعني ذلك ؟
ألم تكن مواقفهم المخطّئة للشيخين ، وتصريحات الشيخين بأنّهما عاجزان غير عالمين في كثير من الأحايين بما جاء في الذكر الحكيم والسنّة المطهّرة ، دالّة على كذب هذه المقولة ؟!
بل كيف بالخليفة يسأل عن الأحكام لو كان هو الإمام المقتدى المأمور بطاعته والاقتداء به ؟!
كلّ هذه النصوص تؤكّد على أنّ المصالح التي صوّرها الإعلام في مدرسة الخلفاء لم تكن شرعية وحقيقية بالمعنى الصحيح للكلمة ، بل هي مصالح وهمية تصوّرها الخلفاء وأنصارهم ، ومنها وعليها سرى وجرى التشريع الحكومي لاحقاً.


(1) انظر : تاريخ دمشق 9 / 195 ، الدرّ المنثور 3 / 252 في تفسير الآية 60 من سورة التوبة ، وتفسير المنار 10 / 96 ، المبسوط ـ للسرخسي ـ 3 / 9.
(2) مسند أحمد 5 / 382 ، سنن الترمذي 5 / 271 ح 3742 ، سُنن ابن ماجه 1 / 37 ح 97.

(129)
بعد أن اتّضح جواب السؤالين السابقين ، وعُرف أنّ الخليفة ليس بمعصوم ، وأنّ الله لم ينصبه ، وقد أخطأ بالفعل في كثير من الأُمور ، وأنّ المصالح التي تصوّرها لم تكن حقيقية ، عامّة للجميع ، بل كثير منها وهمية ، وهي مصالح خاصّة ; فلا بُدّ إذاً من دراسة مدّعى عمر في هذا الأمر..
هل كان حقّاً يريد التقرّب إلى رسول الله إذ سمع منه (صلى الله عليه وآله وسلم) : « كلّ سبب أو نسب منقطع إلاّ سببي ونسبي » (1) ، أم أنّه جعلها وسيلة لأمر آخر ؟!
وهل أنّ اقتراح الزواج يرتبط بأمر سياسي ، أم اجتماعي ، أم عاطفي ، أم غير ذلك ؟!
عمر ودعوى القرابة :
لو درسنا سيرة عمر قبل وبعد الإسلام لوقفنا على حقيقة أُخرى غير ما يصوّره أصحاب السير والتراجم ، ولرأيناها تتنافى مع المدّعى كمال المنافاة ; لأنّه كان يصرّ في معركة بدر على لزوم قتل كلّ قريب قريبَهُ ، وقد طلب بالفعل من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقتل عمّه العبّاس ، ومن عليّ (عليه السلام) أن يقتل أخاه عقيل ، و... مع أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يؤكّد له بأنّهما جاءا مكرَهيْن للمعركة (2).
وهذه صورة واحدة عن موقفه مع قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومفهوم
(1) السنن الكبرى 7 / 64 ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ 3 / 45 ، 11 / 194 ، المعجم الأوسط ـ للطبراني ـ 6 / 357 ، ورواه أيضاً الهيثمي في مجمع الزوائد 4 / 271.
(2) صحيح مسلم 5 / 157 ، مسند أحمد 1 / 31 ، البداية والنهاية 3 / 362 ، تفسير ابن كثير 4 / 352 ، الدرّ المنثور 3 / 175.
القرب والقرابة عنده في أوائل الإسلام ، وعدم وجود ميزة للقرابة عنده.
وإليك الآن صورة أُخرى تنبئك عن مدى اعتقاد عمر بمنزلة القربى واحترامه للقرابة ، تلك الصورة التي وجدناها في خبر تعامله مع صفيّة عمّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة المنوّرة ، وبعد أن قطع الإسلام شوطاً كبيراً واستحكم ، واستقرّت مفاهيمه العامّة استقراراً كبيراً ، والتي منها : وجوب مودّة ذي قُرباه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومع ذلك لم يأبه عمر..
فقد أخرج الهيثمي عن ابن عبّاس ، قال : توفّي ابنٌ لصفيّة عمّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فبكت عليه وصاحت ، فأتاها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لها : يا عمّة ! ما يبكيك ؟
قالت : توفّي ابني.
قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا عمّة ! من تُوفّي له ولد في الإسلام فصبر ، بنى الله له بيتاً في الجنّة. فسكتت.
ثمّ خرجت من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستقبلها عمر بن الخطّاب فقال : يا صفية ! قد سمعت صراخك ، إنّ قرابتك من رسول الله لا تغني عنك من الله شيئاً. فبكت ، فسمعها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وكان يكرمها ويحبّها ـ فقال : يا عمّة ! أتبكين وقد قلتُ لكِ ما قلتُ ؟!
قالت : ليس ذلك أبكاني يا رسول الله ، استقبلني عمر بن الخطّاب فقال : إنّ قرابتك من رسول الله لن تغني عنك من الله شيئاً.
قال : فغضب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقال : يا بلال ! هجّر بالصلاة.
فهجّر بلال بالصلاة ، فصعد النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) المنبرَ ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : ما بال أقوام يزعمون أنّ قرابتي لا تنفع ، كلّ سبب ونسب



(131)
منقطع يوم القيامة إلاّ سببي ونسبي ; فإنّها موصولة في الدنيا والآخرة (1).
فنحن لو قسنا مدّعى عمر اليوم في الزواج مع ما قاله في نأنأة الإسلام وفي عزّته ، لحصلنا على نتائج لا ترضي محبّيه وأنصاره ، بل تشكّك الجميع في صحّة دعواه.
أمّا لو أحسنّا الظنّ بمدّعاه ، وقلنا : أنّه حقّاً كان يريد القرابة ; لأنّه عرف منزلتهم لمّا غضب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وهجّر بلال بالصلاة..
فلنتساءل : لو كان عمر آمن بقول رسول الله ، وعرف أنّ قرابته تنفع في الآخرة ، مضافاً لِما لها من منزلة في الدنيا ! فكيف به يحتجّ بالصحبة وقربه إلى رسول الله على الأنصار ـ كي يبعدهم عن الخلافة ـ ولا يرتضي أن يسلّم الخلافة إلى الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وهو أقرب المقرّبين إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، مع أنّ الإمام عليّاً ألزمه بما استدلّ به على الأنصار بقوله : واعَجَباهُ أَتَكُونُ الخِلافَةَ بِالصَّحابَةِ ولا تكون بِالصَّحابَةِ والقَرابَةِ ؟

فإنْ كُنْتَ بِالشُّـورى مَلَكْتَ أُمورَهُمْ فَكَيْـفَ بِهذا والمُشيرونَ غُيَّـبُ
وإِنْ كنْتَ بِالقُرْبى حَجَجْتَ خَصيمَهُمْ فَغَـيْرُكَ أَوْلى بِالـنَّبيِّ وأَقْـرَبُ (2)
بل كيف نقـبل دعـوى اهتمامه بالقرابة ، وهو لا يولّي أحداً منهم السرايا والبلدان أيام حكومته ؟!
بل بمَ يمكن تصحيح مدّعاه ، وأنّه يريد بزواجه من أُمّ كلثوم التقرّب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن طريق بنته فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، في حين نراه


(1) مجمع الزوائد 8 / 216.
(2) نهج البلاغة 4 / 43 ـ 44 باب : المختار من حِكم أمير المؤمنين (عليه السلام).

(132)
يقول لمن اعترض عليه عند هجومه على دار فاطمة الزهراء : إنّ فيها فاطمة ، قال : وإن (1) ؟!
فهل يمكن الجمع بين هذه المواقف وبين ما يدّعيه عن القرابة والقربى اليوم ؟!
ولو كان حقّاً يعرف منزلة القرابة والقربى ، فلماذا نراه يتخوّف من تولّي بني هاشم ، ويحرمهم من خُمس الغنيمة (2) ؟!
بل إذا كانت القرابة لها هذه السمة المعنوية في الدنيا والآخرة حسب اعتراف عمر ! فكيف به لا يحترم ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، التي يرضى الله لرضاها ، ويغضب لغضبها (3) ، ويقول مستنقصاً مكانتها : وإن !!
إنّ عدم تفهّمهم لتلك الخصائص الإلهية ـ أو عدم ترتيبهم الآثار عليها ـ إنّما يكمن وراءه موروث قديم ، وهو : احترام الرئيس ما دام حيّاً ، ولا يعار للبنت أهمّية ، إلاّ بمقدار كونها امرأة لا توازي الرجل ولا تساويه ، بل ليس لها أن تطالب بشيء من حقوقها الشرعية ، وقد يكون وراء هذا الأمر مصالح وأهداف سياسية أُخرى لا يريدون الكشف عنها.
وقد رأيتَ أنّ بعض النصوص تدّعي أنّ عمر كان يريد : « النسب والسبب » ; رغم افتراض أنّه من قريش ، وله نسب مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وبذلك احتجّ في السقيفة ، كما أنّ له سبباً من جهة ابنته حفصة ، فلا يبقى


(1) الإمامة والسياسة 1 / 30.
(2) سنن أبي داود 2 / 27 ح 2984 ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 6 / 344 ، سُنن النسائي 7 / 129 ح 4134 ، شواهد التنزيل 1 / 291.
(3) انظر : تهذيب الكمال 35 / 250 ; عن صحيح البخاري 6 / 158 باب : ذبّ الرجل عن ابنته ; وفيه : فإنّما هي بضعة منّي ، يريبني ما أرابها ، ويؤذيني ما آذاها.
صحيح مسلم 7 / 141 ، سنن أبي داود 1 / 460 ، صحيح الترمذي 5 / 359.

(133)
لمدّعاه مجال من المصداقية.
نعم ، في نصوص أُخرى التصريح بأنّه أراد المصاهرة ; وإذا صحّ هذا المدّعى من عمر لكان الأوْلى به أن يسعى إلى تلك المصاهرة مع بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة من خلال إحدى بناته ، لا من خلال بنت بنته !
فكما كان عثمان ذا نورين كان يمكن لعمر أن يكون ذا نور واحد ، لكنّ التاريخ لم يحدّثنا أنّه حاول تلك المصاهرة من إحدى بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، غير فاطمة !!
نعم ، أقدم عمر على خطبة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ربّما منافسة لعليّ (عليه السلام) فرّده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وانتهى كلّ شيء (1).
هذا كلّه بغضّ النظر عن أنّ القوم وعمر لم يفهموا كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) على وجهه الصحيح ، أو فهموه وحرّفوه ; لأنّ مراد رسول الله هو : إنّ نسبه في إطار المفهوم الديني هو الباقي ، وذلك من خلال علي والحسنين وولد الحسين ، وهم الأئمّة الاثنا عشر (عليهم السلام) ، الّذين لا يزال الدين عزيزاً بهم (2) ،


(1) روى النسائي في المجتبى 6 / 62 بإسناده عن بريدة بن الخصيب ، قال : خطب أبو بكر وعمر ( رض ) فاطمة فقال رسول الله : إنّها صغيرة ، فخطبها عليّ فزوّجها منه..
وقد صحّح الألباني الخبر في : صحيح سُنن النسائي 2 / 678.
وعلّق السندي ـ في هامش المجتبى ـ على الخبر بقوله : ففيه أنّ الموافقة في السنّ أو المقاربة مرعية ; لكونها أقرب إلى المؤالفة. نعم ، قد يترك ذلك لما هو أعلى منه كما في تزويج عائشة.
لكـنّ الأمر لـم يـكن كما قاله السندي ، بل أغلب النصوص تصرّح بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ينتظر القضاء وأمر الباري تعالى ; انظر : الطبقات الكبرى 8 / 19 ، مجمع الزوائد 9 / 204 ـ 212 ، المعجم الكبير 3 / 34.
(2) صحيح مسلم 6 / 3 ، مسند أحمد 5 / 90 ـ 93 ، سنن أبي داود 2 / 309.

(134)
تسعة منهم من ولد الحسين ، الذي هو من رسول الله ورسول الله منه (1).
والمراد بسببه هو : سبب الله الممدود والموصول بين السماء والأرض ; بنصّ : « إنّي مخلّف فيكم الثقلين : كتاب الله ، حبل ممدود بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي » (2).
على أنّنا اليوم بالضرورة والوجدان لا نرى أولاداً نسبيّين لرسول الله إلاّ أولاد فاطمة الزهراء من أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ، وهذه من نبوءات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ودلائل نبوّته.
وعليه ، فإنّ هذه النصوص وغيرها تشكّكنا في مدّعى عمر بن الخطّاب ، بل توصلنا إلى أنّ الأمر لم يكن كما يصوّره أتباع مدرسة الخلفاء ; إذ العلل والأسباب التي ذكرها عمر ـ أو ذكروها له ـ في التزويج لا تتّفق مع ما يهدف إليه من هذا الزواج !
عمر وتزوّجه من النساء :
إنّ شدّة وغلظة عمر لا يمكن لأحد أن ينكرها ، حتّى أنّ النساء كنّ يكرهن التزويج منه ; لنظرته الخاصّة للمرأة ; فقد جاء في أنساب الأشراف : أنّ عمر نهر امرأة ; لأنّها تكلّمت في شيء ، بقوله : ما أنتِ وهذا ؟! إنّما أنتنّ لُعب ، فاقبلي على مغزلكِ ، ولا تعرضي في ما ليس من شأنكِ (3).


(1) مسند أحمد 4 / 172 ، سُنن ابن ماجة 1 / 51 ، سُنن الترمذي 5 / 324 ، مسند ابن أبي شيبة 7 / 515 ، الأدب المفرد : 85.
(2) مسند أحمد 3 / 18 ، 27 ، 59 ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ 7 / 176 ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ 3 / 66 ; وعنه السيوطي في الدرّ المنثور 2 / 60.
(3) أنساب الأشراف : 189 ; كما في : دراسات نقدية في المرويات الواردة في شخصية عمر بن الخطّاب ، ط الجامعة الإسلامية بالمدينة المنوّرة 1 / 241.

(135)
وقد أقدم عمر على أكثر من امرأة فردّته..
ففي تاريخ الطبري :... قال المدائني : خطب ـ أي عمر ـ أُمّ كلثوم بنت أبي بكر وهي صغيرة ، وأرسل فيها إلى عائشة ، فقالت : الأمر إليكِ.
فقالت أُمّ كلثوم : لا حاجة لي فيه.
فقالت لها عائشة : ترغبين عن أمير المؤمنين.
قالت : نعم ; إنّه خشن العيش ، شديد على النساء. فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص فأخبرته ، فقال : أنا أكفيك.
فأتى عمر فقال : يا أمير المؤمنين ! بلغني خبرٌ ، أعيذك بالله منه.
قال : وما هو ؟
قال : خطبتَ أُمّ كلثوم بنت أبي بكر ؟ الى هنا لا يوجد اصل مصحح؟؟
قال : نعم. أفرغبت بي عنها أم رغبت بها عنّي ؟
قال : لا واحدة ، ولكنّها حدثة ، نشأت تحت كنف أُمّ المؤمنين في لين ورفق ، وفيك غلظة ، ونحن نهابك وما نقدر أن نردّك عن خلق من أخلاقك ; فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها ؟! كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحقّ عليك.
قال : فكيف بعائشة وقد كلّمتها ؟!
قال : أنا لك بها ، وأدلّك على خير منها : أُمّ كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب ، تعلّق منها بنسب من رسول الله (1).
وفي نصّ آخر : إنّ رجلاً من قريش قال لعمر : ألا تتزوّج أُمّ كلثوم بنت أبي بكر ، فتحفظه بعد وفاته ، وتخلفه في أهله ؟


(1) تاريخ الطبري 3 / 270 ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 12 / 222.

(136)
فقال عمر : بلى ، إنّي لأحبّ ذلك ، فاذهب إلى عائشة ، فاذكر لها ذلك ، وعد إليّ بجوابها.
فمضى الرسول إلى عائشة فأخبرها بما قال عمر ، فأجابته إلى ذلك وقالت له : حبّاً وكرامة.
ودخل عليها بعقب ذلك المغيرة بن شعبة فرآها مهمومة ، فقال لها : مالك يا أُمّ المؤمنين ؟!
فأخبرته برسالة عمر ، وقالت : إنّ هذه جارية حدثة ، وأردت لها ألين عيشاً من عمر.
فقال لها : عليَّ أن أكفيك.
وخرج من عندها ، فدخل على عمر ، فقال : بالرفاء والبنين ، فقد بلغني ما أتيته من صلة أبي بكر في أهله ، وخطبتك أُمّ كلثوم.
فقال : قد كان ذاك.
قال : إلاّ أنّك يا أمير المؤمنين رجلٌ شديد الخلق على أهلك ، وهذه صبية حديثة السن ، فلا تزال تنكر عليها الشيء فتضربها ، فتصيح ، فيغمّك ذلك ، وتتألّم له عائشة ، ويذكرون أبا بكر فيبكون عليه ، فتجدّد لهم المصيبة ـ مع قرب عهدها ـ في كلّ يوم.
فقال له : متى كنت عند عائشة ، وأصدقني ؟!
فقال : آنفاً.
فقال عمر : أشهد أنّهم كرهوني ، فضمنتَ لهم أن تصرفني عمّا طلبتُ ، وقد أعفيتهم.
فعاد إلى عائشة فأخبرها بالخبر ، وأمسك عمر من معاودة خطبتها (1).


(1) أعلام النساء ـ لكحالة ـ 4 / 250.

(137)
قال المدائني : وخطب ] عمر ] أُمّ أبان بنت عتبة بن ربيعة ، فكرهته وقالت : يغلق بابه ، ويمنع خيره ، ويدخل عابساً ويخرج عابساً (1).
وجاء في أُسد الغابة عن الحسن : أنّ عمر بن الخطّاب خطب إلى قوم من قريش فردّوه ، وخطب إليهم المغيرة بن شعبة فزوّجـوه (2). فكلّ الّذين ردّوا عمر علّلوا ذلك بأنّه خشن العيش ، يدخل عابساً ويخرج عابساً ، وينظر إلى النساء نظرة جاهلية ، ويتعامل معهنّ كأنّهنّ عبيد ، وإليك ما يؤكّد صحّة مقولة القوم القرشيّين ، الّذين خطب منهم عمر فردّوه..
فقد أخرج ابن ماجة القزويني عن الأشعث بن قيس ، أنّه قال : ضفت عمر ليلةً ، فلمّا كان في جوف الليل قام إلى امرأته يضربها ، فحجزت بينهما ، فلمّا أوى إلى فراشه قال لي : يا أشعث ! احفظ عنّي شيئاً سمعته من رسول الله : لا يُسأل الرجل فيمَ يضرب امرأته ، ولا تنم إلاّ على وتر ، ونسيت الثالثة (3).


(1) تاريخ الطبري 3 / 270 ، الكامل في التاريخ 2 / 451 ، البداية والنهاية 7 / 157.. وفي المعارف ـ لابن قتيبة ـ : 175.
وانظر : البدء والتاريخ 5 / 79 ; وفيه : إنّ عمر خطب أُمّ كلثوم بنت أبي بكر ، وذلك بعد وفاة أبي بكر ، خطبها من عائشة فأنعمت له بها ، لكنّ أُمّ كلثوم كرهته ، فاحتالت حتّى أمسك عنها ، فتزوّجها طلحة بن عبيد الله فولدت له : زكريا وعائشة... إلى آخره.
وانظر كذلك : كنز العمّال 13 / 626 ح 37590 ; عن ابن عساكر 25 / 96 ، الروضة الفيحاء في تواريخ النساء : 303.
(2) أُسـد الغابة في معرفة الصحابة 4 / 64.
(3) سنن ابن ماجة 1 / 639 ح 1986 ، مسند أحمد 1 / 20 ، كنز العمّال 16 / 483 ح 45566 و 498 ح 45628.
(138)
وقد مرّ عليك قبل قليل ما قالته أُمّ أبان بنت عتبة بن ربيعة حينما خطبها عمر بعد أن مات عنها يزيد بن أبي سفيان ، فقالت : لا يدخل إلاّ عابساً ولا يخرج إلاّ عابساً ، يغلق بابه ويقلّ خيره (1).
وما قالته أُمّ كلثوم بنت أبي بكر حينما خطبها عمر ; « فقالت أُمّ كلثوم : لا حاجة لي فيه.
فقالت لها عائشة : ترغبين عن أمير المؤمنين ؟!
قالت : نعم ; إنّه خشن العيش ، شديد على النساء... » (2).
وروى علي بن يزيد : أنّ عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل كانت تحت عبد الله بن أبي بكر ، فمات عنها واشترط عليها أن لا تتزوّج بعده ، فتبتّلت وجعلت لا تتزوّج ، وجعل الرجال يخطبونها وجعلت تأبى.
فقال عمر لوليّها : اذكرني لها. فذكره لها ، فأبت على عمر أيضاً.
فقال عمر : زوّجنيها. فزوّجه إيّاها.
فأتاها عمر ، فدخل عليها ، فعاركها حتّى غلبها على نفسها ، فنكحها ، فلمّا فرغ قال : أُفّ ، أُفّ ، أُفّ ، أُفّ بها. ثمّ خرج من عندها وتركها لا يأتيها ، فأرسلت إليه مولاة لها أن : تعال فإنّي سأتهيّأ لك (3).
هذا ، وقد حمل محبّو الخليفة الخبر الأخير على أنّه أراد بيان حكم شرعي ، وهو : عدم جواز التبتّل في النكاح ، أو عدم جواز أخذ المال على أن لا تتزوّج ، في حين نعلم أنّ عاتكة كانت ثيّباً ، والمرأة الثيّب هي مالكة


(1) عيون الأخبار 4 / 17 ، تاريخ الطبري 5 / 17 ، الكامل ـ لابن الأثير ـ 3 / 55.
(2) تاريخ الطبري 3 / 270 ، الكامل في التاريخ 2 / 451 ، البداية والنهاية 7 / 157.
(3) الطبقات الكبرى 8 / 256 ; وعنه في كنز العمّال 13 / 633 ح 37604.

(139)
لأمرها ، ولا ولاية لأحد عليها ، وعلى فرض ثبوت الولاية عليها ، يجب أن يُجمع رضاها إلى رضا وليّها ، لكن النصّ السابق يشير وبوضوح إلى أنّ عاتكة لم ترضَ بهذا النكاح ، وأنّ عمر أكرهها على ذلك ، وتجاوز عليها بدون إذنها ; لأنّه «دخل عليها ، فعاركها حتّى غلبها على نفسها ، فنكحها ، فلمّا فرغ قال : أُف ، أُف ، أُف... ».
على أنّ الخبر يدلّ على أنّ عمر كان طامعاً فيها ، راغباً بها ، لا أنّه فعل ذلك كي يوضّح حكماً شرعياً ، وهو حرمة التبتّل ; لأنّه كان قد طلبها قبل ذلك من وليّها ، فقال : « اذكرني لها. فذكره لها ، فأبت على عمر أيضاً » ، وهو يشير إلى ما قلناه ، ويوضّح بأنّ وراء نكاح عاتكة شيئاً آخر غير ما يبرّره علماء مدرسـة الخلفاء..
فهو لو كان يريـد الوقوف أمام التبتّل أو تشريع شيء جديد للزمه أن يحقّق ذلك بشكل آخر غير المغالبة ونكاحها بنفسه ، ثمّ قوله : أُف ، أُف ، أُف.
وأُريد هنا أن أُنبّه إلى بعض المفارقات في النصوص الواردة عن تزويج عمر وعليّ ، وهي بنظري تسيء إلى عمر أكثر من أن تخدمه ; لأنّها تؤكّد على أنّ الإمام عليّاً شارك الآخرين بالرأي ، فاستشار الإمامين الحسن والحسين (1) ، وعقيلاً (2) ، وعمّه العبّاس (3) في تزويجه أُمّ كلثوم ، في حين


(1) ذخائر العقبى : 169 و 170 ، سيرة ابن إسحاق : 248 ، الذرّية الطاهرة : 159 ، حياة الصحابة 2 / 527 ، كنز العمّال 16 / 532 ، مجمع الزوائد 4 / 272 ، السُنن الكبرى 7 / 64.
(2) المعجم الكبير 3 / 44 و 45 ، مجمع الزوائد 4 / 271 و 272 ، ذخائر العقبى : 170 ، الذرّية الطاهرة : 160.
(3) ذخائر العقبى : 170 ، الذرّية الطاهرة : 160.

(140)
نرى عمر يكتفي في نكاح عاتكة بإذن أبيها ولا ينظر إلى رضاها ولا إلى إذن إخوانها وأخواتها.
إنّ عمر لو كان حقّاً يريد الزواج مباركاً من عاتكة لكان عليه أن يرسل إليها بعض النساء من أهل بيته بعد العقد برضاها ليأتوا بها إلى عشّ الزوجية بإعزاز وإكرام ، لا أن يغالبها ويعاركها ، إذ أنّ هذا الفعل لا يصدر إلاّ من رعاع الناس ; فكيف بخليفة المسلمين ؟!
نحن وإن كنّا لا نقبل بتلك الروايات القائلة بأنّ الإمام أمير المؤمنين زوّج عمر بعد أن استشار الإمام الحسن والحسين وعقيلا والعبّاس ، لكنّا نؤكّد أنّ هذه النصوص مختلقة على لسان هذا أو ذاك ، وهي تسيء بالدرجة الكبرى للخليفة وأتباعه.
وعليه ; فالنصوص السابقة وضّحت لنا بأنّ النساء لم يكنّ يرغبن في التزويج بعمر ، فلو جمعت تلك النصوص إلى نصّ الطبري في تزويج أُمّ كلثوم بنت أبي بكر ، لعرفت أنّ الجميع كانوا يهابونه ويخافون بطشه ، وحتّى عائشة بنت أبي بكر ـ زوجة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ فإنّها كانت تخافه وتهابه ، ولمّا امتنعت أُختها أُمّ كلثوم من الزواج من عمر استولى عليها الخوف ، فأرسلت إلى عمرو بن العاص ـ أو إلى المغيرة بن شعبة ـ تستعين بهما لحلّ المشكلة.
ولو تدبّرت وتعمّقت في كلام عمرو بن العاص ، لعرفت أنّه هو الآخر كان يهاب عمر ويخاف بطشه ; إذ لينه في الخطاب وأُسلوبه في الاستعطاف ليشير إلى أنّ عمرو بن العاص أراد أن يستعطف الخليفة من خلال أخيه أبي بكر ، فقال له :
« ... ولكنّها حدثـة ، نشأت في كنف أُمّ المؤمنين في لين ورفق ،

(141)
وفيك غلظة ، ونحن نهابك ، وما نقدر أن نردّك عن خلق من إخلاقك ; فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها ؟! كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحقّ عليك ».
انظر إلى كلام عمرو بن العاص ومخطّطه الجديد ، وهو الداهية ، كيف أراد بتلك الكلمات الخفيفة أن يخلق شيئاً من الرقّة المشوبة بالحسّ السياسي ليزجّها زجّاً في قساوة عمر ، وأن يستبدل أُمّ كلثوم بنت أبي بكر بأمّ كلثوم بنت عليّ ؟! لأنّه لو حقّق ذلك لَما خاف على بنت عليّ بن أبي طالب كما كان يخاف على بنت أبي بكر ، بل لو سطا عمر على أُمّ كلثوم بنت عليّ لآذى عليّاً ، وكان في ذلك سرور أمثال : عمرو بن العاص و...
ولا أدري كيف بعمرو بن العاص ، وعمر بن الخطّاب يخافان أن يخلفا أبا بكر في ولده بغير ما يحقّ عليهما ، ولا يخافان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)في بنته وبنت بنته ؟!
وعلى أيّ شيء يمكن حمل هذه السريرة ؟!
وهل إنّ ذكر هذه النصوص والمواقف في كتب القوم تعدُّ ميزة لأصحاب رسول الله ؟!
بل كيف بأُمّ كلثوم بنت علي لو خالفت عمر ، وقد وقفت على عدم إطاقة أمثال عمرو بن العاص أن يردّوه عن خلق من أخلاقه ؟!
نعم ، إنّ عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة قد استغلاّ علاقة عمر السياسية بأبي بكر ، ونفذا من هذه النافذة إلى فكره وعقله ، كي يبعداه عن هذا الزواج ; خوفاً من سطوته على أُمّ كلثوم بنت أبي بكر..
فقال له المغيرة : إلاّ أنّك يا أمير المؤمنين رجل شديد الخلق على أهلك ، وهذه صبية ، حديثة السنّ ، فلا تزال تنكر عليها الشيء فتضربها ،



(142)

فتصيح ، فيغمّك ذلك وتتألّم له عائشة ، ويذكرون أبا بكر ، فيبكون عليه ، فتجدّد لهم المصيبة في كلّ يوم .
وقد مرّ عليك كلام عمرو بن العاص : ولكنّها حدثة ، نشأت تحت كنف أُمّ المؤمنين في لين ورفق ، وفيك غلظة...
ولمّا عاتب عمر عمراً بقوله : « فكيف بعائشة وقد كلّمتها ؟ !
قال ] عمرو بن العاص ] : أنا لك بها ، وأدلّك على خير منها : أُمّ كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب... ».
فقول عمرو بن العاص : « أدلّك على خير منها » لم يأتِ اعتقاداً منه بكون أُمّ كلثوم بنت عليّ هي خير من أُمّ كلثوم بنت أبي بكر ، وإن كان ذلك من المسلّمات عند المسلمين ; لأنّها أقرب قرابة وألصق رحماً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بل في كلامه إشارة إلى أنّ أُمّ كلثوم بنت عليّ هي خير من بنت أبي بكر لتعهّد الخدمة في بيت عمر ; لأنّه لو ضربها أو سطا بها لكان في ذلك سرور لمخالفي عليّ (عليه السلام) وأعدائه ، أمثال : معاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، و...
فعمرو حينما اقترح على عمر بأن يأخذ بنت عليّ (عليه السلام) كان يعلم بأنّها أرقّ وأوجب حقّاً من بنت أبي بكر ، وهي لا يمكنها أن تتحمّل ما لا يتحمّله داهية مثل عمرو بن العاص ; لقوله : «... وما نقدر أن نردّك عن خلق من أخلاقك ; فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها ؟!.. ».
وبعد كلّ هذا ; فقد اتّضح لك بأنّ هذا الاقتراح من عمرو بن العاص لم يأتِ عن حُسن نية بل جاء عن سوء نية !
نعم ، إنّ ابن العاص أطّر حقده الدفين ضدّ عليّ وبنيه بإطار الناصح الأمين ; إذ قال : « وأدلّك على خير منها » ، لكنّ هذا الأمر لا ينطلي على

(143)
المتدبّر الحكيم ، بل إنّ الباحث المحقّق ـ بل كلّ مطالع في النصوص ـ يعرف بأنّ عمرو بن العاص كان الموجّه والمنظّر لعمر بن الخطّاب للدخول إلى بيت وحرم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، أيّ أنّه رسم لعمر المنهج ، وأعطى له المبرّر كي يصل إلى هذا الزواج ، وبذلك خدم سيّده ونال من عدوه في آن واحد.
ونحن حينما قلنا قبل قليل بأنّ الجميع كانوا يهابون عمر ويخافون بطشه ، لا نعني بذلك عدم إمكان أن ينجو أحد من قراره..
فقد نجت أُمّ أبان بنت عتبة.
وأُمّ كلثوم بنت أبي بكر.
وأُمّ سلمة المخزومية (1).
والقوم من قريش ، الّذين خطب منهم فردّوه.
لكنّ هذا الأمر لا يمكن تصوّره واحتماله في مخالف سياسي لعمر ابن الخطّاب كعليّ بن أبي طالب ; وخصوصاً لمّا علمنا بأنّ أُصول هذا المخطّط رسمه عمرو بن العاص أو المغيرة بن شعبة وأمثالهما ، ممّن يبغون من وراء مثل تلك المناورات هدفاً ، بل أهدافاً سياسية.
نعم ، إنّ أُمّ كلثوم بنت أبي بكر نجت ـ إن صحّت نجاتها ـ من الزواج من عمر بمسعى عمرو بن العاص أو المغيرة بن شعبة ، مع وقوفنا على خوف عائشة من عقبى مخالفة أُختها لهذا الزواج ; لقولها لأمّ كلثوم : « ترغبين عن أمير المؤمنين ؟! ».
هذا ، ومن الطبيعي أن لا تكون منزلة عليّ بن أبي طالب وفاطمة


(1) فقد أقدم عليها بعد وفاة زوجها عقيب غزوة أُحد ، فردّته ; انظر : مسند أحمد 6 / 313 ، السُنن الكبرى ـ للنسائي ـ 3 / 286 ، تاريخ بغداد 11 / 355.

(144)
الزهراء (عليهما السلام) عند عمر بن الخطّاب كمنزلة أبي بكر بن أبي قحافة وعائشة ابنته !! وهذا هو الذي جعل الداهيتين !! يدعوانه للإقدام على الزواج من بنت عليّ وأن يترك بنت أبي بكر.
ولو تدبّرت في نصوص زواج عمر من أُمّ كلثوم لرأيتها ذات مرام سياسية أكثر من كونها ذات أبعاد اعتقادية أو عاطفية !
ولرأيت أنّه لم يكن يبغي من زواجه من أُمّ كلثوم النسب والقرابة والصهر من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقدر ما كان يهدف إلى أُمور أُخرى..
فلو كان عمر يريد القرابة حقّاً وكان يعتبر نفسه الوحيد « على ظهر الأرض يرصد من حسن صحابتها ما لا يرصده أحد » ، فهل يأتي حُسن صحبته لها بـ : الكشف عن ساقها ، أو ضمّها إلى صدره ، أو تقبيلها ؟!
وهـل أنّ أُمّ كلثوم بـنت عليّ كانت من الإماء والوصائف اللواتي يُبتغى منهنّ غلظ السوق وصحّة الأبدان ليكُنّ أبلغ في المتعة وأقدر على الخدمة ، أم أنّها كانت كريمة بني هاشم ، وبنت رسول الله وعليّ الكرّار وفاطمة البتول ، وهي الحرّة الأبيّة التي ادّعى عمر أنّه يريد أن يتقرّب بزواجه منها إلى الله ورسوله ؟!
وهل حقّاً أنّ عمر رصد بفعلته هذه ما لا يرصده أحد من الرجال ؟!
وما يعني كلامه آنف الذكر إذاً لو قسناه مع ما فعله معها حسب النصوص المارة ؟! وعلى أي شيء يدلّ ؟
ولو أحبّ عمر أن يحفظ رسول الله في ولده ، وأراد التزويج ببنت فاطمة وعليّ ، فهل يجوز له اختيار الزواج بهذه الصورة المشينة ؟!
بل هل يصحّ تزيين عليّ بنته وإرسالها إلى رجل أجنبي طامع فيها ؟!
وعلى فرض أنّ عليّاً كان موافقاً على هذا الزواج ; فإنّ التزيين يأت



(145)
مع لحاظ كونها مؤهّلة للزواج ، وإنّ ذلك من شأن النساء لا الرجال ، ولذلك كلّف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) النساء بتجهيز فاطمة الزهراء (عليها السلام) والإصلاح من شأنها لعليّ (عليه السلام).
وإذا كان عليٌّ غير راغب ولا يرغب في تزويج ابنته لعمر ـ وفق النصوص ـ فهل يصحّ أن يزيّن ابنته ويرسلها إليه ؟!
وبنظرنا أنّ عمر لو كان يريد القرابة ونيل شفاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآخرة حقّاً ، لَما أقدم على الزواج من طفلة صغيرة لم تبلغ الحلم ، بهذا الشكل المزري !!
لقد روى المسوّر بن مخرمة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : فاطمة شجنة منّي ، يبسطني ما بسطها ويقبضني ما قبضها ، وإنّه ينقطع يوم القيامة الأنساب والأسباب إلاّ سببي ونسبي (1).
ألا يكون في فعل عمر هذا ـ مع أُمّ كلثوم ، ومواقفه الأُخرى من فاطمة (عليها السلام) ـ ما يقبض ويغضب الله ورسوله وفاطمة ؟!
وقد يكون في كلام الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ الذي سيأتي بعد قليل ـ تعريضاً ـ إن لم يكن تصريحاً ـ به وبأمثاله الّذين أساؤوا إلى القربى والعترة وخانوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)..
فعن أبي سعيد الخدري ، قال : سمعت رسول الله يقول : ما بال رجال يقولون : إنّ رحم رسول الله لا تنفع قومه ، بلى والله ، إنّها موصولة في الدنيا والآخرة ، وإنّي ـ يا أيّها الناس ـ فرطكم على الحوض ، فإذا جئتم قال


(1) مسند أحمد 4 / 332 ، المستدرك على الصحيحين 3 / 158 ; وفيه زيادة : وصهري ، الجامع الصغير 2 / 208 ح 5834 ، السُنن الكبرى ـ للبيهقي ـ 7 / 64 ، فضل آل البيت ـ للمقريزي ـ : 64.

(146)
رجـل : يا رسول الله ! أنا فلان بن فلان ، وقال آخر : أنا فلان بن فلان ، فأقول : أمّا النسب فقد عرفته ، ولكنّكم أحدثتم بعدي وارتددْتم القهقرى . ( رواه أبو يعلى ، ورجاله رجال الصحيح ) (1).
بل إلى أيّ مدىً يمكن تصحيح ما قاله علماء مدرسة الاجتهاد والرأي وأنصار الخلفاء لتبرير فعلة عمر بن الخطّاب ، من أنّه لم يقصد من تقبيله لها وضمّها إلى صدره ، أو كشفه عن ساقها ، الريبة والجنس و... لأنّها لم تكن في سنّ مَن يُطمع فيها ، ولم تبلغ بعد ، والخليفة أجلّ وأكرم من هذا الفعل القبيح (2) ؟!
فلو صحّ ذلك ، فماذا نقول عمّا أدركته السيّدة أُمّ كلثوم من فعل وقصد عمر ، حين تعامله معها وهي المعنيّة بالأمر ؟!
وهل أنّ فهم أعلام العامّـة ـ وبعد ألف عام ـ هو الأقرب إلى الصواب أم فهم السيّدة أُمّ كلثوم ، وهي المعنيّة بالأمر ، والعارفة بلحن وقصد عمر ابن الخطّاب في الخِطاب ؟!
وعلى أيّ شيء يدلّ قولها لأبيها : « أرسلتني إلى شيخ سوء » ؟!
أو قولها لعمر نفسه : « لو لم تكن أمير المؤمنين للطمت عينك » ؟!


(1) مجمع الزوائد 10 / 364 ، المستدرك على الصحيحين 4 / 75 ، مسند أحمد 3 / 18 ، مسند أبي يعلى 2 / 433 ، وغيرها.
وفي المعجم الأوسط 5 / 203 : ما بال أقوام يزعمون أنّ رحمي لا تنفع ، ليس كما زعموا ، إنّي لأشفع وأُشفّع ، حتّى من أشفع له ليشفع فيشفع ، حتّى أنّ ابليس ليتطاول في الشفاعة والتوصية.
(2) قال ابن حجر 2 / 457 : وتقبيله وضمّه لها على جهة الإكرام ; لأنّها لصغرها لم تبلغ حدّاً يشتهى حتّى يحرم ذلك ، ولولا صغرها لَما بعث بها أبوها.
انظر : ملحقات إحقاق الحقّ 18 / 551 ، والصوارم المهرقة : 220.

(147)
ألا تدلّ هذه الفقرات على أنّ الصبية البريئة ( أُمّ كلثوم ) قد فهمت مطامع غريزية في نفس الخليفة ، حاول تبريرها والإغماض عنها والتعتيم عليها بُعيض الناس لاحقاً ؟!
وهل تساءلتَ أخي القارئ عن سنّ هذه الطفلة في ذلك التاريخ ؟!
وهل كانت ممّا يُطمع فيها أم لا ؟!
فلو قبلنا بولادتها في آخر عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، يكون عمرها حينما أرسلها الإمام عليّ (عليه السلام) ـ حسب نصّ الطبري وغيره ـ في حدود السابعة..
أمّا لو قلنا بولادتها في السنة السادسة من الهجرة ، فيكون عمرها حين الزواج إحدى عشرة سنة ، وهي ممّا يُطمع فيها ، ويصحّ الزواج منها (1).
وبنظرنا أن كلا الفرضين يسيئان إلى الخليفة عمر بأضعاف ما يسيئان إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)..
فلو قلنا ببلوغها ، وأنّ الإمام عليّاً أرسلها بعد البلوغ ، فذلك مخالف للشرع الأقدس ، فضلاً عن أنّ غيرة الإنسان العربي تأبى أن يزيّن رجل ابنته ويرسلها إلى مَن يطمع فيها ، ثمّ يستمع بعد ذلك إلى نقل البنت وهي تحكي عن الرجل ، وأنّه كشف عن ساقها ، وقبّلها ، وضمّها إلى صدره ، فألف ضربة على جسد مسلم غيور ، كعليّ بن أبي طالب ، أهون من القول بهذا الكلام المزري.
أمّا لو قلنا بأنّها كانت صبية (2) ـ حسب ما قالته المصادر ـ فهي


(1) سير أعلام النبلاء 3 / 500.
(2) مرّ عليك كلام الإمام علي : « إنّها لم تبلغ» ، أو : « لأنّها صغيرة » أو : « إنّها صبية » ، إلى غيرها من النصوص الدالّة على صغرها.

(148)
الأُخرى لا تتّفق ; لأنّ التزيين ليس من مهامّ الرجال ، بل هو من مهمّة النساء فقط ، وهو يكون ـ حسبما عرفت ـ بعد حصول الموافقة على التزويج ، وبعد وقوع العقد ، لا مع الكراهية ، وقبل العقد ، على أنّها لو كانت صبية لا يُرغب في مثلها فلا معنى لتزيينها وإرسالها لمَن يرغب في نكاحها مزيّنة ، ناهيك عن أنّ الكشف عن ساق الصبية يدلّ على انحطاط فاعله بلا ريب.
فأسالك بالله : هل تقبل نفسك مثل هذا التصرّف ـ أي الكشف عن الساق والتقبيل والضمّ إلى الصدر قبل العقد والزواج ـ من شيخ في السابعة والخمسين من عمره أو التاسعة والخمسين مع صبية في السابعة من العمر « لم تبلغ بعد » بهذا الشكل المزري ، وخصوصاً لو عرفنا بأنّ هذا الرجل كانت له زوجة ، بل زوجات (1) ، وهو بمنزلة جدّ هذه الصبية ؟!
فعمر هو أبو حفصة ، وحفصة زوجة رسول الله ، فيكون هو والِدُ زوجة جدّ هذه الصبية ، وهو رسول الله محمّد المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
فنحن لو قبلنا هذه النصوص وأردنا الاستدلال بها على التزويج للزمنا قبول تواليه الفاسدة ، وإن لم نقبلها انتفى التزويج والاستدلال به.
ولنا أن نتأمّل في ما نسب إلى الإمام علي (عليه السلام) في تلك النصوص


(1) مثل : زينب بنت مظعون الجُمحية ، وأُمّ حكيم بنت الحارث بن هشام المخزومية ، التي تزوّجها بعد استشهاد خالد بن سعيد بن العاص بموقعة مرج الصفر ببلاد الشام ، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة ، التي تزوّجها بعد وفاة زوجها بطاعون عمواس ، وجميلة بنت ثابت الأنصارية ، وقد ذكر عبد السلام آل عيسى في كتابه : دراسة نقدية 1 / 223 ـ 241 أسماء 14 امرأة تزوّجها عمر ، وأسماء بعض اللواتي ردَدْنَ خطبة عمر لهنّ.

(149)
وقوله لأُمّ كلثوم : « إنّه زوجكِ » ; ألم يكن نسبة هذا القول إليه (عليه السلام) هو للازدراء به وتصحيح موقف عمر ، والوصول إلى الأمرين معاً ؟!
ولو قبلنا شرعية النظر قبل الزواج ، فهل التقبيل والكشف عن الساق والضمّ إلى الصدر بريبة هو ممّا جوّزه الشرع كذلك ؟!
نعم ، يمكن تصحيح جزء من ذلك لو تنزّلنا وقلنا بصحّة صدور خبر التزويج ، وثبوت رضا الإمام عليّ بذلك ، لكن الأمر لم يكن كذلك ; لأنّ النصوص تشير إلى عدم رضاه ، وعدم رضا أهل بيته ، كعقيل (1) و... بهذا الزواج.
وعلى فرض صحّـة الخبر ، فالإمام أرسلها إليه ، لقناعته بأنّ عمر لو رآها بهذا السنّ والصغر لاشمأزَّ من اقتراحه ، وممّن اقترح عليه التزويج بها ، ولَما رضي بالتزويج بطفلة ، كأُمّ كلثوم ، لم تبلغ الحلم بعد.
ولا أدري كيف يمكن تصديق صدور هذه النصوص على لسان الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، وهو المسلم الغيور والعربي الأبي ، وتصحيح مقولته : « إنّه زوجك » ؟!
بل يتردّد السؤال على خاطري بشكل آخر : كيف يمكن الجمع بين كراهة الإمام عليّ (عليه السلام) في تزويج أُمّ كلثوم لعمر ، وبين تزيينه لها وإرسالها إليه ؟! إنّها حقّاً من المتناقضات !
بل كيف يمكن تصديق هذا الأمر ، وكلاهما في المدينة ؟! إذ كان يمكن لعمر أن يراها في طريقه إلى دار الإمارة أو بالعكس ، ولو تصوّر أنّ هناك عسراً في مشاهدتها في بيت عليّ بن أبي طالب ، أو في طريقه إلى


(1) مجمع الزوائد 4 / 271 ; عن المعجم الكبير ـ للطبراني ـ 3 / 44 ، وفيه قول عمر : ويح عقيل ! سفيه أحمق.

(150)

دار الإمارة أو السوق ، فإنّه كان بإمكانه إرسال ابنته حفصة ، أو غيرها من أُمّهات المؤمنين وسائر النساء للاطّلاع عليها ووصفها له ، وذلك هو الدأب الذي كان وما زال عليه المسلمون في الخطبة.
وهل أنّ هذه النقاط تعتبر نقاط قوّة في زواج عمر من أُمّ كلثوم ، أم هي نقاط ضعف ؟!
أترك للقارئ وللسامع الحكم على النصوص بالوضع أو الكذب ، أو الصحّة والسقم ، أو أي شيء آخر يرتضيه.
وأنتقل به بعد ذاك إلى كلام المغيرة بن شعبة في مكّة وكيفية تعريضه بالخليفة عمر ! وأنّه أراد بقوله إيقافنا وإيقاف الآخرين على حقائق كثيرة في هذا السياق ، وهي خافية لحدّ هذا اليوم على الكثير من الناس ، لكن قبل أن نأتي بكلامه نذكر خبره حينما كان أميراً على الكوفة من قبل عمر ، كمقدّمة لما نريد قوله..
فقد كان المغيرة يخرج كلّ يوم من دار الإمارة نصف النهار ، وكان أبو بكرة يلقاه فيقول : أين يذهب الأمير ؟
فيقول : في حاجة.
فيقول : إنّ الأمير يُزار ولا يزور.
قالوا : وكان يذهب إلى امرأة يقال لها : أُمّ جميل بنت عمرو ، وزوجها : الحجّاج بن عتيك بن الحارث الجشمي.
فبينما أبو بكرة في غرفة مع إخوته ـ وهم : نافع ، وزياد ، وشبل بن معبد ، والجميع أولاد سميّة ، فهم إخوة لأُمّ ـ وكانت أُمّ جميل المذكورة في غرفة أُخرى قبالة هذه الغرفة ، فضربت الريح باب غرفة أُمّ جميل ففتحته ، ونظر القوم فإذا هم بالمغيرة مع المرأة على هيئة الجماع ، فقال أبو بكرة :

هذه بلية قد ابتليتم بها فانظروا ، فنظروا حتّى أثبتوا.
فنزل أبو بكرة فجلس حتّى خرج عليه المغيرة من بيت المرأة فقال له : إنّه قد كان من أمرك ما قد علمت ، فاعتزلنا.
قال : وذهب المغيرة ليصلّي بالناس الظهر ، ومضى أبو بكرة فقال : لا والله ، لا تصلّي بنا وقد فعلت ما فعلتَ.
فقال الناس : دعوه فليصلّ فإنّه الأمير ، واكتبوا بذلك إلى عمر.
فكتبوا إليه ، فأمرهم أن يقدموا عليه جميعاً ، المغيرة والشهود ، فلمّا قدموا عليه جلس عمر فدعا بالشهود والمغيرة.
فتقدّم أبو بكرة ، فقال له ] عمر ] : رأيته بين فخذيها ؟
قال : نعم ، والله لكأنّي أنظر إلى تشريم جدري بفخذيها.
فقال له المغيرة : قد ألطفت في النظر.
فقال أبو بكرة : لم آلُ أن أُثبت ما يخزيك الله به.
فقال عمر : لا والله ، حتّى تشهد لقد رأيته يلج فيها ولوج المِرْوَد في المكحلة.
فقال : نعم ، أشهد على ذلك.
فقال : فاذهب عنك مغيرة ذهب ربعك.
ثمّ دعا نافعاً ، فقال له : علامَ تشهد ؟
قال : على مثل شهادة أبي بكرة.
قال : لا ، حتّى تشهد أنّه ولج فيها ولوج الميل في المكحلة.
قال : نعم ، حتّى بلغ قذذه ـ وهي ريش السهم ـ.
قال له عمر : اذهب مغيرة فقد ذهب نصفك.
ثمّ دعا الثالث ، فقال له : على ما تشهد ؟
(152)
فقال : على مثل شهادة صاحبيّ.
فقال له عمر : اذهب عنك مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك.
ثمّ كتب إلى زياد وكان غائباً فقدِم ، فلمّا رآه جلس له في المسجد ، واجتمع عنده رؤوس المهاجرين والأنصار ، فلمّا رآه مقبلاً قال : إنّي أرى رجلاً لا يخزي الله على لسانه رجلاً من المهاجرين. ثمّ إنّ عمر رفع رأسه إليه فقال : ما عندك يا سلح الحُباري ؟
فقيل : إنّ المغيرة قام إلى زياد فقال : لا مخبأَ لعطر بعد عروس.
فقال له المغيرة : يا زياد ! اذكر الله تعالى ، واذكر موقف يوم القيامة ، فإنّ الله تعالى وكتابه ورسوله وأمير المؤمنين قد حقنوا دمي ، إلاّ أن تتجاوز إلى ما لم ترَ ممّا رأيت ، فلا يحملنّك سوء منظر رأيتَهُ على أن تتجاوز إلى ما لم ترَ ، فوالله لو كنت بين بطني وبطنها ما رأيت أن يسلك ذكري فيها.
قال : فدمعت عينا زياد واحمرَّ وجهه وقال : يا أمير المؤمنين ! أما أنّ أحقّ ما أحقَّ القومُ فليس عندي ، ولكنيّ رأيت مجلساً ، وسمعت نفساً حثيثاً وانتهازاً ، ورأيته مستبطنها.
فقال عمر : رأيته يدخل كالميل في المكحلة ؟
قال : لا ، رأيته رافعاً رجليها ، فرأيت خصيته تتردّد إلى بين فخذيها ، ورأيت حفزاً شديداً ، وسمعت نَفَساً عالياً.
فقال عمر : رأيت يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة ؟
فقال : لا.
فقال عمر : الله أكبر ، قم إليهم فاضربهم.
فقام إلى أبي بكرة فضربه ثمانين ضربة ، وضرب الباقين ، وأعجبه قول زياد ، ودرأ الحدّ عن المغيرة.


(153)
فقال أبو بكرة بعد أن ضُرِبَ : أشهد أنّ المغيرة فَعَلَ كذا وكذا ، فهمَّ عمر أن يضربه حدّاً ثانياً ، فقال له عليّ بن أبي طالب : إن ضربته فارجم صاحبك. فتركه.
واستتاب عمر أبا بكرة ، فقال : إنّما تستتيبني لتُقبل شهادتي ؟
فقال : أجل.
فقال : لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا.
فلمّا ضُربوا الحدّ قال المغيرة : الله أكبر ، الحمدُ لله الذي أخزاكم.
فقال عمر : بل أخزى الله مكاناً رأوك فيه.
وأخرج عمر بن شبة في كتاب أخبار البصرة : أنّ أبا بكرة لمّا جُلِد ، أمرت أُمُّه بشاة فذبحت وجعلت جلدها على ظهره ، فكان يقال : إن ذاك إلاّ من ضرب شديد.
وحكى عبد الرحمن ابن أبي بكرة : أنّ أباه حلف أن لا يكلّم زياداً ما عاش ، فلمّا مات أبو بكرة كان قد أوصى أن لا يصلّي عليه زياد ، وأن يصلّي عليه أبو برزة الأسلمي ، وكان النبيّ آخى بينهما ، وبلغ ذلك زياداً ، فخرج إلى الكوفة ، وحفظ المغيرة بن شعبة ذلك لزياد وشكره.
ثمّ إنّ أُمّ جميل وافقت عمر بن الخطّاب بالموسم ، والمغيرة هناك ، فقال له عمر [ معرّضاً به ] : أتعرف هذه المرأة يا مغيرة ؟
قال : نعم ، هذه أُمّ كلثوم بنت عليّ. [ معرّضاً بعمر لتفكيره بها وإصراره على الزواج منها ].
فقال عمر : أتتجاهل عَلَيَّ ؟! والله ما أظنّ أبا بكرة كذب عليك ، وما رأيتكَ إلاّ خفت أن أُرمى بحجارة من السماء (1).


(1) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 12 / 238 ، وفيات الأعيان 6 / 364

(154)
وهذا النصّ يرشدنا إلى أُمور كثيرة ، منها : مكان وتاريخ هذه المقولة ; فهي في مكّة أيام موسم الحجّ ، وقد تكون قبل الزواج المدّعى لعمر من أُمّ كلثوم.
وسواء كان هذا الكلام من المغيرة قبل التزويج أم بعده ، ففيه تعريض بعمر والإمام عليّ (عليه السلام) معاً ; لأنّ تشبيه أُمّ كلثوم بنت عليّ بأُمّ جميل الفاحشة ! فيه ما لا يخفى من الانتقاص لأمير المؤمنين (عليه السلام).
وفيه أيضاً أكبر التعريض بعمر بن الخطّاب ; لأنّ المشاجرة كانت بينه وبين المغيرة ، ولمّا عرّض عمر بالمغيرة أراد المغيرة أن يجيبه بـ : إنّك لم تكن بأقلّ منّي في مثل هذه الأُمور ; لتفكيرك الدائم في أُمّ كلثوم بنت عليّ مع أنّها صغيرة وبمنزلة حفيدتك..
وإنّ إصرارك الزائد على التزويج بها يشكّك الجميع في حسن نواياك ومقاصدك التي تدعيها ; لأنّك لو أردت التزويج بها فإنّ ذلك سوف لن يكون إلاّ بالقوّة والإكراه ، خصوصاً حينما كان غطاؤك ودعواك هو الحصول على القربى..
ولو كنت محّقاً في ما تدّعيه لكان عليك أن تحقّقه بالعقد فقط دون الدخول والإيلاد ، وأن تكتفي بسببيتك من خلال ابنتك حفصة لرسول الله ; إذ بذلك حُزت السبب والصلة معاً.
كانت هذه قراءة سريعة لما في كتب العامّـة ، وهي ترجع الأمر إلى طلب عمر الجنس بدعوى القربى ، وإن كان وراءها أُمور سياسية أُخرى ، وهي إن صحّت تسجّل ظلامة أُخرى لأهل البيت (عليهم السلام) تضاف إلى قائمة


ـ 367 ; والنصّ من عنده ، وهو أيضاً في الإيضاح ـ لابن شاذان ـ : 552 ، والصراط المستقيم 3 / 248.
(155)
ظلامات الظالمين..
فلو أراد الباحث دراسة مسألة الزواج من أُمّ كلثوم كان عليه دراسة ظروف هذا الزواج وملابساته ; إذ أنّ فتح هذا الملف سيكلّف الخليفة وأنصاره الكثير ، فقد وقفت على بعض أهدافه ، وقد تكون هناك أهداف سياسية أُخرى سيقف عليها المطالع في مطاوي كلمات الشيعة.
ومجمل ما تقوله الشيعة الإمامية بهذا الصدد : أنّ الذي ذهب منهم إلى وقوع الزواج ، قد علّل وقوعه بأنّه كان عن جبر وإكراه ، لا عن طيب خاطر ، واستدلّ لكلامه بأدلّة..
ما رواه أبو القاسم الكوفي : أنّ عمر بعث العبّاس إلى عليّ يسأله أن يزوّجه بأُمّ كلثوم ، فامتنع.
فأخبره بامتناعه ، فقال : أيأنف من تزويجي ؟! والله ، لئن لم يزوّجني لأقتلنّه.
فأعلم العبّاس عليّاً (عليه السلام) بذلك ، فأقام على الامتناع.
فأعلم عمر بذلك ، فقال عمر : احضَرْ في يوم الجمعة في المسجد ، وكن قريباً من المنـبر لتسـمع ما يجري ، فتعلم أنّي قادر على قتله إن أردت.
فحضر ، فقال عمر للناس : إنّ ها هنا رجلاً من أصحاب محمّد وقد زنى ، وقد اطّلع عليه أمير المؤمنين وحده ، فما أنتم قائلون ؟
فـقال الناس من كلّ جانب : إذا كان أمير المؤمنين اطّلع عليه فما الحاجة إلى أن يطّلع عليه غيره ؟! ليمضِ في حكم الله.
فلمّا انصرف عمر قال للعبّاس : امضِ إلى عليّ فأعلمه بما قد سمعته ، فوالله ، لئن لم يفعل لأفعلن.



(156)
فأعلم العبّاس عليّاً بذلك ، فقال (عليه السلام) : أنا أعلم أنّ ذلك ممّا يهون عليه ، وما كنتُ بالذي يفعل ما يلتمسه أبداً..
فأقسم عليه العبّاس أن يجعل أمرها إليه ، ومضى العبّاس إلى عمر فزوّجه إيّاها (1)..
وقد ورد في نصّ آخر : أنّه أمر الزبير أن يضع درعه على سطح عليّ ، فوضعه بالرمح ; ليرميه بالسرقة (2).
وقال في إعلام الورى : قال أصحابنا : إنّما زوّجها منه بعد مدافعة كثيرة ، وامتناع شديد ، واعتلال عليه بشيء بعد شيء ، حتّى ألجأته الضرورة إلى أن ردّ أمرها إلى العبّاس بن عبد المطّلب ، فزوّجها إيّاه (3).
وعن كتاب الحسين بن سعيد : عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) : لمّا خطب عمر إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قال له (عليه السلام) : إنّها صبية.
قال : فأتى العبّاس ، فقال : ما لي ؟ أبي بأس ؟!
فقال له : وما ذاك ؟
قال : خطبتُ إلى ابن أخيك فردَّني...
ـ وفي نصّ المرتضى : فدافعني ومانعني وأنف من مصاهرتي ، والله ، لأعوّرن زمزم ، ولأهدمنّ السقاية ، ولا تركت لكم يا بني هاشم منقبة إلاّ وهدمتها ، ولأُقيمنّ عليه شهوداً يشهدون عليه بالسرق ، وأحكم عليه بقطعه.


(1) انظر : الاستغاثة : 78 ، الصراط المستقيم 3 / 130 ، شرح الأخبار 2 / 507.
(2) الصراط المستقيم 3 / 130.
(3) إعلام الورى 1 / 397 ; وعنه في بحار الأنوار 42 / 93.

(157)
فأتاه العبّاس فأخبره ، وسأله أن يجعل الأمر إليه ، فجعله إليه (1).
وعن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم وحمّاد ، عن زرارة ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، في تزويج أُمّ كلثوم ، فقال : إنّ ذلك فرج غُصبناه (2).
كانت هذه بعض النصوص التي استدلّ بها من ادّعى وقوع الزواج من أُمّ كلثوم ، لكن في إطار الجبر والإكراه ، وعن تقيّة لا غير..
ونكون قد انتهينا من البحث التاريخي في هذه القضية ، لنشرع في بحث الجانب الفقهي والعقائدي لاحقاً.

للبحث صلة...




(1) النوادر ـ لأحمد بن عيسى الأشعري ـ : 130 ، الكافي 5 / 346 ، وسائل الشيعة 20 / 561 ، مرآة العقول 20 / 44 و 45 ، مجموعة رسائل المرتضى / المجموعة الثالثة : 149.
(2) الكافي 5 / 346 ; وعنه في وسائل الشيعة 20 / 561 ح 26349 ، بحار الأنوار 42 / 106 ; وراجع : الاستغاثة : 78 ; عن عبد الله بن سنان.
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف