البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

February / 18 / 2017  |  1789تركيا وايران : صديقان لدودان وخصمان ودودان

مجموعة الأزمات الدولية مجموعة الأزمات الدولية | International Crisis Group 13 كانون الأول 2016 - 13 December 2016
تركيا وايران : صديقان لدودان وخصمان ودودان

التحرير: العلاقات التي تشهد توتراً بين تركيا وإيران، لم تخل من محاولات إدارة للصراع لم تصل أبداً إلى المستوى المطلوب الذي يجنب الطرفين خطر الصدام المباشر، يقترح تقرير مجموعة الأزمات ديبلوماسية نشطة وفعالة لتدارك الأسوأ.


لقرنين من الزمن تقريباً ورغم منافستهما الإقليمية الشرسة من بلاد الشام إلى العراق حتى القوقاز، حافظت تركيا وإيران على السلام والطاقة المتنامية والعلاقات التجارية، حتى إنهما تعاونتا على الصعيد الإقليمي حين كانت تلتقي مصالحهما. لكن اليوم، فيما تتشابك اقتصاديات البلدين على نحو متزايد، خلاف عميق حول مصالح أساسية في العراق وسوريا تضع هاتين الامبراطوريتين السابقتين في مسار تصادمي. لم يفت الأوان بعد لترميم مطلوب بإلحاح للعلاقات، لكنه لن يحصل إلا في حال ادركتا الحاجة الهامة لعكس المسار وأقدمتا على خطوات من شأنها أن تسمح لهما بإدارة الخلافات سلمياً، تماماً كما فعلتا مدّة 200 عام تقريباً.

يمكن للإثنيات والثقافات المتداخلة في بعض الأحيان أن تجعل البلدين يبدوان كأنهما وجهان لعملة واحدة، لكن إيران خصم إقليمي ريادي يتكوّن من الإسلام الشيعي والحكم الديني على حد سواء، فيما دستور تركيا العلماني يستند بالأساس إلى الممارسة الدينية السنية. وكما يُعلن المسؤولون والدبلوماسيون من كلا البلدين، تتفق تركيا وإيران عموماً على قوة العلاقة التي نسجاها بعناية خلال تاريخ طويل من التعايش. ولكن منذ الانتفاضات التي اندلع لهيبها في كلّ أنحاء الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا بدءاً من عام 2011، ازداد التوتّر بخصوص كلّ ما يراه أحدهما بأنه مناورة عدائية من الجانب الآخر في بلدين لهما أهمية عند كليهما: العراق وسوريا. وكان عدم قدرتهما على استيعاب بعضهما يهدد بتقويض علاقاتهما القوية حتى فكّها.

كلاهما دعم شركاء ووكلاء محليين في ساحة المعركة أكان في الموصل أو تلعفر أو حلب أو الرقة، وهؤلاء حددوا مواقفهم بالقوة من أجل السيطرة على ما يبقى من أنقاض حروب اليوم. لكن كليهما حاول البناء على مصالح مشتركة ـ هزيمة أو على الأقل إضعاف الدولة الإسلامية والحدّ من صعود الأكراد السوريين الطامحين إلى الحكم الذاتي ـ ومنعتهما الشكوك العميقة بشأن طموحات الطرف الآخر من الانتفاع من الفوضى والتوصل إلى اتفاق بإمكانه التخفيف من حدّة اللهب. بدلاً من ذلك تسير الديناميكيات إلى مزيد من التوترات الطائفية، وتدفق أكبر لشلال الدم، وتنامي عدم الاستقرار في أنحاء المنطقة كافة واحتمال أكبر- حتى عن غير عمد ـ للمواجهة العسكرية بينهما، حيث تتصادم دائرتا النفوذ لديهما. واحتمال قيام طائرة إيرانية بدون طيار بقتل أربعة جنود أتراك في شمالي سوريا في 24 تشرين الثاني 2016، حسبما تدعي تركيا، يُشير إلى تصعيد محفوف بالخطر.

من أجل عكس المسار وتجنب ما هو أسوأ، هما بحاجة إلى التغلب على عدم الثقة المتبادلة. لهذه الغاية، وكأولوية مُلحّة، يجب عليهما أن يؤسسا قناة للتفاوض المتواصل على أعلى المستويات بشأن مواقفهما الإقليمية. سرعة لقاءات كهذه كما كانت تُعقد واجهت معضلة: لقاءات رفيعة المستوى دورية تدوم يوماً أو يومين، تليها فترات طويلة نسبياً من الفراغ الدبلوماسي الذي ينتهي بأن يملأه تصعيد حروب الوكالة ومزايدة أحدهما. فيجب على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والمرشد الأعلى علي الخامنئي في إيران تعيين ممثلين خاصين مع سلطة إدارة القناة الدبلوماسية.

إذا أقدما على هذا الأمر، ومن أجل إظهار الجدية والنية الحسنة، يجب على الحكومتين أن تقدما على خطوات بناء الثقة، بدءاً من مزيد من التعاون الاستخباري إلى تخفيف التصعيد المنسّق حيث الصراع في أوجه. في شمالي العراق، قد تقدم إيران كخطوة أولية على كبح المليشيات الشيعية المنتشرة في محافظة نينوى، حتى لو كانت وحدات محسوبة اسمياً على رئيس الحكومة العراقية باعتباره رئيس هيئة الأركان، وفي المقابل توافق تركيا على سحب دباباتها وأسلحتها الثقيلة الأخرى من المنطقة. فمن شأن إجراءات بناء الثقة، إذا ما نُفذت على النحو المطلوب، أن تعبّد الطريق أمام التوافق على مبادئ الجيرة الحسنة والاعتراف المتبادل بالمصالح الأساسية للطرف الآخر وتشريع المخاوف الأمنية في المنطقة والتعبير عن الخطوط الحمراء الواضحة ذات العلاقة بالأعمال التي يعتبرها أي منهما عدائية.

كما أن الولايات المتحدة وروسيا، اللتين تتمتعان بعلاقات عسكرية قوية مع تركيا وإيران على التوالي، يجب عليهما في كل حال من أحوال عدم الاتفاق وتداخل المصالح أن يدعما خطوات مماثلة. لغاية الآن، لا تزال تركيا وإيران ضمن شبكة العلاقات الروسية ـ الأمريكية، مع مناورة خلق مجال للقرارات الذاتية؛ ستكونان قادرتين على النجاح في الحد الذي تجدان إليه سبيلاً للتعاون.

إن تخفيف التصعيد ومزيدا ًمن التعاون بين أنقرة وطهران ضروريان لكن غير كافيين لحلّ الأزمات المتفشية والمتداخلة التي تشمل كثيراً من الأطراف والتوترات الطائفية المشتعلة. وحتى التوصل إلى تلك المرحلة سيكون صعباً. فالتقويمات الانتخابية في كلا البلدين وضرورات السياسة المحلية وتحقيق التوازن في العلاقات مع الشركاء الإقليميين، كلها أمور قد تمنع التقدم في هذا المسار. لكن السعي سيكون هاماً ويجب أن يغدو مطلباً؛ من شأنه على الأقل أن يُساعد في تقليص التوترات الطائقية التي تشعلها الخطابات غير الـمـساعــدة لقيادات كــلا البلدين.

يمكن من خلال إيجاد أرضية مشتركة، جعل تركــيا وإيــران تسهمان في منطقة أكثر استقراراً وآماناً. أما البديل ـ المتبلور في دينامكية صفر نتيجة التي تُميز علاقات إيران بالقوة السنية الكبرى الأخرى في المنطقة، السعودية- فهو مزيد من الفوضى والمعاناة.

توأم سيامي في المنطقة

منذ زمن تتنافس تركيا وإيران على الهيمنة على المنطقة المجاورة المشتركة، ولا سيما بلاد الشام والعراق، لكن منذ الحرب العثمانية ـ الفارسية وساعة النطاق الأخيرة (1821 - 1823)، حافظ البلدان على علاقات سلمية إلى حد كبير. ورافقت المنافسة انتقالهما من إمبراطوريتين إلى دول وطنية، فتصاعدت أحياناً عند التغيرات الجيوسياسية التكتونية، مثل انهيار الاتحاد السوفييتي، الذي فتح مجالاً للتخاصم في القوقاز وآسيا والوسطى، وتفكك يوغوسلافيا والاجتياحين الأمريكيين لأفغانستان والعراق. ومؤخراً، وفّرت الانتفاضات العربية عام 2011 لكلا البلدين، مع التظاهر بأنهما بطلا الحركات الشعبية، فرصة من أجل إعادة رسم المنطقة وفقاً لمصالحهما.

لكونهما أقوى دولتين غير عربيتين في المنطقة، مع أحجام جغرافية وديموغرافية مشابهة وإرث دولة مماثل، لم تنظر تركيا وإيران أحدهما للآخر باعتباره تهديداً وجودياً. لكن خلافاتهما الاجتماعية والسياسية والدينية والعرقية الهائلة وضعتهما في أغلب الأحيان وجهاً لوجه، كما فعل التوجه الجيواستراتيجي لا سيما علاقات تركيا بالولايات المتحدة وإسرائيل وعدائية إيران لكلتيهما. ولكن البلدين يتميزان بعلاقات تاريخية وثقافية واقتصادية عميقة. وخلال العقديــن المنصــرمين، بـــاتت اقتصاداتهما متداخلة على نحو متزايد. فتوفر إيران تقريباً خُمس حاجات تركيا من النفط والغاز الطبيعي؛ وتركيا هي بوابتها الجارة إلى أوروبا، مع أكثر من خُمس تجارة إيران تمر عبر أراضيها. وهذا الرابط بات حبل النجاة لإيران خلال الفترات الأخيرة الأكثر إيلاماً، الحرب مع العراق 1980-1988 وفي أوج العقوبات النووية 2011-2013.

في أعقاب راحة إيران من عبء الثقل الاقتصادي، الذي أنهكها إثر رفع العقوبات  نتيجة للاتفاق النووي عام 2015، بدا أن البلدين ملتزمان بتعزيز تجارتهما الثنائية التي بلغت قيمتها نحو 10 مليار دولار،  مع تسييج خلافاتهما الإقليمية. لكن القدرة على فعل ذلك من المحتمل أنها لعاملين اثنين: المخاوف المشتركة تجاه الانفصال الكردي والمصالح المتشابكة في صوغ النظام السياسي في العراق وسوريا. قد يكون الأول قربهما أكثر، أما الثاني فقد باعدهما أكثر- في حين أن عدم اليقين بشأن مصير الصفقة النووية مع قدوم الإدارة الأمريكية الجديدة، التي يبدو أنها منكبة على كبح النفوذ الإقليمي لطهران، يُهيمن على الأهمية الحيوية لارتباطاتهما الاقتصادية ويُظلّل علاقتهما العامة.

مخاوف مشتركة

تتخوف تركيا وإيران ـ تأويان على التوالي أكبر وثاني أكبر كتلة سكانية كردية ـ من الميل الانفصالي الكردي. وحزب العمال الكردستاني في تركيا يقود تمرداً منذ عام 1984 حصد من الأرواح نحو 40000 نسمة. والامتداد الأخير للصراع، منذ انهيار محادثات السلام في تموز 2015، اتسم بالدموية وأدى إلى تدمير أجزاء كثيرة من جنوبي شرق تركيا. إيران هي الأخرى واجهت منذ زمن حركات كردية متمردة، لكن المتمردين كانوا مفككين ومتناثرين. شنّ الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران انتفاضة مسلحة في أعقاب الثورة الإسلامية عام 1979 لكنها قُمعت عام 1982. استمر الحزب الديمقراطي الكردي وجماعة أخرى اسمها كوملة في خوض مستوى متدن من التمرد لغاية عام 1996، تاريخ إلقائهما للسلاح. ظهرت عام 2004 مجموعة جديدة تطلق على نفسها اسم حزب الحياة الحرة الكردستاني التي تتبع لقيادة حزب العمال الكردستاني وعقيدته لكنها أيضاً توصلت عام 2011 إلى وقف لإطلاق النار، رغم استمرار بعض الاشتباكات العرضية.

شهدت إيران منتصف عام 2016 إحياءً واضحاً وإن كان قصير الأمد للتمرد الساكن إلى حد كبير في المنطقة الكردية فيها. ومن المحتمل أن تكون بعض الهجمات قد نُفذت بتحريض من قبل الخصوم الإقليميين مثل السعودية كانتقام بسبب التدخل الإيراني الملموس في ساحاتهم الخلفية. كما أنه ليس من الواضح ما إذا كانت تلك الجماعات المتورطة لديها الدعم الكافي داخل إيران أو لدى مضيفيهم في شمالي العراق حيث كانوا متمركزين من أجل متابعة القتال. في الوقت عينه، اتخذت الحكومة إجراءات تعديلية في ردها على مطالب المنطقة الكردية المُزمنة في الاستثمار والتنمية الاقتصادية والتعليم بلغتهم الأصلية.

في التعامل مع الشعور القومي عند عموم الأكراد، غالباً ما تعاونت تركيا وإيران، لكنهما كانتا على خلاف في الأعوام الخمسة الماضية. في العراق، تدعم أنقرة مسعود البرزاني، رئيس إقليم كردستان رغم دفعه من أجل حصول استفتاء على إقامة الدولة. وتدعم طهران خصوم البرزاني من الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طلباني وحركة التغيير (غوران) وحزب العمال الكردستاني الذي تمدد إلى شمالي العراق، بما في ذلك سنجار وجنوبي كركوك.

في شمالي سوريا أيضاً، يدعم البلدان جماعات كردية مختلفة. ورغم أن حزب العمال الكردستاني القوي وتفرعاته يشكلون نظرياً تهديداً لكليهما، فإن المكاسب المناطقية الشاملة التي يحرزها حزب الاتحاد الديمقراطي السوري التابع لحزب العمال الكردستاني وجناحه العسكري الذي يحمل اسم وحدات حماية الشعب الكردي تقف مباشرة في تعارض مع المصالح التركية وتحصل بموافقة ضمنية من طهران في دعم للنظام السوري. ويقول المسؤولون في أنقرة إن تلك المكاسب قوّت حزب العمال الكردستاني من خلال منحه الدعم اللوجستي والعملاني لشن هجمات في تركيا وسلخ تركيا عن العالم العربي وتعبيد الطريق أمام تأسيس دويلة في شمالي سوريا وهي المنطقة التي يدعوها حزب العمال الكردستاني ومتفرعاته باسم «روجافا» (كردستان الغربية).

تقدّم تركيا الدعم للمجلس الوطني الكردستاني، إئتلاف من اثني عشر حزباً كردياً سورياً صغيراً مع علاقات وثيقة بالأحزاب الكردية العراقية، كثقل موازن في وجه حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري. وشجعت الحزب الديمقراطي الكردستاني على السيطرة على الحدود بين كردستان العراقية والسورية، وهي حبل نجاة حزب الاتحاد الديمقراطي السوري مع العالم الخارجي. كما تدخلت عسكرياً في شمالي سوريا في آب 2016: هدفت عملية درع الفرات لمنع وحدات حماية الشعب الكردي من وصل معقليها الشرقيين، الجزيرة وكوباني، بعفرين، وهي معقلها الثالث في شمالي غرب حلب، ودفع الدولة الإسلامية بعيداً عن الحدود وإنشاء منطقة آمنة تكفي لاستيعاب جزء من السكان النازحين في سوريا.

أما إيران، في دعم أولويات الحكومة السورية لمحاربة المتمردين المناهضين للنظام والسعي إلى ردع تركيا عن دعمهم، فقد تواصلت على مر السنوات الخمس الماضية مع قيادة حزب الاتحاد الديمقراطي السوري حتى إنّها شجعتها على التوسع مناطقياً لمنع وقوع تلك المناطق تحت سيطرة المعارضة المسلحة. لكن علاقات الحزب مع الولايات المتحدة وروسيا، وإعلانه نظاماً فدرالياً في المناطق الخاضعة لسيطرته في آذار 2016 يبدو أنها حوّلت مفهوم طهران بشأن الجماعة من كونها حليفاً تكتيكياً لتتحوّل إلى تهديد استراتيجي محتمل. وعلّق مسؤول إيراني قائلاً: «الحكم الذاتي مُعدٍ. فمنطقة كردية مستقلة (في سوريا) ستنقل عدوى الانفصال إلى إيران والعراق وتركيا، ما يضع الدول الإقليمية الأساسية أمام أرخبيل من الدويلات الضعيفة». وأضاف آخر:

«إيران قلقة من احتمال قيام دولة كردية، لكنها لا تشعر بالتهديد من القضية الكردية نظراً لاندماج الأكراد الإيرانيين بعمق في مجتمعنا. بناء ًعليه، توافق إيران تركيا في معارضة قيام دولة كردية، لكن لا توافق بشكل أساسي على مقاربة تركيا تجاه أكرادها».

تحذر تركيا مما تعتبره تواطؤاً بين إيران وحزب العمال الكردستاني، وتسامح طهران مع نشاطات حزب الاتحاد الديمقراطي السوري ـ وحدات حماية الشعب ليس سوى جزء منه. قال جميل بايق، مسؤول رفيع المستوى في حزب العمال الكردستاني: «من المستحيل لحزب العمال الكردستاني أن يتعاون مع بلد لا يحترم الحقوق الكردية. لكن لا إيران ولا حزب العمال الكردستاني يرغب في فتح جبهة جديدة. فهذا من شأنه أن يحرف الانتباه أكثر عن الأولويات الأهم في العراق وسوريا وله انعكاسات محلية خطيرة: ردّ فعل حزب الحياة الحرة الكردستاني في إيران وضغط إقليم كردستان على وجود حزب العمال الكردستاني في العراق».

حتى إن كان لإيران مصلحة تكتيكية قصيرة الأمد مع حزب العمال الكردستاني تتجلى في إلحاق الهزيمة بالدولة الإسلامية مع تعزيز العلاقات مع الشركاء والمتفرعات في العراق وسوريا، فإن مصالحهما طويلة الأمد لا تلتقي. فالأولى تسعى إلى الحفاظ على النظام السائد. أما الثانية فتبذل كل جهد لتحويل معقله إلى دولة كردية. وبعد المكاسب المناطقية والدعم الأمريكي والروسي وضعف الخصوم التقليديين في سوريا والعراق، فإن حزب العمال الكردستاني وتفرعاته لديهم الثقة بأن أي تواطؤ تركي ـ إيراني ضدهم يمكن تجاوزه. قد تكون تلك الثقة مُضخمة، وتؤدي مساعيهم نحو مزيد من ضم الأراضي إلى وضعهم أمام تحالف تركيا وإيران حين تُدحَر الدولة الإسلامية من المناطق التي تحتلها الآن. 

سوء ظن متبادل

رغم علاقاتهما الطويلة، تخفي كُلّ من تركيا وإيران سوء ظن متبادل وعميق. والخوف والريبة جليّان حتى في المجال الاقتصادي الثنائي. لكنهما حادّان خصوصاً حين يتعلق الأمر بالمناورة الإقليمية: كل طرف يرى الآخر ساعياً إلى الهيمنة، إن لم يكن المُراد إعادة مجد ضاع، من خلال وكلاء يمارسون العنف. فتندد إيران بدعم تركيا النشط للمعارضة في محاولة لإسقاط النظام السوري، وبذلك تُعــرّض الرابـــط الاســتراتيجي بين إيران وحـزب الله في لبنان إلى الخطر، وهي تتهمها بدعم الجماعات الجهادية السنية في سوريا والسماح لمجندي الدولة الإسلامية بعبور أراضيها في طريقهم إلى سوريا والعراق. وتركيا قلقة في المقابل مما تراه دعماً إيرانياً لحزب العمال الكردستاني وفروعه في محاولة لاقتطاع منطقة مستقلة عند حدودها مع سوريا، ومن أعمال الجماعات نفسها والمليشيات الشيعية العراقية في شمالي العراق، حيث كانت المنطقة فيما مضى محافظة عثمانية (ولاية الموصل) ولا تزال تعتبرها أنقرة إحدى مقاطعاتها. وتحسب تركيا أن تلك التطورات تشكل تهديداً مباشراً لاستقرار حدودها مع سوريا والعراق والسكان السنة في المنطقة.

في المقابل، تترجم طهران سياسة تركيا تجاه سوريا على أنها نتاج أساسي للطموح العثماني الجديد من أجل استعادة النفوذ على السنة المؤيدين لتركيا وتقويتهم في المناطق التي كانت خاضعة لحكم السلف. قال مسؤول إيراني في الأمن القومي: «ما تغيّر في سوريا (بعد عام 2011) لم يكن من طبيعة الحكومة ولا نتيجة علاقات إيران بها، بل بسبب الطموحات التركية». علاوة على ذلك، تلقي إيران باللوم على أنقرة لأنها لم تمنع تدفق الجهاديين السلفيين عبر أراضيها إلى سوريا وأمنت الدعم اللوجستي والمالي لهم.

في السياق نفسه، يؤكّد المسؤولون في أنقرة أن إيران تسعى إلى إحياء الامبراطورية الفارسية ـ وهذه المرة بنزعة شيعيةـ وهي تفعل ذلك في الأراضي التي كانت خاضعة للعثمانيين سابقاً. في آذار 2015، اتهم رجب طيب أردوغان إيران بمحاربة الدولة الإسلامية في العراق «لتحل مكانها وحسب». وتقول تركيا أيضاً إن حشد إيران للمليشيات الشيعية من أنحاء المنطقة كافــة لحماية حكــم طائفة أقلية، العلويين، على الأغلبية السنية في سوريا يُعمّق التوترات الطائفية ويوفّر للجهاديين السنة أداة تجنيدية ملائمة.

في تبادل الاتهامات، كل طرف يشجب رفض الآخر الاعتراف برؤيته للواقع، مع تجاهل أنّ كل طرف يعمل بشتى الوسائل للإضرار بالطرف الآخر: استخدام القوة الصلبة ودعم أطراف غير رسمية. ومحاولات البناء على أرض مشتركة فشلت نتيجة تلك الشكوك وسوء الفهم وسوء التقدير. في أيلول 2013، طرحت الحكومة الجديدة للرئيس حسن روحاني مبادرة لحلّ الأزمة السورية. وقدّم وزير الخارجية جواد ظريف إلى نظيره التركي أحمد داوود أوغلو ما اعتبره خطةً شارك فيها قائد لواء القدس في الحرس الثوري الجنرال قاسم سُليماني. لكن بعد أشهر من الدبلوماسية المكوكية، النتيجة كانت صفراً، وقال ظريف:

«اتفقنا على كل تفصيل، باستثناء بند في المرحلة الأخيرة من الخطة التي تدعو إلى انتخابات تراقبها الأمم المتحدة. أراد القادة الأتراك حرمان الأسد من المشاركة....فأشارت إلى أن ذلك يجب أن لا يكون محط قلق مع وجود انتخابات مُراقبة دولياً، ولا سيما إن كان الأسد، كما تقول تركيا، يحمل سجلاً مروعاً ولا تقبل به سوى أقلية. لكن داوود أوغلو رفض...... وذهبت جهودنا سُدىً».

لا يُصدّق المسؤولون الأتراك بأن الأسد سيوافق على قيادة مرحلة انتقالية من شأنها أن تؤدي إلى خروجه من السلطة. الأكثر أهمية، هم اعتبروا أن الديناميكيات العسكرية والوقت يصبون في مصلحتهم. وقال الرئيس التركي وقتذاك عبد الله غول: «لم تسع حكومتنا إلى الاتفاق مع إيران لأنها اعتقدت بأن الأسد سيسقط في غضون أشهر قليلة». من وجهة نظر أنقرة، خسارات الأسد في ساحة المعركة ستزيل الحاجة إلى التسوية أو على الأقل تحسّن شروط الصفقة.

بعد ما يُقارب ثلاث سنوات من التصعيد المتبادل في سوريا، ظهرت فرصة ثانية أمام حوار تركي ـ  إيراني بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا في تموز 2016. فقد أدى دعم إيران السريع لأردوغان إلى إعادة الدفء للعلاقات واستئناف المحادثات بشأن سوريا. وعلى الأغلب، ساهمت المصالحة التركية ـ الروسية، التي باتت مُلحة جزئياً نتيجة تقدمات وحدات حماية الشعب الكردي في شمالي سوريا، في إعادة درس أنقرة لسياستها تجاه سوريا.

في هذا الوقت، وضع الطرفان جانباً القضية الأكثر خلافية التي بدت غير قابلة للحلّ: مصير الأسد. واستمرت طهران بالاصرار على أن أي عملية انتقالية سريعة بعيداً عن مشاركة الأسد قبل بسط الاستقرار في البلاد من شأنها أن تؤدي إلى حالة من الانهيار والفوضى التي لن تنفع سوى الجهاديين السنة. من جانبها، أصرت تركيا على رحيله وقال إبراهيم قالين، كبير المستشارين لدى أردوغان: «تخليه عن السلطة هو المكون الرمزي والعملي الأساسي لأي عملية انتقالية مقبولة». بدلاً من ذلك، توافق الطرفان على التركيز في ماهية النظام السياسي (رئاسي أو برلماني) وآلية المشاركة في السلطة اللذين يمكن أن ينجحا في سوريا بعد الصراع. لكن بعد جولتين على أعلى المستويات، أدى التدخل العسكري لتركيا في شمالي سوريا، عملية درع الفرات، إلى تعطيل المحادثات وتفاقم عدم الثقة. وعبّر المسؤولون الإيرانيون عن مفاجأتهم بأن تركيا لم تعلمهم بالعملية رغم حضور مسؤول إيراني رفيع المستوى في أنقرة قبل يوم من العملية. كانت تركيا متخوفة من أن تقدم إيران على تحذير وحدات حماية الشعب الكردي.

بين المنافسة والتعاون

مع كل إخفاق لإيجاد تسوية، كان مسار الخصومة بين تركيا وإيران يغدو أكثر تعقيداً وتصبح الخلافات أكثر استعصاءً. أما القاسم المشترك بين الاثنتين في سوريا فهو عدم قبول أي منهما بأن تُقسم البلاد أو ينتهي الأمر بالفوضى الكاملة. ولكن ما هو بالغ الأهمية عند إيران أنه بغض النظر عن النظام الذي سيسود في سوريا فالمطلوب أن يكون ذا توجه جيواستراتيجي من ضمن «محور المقاومة»: لبسط نفوذها في بلاد الشام عموماً، وعلى وخصوصاً الحفاظ على عمقها الاستراتيجي في وجه إسرائيل من خلال ارتباطها بحزب الله. في حين أن تركيا ترغب في رؤية رحيل الأسد وقيام نظام أكثر شمولية وبقيادة سنية في دمشق يكون صديقاً حميماً وتكون أولويته التمتع بحدود مستقرة وكبح الطموحات الكردية بقيادة حزب العمال الكردستاني. وسعى الطرفان إلى الحفاظ على سلامة الأراضي العراقية أيضاً، لكن مع ضمان أن يكون حكم الأغلبية الشيعية مهماً بالنسبة لإيران بقدر أهمية أن يكون حكماً أكثر شمولية ليضم السنة كما ترغب تركيا.

ليس بالضرورة أن تكون هذه الأهداف حصرية على نحو متبادل، والمصالح في سوريا على الأقل هي اليوم أكثر تقارباً مما كانت عليه قبل خمس سنوات. فإيران وتركيا، كلتاهما تركز على نحو متزايد في محاربة الدولة الإسلامية والعمل ضد إعلان حزب الاتحاد الديمقراطي السوري عن قيام نظام فدرالي في الشمال حيث تتخوفان من أن يؤدي ذلك إلى تقوية القوى النابذة التي تفتت البلاد. ولكن هما بحاجة إلى الحوار من أجل تسوية الخلافات حسب أولوياتهما: احتواء حزب الاتحاد الديمقراطي السوري ـ وحدات حماية الشعب الكردي عند تركيا، وإنقاذ الأسد بالنسبة لإيران.

لغاية الآن، ثمة أسباب كثيرة تدعو للاعتقاد بأن البلدين يُصرّان على مسارهما الحالي بدلاً من تغيير المسار. ولأن تركيا ترى إيران تنتهك على نحو متزايد مجال نفوذها التاريخي، ولا سيما في حلب وحولها وفي ساحات المعارك الحاصلة في الموصل، فذلك يُفاقم التوترات. بعد دحر الدولة الإسلامية من بلدات جرابلس والراي ودابق قرب الحدود التركية بين آب وتشرين الأول، بدأ المتمردون السوريون المدعومون من الجيش التركي بالتقدم نحو الجنوب لإتمام وعد أردوغان بتطهير منطقة تبلغ مساحتها 5000 كم مربع في شمالي سوريا. فإذا ما وصلوا إلى بلدة الباب المهمة استراتيجياً والواقعة شرقي حلب، الخاضعة لسيطرة الدولة الإسلامية لكن تطمع فيها وحدات حماية الشعب الكردي باعتبارها جسراً بين معقليها في كوباني وعفرين، فإنهم سيقتربون وعلى نحو خطر من الجيش السوري والقوات الموالية لإيران، وعلى الجانب الآخر من قوات سوريا الديمقراطية التي تهيمن عليها وحدات حماية الشعب وتدعمها الولايات المتحدة في شمالي حلب. وتدعي تركيا بأن طائرة إيرانية بدون طيار قتلت أربعة من جنودها بالقرب من الباب في 24 تشرين الثاني كإشارة لعدم الإقدام على فعلٍ لا تحمد عقباه.

الديناميكيات نفسها موجودة في العراق. فإصرار تركيا على دور لقواتها الوكيلة التي دربتها في قاعدتها العسكرية في بعشيقة شرقي الموصل وقوات الحشد الوطني من العرب السنة (يُعرفون أيضاً بـ«فرسان الموصل») إلى جانب البشمركة من الحزب الديمقراطي الكردستاني المؤيد لتركيا في عملية استعادة الموصل من سيطرة الدولة الإسلامية أشعل حرباً كلاميةً بين أنقرة وبغداد. ويؤكد المسؤولون الأتراك على أن معارضة بغداد لأي دور وحضور تركي في الشمال ينبع من تحالفها مع طهران.

 في الوقت عينه، المليشيات المدعومة من إيران (قوات الحشد الشعبي) تعبّر عن نيتها في الزحف نحو تلعفر، حامية عثمانية قديمة تقع غربي الموصل وتسكنها أغلبية تركمانية، بحجة منع مقاتلي الدولة الإسلامية من الهرب باتجاه الحدود السورية. واحتمال دخول المليشيات الشيعية تلعفر أثار مخاوف أنقرة، التي نشرت الدبابات والمدافع في مدينة سيلوبي القريبة من حدودها مع العراق في إشارة تحذيرية بتدخلها في حال جرى الانتقام من سنة المدينة. وأدى ذلك إلى صدور رد قاس من رئيس الوزراء العراقي، الذي حذر قائلاً: «لا نريد الحرب مع تركيا....لكن في حال وقعت المواجهة... نحن مستعدون لها...وسنتعامل مع تركيا على أنها عدو». كما تعتبر أنقرة أن يد طهران هي وراء وجود مقاتلي حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب في سنجار، غربي الموصل والقريبة من الحدود السورية. أما وجهة النظر في طهران فهي العكس: تُعتبر تركيا ساعية إلى إنشاء فدرالية تحت سيطرة سنية في شمالي العراق مع حكم ذاتي أكبر، كما أوحى بعض السياسيين السنة العراقيين المقربين من أنقرة، بحجة حماية مجتمعات الأقلية، لكن واقعاً هي خطوة من أجل موازنة نفوذ إيران في أمكنة أخرى داخل العراق.

إن اعتبار أحد الطرفين أن الآخر أمام نتيجة محصلتها صفر فذلك يُقدم مزيداً من قوة الدفع لمواصلة المسار الحالي. فيبدو أن كلاً منهما مُصرّ على تعطيل فرص الآخر. مسؤول أمني تركي صرّح بأن أنقرة «تتخوف من أن انتصار إيران في سوريا أو العراق سيشجعها أكثر على التقدم أكثر نحو حلبة نفوذنا». في المقابل عبّر مسؤول في الأمن القومي الإيراني عن القلق تجاه عرض العضلات التركي، قائلاً، دون مفارقة واضحة تتعلق بدور إيران في العراق وسوريا: «مجرد أن تغير نظاماً أو التركيبات الديموغرافية  للبلدان الأخرى عبر إرسال دباباتك إلى الحدود، فأنت تفرغ مفهوم سيادة الدولة من أي معنى».

الانتقال الوشيك للسلطة في الولايات المتحدة هو الآخر حافز لكلٍّ تركيا وإيران من أجل خلق أكبر قدر ممكن من الوقائع الجديدة على الأرض أمام الإدارة الجديدة في سياساتها تجاه العراق وسوريا. وهذا ما قد يُفسّر الاندفاع الروسي- الإيراني- السوري لإسقاط شرقي حلب ومحاولة تركيا تأسيس منطقة آمنة بحكم الأمر الواقع في شمالي سوريا. وما قد يوازي ذلك في الأهمية النداء المحلي لخطاب وطني صلب في الفترة التي تسبق الاستفتاء الدستوري حول ما إذا كان يجب أن يحظى أردوغان بمزيد من السلطات التنفيذية والمُتوقّع حصوله في منتصف عام 2017 والانتخابات الرئاسية الإيرانية في أيار.

حتى إن كانت الديناميكيات ستمنح على المدى المنظور المكاسب لأي منهما، فهي تنطوي على خطر كبير. فمزيد من التصعيد قد يحول الصراعات بالوكالة إلى مواجهة عسكرية مباشرة، وإن كان عن غير قصد، في شمالي سوريا أو العراق. حتى إن لم يحصل ذلك، فإن التحالفات العابرة للإقليم التي تشارك فيها أطراف أكثر عدوانية تفاقم سوء الظن وتعمّق الخلافات الطائفية التي تُطيل أمد المواجهة. لكن البديل موجود. يمكن لأنقرة وطهران أن يخففا التصعيد ويُعيدا النشاط للتعاون. ويُعبّر المسؤولون عن مصلحة في ذلك لكن الشك في أن الطرف الآخر يجب أن يُعبر عن مرونة بنية حسنة هو الأهم. يعتبر المسؤولون الإيرانيون أن مقاربة تركيا للاختلافات مضللة، أو كما عبّر عنها دبلوماسي إيراني حين قال: «ناتجة من مزاج أردوغان وجنون العظمة لديه». ويقول الأتراك إن الإيرانيين لا يدركون المصالح المشروعة لتركيا ولا يُظهرون أي مرونة في القضايا الأساسية، مثل المرحلة الانتقالية ما بعد الأسد أو مشاركة السلطة بعدل في العراق وسوريا. لكن الاثنتين، تركيا وإيران، تعبّران عن قدرة على تعديل التوترات التصعيدية.

كشفت الخصومة عن حدود تركيا وإيران في مشروع بسط النفوذ بدلاً من توسيع النفوذ. في شمالي سوريا، رأت تركيا بأن التهديد الأخطر على أمنها القومي منذ عقود يصعد: قوة متنامية لحزب الاتحاد الديمقراطي السوري ـ وحدات حماية الشعب الكردي وتسلل الجهاديين للحدود لتنفيذ هجمات داخل تركيا ووصول ما يُقارب ثلاثة ملايين لاجئ سوري. أما إيران فحملت عبء الدفاع العسكري والدعم المالي لحليف أساسي يتعرض للخطر، على حساب إشعال عداوة العالم السني. وقد قلّص عدم القدرة على العمل معاً من قدرتهما على التأثير في الأطراف الإقليمية الخارجية (روسيا بالنسبة لإيران، والولايات المتحدة بالنسبة لتركيا) والتي بدلاً من أخذ مصالحهما بالحسبان تحاول احتواء طموحاتهما.

في النهاية، سوف يكون على تركيا وإيران، بحكم الجيرة، أن تعيشا مع نتيجة الصراعات المشتعلة الآن حولهما. وأي حلّ دائم سيتطلب توازن إقليمي مقبول عند الاثنتين, وهذا يمكن تحقيقه إذا تعاونتا، وكبحتا وكلاءهما، واعترف كُلّ منهما بالمصالح الاستراتيجية والأمنية الأساسية للآخر في سوريا والعراق.

الخاتمة

إن المنافسة الجيواستراتيجية اليوم بين تركيا وإيران هي التكرار الأخير للعبة قديمة حول ميزان القوة، لكن مع ارتفاع نسبة الانزلاق إلى تطوّر لا تحمد عقباه حيث ينظر كل منهما بعين الحذر لخطوات الآخر في العراق وسوريا، وتُطلقان العنان لوكلائهما ومستعدتان للتصعيد باتجاه التورط العسكري المباشر، كما هي حال تركيا. وكيفية اختيارهما لاستخدام قوتهما، مع الأخذ بعين الاعتبار مع من تتحالفان وما إذا كانتا تستطيعان إدارة أو خلافاتهما، أو التغلّب عليها كل ذلك ينطوي على أهمية قصوى ليس عندهما وحسب، بل عند جيرانهما والدول الأخرى ذات العلاقة بالشرق الأوسط أيضاً. ولكن من بين الأطراف المشاركة في حروب المنطقة، ليس هناك اثنان ملائمان لإيجاد سُبل إبرام تسوية متبادلة متجددة أكثر من تركيا وإيران. فيتمتع البلدان بقنوات اتصال شاملة وخبرة طويلة في عقد الصفقات الجيواستراتيجية ومشاركة التجارة الشاملة والأكثر أهمية رؤية مصلحة مشتركة أساسية في الحفاظ على سلامة أراضي جيرانهما.

ومع تدحرج الصراعات في المنطقة نحو الأسوأ، يصبح من الصعب أكثر التنبؤ بما هو قادم في المستقبل، مع عدم حصانة أي من الأطراف من أن يلحقه أذى محتمل. وقد تتحوّل الفرص المُتاحة اليوم إلى أشراك خانقة في الغد. فيجب أن يكون هناك مصلحة لأولئك الذين يتمتعون بالقدرة والرشد والتاريخ الطويل من العلاقات السلمية بأن لا يسمحوا لأنفسهم بالانزلاق أكثر إلى مستقبل مجهول بل عليهم الموافقة على تصحيح المسار الخطر، ما من شأنه أن لا يُحلّ جميع الصراعات لكن أقله قد يساعد في تخفيف التوترات العامة. 

من أجل تلك الغاية، وكأولوية مُلحة، يجب على تركيا وإيران أن تؤسسا قناة للمفاوضات المستمرة على أعلى المستويات بشأن المواقف الإقليمية. ووتيرة حصول اجتماعات كهذه كانت تعيش معضلةً: تدوم اللقاءات الدورية الرفيعة المستوى يوماً أو اثنين ويتبعها فترات طويلة نسبياً من الفراغ الدبلوماسي لا يملأه سوى تصعيد الحروب بالوكالة ومزايدة الواحد على الآخر. يجب على الرئيس أردوغان والمرشد الأعلى الخامنئي تعيين ممثلين خاصين مع سلطة تخولهم إدارة القناة الدبلوماسية. وهذا قد يسمح لأنقرة وطهران بالذهاب أبعد من مجرد إدارة الخلافات ـ مع خطر وقوع الأحداث وسوء التقدير وسوء التواصل ـ واعتراف أحدهما بصراحة بمصالح الآخر ومخاوفه الأمنية في البيئة المجاورة المشتركة. وبدون تفهّم استراتيجي مماثل، فإن الترتيبات التبادلية الجزئية لن تؤدي إلى النتائج المرجوة، حيث إنّ التقدم في قضية ما قد يزول مع الانتكاسات في أمكنة أخرى.

ويجب على الولايات المتحدة وروسيا أن تتبنيا مقاربة متماسكة وداعمة تجاه القوتين الاقليميتين وطموحاتهما المتداخلة من أجل الأسبقية، مع الضغط على حلفاء كُلّ منهما على الإقدام على خطوات يمكن أن تساعد في تجنب أي تصعيد لن يصب في مصلحة روسيا ولا الولايات المتحدة.

باختصار، تركيا وإيران بحاجة إلى وضع ديناميكية فاضلة تؤدي من خلال التفاوض إلى تسوية مستدامة و إلى نفخ الاستقرار في علاقاتهما والبدء بتخفيف حدة الحرائق المشتعلة في المنطقة. وهذا يتطلب تنازلات صعبة متبادلة وخطوات بناء الثقة لكن من شأنه أن يحمي مصالحهما أكثر من مواصلة الغرق في الوضع الراهن غير المستقر الذي لا يمكن التنبؤ بنتائجه، والأسوأ من ذلك أن يؤدي إلى التصعيد والمواجهة العسكرية المباشرة.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف