البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

لغة الدين اتِّجاهات معاصرة في دائرة النقد القسم الثاني

الباحث :  د محمد باقر سعيدي روشن
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  61
السنة :  السنة السادسة عشر ربيع 1432 هجـ 2011 م
تاريخ إضافة البحث :  June / 15 / 2015
عدد زيارات البحث :  2657

لغة الدين
اتِّجاهات معاصرة في دائرة النقد .. القسم الثاني

الدكتور محمد باقر سعيدي روشن (*)

تعرَّضنا في القسم الأوَّل من هذه الدِّراسة لبعض الاتِّجاهات المعاصرة التي نشأت في الغرب وتناولت موضوع لغة الدِّين، وقد سجَّلنا بعضاً من الملاحظات عليها، ونتابع في هذا القسم عرض اتِّجاهات أخرى ترتبط بلغة الدِّين، معتمدين عرضها وعرض ما يرد عليها من ملاحظات.
1ـ نزعة نقد الماضي
يُمكننا أن نُضيف إلى جانب النقد المُتتابع في عصر التنوير ـ لا سيما ما قام به هيوم من تعميمه للمنهج التجريبيّ والشكوك التي صدرت عنه حول مبدأ العليّة من جهة، والنقد الموجَّه من قبل (كانت) للعقل النظريّ ونظريّة داروين في (الانتخاب الطبيعيّ) التي هي من ميزات العصر الجديد من جهة أخرى والتي تقدّمت الإشارة إليها في القسم الأوّل ـ تلك النزعة نحو نقد الماضي بما يحويه من أفكار وقِيَم والذي أدّى ومن خلال القراءة التاريخيّة ـ النقديّة للكتاب المقدَّس والإشكاليّات التي ظهرت في داخل نصوصه، إلى أن تواجه هذه النصوص مشكلةً أساساً ترتبط بأصل اعتبارها وما كانت تشكِّله من مرجعيَّة (1) . وبعبارةٍ أُخرى، لقد كان المنهج التفسيريّ للفلسفة
________________________________________
(*) باحث إسلامي متخصص في علوم القرآن، من إيران.
(1) - راجع: برادفوت، وين، تجربة دينى، ترجمة عباس يزداني، ص10، مؤسسة فرهنگي طه، الطبعة الأولى، قم، 1377.

[الصفحة - 100]


الكلاسيكيّة عند البروتستانت، هو الاعتماد على الظهور اللفظيّ (Literalistic) أو حرفيَّة تفسير الكتاب المقدَّس، الأمر الذي أدَّى إلى تعارضها مع النظريَّات العلميَّة الجديدة مما قلَّل من وثاقة الكتاب المقدّس.
لقد أوجد كلٌّ من لوثر وكالون تحوّلاً في تفسير الكتاب المقدَّس. فمدرك الوثاقة ومنشأ اعتبار الوحي هو في شخص المسيح، دون النصوص الملفوظة (Holysprit). وأهميَّة الكتاب المقدَّس ترجع إلى كونه شاهد صدق على الظواهر الخلاصيّة، والتي من خلالها كان تجلِّي المحبَّة الإلهيَّة في المسيح، والتي ظهرت آثارها في حالاته الشخصيّة. ويرى الإصلاحيِّون الأوائل أنَّ كلمة الوحي، أو كلمة الله، تؤيِّدها الإلهامات التي يُمكن لكلِّ إنسان أن يصل إليها من خلال الروح القدس. ولكن منذ بداية القرن السابع، ذهب الكثير من البروتستانت إلى أنَّ الكتاب المقدَّس هو دائرة معارف مصونة من الخطأ، ويشمل ذلك المسائل العلميَّة الصادرة عنه، وأنَّ كلَّ لفظٍ منه منزلٌ من عند الله. وقد خالف أصحاب هذه الرأي النظريَّات العلميَّة التي توصَّل إليها كوبرنيك (2) وذلك لمعارضتها لنصوص الكتاب المقدَّس التي دلَّت على أنَّ الأرض هي مركز العالم (3) .
وبعبارةٍ أُخرى، يُمكننا أن نرصد في الفضاء الفكريّ النقديّ وجود ظاهرتين في العالم الغربيّ: التعارض بين العلم والدّين، والإشكاليّات التي واجهتها النصوص الدينيّة اليهوديّة والمسيحيّة؛ ولذا فإنَّ نظريَّة الانتخاب الطبيعيّ أو التكامل وأمثالهما، جعلت من ظواهر أهمِّ تعاليم الكتاب المقدّس حول قصة الخلق محلاً للنقاش، وأدّى ذلك إلى النقاش في أصل اعتبار الكتاب المقدّس.
من جهةٍ أُخرى، وبعد عصر النهضة، ولا سيما بعد ترجمة الكتاب المقدَّس إلى لغات أوروبيّة، واتِّساع دائرة الاطِّلاع على هذه النصوص شهدنا انتشار المنهج الجديد في قراءة وتحليل محتوى النصوص المقدَّسة والمعروف بـ (النقد الأفضل)، وظهور بعض التنافي في هذه النصوص عياناً، الأمر الذي ولّد علامات استفهام حول أحد أهمِّ
________________________________________
(2) - نيكولاس كوبرنيك عالم فلكي ذهب إلى أنّ الشمس هي مركز الكون ـ المترجم.
(3) - باربور، علم ودين، ترجمة بهاء الدين خرمشاهي، ص 35 نشر دانشگاهي، الطبعة الثانية، طهران، 1374.

[الصفحة - 101]


المسلَّمات والفرضيَّات المتعلِّقة بالنصوص السماويّة ألا وهو كون كلام الله ورسله مبرّأ من أيِّ تعارض أو تهافت.
ولمواجهة هذه القضايا ظهرت بعض النظريَّات والآراء التي يرتبط بعضها بشكل مباشرٍ بموضوع اللغة الدينيّة وتأثيراتها، من ذلك:
ألف ـاتَّجه بعض البروتستانت التقليديِّين ممَّن تبنَّوا القول بأنَّ نظريَّة التكامل وأمثالها هي مجرَّد نظريَّة لا واقع لها، إلى نفي هذه الاتِّجاهات النقديّة للكتاب المقدّس (4) .
ب ـأذعن التقليديُّون من الكاثوليك للقول بتوسعة المعاني المجازيّة الكنائيّة ولغة التأويل في الكتاب المقدَّس. فحملوا قصَّة الخلق في ستَّة أيَّام على المراحل الستّة المتبنّاة في علم الجيولوجيا. واتَّجهوا إلى أنّ من الممكن القبول بالنتائج العلميّة الراجعة لنظريّة التكامل، وإن كان لخلق الإنسان خاصّة حقيقةُ الإفاضة، والتي لا يُمكن الإحاطة بها إلا من خلال الوحي. فوجود آباء من غير الجنس الإنسانيّ أمر لا يُمكن أن يكون محلاً للنقد والإبرام العلمي، كما أنَّ الجسم فقط دون الروح يشكِّل موضوع البحث في علم الإحاثة (البليونتولوجيا). ويرى هؤلاء أنَّه لا يجب أن نجعل لقصَّة خلق آدم بتمامها طابعاً تعبيريّاً كنائيّاً أو تمثيليّاً، أو حملها بتمامها على أساس المعاني الحقيقيّة والظاهريّة؛ بل الأفضل جعلها من التاريخ التمثيلي (allegorical history) أي جعلها قصّة تحكي عن واقعةٍ حدثت فعلاً، ولكن التعبير عنها يتمُّ بتعابير مختلفة عمّا حدث فعلاً (5) .
ج ـوأمّا التجديديُّون فقد ذهبوا وخلافاً للتقليديّين إلى أنَّ الكتاب المقدَّس هو مدوَّن بشريِّ صرف، وليس وحياً إلهياً مباشراً. فالكتاب المقدَّس بنظرهم ليس كتاباً ملهَماً وإن كان فيه شيء من الإلهام. ويرى هؤلاء أنَّه لا بدَّ من حمل لغة الأبواب الأولى من سفر التكوين على أنَّها بيان شاعريٌّ للعقائد الدينيّة في اعتماد الإنسان على الله، وقد صيغ بتعبيرٍ أدبيّ وأنَّه النظام الأحسن والأصلح للعالم. ويذكر هنري وارد
________________________________________
(4) - م، ن، ص121 ـ130.
(5) - م، ن، ص407.

[الصفحة - 102]


بيتشر (1813 ـ1887م) وهو رجل دين تجديديّ أمريكي، ومن أوائل حملة لواء التجديد، في بعض كتاباته: «أنَّ دراسات علم الجيولوجيا أعادت فتح باب البحث حول سرِّ الوحي الإلهيّ القائل بأنَّ العالم الماديّ هو أمر مكنون وهو خفيّ منذ قديم الأيّام». وذهب لايمن آبوت (1835 ـ1922م) أحد اللاهوتيِّين الأمريكيين في دراسة له حملت عنوان (اللاهوت فكر تكامليٌّ) إلى أنَّ الكتاب المقدَّس هو مظهر بدايات البصيرة الدينيّة في الضمير الإنسانيّ وهو وليد زمانه، وهو يُلامس الحقيقة بشكل هادئ وغير مكتمل (6) .
ووصل الأمر بهذا الاتِّجاه إلى حدِّ القول والإقرار بأنَّ ما يظهر من خلال المناهج العيانيّة للدِّراسات التاريخيّة والأدبيَّة في تحليل نصِّ الكتاب المقدَّس هو النتيجة التالية: إنّ الكتب الخمسة الأولى من العهد العتيق والمنسوبة إلى موسى (عليه ‏السلام)، هي عبارة عن مجموعة من الروايات التي ترجع إلى أزمنة مختلفةٍ، بل إنَّ بعضاً منها يرجع إلى عصور الأسر البابليّ، أي ما بعد ثمانمائة سنة من عهد موسى.
كما أنَّ تحليلاً مشابهاً لإنجيل يوحنّا، والاختلاف القائم بلحاظ النسق بينه وبين سائر الأناجيل، أوصل الباحثين إلى النتيجة التي ترى فيه مجرَّد سردٍ لسيرة المسيح والذي دوّن بعد نصف قرن من صلبه(قدس‏ سره) إنَّنا ومن خلال ملاحظة هذه الآراء نجد أنَّ الاتِّجاهات الجديدة في النظر إلى الكتاب المقدَّس وصلت إلى اعتبار النصوص المقدَّسة نصوصاً لأناسٍ عاديّين كانت لديهم بعض المسلَّمات في زمانهم وأنَّها دوِّنت من قبلهم مع شيء من الأسطورة (7) .
وأمَّا دايفيد شتراوس فقد اتَّجه في كتابه (حياة عيسى) (1835م) إلى أن يضع جانباً البحث عن تقديم توجيه عقلانيّ لقصص الإنجيل؛ لأنَّه يرى أنَّها عبارة عن قصصٍ مصطنعةٍ. وكان لما قام به شتراوس من رفضٍ لبعض قصص الإنجيل أثره في فتح الباب أمام البحث في مسألة تاريخ مختلف الكتب في العهد الجديد، واستمرّ بعد ذلك الاتِّجاه النقديّ له (8) .
________________________________________
(6) - م، ن، ص121 ـ130.
(7) - م، ن، ص130.
(8) - آرچيبالد، رابرتسون، عيسى أسطورة يا تاريخ، الفصل الرابع، مركز مطالعات وتحقيقات أديان ومذاهب، قم، 1378.

[الصفحة - 103]


وقد فتحت الشواهد التي توصَّل إليها علم الآثار حول سائر الثقافات والأديان في العالم الباب أمام اعتماد نوعٍ من أسلوب المقايسة في النصوص المقدَّسة. وذهب برونو بافر (1840م ) إلى أنَّ المسيحيَّة في بدايات القرن الميلاديِّ الثاني هي نتاج خليطٍ من الفلسفة الرواقيَّة واليهوديّة. وبعده ادَّعى فريز في (الغصن الذهبيّ) أنَّ جذور الدِّين هي في التعاليم الكهنوتيّة، ووسَّع هذا الرأي من بعده رابرتسون سنة 1900م في (المسيحيَّة وعلم الأساطير).
د ـختاماً، وفي أواخر القرن التاسع عشر أصبحت الليبراليّة اللاهوتيَّة هي الرأي السائد في مجال الفكر البروتستانتيّ، وهو حدٌ وسط بين التقليديِّين والحداثويِّين، وخطت نحو التوفيق التامّ مع الشواهد العلميّة. وقدّم المفكر الألماني شلاير ماخر (1762 ـ1834) نظريَّته الموسومة بـ (التجربة الدينية) على أنَّها تمثِّل جوهر الدين وأساسه. وقد شارك، وهو المتديِّن الرَّاسخ القدم ولسنوات، في حلقة شباب ألمانيا الرومانطيقيّة، ولكنَّه كان قلقاً من النظرة السلبيَّة للدِّين التي يحملها الجيل الجديد؛ ومع ذلك فقد كان يشعر بالواقع الذي لا مفرَّ منه وهو أنَّ مضمون الكتاب المقدَّس والعقائد والمناسك التي تتضمَّنها هذه التعاليم، لا تنسجم مع العقل والفهم الإنسانيِّين ولا مع الواقعيَّات العلميّة. كما لاحظ كيف أدّى الاتِّجاه النقديّ لبعض الفلاسفة كهيوم وكانت إلى نوعٍ من الإشكاليَّات الأساس في الأُسس النظريَّة للمسلَّمات الدينيَّة؛ ولذا اعتقد أنَّه قدّم مشروعاً جديداً وتفسيراً حديثاً لحقيقة الدِّين، وهو الذي شكَّل أساس اللاهوت المعتدل أو الليبراليّة اللاهوتيّة (theological liberalism).
يرى شلاير أنَّ أساس الدِّين ليس في التعاليم السماويّة، ولا في العقل، ولا في العقائد التقليديّة ولا حتَّى في الإرادة الأخلاقيَّة لكانت، بل هو في نفس المعرفة الدينيّة (religious awarness) التي هي موضوع التجربة الحيّة.
وقد صنَّف كتابين في هذا المجال، الكتاب الأوَّل (حول الدِّين) والذي أكّدَ فيه على الفصل بين الدِّين والتديّن وبين النتاج النظريّ والأفكار أو الأفعال التي قد تقترن
________________________________________

[الصفحة - 104]


به. وكان يرى أنَّ الدين ليس هو طريقة تفكير أو مجموعة من المعتقدات، كما أنَّه ليس مجموعةً من المناسك والشعائر، والخبرويّة الدينيّة ليست فعل فكر وإرادة، بل جوهر الدِّين هو في هذه التجربة وهذا الإحساس (9) . ولذا فالتديّن ليس اعتقاداً ولا أصلاً أخلاقيّاً، بل هو نوع من الحسِّ والذوق المباشِرَين، ومن هنا لا تكون معرفته ممكنةً بالوصف؛ بل إنَّ إدراكه ينحصر بطريق الكشف في وجود نفسه، والمعرفة الدينيّة تنمو من خلال الإحساس لا الفكر (10) . وينقل كابلستون نظريَّة شلاير ماخر فيقول: «إنَّ أساس الدِّين ليس هو الفكر ولا العمل، بل هو الشهود والإحساس. الدِّين تابعٌ لشهود هذا العالم. والمراد من العالم بحسب ما يستخدمه فيه شلاير ماخر هو الحقيقة الإلهيّة التي لا حدّ لها؛ وعليه فالدِّين برأيه هو في جوهره وأساسه هذا الإحساس بالاعتماد المطلق وهو الأمر الإلهي» (11) .
وأمَّا في كتابه الثاني أي (الإيمان المسيحيّ) فبعد تأكيده على نظريَّته من أنَّ الدِّين ليس هو العلم ولا العمل، بل هو تلطيف الإحساس أو معرفة النفس بلا واسطة (12) ، يدخل في الموضوع التالي: إنِّ التديّن إذا كان ارتباطاً بلا واسطة أو دون تقيُّدٍ بالفكر، وهو عمل النفس مع اللامحدود، فكيف يُمكننا تقييم العقيدة الدينيّة؟ فعلى أساس هذا الفرض هل ثمة إمكان لما يسمّى علم الكلام أم لا؟
ويُذعن شلاير ماخر بأنّ اللاهوت المنهجيّ هو العلم الذي تؤدِّي تعاليمه الحاكمة على المجتمع إلى إيجاد نظمٍ اجتماعيّ، ولكنَّه لم يرتض القول إنَّ هذه التعاليم هي مجموعة من المعتقدات؛ بل ما ذهب إليه هو أنَّ هذه التعاليم هي تعبيرٌ عن العواطف الدينيّة في المجتمع، وأنَّ التعاليم المسيحيّة هي إخبارات عن العواطف الدينيّة التي تجري على اللسان (13) .
ويذكر نينان اسمارت في (التجربة الدينيّة للنوع البشريّ): «أنّ شلاير ماخر أعطى التجربة الدينيّة مكاناً في قلب ومحور التفكير الدينيّ» (14) .
وذهب شلاير ماخر سعياً منه لبيان مدّعاه من استقلال العواطف الدينيّة وتقدّمها
________________________________________
(9) - م، ن، ص27.
(10) - م، ن، ص28 و29 و30.
(11) - راسل، برتراند، تاريخ فلسفة غرب، ج 4، ترجمة نجف دريابنداري، پرواز، طهران، 1373.
(12) - م، ن، ص37، نقلا عن الإيمان المسيحي، ص3.
(13) - م، ن، ص25.
(14) - ninan smart, the religious Experience of mankind, p. 491

[الصفحة - 105]


على التعبير اللغويّ، إلى تبنِّي نظريّة في باب اللغة الدينيّة وعلاقتها بالتجربة الدينيّة، وقد أدَّت إلى ولادة الكثير من الاتِّجاهات الأخيرة في التاريخ والفلسفة.
فاللغة الدينيَّة في نظره لا تُستخدم للحكم أو لإثبات المدّعى. وبعبارةٍ أُخرى، إنَّ المقولات الدينيّة لا تحتوي على دعاوى ميتافيزيقيّة أي دعاوى ترتبط بما وراء الطبيعة، بل هي مجرَّد لغة تعبيريّة (expression). فاللغة الدينيّة هي عبارة عن تبلور للتديّن الخاص بمجتمعٍ دينيٍ خاصّ، وهي وسيلة تعبير عن الإحساس بالارتباط بالمطلق أو معرفةٍ دينيّةٍ بالنفس في مجتمعٍ خاص، ولذا فهي ليس لها مفاد معرفيّ (15) . وقيمة الكتاب المقدَّس عند شلاير ماخر تتمثَّل في كونه ناطقاً عن الأحوال والتجارب الدينيّة لبني إسرائيل والمسيح وقصّة حياة من مضى من المؤمنين الأوائل (16).
وكتب توني لين: «لقد كانت نظرة شلاير ماخر إلى الدّين نظرةً جديدةً تماماً. لقد بنى على التصديق بالحاجة إلى دينٍ يُمكن أن نخوض فيه التجربة والإحساس. وأعاد التأكيد على أنّ الدِّين يتلخّص بالإحساس والتجربة فقط. ويرى شلاير ماخر أنَّ كل من يريد أن يجد له طريقاً إلى محراب الدِّين لا بد له وأن يترك التعاليم... ويرى أيضاً أنّ جوهر التديّن لا يكون في المعرفة والعمل، بل في المعرفة بالمطلق، أو بعبارةٍ أُخرى، الارتباط بالله، والتعاليم المسيحيّة هي تعبير عن الإحساسات الدينيّة المسيحية والتي ورد التعبير عنها بقالبٍ لاهوتيّ» (17) .
وبناء على نظريّة شلاير ماخر يمكن التمييز بين نوعين من اللغة الدينيّة؛ النوع الأوَّل: اللغة الدينيّة الأولى أو الأصليّة والطبيعيّة والتي هي عبارة عن صدى الإحساس الدينيّ. ونتيجة هذه التعابير الطبيعيّة لا تكون كنتيجة عمل الصراخ أو الإشارات غير الاختياريّة التي هي توصيف للحالات العاطفيّة، بل هي ردَّة فعل الإحساس الدّيني. وأمَّا النوع الثاني، فهو التعبير المجازيّ والذي يَحكي عمَّا يتعلَّق به بنحوٍ غير مباشرٍ بل عن طريق المقايسة وتحديد الحدود. والتعابير المجازيّة وإن كانت ذات طبيعة نظريّة في الغالب، إلا أنَّها مع ذلك تكون معتبرةً لجهة كونها بياناً عن التعابير الطبيعيّة (18) .
________________________________________
(15) - برادفوت، وين، تجربة دينى، ص44.
(16) - باربور، علم ودين، ص123.
(17) - راجع، لين توني، تاريخ تفكر مسيحى، ترجمة روبرب آسريان، ص381 ـ382.
(18) - باردفوت، وين، تجربة دينى، ص45.

[الصفحة - 106]


وبهذا سعى في بيانه لنظريَّته اللغويّة لجعل اللغة الدينيّة لغة تعبيريّة، وذلك لتكون خلافاً للغة المعتمدة عند إبداء الرأي، حيث تكون إخباريّة وحكائيّة وبغرض إثبات المدّعى، ولذا تكون في معرض السؤال وطلب الدليل، وبهذا تكون اللغة الدينيّة مصونةً من أن تواجه بأيِّ نوعٍ من الأسئلة(19) .
وقد سعى من خلال تفسيره لحقيقة الدِّين بأنّه إحساسٌ داخليّ وأمر قلبيّ، ليقول لروّاد الحلقة الرومانطيقيّة إنّ الروح الحقيقيّة للحياة الدينيّة هي ذلك الأمر الذي تبحثون عنه والمنسجم مع روحكم اللطيفة، وأمَّا العقائد والمناسك الدينيّة فهي مجرّد قشور في الدّين، ولا أهميّة لها. كما سعى من جهةٍ أُخرى ومن خلال نظريَّته هذه لإثبات أنَّ النقد الموجَّه من قِبَل نهضة التنوير اتِّجاه العقيدة الدينيّة، لا سيما النقد الموجّه من قبل هيوم وكانت للميتافيزيقيا النظريّة، لا يُمكنه أن ينفع في ردِّ المحتوى الواقعيّ للدِّين. فالدِّين نوع من الحسِّ وهو من مقولة الإحساس والشهود (intuition). ومتى كان الدين نوعاً من الإحساس السابق على كلِّ تفكير ومستقلاً عنه، فلا ينبغي الخلط بينه وبين العقيدة والعمل، ولا يُمكن لمكتشفات العلم الجديد أو لمعطيات التطوّر العلميّ أن تتعارض معه في أيِّ مجالٍ من المجالات. فالدِّين هو لحظة مستقلّة في التجربة الإنسانيّة وقمَّة رفيعة بعيدة عن أن تصل إليها يد النقد العقليّ والأخلاقيّ، وهي مصونةٌ من ذلك؛ لأنّ مكان الدين هو في خفايا القلوب لا في الجدال الفكريّ (20) .
وقد شهدت نظريَّة التجربة الدينيّة لشلاير ماخر تطوّراً على يد الاتِّجاه الوضعيّ لويليام جيمز (21)والاتِّجاه الإيمانيّ الوجودي لكيركجارد (1813 ـ1885م) والاتِّجاه العاطفيّ ـ الإحساسي لرودلف أوتو (roudolf otto) (1866 ـ1937م) (22) .
نقد وتحليل
إنَّنا ومن خلال ملاحظة النظريَّات المذكورة ـ سواء ما اتَّخذ منها موقف الدِّفاع عن الدِّين وسعى لرفض النظريَّات العلميّة ولردّ الإشكالات الموجَّهة للكتاب
________________________________________
(19) - م، ن، ص48.
(20) - م، ن، ص1.
(21) - cf. The Varie of religious Experience , New York: New American Library, 1958
(22) - cf. The Idea of the Holy, London: Oxford university, press, 1958

[الصفحة - 107]


المقدّس، أو لجعل اللغة الدينيّة ذات سعة بنحو تكون قابلة فيه لتعدُّد معاني نصوصها، أو ما اتَّخذ منها جانب العلم، وأزاح بُنية اللغة الدينيّة جانباً أو النظريّة التي بُنيت على أنّ حقيقة الدِّين هي في الإحساس الشخصيّ الدّاخليّ لدى الإنسان ـ نجد أنّها جعلت من لغة النصوص الدينيّة لغةً في درجةٍ أقل اعتباراً، وكافَّة النظريّات قد تناولت مجال الفكر الدّيني الغربيّ، وكان هدفها رفع الإشكالات الخاصّة بذلك الفكر، وقد شكلّت بنفسها سبباً لقيام إشكاليّات أُخرى. ونحن هنا وبغرض مزيدٍ من التأمّل سوف نتعرَّض لإحدى هذه النظريّات أي (التجربة الدينيّة) التي لها رواجٌ ما في عالمنا المعاصر.
لقد اتَّجه شلاير ماخر، وكما تقدَّم في بيان نظريَّته في مواجهة الهجمة التي تعرّض لها الدِّين في عصر التنوير، إلى إحياء التقليد الدّيني، فذهب في تفسيره للدّين إلى أنّ التديّن هو نوع من الإحساس الداخليّ ولا علاقة له لا بالعلم ولا بالعمل، وقد يتمُّ بيانه من خلال الفكر، ولكن ليس الفكر هو المنتِجُ له.
ونظريّة شلاير ماخر هذه تقوم على أساس فرضيَّات ثلاث: أولها، أنّ المعرفة أو التجربة الدينيّة هي أمرٌ مستقلٌّ تماماً عن المفاهيم والعقائد؛ ثانيها: أنّ الوصف الصحيح لهذه اللحظة هي أن نقول إنها الإحساس اللامتناهي أو المعرفة بالاعتماد على المطلق؛ ثالثها، أنَّ لغة الدين وتعاليمه هي شرحٌ وبيانٌ تعبيريٌّ يصدر عن نفسه وبشكلٍ طبيعيّ عن هذا الإحساس وهذه المعرفة، وليست هي بأحكام أو دعاوى في مسألة الوجود.
ولكنَّ ما مدى صحّة هذه الفرضيَّات؟ فهل يمكنها أن تؤمِّن لنظرية شلاير ماخر دوراً في الدِّفاع عن الدِّين أمام هجمة النقد من قِبَل الرافضين له؟ إنَّ الذي يظهر لنا أنَّ شلاير ماخر قد غفل عن بعض الأمور ولم يقدّم إجابات عنها:
الأوّل:إنَّ المراد من الفرضيّة الأولى إثبات أنّ العنصر المشترك عند المتديِّنين هو هذه اللحظة الداخليّة من الإحساس والتي تكون سابقةً على اللغة وعلى الفكر، ولذا لا يُمكن إرجاعها إلى أيِّ شيءٍ آخر، فيما المراد من الفرض الثاني، والذي أشار
________________________________________

[الصفحة - 108]


فيه إلى متعلّق الإحساس وعلاقة النفس بذلك، فقد التزم بأنَّه عبارة عن التعلّق التام والاعتماد الوجوديّ، ولكن هل يمكن الجمع بين هذين الفرضين؟ فإذا كان التعرُّف إلى تلك اللحظة المميّزة من التجربة الدينيّة يتوقَّف على مفهوم الاعتماد المطلق وعلى الفكرة التي ترى أنَّ سلسلة العلل كافّة، والتي نعبّر عنها بهذا العالم، ترتبط بقدرةٍ أعلى منها وهي منفصلةٌ عنها، فكيف يمكن الالتزام بفرضيّة شلاير ماخر التي تقول إنَّ التجربة الدينية هي مستقلّةٌ تماماً وتخلو من أيِّ نوعٍ من الفكر أو اللغة؟ (23) .
الثاني:إنَّ تحقّق التجربة الدينيّة ولحظة المعرفة الدينيّة تلك هل هما أمرٌ اختياريّ أو أنّهما أمرٌ خارج عن اختيار الإنسان؟ إنَّ لازم الالتزام بأنَّ تلك اللحظة هي أمرٌ اختياريّ أن يتوقَّف حصولها على مجموعةٍ من التصوُّرات والمفاهيم وتوافر الذهنيّة والروحيّة اللازمة لذلك. وهذا مخالفٌ لما يراه ويتبنّاه شلاير ماخر. وإن قلنا إنَّ تلك اللحظة من المعرفة الدينيّة هي أمرٌ خارجٌ عن اختيار الإنسان فلن يبقى حينئذٍ أيُّ معنى للدعوة الدينيّة التي يدعو إليها شلاير ماخر.
الثالث:إنَّ نظريَّة شلاير ماخر تواجه السؤال التالي: هل تلك اللحظة المتمايزة من المعرفة الدينيّة والإحساس الداخليّ هي أمرٌ شخصيٌّ صرف، أو أنَّه يملك اعتباراً نوعيّاً؟ من الواضح أنَّ هذه الظاهرة التي لا واسطة فيها لو حصلت فإنّها سوف تكون مشهودة للمدرِك لها دون أن يكون لها أيُّ اعتبارٍ عند الآخرين، ولكنَّ هذا الموضوع سوف يؤدِّي إلى نوع من النزعة النسبيّة الواسعة في أمر الدّين وهو لن يُبقي للدِّين أيَّ أساسٍ أو بناءٍ يقوم عليه. وهنا يَنشأ سؤالٌ آخر، هو أنَّه ومع البناء على هذا فما هو الفرق بين نظريَّة شلاير ماخر التي جعلت من الدِّين مجرَّد إحساسٍ شخصيّ، وبين نظريّة كانت التي أقامت للدِّين أساساً وبناء أخلاقياً؟ وبعبارةٍ أُخرى، إنَّ عنوان (التجربة الدينيّة) هو غطاء يحوي في داخله كافّة الأفكار المتهافتة والمتعارضة، ويقوم بدورٍ داعمٍ لها جميعاً ولا يَبقى أيُّ ملاكٍ يُمكن من خلاله تحديد أو معرفة الدِّين الواقعيّ من غيره.
________________________________________
(23) - راجع، تجربة دينى، ص55.

[الصفحة - 109]


كتب براد فوت: «عندما تصلنا من خلال بعض الدِّراسات التاريخيّة أو ترجمة بعض النصوص المهمّة، شواهد جديدة حول التقاليد الدينيّة الوثنيّة والقديمة، فإنَّ الباحثين في الحقل الدّيني ممن يعيشون في القرن التاسع عشر سوف يرون في هذه الروايات والأساطير حول الآلهة تجليّات لأشكال خاصّة من التجربة الدينيّة، وسوف يعالجونها على ذلك الأساس، لا على أساس أنَّها أمرٌ تاريخيّ أو معرفة عقائديّة ترتبط بمعرفة العالم. ولن يروا في هذه الأساطير أو المناسك الوثنيّة القديمة والشرقيّة، تعاليم خاطئة أو سلوكاً غير أخلاقيّ؛ بل سوف ينظرون إليها على أنَّها عبارة عن بيانٍ لأنماط خاصّة من الحياة الدينيّة، وأنَّ كلَّ واحدةٍ منها تمثِّل جانباً من التجربة الدينيّة التي أُريد وضعها في متناول الجميع» (24) .
الرابع:إنّ الذي يبدو هو أنَّ شلاير ماخر قد خلط بين مفهوم الدِّين كنهج وطريقة وبين التديّن الذي هو أمر شخصيّ وداخليّ.
نقد نظريّة لغة التجربة الدينيّة
يظهر ممّا تقدّم أنَّ الفرضيَّة الثالثة التي بنى عليها شلاير ماخر ترمي إلى بيان ارتباط المعرفة الدينيّة بلغة المجتمع الدينيّ. فهو يَعتقد أنَّ لغة الدِّين الأولى هي تعبيرٌ بيانيّ طبيعيّ وتلقائيّ للحالات الداخليّة والتي تظهر بأشكال صوتيّة بنحوٍ مباشر ودون واسطة. وجعل هذه التعابير طبيعيّة يعني إنكار كونها ناتجةً عن تعاهد مسبق، وهذا يعني في النتيجة أنَّ الارتباط بين المعرفة الدينيّة والتعبير اللغويّ عنها هو أمر مستقلٌّ عن التأثيرات الثقافيّة والفكر الاستدلاليّ (25) . وبعبارةٍ أُخرى، إنَّ هذه الفكرة تشكِّل أساس الفكر اللاهوتيّ المعتدل حول الوحي والكتاب المقدّس، والذي اتَّجه ـ ونتيجةَ تعارضه مع النتائج العلميّة الجديدة مع فرض التسليم بها ـ إلى إعادة النظر في هذه المفاهيم. وعلى أساس هذا النمط من التفكير يتمُّ التمسّك بإبراز مفهوم جديد له كبديلٍ عن إنكاره من أساس، وينتج من ذلك: أنّ الله بعث الوحي من عنده، ولكنّه ليس إملاءً من كاتبٍ معصوم، بل بحضوره في حياة
________________________________________
(24) - م، ن، ص8.
(25) - م، ن، ص55.

[الصفحة - 110]


المسيح وأنبياء بني إسرائيل. وبناء على ذلك فلن يكون الكتاب المقدّس وحياً مباشراً منزلاً من عند الله، بل هو مدّون بشريّ تماماً وشاهد من الإنسان على تأثير الوحي على حالات البشر وتجاربهم(26) .
إنَّ الذي يبدو هو أنَّ جعل اللغة الدينيّة أداة وآلة، ومجرَّد انعكاسٍ صرف وإحساسٍ داخليّ، وتعريتها من أيِّ نوعٍ من الحكم عن هذا العالم، لأجل رفع التعارض بين اللغة الدينيّة والنتائج العلميّة والفلسفيّة، والذي يتضمَّن نوعاً من التناغم في القول مع نظريَّات فيتجنشتاين في مرحلته الثانية والمذهب الوضعيّ؛ هو ضياعٌ عن الأساس المعرفيّ ومعرفة الوجود ومعرفة المعنى، ولا يبدو أنَّ هذه اللوازم تتلاءم مع نظريّة الإحساس بالاعتماد المطلق والارتباط باللامتناهي الذي أراد شلاير ماخر التعبير عنه.
إنّ شلاير ماخر يتبنّى القول بأنَّ المقولات الدينيّة، لا تقبل الصدق والكذب بالمعنى الذي توصَف به المقولات العلميّة والفلسفيّة التي إمَّا أن تكون صادقةً أو كاذبة، كما يتبنَّى أنَّ هذه المقولات لا تحكي عن شيءٍ يرجع إلى عالم الوجود، ولكنَّه مع ذلك يَعتقد بأنَّها تقبل التقييم من خلال ملاحظة انسجامها المنطقيّ وامتلاكها قدرةً كافيةً للتعبير عن المعارف الدينيّة. وعليه لا بدَّ من الإذعان بأنَّ قبولها لمثل هذا التقييم، يتضمّن احتواء هذه المقولات على بنيةٍ منطقيّة، وكون المعارف الدينيّة ذات بُعدٍ مفهوميّ (27) .
ولا يُمكننا الغفلة عن أمرٍ هنا وهو أنَّ الاتِّجاه الاعتداليّ في تفسير الوحي والكتاب المقدّس، وخلافاً للاتِّجاه التقليديّ، هو نتاج تاريخ الحياة الدينيّة وسنّة الأنبياء الإبراهيميّين. نعم نحن نتَّفق مع شلاير ماخر حول أنّ النصوص الدينيّة المقدَّسة الموجودة في المسيحيّة واليهوديّة ليست هي عين الوحي المنزَل على الأنبياء العظام من بني إسرائيل، بل هي خليط من تاريخ تلك الأديان والتي تحوي أحياناً بعض كلمات موسى وعيسى وسائر أنبياء بني إسرائيل، ولكن لا مجال للشكِّ في الحقيقة
________________________________________
(26) - راجع، باربور، إيان، علم ودين، ص132.
(27) - برادفوت، وين، تجربة دينى، ص59.

[الصفحة - 111]


التي تقول: إنَّ أنبياء الله تلقَّوا الرسالة الإلهيّة عن طريق الوحي لإرشاد الناس إلى ما يقرِّبهم إلى الله عزّ وجلّ، وما يكون موجباً لارتباط هذا الإنسان بساحة القدس. إنَّ أهمَّ مشكلةٍ وقع فيها شلاير ماخر وأمثاله تتمثّل في أمرٍ واحد وهو أنَّ الكتب المقدَّسة اليهوديّة ـ المسيحيّة الموجودة تفتقد لرؤيةٍ واضحةٍ حول الوجود، الحياة، ومصير الإنسان في نيله لكماله المطلوب. ولذا كان لا بدّ لمن يتَّبِع هذه الأديان من التراجع والادِّعاء بكون المقولات الدينيّة هي مقولات توصيفيّة ليسلب عنها أيَّ نوعٍ من اللغة البيانيّة.
2ـ الهرمنيوطيقيا الفلسفيّة وإضفاء بُعد تفسيري ـ لغوي على كلِّ فهم
الهرمنيوطيقيا هي من الظواهر المهمّة والتي كان لها تأثيرها الكبير في التاريخ المعاصر بعد عصر النهضة، والتي أثَّرت بشكلٍ بارز على ظهور اتِّجاهٍ جديدٍ في موضوع لغة الدّين عند الغرب. والهرمنيوطيقيا هي في حدّ نفسها ذات بُعدٍ يَرتبط بعلم اللغة التي تعرّضوا لها في مجال فهم النصّ الدينيّ، وهي عبارة عن اتِّجاه محدَّد في تفسير لغة الدِّين. وسوف نتعرَّض في هذه السطور وبقدر ما تسمح به هذه الدِّراسة لهذا الاتِّجاه التفسيريّ.
علم الهرمنيوطيقيا هو بمنزلة تفسير الكتاب المقدَّس أو الهرمنيوطيقيا المقدَّسة. وأقدم تصوّر لكلمة الهرمنيوطيقيا وأكثره شيوعاً في العصر الجديد يُشير إلى قواعد وأصول تأويل الكتاب المقدّس(28) . وقد تمَّ استخدام هذه الكلمة في القرن السابع عشر عندما دعت الحاجة إلى تحديد أصول وقواعد صحيحة لفهم الكتاب المقدّس من قِبَل طائفةِ البروتستانت الذين خرجوا عن طريقة الكنيسة الكاثوليكيّة وأرادوا البحث عن معيارٍ يَعتمدون عليه لتفسير الكتاب المقدّس (29) . وعلم الهرمنيوطيقيا بهذا المعنى وقبل أيّ شيءٍ آخر منهجٌ وطريقة تأويل، وبنحوٍ ما هو نوعٌ من الطرق المعتمَدة في تفسير الكتاب المقدَّس، ولذا أطلق دان هافر (1654م) على كتابه تسمية الهرمنيوطيقيا المقدَّسة أو منهج تفسير النصوص المقدَّسة (30) . وهذا المعنى
________________________________________
(28) - راجع، بالمر ريتشارد، علم هرمنوتيك، نقله إلى الفارسية، محمد سعيد حنائي كاشاني، ص43.
(29) - Intrudaction to philosophical hermeneutics , p 46
(30) - راجع، علم هرمنوتيك، ص43؛ واعظي، احمد، در آمدى بر هرمنوتيك، ص71.

[الصفحة - 112]


للهرمنيوطيقيا يشمل العديد من النظريَّات والتي يَدخل فيها أمثال شلاير ماخر، وليم ديلتاي، أميليوبتي واريك هرش.
لقد بدأ شلاير ماخر بحركةٍ جديدةٍ في الهرمنيوطيقيا شكَّلت بدايةَ تحوّلٍ جديد ونزعةٍ جديدةٍ في تفسير النصوص الدينيّة. ففي المنهج التقليديّ، يَنظر إلى عمليَّة فهم النصِّ على أساس أنَّها أمر طبيعيّ، فالألفاظ تدلُّ على المعاني، ويكفي لفهمها معرفة اللغة وقواعد استعمالها؛ إلا في الموارد التي نواجه فيها غموضاً وإبهاماً في النصِّ فلا بدَّ من الاستعانة حينئذٍ بعلم الهرمنيوطيقيا ومنهج التفسير لإزالة ذلك الغموض والإبهام. ولكنّ شلاير ماخر، وبتأثير من الحركة الرومانطيقيّة في القرن التاسع عشر، جعل سوء الفهم هو الأصل، وجعله أمراً مقبولاً في تمام مراحل الفهم. وكانت بداية نظريّة الهرمنيوطيقيا عنده والتي هي نظرية في الفهم تشمل كلَّ مراحل التفسير بالسؤال التالي: كيف يُمكننا فهم العبارة المنطوقة أو المدوَّنة؟ (31) وعليه فالجديد الذي قدّمه شلاير ماخر هو أنَّه جعل ماهيّة وفهم تفسير النصِّ من مباحث علم الهرمنيوطيقيا.
ويرى أنَّ الفهم نوعٌ من الحوار وتبادل الرأي بين المتكلِّم والسامع، ويحوي على صفة الديالكتيكية (الجدل). فالفهم نوع من إعادة البناء (RECONSTRUCT)، والغاية من الهرمنيوطيقيا هو إعادة استيلاد ذهن المؤلِّف (reproduce). إنَّ من خصوصيَّات هرمنيوطيقيا شلاير ماخر، مضافاً إلى أهميَّة نظريّته في مسائل علم اللغة، رفضه لاعتماد التفسير القواعديّ والنحويّ المبتنى على قواعد اللغة (grammatical) والذي يسعى لمعرفة مراد المتكلم عند الإبهام في مراد المتكلّم أو توسّع المتكلّم في الاستخدام كالاستعارة، وعدم تطابق نيَّة القائل مع الكلام بلحاظ إمكان إرادته لمعانٍ متعدِّدة أو غير ذلك من الأسباب. فلا بدَّ إلى جانب ذلك وبشكل ضروريّ من ضمِّ التفسير النفسيّ والفنيّ (technical) الذي يجعل من الأمر الذهني (subjective) ومن خلال الحدس والاستنتاج (derivation) أمراً ميسوراً (32) .
وبعبارةٍ أُخرى ترتبط نظريَّة التفسير عند شلاير ماخر بتحليله للتجربة الدينيّة.
________________________________________
(31) - راجع، علم هرمنوتيك، ص95.
(32) - م، ن، ص98.

[الصفحة - 113]


فإذا كان للغة الدّين أسلوبها الخاص بنظره فهي أمر تلقائيّ وطبيعيّ ناتج عن الإحساس الدّيني، وهي بهذا تختلف عن اللغة العاديّة، العلميّة والفلسفيّة، فإذاً، لا بدَّ من أن تتمّ عمليَّة تفسير هذه اللغة من خلال الاعتماد على منهج ورؤية مختلفة عن المنهج المعتمد في سائر اللغات (33) .
من هنا نخلص إلى أنّ الأساس الذي قامت عليه نظريّة شلاير ماخر في الهرمنيوطيقيا يعتمد على ما يراه من كون النصوص الدينيّة تعبيراً عن الإحساس الدّيني، وعليه فتفسير النصوص الدينيّة يختلف تماماً عن طريقة تقييم الفرضيّات العلميّة. وبيان هذا الاختلاف بينهما يقوم على أساس أنَّ فهم أيِّ نصٍّ أو أيِّ نوعٍ من البيان والتعبير الإنسانيّ، يستلزم نوعاً من مشاركة المؤلِّف أو التجربة المباشرة للشيء الذي يقوم المؤلِّف بالتعبير عنه (34) .
وضمن تقديمه لعنصرين قانونيين لقراءة النصوص: السياق العام التاريخيّ والاجتماعيّ، وكذلك العنصر النفسيّ للإحاطة بشخصيّة المؤلِّف أو إعادة إنتاج شخصيّته على أساس الحدس أو التقمُّص (empathy) ، يرى في العنصر الثاني أساس الهرمنيوطيقيا المتبنّاة لديه.
وفي عبارةٍ له يقول: «طريقة الحدس هي أن يسعى الإنسان من خلالها وعن طريق وضع نفسه موضع الغير ليرى ذلك الغير بشكل مباشر في نفسه» (35) .
ويرى في التسليم بالإنسانيَّة المشتركة ضمانةً لجعل المفسّر قادراً على الوصول إلى التجربة التي عبّر عنها مؤلِّف النصّ.
إنَّ الذي يظهر من هذه العبارة وبوضوح أنَّها تعتمد على نظريّته الأساس والتي يرى فيها أنَّ النصوص الدينيّة هي تعابير إنسانيّة عن التجربة الدينيّة.
هنا يأتي السؤال التالي: لو كنّا نؤمن بنظريّةٍ أُخرى في موضوع النصوص الدينيّة، كما لو كنّا نرى أنَّها وحي مرسل من الله إلى أنبيائه، فهل يعود لهذه النظريّة الهرمنيوطيقيّة مجال؟
________________________________________
(33) - راجع، برادفوت، وين، تجربة دينى، ص72.
(34) - م، ن، ص76
(35) - راجع، م، ن، ص79 ـ80.

[الصفحة - 114]


ديلتاي، حرب على التاريخانيّة
لقد قام المفكِّر الألمانيّ وليم ديلتاي (1833 ـ1911م) بتعميم هرمنيوطيقيا شلاير ماخر على كافّة اللغات التعبيريّة الفكريّة والثقافيّة ولم يخصَّها بالنصوص المدوَّنة. فقد كانت عقيدة شلاير ماخر تنصُّ على أنَّ هدف المفسّر معرفة نيَّة المؤلِّف، ولكن هذا الهدف لا يُمكن الوصول إليه إلا من خلال الموازنة الدقيقة بين التفاسير القواعديّة وعلم النفس مع الطريق الحدسيّ وباعتماد أسلوب المقايسة. ولكن ديلتاي تقدَّم خطوةً إلى الأمام فادّعى أنَّ التفسير هو إحياءٌ جديد لتجربة المؤلِّف. وقد عمَّم التعبير من دائرة اللغة إلى الظواهر الثقافيّة كالرسم، التصميم، الموسيقى و... فهذه كلها تعابير عن التجربة، ومن الموارد التي تطبق عليها عملية التفسير، وعن طريق الهرمنيوطيقيا تتمُّ إعادة التجربة وإدراكها. إنَّ الصورة التي يقدِّمها ديلتاي عن تجديد التجربة ناظرةٌ إلى رأيه في الهرمنيوطيقيا لا سيما نقد النزعة التاريخانيّة (36) .
وكانت الرؤية التي تحملها التاريخانيّة (historicism) في القرن التاسع عشر هي أنَّ كلَّ ظاهرةٍ لا بدّ من أن يتمّ إدراكها من خلال الثقافة والمفاهيم الحاكمة في عصرها. وعليه فلا يُمكن الاعتماد على الظروف والمعايير الحاكمة في هذا العصر لأجل إدراك وفهم الظواهر الحادثة في عصورٍ سابقةٍ. وتقضي هذه النزعة باعتبار كافَّة العلوم التي تمتلك بُعداً تفسيرياً ـ أي التي يكون العمل فيها على فهم وإدراك الميراث التاريخيّ، سواء أكان ذلك الميراث يعبّر عن حوادث تاريخيّة أو عن أمور أخرى كالفنّ والأدب والفلسفة والدِّين والنصوص الدينيّة ـ داخلةً في نطاق العلوم التاريخيّة وخاضعةً للعناصر المعرفيَّة التي كانت حاكمة في عصر ظهورها، وعمليَّة تفسيرها من قِبَل من يعمل من الباحثين على فهمها يتوقَّف على الإحاطة بعناصر المعرفة تلك والمفاهيم الخاصّة بذلك العصر.
وقد أدّت هذه النزعة، التي تفوح منها رائحة النسبيَّة التامّة، إلى قيام علماء المعرفة والمناهج في القرن التاسع عشر بالتفكير بنحو جدِّي في قيمة واعتبار النتائج
________________________________________
(36) - م، ن، ص83.

[الصفحة - 115]


التي توصَّلت إليها العلوم التاريخيّة والبحث عن إمكان وجود فهم عيانيّ ومطلق في العلوم التاريخيّة.
يرى درويسن (1808 ـ1884م) أنَّ عصرنا هو عصر العلم وأنّ العلوم التجريبيّة المبتناة على الرياضيّات هي المثل الأعلى للعلوم. والنجاح الذي لا شكَّ فيه لهذه العلوم مدينٌ إلى واقع أنَّ هذه العلوم تختار ـ عن معرفةٍ ـ وظائفها، أدواتها ومناهجها، ونتيجة ذلك أن تنظر إلى كلِّ موضوعٍ بالنهج الذي يقتضيه ويستدعيه. وكذلك نفس التسليم بروح الوضعيّة الحاكمة في ذلك العصر أدّى في النهاية إلى جعل مسألة الوصول إلى فهم عيانيّ للعلوم التاريخيّة أمراً غير ممكن.
تعني الرؤية التي تحملها التاريخانيّة والتي يعبَّر عنها بالنزعة النسبيّة أيضاً أنَّ كلَّ ظاهرةٍ لا بدَّ من فهمها داخل زمانها وعصرها. وقد واجه ديلتاي الذي كان يحمل وبعمق العقيدة العينيّة والواقعيّة الصافية، مشكلة المنهج المعرفيّ التاريخانيّ واصطدم معه وسعى لحلِّ تلك الإشكاليّة. لقد كان الهدف الذي يريده ديلتاي من (نقد العقل التاريخيّ) إحياء العلوم التاريخيّة والتفسيريّة. وأقام لذلك منهجاً معرفيّاً خاصّاً للعلوم الإنسانيَّة اعتماداً على أنَّ العالم الإنسانيّ لا يُمكن النظر إليه على أساس كونه نظاماً عِلِّيَّاً جبريَّاً يتكوَّن من متماثلات ضروريّة؛ لأنَّ أفعال النفس حرّة وهادفة وتحمل جنبة إبداع وذلك خلافاً لنظام العليَّة في الطبيعة. وقد سعى ديلتاي من خلال تقديمه لمنهجٍ معرفيّ عام في العلوم الإنسانيّة للتوفيق بين تاريخيّة الإنسان وواقعيّة العلوم الإنسانيّة. وقد أتبع ذلك بنقل عمليّة الاعتقاد باشتراك البشر في التجارب الحياتيّة إلى قواعد عامّة مطلقة وواقعيَّة (37) .
وشهد القرن الأخيرة ولادة اتِّجاهٍ جديدٍ في الهرمنيوطيقيا أعطاه دفعاً جديداً. وولادة هذا الاتِّجاه كانت على يد هايدغر الوجوديّ (1889 ـ1976م)، وذلك اقتداءً منه بمنهج علم الظواهر (الظاهريَّات) لأستاذه أدموند هوسرل. واتِّجاه الهرمنيوطيقيا عنده لا يُقارب نظريَّة قواعد تأويل النصّ ولا منهج العلوم الإنسانيّة، بل يقوم على
________________________________________
(37) - راجع، پالمر، ريچارد، علم هرمنوتيك، ص138 ـ 133 ترجمة محمد سعيد حنائي كاشاني، نشر هرمس،1377 ، نقلا عن:An Encyclopedia of Phelosophy, edited by G.H.R Parkinson, p.198

[الصفحة - 116]


دراسة عمليّة الفهم والتأويل على أساس أنَّها ركنٌ أساس في الوجود الإنسانيّ، كما يتحدَّث عن البناءات المسبَقة للفهم والتي تُسيطر على كافَّة أنماط الفهم البشريّ عن العالم والوجود، ويرى في التوقّعات، الفرضيّات، والمفاهيم المرتكزة في أذهاننا العامل المحدِّد لعمليّة الفهم.
وقد تابع (هانس جورج غادامر) نظريَّة الهرمنيوطيقيا الفلسفيّة لهايدغر. وكتابه (الحقيقة والمنهج) (1960) هو في الواقع شرحٌ تفصيليٌّ لهذه النظريّة، ويرى أنَّ موضوع ومجال الهرمنيوطيقيا الفلسفيّة هي في مطلق الفهم لا في خصوص فهم المنهج.
ولعلَّ الباعث على إضفاء المدافعين عن الهرمنيوطيقيا الفلسفيّة في عالمنا اليوم أهميَّةً بالغةً عليها ينطلق من هذه الخصوصيَّة بالذَّات، أي جعلها ظاهرة التفسير والتعبير أمراً عاماً يشمل كافَّة أنواع الفهم. لقد ادّعى نيتشه قبل هايدغر أنَّ كافَّة التجارب التي نخوضها والفهم الذي نصل إليه خاضعٌ للتأويل. وقد ادّعى أنَّه لا وجود للواقعيّات (facts) الخالصة، بل كلُّ ما هو موجود هو عبارة عن تفسيرنا القائم على أساس ما نحمله من رؤىً ونظر (Perspectives) وما نتبنّاه من اتِّجاهات(38) . والاتِّجاه التفسيريُّ في مطلق المعرفة والفهم هو المشكلة العامّة والفلسفيّة التي صبَّت الهرمنيوطيقيا الفلسفيّة جهدها في البحث عنه (39) .
إنَّ ما امتازت به الهرمنيوطيقيا الجديدة مع الاختلافات التي تحويها تمثَّل في سعيها للبحث عن نفس الفهم وعزمها على الوصول إلى منهج ونظريَّة معرفة في علم الوجود. وهذا الاتِّجاه الجديد يمثِّله كلٌّ من: هايدغر، غادامر، بول ريكور، جاك دريدا وآخرون...
إنَّ الوظيفة الأساس التي عمل عليها هايدغر في كتابه (الوجود والزمان) هي العمل على الخروج بنظريَّة عن بُنية الوجود الإنسانيّ (الديزاين)، ليمكن في ظلِّها الوصول إلى الأفق الضروريّ لتقديم تفسيرٍ عن معنى الوجود، أي إنَّ تحليل
________________________________________
(38) - كاپلستون، فردريك چارلز، تاريخ فلسفة ج7، ص400.
(39) - راجع، واعظي، احمد، در آمدى بر هرمنوتيك، ص 38 دانش وأنديشه معاصر، الطبعة الأولى، طهران، 1380، نقلا عن introduction to Philosophical Hermeneutics P.140.

[الصفحة - 117]


(الديزاين) هو الخطوة الأولى لتقديم الجواب عن السؤال الأساس والحقيقي في الفلسفة أي (تفسير الوجود بما هو وجود) (40) .
وعندما يتحدَّث عن الإنسان، يستخدم دائماً التعبير الألمانيّ (الآنية) (Dasien) (الوجود ـ هناك) ومراده من هذا التعبير إلفات النظر إلى تناهي الإنسان، بمعنى أنَّه يعيش دائماً في عالمه ومحيطه الخاصّ به (41) .
ويرى هايدغر أنَّ الفهم يتَّخِذ لنفسه معرفةَ وجودٍ خاصّةً به وهو حالة أو جزء لا ينفصل عن الوجود الإنسانيّ. وبعبارةٍ أُخرى، يرى هايدغر في تعريفه للفهم أنَّه هو الخاصيّة والتعيّن العام للديزاين. وعلى هذا الأساس كان الفهم أمراً وجودياً وهو أمر هرمنيوطيقيّ في الوقت نفسه. وكون الفهم أمراً وجوديّاً يرجع إلى كونه نحواً من وجود الديزاين، وكون الفهم من الهرمنيوطيقيا يرجع إلى أنّه موجبٌ لظهور الوجود في عالم الديزاين (42) .
فالفهم مستتبِعٌ لانكشاف وجود الديزاين ولإيجاد إمكانات وجوديّة مختلفة ومتنوِّعة، وكذلك يكون سبباً لانكشاف واتِّساع الأشياء والأمور الموجودة في عالمه.
يرى هايدغر أنَّ الفهم متقدِّمٌ على اللغة والتفسير. وما يُطلِقُ عليه هايدغر تسمية الفهم ويراه من مقدِّمات وجود الديزاين هو أمر أعمق من العلم البشريّ. فالديزاين وقبل أن يتحوَّل إلى لغة، هو مبرِزٌ لعلمٍ في قالب قضيّة، وحتَّى قبل التفكير في أمرٍ ما فإنَّ له فهماً هرمنيوطيقيّاً (43) . وبعبارةٍ أُخرى، لمَّا كان وجود الإنسان مظهراً من انكشاف علم الوجود، كان علم الهرمنيوطيقيا عند هايدغر هو عبارة عن نظريَّة أساس لتفسير كيفيَّة حدوث الفهم في وجود الإنسان. واللغة في مقام انكشافها هي ليست انكشافاً للقائل بل انكشافٌ لوجود العالم (44) .
اعتماد الفهم على القبليّات
من المسائل المهمة التي عالجها هايدغر في نظريَّة الهرمنيوطيقيا، ما تبنَّاه من أنَّ
________________________________________
(40) - راجع، علم هرمنوتيك، ص137؛ در آمدى بر هرمنوتيك، ص135.
(41) - راجع، در آمدى بر هرمنوتيك، ص141.
(42) - م، ن، ص460.
(43) - م، ن، ص162.
(44) - علم هرمنوتيك، ص129.

[الصفحة - 118]


كلَّ عملية فهمٍ تكون مسبوقة بقبليّات. وقد كان لهذا الرأي أثره على أتباع هايدغر أمثال غادامر (الحكم المسبَق) وبولتمان (المعرفة المسبقة) من اللاهوتيِّين (45) .
وحديث هايدغر عن كون عمليّة الفهم أمراً دورياً، هو نتيجة طبيعيَّةٌ لما يراه في البُنية الوجوديّة للفهم من كونِ كلِّ فهمٍ تفسيريٍّ يُبتنى على تصوّرات وآراء مسبَقة. وقد استنتج البُنية الدائريّة (الحلقويّة) للفهم من توقيت الديزاين (46) .
وبناءً على رأي هايدغر فإنّ الفهم والعمل التفسيريّ يبدأ من المفسّر ويُختتم بالمفسّر. وفهم نصٍّ ما أو أمرٍ خارجيّ ما هو عبارة عن فعل يتَّخذ شكلاً دائرياً (حلقات). فبداية الفهم منّا وهذا الفهم المسبَق يَتناغم مع النصِّ أو الشيء الخارجيّ ويتولَّد من هذا التناغم فهمٌ آخر تبعاً للفهم الأوّل وهكذا يسير الأمر (47) .
إنَّ التحليل الخاص الذي تبنَّاه هايدغر عن حقيقة الفهم وبُنيته الوجوديّة والحلقة الهرمنيوطيقيّة هو بحسب قول روبرت هولاب ليس عبارة عن كشف المعنى الذي أراده المؤلِّف في النصِّ، بل هو استكشاف وإظهار ما أشار إليه النصُّ من إمكانات. وكذلك تفسير العبارة، فهو ليس من تحميل المعنى والمفاد على النصِّ أو من إضفاءٍ للقيمة عليه؛ بل بيان الارتباط من خلال النصِّ مع الفهم المسبَق والمتقدِّم الذي نحمله عن العالم، وإظهار ذلك الارتباط (48) .
ومن اللاهوتيِّين المسيحيِّين الجدد بولتمان، الذي وقع تحت تأثير هايدغر، وكان يرى أن تفسيرنا للكتاب المقدَّس يخضع دائما لقبليَّاتنا الفلسفيّة والنظريّة، ولذا فإنَّ السؤال الأساس في كلِّ تفسيرٍ يقوم على أساسٍ واحد فقط وهو ما مدى صحَّة هذه القبليَّات (49) .
الإنسان، أسير سجن التاريخ
يعرِّف هايدغر في كتابه (الوجود والزمان) (الآنية) بأنَّها عبارة عن الوجود التاريخيّ (hestorical). ومن وجهة نظره ليس معنى كون الشيء تاريخيّاً أمراً عرضياً بل هو أمر وجوديّ وذاتيّ.
________________________________________
(45) - در آمدى بر هرمنوتيك، ص 165، نقلا عن، هايدغر، هستي وزمان، ص191 ـ192.
(46) - م، ن، ص168 ـ169، نقلا عن :هستي وزمان، ص226.
(47) - م، ن، ص171.
(48) - المصدر نفسه ص172، نقلا عن هولاب، رابرت، يورغن هابرماس، نقله إلى الفارسية، حسين بشيرية، ص84.
(49) - در آمدى بر هرمنوتيك، ص175.

[الصفحة - 119]


فعلى أساس تاريخيَّة الإنسان تكون البشريّة فاقدةً لأيِّ طبيعةٍ أو ماهيّةٍ مشتركةٍ وثابتةٍ. وكلُّ إنسانٍ مدينٌ في طبيعته وسجيَّته لِمَا يتَّخذه من قرار أو التسليم لكلِّ يومٍ بيومه (50) .
وعلى أساس تاريخيَّة الإنسان فإنَّ كلَّ ما نفهمه هو منتزع ومتلائم مع حياتنا التاريخيّة. والمفسِّر إنَّما يعيش ويفهم في ظلِّ تاريخ نفسه ولا يُمكنه بأيِّ نحوٍ أن يخطو نحو تاريخ الآخر (المؤلِّف)(51) .
ولهايدغر اتِّجاهان فيما يرجع إلى مسألة اللغة، ففي (الوجود والزمان) يؤكِّد على أنَّنا لا بدَّ من أن ندرك اللغة كظاهرةٍ بشريَّةٍ أو كصفةٍ وجوديّةٍ. فاللغة هنا هي أوسع من الأصوات والكلمات وأمثالها، بل لا بدَّ من النظر إليها على أساس أنَّها نظام من العلامات والرموز، والوظيفة الأساس هي إدراك علاقتها بالوجود. وأمَّا الرأي اللاحق لهايدغر فهو أنَّ اللغة مضافاً إلى كونها مركز عمليَّة التفكير، لا بدَّ من النظر إليها على أساس مفهومٍ مختلفٍ عن المتعارف، فهي تُطلق على كلِّ ما يكون موضحاً للمعنى. وعلى أساس هذا الرأي فكما يكون الكلام مبيِّناً للمعنى فكذلك القطعة الموسيقيّة، أو النِّظام الاجتماعيّ فهما ممَّا يوضح المعنى؛ فهي لها أيضاً لغتها بهذا اللحاظ. وبهذا يكون لجملٍ أُخرى نحو (وجودنا في اللغة) أو (نحن نعيش في اللغة) معناها الخاص. فإذا كنَّا نعيش في اللغة دائماً، فلن نتمكَّن من الخروج عن الإطار اللغويّ، والنظر إلى اللغة من خارج (52) .
إنَّ ما لا يُمكننا تجاهله هو أنَّ هايدغر لم يُظهر رأيا جازماً وواضحاً عن الهرمنيوطيقيا. فإذا كانت الهرمنيوطيقيا في (الوجود والزمان) هي علم ومعرفة وجود الفهم ففي كتاباته اللاحقة على (الوجود والزمان) لا يُمكن تعريف الهرمنيوطيقيا على أساس أنّها نظريَّة فلسفيَّة عن نوع الوجود المعرفيّ.
ويُشير في حوار له مع تزوكا اليابانيّ حول معنى الهرمنيوطيقيا إلى تعريف شلاير ماخر، وعلى أساس ذلك يرى أنَّ الهرمنيوطيقيا هي (فنُّ الإدراك الصحيح للغة
________________________________________
(50) - م، ن، ص177، نقلا عن هستي وزمان، ص278 و434.
(51) - م، ن، ص178.
(52) - راجع، ساختار وتأويل متن، ص555 ـ556.

[الصفحة - 120]


الإنسان الآخر لا سيما اللغة المكتوبة).
وكما هو الملاحظ فإنَّ هذا التعريف هو أقرب التعاريف إلى المعنى المتداول للهرمنيوطيقيا. وهو يباين تماماً ما عُرِّفت به الهرمنيوطيقيا في كتاب (الوجود والزمان). وبتعبير أدقَّ يقول: «وظيفة الهرمنيوطيقيا السعي لتعريف طبيعة وحقيقة التفسير» (53) .
وعلى أيِّ حال، فإنَّ الهرمنيوطيقيا تحوَّلت في الكتابات المتأخِّرة عن هايدغر إلى اللغة وتفسير النصّ. وفي هذا الاتِّجاه الجديد يشكِّل التفسير سعياً لمعرفة المعنى المخبوء في النصِّ. وملاحظته للقول والنصّ إنَّما هي لأجل الوصول إلى معنىً آخر منفصلٍ عن المعنى الذي نعرفه في عصرنا. ولذا يسعى هايدغر في تأويله للدِّارسات الفلسفيَّة القديمة من خلال بحثه عن جذور المفردات وملاحظة آفاق المعنى لديهم لمعرفة ما كان يفهمه الماضون من المفردات التي لها معنىً آخر اليوم. وعلى هذا الأساس يقدِّم نموذجاً لذلك وهو كلمة فيزيقيا (physis) في اللغة اليونانيّة والتي تعني الوجود، لا الطبيعة وعلى أساس ذلك يكون المراد من الميتافيزيقيا هو (ما بعد الوجود) وليس (ما بعد الطبيعة) (54) .
ويُحتمل في هذا التبدُّل أن يكون علامةً على أنّه رأى في سَوْقِ الهرمنيوطيقيا من معرفة الفهم إلى معرفة وجود الفهم نوعاً من الانحراف، وبهذا وضع رسالته الأساس طيَّ النسيان ولم يسع للبحث عن طريق للوصول إلى الحقيقة؛ مع قطع النظر عن كون نظريَّته في عالم التوصيف لا تصل إلى درجةٍ من الوضوح (Openness) ولا تفتح الطريق أمام فهم النصوص.
مضافاً إلى ما سبق فإنَّ تحليل هايدغر عن الآنية والدنيا الخاصّة بكلِّ آن، وقبليَّاته المفروضة وعدم تقديمه لمعيارٍ يُمكن الاعتماد عليه في الفصل والتفكيك بين القبليَّات الصحيحة وغير الصحيحة والانحباس في فخِّ النزعة الذهنيّة الفردية، يفتح الباب واسعا أمام النسبيّة المحضة والتي لا طريق للخلاص منها.
________________________________________
(53) - در آمدى بر هرمنوتيك، ص194 ـ195 نقلا عن introduction to Philosophical Hermeneutics P140..
(54) - أحمدي، بابك، ساختار وتأويل متن، ص564، نشر مركز، الطبعة الرابعة، طهران، 1378 ، علم هرمنوتيك، ص156.

[الصفحة - 121]


الهرمنيوطيقيا عند غادامر (محوريَّة المفسِّر)
تشكِّل هرمنيوطيقيا غادامر (1900) سعياً جديداً لبيان حقيقة الفهم وبيان شروط وجوده، وهي تتناغم بنحوٍ كبيرٍ مع آراء هايدغر، ويُمكننا القول إنَّ (الحقيقة والمنهج) هي تتمّة لـ (الوجود والزمان) لهايدغر.
يصبُّ غادامر نظريَّة الوجود عنده بتمامها على التفكير في ماهيَّة الفهم واللغة. ويرى أنَّ تجربتنا في هذا العالم هي لصيقةٌ باللغة وأنَّ كافَّة التجارب التي نخوضها حول هذا العالم لا سيما التجارب الهرمنيوطيقيّة لا تَظهر إلا من خلال اللغة، وكافَّة أشكال التفسير حتَّى تلك التي لا ترتبط بفهمِ النصِّ لها صبغةٌ لغويَّةٌ (55) . ويقوم تبعاً لأستاذه هايدغر بنقل الهرمنيوطيقيا من معرفة منهج الفهم إلى معرفة وجود الفهم بانياً لذلك على أساس اللغة. وفي القسم الثالث من كتابه (الحقيقة والمنهج) والذي تتناول مسائله اللغة بشكلٍ رئيس يقول: «إنَّ التحول الوجوديّ للهرمنيوطيقيا يسير من خلال اللغة» (56) .
وفي مقابل الرأي السائد بأنَّ اللغة هي أداة لحصول الفهم والتفهيم والتفاهم وأنَّ حقيقة الفهم تختلف عن نفس اللغة، يذهب غادامر وبتأثيرٍ من الرومانطيقيّة الألمانيّة وأحد مفكِّريها البارزين أي شلاير ماخر تبنِّي القول بأنَّ حقيقة الفهم هي لغويَّة، ويرى أنَّ كلَّ فهمٍ هو عبارة عن تفسير، وللتفسير مكانه في اللغة، ونتيجة ذلك أنَّ اللغة تدخل في حقيقة نفس الفهم (57) . ويرى غادامر أنَّ اللغة في علاقتها بالمعنى تحمل صفة التأمّل؛ أي مع أنَّها ذات واقعيَّة ومع أنّ عمليَّة الفهم والتفسير تقع فيها، ولكنَّها (وبسبب قرب الفهم من اللغة) يُغفل عن وجودها في تحقّق المعنى (58) .
مكوِّنات الفهم الهرمنيوطيقيّ عند غادامر
يحمل الفهم في الهرمنيوطيقيا الفلسفيّة عند غادامر الخصوصيَّات التالية: التأثُّر بالتاريخ، التقاليد، الأحكام الذهنيَّة المسبَقة للمدرِك (بالكسر)، الديالكتيكيّة (الجدليّة)
________________________________________
(55) Truth and Method , pp ,446 -450 - 457.
(56) - م، ن، ص 381.
(57) - م، ن، ص 388ـ 399.
(58) - م، ن، ص 469.

[الصفحة - 122]


والاعتماد على السؤال والجواب. ويَعتقد غادامر بأنَّ ظاهرة الهرمنيوطيقيا فضلاً عن كونها تقوم على أُسس ديالكتيكيّة ومنهجٍ جدليّ، هي أيضاً تابعةٌ لبُنيَة السؤال والجواب (59) ، فالمنطق الحاكم على المنهج الديالكتيكيّ هو منطق السؤال والجواب، كما أنَّه يتبنَّى في نظريَّته عن الهرمنيوطيقيا القول بأنَّه ما من فهمٍ خالٍ من الأحكام المسبَقة (60) . نعم هذه الأحكام المسبَقة على نوعين صحيحةٌ وغير صحيحةٍ، ولا بدَّ من الفصل بينهما، فالأولى هي منشأ الفهم والثانية هي سبب سوء الفهم (61) . نعم لم يقدّم معياراً واضحاً يُمكن من خلاله التمييز بين هذين النوعين من الأحكام المسبَقة. وبملاحظة أنَّ هذه الأحكام المسبَقة والقبليَّات تملأ ذهن المدرِك وهي ليست تحت اختياره وإرادته، فلن يكون بإمكانه التمييز بينها ليقوم بالفصل بين الصحيح وغير الصحيح منها. ويقول غادامر: «إنَّ السعي للخروج عن التصوُّرات التي نحملها في قضيَّة التفسير أمرٌ غير ممكنٍ بل لا معنى له وغير معقول. فالتفسير هو بالدقَّة يعني إدخال تصوُّراتنا المسبَقة في اللعبة، إلى حدٍ يُمكن للنصّ فيه واقعاً أن يُخاطبنا» (62) .
وكذلك يؤكِّد غادامر على أنَّ الفهم يقع دائماً تحت تأثير المعاني والمحيط الهرمنيوطيقي للمدرِك، ولمَّا كانت المعاني واقعة تحت تأثير التاريخ، كان فهمنا دائماً تاريخيّاً.
والدليل الآخر على تاريخيَّة الفهم هو أنَّ أُفق الفهم هو أمر سيّال ومتغيِّر وهو في حالة تكوّن دائمٍ. وعليه فحيث كان الإنسان يعيش ضمن العرف والعادات، ولا يُمكنه الخروج عن هذا العرف وكان فهمه لجميع الأمور خاضعاً لتأثير التاريخ والعرف، فهو لن يتمكَّن من الخروج على العرف والنظر إلى الموضوع على ما هو عليه، وأن يكون له فهم عيانيّ خالٍ عن التأثير التاريخيّ (63) . والنقطة الرئيس عند غادامر تتمثَّل في أنَّ الفهم هو عبارة عن حادثةٍ تقع بكافَّة أشكالها تحت تأثير التاريخ والعرف (مجموعة التفاسير وكافَّة أنواع الفهم المسبق). فالظرف الهرمنيوطيقيِّ لكلِّ فهمٍ وتفسير هو عبارة عن تراكمات من الأحكام المسبَقة في تحليله للموضوع الذي يقع البحث عنه، وهذه
________________________________________
(59) - م، ن، ص 378ـ 379
(60) - م، ن، ص 440.
(61) - م، ن، ص، 298.
(62) - م، ن، ص، 397.
(63) - م، ن،ص 306.

[الصفحة - 123]


الأحكام المسبَقة تُبنَى على أساس التاريخ والعرف الذي يتمُّ العيش فيه. والمعنى الواقعيّ لـ (الظرف) هو ما لا يُمكننا بأيِّ حالٍ من الأحوال أن نكون خارجه، ولذا لا يُمكننا الوصول إلى معرفة عيانيَّة عن الموضوع. فنحن دائماً نعيش في محيطٍ يُسيطر عليه نورٌ قويٌّ لا نهاية له (64).
من ناحيةٍ أُخرى لمَّا كان الفهم يحمل جنبة عملانيَّة، أي إنَّ الفهم هو عبارة عن حدثٍ يقع تحت تأثير المحيط، الرغبات، والتوقّعات والظروف الخاصّة بالمدرِك، وهذه الجنبة تستدعي فهماً جديداً يَتناسب مع الظرف الجديد للمدرِك، لهذا السبب لاحظ غادامر تداخل أمرين معاً في توجيه الفهم وهما ذهن المفسّر ونفس الحدث واستخدم لذلك عنوان (اندماج الآفاق) (Fusion of horizons) (65) .
كما تؤكِّد فكرة الدور الهرمنيوطيقيّ أو دائرة الفهم على هذا المعنى وأنَّ الفهم يبدأ من المفسِّر، أي قبل إلقاء النصِّ أو الأثر الفنيِّ إلى المفسِّر، يقوم هذا المفسِّر بفتح باب الفهم واسعاً ويُلقي المعنى على الموضوع. ويقول غادامر: «إنَّ الباحث الذي يَبذل جهده لفهم نصٍّ ما يقوم دائماً بعمليَّة إسقاط مسبَقة (projecting). فهو بمجرَّد أن يظهر له المعنى الأوليّ للنصّ يقوم بإسقاط ذلك المعنى على النصِّ كلِّه. من جهةٍ أُخرى، يعود السبب في حدوث هذا المعنى الأوليّ إلى أمرٍ واحدٍ فقط وهو أنَّه يقوم بقراءة النصِّ من خلال ما يحمله من توقُّعات خاصَّة. وفهم معنى النص، هو أن يعثر على (المسبَق ـ الملقَى أمامه) والذي يظهر له دائماً على أنَّه هو إدراك معنى النصّ، وإعادة النظر فيه هو عبارة عن فهم معنى النصّ (66) .
ويَعتقد غادامر بأنَّ الفهم في العلوم الإنسانيَّة هو من سنخ الحوادث. ففهم الأثر الفنيّ، الحدث التاريخيِّ، تفسير النصِّ وأمثال ذلك هو عبارة عن حادثة تقع لنا، وهو أمر لا يُمكن التنبّؤ به أو التحكّم به، أو جَعله ممنهجاً، أو تكراره أو جعله في متناول الجميع من خلال الاعتماد على منهجٍ محدَّد. ففي العلوم الإنسانيَّة نحن ندخل لعبة الفهم، ولكن وجودنا التاريخيَّ يتدخَّل في عمليَّة الفهم. و(الوجود التاريخيّ) أمرٌ لا
________________________________________
(64) - م، ن، ص، 301 ـ302.
(65) - م، ن، ص، 306ـ360.
(66) - م، ن، ص 276.

[الصفحة - 124]


يمكن التنبّؤ به أو التحكّم به منهجياً؛ لأنَّ وقوعه يمثِّل جنبةً من الوجود التاريخيّ. ويرى غادامر أنَّ المنهج التجريبيّ لا يُمكن استخدامه في العلوم الإنسانيَّة بل هو أمر غير مطلوب. كما أنَّ من غير المطلوب ومن غير الممكن الخروج من عالمنا وكذلك قطع النظر عن المحيط الهرمنيوطيقيّ الذي نعيشه والأحكام المسبقة التي نحملها بغرض الوصول إلى فهم عيانيّ (67) .
إنَّنا، ومن خلال ملاحظة خصوصيّات الهرمنيوطيقيا الفلسفية عند غادامر والذي يراه في عمليَّة الفهم، فإنَّنا نجد أنَّ هذا ينطبق أيضاً على عمليّة تفسير النصّ. وعليه ففي نظريّة الهرمنيوطيقيا عند غادامر لا أثر في عمليَّة الهرمنيوطيقيا للحديث عن قصد المؤلف، ومعنى النص بشكل عام هو أبعد عمَّا قصده المؤلف ابتداء. فرسالة الفهم ترتبط من الأساس بمعنى نفس النصّ (68) .
ويتَّجه غادامر إلى القول بأنَّ المؤلِّف هو أيضاً أحد مفسّري النصّ ولا رجحان لتفسيره للنصِّ على سائر التفاسير، وعليه فليس لقصد المؤلِّف أيُّ تأثيرٍ على عمليّة الفهم (69) .
إذاً، وخلافاً لنظرية الهرمنيوطيقيا عن شلاير ماخر حيث يرى تفسير النصِّ هو إعادة استيلاد لذهن المؤلِّف ولهدفه (reproduction)، تتَّجه نظريَّة الهرمنيوطيقيا عند غادامر إلى أنَّ تفسير النصِّ هو استيلاد للنصّ (productive)، ويقوم المفسِّر من خلال عمليّة التفسير بإيجاد معنىً جديد بالاستعانة بما في ذهنه وبمزيجٍ مع ما في النصّ. ويذهب إلى أنَّ معنى النصّ يتقدَّم خطوةً أوسع من المؤلِّف. والسرّ في كون الفهم دائماً هو عبارة عن نشاط توليديّ لا إعادة إنتاج يعود إلى هذا الأمر بالذَّات (70) .
وبما يتلاءم مع هذه النزعة التي يرى فيها غادامر أنَّ فهم النص هو عبارة عن حوارٍ ثنائيٍّ، ونتاجه يعود إلى كلا طرفَي الحوار، وأنَّ فهم النص هو عبارة عن اندماج أُفق المعنى في النصّ وعند المفسِّر (71) ، يأتي السؤال عن أنَّ الهرمنيوطيقيا هل هي منهج للوصول إلى المعنى المراد من قِبَل المؤلِّف من النصِّ؟ والجواب الموجود لدى
________________________________________
(67) - در آمدى بر هرمنوتيك، ص250، نقلا عن غادامر، هانس جيروج، حقيقة وروش، ص397.
(68) - م، ن، ص، 372 ,388, 395.
(69) - م، ن،ص 193.
(70) - در آمدى بر هرمنوتيك، ص297، نقلا عن : حقيقت وروش، ص296.
(71) - م، ن، ص298، نقلا: حقيقت وروش، ص388.

[الصفحة - 125]


غادامر عن هذا السؤال هو بالنفي؛ وذلك لأنَّ نظريّة الهرمنيوطيقيا الفلسفيَّة عند غادامر تتبنَّى القول بعدم وجود معنىً محدَّد ومعيَّن للنصّ، بل وطبقاً لهذه النظريَّة يكون الوصول إلى معانٍ جديدة للنصِّ أمراً متاحاً لنا متى اختلف المحيط الهرمنيوطيقيّ أو وُجدت أسئلة جديدة (72) . ويقول غادامر: إنَّ على من يريد أن يَفهم أن يبحث عن الأسئلة المخبوءة وراء ما يحويه النصُّ. فعليه أن يجعل النصَّ بمثابة جوابٍ عن سؤالٍ. ولو عبرنا إلى ما وراء ما يحويه النصُّ فإنَّنا لا شكَّ سوف نصل إلى أسئلة وراء ما قيل. ونحن لا نصل إلى معنى النصِّ إلا عن طريق الوصول إلى أُفق السؤال الذي يحويه؛ هذا الأفق الذي يحمل في حدّ ذاته إمكان وجود أجوبةٍ أُخرى. وعليه فمعنى الجملة يرتبط بالسؤال الذي تصلح الجملة جواباً عنه. ونتيجة هذه القضيَّة أن يكون معنى النص أمراً زائداً عمَّا ورد ذكره في النصِّ (73) .
وانطلاقاً من نظريَّة الهرمنيوطيقيا عند غادامر فإنَّ تفسير النصّ لن يكون له نهاية، ولا يُمكننا على الإطلاق أن نقوم بمعرفة صحَّة أو أفضليَّة تفسيرٍ على تفسيرٍ آخر. كما أنَّنا متَّى سلَّمنا بالأصل الذي يرى أنَّ فهم النصّ ليس عبارةً إلا عن تقديم النصِّ أجوبةً عن الأسئلة اللامتناهية وهو مملوء بالأحكام المسبَقة عند المفسِّر، فلن يُمكننا الحديث بعد ذلك عن فهمٍ كاملٍ ونهائيٍّ للنصِّ (74) .
ومن جهةٍ أُخرى متى كان الفهم هو عبارة عن حالة تناغمٍ وانسجامٍ بين المفسِّر والنصِّ واندماج أُفق المعنى لديه مع النصّ، فلن يُمكننا مع هذا الفرض أن نصل إلى صورةٍ تكون معياراً لرجحان فهمٍ على سائر أنواع الفهم الأخرى؛ بل غاية ما يمكننا قوله: إنَّ هذا الفهم يختلف عن ذلك الفهم الآخر وليس لزاماً أن يكون أفضل منه (75) . فيكفي أن نقول إنَّنا نفهمه بطريقةٍ مختلفةٍ، إذا كنا نفهم شيئاً فعل (76) .
ولكن هنا ينشأ السؤال عن نظريَّة الهرمنيوطيقيا الفلسفيَّة عند غادامر وأنَّها هل بإمكانها أن تقدّم لنا نظرةً تكون معبِّرةً وبوضوح عن الواقع، أو أنَّ دعاويه المختلفة من حيث المبنى، اللوازم والنتائج المترتِّبة عليه تواجه إشكاليَّات كثيرة؟ لا يمكننا أن
________________________________________
(72) - م، ن، ص555.
(73) - م، ن، ص 270.
(74) - علم هرمنوتيك، ص 203.
(75) - در آمدى بر هرمنوتيك، ص301.
(76) - م، ن، ص 298.

[الصفحة - 126]


نتجاوز وببساطة فكرة أنَّ نظريَّة الهرمنيوطيقيا عند غادامر مع نزعتها النقديّة الشديدة للقواعديّة، العينيّة، الوضعيّة، والرومانطيقيّة، وقعت في فخِّ الذهنيّة، وأنَّها تتَّجِه نحو تقديم تحليلٍ يَعتمد على علم الظاهرات لعمليَّة الفهم، وهي غارقةٌ بأحكامَ مسبَقةٍ جبريَّة؛ ولكنَّها لا توضح إلى أيّ حدّ ما يقع ـ ممَّا يُطلق عليه عمليّة الفهم ـ ينال الحقيقة، وما هي درجة مطابقته للواقع (Correspondence)، مع أنَّ أساس البحث في عمليَّة الفهم يرجـع إلى هذه النقطة بالذَّات وهي ممَّـا لا يُمكن تجـاهله على الإطلاق.
مضافاً إلى هذا فإنَّ مقوِّمات نظريَّة غادامر من تاريخيَّة الفهم، وابتنائه على القبليَّات، وكونه سيَّالاً ونفيه لأيِّ إطارٍ ومعيارٍ مشتركٍ ودائمٍ له، ومع قطع النظر عن الإشكاليَّات الأساس التي ترد عليه، فإنَّ نظريته تقع في مشكلة النسبيّة، وتحتوي على تناقضٍ داخليٍّ وهي تُبطل نفسها بنفسها. وطبقاً قول لوي شتراوس: «إذا كان الزمان والتاريخانيّة قيداً لا ينفصل عن أيِّ نوعٍ من الفهم، فهذا الأصل بنفسه هو أمرٌ تاريخيٌّ ومحكوم عليه بالبطلان، ولا يُمكن تلقيه على أساس أنَّه الحقيقة الخالصة والعامّة» (77) . ولهذا السبب قام أميلو بتي سنة 1962م ـ وضمن كتيِّبٍ له نشره ـ باعتبار هايدغر وغادامر الناقدين اللذَين هدما العيانيّة من خلال قولهما إنَّ الهرمنيوطيقيا وقعت في مستنقع النسبيّة. وسعى (بتي) لإثبات أنَّه مهما كان دور العنصر الذهنيّ في التأويل فإنَّ العيان المشاهد هو العيان نفسه (78) .
وقد تحدّى هرش سنة 1967 في رسالة له حملت عنوان (الاعتبار والتأويل) وضمن بحثٍ استدلاليّ أهمَّ الفرضيَّات التي كانت وخلال أربعة عقود تشكِّل طرق التأويل الأدبيّ (79) . وقد أقام الدليل على أنَّنا لو بنينا على الاعتقاد بأنَّ بإمكاننا تغيير معنى العبارة فلن يبقى لنا أيُّ معيارٍ ثابت لنعرف من خلاله كون التأويل صحيحاً أو خاطئاً. كما وضع يورغن هابرس إصبع النقد على نظريَّة الهرمنيوطيقيا عند غادامر لجهة وقوعها في النسبيّة (80) . وإنْ سعى بعضهم ومن خلال إرجاع النسبيّة عند غادامر
________________________________________
(77) - شتراوس، لوي، حقوق طبيعى وتاريخ، نقله إلى الفارسية، باقر برهام، ص 42 -44.
(78) - علم وهرمنوتيك، ص 57 و64.
(79) - م، ن، ص75.
(80) - هوي، دايفيد، ك، هرمنوتيك، تاريخ، أدبيات، فلسفة، حلقة انتقادي، نقله إلى الفارسية، مراد فرهاد بور، ص258.

[الصفحة - 127]


إلى القرينيّة (contextualism) وأنَّ ربط عمليَّة تفسير النصّ ببعض الشروط هو كقرائن التفسير والتي هي عبارة عن أُطرٍ خاصَّة أو مجموعة من المفاهيم التفسيريّة، وهي من جملة مناهج التفسير، فتكون نظريّة تحمل نوعاً من الاعتراف (81) . وعلى ما يعترف به هذا الرأي، فإنَّه لا وجود لقرينةٍ مطلقةٍ، بل تتعدَّد الطرق، القرائن، المحيط الفكريّ والثقافيّ للأشخاص بشكلٍ واسعٍ، ولا يُمكننا توجيه كافَّة القرائن باتِّجاهٍ واحد؛ وعليه يكون التسليم بالاتِّجاهات التفسيريّة يقتضي إدراك الواقع وهذا الأمر لا يؤدِّي للنسبيَّة إطلاقاً (82) .
ولكنَّ هذا التوجيه لا يَرفع إشكال النسبيّة عن نظرية غادامر؛ لأنَّ نظريَّته تشمل مطلق الفهم وليس خصوص تفسير النصّ. فهو لم يرَ كون تطابق الذهن مع العيان هو معيار المعرفة، بل جعل معيار ذلك انسجام المعارف مع بعضها بعضاً، وهذا يؤدِّي به إلى النسبيَّة سواء أراد ذلك أو لم يرده.
الهرمنيوطيقيا عند بول ريكور (محوريَّة النصّ)
لقد لاحظنا كيف أنَّ هايدغر بنى نظريَّته في الهرمنيوطيقيا الفلسفيّة على أساس البحث عن معنى الوجود من خلال ملاحظة ظاهرة الآنيّة، وكيف أنَّ غادامر بنى نظريّة الهرمنيوطيقيا عنده على أساس البحث عن معنى وجود الفهم وتتبُّع شروط وجوده، فكلتا النظريَّتين لم تدخلا في مسألة معرفة المعنى. ولكن المفكِّر الفرنسي بول ريكور (1913م) في نفس الوقت الذي لاحظ فيه ما في الهرمنيوطيقيا من بُعدٍ وجوديّ، اتَّجه لسوق البحث فيه إلى المنهج المعرفيّ، فدخل في مسألة البحث عن المعنى.
لمَّا كان كلُّ نوعٍ من الفهم ممَّا يتعلَّق بمعرفة الوجود يَعتمد على اللغة، كان لا بدَّ لكافَّة أقسام معرفة الظواهر التي هي في صدد الوصول إلى فهمِ الوجود من أن تكون من سنخ البحث عن معرفة المعنى. ويرى ريكور أنَّنا لا يُمكننا الوصول إلى معرفة وجودٍ مستقلّةٍ ومباشِرةٍ بالنحو الذي سار عليه هايدغر. من جهةٍ أُخرى فإنَّ كلَّ علمٍ
________________________________________
(81) - م، ن، ص171 -173.
(82) - م، ن.

[الصفحة - 128]


لمعرفة الوجود معتمدٍ على التأويل مليءٌ بعنصر الرمز، ولذا لا يُمكن لنا الوصول إلى معرفة الوجود إلا من خلال العبور عن طريق معرفة المعنى. ولا بدَّ من دراسة الظواهر وإرجاع الرمز إلى جذوره الأعمق وتوسعة الرمز وتجاوز المستوى الظاهريّ للمعرفة للوصول إلى مقاربة معرفة الوجود (83) .
توسعة مفهوم النصّ
يتَّجه ريكور بعلم الظاهرات الهمرمنيوطيقيّ ومن خلال توسعته لمفهوم النصِّ إلى القول المكتوب (written discourse) والنصّ (text)، ناحية تفسير النص، الرمز، الاستعارة، التحليل النفسي، الرؤيا، علم الأساطير وتحليل الفعل الاجتماعي. فمن خلال تفسير الرموز تبدأ عمليَّة الوصول إلى المعنى الداخليِّ لكلِّ رمز (84) . وبحسب تعبيره لا بدَّ من أن نتأمَّل ليس في الرمز فقط، بل أن نبدأ بالرمز، الرموز التي لا يَفنى جوهره (85) .
وللرمز عند ريكور مفهوم أوسع فهو يشمل كلَّ بُنيَةٍ دلاليَّةٍ تحتوي مضافاً إلى المعنى المباشر والأوَّلي للفظ على معنىً آخر غير مباشر، وهو معنى ثانويّ ورمزيّ ويُعرَف من خلال المعنى الأوَّلي (86) .
وطبقاً لنظريَّة ريكور فإنَّ للتفسير ميداناً واسعاً، فمتى كان لظاهرةٍ أكثر من معنى (polysemy) ـ حتَّى اللغة الطبيعيَّة ـ بسبب ارتباطها بالمحيط (Context) فإنَّها تحتاج إلى تفسير.
إنَّ أبسط مدلول يتمُّ بيانه من خلال اللغة العاديَّة لا بدَّ له من تفسير؛ وذلك لأنَّ كلَّ الكلمات تحمل معاني متعدِّدة وإنَّما تكتسب معناها الخاص من خلال ارتباطها بالمحيط والمخاطب المفروض ضمن المحيط فقط. والتفسير، بمعناه الواسع هذا، هو عمليَّة يُمكن من خلال الاستعانة بها الوصول إلى كافَّة الأسباب المحيطة واستخدامها في سبيل معرفة المعنى الواقعيّ للكلام في ظرفه الخاصّ به(87) .
________________________________________
(83) - نيتشه، فردريك، وآخرون، هرمنوتيك مدرن، نقله إلى الفارسية بابك أحمدي، مهران مهاجر ومحمد نبوي، في مقالة (وجود هرمنوتيك).
(84) - در آمدى بر هرمنيوتيك، ص 356 -366.
(85) - the conflict of interpretations, P. 299.
(86) - م، ن، ص 12.
(87) - در آمدى بر هرمنيوتيك، ص 359 نقلاً عن: Text and interpretation as Categories of Theological Thinking, PP 42-43.

[الصفحة - 129]


من المسائل التي عالجتها نظريَّة الهرمنيوطيقيا عند ريكور هو ما يراه من فوارق بين الكلام والكلام المكتوب والذي يُطلَق عليه النص وهذه الفوارق تتمثَّل بالتالي:
ألف ـ في النصِّ المكتوب المعنى يتقدَّم على النصّ، وذلك خلافاً للمنطوق، فإنَّ المعنى هو نِتَاج نفس حدث النطق.
ب ـ في الكلام المنطوق يكون قصد المتكلِّم منطبقاً بشكلٍ دائمٍ مع كلامه، وأمَّا في الكلام المكتوب فمن الممكن أن يكون المعنى أوسع من قصد المؤلِّف. (مسير النص، الخروج عن الأفق المحدود الذي وضعه فيه المؤلِّف. فما هو في النص أوسع مما كان مقصوداً للمؤلِّف. والكثير من التفاسير التي تتَّبِعُ معنى النصّ، تفتح طريقاً يُمكن من خلاله وبالاعتماد على علم النفس من القطيعة مع المؤلِّف) (88) .
ج ـ إنَّ المخاطَب في الكلام المنطوق وبسبب الظروف وشروط الحوار يكون محدَّداً، وأمَّا في الكلام المكتوب فإنَّه لا وجود لمخاطبٍ خاص، ومن هنا قد يَبتعد النصُّ عن المحيط الاجتماعيّ ـ التاريخيّ الذي ولد فيه (decontextualise). وقراءة النصِّ لا ترتبط بهذا المحيط.
د ـ إنَّ النصَّ يحمل إمكانيَّة الخروج عن الدائرة الضيِّقة للمدلول والظاهر المحكيّ، وذلك خلافاً للكلام المنطوق فإنَّ المعنى والمدلول ينحصر بالظروف المحيطة بالحوار (Sitaatoin dialogical) (89) .
ويقوم ريكور بتطبيق خصوصيَّات النصِّ المذكورة على (الفعل الإنسانيِّ)، بلحاظ أنَّ الفعل الإنسانيَّ هو أيضاً يُمكن اعتباره نصاً ويقول: «ما أدّعيه هو أنَّ الفعل بعنوان كونه أمراً ذا معنى، قد يشكِّل موضوعاً (Object) للعلم (science) دون أن يفقد المعنى الذي يحمله. فالنصُّ قد ثبت كونه موضوعاً للبحث العلمي، والفعل أيضاً مشمول بنوع من الموضوعيّة؛ وعليه ليس الفعل مجرَّد واقعةٍ تقع، بل هو سببٌ لقيام عيِّنة مصوَّرة تستدعي التفسير من خلال ملاحظة علاقاتها الداخليّة» (90) .
وعلى أساس هذه الرؤية، يكون العمل حاملاً لما في النصِّ من خصوصيَّات.
________________________________________
(88) - Hermeneutics and the human scienes, P. 201.
(89) - در آمدى بر هرمنيوتيك، ص 362 نقلا عن: Critical Hermeneutic, P. 52.
(90) - المصدر نفسه، نقلاً عن: Hermenetics and Socal scienes, PP, 203- 204.

[الصفحة - 130]


ويُذعِن ريكور بأنَّ مقولة الهرمنيوطيقيا تؤدِّي وظيفة تفسير الفعل الاجتماعيِّ أيضاً. ونموذج تفسير النصّ المكتوب ينفع في فهم السلوكيّات الإنسانيّة الهادفة، الأمور التاريخيَّة، والأنشطة الاجتماعيّة.
ويرى ريكور، أنَّ أهميَّة علم اللغة في التفسير تنبع من كون الكلام سواء أكان مكتوباً (text) أو مقولاً ومنطوقاً (Speech) هو نشاط لغويٌّ. والكلام مؤلَّف من جملة، ولذا كانت الخطوة الأولى في عمليَّة التفسير تبدأ من البحث عن (علم لغة الجملة).
ويذهب ريكور تبعاً لفريجه (Frege) إلى أنَّ معنى القضيّة (Senes) هو غير المحكيُّ (reference) فيها. فالمعنى هو عبارة عمَّا تحمله كلُّ قضيّة أو بُنيَةٍ لغويّة، وأمَّا المحكيِّ فهو لا يوجد إلا في البيان؛ وإن كان لهذا البيان عالمه الذي يدلُّ عليه (91) .
ويتبنَّى ريكور في نظريَّته التفسيريَّة الاعتقاد ـ تبعاً للدِّراسات التي قام بها فلاسفة اللغة أمثال جان سرل (Searle) وآستين (Austin) ـ بأنَّ الهرمنيوطيقيا تحتاج، مضافاً إلى علم اللغة (Linguistics) وتحليل بُنيَة الجملة، إلى الفعل الكلاميّ (Speechact). ويرى علماء اللغة هؤلاء أنَّ فعل الكلام له مستويات ثلاثة؛ القول (ظاهر القضيَّة ـ العبارة)، الفعل الكلاميّ (الاستفادة من اللغة للقيام بفعلٍ كاستعمال صيغة الأمر لإصدار أمر)، ونتيجة الكلام وهي التحريك في المخاطب (كالخوف).
ويؤكِّد ريكور على المستوى الثالث للكلام والذي يدلُّ على محتوىً وراء العبارة (Perlocationry) والذي يرتبط بحالات المخاطب وظروفه. ويرجع تأكيده لهذا الأمر إلى كونه يرى التفسير هو التخصيص بالنفس (appropriation)، أي التفسير للنفس (self Interpretation) أو الباعث على الإدراك الأفضل، ومن الطبيعيِّ أن يكون التفسير على هذا الأساس متعلِّقاً بزمان حضور المفسِّر، ولا محل لذلك الفاصل الزمانيّ بين الأثر والمفسِّر (92) .
إنَّ من النقاط المشتركة بين نظريَّة الهرمنيوطيقيا عند ريكور والهرمنيوطيقيا الفلسفية، هو في بُعد انفصال النصِّ عن مؤلِّفه واستقلال معناه وإغفال قصد المؤلِّف
________________________________________
(91) - راجع، در آمدى بر هرمنوتيك، ص 373 -374.
(92) - م، ن، ص346 350.

[الصفحة - 131]


ومراده من النصّ (93) . وأمَّا البُعد الآخر فهو استقلال معنى النصّ في نظريّة ريكور والذي يشكِّل أرضيّة إبعاد القرينة وقطع العلاقة بين النصِّ والبيئة التي ولد فيها (Context)، وإمكانيَّة الوصول إلى قراءات لا نهاية لها، وهذه الرأي هو النتيجة نفسها التي تبنَّتها نظريَّة الهرمنيوطيقيا الفلسفيّة (94) .
ومع ذلك كلِّه، فكما يلتزم ريكور باستقلال النصِّ عن المؤلِّف، كذلك يلتزم باستقلال النصِّ عن المفسِّر. فهو وخلافاً لغادامر الذي ذهب إلى اندماج أُفق المعنى عند المفسِّر مع النصّ، يُقرُّ بأنَّ من الممكن أن يكون ما نفهمه من النصّ لا ينطبق على ما يريده النصُّ في الواقع، وبهذا يؤكِّد على استقلال معنى النص عن القارئ.
وعمليَّة تفسير النصّ عند ريكور تشتمل على ثلاثة عناصر: التبيين (explanation)، الفهم (anderstanding) والتخصيص بالنفس (appropriation).
أمَّا عنصر التبيين وهو الذي يُطلق عليه جهة العبارة (locationary) فهو يحمل بُعداً لغويّاً، وهو يرجع إلى البحث عن نظام المفردات، والبُنيَة اللغويَّة المسيطرة على النصّ ومستوى العلاقات اللفظيّة في النصّ. والتفسير يَبدأ من هذه المرحلة ليصل إلى عنصر الفهم أي إدراك مفاد (Meanong) النصّ. وأمَّا العنصر الثالث، والذي يشكِّل مرحلة التفسير والذي يُطلِق عليه ريكور أنَّه جهة ما وراء العبارة، فهو ناظرٌ إلى مواجهة المفسِّر لمعنى النص، أي قصد النص ومراده وهو الدلالة (semantics)، وهذا الجهد لا يرمي إلى الوصول إلى المعنى المخفيّ في النصِّ فقط، بل عمَّا يَظهر أنَّه متقدِّمٌ على النصّ. فالذي يسبق النصَّ في الاتِّجاه التفسيريّ يَفتح أمام المفسِّر عالماً يختصُّ به (95) .
ويرى أنَّ عمليَّة تفسير النصّ هي عمليَّة ذات نزعة عامّة (holistic) وتركيبيّة (Camalative)؛ أي لا بدَّ من النظر إلى النصّ نظرةً عامّةً، والدخول في فهم المقصود منه دون نظرٍ إلى معاني جملات النصِّ كلاًّ على حدة. وعندما ننظر إلى النصّ نظرةً عامّةً فإنَّ بعض عناصره وأجزائه المكوِّنة له يكون أساساً (بحسب حدسنا gaess)
________________________________________
(93) - Hermenetics and Socal scienes, P,201.
(94) - راجع، در آمدى بر هرمنوتيك، ص 382 ، نقلا عن Hermenetics and Socal scienes, P,164
(95) - راجع، المصدر نفسه، ص388 نقلا عن Ibid, p, 218.

[الصفحة - 132]


وبعضها يكون فرعيّاً، وعلى هذا الأساس يتمُّ النظر إلى النصِّ نظرةً مختلفةً باختلاف المنظار المستخدَم لذلك. ففي كلِّ منظارٍ يتمُّ النظر إلى بعض الأجزاء والعناصر على أنَّها أساس وإلى بعضها الآخر على أنَّه فرعيّ؛ وبهذا ينجرُّ النص إلى قراءات وتفاسير متعدِّدة (96) .
ويؤكِّد ريكور ضمن تبنيِّه لتعدّد القراءات على ضرورة إجراء عمليَّة تقييم لكلِّ قراءة، وتبعاً لنظريَّة هرش يسلّم بأنَّنا لا يُمكننا منهجيّاً أن نرى بأنَّ تجربة تفسيريَّة معينة هي المطابقة للواقع (truth)، بل ملاك التقييم والاعتبار (Validity) هو منطق الاحتمال (Probability)، ولا بدَّ من البحث عن أقوى القراءات احتمالاً (97) . وهو بهذا يسعى للفرار من مذهب الشكّ.
على الرغم من أنَّ ريكور سعى جاهداً ليبني نظريَّته في الهرمنيوطيقيا على أساس معرفة المعنى (Semantie) وتفسير الرموز (Symbogs) والأساطير (Myths) وذلك في سبيل هدفه الأساس وهو الإجابة عن الأسئلة الرئيسة التي ترتبط بعمليّة الفهم وتفسير النصّ، وبيان العلوم الإنسانيّة والتاريخيّة، وتسهيل عمليّة معرفة المعاني عن طريق تفسير كافَّة الأمور القابلة للتأويل أو التي تتكوّن من رموز، ولكنَّ السؤال هو أنّه هل كان موفَّقاً في ذلك؟ والجواب عن ذلك يُمكننا ملاحظته في بعض مصنَّفاته.
إنَّ كافَّة المزايا التي ذكرها ريكور للتفسير، كاستقلال معنى النصّ عن قصد المؤلِّف والقطيعة بين النصِّ والبيئة التي ولِدَ فيها (context)، الفصل بين المعنى (Sense) والمحكيِّ والمفاد (Refernce)، النظرة العامّة للنص (holistic) وارتباط هذه النظرة العامّة من جهة تحديد العناصر الأساس والفرعيَّة في النصِّ بحدس المفسِّر، وتخصيص النصِّ بنفس المفسِّر (appropriation) بعنوان كونها المرحلة النهائيّة في عمليَّة التفسير، أقول كلُّ هذا يشكِّل أرضيّة للوصول إلى نوعٍ من النسبيّة والوقوع في وادي الشكّ في مسألة التفسير (98) .
________________________________________
(96) - م، ن، ص391
(97) - م، ن، ص392.
(98) - راجع، در آمدى بر هرمنوتيك، ص420.

[الصفحة - 133]


إخفاق الهرمنيوطيقيا الفلسفيَّة
لقد جعلت الهرمنيوطيقيا الفلسفيَّة بمختلف اتِّجاهاتها نفسها في موضع يداني النسبيّة وتعدّد القراءات مع عدم تمكّنها من الفصل بين الموضوع والنصّ من جهةٍ وبين فاعل المعرفة من جهةٍ أُخرى، ولم يُكتَب لها النجاح في أن تخرج سائر النظريَّات والاتِّجاهات الأخرى من ميدان الفكر البشريّ، بل تمكَّنت النظريَّات المنافسة للهرمنيوطيقيا من محاصرتها ومنذ ولادتها وإلى اليوم في مجال ضيّق.
ويؤكِّد أميلبو بتي الحقوقيّ الإيطاليّ (1968م) المعاصر لغادامر، على الرغم من تبنيّه لنظريّة الهرمنيوطيقيا الفلسفيّة في مجال بيان البُعد الوجوديّ للفهم، على المنهج الهرمنيوطيقيّ التقليدي لشلاير ماخر وغيره على أساس أنّه منهج لمعرفة مراد ومقصود المؤلِّف.
ويرى بتي أنَّ التفسير هو جهد يُسعى من خلاله للوصول إلى الفهم. وعليه فهو مع تسليمه بإمكان الفهم والتفسير العيانيّ، يرفض مقولة استناد الفهم إلى (القبليّات) و(تاريخيّة الإنسان) لنفي إمكان الفهم والتفسير العيانيّ. ويرى أنَّ إدراك الحقيقة بنحو الإجمال أمرٌ ممكنٌ دائماً.
كما يرى بتي أنَّ التفسير يقوم على أسس ثلاثة: قوالب المعنى في النصّ، هدف المؤلِّف والأفق الذهنيّ للمفسِّر. ووظيفة التفسير معرفة الأفكار والمحتويات المخبوءة في الموضوعات التي لها معنى. أي كما أنَّ النص هو تجلٍّ لذهن المؤلِّف وصاحب النص، فإنَّ النقطة النهائيّة التي تسعى إليها نظريّة الهرمنيوطيقيا هي الوصول إلى ذهن المؤلِّف؛ لأنَّ المفسِّر يسعى من خلال ذلك وعن طريق تفسير النصّ لفهم ذهن المنتِج للنصّ ومعرفة وإعادة إنتاج المعنى المتبلور في طيّات النصّ الذي هو نتاج فكر المؤلِّف.
ويعرض بتي قواعد أربعة للوصول إلى الهدف من عمليّة التفسير. الأولى، لحاظ النصِّ بحسب المحيط الذهنيّ الذي ظهر فيه وحفظ جهة الحكاية في الموضوع،
________________________________________

[الصفحة - 134]


الثانية، تمامية المعنى وانسجامه، أو تلاؤم معنى الجزء مع معنى النص كلِّه؛ الثالثة، إعادة تنمية العمليّة الذهنيّة التي أدَّت إلى إيجاد النص في ذهنه وإعادة إنتاج أو ترجمة الذهن المبدِع للأثر في داخله، والرابعة، التطابق الهرمنيوطيقيّ مع المعنى أو انسجام الحالة الذهنيّة للمفسِّر مع الموضوع(99) .
وكذلك يُمكننا أن نذكر هنا هرش والذي أدخل الهرمنيوطيقيا الفلسفيّة في أزمة. حيث يرى هرش أنَّ لقصد المؤلِّف دوراً أساساً؛ وذلك لأنَّه يرى أنَّ معنى النص وثبات ذلك المعنى وتعيّنه وإمكان الوصول إلى تفسيرٍ عيانيّ للنصّ يرتبط بقصد المؤلِّف. ويرى هرش أنَّ معنى اللفظ ليس هو نتاج المفردات، بل هو مرتبطٌ بالمعرفة وقصد المؤلِّف؛ لأنَّ الألفاظ بنفسها لا معنى لها، إلا أن يقصد أحد شيئاً منها. أو يَفهم شيئاً منه (100) . ولذا يردّ هرش نظريّة انفصال معنى النص عن المؤلِّف.
إنَّ ربط معنى النصّ بمعرفة قصد المؤلِّف يترتَّب عليه النتائج التالية: أولاً، إنَّ معنى النصّ أمر محدَّد ومعيّن. ثانياً، إنَّ تعيّن المعنى، هو أساس اعتبار أيِّ عملٍ تفسيريّ وهو ملاك تحديد التفسير المعتبر أي التفسير الذي يتطابق مع قصد المؤلِّف عن التفسير غير المعتبر، وثالثاً، إنَّ معنى النص، أي مقصود المؤلِّف، لا يتبدَّل.
نعم، يرى هرش وجود فرق بين (المعنى) و(معنى اللفظ) و(المعنى بالنسبة إلى). فـ (معنى اللفظ) يبقى ثابتاً على ما كان عليه قصد المؤلِّف عند ولادة النص. وما يقع فيه التغيير إنَّما هو (المعنى بالنسبة إلى) ـ المخاطبين ـ وهو المراد منه خارجاً.
ويرى هرش وجود اختلاف في طريقة التعامل مع النصّ، وهذا الاختلاف ويبتنى على اختلاف الفهم، التفسير، الحكم والنقد. ويرى أنَّ الهدف الذي يَبحث عنه المفسِّر هو السعي لإدراك المعنى المقصود للمؤلِّف واستيلاد ذهنه ثانية (Reproduce). ومن هنا يوجِّه نقده الأساس لغادامر الذي التزم بأنَّ التفسير هو نشاط توليديّ من المفسِّر دون لحاظ قصد المؤلِّف. ويرى أنَّ غادامر وقع في مشكلة التعارض، فهو من جهة يرى استقلال معنى النصّ المنتِج لتعدُّد معاني النصّ، وكون التفسير إعادة إنتاج،
________________________________________
(99) - راجع، م، ن، ص435 -456.
(100) - Eric, D , Hirsch: Validity in Iner Pretation, P.4.

[الصفحة - 135]


لا نهائيّة التفسير والتفكيك وعدم ثبوت أيِّ ملاك لعملية التفسير، ومن جهةٍ أُخرى يتحدَّث عن فكرة: أيُّ التفاسير هو أقرب إلى الحقيقة؟
ويرى هرش أنَّ علم التفسير يقوم على أساس (منطق الاعتبار). ويعتقد بأنَّ المفسّر وإن لم يتمكَّن من الوصول إلى اليقين بأن فهمه يُطابق مراد المؤلِّف والحكم بذلك، إلا أنَّ عدم إمكان وجود هذا الاطمئنان لا يؤدِّي إلى عدم إمكان إدراك مراد المؤلِّف. فإذاً الاعتبار الفعليّ (Present Validity) هو الهدف من عمليّة التفسير. ولذا يقترح هرش ضرورة الخضوع لمعايير يتمُّ من خلالها تأييد أي تفسير.
ويوجّه هرش واعتماداً على الأسس الهرمنيوطيقيّة التي يتبنّاها نقده الجديّ لتاريخيّة المعنى؛ وإن كان بناءً على تاريخيّة المعنى، لا يكون تبدّل المعنى راجعاً إلى فعل اللغة. ومع قطع النظر عن أنّ هذه الفكرة المعياريّة تسدُّ الباب أمام إعمال أيّ ميزان لمعرفة التفسير الصحيح، فهي تؤدِّي إلى نوع من الفوضويّة الفكريّة بنحوٍ لا يبقى أيُّ طريق لتحديد المعنى (101) .
وكما لاحظنا فإنَّ الهرمنيوطيقيا الفلسفيّة هي من جملة التحوّلات الفكريّة في العصر الجديد والتي من خلال ارتباطها الوثيق بمجال معرفة المعنى ولغة النصوص الدينيّة، وضعت صعوبات مهمَّة أمام إنتاج فهم منهجيّ لها، وذلك من خلال التفكيك وتجاهل التصورات العقلائيّة العاديّة في دائرة الوضع والدلالة ممَّا أدَّى إلى سدِّ الباب أمام أيِّ تفسير معتبر. وكأنَّ هذا الاتِّجاه وقع في أزمة تناقضاته الداخليّة، ولكن ملاحظته في تكوّن لغة الغرب الدينيّة الجديدة تستحقُّ التأمل الجدّي.
________________________________________
(101) راجع، در آمدى ير هرمنوتيك، ص 457 -489؛ حلقة انتقادى، هرمنوتيك، تاريخ، أدبيات فلسفة، ص73-122.

[الصفحة - 136]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف