البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

قضايا التجديد: "نحو منهج أصولي" للدكتور حسن الترابي

الباحث :  د. عودة عبد عودة عبد الله
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  34
السنة :  السنة التاسعة صيف 1425هجـ 2004 م
تاريخ إضافة البحث :  March / 2 / 2015
عدد زيارات البحث :  1664

قضايا التجديد: "نحو منهج أصولي" للدكتور حسن الترابي

د. عودة عبد عودة عبد الله (*)

مدخل
لاشك في أن إبراز النتاج الفكري للدكتور حسن الترابي أمرٌ في غاية الأهمية، فالترابي مفكر إسلامي يشهد له بذلك أنصاره ومخالفوه. وربما تميَّز الترابي من غيره من المفكرين بأنه كان رجل فكر ورجل سياسة. وإن كان انخراطه في السياسة لمدَّة طويلة قد صرف أنظار بعض الباحثين عن إسهاماته الفكرية إلاّ أنّ ذلك لا يُنقص من قدر هذه الإسهامات، لأنها تعدّ إضافة ثرية للفكر الإسلامي، ومنهجاً متميّزاً، ودعوة جريئة في ميدان التجديد الإسلامي.
ولسنا هنا في صدد تقويم هذا الرجل سياسياً، أو عرض تجربته السياسية، وما حققته من نجاح أو قصور، وما آلت إليه. ولكننا نريد أن نقف مع كتابه القيم «قضايا التجديد» (1) في محاولة لمعاينة جوانب الإبداع التي ضمّنها الترابي هذا الكتاب، وللوقوف على نظرته الثاقبة المسهمة في إعادة صياغة فكر إسلامي جديد يوائم حياة المسلمين مع توجيهات الدين ومقتضياته لأن ما قدَّمه الترابي لنا، في هذا الكتاب، يُعدّ ثورة فكرية تجديدية حقيقية في سياق التحوّلات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي صاغتها الظروف العامة للحياة العصرية.
________________________________________
(*)كاتب من فلسطين
(1)الدكتورحسن الترابي، قضايا التَّجديد: نحو منهج أصولي، الخرطوم، السودان: معهد البحوث والدراسات الاجتماعية، 1411هـ/1990م

[الصفحة - 185]


مقدمة الكتاب
قبل أن نتحدث عن كتاب الترابي «قضايا التجديد: نحو منهج أصولي» لابدّ من الإشارة إلى المقدمة الرائعة التي خطّها الأستاذان: محمد الحامدي ومحمد الميساوي، والتي أشادا فيها بالدَّور الريادي للدكتور حسن الترابي في ميدان التجديد، والذي تجاوز فيه "مجرد الدعوة إلى النظر في تراثنا الأصولي، كما تجاوز التناول الجزئي لبعض مفاهيم علم الأصول وقضاياه، متوفراً على صياغة نظرية متكاملة للتديّن" (2).
وذلك لأننا نعيش في ظروف معقّدة لم تعد مجرد إعادة الثقة بالدين والإقناع بجدواه في الحياة أمراً كافياً، فذلك هو أقل المطلوب، أما الآن فالمطلوب من حركة الفكر الإسلامي، كما يذكر الحامدي والميساوي: "أنْ ترتاد بالمسلمين أفقاً أرْحَب ومستوى أعمق على صعيد بلورة المشروع الإسلامي وفق رؤية أصولية شاملة" (3).
ويشير الأستاذان إلى أن دعوة التجديد التي حمل الترابي لواءها في السبعينات توشك الآن أن تتحول إلى تيار دافق يتوزع رموزه بين أقطار عربية مختلفة.
القضايا الأساسية في الكتاب
الكتاب الذي بين أيدينا عبارة عن مجموعة من الرسائل والمحاضرات كتبها المؤلف، أو ألقاها في مناسبات مختلفة. وقد جاء هذا الكتاب في خمسة فصول تتناول جميعها موضوع التجديد وقضاياه من زوايا مختلفة، ولكنها تصبّ في الاتجاه نفسه، وتعزز الفكرة نفسها ، وهذه الفصول هي:
1_ الدين والتجديد
2_ مشكلات التجديد
3_ تجديد الفكر الإسلامي
4_ تجديد أصول الفقه
5_ منهجية التشريع الإسلامي.
________________________________________
(2)المصدر نفسه ، ص11.
(3)المصدر نفسه ، ص8.

[الصفحة - 186]


قضايا التجديد: نحو منهج أصولي
يؤسس الترابي دعوته إلى التجديد على الواقع الراهن، ذلك أنَّ حاجتنا إلى التجديد إنما تنبع من واقع ضعفنا وهيمنة الحضارة الغربية، مع أننا نحن أصحاب الماضي المجيد والتراث العريق.
وهذه الحاجة إلى التجديد ليست ترفاً فكرياً أو بدعة ممقوتة، وإنما هي نابعة من أصل هذا الدين. فالدين كما يُعرّفه الترابي "توحيد بين شأن الإنسان في الدنيا وشأنه في الآخرة، بين الثابت المطلق والنسبي المتحول" (4).
وما دام الدين -من حيث هو خطابٌ للإنسان ثم كسبٌ منه- واقعاً في الإطار الظرفي، فلا بدَّ من أنْ يعتريه شيءٌ من أحوال الحركة الكونية، ولكنه من حيث هو صلة بالله متعلق بالأزل المطلق الثابت، إنما يقوم على أصول وسنن ثابتة لا تتبدل. فهو بهذا وذاك "قائمٌ على ردِّ الشأن الظرفي المتحوِّل إلى محور الحق الثابت، وردِّ الفعل الزماني إلى المقصد اللانهائي" (5). ومعنى ذلك أنه يلزم منه حركة تصحِّح وجهته لئلا ينحرف عن سنة الله الواجبة.
وهكذا يرى الترابي أنَّ الدين يدور بين الثابت المطلق والنسبي المتحوِّل. ويُعزِّز لنا ذلك بأمثلة واضحة لا يُجادَل فيها:
فمن الثابت، مثلاً، ما في الوحي من أخبار الغيب، فهذه ثابتة في جميع الرسالات وفي جميع الأزمان، وإن اختلفت صورة التعبير عنها. ولكن في المقابل هناك المتغير، كالشرائع الفرعية المتصلة بأحوال الوجود الزمني المتحرك، وهنا تغدو الحركة جائزة في شرع الله، ليوافق ظروف قدر الله، ويبقى معبراً عن حق الله.
وعلى ذلك يرى الترابي التجديد شرطاً لأصالة التديّن واستمراره، وهو بذلك شرطٌ للتوحيد في الدين، فإذا لم تتجدد العبادة حالاً من الزمن بعد حال، انقطع اتصالها بثغرة زمنية، وإذا لم تتحقق في التاريخ جيلاً بعد جيل، انحجب عنها جيل. لأن التجديد "ينطوي على إثبات البعد الروحي للإنسان -أخص خصائص البشر- ذلك أنه يُثبت قدرة الإنسان على تجاوز ظروف التاريخ الذي يتّجه بتعاقبه وكثافته إلى أنْ يحجب الإنسانَ عن أصول الوحي والشرع الأول" (6).
ويُقرّر الترابي حاجتنا إلى التجديد انطلاقاً من حيوية أحكام الشريعة وعدم جمودها، حتى تتيح لنا الفهم والاستيعاب ووضوح الرؤية ضمن معطيات الزمن الذي نعيش فيه. فالشريعة تنـزَّلت
________________________________________
(4)المصدر نفسه ، ص33.
(5)المصدر نفسه ، ص46.
(6)المصدر نفسه ، ص57.

[الصفحة - 187]


أحكاماً حيَّة على واقع متحرِّك، موصولة بالمقاصد المتبغاة منه. وهذه الأحكام قد تكون مرتبطةً بأمور ثابتة لا تتحول، ولكنها في المقابل قد تُناط بقاعدة ظرفية متغيرة، فتتغير معها الأحكام، لأنها وردت أصلاً بصورة متسعة تُتيح تَمثُّلها في الواقع بصور مختلفة حسب ما تتطلبه الظروف الخاصة، "بل قد تجيء الأحكام أحياناً ناصبة للمؤمنين مقصداً واجباً، تاركةً لهم وسائل تحقيقه عفواً حسبما يتهيّأ لهم في كل زمان، وتجيء المعاني هادية إلى موقف إيمان كلّي تاركة لهم تفصيلاته وتأويلاته ووجه التجادل فيه أو التفاعل به حسبما يقتضي الابتلاء الظرفي المعين" (7).
ويؤصِّل الترابي لذلك بالإحالة على الأنموذج الشرعي الأول بتوجهاته وسننه العملية، فإنه. من وجهة نظره- يُشكِّل بناءً عضوياً حياً يُمَكِّن المستقرئ والمعتبر من إدراك فقه الاعتقاد والعمل في الشريعة، ومن ترتيب علاقاتها وأولوياتها المتكاملة، ومن تركيب ما يتلازم فيها من مظاهر الأوضاع والأفعال وباطن النيات وما يتقابل مع صالح الواعظ الديني وفاسد الواقع الاجتماعي، ومن التمييز بين ما هو وسائل وذرائع وما هو مقاصد وعلل، أو بين ما هو هوامش وثانويات وما هو أركان وأصول (8).
وحريٌّ بنا أن نشير إلى حضور مفهوم التوحيد لدى الدكتور حسن الترابي في جميع القضايا التي يعالجها، حتى إنه لا يتناول شأناً من شؤون الفكر والحياة إلا وهذا المفهوم حاضر لديه بكل قوة ووضوح.
ويركز الترابي، في طرحه لقضية التجديد الديني، على أن الدين حركة توحيد بين التعلق الإيماني بالأزل، والتعلق العملي بالظروف، بين الإنسانية والبشرية، بين الروح والمادة. فالتوحيد عند الترابي هو "مفتاح الحياة الدينية، وهو من ثم مفتاح العلم الديني، فلا بدَّ من تجلي المبدأ التوحيدي في وحدة منهج العلوم قاطبة، ثم في وحدة عناصر المنهجية المختصة بكل علم، وكما كان الشرك نقيض التوحيد فإن سمات المنهج العلمي الإشراكي تتميز عن المنهج الإسلامي التوحيدي بتجزئتها للحق والحقيقة، وغُلوِّها في اعتبار أو اعتبار مقابل، وتناقضها وانقطاع نسقها النظري والتاريخي"(9).
ولعلَّ الترابي كان صاحب فكر ثاقب حين تناول التجديد بصورته العامة، وتجاوز مرحلة الحديث عن جزئيات الأحكام وفرادى النصوص، إلى مرحلة تأصيلٍ جديد على صعيد نسق الدين ونظامه المتكامل.
ثم ينتقل الترابي للحديث عن السلفية والتجديد، ونجد أنه يقارن بين السلفية الأولى
________________________________________
(7)المصدر نفسه ، ص62.
(8)انظر: المصدر نفسه ، ص63.

(9)المصدر نفسه ، ص274.

[الصفحة - 188]


التي كان أصحابها رجال أصول أكثر مما كانوا رجال فروع، وبين من يَتسمَّون بالسلفية الآن، والذين يَرون الدين متمثلاً في تاريخ المتدينين، ويتعصبون لهذا التاريخ، ويقلدون السلف لا في مقاصدهم ومسالكهم، بل في حرفية أفعالهم وأقوالهم. ويصف هؤلاء بأنهم أهل ثقافة صاغها الانغلاق على القديم، ولا يعلمون كثيراً عن الواقع الحاضر الذي يُراد أن يقام فيه الدين.
وأنا مع الترابي في أنَّ ما يقوم به هؤلاء إنما هو بحسن نية، ولكنه للأسف تصرّف قد لا يخدم الدين بقدر ما يوجِد الكثير من العراقيل في طريقه. ذلك أن بعض الصور القديمة لو تم إقحامها في واقع مختلف، ربما تُحدث من النتائج ما يجافي مقاصد الشريعة ويناقض سائر أحكامها.
علينا إذاً أن نعي تصرّفات السابقين وفق مقاصدها والغرض الذي حرصت على تحقيقه، أكثر مما ننظر في حرفيتها. لأنّ ذلك قد يكون سبباً في بُعدنا عن روح النص ومقصده. وعبارة الترابي في ذلك هي في غاية الجمال، إذ يقول: "ومهما كان تاريخ السلف الصالح امتداداً لأصول الشرع، فإنه ينبغي ألا يُوقَّر بانفعالٍ يحجب تلك الأصول. ذلك أن التقاليد كلما تباعدت طبقات توارثها تواردت عليها المدخلات الظرفية التي تباعد ما بينها وبين المصادر الأولى" (10).
ولا يقولنَّ قائلٌ: إنَّ الترابي يريد بذلك أن يهدم تراث الأمة ، وأنْ يلغي فهم السلف لأصول الدين، لأن هذا لا يُفهم من كلامه ولا يمكن أنْ يقصده مثله، وإنما يريد أن يفرِّق لنا بين أصول الشرع وتصرفات السابقين المترتبة على هذه الأصول، وأنْ يميِّز لنا بين أصول الدين (نصوص القرآن والسنة) وبين أصول التفقه في الدين ومناهج تنـزيله على الواقع.
فما الضير مثلاً لو غيرنا في بعض معايير علم أصول الفقه وبما يتفق مع مقاصد الشريعة، ولا يتنافى مع نصوص القرآن والسنة، علماً بأن الشافعي نفسه، وهو أول من كتب في الأصول لم يكن يعلم بذلك أنه يؤسس لعلم جديد. فهل نتعامل بعد ذلك مع أصول الفقه كما نتعامل مع نصوص القرآن والسنة؟
ثم ينتقل الترابي إلى الحديث عن القوة والضعف في الدين، ولعلّي لا أتفق معه حين جعل الدين يتراوح بين القوة والضعف بحسب الظرف الذي يمر فيه. يقول:
"وتطرأ على الدين أحوال القوَّة والضعف، بقدر ما يمدّ النبات والحيوان علاقات نحو بيئة الأرض والسماء الدنيا ليتغذّى ويشتدّ عودُه" (11).
فإذا كان النبات والحيوان يحتاج إلى غذاء حتى يشتدَّ عودُه ويقوى فليس الدين كذلك،
________________________________________
(10)المصدر نفسه ، ص83.
(11)المصدر نفسه ، ص107.

[الصفحة - 189]


لأنّ الدين قويٌّ بمصدره، فنحن لسنا بحاجة إلى التجديد لأنّ الدين ضعيف، بل لأننا نحن الضعفاء. فالدين إذاً قويّ، ولكن من يحملون هذا الدين هم الضعفاء، لذلك نحن بحاجة إلى نظرة تجديدية في الدين بما يتناسب وظروف العصر، حتى نفهمه ونعيه جيداً وندرك أبعاده ومقاصده، لنتجاوز بذلك ضعفنا، ونستمدَّ منه قوتنا.
ونظرة الترابي للتجديد أعمق من مجرَّد التنقيب في الموروث الفقهي عن فتاوى تناسب الطارئ الحديث، أو استحداث فتاوى متطوّرة في شأن فرعي أو آخر. لأننا إذا كنا نريد بعثاً شاملاً في فحواه، فلا بدَّ من أن يكون التجديد أصولياً، ولا بدّ من أن يكون ذلك من خلال بناء منهج أصولي جديد للاجتهاد استنباطاً من القرآن والسنة، واعتباراً بالتراث، واستعانة بالعلم والتجربة المعاصرة، لتغطية حاجات الفتاوى في قطاعات جليلة من الحياة (12).
فليس التجديد إذا تجاوزاً للدين ولا خروجاً عليه، ولكنه استجابة لحاجات التديّن في عصرٍ مُتجدّد وظروف حادثة. وفي تراثنا الفكري أمثلة كثيرة لهذه الظاهرة، ويضرب الترابي لنا مثلا لحالة يتمثل سببها في تجدد التحديات، وهو مثل متعلق بالشرك:
فقديماً كان الفكر العقدي، إما كلاماً موجهاً إلى علاج القضايا الكلامية التي أثارها دخول المنطق والغزو الفكري الهيليني على المسلمين، أو فكراً توحيدياً موجهاً ضد الشرك الشعائري، وهو الشرك الذي يتمثل في النذر لغير الله، أو الاستعانة بغيره، أو الطواف بوثن وغير ذلك. ولكن حال الزمان وأصبح اليوم يجانبها شركٌ جديد هو الشرك السياسي، وهو أن يتخذ الناس آلهة من دون الله يتحاكمون إليها ويتخذونها مصدراً للتشريع وأهلاً للطاعة، ومصدراً لوضع القوانين. وهذا الشرك الجديد ليس في الفكر الإسلامي العقدي القديم كثير علاج له. ولذلك انبرت لـه أقلام مفكرين أمثال المودودي وسيد قطب. وكان لا بدَّ من أن يتوجه إليه فكرٌ عقدي جديد.
وقديماً بعث الله الأنبياء ليقرروا معنى التوحيد وليحاربوا الشرك في صور أخرى. ومنهم شعيب (عليه السلام) الذي كانت قضية التوحيد عنده مرتبطة بالاقتصاد، وموسى (عليه السلام) الذي كانت قضية التوحيد عنده مرتبطة بالسياسة من جانب في وجه فرعون وبالاقتصاد من جانب في وجه قارون. فكانا (عليهما السلام) يمثلان وجهين من وجوه التصدي للشرك السياسي والاقتصادي.
ولذلك لا بد من أن يتجدد الفكر العقدي كما يقول الترابي "ليعالج ويجابه نوع المرض الإشراكي وعلل التوحيد التي يطرحها الواقع الحاضر، ولا بدَّ من أن نتجه لهذه العلل بوجه
________________________________________
(12)انظر: المصدر نفسه ، ص110.

[الصفحة - 190]


جديد في كل عصر وفي كل زمان ومكان، فنعبد الله سبحانه وتعالى ونكيِّف تلك العبادة بما يكافئ حاجات ذلك الزمان والمكان" (13).
وهذا الذي ذكره الترابي، كما يبدو لي هو الصواب عينه ، لأنه ليس منطقياً بأي حال أن يبقى فكرنا العقدي منصباً على الحديث عن التمسّح بالقبور، والتوسّل بالأنبياء والصالحين، ونحشر أنفسنا في هذه الزاوية الضيقة. وليس منطقياً كذلك أن نبقى نجادل في حكم التصوير، وأعداؤنا قد صوروا بلاد المسلمين شبراً شبراً، ويراقبون فيها كل صغيرة وكبيرة، وبعضنا ما زال يسأل: ما هو حكم التصوير؟
نحن نحترم كل إسهامات الفقهاء، ولكن ما هكذا تورد الإبل.
يُعَدُّ حديث حسن الترابي عن تجديد أصول الفقه، والذي جاء في الفصل الرابع ضمن هذا الكتاب لبّ قضية التجديد التي طرحها، وهي القضية التي أثارت حول الترابي ثائرة التقليدين الذين اتهموه بأنه يريد أن يضع أصولاً جديدة لهذا الدين ويتناسى كل ما صنعه الأئمة والمجتهدون السابقون. فهل هذا الكلام صحيح؟ لابُدّ أولاً من أن نقف على وجهة نظر الترابي التي يطرحها في هذا الموضوع:
يرى الترابي، بداية، أن حاجتنا إلى التجديد في أصول الفقه نابعة من أن قضايانا الأصولية في أدبنا الفقهي أصبحت مقولات نظرية عقيمة لا تكاد تلد فقهاً البتة بل تولد جدلاً لا يتناهى. والشأن في الفقه أن ينشأ في مجابهة التحديات العملية. ولابُدّ لأصول الفقه كذلك من أن تنشأ مع هذا الفقه الحي.
فنحن في وقت أصبحت فيه العلاقات الإنسانية أكثر تداخلاً وتشابكاً، والمشكلات الاجتماعية والسياسية أكثر تنوعاً وتعقيداً، ذلك كله يمثل أوضاعاً جديدة لا تستوعبها اجتهادات فقهائنا السالفين، بل لا تكفي للتشريع لها وتكييفها مناهج الأصوليين وأساليبهم في الاستنباط والتقنين. وليس ذلك نقصاً في أولئك العمالقة الأفذاذ، ولكن ظروفهم التي عاشوا فيها تختلف عن ظروفنا، وهم قد صنعوا حلولاً لمشكلاتهم فدورنا أن نضع نحن الآن حلولاً لمشكلاتنا.
وهذا يُظهر لنا مرة أخرى عدم جدوى من الكلام عن التجديد والاجتهاد في الأحكام الفقهية الفرعية والصور العملية للحياة الدينية، دون النظر في المناهج الأصولية التي تصوغ
________________________________________
(13)المصدر نفسه ، ص160.

[الصفحة - 191]


هذه الصور وتنتج تلك الأحكام.
ويشير الترابي إلى ذلك بقوله: "إن قطاعات واسعة من الحياة قد نشأت من جرّاء التطور المادي، وهي تطرح قضايا جديدة تماماً في طبيعتها لم يتطرق إليها فقهنا التقليدي، ولأن علاقات الحياة الاجتماعية وأوضاعنا تبدلت تماماً ولم تعد بعض صور الأحكام التي كانت تمثل الحق في معيار الدين منذ ألف عام تحقق مقتضى الدين اليوم ولا توافي المقاصد التي يتوخّاها، لأن الإمكانات قد تبدلت وأسباب الحياة قد تطورت والنتائج التي تترتب عن إمضاء حكم معين بصورته السالفة قد انقلبت انقلاباً تاماً" (14).
ولذلك فقد "أصبح لزاماً علينا أن نقف في فقه الإسلام وقفة جديدة لنسخر العلم كله لعبادة الله، ولعقد تركيب جديد يوحِّد ما بين علوم النقل التي نتلقاها كتابة ورواية وعلوم العقل التي تتجدد كل يوم وتتكامل بالتجربة والنظر. وبذلك العلم الموحد المتناهي نجدد فقهنا للدين وما يقتضيه في حياتنا الحاضرة طوراً بعد طور" (15).
وفي نظرة عاجلة في تاريخية علم أصول الفقه، يصل الترابي بنا إلى نتيجة مفادها أن تجديد هذا العلم أصبح ضرورة ملحَّة. ففي عهد الفقهاء الأوائل بدأ الفقه الإسلامي يتسع ويتركب بعد الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) والصحابة والتابعين لظهور مستجدّات لم تكن على عهد صحابة رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) ، ثم بعد ذلك تشعَّبت الأقضية وتوافرت مادة واسعة من الفقه الفرعي، فاتجه النظر نحو الجزئيات الأصولية وأخذ الفقه الأصولي يتبلور حتى تمكن للمتأخّرين من كبار الفقهاء كالشافعي مثلاً أن يعالجوا قضايا أصول الفقه بطريقة منهجية علمية يرتبونها ويؤسسون قواعدها. ومن بعد ذلك اتسعت المعالجات الأصولية.
ثم جنحت الحياة الدينية نحو الانحطاط، ما جعل علم أصول الفقه مجرد معلومات نظرية، وغلب عليه طابع الجدل وتأثر بكل مسائل المنطق الهيليني، فأصبحت الحياة الفقهية حياة عقيمة إلا من بعض الفقهاء المجتهدين الذين جاءوا في ما بعد.
ومن خلال هذه النظرة التاريخية يصل بنا الترابي إلى أننا أصبحنا في هذه الأيام بحاجة ماسة إلى المنهج الأصولي الذي ينبغي أن نؤسس عليه النهضة الإسلامية. ولكن كما يقول: "تتعقد علينا المسألة بكون علم الأصول التقليدي الذي نلتمس فيه الهداية لم يعد مناسباً للوفاء بحاجتنا المعاصرة حق الوفاء، لأنه مطبوع بأثر الظروف التاريخية التي نشأ فيها بل بطبيعة القضايا الفقهية التي كان يتوجه إليها البحث الفقهي" (16).
________________________________________
(14)المصدر نفسه ، ص191.
(15)المصدر نفسه.
(16)المصدر نفسه ، ص195.

[الصفحة - 192]


وحينما يأتي الترابي ليتحدث عن القياس، بوصفه مثالاً حيّاً في علم الأصول، فإنه يبدي ملاحظاته عليه، ومنه القياس التقليدي الذي تواضع عليه الفقهاء، والذي هو "حملُ فرعٍ على أصل في بعض أحكامه، بمعنى يجمع بينهما" (17)فهذا النمط من القياس يقتصر على قياس حادثة محدودة على سابقة محدودة معينة ثبت فيها حكم بنص شرعي فيضيفون الحكم إلى الحادثة المستجدة.
ويرى الترابي أن مثل هذا القياس ربما يصلح في تبيين أحكام النكاح والشعائر والآداب، أمّا في القضايا العامة فنحن أحوج ما نكون إلى القياس الفطري غير المنضبط بهذه الشروط الضيقة.
ويتسع الترابي بمفهوم القياس أكثر من ذلك بحيث يتم النظر في مجموعة النصوص، ثم نستنبط من جملتها مقصداً معيناً من مقاصد الدين أو مصلحة معينة من مصالحه، ثم نتوخى ذلك المقصد حيثما كان، فنصل بذلك إلى فقه المصالح العامة التي تركب مغزى اتجاهات سيرة الشريعة الأولى، ومن ثم توجيه الحياة الحاضرة في ضوء هذه الاتجاهات.
وهكذا فإن "القياس الإجمالي الأوسع أو قياس المصالح المرسلة ... درجة أرقى في البحث عن جوهر مناطات الأحكام، إذ نأخذ جملة من أحكام الدين منسوبة إلى جملة الواقع تتنـزل فيه، ونستنبط من ذلك مصالح عامة ونرتّب علاقاتها من حيث الأولوية والترتيب. وبذلك التصوّر لمصالح الدين نهتدي إلى تنظيم حياتنا بما يوافق الدين، بل يتاح لنا -ملتزمين بتلك المقاصد- أن نوسّع صور التديّن أضعافاً مضاعفة" (18).
وهكذا نجد الترابي دائماً صاحب نظرة مقصدية عامة، فهو يريد قياساً واسعاً واستصحاباً واسعاً، ونظرة واسعة شمولية لمفهوم التجديد، تتجاوز الفروع إلى الأصول والأحكام إلى المقاصد، ويكون ذلك كلّه ضمن منهجية توحيدية تستوعب المعقول والمنقول، لنتمكن من إنتاج فقه للتدين يكيّف حياتنا العامة في مجالات الاقتصاد والسياسة والاجتماع والعلاقات الدولية.
ولابدَّ من الإشارة في هذا السياق إلى أن الإمام الشاطبي هو أول من أثار قضية الأصول بهذه الكيفية والمنهجية. فانطلق من مجال النظر في أساليب القياس الجزئية وقضايا اللغة اللفظية إلى التركيز على مقاصد الشريعة، وذلك من خلال "استقراء الشريعة والنظر في أدلتها الكلية، وما انطوت عليه من الأمور العامة، على حد الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص بل بأدلة منضافٌ بعضها إلى بعض، مختلفة الأغراض، بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة" (19).
________________________________________
(17)الشيرازي، أبو إسحاق إبراهيم بن علي: اللمع في أصول الفقه، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1405هـ/1985م، ص96.
(18)الترابي، قضايا التجديد، ص207.
(19)الشاطبي، أبو إسحاق: الموافقات في أصول الشريعة، بيروت: دار الفكر، الطبعة الثانية، 1395هـ/ 1975م، ج2، ص12.

[الصفحة - 193]


ولعلَّ الترابي حين يتكلم عن تجديد أصول الفقه يستلهم شيئاً من أفكار الإمام الشاطبي، ويلقي نظرة أخرى على فكر شيخ جامع الزيتونة محمد بن عاشور صاحب النظرة التأصيلية في علم مقاصد الشريعة، وصاحب الدعوة إلى تأسيس علم أصول الفقه على مقاصد الشرع حتى تنحسم مداخل الخلاف التي تحفل بها كتب علم الأصول في صورته التقليدية.
ولا يغيب عن الترابي أن توسعة الأصول على هذا النحو وتجاوز الفقه التقليدي قد يكون سبباً في تباين الآراء والأحكام. ومن هنا تظهر الحاجة إلى ضبط نتائج الاجتهاد. وأهم الضوابط في هذا المجال هو تفعيل مبدأ الشورى بحيث يجتمع المسلمون ويتشاورون في أمورهم الطارئة، فالذي هو أعلم يبصّر من هو أقل علماً، والذي هو أقلّ علماً يلاحق بالمسألة من هو أكثر علماً. ثم يدور الجدل والنقاش حول القضية المطروحة حتى يتم حسمها، وذلك بأن يتبلور رأي عام يُجمع عليه المسلمون أو يرجّحه جمهورهم أو تكون مسألة فرعية غير ذات بال يفوّضونها إلى سلطانهم، وهو من يتولى أمورهم العامة (20).
وينبغي أنْ لا يحملنا ذلك على التخوّف المبالغ فيه من كلِّ ما هو جديد، لدرجة أنك تجد حتى من يدعون عموماً لفتح باب الاجتهاد "من يبلغ به الفزع منتهاه إذا صادف رأياً جديداً لم يقل به قائل من السلف، وكأن المقبول في المجتهد هو فقط أن ينقِّب حتى يجد في المسألة رأياً قديماً يناسب الظروف، أو حجة جديدة تؤيّد رأي إمام قديم" (21).
ويشير الترابي، وهو يوجه إلى هذه الوجهة، إلى ردّة فعل المحافظين التي تحاصر الجديد وتتهمه وتحمل عليه. ومعنى ذلك أنَّ القيام بتكاليف الاجتهاد يستدعي منا في مثل هذه الظروف: "جرأة في الرأي، وقوّة في الصبر على ضغوط المحافظين، لاسيما أنَّ التجديد لن يكون محدوداً بل واسعاً يكاد يُشكِّل ثورة فقهية تصلح الأصول والفروع، وتسعى لتبدُّل الأحوال بسرعة الذي تذكَّر بعد غفلة طويلة" (22).
وأخيراً:
لا يسعني، في نهاية هذه المراجعة، إلاّ أنْ أشيد بجهود الدكتور الترابي وأعترف بأنه كان صاحب جرأة في طرح رأيه في قضايا التجديد، وعلى الشكل الذي طالما توجَّس منه الكثيرون، إلاّ أنّ ما ذكره الترابي يبقى قابلاً للأخذ والرد. فكلٌّ يؤخذ من كلامه ويُردّ إلاَّ المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، وصاحب الفطنة والنباهة يستطيع أن يجعل من عقله ميزاناً يُقوِّم به الأشياء، فيأخذ ما يرتاح له، مادام ذلك في دائرة النظر والاجتهاد، ولكن مع مراعاة أدب الاختلاف.
________________________________________
(20)انظر: الترابي: قضايا التجديد، ص 211.
(21)المصدر نفسه ، ص217.
(22)المصدر نفسه، ص218.

[الصفحة - 194]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف