البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

فلسفة الميثاق والولاية

الباحث :  تأليف: السيّد عبـد الحسـين شرف الدين الموسوي العاملي تحقيق: علي جلال باقر
اسم المجلة :  تراثنا
العدد :  62
السنة :  السنة السادسة عشرة | ربيع الآخر ـ جمادي الأولى ـ جمادي الآخرة 1421 هـ . ق
تاريخ إضافة البحث :  January / 31 / 2016
عدد زيارات البحث :  3790
فلسفة
الميثاق والولاية
تأليف
الاِمام العلاّمة
السيّد عبـد الحسـين شرف الدين
الموسوي العاملي
(1290 ـ 1377 هـ)
تحقيق
علي جلال باقر
(225)










مقدّمة التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمـد لله الذي أخـذ الميثاق له بالربوبيـة والوحدانيـة ، ولنبـيّـه محمّـد صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوّة والرسالة ، ولاَخيه أمير المؤمنين والاَحد عشر من وُلده بالاِمامة والولاية ، وأشهد العباد على أنفسهم على ذلك لكي يسدّ عليهم باب الاحتجاج يوم القيامة .
والصلاة والسلام على من تحمّل عبء الرسالة الثقيل محمّـد صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلى أخيه ووصيّه أمير المؤمنين الاِمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، وعلى ابنته الزهراء البتول سيّدة نساء العالمين عليها السلام ، وعلى الاَئمّة المعصومين المنتجبين من وُلدهما عليهم السلام.
أمّا بعـد . .
فإنّ الميثاق والولاية من الاَُمور الخطيرة التي تدخل في صميم العقيدة الاِسلامية الحقّة ، وهي من البساطة بمكان حتّى إنّها لا تحتاج من القارئ المنصف الذي يبحث عن الحقّ وأهله إلى كثير من العناء والمشقّة ليزيل الغشاوة عن عينيه ليرى نور الله الذي يضيء له طريق النجاة والفلاح .
فآيات القرآن الكريم صريحة جدّاً في إظهار أحقّية أهل البيت عليهم السلام
(227)







بالولاية والاِمامة والخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، منها : ما تناولها كاتب هذه الرسالة الاِمام العلاّمة السيّد عبـد الحسين شرف الدين قدس سره في القسم الاَوّل منها ، وهي آية الميثاق ، وذلك في معرض جوابه عن سؤال الشيخ عبّـاس قلي الواعظ التبريزي الجراندابي ، حين سأله عن معنى قوله تعالى : (وإذ أخذ ربُّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألستُ بربّكم قالوا بلى شهدنا) ، وذلك لو أردنا تفسيرها بغضّ النظر عن حملها على عالم الذرّ ، الذي نقول به ، والذي تثبت وقوع هذا الاِشهاد وأخذ الميثاق فيه الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام .
وكذلك آية الولاية في القسم الثاني من الرسالة ، حين سأله عن قوله تعالى : (حُرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة وما أكل السبع إلاّ ما ذكّيتم وما ذُبح على النصب وأن تستقسموا بالاَزلام ذلكم فسق اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشونِ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاِسلام ديناً فمن اضطرّ في مخمصة غير متجانف لاِثم فإنّ الله غفور رحيم) بأنّها آية واحدة مسوقة لبيان الاَحكام ، فأيّ ربط لها بتعيين الاِمام؟!
والاَحاديث النبوية الشريفة الصحيحة السند والمتواترة تملأ بطون الكتب ، سواء في ذلك روايات الفريقين ، وحتّى تلك الفرق المعادية لاَهل البيت عليهم السلام تظهر في مرويّاتهم وبوضوح أحقّيّة أهل البيت عليهم السلام بالخلافة والاِمامة ، فنلاحظ من خلالها أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يدّخر جهداً في توضيح هذه المسألة وإبلاغه الناس ، منذ اللحظة الاَُولى من البعثة النبوية المباركة وحتّى آخر لحظة من حياته الشريفة ، حين طلب منهم أن يحضروا له دواة
(228)





وكتفاً ليكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً .
فنحن نعتقد بأنّ معرفة الحقّ قد خُزنت في قلوب بني آدم منذ أن أشهدهم الله على أنفسهم حين رأوا من حقائق الاَُمور ما جعهلم يقرّون مستسلمين بالبداهة التي تتداعى في الذهن من جملة : (قالوا بلى شهدنا) ، إلاّ أنّ عدم وجود المؤهّل الذاتي ، أو وجود تراكمات الذنوب والاَوهام والخطرات وتلويث النطف ، وغيرها ، تحول دون أن يرى الاِنسان مكامن النور في قلبه ، وذلك لكونها محجوبة بحجب الاَدران والزيغ ، فيبدأ مسيرته باتّجاه نسيان ما رآه وعرفه . . (فإنّها لا تَعمى الاَبصار ولكن تَعمى القُلوبُ التي في الصُّدور) .
ومتى ما أقبلت النفس على الاَعمال التي من شأنها أن تعمل على تصفيتها وتهذيبها وتزكيتها ممّا علق بها من هذه الحجب تفتّحت مكامن المعرفة ، وتختلف هذه باختلاف سعي النفوس وراءها ، حتّى يبلغ بها المقام عند مرتبة أمير المؤمنين الاِمام عليّ عليه السلام بقوله : «لو كُشف الغطاء ما ازددتُ يقيناً»(1) .
فجاءت هذه الرسالة صغيرة الحجم ، قوية السبك ، عالية المضامين ، جليّة الحجّة والبرهان .
------------------------------------------
(1) أنظر : غرر الحكم ودرر الكلم 2 | 142 رقم 1 .
(229)








ترجمة المؤلّف (1)
يكلّ القلم وتعجز الاَنامل عن إيفاء الكتابة عن حياة عالم كبير مثل السيّد شرف الدين قدس سره ، الذي هو علم من أعلام عصره ، الذي جمع بين العلم والجهاد ضدّ الاستعمار ومقارعته ، ولكنّنا وفاءً لقليل من الدين الذي علينا تجاه هذا الرجل العظيم ، ننقل قبساً من حياته التي قضاها في سبيل خدمة مذهب أهل البيت عليهم السلام .
اسمه ونسـبه :
عبـد الحسين بن يوسف بن الجواد بن إسماعيل بن محمّـد بن محمّـد بن إبراهيم شرف الدين بن زين العابدين بن علي نور الدين بن نور الدين علي بن الحسين الموسوي العاملي .
مولـده :
وُلد السيّد شرف الدين في مدينة الكاظمية من العراق سنة 1290 هـ ، من أبوين كريمين يصل نسبهما إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم . عاد في الثانية والثلاثين من عمره إلى جبل عامل من جنوب لبنان حيث منبت أُسرته ، وغدا بعد فترة قليلة زعيمها الكبير .
------------------------------------
(1) اعتمدت في هذه الترجمة على المصادر التالية :
أعيان الشيعة 7 | 457 ، الأعلام 3 | 279 ، معجم المؤلّفين 2 | 53 ، مقدّمة كتاب « المراجعات » .
(230)




قاد التغيير الاجتماعي في بلده ، ثمّ تصدّى لمجابهة الاستعمار والاحتلال الفرنسي في لبنان ، فطاردته القوات الفرنسية وأحرقت بيته ومقرّه بما في ذلك مكتبته الكبرى ، وشرّدت عائلته ، فتنقّل من لبنان إلى الشام ففلسطين فمصر ، وأينما حلّ كان مشعلاً للاِسلام ونوراً للمسلمين .
وفي سنة 1329 زار مصر والتقى هناك الشيخ سليم البشري الذي تراسل معه في عدّة رسائل أنتجت في ما بعد كتاب «المراجعات» ، وكان قد زار المدينة المنوّرة نحو سنة 1328 ، وفي سنة 1340 حجّ بيت الله الحرام ، وفي سنة 1355 زار العراق فإيران .
دراسـته :
درس في النجف الاَشرف وفي سامرّاء على أعلامهما أمثال الطباطبائي والخراساني وشيخ الشريعة الاَصفهاني والشيخ محمّـد طه نجـف .
وفاته :
توفّي رحمه الله في إحدى مستشفيات بيروت ، يوم الثلاثاء عاشر جمادى الآخرة 1377 هـ ، ونقل جثمانه إلى بغداد بالطائرة ، بعد أن شيّع في بيروت تشـييعاً رسمياً ، ودفن بالنجف الاَشرف .
مؤلّفاته :
1 ـ المراجعات؛ وقد انتشر انتشاراً واسعاً وطبع طبعات كثيرة .
(231)







2 ـ النصّ والاجتهاد .
3 ـ الفصول المهمّة في تأليف الاَُمّة .
4 ـ الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء عليها السلام .
5 ـ أبو هريرة .
6 ـ أجوبة مسائل جار الله .
7 ـ فلسفة الميثاق والولاية ، وهي الرسالة التي بين يديك عزيزي القارىَ .
8 ـ مسائل فقهية خلافية .
9 ـ بغية الراغبين .
10 ـ ثبت الاَثبات في سلسلة الرواة .
11 ـ مؤلّفو الشيعة في صدر الاِسلام .
12 ـ زكاة الاَخلاق .
وغير ذلك من المؤلّفات المفيدة النافعة التي خدمت المذهب الحقّ .
منهجيّة التحقيق :
اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على نسخة مطبوعة في ذيل رسالته المسمّاة «كلمة حول الرؤية» بالقطع الجيبي ، والتي طبعتها مكتبة نينوى الحديثة ، في طهران ، بالتصوير عن الطبعة الثانية للرسالة ، المطبوعة في مطبعة العرفان ، في صيدا ، عام 1371 هـ|1952 م ، واقتصرتُ في تحقيق هذه الرسالة على :
1 ـ ضبط النصّ ، من حيث التقطيع والتصحيح .
(232)


2 ـ استخراج الآيات القرآنية .
3 ـ استخراج الاَحاديث النبوية الشريفة ، وإرجاعها إلى مصادرها الاَصلية ، وقد اقتصرت فيها على ذِكرِ بعضٍ من أهمّ المصادر المخرِّجـة لها ، إذ لو أردنا التوسّع في ذِكر المصادر ـ لا سيّما في أحاديث فضائل ومناقب أهل البيت عليهم السلام ـ لخرج بنا المقام عن هدف الرسالة المؤلّفة لاَجله ، والتفصيل مرهونٌ في مظانّه ممّا أُلّـفَ في خصوص كلٍّ منها .
4 ـ استخراج الاَبيات الشعرية التي وردت في الرسالة ، مع ترجمة مختصرة لقائلها .
5 ـ توضيح المطالب المهمّة ، بشرحها والتعليق عليها ، أو إحالتها على مصادرها الاَصلية .
6 ـ شرح معاني الكلمات الغامضة والغريبة .
7 ـ أبقيتُ على الهوامش التي أدرجها السيّد شرف الدين قدس سره في رسالته ، وألحقت بها جملة «منه قدس سره » .
8 ـ أدرجتُ عدّة عناوين لتوضيح رؤوس المطالب ووضعتها بين القوسين المعقوفتين [ ] .
وفي الختام :
لا يسعني إلاّ أن أُقدّم شكري الجزيل إلى نشرة «تراثنا» الغرّاء ، التي حثّتني على الشروع بتحقيق هذه الرسالة القيّمة وإكمالها ، ومن ثمّ نشرها على صفحاتها .
وكذا أُسدي شكري إلى أعضاء مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لاِحياء
(233)





التراث| فرع دمشق ، الّذين ساهموا معي في إخراج هذا العمل إلى الملأ العلمي لفائدته الجُلّى ، لا سيّما الاَخ عبـد الكريم الجوهر؛ والاَخ السيّد محمّـد علي الحكيم ، الذي قدّم لي التوجيهات اللازمة لاِبراز هذه الرسالة بما يليق بها ، داعياً المولى العليّ القدير أن يوفّقنا جميعاً لِما فيه خدمة مذهب أهل البيت عليهم السلام وبثّ علومهم ونشرها ، إنّه نعم المجيب .
وآخر دعوانا أنِ . .
«اللّهمّ كن لوليّك الحجّة بن الحسن ، صلواتك عليه وعلى آبائه ، في هذه الساعة ، وفي كلّ ساعة ، وليّاً وحافظاً ، وقائداً وناصراً ، ودليلاً وعيناً ، حتّى تسكنه أرضك طوعاً ، وتمتّعه فيها طويـلاً» .
والحمد لله أوّلاً وآخراً ،
وصلّى الله على سيّدنا محمّـد وآله الطـيّبين الطاهرين ،
وسلّم تسليماً .
علي جلال باقر
ذكرى المبعث النبويّ الشريف
27 رجب الحرام 1421 هـ
(234)







بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
إنّ أخي في الله عزّ سلطانه ، المخلص لله في دينه ويقينه ، القائم في نصرة الحقّ على ساقه ، المجاهد في سبيله بيده ولسانه وقلمه ، الشيخ الجليل الحاجّ عبّـاس قلي الواعظ التبريزي الجراندابي(1) ، أدام الله سداده ،
-----------------------------------------
(1) هو ميرزا عبّاس قلي صداق پور وجدي ، المشتهر بواعظ جرندابي ، ولد بتبريز سنة 1315 وتوفّي فيها سنة 1386 .
تعلّم العلوم الدينية عند الشيخ علي الشربياني [ المتوفّى 2 ذي القعدة 1348 ، صاحب كتاب « معرفة الأئمة » المطبوع في تبريز سنة 1324 هـ ، و « خلاصة التوحيد » في الكلام ، لم يطبع ] ، ودرس الرياضيات والاسطرلاب على الميزرا لطف علي ، إمام الجمعة [ المتوفّى عن حدود 73 عاماً في 1339 ] .
وقد أسّس الواعظ الجرندابي في سنة 1336 هـ مدرسة جديدة سمّاها « الإرشاد » في راسته كوچه بتبريز ـ كما في تاريخ فرهنك آذربايجان 1 | 170 ـ وذلك في عهد رئاسة أبو القاسم فيرضات والدكتور أعلم الملك ، وفي عهد محمّد علي تربيت ترك المدرسة هذه وآشتغل بالتدريس في المدرسة الطالبية القديمة فدرّس الرياضيّات والمنطق ، ثمّ في حدود 1341 أسّس عدّة من العلماء مدرسة « سرخاب وشترخات » وعيّنوا الجرندابي مديراً لها برعاية الميزرا صادق المجتهد التبريزي ، وبعد مدّةٍ ترك هذه المدرسة وتفرّغ للوعظ والخطابة .
وللمترجم مكتبة نفيسة تحتوي على أكثر من عشرة الاف ، مجلّد ، أهدى نفائسها والمخطوطات منها لمكتبة مشهد الإمام الرضا عليه السلام ـ آستانه قدس رضوي ـ وكان له مكاتبات مع علماء عصره ، كالسيّد محسن الأمين العاملي والشيخ محمّد جواد البلاغي والسيّد هبة الدين الشهرستاني والشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء والشيخ آقا بزرك الطهراني وغيرهم رحمة الله .
(235)
وبلّغه رشاده؛ أتحفني في هذه الاَيام بكتاب مستطاب ، فرض علَيَّ فيه فلسفة الميثاق(1) والولاية. .
إذ سألني عن آيات تختصّ بهما كما سنفصّله في الجواب إن شاء الله تعـالى .
وحيث لا يسعني إلاّ الاِيجاب؛ بادرت بالجواب ، على ما بي من البلبال ، في هذه الاَحوال ، متوكّلاً على الله ، مستمدّاً من فيضه تبارك وتعالى ، معتصماً به من خطل الرأي وعثرة القلم .
فأقـول مخاطباً لجنابه العالي ـ وما توفيقي إلاّ بالله ، عليه توكّـلت وإليه أُنيب ـ :
ومن مؤلّفاته : عظمت حسين بن علي عليه السلام ، زندگاني محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتوماس كارلايل ، ذو القرنين وسدّ يأجوج ومأجوج ، هشت مقاله .
أنظر : مستدركات أعيان الشيعة 3 115 .
----------------------------------------
(1) الميثاق ـ من المواثقة والمعاهدة : العهد ؛ ومنه المؤثق ، ، تقول : واثقته بالله لأفعلنّ كذا وكذا .
أنظر : لسان العرب 15 212 مادّة « وثق » .
(236)








[الميـثـاق]
سألتني أيّها الشيخ ـ أعزّك الله ـ عن قوله تعالى : (وإذ أخذ ربُّكَ من بني آدم من ظهورهم ذرّيّتَهم وأشهدهم على أنفسهم ألستُ بربّـكم قالوا بلى شهدنا)(1) . .
فـقلتَ : ما معنى هذه الآية إذا قطعنا النظر عن حملها على عالَم الـذرّ؟
وما وجه الاستشهاد بها على نبوّة نبيّـنا صلى الله عليه وآله وسلم ، وإمامة أئمّتنا عليهم السلام ؟
فالجواب ـ إذاً ـ يقع في مقامين :
-----------------------------------------
(1) سورة الأعراف 7 : 172 .
(237)












المقام الاَوّل
في معنى الآية (1)
فأقـول :
ظاهر الآية أنّها إنّمـا جاءت على سـبيـل التمثيل والتصوير ، فمعـناها ـ والله تعالى أعلم ـ :
(و) اذكر يا محمّـد للناس ما قد واثقوا الله عليه بلسان حالهم التكوينيّ ، من الاِيمان به والشهادة له بالربوبية ، وذلك (إذ أخذ ربّك) أي حيث أخذ ربّك جلّ سلطانه (من بني آدم) أي (من ظهورهم ذرّيّتهم) ، فأخرجها من أصلاب آبائهم نطفاً ، فجعلها في قرار مكين من أرحام أُمّهاتهم ، ثمّ جعل النطف علقاً ، ثمّ مُضَغاً ، ثمّ عظاماً ، ثمّ كسا العظام لحماً ، ثمّ أنشأ كلاًّ منهم خلقاً سويّـاً(2) ، قويّـاً ، في أحسن تقويم(3) ،
----------------------------------------
(1) إنّ هذه الآية المباركة من أعجب الآيات نظماً وأوضحها ، وأدقّها دلالة على الميثاق الذي أخذه الله سبحانه وتعالى من بني آدم على ربوبيّته ، ويستفاد من سياق الآية والآيات التي بعدها أنّ الله تعالى قطع عذر العباد بإقامته الحجّة عليهم ، إذ لولاهذا الآخذ والإشهاد على ربوبيته تعالى ، ونبوّة النبّي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإمامة الآئمة الاثني عشر عليه السلام ، لكان للعباد أن يحتجّوا على الله يوم القيامة بحجّة يدفعون بها عن أنفسهم العذاب لعدم إيمانهم أو شركهم به سبحانه ، ولعدم إيمانهم بالنبّوة والإمامة .
(2) إشارة إلى قوله تعالى : (ولقد خلقنا الإنسان من سلالةٍ من طين * ثمّ جعلناه نطفة في قرار مكين * ثمّ خلقنا النطفّة علقة فخلقنا العلقة مضغةً فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثمّ أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) سورة المؤمنون 23 : 12 ـ 14 .
(3) إشارة إلى قوله سبحانه تعالى :(لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) سورة التين 95 : 4 .
(238)



سميعاً بصيراً(1) ، ناطقاً ، عاقلاً ، مفكّراً ، مدبّراً ، عالماً ، عاملاً ، كاملاً ، ذا حواسَّ ومشاعرَ وأعضاء أدهشت الحكماء ، وذا مواهب عظيمة ، وبصائر نيّرة تميّز بين الصحيح والفاسد ، والحسن والقبيح ، وتفرّقُ بين الحقّ والباطل ، فيدرك بها آلاء الله في ملكوته ، وآيات صنعه جلّ وعلا في خلق السماوات والاَرض ، واختلاف الليل والنهار ، وفي نُـظُمه المستقيمة جارية في سمائه وأرضه على مناهجه الحكيمة .
وبذلك وجب أن يكونوا على بيّنة قاطعة بربوبيّته ، مانعة عن الجحود بوحدانيّته .
فكأنّه تبارك وتعالى إذ خلقهم على هذه الكيفية قرّرهم (وأشهدهم على أنفسهم) فقال لهم : (ألسـتُ بربكم)؟!(2) .
وكأنّهم (قالوا بلى شهدنا) على أنفسنا لك بالربوبية ، وبخعنا لعزّتك وجلالك بالعبودية ، نزولاً على ما قد حكمتْ به عقولنا ، وجزمتْ به
---------------------------------------
(1) إشارة إلى قوله تعالى :(إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نيتليه فجعلناه سميعاً بصيراً) سورة الإنسان 76 : 2 .
(2) نقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 12 | 100 عن أبي سعيد الخدري ، قال : « حججنا مع عمر أوّل حجّة حجّها في خلافته ، فلمّا دخل المسجد الحرام ، دنا من الحجر الأسود فقبّله وآستلمه ، وقال : إنّي لأعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع ، ولولا أنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قبّلك واستلمك لما قبّلتك ولا استلمتك .
فقال له عليّ عليه السلام : بلى . . . إنّه ليضرّ وينفع ، ولو علمت تأويل ذلك من كتاب الله لعلمت أنّ الذي أقول لك كما أقول ، قال الله تعالى : (وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى) فلمّا أشهدهم وأقرّوا له أنّه الربّ عزّ وجلّ وأنّهم عبيد ، كتب ميثاقهم في رقٍّ ، ثمّ ألقمه هذا الحجر ، وله لعينين ولساناً وشفتين ، تشهد لمن وافاه بالموافاة ، فهو أمين الله عزّ وجلّ في هذا المكان .
فقال عمر : لا أبقاني الله في أرض لست بها يا أبا الحسن ! » .
(239)
بصائرنا ، حيث ظهر لديها أمرك ، وغلب عليها قهرك ، فلا إله إلاّ أنت ، خلقتنا من تراب ، ثمّ أخرجتنا من الاَصلاب نطفة ، ثمّ علقة ، ثمّ مضغة ، ثمّ عظاماً ، ثمّ كسوت العظام لحماً ، ثمّ أنشأتنا خلقاً آخر قد انطوى فيه العالم الاَكبر . .
فسبحانك سبحانك ما أسطع برهانك ، تحبّبت إلينا ، فدللتنا عليك بآياتك ، وأنت الغني الحميد ، وتفضّلت علينا ، فدعوتنا إليك ببيّناتك ، ونحن الفقراء العبـيد ، ولولا أنت لم ندرِ ما أنت .
فلك الحمد إقراراً لك بالربوبية ، والحمدُ فضلُك ، ولك الشكرُ بخوعاً منّا بالعبودية ، والشكرُ طَـوْلُك ، لا إله إلاّ أنت ربّ العرش العظيم .
هذا كلّه من مرامي الآية الكريمة ، وإنّما جاءت على سبيل التمثيل والتصوير ، تقريباً للاَذهان إلى الاِيمان ، وتفنّناً في البيان والبرهان ، وذلك ممّا تعلو به البلاغة فتبلغ حدّ الاِعجاز .
ألا ترى كيف جعل الله نفسه في هذه الآية بمنزلة المُشهِد لهم على أنفسهم ، وجعلهم بسبب مشاهدتهم تلك الآيات البيّنات وظهورها في أنفسهم وفي خلق السماوات والاَرض بمنزلة المعترف الشاهد ، وإن لم يكن هناك شهادة ولا إشهاد؟!
وباب التمثيل واسع في كلام العرب ، ولا سيّما في الكتاب والسُـنّة ، قال الله تعالى : (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر)(1) . .
ضرورة أنّهم لم يشهدوا على أنفسهم بألسنتهم ، وإنّما شهدوا بألسنة
-----------------------------------------------
(1) سورة التوبة 9 : 17 .
(240)



أحوالهم ، إذ نصبوا أصنامهم حول الكعبة فكانوا يطوفون بها عراة ويقولون : لا نطوف عليها في ثياب أصبنا فيها المعاصي(1) ، وكلّما طافوا بها شوطاً سجدوا لها ، فظهر كفرهم بسبب ذلك ظهوراً لا يتمكّنون من دفعه ، فكأنّهم شهدوا به على أنفسهم .
وبهذا صحّ المجاز على سـبيل التمثيل في هذه الآية .
ونحوها قوله تعالى : (ثمّ استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللاَرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين)(2) . .
إذ لا قول هنا من الله عزّ وجلّ ، ولا منهما قطعاً . .
وإنّما المراد أنّه سبحانه شاء تكوينهما فلم يمتنعا عليه ، وكانتا في ذلك كالعبد السامع المطيع يتلقّى الاَمر من مولاه المطاع .
وعلى هذا جاء قوله تعالى :(إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) (3) . .
ضرورة أنّ القول في هذه الآية ليس على حقيقته . .
والحقيقة ما اقتبسه الاِمام زين العابدين عليه السلام من مشكاة هاتين الآيتين ، إذ قال في بعض مناجاة ربّه عزّ وجلّ : «وجرى بقدرتك القضاء ، ومضت على إرادتك الاَشياء ، فهي بمشيئتك دون قولك مؤتمرة ، وبإرادتك دون نهيك منزجرة»(4) .
وممّا جاء في القرآن الحكيم من المجاز على سبيل التمثيل قوله عزّ
------------------------------------
(1) انظر : تفسير الفخر الرازي 16 | 9 .
(2) سورة فصّلت 41 : 11 .
(3) سورة النحل 16 : 40 .
(4) الصحيفة السجّادية : 59 دعاؤه إذا عرضت له مهمّة أو نزلت به ملمّة وعند الكرب .
(241)

من قائل : (إنّا عرضنا الاَمانة على السموات والاَرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الاِنسان)(1) الآية .
لاَنّ عرضها على السماوات والاَرض والجبال لم يكن على ظاهره ، وكذلك إباؤها وإشفاقها ، وما هو إلاّ مجاز على سبيل التمثيل والتصوير تقريباً للاَذهان ، وتعظيماً لاَمر الاَمانة ، وإكباراً لشأنها .
والاَمانة هنا هي طاعة الله ورسوله في أوامرهما ونواهيهما ، كما يدلّ عليه سياق الآية وصحاح السُـنّة في تفسيرها(2) .
ولو أردنا استقصاء ما جاء في الذِكر الحكيم والفرقان العظيم من هذه الاَمثلة ، لطال بنا البحث وخرجنا به عن القصد .
وحسبك توبيخه عزّ وجلّ لاَهل الغفلة عن قوارع القرآن الحكيم ، المستخفّين بأوامره وزواجره ، إذ يقول وهو أصدق القائلين : (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشية الله وتلك الاَمثال نضربها للناس لعلّهم يتفكّرون)(3) .
أمّـا مـا جـاء في السُـنّة مـن هـذا القبـيل فكـثير إلى الغـاية ، وكـثيـر لا يحصى ، وحسبك منه الصحاح الصريحة ببكاء الاَرض والسماء على سيّد الشهداء وخامس أصحاب الكساء . .
إذ بكته الشمس بحمرتها ، والآفاق بغبرتها ، وأظلّة العرش بإعوالها ، وطبقات الاَرض بزلزالها ، والطير في أجوائها ، وحجارة بيت المقدس بدمائها ، وقارورة أُمّ سلمة بحصيّاتها ، وتلك الساعة بآياتها؛ كما صرّحت به
-------------------------------------
(1) سورة الأحزاب 33 : 72 .
(2) انظر مثلاً : تفسير الطبري 10 | 339 ح 28686 ، مجمع البيان 8 | 162 .
(3) سورة الحشر 59 : 21 .
(242)

أحاديث السُـنّة وصحاح الشـيعة(1) .
وأنت تعلم أنّ بكاء تلك الاَجرام لم يكن على ظاهره ، وإنّما كانت مجازاً على سبيل التمثيل ، إكباراً لتلك الفجائع ، وإنكاراً على مرتكبيها ، وتمثيلاً لها مسجّلة في آفاق الخلود ، إلى اليوم الموعود .
وممّا جاء في السُـنّة على هذا النمط من المجاز على سبيل التمثيل حديث كربلاء والكعبة(2) الذي أشار إليه سيّد الاَُمّة ، وبحر علـوم
-------------------------------------------
(1) انظر : مسند أحمد 3 | 242 و 265 ، تاريخ اليعقوبي 2 | 159 ، المعجم الكبير 3 | 114 ح 2840 ، تهذيب التهذيب 2 | 347 ، الدرّ المنثور 7 | 413 ، الجامع لأحكام القرآن 16 | 64 ، الإرشاد 2 | 130 ، الأمالي ـ للصدوق ـ : 694 ـ 696 ، إعلام الورى : 217 .
(2) لقد وردت روايات كثيرة معتبرة في تفضيل أرض كربلاء على أرض الكعبة ، منها ما رواه شيخ الطائفة الأقدم أبو القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه ـ المتوفّى 367 ـ في كتابه « كامل الزيارات » ، ص 266 ـ 271 .
# فقد روى بسنده عن عبدالله بن أبي يعفور ، قال : سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول لرجل من مواليه : يا فلان ! أتزور قبر أبي عبدالله الحسين بن عليّ عليه السلام ؟
قال : نعم ، إنّي أزوره بين ثلاث سنين أو سنتين مرّة .
فقال له وهو مصفرّ الوجه ، أما والله الذي لا إله إلاّ هو ، لو زرته لكان أفضل لك ممّا أنت فيه !
فقال له : جعلت فداك ! أكلّ هذا الفضل ؟!
فقال : نعم ، والله لو إنّي حدّثتكم بفضل زيارته وبفضل قبره لتركتم الحجّ رأساً ، وما حجّ منكم أحد !
ويحك ! أما تعلم أنّ الله اتّخذ كربلاء حرماً أمنا مباركاً قبل أن يتّخذ مكّة حرماً ؟!
قال ابن أبي يعفور : فقلت له : قد فرض الله على الناس حجّ البيت ولم يذكر زيارة قبر الحسين عليه السلام ؟! فقال : وإن كان كذلك ، فإنّ هذا شيء جعله الله هكذا ، أما سمعت قول أبي أمير
(243)
الاَئمّـة ، في درّته النجفية(1) ، إذ يقول أعلى الله مقامه :
المؤمنين عليه السلام حيث يقول : « إنّ باطن القدم أحقّ بالمسح من ظاهر القدم ، ولكن الله فرض هذا على العباد » ؟ !
# أوما علمت أنّ الموقف لو كان في الحرم كان أفضل لأجل الحرم ؟ ولكن الله صنع ذلك في غير الحرم ! وروى عن بيّاع السابري ، عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال : إنّ أرض الكعبة قالت : من مثلي وقد بنى الله بيته على ظهري ، ويأتيني الناس من كلّ فجّ عميق ، وجعلت حرم الله وأمنه ؟!
فأوحى الله إليها أن كفّي وقرّي ! فو عزّتي وجلالي ما فضل ما فضّلت به في ما أعطيت به أرض كربلاء إلاّ بمنزلة الإبرة غمست في البحر فحملت من ماء البحر !
ولولا تربة كربلاء ما فضلتك ! ولولا ما تضمّنته أرض كربلاء لما خلقتك ولا خلقت البيت الذي افتخرت به !!
فقرّي واستقرّي ، وكوني دنيّاً متواضعاً ، ذليلاً مهيناً ، غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء وإلاّ سخت بك وهويت بك في نار جهنّم !
أقول : لا استبعاد ولا إشكال في هذا الأمر ، فقد شرّفت أرض كربلاء بضمّها لجسد سيّد الشهداء الإمام أبي عبدالله الحسين عليه السلام ، ولمّا كان المؤمن أعظم حرمة من الكعبة ـ كما جاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام الرضا عليه السلام ؛ انظر : المعجم الكبير 11 | 31 ح 10966 ، شعب الإيمان 3 | 444 ح 4014 ، مستدرك الوسائل 9 | 343 ح 11039 ـ ، فكيف بسبط رسول الله وريحانته وسيّد شباب أهل الجنّة ؟ !
فإنّ مراد الإمام الصادق عليه السلام عليه السلام من ذلك هو إبراز فضيلة أرض كربلاء لا إلغاء فريضة الحجّ ؛ وهذا ما يؤكّده الحديث المروي في كامل الزيارات : 159 ، بالإسناد عن يونس ، عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام ، أنّه قال : « من زار الحسين فقد حجّ واعتمر .
قلت : تطرح عنه حجة الإسلام ؟
قال : لا ، هي حجّة الضعيف حتّى يقوى وبحجّ إلى بيت الله الحرام . . . » .
-----------------------------------------
(1) الدرّة النجفية : 100 .
والدرّة النجفية : أرجوزة مشهورة من سيّدة الأراجيز في الفقه ، لم يسبق إلى مثلها ، عني بها كثير من الفقهاء من بعده ، وطبعت غيرة مرّة ، وعليها شرح الميرزا
(244)
وفي حديثِ كربلا والكعبة * لكربلا بانَ علوّ الرتبـة
وكذا حديث أنس عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : « ما من مؤمن إلاّ وله باب يصعـد منه عملـه وباب ينزل منه رزقـه ، فإذا مات بكيـا عليه »(1)انـتهى .
وقـوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث آخر : « إذا مات المؤمن ناحت عليه البقاع التي كان يشغلها بعبادة الله تعالى »(2) . .
. . إلى كثير من أمثال هذه السنن ، جاءت على نمط كلام العرب في التمثيل والتصوير ، وكم لها في كلامهم من نظير! قال أُميّة بن أبي الصلت(3) :
محمود الطباطبائي البروجردي مطبوع في مجلّدين .
انظر : أعيان الشيعة 10 | 160 .
وبحر العلوم هو : السيّد مهدي بن مرتضى بن محمّد البروجردي الطباطبائي ، ولد في كربلاء سنة 1155 ، وتوفّي سنة 1212 ، كان صلى الله عنه سيّد علماء عصره وزمانه ، وعلاّمة دهره وأوانه ، فقد أذعن له جميع علماء عصره ومن تأخّر عنه بعلوّ المقام وسموّ المكانة .
انظر : مستدرك الوسائل 20 | 44 (الخاتمة ج 2) ، الكنى والألقاب 2 | 67 .
(1) سنن الترمذي 5 | 354 ح 3255 ، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 7 | 411 في تفسير قوله تعالى :(فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين) سورة الدخان 44 : 29 ، كنز العمّال 2 | 14 ح 3041 .
(2) انظر : الدرّ المنثور 7 | 412 .
(3) ديوان أميّة بن أبي الصلت : 37 ، وانظر : لسان العرب 2 | 349 مادّة « جمد » .
وأميّة بن عبدالعزيز بن أبي الصلت ، من أهل الأندلس .
كان أديباً فاضلاً ، حكيماً ، منجّماً ، مات في المحرّم سنة 529 بالمهدية من بلاد القيروان ، وهو صاحب فصاحة بارعة ، وعلم بالنحو ، والطبّ . ولابن أبي الصلت من التصانيف : كتاب الأدوية المفردة ، كتاب تقويم الذهن في
(245)
سـبحانه ثـمّ سبحــاناً يَعود له * وقَـبْـلَنا سَبّحَ الجُوديُّ والجُمُدُ
فإنّ الجودي والجمد جبلان(1) ، والمراد أنّهما يسبّحان الله بلسان تكوينهما ، راسخين شامخين ، يدلاّن على الصانع الحكيم وعلى قدرته وعظمته .
فكأنّهما ينزّهان الله عزّ وجلّ عمّا لا يجوز عليه ، على حدّ قوله تعالى : (تسبّح له السموات السبع والاَرض ومن فيهنّ)(2) .
وهذا النوع من التسبيح في القرآن العظيم كثير كما لا يخفى .
وقال قيس بن الملوّح(3) :
المنطق ، كتاب الرسالة المصرية ، كتاب ديوان شعره كبير . . .
انظر : معجم الأدباء 2 | 317 .
----------------------------------------
(1) الجودي : موضع وقيل جبل ، وقال الزجّاج : هو جبل بآمد ، وقيل : جبل بالجزيرة استوت عليه سفينة نوح ، وفي التنزيل العزيز : (وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي) سورة هود 11 : 44 .
انظر : لسان العرب 2 | 413 مادّة « وجود » .
والجمد : جبل على ليلة من المدينة مرّ عليه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وقال : « هذا جمدان سبق المفرّدون » .
انظر : لسان العرب 2 | 349 مادّة « جمد » .
(2) سورة الإسراء 17 : 44 .
(3) ديوان مجنون ليلى : 192 باختلاف يسير في بعض الألفاظ .
وقيس بن الملوّح : هو ابن مزاحم العامري ، توفّي سنة 68 هـ ، شاعر غزل ، من المتيّمين ، من أهل نجد ، لم يكن مجنوناً وإنّما لقّب بذلك لهيامه في حبّ ليلى بنت سعد .
قيل في قصّته : نشأ معها إلى أن كبرت وحجبها أبوها ، فهام على وجهه ينشد الأشعار ويأنس بالوحوش ، فيرى حينا في الشام وحيناً في نجد وحيناً في الحجاز ، إلى أن وجد ملقىً بين أحجاز وهو ميّت فحمل إلى أهله .
انظر : الأغاني 2 | 49 .
(246)
وأجـهـشـتُ للتَـوْباذِ(1) حين رأيت وأذريتُ دمـعَ الـعــيـن لـمّا أتيت فقلتُ له : أيــن الّذيــــن رأيتُهم فقال : مـضوا واسـتودعوني بلادهم وكـبّر للرحــمـن حــين رآني ونادى بأعلى صــوته فدعــاني بجنبك فــي خفضٍ وطِيبِ زمانِ؟! ومـن ذا الذي يبقى عـلى الحدثانِ؟!
ضـرورة أنّـه لا سـؤال هنـا ، ولا جـواب ، ولا تكبـيـر ، ولا نـداء ، ولا دعـاء ، وإنّما هي مجازات على سـبيل التمثيل والتصوير . ومثله قول بعضهم(2) :
وقالت له العينان : سمعاً وطاعةً وحـــدّرتا كالدرّ لــمّا يثـقّبِ
وقال مزاحم العُقيلي(3) :
بكت دارُهم مـن أجـلهم فتهلّلت دمـوعي فأيّ الجازعــين ألوم؟!
وكانوا إذا أَخبَروا عن عظم المصاب بموت الواحد من عظمائهم يقولون : بكته السماء والاَرض ، وأظلمت لفقده الشمس والقمر . .
----------------------------------------
(1) التوباذ : جبل بنجد ؛ انظر : معجم البلدان 2 | 64 رقم 2669 .
(2)
(3) انظر : الأغاني 19 | 105 .
ومزاحم بن الحارث ، أو : مزاحم بن عمرو بن مرّة بن الحارث ، من بني عقيل ابن كعب بن عامر بن صعصعة .
شاعر غزل بدوي من الشجعان ، كان معاصراً لجرير والفرزدق ، وسئل كلّ منهما : أتعرف أحداً أشعر منك ؟ فقال الفرزدق : لا ، إلاّ أنّ غلاماً من بني عقيل يركب أعجاز الإبل وينعت الفلوات فيجيد . وأجاب جرير بما يشبه ذلك . وقيل لذي الرمّة : أنت أشعر الناس ! فقال : لا ، ولكن غلام من بني عقيل يقال له مزاحم ، يسكن الروضات ، يقول وحشياً من الشعر لا يقدر أحد أن يقول مثله .
انظر : خزانه الأدب 6 | 256 ، الأعلام 7 | 211 .
(247)
قال جرير(1) يرثي عمر بن عبـد العزيز :
الشمسُ طالعةٌ ليست بكاسفةٍ تبكي عليك نجومَ الليل والقمرا
أي إنّها مع طلوعها باكية ليست بكاسفة نجوم الليل والقمر؛ لاَنّ عظم مصيبتها بك قد سلبها نورها .
وبالجمـلة : فإنّ باب المجاز على سبيل التمثيل من أوسع أبواب البلاغة في لسان العرب ، كانوا يرصّعون به خطبهم وأشعارهم وحِكمهم وأمثالهم . .
فمن أمثالهم السائرة(2) :
قال الجدار للوتد : لِمَ تشـقّـني؟!
قال الوتد : سَـلِ الذي يدقّـني!
. . إلى كثير من أمثال هذا .
والقرآن إنّما نزل على لغتهم وفي أساليبهم ، وما تحدّى العرب إلاّ على طرائقهم وفي مجازاتهم وحقائقهم ، فبخعوا لآياته ، وعجزوا عن أن يأتوا بسورة من مثله(3) .
فآية الميثاق والاِشهاد على أنفسهم إنّما جاءت من هذا الباب ، كما
------------------------------------------
(1) ديوان جرير : 235 .
وجرير بن عطية بن حذيفة بن بدر الخطفي الكلبي اليربوعي ، من تميم (28 ـ 110 هـ) ، أشعر أهل عصره ، ولد ومات في اليمامة ، وعاش عمره كلّه يناضل شعراء زمنه ويساجلهم ، وكان هجّاءً مرّاً ، فلم يثبت أمامه غير الفرزدق والأخطل ، وهو من أغزل الناس شعراً .
(2)
(3) إشارة إلى قوله عزّ وجلّ : (وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) سورة البقرة 2 : 23 .
(248)
جاء غيرها من آيات الفرقان وصحاح السُـنّة وسائر كلام العرب .
والحمد لله الذي دلع لسان الصباح بنطق تبلّجه ، وسرّح قطع الليل المظلم بغياهب تلجلجه ، ودلّ على ذاته بذاته ، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته(1) .
---------------------------------------
(1) هذا المقطع مقتبس من دعاء الصباح للإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ؛ انظر : بحار الأنوار 94 243 .
(249)














المقام الثاني
في الاستشهاد بالآية الكريمة على
نبـوّة نبيّـنا صلى الله عليه وآله وسلم وإمامة أئمّـتنا عليهم السلام
وهذا شيء لم يكن مدلولاً عليه بظاهر الآية لولا ما رويناه في تفسيرها عن الاِمام الصادق عليه السلام إذ قال : «كان الميثاق مأخوذاً عليهم لله بالربوبية ، ولرسوله بالنبوّة ، ولاَمير المؤمنين والاَئمّة بالاِمامة ، فقال : (ألست بربّكم) ومحمّـد نبيّكم وعليٌّ إمامكم والاَئمّة الهادون أئمّتكم (قالوا بلى)» . . الحـديث(1) .
وقول الصادق عليه السلام حقٌّ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لوجوب عصمته عقلاً ونقلاً ، وهو إمام العترة الطاهرة في عصره ، لا يضلّ من تمسّك به ، ولا يهتدي إلى الله من ضلّ عنه ، أنزله النصُّ منزلةَ الكتاب ، وجعله قدوته لاَُولي الاَلباب ، وهذا أمر مفروغ عنه عندنا ، والحمّد لله ربّ العالمين(2) .
-----------------------------------------
(1) تفسير القمّي 1 | 248 ، ومؤدّاه في : تهذيب الأحكام 3 | 146 ح 317 باب صلاة الغدير.
(2) نعم ، إنّ مسألة عصمة الأئمّة عليه السلام عندنا مفروغ منها ، وذلك بدلالة آيات الكتاب العزيز والأحاديث النبوية الشريفة المتواترة ، والتي تظهر هذا الأمر جليّاً واضحاً ، لذا فما على المنصف إلاّ أن يراجع هذه الآيات والأحاديث لكي يزيل عن عينيه الغشاوة التي منعته من رؤية الحقّ وأهله .
فمن الآيات القرآنية التي تدلّ على إمامتهم وعصمتهم عليه السلام :
1 ـ آية التطهير : (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم
(250)



تطهيراً) سورة الأحزاب 33 : 33 .
والمراد بأهل البيت في هذه الآية : علي وفاطمة والحسن والحسين عليه السلام وفق ما جاء به الحديث الشريف .
انظر : صحيح مسلم 7 | 130 ، سنن الترمذي 5 | 328 ح 3205 و 3206 ، المستدرك على الصحيحين 2 | 451 ح 3558 و 3559 ، المعجم الكبير 3 | 53 ح 2664 ، الدّر المنثور 6 | 603 ـ 605 ، سير أعلام النبلاء 10 | 346 .
2 ـ آية المودّة : (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ومن يقترف حسنّة نزد له فيها حسناً إنّ الله غفور شكور) سورة الشورى 42 : 23 . فقد عيّن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم المقصودين بـ « القربى » في هذه الآية ، وهم : عليّ والزهراء وولداهما عليه السلام ، ول و لم يكونوا طاهرين مطهّرين معصومين لما أمر الله تعالى بمودّتهم ، ولكان أمره عبثاً ، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً .
انظر : مسند أحمد 1 | 229 ، المعجم الكبير 3 | 47 ح 2641 و ج 11 | 351 ح 12259 ، المستدرك على الصحيحين 3 | 188 ح 4802 ، تفسير الطبري 25 | 16 ـ 17 .
3 ـ آية المباهلة : (فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) سورة آل عمران 3 : 61 .
وهذه الآية من الآيات الدالّة على إمامة أئمّتنا الأطهار عليه السلام ، وعلى أنّهم بمرتبة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، بل ساوتهم به إذ جمعت أنفسهم مع نفسه ، فقال تعالى : (وإنفسنا وأنفسكم) ، وقصّة هذه الآية معروفة إذ خرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى مباهلة نصارى نجران بعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليه السلام ، وقد تواترت الأخبار في نقلها .
انظر : مسند أحمد 1 | 185 ، صحيح مسلم 7 | 120 ، سنن الترمذي 5 | 596 ، المستدرك على الصحيحين 3 | 163 ح 4719 ، فتح الباري في شرح صحيح البخاري 7 | 60 .
# أمّا بالنسبة للأحاديث النبوية الشريفة فهي كثيرة جدّاً ، ولكنّنا ـ روماً للاحتصار ـ سنورد أشهر حديثين ، وهما :
1 ـ حديث السفينة : « مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ،
(251)
أمّا أخذ الميثاق هنا لرسول الله بالنبوّة ، ولاَوصيائه الاثني عشر بالاِمامة ، فإنّمـا هو على حدّ ما ذكرناه من أخذ الميثاق لله عزّ وجلّ بالربوبية(1) .
ومن تخلّف عنها هلك » .
وهو حديث متواتر فيه دلالة واضحة على إمامة أئمّتنا وعصمتهم بالمعنى الذي يقوله علماؤنا ، أي أنّ الذي يريد أن ينجو من الهلاك عليه بالتمسّك بهؤلاء لأنّهم سفن النجاة .
انظر : المتسدرك على الصحيحين 2 | 373 ح 3312 ، تاريخ بغداد 12 | 91 ح 6507 ، مجمع الزوائد 9 | 168 ، الصواعق المحرقة : 352 ، المعجم الكبير 3 | 37 ح 2636 ، المعجم الصغير 1 | 139 ، الدّر المنثور 3 | 334 .
2 ـ حديث الثقلين : « إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر ؛ كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرّقا حتّى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ! » .
وقد ورد هذا الحديث بألفاظ مختلفة والمعنى واحد ، وهو من الأحاديث الدالّة دلالة قاطعة لا تقبل الشكّ والترديد على عصمة أئمّتنا الاطهار عليه السلام ، إذ قرن النبّي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم القرآن بالعترة ، وأخبر أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليه الحوض .
انظر : صحيح مسلم 7 | 122 ، مسند أحمد 5 | 181 ـ 182 ، سنن الترمذي 5 | 622 ح 3788 ، المستدرك على الصحيحين 3 | 160 ح 4711 وج 3 | 613 ح 6272 ، المعجم الكبير 5 | 166 ح 4969 و ج 5 | 182 ح 5025 و 5026 و ج 5 | 183 ح 5028 ، الدرّ المنثور 2 | 60 .
(1) أول ما أخذ الله الميثاق له بالربوبية من الأنبياء عليه السلام حيث قال تعالى : (وإذ أخذنا من النبيّين ميثاقهم) سورة الأحزاب 33 : 7 ، فذكر جملة من الأنبياء ، ثمّ أبرز أفضلهم بالأسامي فقال : (ومنك) يا محمد ، فقدّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنّه أفضلهم ، ثمّ أخذ بعد ذلك ميثاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء بالإيمان له ، وعلى أن ينصروا أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال ـ سورة آله عمران 3 : 81 ـ : (وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لما اتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم) يعني رسول الله صلى الله عليه وآل وسلم (لتؤمننّ به ولتنصرنّه) يعني أمير المؤمنين عليه السلام ، وأخبروا أممكم بخبره وخبر وليّه من الأئمّة عليه السلام .
انظر : تفسير القمّي 1 | 248 .
(252)

فإنّه ـ وله الحمد والمجد ـ أقام على نبوّة نبـيّنا ، وإمامة أئمّتنا من الاَدلّة القاطعة ، والبراهين الساطعة ، والآيات ، والبيّنات ، والحجج البالغة المتظاهرة ما لا يتسـنّى جحوده ، ولا تتأتّى المكابرة فيه ، ولات حين مناص .
فلو فُرض أنّ الله عزّ سلطانه سأل بني آدم ـ بعد تناصر تلك البيّنات ـ وأشهدهم على نبوّة نبيّنا وإمامة أوصيائه ، لَما وسعهم إلاّ الاِقرار لهم والشهادة بالحقّ طوعاً وكرهاً .
ألا ترى البرّ والفاجر ، والمسلم والكافر ، والمؤمن والمنافق ، والناصب والمارق ، قد بخعوا لفضلهم ، وطأطأوا لشرفهم ، فسطروا الاَساطير في مناقبهم ، وملاَوا الطوامير من خصائصهم ، وتلك صحاح أعدائهم تشهد لهم بالحقّ الذي هم أهله ومعدنه ، ومأواه ومنتهاه(1) .
وتفصيل الكلام في هذا المقام لا تسعه هذه العجالة ، فاكتفِ الآن بهذه الاِشارة ، فإنّك والحمد لله من الاَحرار الاَبرار ، من أهل البصائر الثاقبة .
ولعلّ الله يوفّقني للتفصيل في كتاب أُفرده لاَعلام النبوّة ودلائل الاِمامة؛ لنستقصي الكلام في هذا المقام ، وما توفيقي إلاّ بالله .
---------------------------------
(1) انظر مثلاً : صحيح مسلم 7 | 119 ـ 124 ، مسند أحمد 1 | 77 و 99 و 115 و118 و368 و331 ، سنن ابن ماجة 1 | 42 ـ 44 ، سنن الترمذي 5 | 590 ـ 601 .
(253)
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف