البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

حدود الحُرِّيَّـة من المنظور الكلامي والفقهي والعرفاني

الباحث :  أ. عباس ظهيري
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  23
السنة :  السنة السادسة خريف 1422 هجـ 2001 م
تاريخ إضافة البحث :  February / 11 / 2015
عدد زيارات البحث :  3101

حدود الحُرِّيَّـة من المنظور الكلامي والفقهي والعرفاني

أ. عباس ظهيري

الحرِّيّة: مصطلح متنوِّع المعاني
تعدّ الحرِّيّة من المصطلحات الفاتنة والجذّابة والمعروفة جدّاً، والتي اتخذت لنفسها، طوال التَّاريخ البشري، صوراً وأشكالًا متعدّدة، كما تمظهرت في كافّة عصور الحضارة الإنسانية في صور إيجابيّة أو سلبيّة.
لقد كانت الحريّة، وعلى مستوى ثقافات الجماعات البشرية كافّة، مورداً للجدل والحوار؛ فمن بلاط الملوك وقصور الحاكمين، إلى أكواخ الرَّعية والأزقّة والأسواق، ومن محافل أهل العلم والمعرفة ومهرجانات أهل الأدب وأنغام المنشدين وقصائد المرهفين، إلى حكمة الباحثين المتعمّقين وفلسفاتهم، ومن أرباب الكلام القديم إلى مبدعي الكلام الجديد، ومن رسالات القادة السماويين المحرّرة للإنسان إلى الفتاوى المُحيية والمُسعدة لعلماء الدين، ومن صرخات لمعان سيوف المحاربين المناهضين للظلم إلى هواجس المسجونين وخلجاتهم النفسانيَّة، وفي نهاية المطاف إلى ساحات الصراع المرير للصّحف والمطبوعات المعاصرة... من ذلك كلّه وإليه كانت الحريّة على الدَّوام مثاراً للبحث والمحاورة.
ومن هنا مثَّل الاشتراك اللفظي، أو المعنوي، لهذه المفردة مع المفاهيم المختلفة والمصاديق المتنوّعة لها السبب الأبرز لبروز الإشكالية على نحوٍ جادٍّ في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة -30]


كتابات أهل العلم والثقافة ودراساتهم أكثر من أيّ شيءٍ آخر، إلى درجة أن ذلك قد أفضى إلى تكوّن الاعتقادات المتضادّة.
ولقد أدّى عدم الانتباه الدَّقيق إلى هذه المسألة إلى وقوع الخلط بين المفهوم والمصداق، الأمر الذي تبعته استنتاجاتٌ متناقضةٌ تناقضاً تامّاً من قبل أصحاب الفكر والمعرفة، ونجم عن ذلك إثارة جدالات لا نتيجة منها.
هذه المقالة التي بين يدي القارىء الكريم تسعى، ضمن تقديمها لتعريفٍ ماهويٍّ للحرِّية والمصطلحات المرادفة لها في الثقافة الغربية، إلى بحث أقسام الحريّة ومصاديقها، ومن ثَمّ التحقيق والبحث المعمّق، والبعيد عن أيّ نوعٍ من أنواع التعصّب والجدال، في حكم كلّ واحدٍ من هذه الأقسام من وجهة النَّظر الفقهيّة والكلاميّة والعرفانيّة، ومن ثم تشخيص الحدود الممنوحة للحريّات من هذه النواحي الثلاث.
تعريف الحرِّيّة
تمثّل الحرِّية مفهوماً من المفاهيم المأنوسة والمتداولة جدّاً، إلى حدّ أنه يمكن، من ناحية من النواحي، عدّها جزءاً من سلسلة المفاهيم البديهيَّة والواضحة جداً، بحيث أن انتقاء أي مصطلحٍ، بوصفه معرّفاً ومبيّناً لحقيقة الحرِّية، يؤدي إمَّا إلى عدم اتضاح مفهوم الحرِّية نفسه، أو، على الأقلّ، إلى حصول التساوي بين هذا المعرّف ومقولة الحرية.
هناك الكثير من المفاهيم التي تبدو للنَّظرة الأولى واضحةً وبديهيةً، تتخذ لنفسها، عقب التأمُّل العميق والنظرة التحليلية لها ووضعها على منضدة التحقيق، مظهراً آخر مجهولًا، وتتبلور لها مجموعة من المصاديق المشتبهة وغير المعروفة، وذلك نظير ما ذكره الشيخ الأنصاري (رض) في تعريف «الماء المطلق»؛ حيث قال: «وهو من أوضح المفاهيم العرفية إلَّا أن تعريف المصنِّف (أي العلَّامة) كغيره له... لأجل الإشارة إلى امتياز أفراد غيره عند الاشتباه» (1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)كتاب الطهارة، ص 2.

[الصفحة -31]


مفهوم الحرِّية هو من هذا النَّوع من المفاهيم، ومن هذه الجهة، قدّمت له تعريفات مختلفة، كما أن الباحثين في موضوع الحرية قاموا بإدراج جملة من القيود على تعريفها، انطلاقاً من القبليات والمعتقدات التي يحملونها إزاءها، ما أدَّى أحياناً إلى تقديم تعريفات متباينة وبعضها غريب عن بعضها الآخر، ولعل الاطّلاع على ما ذكره أحد العلماء الغربيِّين، وهو «آيزا برلين»، من أن التعريفات التي طرحت للحرية قد بلغت حتى الآن المئتي تعريف يجعل المسألة أكثر استشكالًا، ويبعث بالتأكيد على التعجّب والاستغراب (2).
فبعض الباحثين، من أمثال «جون لوك»، يرى «أنّ الحرية هي القدرة والطاقة اللتان يوظِّفهما الإنسان لأجل القيام بعمل معيَّن أو تركه» (3)، وبعض آخر، من أمثال «جون استيوارت ميل»، يقول: «إن الحرِّية عبارة عن قدرة الإنسان على السعي وراء مصلحته التي يراها، بحسب منظوره، شريطة أن لا تكون مفضيةً إلى إضرار الآخرين» (4). ويكتب بعض آخر، من أمثال «كانت»، فيقول: «الحرية عبارةٌ عن استقلال الإنسان عن أي شيءٍ إلَّا عن القانون الأخلاقي» (5).
ويعرّف الأستاذ آية الله جوادي آملي الحرّية، من المنظور الإسلامي، فيقول: «الحرية، من المنظور الإسلامي، عبارةٌ عن التفلّت والتحرّر من عبودية وإطاعة غير الله تعالى» (6).
وهنا لا بدَّ من التفتيش عن أسباب ظهور هذه التَّعريفات المختلفة للحرِّية في أهداف أولئك الذين عرّفوها أنفسهم، وذلك لأنَّ بعض الباحثين في الحرِّية إنما كان في صدد عرض تعريفٍ لماهية الحرِّية بقطع النَّظر عن الجهات السلبية والإيجابية لها، في حين كان يسعى بعض آخر إلى تقديم تعريف للحرِّية مرفقٍ بتلك الحدود والقيود التي كان يعدّها ـ طبقاً لمعتقداته ـ ذات قيمة وكمال.
وعلى هذا الأساس، فإن أولئك الذين كانوا في صدد تعريف أساس ماهية الحرية ـ بغضِّ النَّظر عن الأبعاد الإيجابية والقيمية، أو الأبعاد السلبية، لها ـ من أمثال «لوك» قالوا: إن الحرية عبارةٌ عن تلك القدرة نفسها على فعل عملٍ معيَّنٍ وتركه، أما أولئك الذين أرادوا من تعريفاتهم شرح الحرية ذات الجوانب الإيجابية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2)ر. ك: أربعة مقالات حول الحرية، آيزا برلين، ترجمة محمد علي موحّد.
(3)تحليلي نوين از آزادي، موريس غرنستون، جلال الدين أعلم، ص 13.
(4)رسالة آزادي، جان استوارت ميل، ترجمة جواد شيخ إسلامي.
(5)تحليلي نوين از آزادي، م.ن. ص 13.
(6)فلسفة حقوق بشر، آية الله جوادي آملي، ص 189.

[الصفحة -32]


والمنتجة والمقبولة وفق النَّظر العقلائي العام للوصول إلى تحصيل السعادة والنجاح على الصعيد المجتمعي العام، أو على الصعيد الفردي، فقد وضعوا في تعريفاتهم كافة القيود المفضية، في نظرهم، إلى تحصيل هذه الأهداف.
ومن هنا استحضر «جون استيوارت ميل»، في تعريفه للحرِّية، قيد «شريطة أن لا تكون مفضيةً إلى إضرار الآخرين»؛ وذلك لأن الحرِّية التي تكون متزاحمةً ومصالح الآخرين ليست في نظرة حرِّيةً مقبولةً عقلائياً.
وللسَّبب نفسه، أيضاً، لم يكن «كانت» يرى أنَّ الحرِّية مستغنيةٌ عن إعمال القانون الأخلاقي، بل كان يرى أن رعاية القانون الأخلاقي أمر ضروري في تحقّق الحرِّية المقبولة. وهكذا الحال في تعريف الأستاذ الشيخ جوادي آملي فإنه، حيث كان في صدد تعريف الحرِّية من وجهة النظر الدينية، لم يرها منفكَّة عن العبودية لله تعالى. والذي يبدو هو أن هذا التعريف إنما هو من وجهة النظر العرفانية والأخلاقية الإسلامية لا من وجهة نظر الفقه أو الكلام.
وهنا من الضَّروري التفريق بين الحرِّية التكوينية والحرِّية التشريعية من وجهة نظر الفقه والعرفان، وتقديم تعريفٍ مناسبٍ لمقتضيات كلٍّ منهما، ومن ثم البحث في أدلَّة كلٍّ منهما بصورةٍ مستقلّةٍ؛ إذ لا تلاحظ في الحرية التكوينية أية أبعاد قيمية إيجابية أو أبعاد سلبية لا قيمية، بخلاف الحرية التشريعية، فإنَّ النظر كله إلى الحدود والقيود القيمية والمخالفة للقيم من وجهة نظر المقنّن والشريعة.
ومن اللَّازم، لأجل توضيح المراد من البحثين، قبل الورود فيهما، تحديد المحور الأصلي للنِّزاع في موضوع الحرِّية.
تعيين محل النِّزاع في موضوع الحرِّية
للحرِّية فروعٌ مختلفة، بعضها مورد نزاع وبعضها الآخر محل وفاق، وهي:
1 ـ الحرِّية التكوينية للإنسان في الفعل، وخصوصاً في مبدأ الفكر.
2 ـ الحرِّية التَّشريعية والقانونية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة -33]


3 ـ حرِّية الإنسان قبال التعلّقات النفسانية وأمام الميول والأهواء.
لقد جرى الخلط بين الحرِّية التكوينية والحرِّية التشريعية في الكثير جدَّاً من الكلمات والكتابات، كما أنَّ الحرِّية التشريعية في النظرة الفقهية لم يتم فصلها عن الحرية التشريعية في المنظور العرفاني، فجرى الاستدلال على الحرِّية التشريعية بوساطة بعض الآيات والروايات المثبتة للحرِّية التكوينية، إلى درجة أن الآية الشَّريفة {لا إكراه في الدين} [البقرة/259]ـ النَّاظرة بالدقة وبالتقريب الجميل القادم إلى الحرية التكوينية للإنسان في المجال الفكري وأن التصديقات العقديَّة له غير جبرية بطبعها ـ قد جعلها بعضهم من أدلَّة الحرّية التَّشريعية والقانونية مصرّاً بشكلٍ شديدٍ على ذلك.
ومن هذه الجهة، ولأجل جعل المحور الأساسي للنزاع في مبحث الحرِّية في المدنيَّة المعاصرة، أكثر شفافية، من المفيد، بل من، الضروري، الأخذ بعين الاعتبار هذه المسألة، ألا وهي أن الحرِّية التكوينية بحثٌ كلاميٌّ متَّفقٌ عليه بين محصّلي علم الكلام القديم والجديد، وكذلك بين أكثريَّة الفرق الإسلامية، وهي أيضاً مورد إجماع الذين يطرحون مسألة الحرِّية في المدنيَّة المعاصرة، سواء في ذلك الذين يرون الحرِّية على نحوٍ إطلاقي أم الذين يقبلونها بأعلى درجةٍ من المحدودية، أم أولئك الذين يقبلون بها، شريطة إرفاقها بشرائط وقيود خاصة شرعية أو عقلائية.
والأمر الذي يقع موضع نزاع بين دارسي موضوع الحرِّية، على الصعيد الفكري الدِّيني، إنما هو الحرِّية على المستويين: الشرعي والقانوني.
المسألة الأخرى ذات الأثر في تحديد محل النزاع وتبيينه ـ والتي حصلت مع الأسف جدالاتٌ غير مثمرةٍ ولا نهاية لها نتيجة عدم الالتفات إليها ـ هي أن القضيّة المناسبة لكي تكون مورداً للبحث والحوار في تعيين نطاق الحرِّية من الناحية الشرعية ليست حرية الإنسان في مرحلة التشريع ـ والتي هي غير منحصرة بالتأكيد بالمستحبَّات والمكروهات والمباحات ـ وإنما حرّيته في مرحلة امتثال التكاليف الإلزامية (الواجبات والمحرَّمات) أو عصيانها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة -34]


وبعبارةٍ أخرى، إن الأمر المناسب لجعله مورداً للكلام والبحث الفقهي هو: «هل يمكن للشخصية الحقوقية، كالحاكم الشرعي، أو الشخصية الحقيقية كأي فردٍ من أفراد المجتمع، ممارسة الإجبار عملًا لامتثال ما حدّد وجوبه أو حرمته في الشَّرع بالنسبة للآخرين وبالتالي الحدّ من حريّاتهم؟».
ومن العجيب أن بعضهم قد وسّع مجال البحث في الحرِّية إلى حدٍّ جعله شاملًا لمسألة الخلاف الأصولي الإخباري في مسألة جريان أصالة البراءة في الشبهات الحكمية والموضوعية، وفسّر أصالة البراءة والإباحة الأصولية بأنها أصالة حرِّية الإنسان، مع أنه ـ وفقاً لما تقدّم ـ لا توجد أية علاقة بين الاختلاف الأصولي الإخباري وبين مسألة الحرِّية، كما أن هذا الخلاف لا يلتقي مع المراد والمطلوب من الحرِّية.
الحرِّية الإنسانية في المنظور الكلامي
إن قضيَّة حرِّية الإنسان التكوينية في كافة أفعاله، بدءاً من السلوك والتصرّفات وصولًا إلى التصوّرات والمعتقدات، تمثّل واحدةً من المباحث الكلامية التي كانت مطروحةً منذ زمن بعيد بين أرباب الكلام، لا سيما علماء الدين، وقد مثَّل هذا البحث أساساً لظهور ثلاث مدارس أساسيَّة هي:
1 ـ المذهب الأشعري القائل بحاكميَّة الجبر على الأفعال الإنسانية جميعها.
2 ـ مذهب المفوّضة الذي يعتقد بالاختيار المطلق.
3 ـ مذهب العدلية القائل بمسلك الأمر بين الأمرين (أي الحدّ الوسط بين الجبر المطلق والاختيار المطلق).
إن طرح موضوع الحرِّية، من وجهة النَّظر الكلامية في هذا البحث، هو في الغالب ذا جانبٍ تطفّلي، ومن هنا فإننا سوف ندرسه بوصفه مقدمةً للبحث عن «حدود الحرِّية في المنظور الفقهي»، ولذلك نكتفي بذكر الآيات والرِّوايات التي تثبت، بشكلٍ أو بآخر، مبدأ الحرِّية الإنسانية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة -35]


الحرِّيَّة التَّكوينية الإنسانيَّة في الآيات الكريمة
توجد، في القرآن الكريم، الكثير من الآيات التي تطرح موضوع الحرِّيَّة التَّكوينيَّة للإنسان بعناوين مختلفة:
أ ـ فتحت عنوان حرِّية الإنسان في اختيار الهداية والضلال جاء:
{إنّا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً} [الإنسان/3].
{قد جاءكم بصائر من ربِّكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ} [الأنعام/104].
{قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنَّما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل} [يونس/108].
{قل الحقّ من ربِّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف/29].
ب ـ وتحت عنوان كون الإنسان مختاراً في كسب أفعاله الجسمية أو القلبية الحسنة أو السَّيئة جاء أيضاً:
{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور رحيم} [البقرة/22].
{فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون} [الأعراف/39].
{كل امرىءٍ بما كسبت رهين} [الطور/21].
{أولئك لهم نصيبٌ ممَّا كسب والله سريع الحساب} [البقرة/202].
{وتوفّى كل نفسٍ ما عملت وهم لا يظلمون} [النحل/111].
وبهذا المضمون الآية الكريمة: {ثم توفّى كل نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون} [البقرة/281].
وأيضاً الآيات الشَّريفة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة -36]


{ووفّيت كل نفسٍ ما عملت وهو أعلم بما يفعلون} [الزمّر/70].
{ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون} [الأعراف/43].
وفي بعضٍ آخر من الآيات الكريمة، تمّ إسناد فساد الإنسان في الأرض، وكذلك أعماله جميعها إليه نفسه، وهو أمر يحكي بشكلٍ جيدٍ عن البُعد الاختياري والانتخابي للإنسان والحرِّية التكوينية له:
{فلمَّا أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبِّئكم بما كنتم تعملون} [يونس/23].
{ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً حكيماً * ومن يكسب خطيئةً أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً} [النساء/111 و112].
{يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذ اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعاً فينبِّئكم بما كنتم تعملون} [المائدة/105].
ج ـ إنَّ هناك آيات متعدّدة تصنِّف الثواب والعقاب، وكذلك المكافأة والمجازاة في الدُّنيا والآخرة، نتيجةً لأعمال الإنسان نفسه الحسنة أو السيِّئة، وهذا دليلٌ محكمٌ على حريته التكوينية؛ لأن الثواب والعقاب لا معنى معقولًا لهما أبداً إذا رتّبا على عملٍ صادرٍ على نحو الجبر، بل إن ذلك يعدّ محالًا بالنسبة للمُثيب والمُعاقب الحكيم كالله تعالى.
ونذكر هنا نماذج من هذه الآيات الكريمة:
{فكلًّا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [العنكبوت/40].
{من يعمل سوءاً يُجز به ولا يجد له من دون الله وليَّاً ولا نصيراً * ومن يعمل من الصَّالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمنٌ فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيراً} [النساء/123 و124].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة -37]


{ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الرّوم/41].
{اليوم تُجزى كل نفسٍ بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب} [غافر/17].
د ـ ويخاطب الشيطان يوم القيامة أولياءه ويبرّىء نفسه، وينفي ممارسته أيَّ نوعٍ من الأعمال الإجبارية معهم، ويرى أن اتّباعهم له إنما كان نتيجةً لحريّتهم واختيارهم:
{وقال الشيطان لما قضي الأمر إنّ الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطانٍ إلَّا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم} [إبراهيم/22].
وفي الحقيقة، فإذا لم يكن الإنسان في اتِّباعِه للشيطان ـ كبقية أعماله ـ حرّاً ومختاراً وإنما كان ـ كما تقول الأشاعرة ـ مجبوراً، فأي معنى لاستجابته دعوةَ الشيطان حينئذٍ؟ وكيف يمكن قبول توجيه اللَّوم له على اتِّباعه هذا؟!
الحرِّية التَّكوينية للإنسان في الرِّوايات الشريفة
إن الأخبار التي تطرح البُعد الاختياري للإنسان وتبيِّن خصيصة الانتخاب التَّكوينية فيه، في الأعمال والأفكار، مستفيضة، بل إنها تبلغ حدّ التواتر، وتجنُّباً لتوسعة البحث نقتصر على ذكر بعض النماذج منها:
يقول علي (عليه السلام):«إن الله أمر عباده تخييراً (لا جبراً) ونهاهم تحذيراً وكلّف يسير» (7).
ويقول أيضاً ضمن رسالته إلى الإمام المجتبى (عليه السلام):«لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرَّ» (8).
وينقل الإمام الرِّضا (عليه السلام)عن أبيه عن جدِّه الصادق (عليه السلام):«من زعم أن الله»
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(7)نهج البلاغة، الحكمة 78.
(8)م.ن. الرسالة 31.

[الصفحة -38]


يجبر عباده على المعاصي، أو يكلفهم ما لا يطيقون، فلا تأكلوا ذبيحته ولا تقبلوا شهادته، ولا تصلّوا وراءه، ولا تعطوه من الزكاة شيئاً» (9).
وفي ذلك كنايةٌ عن أنه بهذا التفكير يكون قد خرج عن الإسلام.
وفي رواية أخرى، يبيّن المفضّل عن الإمام الصادق (عليه السلام)مسلك العدلية النافي للجبر المطلق وللاختيار المطلق مثبتاً الحد الوسط بينهما على الشكل الآتي:«لا جبر ولا تفويض ولكن أمرٌ بين أمرين» (10).
ويسأل الفضل بن سهل الإمام الرضا (عليه السلام)، في خبرٍ آخر في محضر المأمون، فيقول:«يا أبا الحسن، الخلق مجبورون؟ فقال: الله أعدل من أن يجبر خلقه، ثم يعذِّبهم. قال: فمطلقون؟ قال: الله أحكم من أن يهمل عبده، ويكله إلى نفسه» (11).
إشكــال
إذا كان الإنسان، بحكم الآيات والرِّوايات المذكورة، موجوداً مختاراً، وليس هناك أيُّ جبرٍ إلهيٍّ حاكمٍ عليه، فكيف ينسب الله تعالى لنفسه، بالمباشرة، وفي آياتٍ كثيرةٍ، ضلال عباده؟ وفي ما يأتي بعض من هذه الآيات:
{فمن يهدي من أضلَّ الله وما لهم من ناصرين} [الروم/29].
{ومن يضلل الله فما له من هاد} [غافر/33].
{ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} [الكهف/28].
الجواب
وفقاً لما يذكره العلَّامة الطباطبائي، فإنّ الإضلال والإغفال على نوعين هما: 1 ـ الابتدائي، 2 ـ الجزائي.
إنّ ما ينافي، من هذين النَّوعين، البُعد الاختياري للإنسان ولا يجتمع معه هو «الإضلال والإغفال» الابتدائيَّان، بحيث إن الله تعالى، قبل أن يدلّل على نفسه في ساحة العبودية، يقوم بإضلال الإنسان، ويغفل قلبه عن ذكر الله تعالى، إلا أن إضلال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(9)بحار الأنوار، ج5، ص 11.
(10)م.ن، ج5، ص 17.
(11)م.ن، ج5، ص 59.

[الصفحة -39]


الله تعالى وإغفاله إنما هما دائماً من نوع الجزاء، بمعنى أن العبد بعدما وضع نفسه في مجال الامتحان يقوم وبشكلٍ متواصلٍ بعصيان التكاليف والهدايات التشريعية الإلهية ويضعها تحت قدمه، فيخرج نفسه من قابلية شمول توجّهات الحضرة الإلهيَّة وعناياتها وتوفيقاتها، فهناك يختم الله على قلبه بختم الضلالة، وبذلك يوصل جزاء عدم الاعتناء بالهدايات التشريعية وعقابه إلى مرحلة الفعلية.
إن هذا الجواب هو جوابٌ متينٌ ومحكمٌ، وله جذورٌ في روايات أهل بيت العصمة والطَّهارة (عليهم السلام)؛ ففي روايةٍ يسأل شخصٌ الإمام الرضا (عليه السلام)عن هذه الآية الكريمة: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} فيقول: «أليس الختم على قلوب الكافرين وأسماعهم جبراً؟» فيجيبه (عليه السلام):«الختم هو الطَّبع على قلوب الكفّار عقوبةً على كفرهم كما قال تعالى: {بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلً} » (12)، أي أن هذا الختم من الله تعالى على قلوب الكافرين وسمعهم لم يكن ابتدائياً أبداً، وإنما جزاءً وعقوبةً على اختيارهم الكفر كما في الآية الشريفة: {بل طبع الله عليها بكفرهم} الدالَّة صراحةً على أنّ الختم على قلوبهم إنما كان نتيجةً لاختيارهم الكفر.
والنَّتيجة هي أن الإنسان، من منظار كلمات الوحي الإلهي والمتصلين به (عليهم السلام)، عبارة عن موجودٍ حرٍّ ومختارٍ من الناحية التكوينية، وينعم بهذه الحرية في أفعاله وتصرفاته وقناعاته ومعتقداته جميعها، ومن ثمّ فهو حرٌّ تكويناً في أعماله جميعها وحتى في اعتقاداته الذِّهنية.
وطبعاً، فإن هذا لا يعني خروج الإنسان عن حيطة القدرة والإرادة الإلهيَّتين، وإنما المقصود إثبات أصل الحريّة والاختيار التكويني للإنسان، ومن ثمّ نفي مسلك الأشعرية الذي يرى أن كافة الظَّواهر المنبثقة عن الإنسان إنما هي نتيجة الفعل الإلهي والإرادة الإلهية، فهو يقول: إن ما سوى الله تعالى معلولٌ له، وحتّى نور الشمس ليس أثراً لها وإنما هو فعل الله تعالى، غاية ما في الأمر أن عادته تعالى قد جرت على بثّ النور عند طلوع الشمس.
إنَّ الآيات والرِّوايات المتقدّمة تمثل دليلًا محكماً على ردّ هذه الرؤية، كما هو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(12)م.ن، ج5، ص 11.

[الصفحة -40]


الحال في مسلك التفويض المردود وغير المقبول، أيضاً، نتيجة الأدلَّة العقلية والنقلية التي تقدّم بعضها، والتي تعالَج تفصيلاتُها في علمي الفلسفة والكلام.
إنَّ البحث الدَّقيق جداً عن الأمر بين الأمرين، وكيفية تصوير هذه الحقيقة، وهي أن الإنسان في أفعاله يجري على الحدّ الوسط بين الجبر والاختيار، وكذلك الرد على شبهات الأشاعرة والمفوضة... إن هذا البحث واسع جداً، وهو بعيدٌ عن طبيعة هذه المقالة؛ إذ إنه يحتاج إلى مقالةٍ مستقلَّةٍ.
حدود الحرِّيّة من المنظار الفقهي
تمثّل الحريّة التَّشريعية، أو حدود حرِّية الإنسان، من وجهة النّظر الشَّرعية والقانونية، عمدةَ البحث في المدنيَّة المعاصرة والمحور الأساسي للاختلافات حول مسألة الحرِّية عموماً.
الحرِّية التشريعية عبارةٌ عن حرِّية الإنسان من منظور الشَّرع ونظامه التقنيني.
والمقصود من هذا البحث هو: هل أن المواطنين المنعَّمين بالحرِّية التكوينية، في كافة أفعالهم وتصديقاتهم الذهنية، وكذلك في إذعانهم وإنكارهم القلبيَّين، هل أنهم في نظام الحياة أحرار أيضاً من الناحية القانونية والشرعية؟ وإذا كانوا أحراراً فهل يعني هذا أنَّهم، في المجتمع الإسلامي، أحرار من دون أي قيدٍ أو حدٍّ، بحيث أن أي مواطنٍ يمكنه ممارسة ما اختاره من طريقة العيش كيفما كانت وعلى أيِّ نحوٍ؟
هل يمكن، من وجهة نظر الشَّرع، أن يكون المواطن في المجتمع الإسلامي حرَّاً بحيث يستطيع ـ متجاهلًا الأحكام الإلهية ـ ارتكاب أيّ منكرٍ من المنكرات، ولا يحقّ لأي شخصٍ ـ أعم من الشخصية الحقيقية أو الحقوقية ـ أن يعترض أو يبدي ردّ فعلٍ إزاء ذلك، أو أن القضية هي أنه كما أن الإنسان في مرحلة التشريع ليس حرّاً، وهناك واجباتٌ ومحرَّماتٌ متوجهة إليه، فإنه في مرحلة الامتثال ليس حرّاً كذلك، بل يمكن تنظيم حريته من طرف الحاكم الشرعي أو آحاد المجتمع بحيث تكون ذات أطرٍ وحدود؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هي هذه الحدود، وما هي المرجعية التي ترسمها؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة -41]


وحتى يكون النظر الشرعي والقانوني، في هذا المجال، واضحاً هنا، من اللَّازم بحث كافّة جوانب الموضوع، وتبيين حكم كلّ واحدٍ منها من الناحية الفقهية.
وعلى هذا الأساس، سوف نبحث حرِّية الإنسان في مرحلتي ما قبل البلوغ وما بعده، وعلى كلا التقديرين حرّيته أمام العائلة والمجتمع والحكومة الإسلامية، ومن ثم نوضح حكم كل واحدٍ منها من الناحيتين الشرعية والقانونية اعتماداً على المنابع الاجتهادية.
حدود الحرّيّة الإنسانية قبل البلوغ
من المعلوم لدينا أن الإنسان، قبل وصوله إلى حدّ البلوغ، يكون حرّاً ومطلق العنان، ولا يتوجّه إليه أيّ نوعٍ من الواجبات والمحرّمات، فهو حرٌّ إلى الحد الذي لا يتسبّب فيه بتوجيه الضرر إلى الآخرين أو الآثار التربوية السيئة إلى نفسه، سواءٌ في ذلك مرحلة التشريع أم ـ بطريقة الأولويَّة ـ مرحلة العمل، إلا أنه في أي وقتٍ يُقدم غير البالغ فيه على عملٍ موجبٍ للضرر على الآخرين، أو يجرّ هذا العملُ عليه المفسدة والآثار الأخلاقية والتربوية السيئة، في هذا الوقت يكون لأوليائه ـ المسؤولين في إطار نظارتهم على سلوكه ـ الحق في تحديد حريته، وكذلك الحاكم الشرعي موظف في إطار سعيه لتدارك الضرر والخسارات المالية الواردة على الآخرين بتأديبه بدنياً عن طريق أوليائه.
وبناءً عليه فحرّية الإنسان قبل البلوغ محدودةٌ من جهتين:
أ ـ فالشرع ـ من ناحيةٍ ـ قد أعطى أوامره لأولياء غير البالغ بمراقبته مراقبةً شديدةً في ما يتعلّق بالمسائل الرّوحية والمعنوية، وكذلك توجيهه للتعاليم الدينية والحيلولة بينه وبين المفاسد الأخلاقية، بحيث منح الأب ـ في إطار نظرةٍ دقيقةٍ حول كيفية التربية والتعاطي مع الولد كما يقول الإمام علي (عليه السلام):«من كان له ولد صب» (13)ـ صلاحيَّة التَّشديد حتى لو وصل الحال إلى التأديب البدني بهدف تعليم الولد وتمرينه على بعض التعاليم الدينية وجعلها عاديَّةً بالنسبة إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(13)وسائل الشيعة، ج15، ص 203.

[الصفحة -42]


يقول الإمامان الباقر والصادق (عليها السلام)في خبر معتبر:«ثم يُترك حتى يتمّ له تسع سنين، فإذا تمّت له عُلّم الوضوء وضُرب عليه واءُمر بالصلاة وضُرب عليه» (14).
وبهدف الحيلولة دون وقوع الأبناء في التلوّثات الأخلاقية والجنسية فقد أجيز استخدام بعض أنواع التحديد في العلاقة مع الجنس الآخر، أو الجنس الموافق، بشكلٍ ظريفٍ ولطيفٍ أيضاً، بل إن الأولياء مسؤولون عن رعايتهم، ولذلك يجري الحد من إعمالهم لحريتهم التكوينية في مرحلة التشريع.
يقول رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) وفق صحيحة عبدالله بن ميمون:«الصبي والصبي، الصبي والصبية، والصبية والصبية، يفرق بينهم في المضاجع لعشر سنين» (15).
إن هذه الصَّحيحة هي معتمد فتوى الفقهاء العظام، كما جاء في العروة الوثقى في المسألة الرابعة والأربعين؛ حيث قال مؤلِّفها: «يفرّق بين الأطفال في المضاجع إذا بلغوا عشر سنين»، وقد قبل كافة الذين كتبوا حواشي على العروة، ومن بينهم الإمام الخميني الراحل(قده)، هذه الفتوى.
ب ـ ومن جهةٍ أخرى، فقد أمر الحاكم الشرعي بتعزير الولد وتأديبه إذا ما ارتكب بعض المنكرات الاجتماعية، كما في النصوص الكثيرة المعتبرة الواردة في سرقة غير البالغ؛ حيث جاء فيها أنّه يُعفى عنه في المرة الأولى، فيما يقوم الحاكم الشرعي وفق ما يراه من المصلحة بتأديبه وضربه في ما بعد، وذلك إلى درجة أنه إذا لم يُقلع عن الأعمال القبيحة بمعاقبته بالجلد بلطفٍ، فإنه يمكن للحاكم الشرعي أن يقطع أطراف أصابعه وإذا لم يكن ذلك مؤثراً أيضاً، فبإمكانه مواجهته بما هو أشدّ من ذلك، ففي صحيحة عبدالله بن سنان المروية عن الإمام الصادق (عليه السلام)جاء:«في الصبي يسرق قال: يعفى عنه مرة، فإن عاد قطعت أنامله أو حكّت حتى تدمى، فإن عاد قطعت أصابعه، فإن عاد قطع أسفل من ذلك» (16).
لقد اتفق الفقهاء العظام، المتقدّمون منهم والمتأخّرون، وكذلك المعاصرون، على إجراء العقوبة البدنية على الصبي السارق، بالرغم من اختلافهم ـ في الجملة ـ في كيفية تأديب الحاكم الشرعي له، وفي ذلك يذكر الإمام الخميني الراحل، في رسالته العملية، ما نصّه: «فلو سرق الطفل لم يحدّ ويؤدّب بما يراه الحاكم» (17).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(14)م.ن، ج3، ص 13.
(15)م.ن، ج15، ص 182.
(16)م.ن، ج18، ص 524، ح70.
(17)تحرير الوسيلة، ج2، ص 482.

[الصفحة -43]


إن هذا الأمر يدلل على أن غير البالغين، وإن كانوا أحراراً بالحرِّية التشريعية، ولا يثبت عليهم أي واجبٍ أو حرامٍ، إلا أنّ ذلك لا يعني أنهم ينعمون بالحرِّية المطلقة، وأنه لا مقيّد لتصرفاتهم من أية جهةٍ حقيقيةٍ كانت أو حقوقيةٍ.
ويبيِّن الفقيه المحقّق، صاحب العروة، في عبارةٍ جامعةٍ، القيود التي يمكن للأولياء فرضها على أولادهم غير البالغين، فيقول: «يجب على الولي منع الأطفال عن كل ما فيه ضرر عليهم وعلى غيرهم من الناس، وعن كلّ ما عُلم من الشرع إرادة عدم وجوده في الخارج، لما فيه من الفساد كالزنى واللواط والغيبة، بل والغناء على الظاهر، وكذا عن أكل الأعيان النجسة وشربها مما فيه ضررٌ عليهم».
إنّ كل الذين كتبوا حواشي على العروة ـ ومن بينهم الإمام الراحل(قده) ـ قد قبلوا هذه الفتوى إلا أنّهم احتاطوا في ما يتعلّق بالغناء منها.
وروح المطلب هو أن الفقهاء وعلماء الدين جميعهم متفقون على أنّ تلك المجموعة من المحرّمات التي يستفاد من أدلّتها أن غرض الشارع إنما هو عدم تحقّق ذات العمل من أيّ شخصٍ صدر، سواءٌ من البالغ أم من غيره، كالقتل والزنى واللواط وشرب المسكر، لا شك في أنّ الأطفال غير أحرارٍ فيها، وعلى الجميع ـ لا سيما الأولياء ـ العمل للحيلولة دون حصول ذلك، أمّا تلك المحرّمات التي لا يستفاد من أدلّتها بغض العمل نفسه وإنما العمل صادراً من المكلَّف، فإن غير البالغ ليس ممنوعاً عنها، بل هو حرٌّ إزاءها، وليس على الآخرين مسؤولية منعه منها.
حدود الحرِّية بعد البلوغ من النَّاحية الفقهيَّة
عندما يصل الإنسان إلى مرحلة البلوغ والرُّشد فإنَّ الشَّرع يقوم بتحديد حرِّيته أكثر من السابق وفق نظامه القانوني، ويعدّه موجوداً مسؤولًا، ويضع على عهدته ما يلزم فعله وما يلزم تركه، ويطالبه بحفظ ارتباطه بالخالق تعالى في صورة الصلاة والصيام، ويستدعيه للتوجّه إلى الضعفاء المحتاجين والانتباه للنواقص الموجودة في المجتمع عن طريق أداء الزكاة والخمس والدفاع والجهاد ضدَّ العدو، ويحرّم عليه أيّ عملٍ فرديٍّ أو اجتماعيٍّ يهدّد حياته المعنوية ورشده وتكامله، كالكذب والغيبة والزنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة -44]


پ والتعدي على حقوق الآخرين، كما أنّه لا يقبل منه أيّ نوعٍ من التقصير في مرحلة الامتثال أمام المسؤوليات التي جعلها في عهدته، وبالتالي فقد منع من التخلّف عنها، وجعلها خارجةً عن مجال اختياره، ففي القرآن الكريم: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالًا مبيناً} [الأحزاب/36].
ومع هذا فلا تعطى أيّ شخصية حقيقية أو حقوقية، وحتى الحاكم الشرعي، أيَّ إجازةٍ في الاستفادة من الجبر والقهر ـ والجرح أحياناً ـ في كافة الواجبات والمحرَّمات بنحوٍ شاملٍ ومطلقٍ، وبالتالي إلزام الرعية بامتثال تكاليفها ووظائفها الشرعية.
ويمكن تقسيم الأحكام الإلهية من هذه الجهة إلى قسمين ـ والحكومة الإسلامية لها الحق في استعمال القوة والإجبار وصولًا إلى مرحلة الجرح والقتل في قسمٍ واحدٍ منهما ـ هما:
1 ـ مجموعة الأحكام التي ليس للحكومة الإسلامية في مقابلها إلَّا وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، شريطة عدم الوصول إلى القتل والجرح، وهذه الخصوصية إنّما هي للأحكام ذات الطابع الفردي الإلهي كوجوب الصلاة والصيام، ولا تستتبعها أي مفسدةٍ اجتماعيةٍ، أو نوعٍ من التعدّي على حقوق الآخرين وهتك المقدّسات والتظاهر بالمنكرات والإقدام على ما يخالف مصالح النظام.
وهنا يصل البحث إلى مرحلةٍ دقيقةٍ وحرجةٍ جدَّاً، ولعل قبول المتديِّنين أصحاب القلوب المحترقة على الدين لهذا الأمر فيه شيءٌ من الإشكالية، إذ كيف يمكن أن يكون الإنسان المسؤول، من وجهة نظر الشرع، أمام تكاليفه الإلهية، وذو الصلاحيات المحدودة، والمعاقب على التخلّفات التي يقوم بها باستحقاق العذاب والجزاء الأبدي، كيف يمكن أن يكون حرَّاً أمام الحكومة الإلهية في ما يتعلق بالتكاليف، بحيث إنّ بقية المواطنين ومعايشيه المذهبيين والحاكم الشرعي لا يمكنهم إجباره على القيام بوظائفه الإلهية بالغاً ما بلغ الأمر؟!
إلَّا أنَّه من المنظور الفقهي لا مفرّ من التفكيك بين هذين الأمرين بحيث يكون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة -45]


الإنسان محدوداً أمام الواجبات والمحرَّمات الفردية الإلهية وفاقداً للحرِّية أيضاً من جهة؛ إلَّا أنّه من جهةٍ أخرى ومن ناحية حدود صلاحيات الحكومة الإسلامية يكون حرَّاً، وليس لأحدٍ الحق في فرض ذلك عليه، وذلك لأنّه لا يمكن العثور على أي دليل، وتحت أي عنوان فقهي دالٍّ، على تجويز الاستعانة بالإجبار والفرض وصولًا حتى مرحلة الجرح والقتل حتى من ناحية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذا النوع من التكاليف، إلا إذا ترتّب عليه عنوان ثانوي إلهي؛ وذلك لأنه بالرغم من أن كثيراً من الفقهاء قد جوّز في المرتبة الثالثة من الأمر بالمعروف التوسّل بالإجبار والفرض من قبل غير الحاكم الشرعي حتى في هذه المجموعة من التكاليف الفردية الإلهية، إلا أنه بغض النظر عن إيجابه في بعض الموارد الهرج والمرج لا يمكن إقامة دليل متقن وغير قابل للنقد على هذا المدعى، والوجوه التي أقاموها على ذلك يمكن الإيراد عليها والخدش بها بما لا مجال له في هذا المقام ويحتاج إلى بحث مستقل.
نعم إن الاستعانة بالمرتبة الثالثة من الأمر بالمعروف ـ إلى حدّ الجرح والقتل ـ من قبل الحاكم الشرعي في الموارد التي تكون ذات طابع اجتماعي، كالتعدِّي على حقوق الآخرين، أو القيام بأعمال موجبة لإشاعة الفحشاء أو الإخلال بالنظام أو توهين المقدسات وأمثال ذلك... إن هذه الاستعانة أمر مسلّم به كما سنبحثه في القسم الآتي.
وعلاوة على ما تقدم، فذاك النوع من الأحكام الفردية ـ الإلهية لا يثبت فيه حق الفرض والإجبار للآخرين وأبناء المذهب الواحد وحتى للحكومة الإسلامية فقط، بل إنه ليس لهؤلاء الحق في التجسّس والبحث عن الحياة الخصوصية لأفراد الرعية والمواطنين الآخرين، بهدف استعلام مدى رعايتهم أو عدم رعايتهم لتلك الأحكام المذكورة، لأن التجسس بأي نوعٍ من الأنواع محرّم بحكم الآية الشريفة {ولا تجسّسوا} [الحجرات/12]وكذلك الروايات الكثيرة جداً والآتية على نحو الإطلاق، والتجسّس هو ذاك التقصّي الهادف إلى العثور على العيوب والخفايا.
وقد جاء في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية: «الرسائل والمكالمات الهاتفية، والمخابرات البرقية، والتلكس لا يجوز فرض الرقابة عليها أو منع إيصالها أو إفشائها إلا بقانون» (18).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18)الدستور، المادة 25.

[الصفحة -46]


ويكتب الإمام الخميني الراحل، في رسالته إلى جهاز ملاحقة المخالفات القضائية والإدارية، فيقول: «إن التجسس على أحوال الأشخاص غير المفسدين وعلى ما عدا الفئات المخرّبة ممنوعٌ مطلقاً، وتوجيه الأسئلة إلى الأفراد حول عدد المعاصي التي ارتكبوها ـ كما تفيده بعض التقارير ـ مخالف للإسلام، والمتجسّس عاصٍ، ولا بدَّ في انتخاب الأشخاص من أن يكون هذا النحو من الأمور المخالفة للأخلاق الإسلامية والمخالفة للشريعة المطهَّرة ممنوعاً» (19).
والجهة الوحيدة التي لا يبعد اعتبارها مجازة شرعاً في استعمال الجبر وممارسة الفرض من بين المواطنين وأفراد الأمة، بهدف تحصيل التعهّد العملي والارتباط بالواجبات والمحرمات الإلهية، هي العائلة لا سيّما الأولياء من أفرادها، فإن بإمكان هؤلاء ذلك في ما يخص الأشخاص الذين يقعون تحت إشرافهم العائلي.
والمستند والمعتمد لهذا المطلب أمران:
أ ـ الآية الشريفة {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة} [التحريم/6].
فمن الواضح أن وقاية الأهل وحفظهم من العذاب الإلهي لا يتيسَّر فقط بالتذكير اللساني، وإنما لا مفر من رعاية التكاليف الإلهية على المستوى العملي، فالأب الذي يرى ولده أو أخاه غارقاً في المعاصي، فإنه إذا ما اقتصر على التذكير اللساني والنهي عن المنكر كذلك لا يكون مراعياً أبداً للأمر بالحفظ من العذاب الإلهي، ومن ثمّ فهو مضطر ـ لأجل تحقيق الامتثال لهذا الأمر ـ لمنعه من هذا العمل؛ وعلى هذا الأساس ففي الموارد التي يكون حفظ الأسرة فيها من المعاصي مبنياً على الإجبار والفرض فإن هذا الإجبار يكون جائزاً؛ لأن مفاد الآية الشريفة هو وجوب وقاية الأهل ـ المستفاد من ظهور قوا أنفسكم وأهليكم ـ، وبناءً عليه سيكون أي مصداقٍ من مصاديق وقاية الأهل وحفظهم من العذاب الإلهي واجباً، وبلا شك فإن عنوان وقاية الأهل منطبق على الحيلولة الجبرية العملية عن ارتكاب المعاصي.
ب ـ صحيحة عبدالله بن سنان المروية عن الإمام الصادق (عليه السلام): «جاء رجل إلى الإمام الصادق (عليه السلام)فقال: إن أمّي لا تدفع يد لامس، فقال: فاحبسها، قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(19)بيان 15/10/1361هـ.ش، الرسالة الموجّهة إلى لجنة ملاحقة المخالفات القضائية والإدارية.

[الصفحة -47]


قد فعلت، قال: فامنع من يدخل عليها، قال: قد فعلت، قال: قيّدها فإنك لا تبرّها بشيء أفضل من أن تمنعها من محارم الله عز وجل» (20).
فقد جاء في ذيل هذه الصحيحة جملة «قيّدها فإنك لا تبرّها بشيءٍ أفضل...»، وهي تمثل تعليلًا لحكم وارد على سبيل القاعدة الكلية، وهو يفيد أن حق الاستفادة من الجبر والفرض ثابتٌ بالنسبة لأقارب الإنسان ـ كالأم ـ بهدف الحيلولة دون ارتكابهم المعاصي، وبعبارةٍ أخرى فإنها تجعل نحواً من الولاية للإنسان على هؤلاء.
2 ـ المجموعة الأخرى عبارة عن الأحكام التي جعل الشارع الحكومة الإسلامية ناظرة ومشرفة على تطبيقها عملياً كما منع الإنسان من ممارسة حريته التكوينية بالنسبة لها في مرحلة التشريع، وبهدف التطبيق الدقيق لهذه الأحكام، فقد جوّز الاستعانة بالجبر والفرض والمواجهة الجادة مع المخالفين لا بل أوجب ذلك، وفي بعض الموارد وضع حدّاً أو تعزيراً وتأديباً بدنياً ومالياً ـ وفي بعض الحالات القتل ـ لأجل ذلك، ومن هنا، فقد حدّ من حرية الإنسان.
وفي نظرةٍ شاملةٍ يمكن عدّ بعض الحرِّيات الإنسانية ـ التي ينطبق عليها أحد هذه العناوين الكلية ـ ممنوعاً من المنظار الفقهي، وهي:
أ ـ التعدّي على أموال الآخرين ونفوسهم وأعراضهم.
ب ـ التَّعدِّي على حقوق الآخرين.
ج ـ التَّضييق على الآخرين.
د ـ التظاهر بالمنكرات.
هـ ـ مخالفة المقرَّرات الحكومية وعدم رعاية مصالح النظام.
و ـ إهانة المقدسات.
وسوف يجري هنا بحث الصبغة الفقهية لكل واحدٍ ممَّا عددناه، وسنبيِّن، اتكاءً على المباني الاجتهادية، الأدلَّةَ على ذلك من النَّاحية الفقهيَّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(20)وسائل الشيعة، ج18، ص 414.

[الصفحة -48]


أ ـ التعدِّي على أموال الآخرين وأنفسهم وأعراضهم
إن الأوامر الواردة في الكتاب والسنة والمبنية على إجراء القصاص والحدود والتعزيرات في هذه الموارد (التعدي على نفوس و...) تمثل شاهداً محكماً على محدودية الحرية القانونية للإنسان.
فقد جاء في مورد التعدِّي على نفوس الآخرين: {ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب} [البقرة/179].
{ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليِّه سلطاناً} [الإسراء/33].
كما جاء في مورد التعدِّي على أموال الآخرين: {السَّارق والسَّارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة/35].
أمَّا في الموارد التي لا يتحقَّق فيها شرطٌ من شروط قطع اليد، فإن الفقهاء متفقون على أنّ للحاكم الشرعي تعزير السارق، وأما التعدِّي وإهانة أعراض الآخرين فإنه موجب لاستحقاق الحد أو التعزير، فقد شرّعت عقوبة ثمانين جلدة على توجيه الإهانة للمسلم على شكل القذف (أي نسبة الزنا أو اللواط إليه) {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون} [النور/4].
ومع التأمُّل في هذه الآية الشريفة، وفي الروايات المعتبرة الواردة في البابين: الثاني والثالث من أبواب حدّ القذف من كتاب وسائل الشيعة (21)، يلاحظ أن هذا الحكم هو مورد اتفاق جميع الفقهاء.
أمَّا إذا كانت الإهانة للمسلم على شكلٍ آخر غير القذف، فإن ذلك يكون موجباً للتعزير، كما يبيِّن ذلك المحقِّق الحلِّي في كتابه الشرائع، حيث يقول: «كل تعريضٍ بما يكرهه المواجَه، ولم يوضع للقذف لغةً ولا عرفاً، يثبت به التعزير، لا الحد» (22).
وقد ادّعى صاحب الجواهر الإجماع على ذلك وقال: «بلا خلاف أجده فيه بيننا» (23).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(21)وسائل الشيعة، ج18، ص 432 ـ 433.
(22)شرائع الإسلام، ج4، ص 945.
(23)جواهر الكلام، ج41، ص 409.

[الصفحة -49]


وبلا شك، فإن اتفاق الفقهاء منبثق عن الرِّوايات المعتبرة الواردة في هذا الباب، فقد خصَّص صاحب الوسائل باباً لذلك أسماه «باب أنّ من سبَّ وعرض ولم يصرّح بالقذف فلا حدَّ عليه، وعليه التعزير» (24)، ونحن نكتفي هنا بذكر أنموذجٍ من هذه الروايات، وهو ما ينقله عبد الرحمن بن أبي عبدالله ـ أحد الرواة الموثقين ـ بسندٍ صحيحٍ؛ حيث يقول:«سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجلٍ سبّ رجلًا بغير قذفٍ يعرِّض به هل يجلد؟ قال: عليه تعزير» (25).
والنتيجة هي أن واحداً من حدود الحرية الإنسانية في الحياة مع الآخرين، من الناحية الفقهية، هو التعدّي على نفوس الآخرين وأموالهم وأعراضهم؛ لأن أي حركةٍ ـ سواءٌ على شكل كلامٍ أم كتابةٍ ـ توجب ذلك تعدّ ممنوعةً، وللحاكم الشرعي مواجهتها بشكلٍ قاطعٍ على صورة إجراء الحدود أو التعزيرات.
ب ـ التعدّي على حقوق الآخرين
العنوان الآخر الذي يحدّ من حرية الإنسان فقهياً هو التعدِّي على حقوق الآخرين؛ ففي مختلف أبواب المعاملات ـ من حقّ القبض والإقباض في البيع والإجارة وأمثال ذلك وحقّ إعمال الخيارات، إلى حقّ المطالبة بالمنافع المستوفاة وضمان التّالف وحق النفقة وحق الحضانة و... ـ إذا أراد أحد طرفي المعاملة أن يتجاهل حقَّ الطَّرف الآخر فيها أو يتجاوزه فإن الحاكم الشرعي ـ باتفاق الفقهاء ـ مطالبٌ بإجباره على الوفاء بتعهّداته ووظائفه الشرعية وإعادة الحقّ للطَّرف المقابل.
حدود حرية الإنسان قبال حقوق الحيوانات
في الرؤية العلوية ليس الإنسان محدود الحرِّية أمام حقوق الآخرين ممَّن يعيشون معه فحسب، بل إنه كذلك أمام حقوق الحيوانات المصنَّفة فقهياً بحكم الواجب، ومن هنا ـ وباتفاق الفقهاء ـ فالإنسان الذي لا يوصل الماء والعلف لحيواناته المملوكة له، للحاكم الشرعي إجباره إمّا على بيع هذا الحيوان أو ذبحه أو تأمين الطعام له.
يقول المحقّق الحلي في كتابه الشرائع: «وأما نفقة البهائم المملوكة فواجبةٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(24)وسائل الشيعة، ج18، ص 452.
(25)م.ن.

[الصفحة -50]


سواء كانت مأكولةً أو لم تكن، والواجب القيام بما تحتاج إليه، فإن اجترأت بالرَّعي وإلا علفها، فإن امتنع أجبره الحاكم على بيعها أو ذبحها إن كانت تُقصد للذبح أو الإنفاق» (26).
ويعلّق صاحب الجواهر عند نقله هذه العبارة فيقول: «فإن تعذَّر إجباره ناب الحاكم في ذلك عنه على ما يراه» (27).
ويقول الإمام الخميني الراحل(قده) حول هذا الموضوع: «ولو امتنع المالك من الإنفاق على البهيمة، ولو بتخليتها للرعي الكافي لها، أجبر على بيعها أو الإنفاق عليها أو ذبحها، إن كانت مما يُقصد اللحم بذبحها» (28).
ويوافق آية الله السيد أحمد الخونساري أيضاً على أصل وجوب نفقة الحيوان على مالكه، ويدّعي على ذلك عدم الخلاف، فيقول: «وأما البهائم المملوكة فنفقتها واجبةٌ بلا خلاف ظاهراً سواء كانت مأكولة أو لم تكن وسواء انتفع بها أو لا» (29).
والمستند لوجوب نفقة الحيوان على المالك هو الروايات المتعدِّدة التي ينقلها صاحب الوسائل في الباب التاسع من أبواب أحكام الدَّواب تحت عنوان: «باب حقوق الدابة المندوبة والواجبة» (30).
أمّا مستند أن للحاكم إجبار المالك على أحد أمور: إمّا تقديم العلف والماء للحيوان أو بيعه أو ذبحه، فبالرغم من أنه لم ترد مثل هذه الخصوصيات في أي رواية، إلَّا أنّه يمكن تتميم النَّاحية الفقهية هنا من خلال مبنى ثبوت الحق للحاكم الشرعي في إجبار أي شخصٍ متخلّفٍ عن القيام بواجباته على أدائها، وإلا فإذا لم يتم قبول هذا المبنى فإنه لا مجال للتَّحقُّق من وجهٍ آخر لإثبات هذا الحكم.
ج ـ مزاحمة الآخرين
لم يعط النظام الإسلامي ـ من وجهة النَّظر الفقهية ـ أي شخصٍ الحق في الاستفادة من حرِّياته إذا ما سبّبت إيجاد نوعٍ من المزاحمة للآخرين، سواء كانوا مسلمين أم أهل ذمّة، وحتى المالك الذي يتصرَّف في ملكه موقعاً المزاحمة على الآخرين ليس له حق التصرف هذا من الناحية الفقهية، والحاكم الشرعي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(26)جواهر الكلام، ج31، ص 395.
(27)م.ن.
(28)تحرير الوسيلة، ج2، ص 324.
(29)جامع المدارك، ج4، ص 490.
(30)وسائل الشيعة، ج8، ص 350.

[الصفحة -51]


مسؤول عن المواجهة بقاطعيَّةٍ مع هذا النوع من ممارسة الحرية، ومن ثمّ تحديد حرية ذلك الإنسان.
إن فلسفة ضرورة وجود الحكومة، ولا سيما لزوم إدارتها من قبل الفقيه الجامع للشرائط، تمثِّل دليلًا واضحاً على مسؤولية الحاكم الشرعي في الحد من وجود مثل هذا النوع من الحريات، ويُلزم ـ بهدف إقرار الهدوء التام والحفاظ على أمن المواطنين ـ بمواجهة هذه الظاهرة مواجهةً حازمةً.
وبالإضافة إلى ذلك يمثّل الحديث النبوي المعتبر:«لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» (31)شاهداً محكماً على نفي حرية الإنسان في الموارد التي يتسبّب فيها بمضايقة حق الآخرين.
ومن العجيب جعل بعض الكبار، أيَّده الله تعالى، الروايةَ المذكورةَ دليلًا على الحرِّية المشروعة، بالرغم من أنَّها تتناسب ـ مع الأخذ بعين الاعتبار متنها ومورد صدورها ـ مع تحديد الحرية أكثر من تشريعها، وإن كان يمكن، بتقريبٍ من التقريبات، استفادة حرِّية الإنسان في محيط منزله منها، إلا أن هذه المرتبة من الحرية ليست بتلك المرتبة المبهمة، كما أنها ليست مورداً للبحث والجدال بين المؤيدين والمعارضين من الباحثين حول الحرِّية.
والذي يبدو هو أنه ـ وحتّى يكون البحث أكثر شفافيةً ـ لا بدَّ في البداية من التعرُّف على متن الرواية المذكورة وشأن صدورها، إذ ينقل الصدّوق هذه الرواية عن ابن بكر، وهو بدوره ينقلها عن زرارة كالتالي:«عن أبي جعفر(عليه السلام)قال: إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط رجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري فيه الطريق إلى الحائط، فكان يأتيه فيدخل عليه ولا يستأذن، فقال: إنك تجيء وتدخل ونحن في حالة نكره أن ترانا عليها، فإذا جئت فاستأذن حتى نتحرّز، ثم نأذن لك تدخل، قال: لا أفعل هو مالي أدخل عليه ولا أستأذن، فأتى الأنصاري رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)فشكا إليه وأخبره، فبعث إلى سمرة، فجاء فقال: استأذن عليه؟ فأبى، وقال له مثل ما قال للأنصاري، فعرض عليه رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)أن يشتري منه بالثمن فأبى عليه، وجعل يزيده، فيأبى أن يبيع، فلما رأى رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)قال له: لك عذق في الجنة، فأبى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(31)كتاب من لا يحضره الفقيه، ج3، ص 147.

[الصفحة -52]


أن يقبل ذلك، فأمر رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) الأنصاري أن يقطع النخلة فيلقيها إليه، وقال: لا ضرر ولا ضرار» (32).
والملاحظ هنا أن شأن صدور «لا ضرر ولا ضرار» هو ذاك الإنسان الوقح سمرة بن جندب الذي يستفيد من حريَّته سوء الاستفادة، ويدخل منزل المسلم فجأةً ومن دون إعلامٍ مسبقٍ رافعاً شعار «احترام الملكية»، وبذلك يكون موجباً لأذيَّة الأنصاري وعائلته ومزاحمتهم.
إن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، وبجملته الراقية والقيمة: «لا ضرر ولا ضرار»، يصدر عمليَّاً حكماً ـ كحاكمٍ للمسلمين ـ بلزوم قلع العذق، ومع قلعه يتم إعدام الأرضية الموجبة لوقوع الأذيَّة والمزاحمة للآخرين.
وبناءً عليه، فالمراد الأصلي لهذه الرواية هو نفي شرعية الحرية المفضية إلى مزاحمة الآخرين من قبل سمرة بن جندب، وإن كان يمكن أيضاً استفادة احترام حرية الرجل الأنصاري وعائلته في محيطه المنزلي ـ والتي هدّدها التصرّف الوقح من قبل سمرة ـ منها، إلا أنه من الواضح أن ضرورة هذا النوع من الحرِّية هو ممّا اتفق عليه جميع الباحثين حول هذا الموضوع، وهو من الوضوح بحيث أنّه لا يحتاج إلى الاستدلال وتقديم البرهان.
د ـ التَّظاهر بالمنكرات
من الموارد الأخرى التي تحدّ من حرية الإنسان، شرعاً، التَّظاهر بالمنكرات في المحيط الاجتماعي، وذلك لأن الشارع، بالإضافة إلى أنّه قد منع ارتكاب هذه المنكرات على مستوى مرحلة التشريع، فإنه في الموقف العملي قد حرّم التظاهر بها أيضاً، بل إن الحاكم الشرعي مسؤولٌ هو الآخر عن المواجهة الجادة مع ذلك التَّظاهر بأشكال متنوعةٍ، ومن ثم فهو مسؤولٌ عن الحدّ من حرِّية الفرد هنا.
ومع التتبُّع والبحث الشامل، من هذه الناحية، يمكن العثور على ثلاث مجموعاتٍ من التَّظاهر بالمنكرات هي:
1 ـ التظاهر ببعض المنكرات الموجب للحدّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(32)م.ن.

[الصفحة -53]


2 ـ التظاهر ببعض المنكرات التي ورد في النصوص ثبوت التعزير في موردها مستقلًّا.
3 ـ التظاهر ببعض المنكرات التي لم ترد فيها ـ مستقلًّا ـ نصوصٌ باستحقاق التعزير إلا أنها مندرجة في القاعدة العامة المتَّفق عليها بين الفقهاء، وهذه الضابطة العامة هي أن للحاكم الشرعي في موارد الكبائر من الذنوب إجراء التعزير إذا رآه صالحاً.
أما المجموعة الأولى فمن مصاديقها شرب الخمرة، والذي حدّه ـ باتفاق الفقهاء على أساس النصوص المتواترة (33)ـ ثمانون جلدة.
المصداق الآخر لهذه المجموعة هو زنى غير المحصن والذي يصرّح القرآن الكريم بأن حدّه مئة جلدة {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مئة جلدة} [النور/2]، هذا مضافاً إلى أنَّه بإمكان الحاكم الشرعي نفي الزاني وإبعاده عن البلد، وهو ما جاء في وسائل الشيعة (34)في بابٍ تحت عنوان: «باب حدّ نفي الزاني».
وكذلك زنى المحصنة الذي اتفق الفقهاء على أساس الرِّوايات المستفيضة أو المتواترة (35)على أنّه الرَّجم، ومن الموارد الأخرى أيضاً المساحقة (ممارسة الجنس بين النساء)؛ حيث اتفق الفقهاء على أساس الرِّوايات المعتبرة على إيجابه الحدّ مئة جلدة (36).
أمَّا المجموعة الثانية التي يعطى الأمر فيها إلى الحاكم الشرعي ليصدر قرار التعزير فإن من مصاديقها الشخص الذي يقوم ـ عن سابق علمٍ وعمدٍ ـ بالتظاهر بالإفطار في شهر رمضان من دون أن يكون معذوراً، فقد اتفق الفقهاء على أن مثل هذا الشخص ليس حرّاً في ما يفعله، بل هو مستحقٌّ للتعزير، بل إذا قام بهتك حرمة هذا الشهر الفضيل عدّة مراتٍ وكان قد عزِّر مرتين (على المشهور) أو ثلاث مرات (على غير المشهور) فإنه يستحق القتل في المرتبة الثالثة أو الرابعة.
يقول المحقّق الحلّي في هذا الصَّدد: «من أفطر في شهر رمضان عالماً عامداً عُزِّر مرَّةً، فإن عاد كذلك، عُزِّر ثانياً، فإن عاد قتل» (37)، وقد أيّد صاحب الجواهر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(33)جواهر الكلام، ج41، ص 456.
(34)وسائل الشيعة، ج8، ص 393.
(35)م.ن. ج18، ص 374.
(36)جواهر الكلام، ج41، ص 388.
(37)م.ن، ج16، ص 307.

[الصفحة -54]


هذه الفتوى وأقام في تعليقه عليها براهين قويَّة جدَّاً (38)، وكذلك قبلها صاحب العروة وقال: «من أفطر فيه مستحلًّا عالماً عامداً، يعزّر بخمسة وعشرين سوطاً، فإن عاد عزّر ثانياً، فإن عاد قتل على الأقوى، وإن كان الأحوط قتله في الأربعة» (39)، وقد وافق جميع الفقهاء، في تعليقاتهم على العروة، على هذه الفتوى أيضاً.
والمستند الفقهي للحكم المذكور هو روايات أهل بيت العصمة والطَّهارة (عليهم السلام)التي نكتفي بذكر بعضها هنا، فقد جاء في صحيحة بريد العجلي« سئل أبو جعفر(عليه السلام)عن رجلٍ شهد عليه شهود أنه أفطر شهر رمضان ثلاثة أيام، قال: يُسأل: هل عليك في إفطارك شهر رمضان إثمٌ؟ فإن قال: لا، فإنّ على الإمام أن يقتله (إذ يُعلم حينها أنه لا يرى الصيام واجباً، وبالتالي يكون منكراً لضروريٍّ من ضروريَّات الدِّين)، وإن قال:«نعم، فإن على الإمام أن يُنهكه ضرب»(40).
كما جاء في موثَّقة سماعة«سألته عن رجل أخذ في شهر رمضان، وقد أفطر ثلاث مرَّات، وقد رفع إلى الإمام (فأجري عليه التعزير)،ثلاث مرات، قال: (نظراً لهتكه مصرّاً حرمة الحكم الإلهي)يُقتل في الثالثة»(41).
وطبعاً ليس هدفنا هنا إعطاء الرَّأي النهائي في أنه هل يعد إجراء هذه الأحكام وتنفيذها في الظرف الراهن ـ ونظراً لمجموع الشرائط والظروف الاجتماعية العالمية ـ مناسباً أو لا؟ وإنما الهدف هو توضيح الممنوعية والمحدودية الموجودة أمام بعض الحريات من وجهة النظر الفقهية؛ الأمر الذي يستشكل في قبوله ـ مع الأسف ـ الكثير من العوام بل والخواص أيضاً في مجتمعنا.
أنموذجٌ آخر من المنكرات المشابهة للموارد المذكورة التي ورد فيها التعزير هو موضوع العلاقة غير الشرعيَّة بين الرجل والمرأة غير المَحرَمين، فإنه بالرغم من حرمة أي نوعٍ من أنواع التجسُّس هنا، إلا أنه في الحالات التي يثبت فيها ـ ومن دون تجسّس ـ أن هناك خلوةً بين الرجل والمرأة غير المَحرَمين فإن للحاكم الشرعي تعزيرهما، ففي موثقة أبي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام)«إذا وجد الرجل مع امرأة في بيتٍ ليلًا، وليس بينهما رحم، جُلِدا» (42).
وهناك موارد أخرى ورد فيها أن على الحاكم إجراء التعزير فيها بعنوانها،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(38)م.ن.
(39)العروة الوثقى، ج2، ص 166.
(40)وسائل الشيعة، ج7، ص 179.
(41)م.ن.
(42)م.ن.، ج18، ص 410.

[الصفحة -55]


وتوجد أدلّة من الرِّوايات على ذلك، وأكثر هذه الموارد ممّا اتفق عليه الفقهاء، ونحن ـ بهدف تجنُّب الإطالة ـ سوف نقتصر على عناوين هذه الموارد مع بيان مصادرها، وهي:
1 ـ تقبيل الصغير بشهوة (43).
2 ـ الشَّهادة الكاذبة (44).
3 ـ الطلاق على غير السنَّة (45).
4 ـ إيذاء المسلمين (46).
5 ـ نوم رجلين تحت لحافٍ واحدٍ (47).
6 ـ نوم المرأتين عاريتين تحت لحافٍ واحدٍ (48).
7 ـ سرقة غير البالغ (49).
8 ـ اتهام الآخرين (50).
9 ـ مجامعة الزَّوجة الصائمة (51).
10 ـ افتضاض بكارة الأجنبية بغير الجماع (52).
11 ـ قتل الحيوان عبثاً (53).
12 ـ وطء الحيوان (54).
13 ـ الاستمناء (55).
14 ـ قذف الصبي (أي اتهام غير البالغ لمسلمٍ باللواط أو الزنا) (56).
15 ـ الاعتراف بارتكاب أعمال منافية للأخلاق أقلّ من أربع مرات (57).
أمَّا المجموعة الثَّالثة فهي المنكرات التي لم يرد فيها، بعنوانها في النصوص والروايات، تعزيرٌ خاص، إلَّا أنه قد جُعل للحاكم الشرعي ـ بل في بعض الموارد أوجب عليه ـ إجراء التعزير إذا ما تحقَّق العنوان الكلّي، ألا وهو «ارتكاب الحرام أو ترك الواجب».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(43)جواهر الكلام، ج41، ص 386.
(44)م.ن، ص 252.
(45)وسائل الشيعة، ج18، ص 333.
(46)م.ن، ص 458.
(47)م.ن، ص 367.
(48)جواهر الكلام، ج41، ص 391.
(49)مستدرك الوسائل، ج3، ص 239.
(50)م.ن، ص 203.
(51)وسائل الشيعة، ج7، ص 37.
(52)مستدرك الوسائل، ج3، ص 280.
(53)م.ن، ص 249.
(54)جواهر الكلام، ج41، ص 637.
(55)م.ن، ص 647.
(56)م.ن، ص 413.
(57)م.ن، ص 377.

[الصفحة -56]


واحدٌ من المصاديق البارزة، في هذه المجموعة، هو التَّظاهر بالسفور، ومع الأسف فإنَّ بعض اللَّاهثين وراء الرغبات وغير المعتقدين بالحرام الإلهي يبتغون الوصول إلى هذه الحرية المطلقة، أمَّا المؤمنون والمعتقدون بالآخرة فإنهم يحملون دائماً قلق الآثار السيِّئة وهواجس نتائج هذا النوع من الإلغاء والإقصاء للدين.
إنّ أصل ثبوت حق التعزير للحاكم الشرعي في مقابل التظاهر بهذا النوع من المنكرات هو أمر مسلّم به عند الفقهاء، كما أنه واضحٌ أيضاً وشفَّافٌ جدَّاً من حيث الأدلَّة.
وفي هذا المجال يقول المحقّق الحلّي: «كل من فعل محرّماً، أو ترك واجباً، فللإمام تعزيره بما لا يبلغ الحد، وتقديره إلى الإمام» (58).
وقد عدّ الحكمَ المذكور في الجواهر على أنه مورد وفاق الفقهاء، وأنه واضحٌ لا إشكال عليه لا فتوى ولا نصَّاً، وقال: «لا خلاف ولا إشكال نصَّاً وفتوى» (59)، وكذلك الإمام الراحل؛ حيث يقول: «من ترك واجباً أو حراماً فللإمام (عليه السلام)ونائبه تعزيره، بشرط أن يكون من الكبائر، والتعزير دون الحد، وحدّه بنظر الإمام» (60). والمستند الفقهي لهذه المسألة عدّة وجوهٍ هي:
1 ـ إذا جوّزنا المرتبة الثالثة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (التوسّل بالإجبار والفرض) كما يذهب إليه أكثر الأصحاب، ومنهم الإمام الراحل، فإنه يمكن ـ وبالاعتماد على تلك الأدلَّة هناك ـ تجويز إجراء الحاكم التعزيرَ في موارد تشخيصه للمصلحة، وإذا كنَّا لا نقبل هذا المبنى نتيجة الإشكالات الواردة على أدلَّته وقصورها عن إثبات هذا المدعى، فإنَّه يمكننا التمسّك بالأدلَّة الآتية:
2 ـ الرِّوايات التي استدل بها صاحب الجواهر هنا والتي تفيد أن كل شيءٍ له حدّ، وكلّ من يتجاوز ذلك الحدّ فعليه حدّ، من قبيل صحيحة داود بن فرقد عن الصادق (عليه السلام)عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)«إن الله قد جعل لكل شيءٍ حدّاً وجعل لمن تعدّى ذلك الحدّ حدّاً» (61).
إلّا أن الاستدلال بهذا النوع من الأخبار مبني على كون الحدّ الوارد في ذيل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(58)شرائع الإسلام، ج4، ص 168.
(59)جواهر الكلام، ج41، ص 448.
(60)تحرير الوسيلة، ج2، ص 477.
(61)وسائل الشيعة، ج18، ص 310.

[الصفحة -57]


الرِّواية إنما هو بمعنى التعزير، إلا أنه يمكن القول: إن الحدّ هو بمعنى حدود نهاية الشيء، كما كان الحدَّان: الأول والثاني في الرواية بغير معنى التعزير قطعاً، وإنما هو بالمعنى المتناسب مع ذاك الشيء ولا سيما مع نظرية عموم «جعل لكل شيء»، فمثلًا الحد في القتل العمدي هو القصاص، وفي الخطأ الدِّية، وفي موارد التعدِّي على أموال الآخرين هناك حدٌّ ونهاية للأمر، وهو وجوب رد المال المغتصب، وفي حالات الإتلاف الضمان بالمثل أو القيمة، وبهذا المعنى يكون الحدّ في الجملة الثانية، أي «لمن تعدّى ذلك الحدّ حدّاً».
3 ـ وقد تمسَّك في الجواهر بدليل آخر في هذا المجال، وهو النصوص والروايات الكثيرة التي ذكرت التعزير في موارد مختلفة (ومنها ما تقدَّم في الفصل السابق مفصّلًا) وإجازته للحاكم الشرعي، ومن استقراء هذه النصوص يمكن الاطمئنان بعدم الخصوصية في مواردها، وإنما تتصل القضية بأي معصيةٍ كبيرةٍ تمّ ارتكابها، «مضافاً إلى إمكان استفادته أيضاً من استقراء النصوص» (62).
وفي أيّة حال يحصّل فيها الفقيه اطمئناناً بعمومية الحكم فإنه ـ بلا شك ـ يكون قد أحرز ما هو الحجة، وإلَّا فإنه لا بد له من مواصلة سعيه وبحثه لتحصيل الحجة الشرعية.
4 ـ يمكن مع عدم الأخذ بالأدلة المتقدمة التمسك بهذا الوجه، وهو أن واحدةً من وظائف الحكومة الإسلامية هي جعل الجوّ الحاكم على المجتمع جوّاً مملوءاً بالمعنويات وسيادة الإسلام، وتصفية المجتمع من أيّ نوعٍ من أنواع التلوّث، وتزيينه بالأحكام الإلهية، وذلك إلى حدّ أنّه وحتى لا يتعرّض هذا الهدف لأيّ محذور، فقد جُعل عدم تظاهر أهل الذمَّة بكل ما هو من المنكرات والمعاصي في نظر الإسلام والتزامهم عمليّاً بهذا الأمر، جعل ذلك من شروط الذمّة القطعية التي لا يمكن التغاضي عنها أبداً، وهذا الأمر هو من الثبات والإحكام بحيث إنّ نقضه موجبٌ لانهيار عقد الذمَّة من أساسه حتى لو لم يسجّل شرطاً ضمن العقد والتعاهد.
ومن هنا، وبالرغم من أنه يمكن أن يكون شرب الخمرة والزنى وأكل لحم الخنزير والسفور ولعب القمار وأمثال ذلك حلالًا عند الكفار بحسب مذهبهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(62)جواهر الكلام، ج41، ص 448.

[الصفحة -58]


إلَّا أنهم غير مجازين في هتك الحرمة والتظاهر بمثل هذا النوع من المعاصي في مجتمع المسلمين.
وهذا الأمر هو مورد وفاق كافّة علماء الشيعة، من متقدّميهم إلى المتأخرين والمعاصرين منهم، كما في كلمات المحقِّق الحلي حيث جاء: «الرابع: أن لا يتظاهروا بالمناكير كشرب الخمر والزنى وأكل لحم الخنزير ونكاح المحرمات، ولو تظاهروا بذلك نقض العهد» (63).
وقد نقل صاحب الجواهر عن ابن إدريس الإجماع على هذا المطلب (64)، كما يعرض الإمام الخميني الراحل(قده) هذا الشرط أيضاً شرطاً ثالثاً من شروط عقد الذمَّة، فيقول: «الثالث: أن لا يتظاهروا بالمنكرات عندنا كشرب الخمر والزنى وأكل لحم الخنزير ونكاح المحرّمات» (65).
والمستند الروائي لهذا الحكم هو صحيحة زرارة عن الإمام الصادق (عليه السلام)«إنّ رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)قبل الجزية من أهل الذمة على أن لا يأكلوا الربا ولا يأكلوا لحم الخنزير ولا ينكحوا الأخوات ولا بنات الأخ ولا بنات الأخت، فمن فعل ذلك منهم برئت منه ذمَّة الله وذمّة رسول الله»(66).
وفي الحقيقة كيف يمكن التَّصديق بأن شريعةً من الشرائع مهتمة إلى هذا الحد بعدم تلوّث المحيط الاجتماعي بالمنكرات، إلى درجة أنّها لم تسمح للكافرين بالتَّظاهر بالمنكرات التي قد تكون جائزةً على مذاهبهم وحدّت بذلك من حريّاتهم، لكنّها في الوقت نفسه لم تحرّم هذه الأمور على أفراد المسلمين إلا في دائرة التشريع، أما من الناحية العملية فقد تركتهم أحراراً، ولم تسمح للحاكم الشرعي بمواجهة هذا الأمر مواجهةً جادةً للحيلولة دون إشاعة الفحشاء والمنكرات من خلال قلع مادتها بالتعزير وممارسة الوسائل الإجباريّة؟
هذا الأمر يمثِّل شهادةً محكمةً على أنَّه كما أنَّ الشارع في مرحلة التشريع قد حدّ من حرِّية الإنسان في موارد المنكرات، ومن جملتها السفور، فقد حدّ أيضاً من حرِّيات الإنسان في المحيط الاجتماعي، وعدَّ الحاكم الشَّرعي مسؤولًا عن مواجهة ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(63)م.ن، ج21، ص 270.
(64)م.ن.
(65)تحرير الوسيلة، ج2، ص 501.
(66)وسائل الشيعة، ج11، ص 95.

[الصفحة -59]


أمَّا أنّه إلى أيّ حدّ تسنح الظروف في مجتمعنا الحالي بتطبيق هذا المبدأ الإلهي السامي؟ وهل أنّ المواجهة الجادّة ـ إلى درجة ممارسة التعزير ـ مع ظاهرة السفور تستدعي وتترافق مع نتائج سلبيَّة أو لا؟... إنّ تشخيص ذلك راجع بلا شك إلى الحاكم الشرعي نفسه، وهذا أمرٌ آخر خارجٌ عن المطلوب من هذا البحث المخصّص لتعيين حدود الحرية الشرعية من وجهة النظر الفقهية.
هـ ـ مخالفة المقرّرات الحكومية وعدم مراعاة مصالح النظام
إنَّ ضرورة حفظ نظام المجتمع ليست فريضة إلهية فقط، وإنما هي، في نظرةٍ أخرى، أمر عقلائي وعقلي، ومجرَّد التوجّه إليها يوجب التَّصديق بها.
في نظر العقل والشرع، فإنّ أي نوعٍ من أنواع الحرية يمكن أن يوجّه ضربةً إلى نظام الأمَّة ـ وخصوصاً النِّظام الإلهي ـ سوف يكون ممنوعاً، ومن هنا وفي إطار الحرية العقلائية والشرعية فإنّ باب أيّ نوعٍ من المخالفة لمقرّرات حفظ النظام ـ بحيث يكون النظام قائماً عليها سواءٌ من طرف المواطنين أم من طرف متولّي الأمور، وبدءاً من دفع الضرائب ورعاية قوانين السير إلى وظائف المسؤولين أمام من هم أرفع منهم مسؤوليةً، وخلاصةً كافّة المقررات القانونية ـ إنّ أبواب هذه الأمور جميعها مقفلة.
إنَّ محدوديَّة حريَّة المواطنين قبال المقرّرات ليست من مختصَّات الحكومة الإسلامية، وإنّما هي محل تأكيدٍ وقبولٍ شديدين من كافّة أنظمة الحكم في العالم؛ ومن هنا فإن الفقهاء العظام والمراجع الكرام يجيبون على الاستفتاءات الواردة إليهم حول مخالفة المقرَّرات الحكومية على الشكل الآتي: «إن مخالفة المقرَّرات الحكومية ليس بجائز» أو «إن مخالفة المقررات التي يتوقف عليها حفظ النظام حرام».
إنَّ التركيز على أهمية رعاية مصالح المسلمين ونظام الجمهورية الإسلامية في كلمات الإمام الخميني (قده) يتخذ شكلًا آخر، فهو يتكلّم عن حرية القلم والصحافة فيقول: «إنّ حرية القلم وحرية التعبير لا تعني حريتهما بما فيه خلاف مصلحة البلد، أو ما فيه خلاف الثورة التي قدّم الشعب الدماء أمامها، إنّ مثل هذه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة -60]


الحرية ليس صحيحاً... إننا نحترم الصحافة والقلم اللذين يعرفان معنى حريّة التعبير وحرية القلم».
و ـ إهانة المقدّسات
هناك عناصر في الرؤية العلوية تحتل فقهيَّاً ـ وبلا شك ـ مكانةً خاصّةً من الحرمة والمقام الرفيع، وهتك هذه الحرمة حرام، ولا يمكن تجويزه تحت أي عنوان، ومن هنا ينتزع عنوان قداسة هذه العناصر.
إنَّ على رأس هذه السلسلة الشخصية المنقطعة النظير لخاتم الأنبياء النبي الأكرم محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) وأيضاً عترته المعصومين (عليهم السلام)والأنبياء الإلهيين (عليها السلام)والقرآن الكريم والكتب السماوية والإسلام والكعبة، وفي الرتب الأخرى تأتي المساجد والأماكن المقدّسة. وهنا يُمنع ـ باتفاق الفقهاء جميعاً ـ أي نوع من أنواع الحرية المطلقة بالنسبة إلى هذه المقدسات حتى من قبل الإنسان غير المعتقد بها.
وهذا الأمر ليس منحصراً بالمدرسة الإسلامية، بل يمكن، وفي نظرةٍ كليةٍ، القول: إن إهانة المقدَّسات أمرٌ منكرٌ وغير مقبول لدى كافة الأمم والمجتمعات المتمدّنة، كما يحصل في قباله مواجهةٌ جادّةٌ، ويقفل باب الحرية أمامه.
لقد كانت هناك مواجهةٌ حازمةٌ جدَّاً مقابل هذا الأمر في المذهب الشيعي العلوي، بحيث إنه متى ما حصلت إهانة لرسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام)على شكل سباب غير لائق فإن الفقهاء جميعاً يتَّفقون على أنّ فاعل ذلك مستحقٌّ للقتل، كما يذكر صاحب الجواهر بعد استعراضه كلام الشرائع في هذا الأمر فيقول: «بلا خلافٍ أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه» (67).
وبلا شك فإن اتفاق الفقهاء على هذا الحكم معتمدٌ على نصوصٍ معتبرة، وهي التي جمعها صاحب الوسائل تحت عنوان: «باب قتل من سبَّ النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) أو غيره من الأنبياء (عليهم السلام)» (68)، وفي باب آخر بعنوان: «باب قتل من سبّ علياً (عليه السلام)أو غيره من الأئمة (عليهم السلام)ومطلق الناصب مع الأمن» (69).
أما إذا كانت إهانة رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) أو أحد الأئمة (عليهم السلام)أو الصدّيقة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(67)جواهر الكلام، ج41، ص 432 ـ 435.
(68)وسائل الشيعة، ج18، ص 458.
(69)م.ن، ص 461.

[الصفحة -61]


الكبرى (عليها السلام)ـ والعياذ بالله ـ على شكلٍ آخر غير السبّ فإن فاعل ذلك مستحقٌّ للتعزير حتماً.
إن لزوم وقوف حاكم الشرع بجدِّيةٍ هنا، ولو وصل الأمر إلى التعزير، ليس من مختصّات هؤلاء العظماء (عليهم السلام)، بل إنه جارٍ في أيِّ أمر معدود من الناحية الفقهية من المقدَّسات كالإنسان المؤمن، أو الشعائر المذهبية المعروفة... وأساساً ميزان القداسة من الناحية الفقهية هو في عدّ الإهانة لذلك الشيء فعلًا محرَّماً في واحدٍ من المصادر الفقهية، أو جعل تعظيمه وتقديره واجباً.
ومع الأخذ بعين الاعتبار هذا الميزان، تكون للإنسان المؤمن ـ سيما إذا كان منتسباً إلى المذهب والزَّعامة الدينية ـ قداسة، وهتكه وإهانته حرام، ويمكن للحاكم الشرعي في حال تشخيصه المصلحة إجراء التعزير عقوبةً على هذه الإهانة، كما يمكنه للحيلولة دون انتشار هذا الأمر التفكير في أي نوعٍ وأي وسيلةٍ من وسائل المنع.
والأمر الجدير بالانتباه هو أن عنوان تعظيم الشعائر يمكنه أن يترك أثراً مهمّاً في عملٍ هو بنفسه مستحب، بحيث يحوّله إلى واجبٍ عينيٍّ أو كفائيٍّ، وفي هذه الحالة يمكن للحاكم الشرعي ـ بل يجب عليه ـ إجبار الأمّة على القيام بهذا العمل.
ومن المصاديق البارزة لهذا الأمر زيارة رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) التي يقول عنها العلَّامة الحلي في إرشاد الأذهان: «ويجبر الإمام الناس على زيارة النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) مع تركهم» (70).
إن زيارة الحرم النَّبوي أمر مستحب في نفسه، إلا أنه حيث عُدّ من الشعائر الإلهية، فإن الحاكم الشرعي يمكنه ممارسة إجبار الأمَّة على القيام به حينما يرى أنّ هناك نوعاً من عدم الرعاية واللامبالاة به.
ويُسند المقدّس الأردبيلي (71)، في ذيل هذه العبارة، فتوى العلَّامة هذه بصحيحة الفضلاء (حفص بن البختري وهشام بن سالم وحسين الأحمسي وحماد ومعاوية بن عمار)، الذين يروونها عن الإمام الصادق (عليه السلام):«ولو تركوا زيارة النبي(صلي الله عليه و آله و سلم)لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك، وعلى المقام عنده، فإذا لم تكن لهم أموالٌ أنفق عليهم من بيت مال المسلمين»(72).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(70)مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان، ج7، ص 426.
(71)م.ن.
(72)وسائل الشيعة، ج8، ص 16.

[الصفحة -62]


ثم يستشكل المقدَّس الأردبيلي على هذا الاستدلال بأنه كيف يكون ترك الزيارة التي هي أمر مستحب مسوّغاً لضرب الحاكم وإجباره على امتثالها؟! إن الجمع بين هذين الأمرين ليس خالياً من الشُّبهة، وهو غير ممكنٍ على ما يظهر.
والذي يبدو هو أن ما ذكره المقدّس الأردبيلي قابلٌ للنقد، وذلك لأنه إذا كانت زيارة النبي (صلي الله عليه و آله و سلم)، حتى مع ترك الأمَّة إيّاها باقيةً على استحبابها، ولم تتخذ عنواناً آخر لها، فإنه لن يكون هناك ـ قطعاً ـ أية إمكانية لتفسير الجمع بينها وبين الإجبار من قبل الحاكم، إلا أنّه مع الأخذ بعين الاعتبار هذا الأمر، وهو أن زيارة الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) هي من شعائر الله، وتعظيم الشعائر واجبٌ على الأمَّة، فهنا بلا شك سوف تأخذ هذه الزيارة صبغة الوجوب لنفسها، ومن هنا سوف يكون ذلك منسجماً ومكمّلًا لمسألة إجبار الحاكم عليها.
ما معنى لا إكراه في الدِّين؟
وهنا يطرح التَّساؤل التالي نفسه، وهو: إذا كانت الحرِّية في نظر الشَّرع محدودةً على هذا الشكل، إذاً فما معنى «لا إكراه في الدين»؟ إذا لم يكن الدِّين إكراهياً فكيف يمكن توجيه جميع هذه الحدود المقفلة لباب الحرية وأنّ للحاكم الشرعي استعمال الحدود والتعزيرات لمواجهة أية مخالفة؟!
لقد جرى التمسّك بهذه الآية الكريمة: {لا إكراه في الدِّين قد تبيّن الرشد من الغي} [البقرة/256]مراراً وتكراراً لتبيين موقع الحرية التشريعية الدينية، كما ومن دون إعمال التأمُّل العميق في تجزئة الآية وتحليلها تحليلًا معمّقاً ومع القيام باستنتاجاتٍ حرفيّةٍ ـ تفيد بأن رسالة الدين هي حرية الإنسان، أو أن الدين قد ذمّ أيّ نوعٍ من أنواع الإكراه والتوسّل بالجبر ـ جرى المرور على الآية عن طريق التخطّي وبسرعةٍ عابرةٍ، على الرغم من أنّه توجد هناك عدّة نكاتٍ دقيقةٍ جديرةٍ بالانتباه فيها، ومع أخذها بعين الاعتبار فإننا سوف نصل إلى أنّ الآية الشريفة ليس لها ربطٌ بالحرِّية التشريعية والقانونية.
والمسألة العمدة هنا هي أنّ الجملة الخبرية القرآنية على نوعين:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة -63]


1 ـ فأحياناً تكون في مقام الإخبار والحكاية عن أمرٍ خارجي.
2 ـ وأحياناً أخرى تكون بصدد إنشاء حكمٍ تكليفيٍّ أو وضعي وتشريعه.
المسألة الأخرى هي أن مصطلح الدِّين في الثقافة القرآنية والروائية يأتي أحياناً بمعنى مجموعة القوانين الشرعية، وأحياناً أخرى بخصوص معنى الأصول الاعتقادية الدِّينية.
ومع الالتفات إلى هذين الأمرين، نطالع آية: {لا إكراه في الدين} ونسأل: هل أن {لا إكراه} إخبارٌ أو إنشاء؟ هل أنّ مفردة الدِّين هنا هي بمعنى مجموعة القوانين والأحكام الإسلامية، أو بمعنى خصوص الأصول الاعتقادية؟
فإذا كان مفاد الآية إنشائياً أو إخباريّاً، وكان الدِّين بمعنى مجموعة القوانين، فإنّ الآية ـ بلا شك ـ سوف تكون بمعنى أنه لا يوجد في المقرّرات المقدَّسة الإسلامية أي نوعٍ من أنواع الحكم أو القانون الإكراهي، وذلك لأن كلمة «الإكراه» جاءت نكرةً كما أنّها وقعت في سياق النفي، فهي مفيدةٌ للعموم على أساس القواعد البلاغيّة.
ووفقاً لذلك، سوف تثار عشرات الأسئلة من هذا الباب في الفقه ومن ذاك، وذلك لأن هناك الكثير جدَّاً من الموضوعات في مختلف جوانب الفقه المتفرّقة ممتزجة بالإكراه والإجبار وبشكلٍ مسلّمٍ، سواءٌ في باب العقوبات كالحدود والديات والقصاص أم في أبواب المعاملات كالبيع والإجارة والمضاربة والمساقاة والمزارعة والدين والقرض والرهن والنكاح والطلاق، ومن هنا يرحب المطالعون العطاشى والمبتدئون، أو بعض المدعين للفضل والعلم المغرض، ويعرضون حسب توهّماتهم التناقضات الموجودة بين الكتاب وسنة النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) والعترة (عليهم السلام)، فكيف لا يثيرون هذا التساؤل بعد حملهم ـ وبكل غرور ـ {لا إكراه في الدين} على المعنى الإنشائي وهو: إذا لم يكن الدين ـ بحكم {لا إكراه في الدين} ـ إكراهياً إذن فما معنى حد السرقة وشرب الخمر؟! وكذلك حد الزنا والرجم والقذف؟ إذا لم يكن ثمة إكراه في الدِّين فكيف نوجّه إجبار الزوجة التي أسلمت حديثاً على الانفصال عن زوجها الكافر؟! ما هو ميزان إجراء الحدود والتعزيرات على الإفطار في شهر رمضان أو أكل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة -64]


الربا؟ وإذا لم يكن هناك إكراهٌ في الدين فكيف يتسنّى إجبار أسير الحرب على قبول الإسلام؟ ولماذا تُمنع تجارة كتب الضلال؟ ومن أيّة جهةٍ ينفّذ القتل ـ بوصفه عقوبة ـ على المرتد الفطري؟ وأساساً ما هو معيار النهي عن المنكر والمواجهة العملية مع العصاة؟ أليس الجمع بين هذا النمط من الأحكام وبين آية {لا إكراه في الدين} يستبطن نوعاً من التناقض؟
إن المسألة الحسّاسة والدقيقة جداً هنا هي أنه أساساً {لا إكراه في الدين} ليست من نوع الجمل الإنشائية، ومن ثم فهي ليست من النداءات التشريعية، وهذا معناه أنها لن تكون مسوقةً أبداً مساق الإعلام عن حرية الإنسان في مجال تنفيذ الأحكام الفردية والاجتماعية، ومنح الأمّة حق تحديد برنامج حياتها وفق رغباتها الخاصّة، حتى تظهر هذه الأسئلة جميعها في مجالات الفقه المختلفة، ويبرز هذا التناقض المتخيّل، بل إنّ {لا إكراه في الدين} هي من نوع الإخبارات الحاكية عن واقعية تكوينية وخارجية، وهي المسمّاة باسم الحرية التكوينية للإنسان في مجال الاعتقادات والتصديقات الذهنية، وهي بالتالي بصدد تفهيم أن الدين ـ الذي روحه هو ذلك الإيمان بالأصول الاعتقادية ـ لا يتحمّل الإكراه، ولا طريق للجبر إليه تكويناً.
ولأجل إيضاح المراد من الآية الكريمة من الضَّروري لفت الانتباه إلى أمرٍ مساعدٍ في فهمها، ألا وهو أن الإنسان كما أنّه مختارٌ في أعماله ونشاطاته الجسمية، كذلك هو حرٌّ تكويناً في تصديقاته الذهنية والاعتقادية، بل إنّ حرية الإنسان واختياره في مثل هذه الأمور يتمظهران بصورةٍ أكثر شفافيّةً ودقّةً، وذلك لأن الجبر ليس مستحيلًا في دائرة الأفعال الإنسانية الجسمانية الظاهرية، فمن الممكن أن يُحجم الإنسان عن القيام بعملٍ ما نتيجة معارضة عنصرٍ أقوى مخالفٍ ومانعٍ له عن القيام بهذا العمل، كما أنه من الممكن أن يُجبر على ترك عمله، إلَّا أنه لا مجال للإجبار عقلًا في المسائل الاعتقادية، ولا يمكن لأي إنسانٍ ممارسة الإجبار على التصديق القلبي والإيمان الاعتقادي بشيءٍ ما، نعم من الممكن أن يُجبر إنسانٌ ما على الاعتراف بأنّ الليل حاصلٌ الآن في ظرف رؤيته للشمس، إلا أنّه يرى دائماً في أعماق قلبه وروحه أنّ مقولته باطلة ومستحيلة حتى لو أذعن لها بالجبر والتهديد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة -65]


وعلى هذا الأساس فإن المسائل الاعتقادية لن تكون قابلةً للإجبار والإكراه، سواءٌ كانت حقّةً أم باطلة، وإعمال الجبر في الاعتقادات القلبية محال، وهي بالتالي سوف تعتمد دائماً على الاختيار والانتخاب، ذاك الانتخاب المبتني على مقدّمات يمكن أن تكون مقارنةً للصحة، ويكون الإذعان الحاصل منها صحيحاً متطابقاً والواقع، كما يمكن أن تكون غير تامةٍ، ومن ثمَّ يكون التَّصديق الحاصل منها باطلًا.
ووفقاً لما تقدَّم يتضح أنّ {لا إكراه في الدين} ليست أبداً بصدد بيان إنشاءٍ تشريعيٍّ، وإنما في مقام الحكاية عن واقعية خارجية تكوينية تسمَّى الحرية التكوينية الإنسانية في مجال الأمور الاعتقادية والتصديقات القلبية، بحيث يصبح المقصود من «الدين» في الآية مجموعة الأصول الاعتقادية (التوحيد، النبوَّة، الإمامة...)، لا كافّة القوانين الشرعية. ومن الواضح أن ذهنية الإنسان في ما يرتبط بالأصول الاعتقادية لا تخلو من حالتين؛ فإما أن تكون ـ أي الأصول الاعتقادية ـ واضحة ومبرهناً عليها بحيث يقبلها من أعماق قلبه بلا شك ويذعن لها مختاراً، أو أنها من وجهة نظره مبهمةٌ وغير تامة، ولا أقل مشكوكة، بحيث إنه لا يعتقد بها قطعاً، وفي كلتا الصورتين يبدو الإكراه والإجبار غير ممكنين؛ وذلك أنه مع الأخذ بعين الاعتبار النقطة سالفة الذكر، فإنه لا مجال للإكراه أصلًا في المسائل الاعتقادية والتصديقات الذهنية، ومن هنا فهي لا تتقبّل الإجبار مطلقاً، فالشخص الذي، على أثر الشبهات، لا يقبل بوجود الله تعالى ولا يعتقد به لا يمكن إجباره على التصديق والإيمان القلبي بوجوده، وإن كان يمكن، على أثر قوة قاهرة، إجباره على الاعتراف اللِّساني بذلك، إلا أنه من المستحيل أن يذعن لذلك من أعماق قلبه.
وبناء عليه فالمراد من الآية الشريفة {لا إكراه في الدين} لا سيما مع النظر إلى جملة {قد تبين الرشد من الغي} هو أنه لا يمكن في مجال الدين ـ والذي تمثل أصولُه الاعتقادية (التوحيد، النبوة، الإمامة...) روحَه ـ ممارسة الإجبار بل هو لا يتقبل ذلك، ومن هنا فإذا أردنا أن نجعل عند الطرف الآخر المخاطب لنا إيماناً قلبياً بالدين نابعاً من أعماق الروح، فإنَّنا مجبورون على جعل رشد الدين وكماله شفافاً وواضحاً أمامه {قد تبيَّن الرشد من الغي}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة -66]


وهنا نضع يدنا على هذه النقطة القيمة والمهمة ألا وهي أن {لا إكراه في الدين} لا نظر فيها إخباراً أو إنشاءً إلى عدم جبرية القوانين والأحكام الدينية في مرحلة التشريع أو الإجراء والتنفيذ، حتى تتناقض مع عشرات الموارد التي سُمح فيها للحاكم الشرعي بالاستعانة بالجبر والفرض، وهناك لا نكون ملزمين بالبحث وإجراء التخصيص المستهجن أو إبراز توجيه للآية الكريمة، بل إن هذه الآية إنما هي بصدد الإخبار عن واقعيةٍ تكوينيةٍ مبنيةٍ على أن الدين ـ والذي هو عبارةٌ عن الأصول الاعتقادية ـ لا يتقبل الإجبار، ولا مجال للإكراه فيه أبداً.
حدود الحرِّية الإنسانية من المنظور العرفاني
عرفنا أن الإنسان، من وجهة النَّظر الكلامية، موجودٌ حرٌّ ومختارٌ تكويناً، وتوصّلنا من وجهة النَّظر الفقهية إلى أنه محدود الصلاحية في مرحلتي التشريع والعمل لا مطلقها، وبعبارة أخرى، فإن دائرة الحرِّية التكوينية الإنسانية ـ المثبتة كلامياً ـ محدّدة في النظام التقنيني الشرعي بحدودٍ وقيودٍ معيَّنة مفصّلًا.
وهنا يصل بنا الكلام إلى تحقيق حريّة الإنسان وبحثها من المنظور العرفاني.
ومن هذا المنطلق فإن حدود الحرِّية هنا تتجاوز تلك الحدود والقيود الفقهية، وبعبارة أكثر دقةً، فإنه كلما ازداد حرمان الإنسان من الحريات المادية النفسانية فإن جوهر نفسه وروحه سوف يحظى بحرِّيةٍ أكبر، وعلى هذا الأساس فليس جزافاً إذا قلنا: إن الإنسان الحر واقعاً ـ في المنظور العرفاني ـ هو ذاك الشخص الذي وقع أسيراً للمعشوق الحقيقي.
إنّ على الإنسان ـ في تصوّر العرفان العلوي ـ فكّ تعلّقه برغباته وميوله النفسانية، ومع قطعه للتعلّقات والآمال المملّة والعابرة يجعل نفسه أسيراً للمعشوق الأبدي، وهو لا يتجنَّب الحرام الإلهي فقط، بل إنه يفرّ أيضاً من الأمر المكروه، كما أنه لا يمتثل الواجب الإلهي ويرتدي أجمل لباس الإخلاص في مقام العمل فحسب، بل إنه يعطي الأهمية للمستحب أيضاً. فالإنسان العارف هو ذاك الشخص الذي يسعى، وبصورةٍ مستمرّةٍ، لتحصيل رضا معشوقه، ولهذا فأي شيء يحبّه هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الصفحة -67]


المعشوق فإنَّه يقبله، وأي شيء بكرهه فإنّه يبغضه أيضاً، وعلى حدّ قول إمام العارفين علي (عليه السلام)فإن المتقي هو من«عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم» (73).
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام):«العارف شخصُه مع الخلق وقلبُه مع الله تعالى، ولو سها قلبه عن الله تعالى طرفة عينٍ، لمات شوقاً إليه» (74).
ميزة الإنسان الحرّ في العرفان العلوي
إن تحصيل ما تقدّم لا يمكن من دون رعاية ركنين يمثلان، في الرؤية العلوية، جوهر العرفان وهما: 1 ـ التخلية 2 ـ التحلية.
أمَّا التخلية ف هي إعدام كافة التّلوثات النفسانية التي هي سبب صدأ القلب، يقول الإمام الصادق (عليه السلام):«إن للقلوب صدأ كصدأ النحاس فاجلوها بالاستغفار» (75).
وعلى الإنسان الحرّ ـ عرفانيّاً ـ في هذه المرحلة أن يركّز سعيه وجهده الكبيرين على إزالة رذائله وقبائحه جميعها، وتزكية روحه من كافّة الأدران والظلمات، فالحرّ في العرفان العلوي هو ذاك الشخص الذي يعرف نفسه ويحرّرها من كافة العلائق والرذائل.
«العارف من عرف نفسه فأعتقها ونزّهها عن كل ما يبعدها ويوبقها» (76).
«ألا حرّ يَدَعُ هذه اللُماظة لأهلها؟ إنه ليس لأنفسكم ثمنٌ إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها» (77).
أمّا التحلية فهي تزيين صفحة الروح بالزينة المعنوية، أي بزينة ذكر الله تعالى، بالعبادة والتواضع والطاعة الخالصة أمامه. وفي هذه المرحلة يسعى الحرّ لتحقيق خطوةٍ أخرى، ألا وهي الانطلاق بنفسه التي زكّاها من ظلمات التعلّقات الدنيوية إلى نور محضر الرب تعالى، وهو في قفزةٍ مباركةٍ وعظيمةٍ يصوغ عشقه لله تعالى في معبد الذات، حتى لا يفكّر بغيره، فلا يعبد سواه وحسب، بل إنه لا يعبده رغبةً للجنة أو خوفاً من النار، وإنَّما يعبده فقط وفقط لعشق ربوبيته وجماله وجلاله، وفي هذا يقول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(73)نهج البلاغة، الخطبة: 193.
(74)مصباح الشريعة، ص 519.
(75)عدة الداعي، ص 249، ميزان الحكمة، ج3، ص 2616.
(76)غرر الحكم، ش 1788.
(77)نهج البلاغة، الحكمة: 456.

[الصفحة -68]


إمام العارفين علي (عليه السلام):«إن قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار» (78).
وبصيغةٍ مختصرةٍ، حقيقة الحرية في المنظور العرفاني تكمن في التحرّر من شيءٍ وعنصرٍ ما والأسر والارتباط بعنصر آخر، التحرّر والخلاص ممَّا سوى الله عز وجل، والاتصال والتعلّق المطلق بذاته تعالى.
وبعبارةٍ أخرى، حرية الإنسان هي تعلّقه بالله تعالى عينه، والأسر له، فكلّما كان أكثر عبوديَّةً لله تعالى كان أكثر تحرّراً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(78)م.ن، الحكمة: 237.

[الصفحة -69]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف