البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

February / 25 / 2017  |  3142دراسة المذهب الاسلامي الشيعي في المناهج الغربية

لياقت تكيم - Liyakat Takim مجلة الدراسات الاسلامية الشيعية - Journal of Shia Islamic Studies شتاء 2016 - winter 2016
دراسة المذهب الاسلامي الشيعي في المناهج الغربية

ملخص: ينظر هذا البحث في الدراسة التاريخية للمذهب الشيعي في المناهج الغربية. يطرح البحث نظرية أنه حتى أربعة عقود خلت، كانت المدارس الغربية تدرس المذهب الشيعي وفقًاا للمنظور السني وحسب. كما ويُظهر أنه ومنذ الثمانينيات برزت عوامل جمة على سبيل الثورة الإسلامية في إيران وبروز حزب الله في لبنان والغزو الأمريكي في العراق ما فرض على المدارس الغربية أن تنظر إلى المذهب الشيعي من وجهة نظر مختلفة. وبالتالي فإنها تعرفت إلى جوانب مختلفة من المذهب الشيعي والتي تختلف بين الرؤية الشيعية للحكم المركزي في أثناء غيبة الإمام إلى الشعائر والممارسات الشيعية والنظرية السياسية الشيعية.


كلمات البحث : دراسات غربية، دراسات شيعية، الثورة الإيرانية، كربلاء، مجتهدون، 9/11.

المقدمة

حتى وقتٍ ليس ببعيد كانت المناهج التعليمية الغربية حول المذهب الشيعي تستند بشكل تام إلى المراجع السنية، حيث إن الشح الكبير في العديد من المصادر الشيعية الذي كان له الأثر في العملية البحثية حتى مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، قد كان أحد الأسباب التي أدت إلى نقص الفهم الأكاديمي لتاريخ المذهب الشيعي وقانونه وتعاليمه. وكما يقول فريديريك ديني:

على مدى سنوات مديدة ظلت الدراسات الإسلامية في الغرب حتى في جزء كبير من العالم الإسلامي نفسه تتشارك النظرة المجحفة التي ترى أن المذهب السني الإسلامي هو المذهب الطبيعي والتقليدي للإسلام، في حين أن المذهب الشيعي في أحسن الأحوال لا يعدو كونه بدعة أو في أسوء الحالات فهو هرطقة [...]. وبالتالي فإن هذه الخرافة التي دارت حول تلك الدائرة الصامتة قد منحت السنة شعورًا بأنهم أولياء الحق على أوسع نطاق في حكم غالبية المجالات الإسلامية، حتى في المناطق،  التي يشكل فيها الشيعة الجزء الأكبر من السكان كالعراق ولبنان.2

إضافة إلى ذلك فإن السيد حسين نصر كان قد عبّر في إحدى المناسبات عن تحفظاتٍ مماثلةٍ حول دراسة المذهب الشيعي. حيث إنّ نصر الذي انتشرت كتاباته في الثمانينيات كان يستغرب كيف «حتى الآن لم يلق المذهب الشيعي سوى الاهتمام القليل، وعندما بدأت مناقشته جرى الاستخفاف به واعتباره  ذا مكانة ثانوية أو هامشية ولا يعدو كونه «مذهبًا» دينينًا ـ سياسيًا، أو بدعة حتى هرطقة».3

وفي السنوات الأخيرة دفعت الأحداث التي شهدتها الساحتان الدينية والسياسية في الشرق الأوسط بالمدارس الغربية إلى الإنكباب على دراسة المذهب الشيعي باعتباره كيانًا قائمًا بحد ذاته وذلك في سبيل رسم المعالم البارزة والخطوط التي يتّسم بها المذهب الشيعي وتميّزه عن المذهب السني. علماً أن بعض الأحداث مثل  الثورة الإيرانية وظهور حزب الله وإلقاء القبض على الرهائن الغربيين في بيروت، وفي وقتٍ لاحق، الغزو الأمريكي للعراق والحراك الذي خرج في البحرين والمملكة العربية السعودية والمكانة المهمة من الناحية الجغرافية السياسية التي راحت تكتسبها إيران، كلها ساهمت في زيادة حدة الوعي الأكاديمي تجاه المذهب الشيعي. أما هذا البحث فهدفه الغوص في الأسباب التي حملت الغرب على دراسة المذهب الشيعي الإثني عشري وما استتبعها من تطورات، كما يناقش البحث بعض التوجهات الحالية بالنسبة إلى الدراسات الشيعية في الغرب. علمًا بأنه لا يُراد به أن يكون دراسة شاملة في هذا المجال؛ ولكن في الحقيقة هو يقدّم نماذج عن التوجهات العريضة المتنوعة والمختلفة التي تعالج الماهية التي بدأت بها دراسة المذهب الشيعي في المناهج الغربية وكيف استمرت.

فضلاً عن ذلك، فإن البحث يطرح الفرضية القائلة إنّه من الممكن إدراج تاريخ دراسة المذهب الشيعي تحت عنوانين عريضين أحدهما العلوم الدينية والآخر العلوم الإجتماعية. أما الأول، وبالاستناد إلى بعض الافتراضات القائمة حول الإسلام والغرب، فيمكن وصفه بأنّه وريث المقاربة الشرقية المنهجية الكلاسيكية، في حين أن العنوان الثاني يعكس الجهود التي يبذلها الباحثون المعاصرون الذين هم بأغلبهم من الشيعة، حيث إنّ أعمالهم لا تحيط بمختلف وجوه المذهب الشيعي وحسب إنما تستفيد من مختلف المناهج التي تتنقل ما بين المقاربات التاريخية المتسلسلة وصولا ً إلى الإجتماعية والفينومينولوجية مرورًا بالتأويلية والعرقية أيضاً. كما أن بعض الدراسات الحديثة المتعلقة بالمذهب الشيعي تتداخل بالإعتبارات العصرية السياسية والاجتماعية والثقافية أكثر مما تتداخل مع الشؤون اللغوية والنصية الدقيقة.

الدراسات الغربية حول المذهب الشيعي في حقبة العصور الوسطى

إن واحدة من أقدم الكتابات المسيحية التي أرخت لحياة النبي محمد تعود للقديس يوحنا الدمشقي (حوالي 650 – 750)، الذي ادعى أن النبي محمد كان مخادعًا كبيرًا ومصروعًا.4 إضافةًً إلى أن مؤلفه Pege Gnoseos ينبوع الحكمة يتضمن فصلاً حول الهرطقات التي يأتي فيه علىى ذكر النبي باعتباره «مدعياً للنبوة». وفي حوالى عام 1100 قام المؤلفون من اللاتنيين بتأليف الكثير من الرويات والأساطير بشأن النبي، حتى إنّ الاسم «مهوند»، وهو مصطلح مرادف للشر، ابتدعه كتّاب المسرحيات والروايات من المسحيين في القرن الثاني عشر في أوروبا. وفي هذه الكتابات يظهر النبي محمد باعتباره شخصية وثنية يعبده العرب.5 يحب أن لا يغيب عن بالنا أنن الصورة والملامح التي كان الغرب يرسمها للنبي محمد كانت تتأثر بشكل ملحوظ بالأحداثث الإجتماعية السياسية التي كانت تدور في المنطقة، ولأسباب لا تخفى على أحد فإن الصليبيين على سبيل المثال كانوا يرغبون في تقديم الإسلام في لبوس الدونية، حيث إنّ العديد من المؤرخين خلال الحملة الصلبية الأولى (1095 – 1099) كانوا يتصورون أنّ أعداءهم من الشرقيين كانوا من الوثنيين الذين شيدوا معبداً لإلههم محمد في «معبد الرب» (أي قبة الصخرة).6 علماً بأنن غالبية هذه المصادر في تلك الحقبة كانت تشوّه صورة الإسلام والنبي ولم تكن تأتي على ذكرر المذهب الشيعي مطلقاً.

ومن ثم في القرن العاشر تولت الخلافة الفاطمية الحكم في مصر استتبع ذلك أثرٍ واسعٍ خلفته هذه السلالة في الشرق الأوسط، وبذلك تكون تلك الحقبة قد شكلت أول احتكاك للغرب مع الشيعة عن طريق الفاطميين. وعلى سبيل المثال فإن وليام الصوري رئيس أساقفة صور جاء على سيرة السنة والفاطميين وحدَهم في معرض كلامه عن الإسلام، كما أنه يذكر رأيًا مرتبطًا بجماعة شيعية متطرفة تدعى الغرابية كانت تقول إنّ الوحي كان من المفترض أن ينزل على علي (توفي عام 661) وإنّ جبرائيل أخطأ فأنزل الرسالة على النبي محمد. وقد أطلق على هذا المذهب اسم الغرابية لأنهم كانوا يعتقدون بأن النبي وعلي كانا يشبهان أحدهما الآخر أكثر من غرابين.7

أضف إلى ذلك أن جاك دو فيتري كان مؤرخًا صليبيًا آخر ورئيس أساقفة عكا بين عامي 1216 و1228، وهو برهن جهلاً تاماً بالمذهب الشيعي إذ إنّه قال إنّ الشيعة يعتقدون بأن الله كلّم علياً بصورة أكثر ودًا مما كلّم النبي محمداً. ووفق ما يقول دو فيتري، فإن علياً وأصحابه هاجموا النبي وخرقوا قوانينه.8

حتى بعد الحملات الصليبية، ظل المذهب الشيعي مجهولاً تمامًا في الدوائر العلمية الغربية، حيث إنّ التواصل الذي كان يجري بين الأوروبيين والمسلمين كان يقوم بصورة رئيسية على الإحتكاك بالسلطنة العثمانية التي كانت من دون شك تتبع المذهب السني. ولم يبدأ الأوروبيونن بالتعرف ولو بصورة بسيطة إلى بعض نواحي المعتقدات والممارسات الشيعية إلا بعد قيامم السلالة الصفوية في إيران في عام 1501، حيث إنّ الكثير من المعلومات التي وردتهم في تلك الحقبة كانت تستند إلى كتابات وملاحظات الديبلوماسيين والإرساليين والتجار الذين كانوا يبعثون بهم إما للزيارات الاستكشافية وإما للإقامة في بلاد فارس. وبالتالي فإن كتاباتهم تلك لم تكن علمية ولا موضوعية، حيث كانت في الأغلب الأعم تستند إلى المعتقدات الشعبية وما كانوا يشاهدونه من ممارسات في شوارع إيران. على سبيل المثال، فإن الأب رفايال دو مانس (توفي عام 1696) كان يترأس أحد الأديرة في أصفهان في القرن السابع عشر، وفي كتابه State of Persia  دولة فارس يشير إلى بعض العقائد الشيعية والنصوص الشرعية والاحتفالات المتعلقة بهذا المذهب، كما يشير  إلى بعض العلماء من أمثال محمد تقي المجلسي (توفي عام 1659) الذي عاش في تلك الحقبة.9

ثم جاء آخرون من أمثال جان شاردين الذي كان قد زار بلاد فارس وكتب عنها بين عامين 1664 – 1670 ومن ثم بين عامي 1671 – 1677، والذي في كتابه يصف الهرمية داخل المرجعية الدينية الشيعية في مدينة مشهد والزلزال الذي كان قد حدث في خلال تلك الفترة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الصفويين كانوا يولون علماء الدين الشيعة كرامة كبرى لدرجة أنهم كانوا قد عيّنوا بعض هؤلاء في بلاطهم، وعليه فإنه خلال تلك الحقبة ازدادت حدة النفوذ الموكل لهؤلاء العلماء إن على المستوى الديني أو السياسي بشكل ملحوظ. حتى إنّ شاردين وفي مؤلفه يأتي على ذكر المجتهدين أيضًا وما اضطلعوا به من نفوذ على الصعيدين الاجتماعي والسياسي على حدٍ سواء.10

ومع ازدياد حدة نفوذ القوى الأوروبية وسيطرتها على العالم أجمع مع تطور القرن السابع عشر وصولاً إلى القرن الثامن عشر، فإن الأوروبيين راحوا شيئًا فشيئًا يزيدون من رحلاتهم إلى بلاد المشرق، بما في ذلك إيران. وفي هذا المجال لا يسعنا إلا أن نأتي على ذكر الكتابات التي كانت نتاج الدبلوماسي الانتقائي جوزيف أرتور كومت دو غوبينو (توفي عام 1882)، والذي كتب في عــام 1859 Trois ans en Asie ثلاث ســنوات في آســيا ومن ثم كتاب Religions et philosophies de l’Asie central الدين والفلسفة في آسيا الوسطى. فهو كان شاهدًا على الحركة الشيخية وأصدر الكتابات حولها، حتى إنّه تطرق أيضاً إلى الجدال الذي كان دائراً آنذاك بين الإخباريين والمجتهدين (الأصوليين). بحيث قدّم الكثير من المراجع المفصّلة حول المظاهر التي كانت تسود خلال شهر محرم والتي كانت تعبق بالمشاعر الجياشة. علماً أن مؤلفاته تزخر بالكثير من المفاهيم المغلوطة والمبالغة في إضفاء الطابع السطحي على المعتقدات والشعائر الشيعية. وعلى سبيل المثال، فهو يصف المذهب الشيعي باعتباره دخيلاً على الأسلام «الحقيقي» والأصيل، بسبب ما يبديه المذهب الشيعي من تبجيل وتوقير للأئمة، والنفوذ الذي كان يتحلى به رجال الدين من الفرس. وفي كتابه الدين والفلسفة في آسيا الوسطى فإن دو غوبينو يربط ما بين المذهب الشيعي والتيار القومي الفارسي.11

فضلاً عن ذلك فإن الحقبة نفسها شهدت على ولادة الإستشراق، علماً  أن إدوارد سعيد يرى أن الاستشراق هو عبارة عن ما يبديه الغرب من قبول للـ «تمييز المبدئي بين الشرق والغرب باعتبارها نقطة انطلاق لتطوّر النظريات والأساطير والروايات والتوصيفات الاجتماعية والاعتبارات السياسية في ما يتعلق بالشرق وشعبه وتقاليده و«عقليته» ومصيره وما إلى ذلك». أضف إلى ذلك، أنّ الاستشراق يقدّم الذريعة التي تعلق بها الغرب في حملته الإستعمارية القائمة بدورها على تاريخٍ روّجه الغرب ليصب في مصلحته حيث أن «الغرب» قدّم صورة عن «الشرق» باعتباره أدنى مستوى وبالتالي فهو في حاجة ماسة إلى التدخل من جانب الغرب  لـ«إنقاذه»12. في الجوهر، فإن الإستشراق يقوم بفرض المعايير الغربية التي تسمح له بالسيطرة على الشرق وإعادة هيكلته، وفرض السلطة عليه.

في بادئ الأمر كانت الدراسات الشرقية تأخذ شكل التحليلات النصية المتعلقة بالآخر، والتي كانت في مجملها قائمة على الفرضيات والنظريات التي كان الغرب قد رسمها أصلاً. وبالتالي فإن هذه المقاربة كانت تعني أنّ وحدها النصوص والأعمال التي تصنف ضمن الخانة القانونية أو المعيارية هي التي كانت تخضع للدراسة. وعليه فإن التأثير الأكبر لهذه الحالة تمثل في التصوّر المتناغم هو الآخر ضمن الدين الإسلامي، حيث باتت دائرة الاعتراف بالتنوع داخل الإسلام منغلقة على ذاتها. وهنا ساد الاعتقاد الذي يجسد الإسلام ويتمثله، كدين يشكل وحدة قائمة بذاتها تحيط بها الحواجز المحددة من كل جانب، من دون الالتفات للطبيعة التنوعية للتقاليد المُعاشة. وبما أن النظرة التي سادت حول المسلمين ترى أنّهم عبارة عن كيان شامل ومنفصل بذاته، فقد جرى التغاضي بشكل كبير عن شعائرهم ومعتقداتهم وثقافاتهم المتنوعة. إذ إن المقاربة التي كان الباحثون المستشرقون قد تبنوها كانت قد سمحت لهم بأن يقوموا بتصنيف ومحورة الأفكار والحركات الإسلامية، باعتبارها دينية مستقيمة أو هرطقة ابتداعية.

فضلاً عن ذلك، فإن الدراسات الشرقية كانت قد أرخت بظلالها على كيفية النظر إلى المذهب الشيعي في الغرب. ولا سيما في وقت كان فيه الباحثون ممن كتبوا عن المذهب الشيعي يعتمدون بصورة كبيرة على وجهة نظر المؤرخين من السنة، أو المتخصصين في الأبحاث حول البدع من أمثال الخطيب البغدادي (توفي عام 1071)، وابن حزم (توفي عام 1064)، ومحمد بن عبد الكريم الشهرستاني (توفي عام 1153)، ومن دون أدنى شك فإن هذه التصورات كانت تقدّم الرؤيا المعادية، حتى في بعض الأحيان المحرفة عن المذهب الشيعي. وفي الفصل المخصص للمذهب الشيعي في كتاب ذاك الأخير، والذي يدور حول دراسة البدع كتاب الملل والنحل، يظهر الكاتب عدم تعاطفه تجاه هذا المذهب.

أضف إلى ذلك أن الصورة الانتقاصية التي ورثها الأدب الاستشراقي حول المذهب الشيعي كانت أيضًا تُعزى إلى حقبة العصور الوسطى، بحيث كانت الكتب والمراجع الشيعية شحيحة داخل المكتبات الغربية، ومن بين الاستثناءات البسيطة نذكر مؤلّف الشيخ الطوسي (توفي عام 1067) الفهرست، ومؤلّف العلامة الحلي (توفي عام 1325) تحرير الأحكام، ومؤلف المحقق الحلي (توفي عام 1277) شرائع الإسلام.13 ومع زيادة اطلاع الباحثين الغربيين على الدين الإسلامي، فقد شهد القرن التاسع عشر المزيد من الكتابات الأكاديمية التي كانت قد انحصرت هذه المرة بالمذهب الشيعي، على أن مصدر هذه الظاهرة هي دراسة الأعمال التي قدّمها غارسان دو تاسي التي قام من خلالها بتحرير وترجمة إحدى السور «الشيعية» من القرآن في عام 1842، إلى جـــانب كـــتاب إغناس غولدزيهير    Beitrage zur  Literaturgeschichte der Shia und der sunnitischen Polemik   مساهمات الأدب الجدلي بين الشيعة والسنة في التاريخ، الصادر في عام 1874، والذي كان بدوره عبارة عن رسالة قدّمها حول الجدلية السنية الشيعية. وبصورة أو بأخرى لا يسعنا إلا أن نعتبر غولدزيهير أنه رائد  من رواد الدراسات الغربية حول الإسلام، وعلى الرغم من الصعوبات التي واجهته آنذاك من أجل الوصول إلى البحوث الشيعية الأولى، إلا أنه ظل قادرًا على تصحيح بعض سوء الفهم الذي ساد النظرة الغربية إلى المذهب الشيعي، وبصورة أدق قام هذا الكاتب بالتشكيك بالفرضية التي كانت سائدة في تلك الحقبة والتي كانت تقول إنّ المذهب الشيعي انطلق بسبب النفوذ الإيراني ولأن الشيعة رفضوا سنة النبي، حتى إنّه قلل من مصداقية هذه النظرية.

إلا أن الدراسة التي أتينا آنفًا على ذكرها والتي تعود لإغناس غولدزيهير لم تستتبعها أي سلسلة من الدراسات حول المذهب الشيعي، ولكن يبقى أن بعض الأعمال المهمة التي جرت دراستها في العديد من مراكز الأبحاث حول العالم تستحق منا الورود عليها، مثلا الإشارة إلى أن المؤرخين الإيطاليين سابينو موسكاتي (‘Per una storia dell’antica Shi’a” حول تاريخ المذهب الشيعي القديـم،1955، 251 – 67) ولـورا فيتشا فالييري (“Sul “Nahj al- balagha” e il suo compilatore ash-Sharif ar-Radi’ حول نهج البلاغة وجامعه الشريف الرضي، 1958، 1 – 46) يقدمان المزيد من التفاصيل  والعديد من الأبعاد في ما يخص السنوات الأولى للمذهب الشيعي.14 وعلىى الرغم من هذه المساهمات ظل ثمة ندرة وشح في النصوص التي كانت توضّح المذهب الشيعيي بصورة دقيقة، وهو الأمر الذي تشدّد عليه الدراسة الواردة في أول مجلد من كتاب بارسون Index Islamicus  الفهرس الإسلامي، والذي يُعتبر أهم الفهارس المكتبية المتعلقة بالدراسات الإسلامية التي غطت الأعوام ما بين 1906 حتى 1955. ولكن اللافت هنا يبقى الشح في المقالات أو المداخل المخصصة للمذهب الشيعي.

أما الفهم الأكثر تعاطفًا مع المذهب الشيعي فقد بدأ مع الباحث الفرنسي لوي ماسينيون (توفي عام 1962) والذي كان قد أدى خدمته العسكرية برتبة ضابط في العراق، حيث كانت المنهجية التي اعتمدها تتسم بصورة لافتة بالظاهراتية، حيث إنّه حاول أن يقدّم المذهب الشيعي وفقًا لقواعده هو، فركّز على البعد المبهم في المذهب الشيعي الذي يظهر في أعمال على سبيل   Die Ursprunge und die Bedeutung des Gnostizismus im Islam أصول ومعانيي المذهب العرفاني في الإسلام Der gnostische Kult der Fatima im Shiitischen Islam: العبادات العرفانية لدى فاطمة في الإسلام الشيعي.15 وفي محاولةٍ منه لفهم المذهب الشيعي انطلاقًا من هذا المذهب بذاته، عمد ماسينيون إلى الكتابة عن العديد من المواضيع التي تمس المذهب، حيث اتسمت معالجته لهذه المواضيع بالمزيد من الدقة على نحوٍ فاق سابقيه. مع العلم أن ماسينيون ساهم بدوره في تطوير الدراسات حول المذهب الشيعي أولاً من خلال تسليط الضوء على أهم نواحي الأخلاقيات ذات الطابع الروحي التي تميّز المذهب الشيعي. كما لا بدّ من الإشارة إلى أن مساهمته في الدراسات الشيعية تعتبر ذات أهمية قصوى إذ إنّه مهّد الطريق أمام هنري كوربن (توفي عام 1978) في مجال الروحانيات الشيعية، حيث كان كوربن أول الأمر على تماس مع المذهب الشيعي الإيراني بينما كان في جامعة السوربون شابّ يتبع المدرسة الظواهرية وفي طهران أيضًا باعتباره مديرًا للمعهد الفرنسي للدراسات الإيرانية ومؤسس سلسلة المكتبة الإيرانية. ومن جانبه فقد جمع أهم الأعمال التي تختص بالجوهر والفلسفة والعرفان لدى المذهب الشيعي إلى جانب تحرير وترجمة بعضها الآخر.16 وبالنظر إلى تركيزه في المذهب الشيعي وما شاع من ميل مزعوم تجاه هذا المذهب فإن موضوعيته وحياديته كانتا موضع التشكيك في بعض الأحيان.

الدراسات الغربية حول المذهب الشيعي في أعوام الستينيات

في تلك الحقبة كانت غالبية الدراسات الغربية التي تعنى بالمذهب الشيعي تجري على يد مؤرخين من أمثال دوايت دونالدسون ومونتغومري واط ومارشال هودغسون. وتُعتبر واحدة من أهم مساهمات دونالدسون التي ساهمت في شهرة كتاباته في أعوام العشرينيات في المذهب الشيعي، كتابه The Shi’te Religion الدين الشيعي، والذي صدر في عام 1923. أضف إلى ذلك أنه صاغ العديد من المقالات التي نشرت على صفحات The Muslim World العالم الإسلامي، بحيث تضمنت عناوين على شاكلة “Salman the Persian” «سلمان الفارسي» (1929)، و “The Idea of Imamate (Spiritual Leadership) according to Shi’i Thinking” «فكرة الإمامية والقيادة الروحية في الفكر الشيعي» (1921 /31)، و“The New Iranian Law” القانون الإيراني الجديد (1934). علماً أن كتاب الدين الشيعي اعتبر آنذاك بمنزلة مساهمة بارزة، إذ إنّه وللمرة الأولى، يجري توثيق حياة جميع الأئمة الشيعة بحيث باتت متاحة أمام جمهور المناهج الغربية، إلى جانب أن هذا العمل كان يناقش أيضًا مواضيع أخرى على شاكلة التاريخ السياسي الشيعي، والمراجع الشيعية، والفرق المتطرفة داخل المذهب الشيعي، وأهم السجالات الدينية. والأهم من هذا أيضًا، هو أن هذا العمل الذي قدّمه دونالدسون وعلى الرغم من كونه في الغالب وصفياً، إلا أنه سرد حياة وتجارب الأئمة من وجهة نظر الشيعة لا استناداً إلى المراجع السنية ما جعل هذا الكتاب يبدو أكثر تعاطفًا مع قضيتهم.

ومن الممكن تمييز الاهتمام المتزايد في الدراسات الشيعية مع الستينيات، نظرًا إلى أن كبار الباحثين الغربيين من أمثال مونتغومري واط ومارشال هودغسون، قدموا عدداً من المقالات المهمة التي تناولت المذهب الشيعي في ذلك الوقت. من جانبه، فإن واط استخدم مقاربة استشراقية واضحة، وبالتالي يمكن القول إنّ كتاباته على سبيل “Shi’ism under the Umayyads” (المذهب الشيعي في ظل حكم الأمويين) (عام 1960)، و”The Rafidites: A Preliminary Study” (الرافضة: دراسة أولية) (1970)، تعتبر ذات أهمية من حيث إنّها كانت تطرح على بساط البحث أولى مراحل التاريخ الشيعي وتسلط الضوء على بعض الأسباب المحتملة التي قادت إلى اعتبار المذهب الشيعي هرطقة. أما مارشال هودغسون فقد أصدر في عام 1955 مقالاً لا يقل أهمية تحت عنوان “How Did the Early Shi’a Become Sectarian?” (كيف أصبح الشيعة الأوائل مذهبيين؟) حيث يسلط الضوء على الدور الذي قام به (الإمام) جعفر الصادق (توفي عام 765) (عليه السلام)، وهو الإمام السادس، في خلق هوية شيعية وروحية شيعية متباينة.

وبالنظر إلى مختلف الاعتبارات السياسية والاقتصادية، فإن رقعة الإطلاع على المذهب الشيعي في العالم الغربي اتسعت بصورة ملحوظة منذ أعوام السبعينيات. ومن بين هؤلاء نذكر كتاب السيد حسين م. الجفري The Origins and Early Development of  Shia Islam أصول المذهب الإسلامي الشيعي وأولى تطوراته (1979)، الذي يناقش تاريخ العقائد والقوانين الشيعية وحقبتها التأسيسية؛ ذلك إلى جانب كتاب موجان مؤمن An Introduction to Shi’i  Islam مقدمة إلى المذهب الإسلامي الشيعي (1985)، والذي يقدّم شرحًا للتاريخ الشيعي منذ بدايات العصر الحديث. كما لا بدّ من الإشارة إلى كتاب هاينز هالم Die Schia الشيعة (1988)، الذي يغوص في تاريخ المذهب الشيعي ومعتقداته وممارساته. إضافة إلى أن الترجمة التي قدّمها أي. كاي. هاورد لمؤلف الشيخ المفيد كتاب الإرشاد، كانت ذات أهمية بالغة وإنجاز كبير في تلك الحقبة. لأنه وللمرة الأولى بات في متناول القارئ الغربي سيرة أحد علماء القرن العاشر وفي بعض الأحيان السيرة التقديسية لحياة الأئمة.

وانطلاقًا من التسعينيات، بدأت الدراسات على سبيل كتاب ويلفريد مادلونغ Succession to Muhammad خلافة محمد، وكتاب محمود أيوب The Crisis of Muslim History أزمة التاريخ الإسلامي، تسلط الضوء على الأزمة التي واجهت المجتمع الإسلامي الأول. إلى جانب العديد من العوامل الإجتماعية والدينية والسياسية التي ساهمت في زيادة حدة التوترات داخل المجتمع الإسلامي الذي كان لا يزال وليدًا في تلك الحقبة. أما كتاب أندرو نيومان Twelver Shi’ism  المذهب الشيعي الإثني عشري، فيؤرخ لتطوّر المذهب الشيعي ويغوص في العديد من التحديات والخلافات الداخلية حتى حلول القرن الثامن عشر. ثم إنّ كتاب كولين تورنير  Islam Without Allah الإسلام من دون الله، يطرح مسالة بروز المذهب الشيعي في العلن على حساب المذهب الشيعي الباطني في إيران في ظل الحكم الصفوي. وبدوره فإن كتاب رزينا لالاني Early Shi’i Thought: The Teachings of Imam Muhammad al-Baqir بدايات الفكر الشيعي: تعاليم الإمام محمد الباقر، يناقش تبلور العقائد الشيعية وتفسيرها في فترة الإمام الشيعي الخامس.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن دراسة المذهب الشيعي، خلال الفترة الممتدة بين عقدي السبعينيات والثمانينيات قد امتازت بالأسلوب التسلسلي التاريخي بصورة لافتة إلى جانب التحاليل النصية النقدية للمصدر. أما المقاربة التي اعتمدتها هذه الكتب ، فقد اتسمت بالتحديي بسبب التحيز السائد في المصادر الإسلامية التي تحتوي غالباً على مفارقات تاريخية . فضلاً عنن ذلك فإن هذه الكتب عكست في الغالب السجالات والــمُثل الدينية والسياسية التي انتشرت في وقت لاحق، علمًا بأن النصوص التي تضمنتها هذه المصادر، تقدّم لنا صورة أوضح عن الجدالات التي دارت ضمن الدائرة الإسلامية أكثر مما تخبرنا عن التاريخ الإسلامي في أولى مراحله.

تأثير الثورة في إيران

في العقود الأخيرة أرخت التغييرات التي شهدتها الساحة في الشرق الأوسط على الصعيد الجغرافي والسياسي بظلالها على العلوم الإسلامية في العالم الغربي، وبصورة خاصة فإن الثورة الإيرانية خلال عامي  1978 و79 ومن ثم تأسيس الجمهورية الإسلامية القائمة على مبدأ ولاية الفقيه استطاعت أن تلفت الأنظار نحو المذهب الشيعي وتزيد من الوعي تجاهه، أضف إلى ذلك أن هذه الثورة حملت الباحثين الغربيين على إعادة التفكير وإعادة التقييم من أجل تبني التحليلات الأكثر موضوعية حول الطريقة التي كانت القضايا الإسلامية تُعالج بها حتى ذلك الوقت، فضلاً عن أنها تصدت للاعتقاد العام الخاطئ والشائع بأن المذهب الشيعي هو عبارة عن انحراف عن المذهب السني الذي يشكل الغالبية على الساحة الإسلامية. علمًا بأن باحثين من أمثال باتريسيا كرون ومارتن هيندس في كتاب God’s Caliph خليفة الله يشيرون إلى أن المفهوم الذي يتبناه المذهب الشيعي والقائل بالقيادة السلطوية التي تحظى بالإرشاد الإلهي كانت في بادئ الأمر هي الشكل الطبيعي للحكم السياسي، بما يتعارض مع النظرية التقليدية الغربية التي تحاجج بأن النظام السني للخلافة كان قد تبلور من حيث الطابع سريعًا بعد وفاة النبي. ينخرط هؤلاء الكتاب في عملية تأريخية استرجاعية تقول إنّ طبيعة الخلافة الأموية (661 – 750 ميلادي) كانت أقرب ما يكون إلى التصور الذي يبنيه المذهب الشيعي حول الإمامة، من حيث إنّها تشكّل تجسيدًا لكلي السلطة الدينية والسياسية. أضف إلى ذلك أن كرون وهيندس يزعمان أكثر أنّ لقب خليفة الله الذي منحه الخلفاء لأنفسهم كانت تنطوي على نوع من الشرعية الإلهية من ناحية السلطة التي كان يُمارسها الخليفة باعتباره مكلّفاً عن الله بدل النبي.17

وانطــلاقًا من السبعينيات وصاعـدًا لم يجرِ تكريس المزيد من الدراسات للمذهب الشيعي وحسب، بل إن صورة هذا المذهب تغيّرت جذريًا أيضًا، حيث بات التركيز الآن ينصب على طريقة فهم المذهب الشيعي نفسه لتاريخه الخاص، إلى جانب الاجتهاد والفقة ولا سيما أن المصادر الشيعية باتت متاحة بصورة أكبر أمام الباحثين الغربيين. وهو الأمر الذي أدى إلى كرّ سبحة الكثيرر من الكتابات التي تعالج المذهب الشيعي، إذ إنّ باحثين على طراز إيتان كولبيرغ وكولين تورنيرر وأندرو جي نيومان ونورمان كالدر وخوان كول وروبيرت غليف وليندا كلارك، كانوا قد تناولوا في كتاباتهم العديد من أبعاد المذهب الشيعي، لدرجة أن كتاباتهم هذه كانت ترفض الكثير من سوء الفهم واللغط من جانب مصادر السنة والمصادر الغربية على حدٍ سواء فيما يتعلق بولادة المذهب الشيعي، بما في ذلك الإدعاء الذي يقول إنّ أصول المذهب الشيعي قد ترجع إلى عبد الله بن سبأ، وهو يهودي مزعوم. حتى الإدعاء القائل بأن أصول المذهب تعود إلى بلاد فارس. أضف إلى ذلك أن هؤلاء الكتاب كانوا قد استنكروا ما يواجهه المذهب الشيعي من الغلو، وذلك من خلال تمييزهم للمذهب الشيعي الاثني عشري عن بعض المجموعات كالغرابية والدروز والنصيرية.

أضف إلى ذلك أن الثمانينيات شهدت على جيل من الباحثين الشيعة ممن استوطنوا الدول الغربية ودخلوا مجال العلوم والأبحاث. مع العلم أن العديد من هؤلاء الباحثين كان قد تلقى التدريب في المعاهد الحوزوية الشيعية.  وعليه، فإنهم مع انتقالهم إلى الغرب قدّموا ما يمكن القول بأنه مقاربة «من الداخل» أو «من الخـارج» لمن أراد دراسة المذهب الشيعي إذّاك. وبينما عمدوا إلى التوليف ما بين التدريب الذي تلقوه في المعاهـد الشيعية والدراســات الأكـاديمية التي تـلـقـوهــا فـي الـغـــرب، فإن بــاحثيـن مــن أمـثـال حســين المدرســـي

(Crisis and Consolidation in the Formation Period of Shi’ite Islam الأزمة والترسيخ في المرحلة التأسيسية من المذهب الإسلامي الشيعي)، وعبد العزيز ساشدينا ( Islamic Messianism لميسيانية الإسلامية) ومحمود أيوب (Redemptive Suffering in Islam المعاناة التحررية في الإسلام) قد ساهموا جميعًا وبصورة ضخمة في الدراسات الغربية حول المذهب الشيعي. وفي هذا المجال لا بدّ من أن نأتي على ذكر واحد من أهم الأعمال للكاتبة ليندا كلارك الذي قامت يتحريره تحت عنوان The Shi’ite Heritage  التراث الشيعي، حيث ساهم العديد من المتخصصين بالشأن الشيعي، إن من الغربيين أو ممن تلقوا التعليم في الحوزات التقليدية، بمقالات لهم تُعنى بالدراسات الشيعية. و شيئًا فشيئًا باتت أصوات العلماء في حوزات قم الشرعية مسموعة في الغرب.

علماً أنه بإمكاننا القول إنّ الإهتمام الغربي تزايد بالدراسات الشيعية انطلاقًا من كتاب كولن تورنير وبول لوفت Shi’ism المذهب الشيعي (2007)، حيث إنّ هذا المؤلف الذي يتضمن أربعة مجلدات يقدّم مجموعة ممتازة من المقالات التي تُعنى بالعديد من جوانب المذهب الشيعي والتي جاءت بقلم العديد من الباحثين في خلال الأعوام الخمسين المنصرمة. كما خرجت كتابات أخرى على هذا المنوال على سبيل كتاب إيتان كولبيرغ Shi’ism المذهب الشيعي وكتاب فرهاد دفتري وغوردوفريد مسكنزودا تحت عنوان The Study of Shi’i Islam دراسة المذهب الإسلامي الشيعي. أما كتاب راينير برونير ووارنر أند المحرّر تحت عنوان The Twelver Shia in Modern Times الشيعة الاثنا عشرية في العصر الحديث، فيستعرض العديد من جوانب المذهب الشيعي انطلاقًا من القرن الثامن عشر، وهو ما يتضمن دراسة المؤسسات العلمية التقليدية والتمرد الشيعي والتطورات السياسية في القرن العشرين، وأهمية الثورة في إيران في تحديد معالم المذهب الشيعي في العصر الحديث.

الدراسات الغربية حول المذهب الشيعي في العصر الحديث

في هذا القسم من بحثي استعرض الدراسات الحديثة المتعلقة بالمذهب الشيعي، علمًا بأنه لا بدّ من تأكيد أنني لا أقدّم لائحة شاملة أحادية حول هذا الموضوع، بل بالحري هو نموذج عن العديد من الأعمال التي انتشرت منذ مطلع التسعينيات. بالمجمل يمكن القول إنّ الأبحاث الغربية حول المذهب الشيعي قد شهدت توسعًا تصاعديًا وتشعبت نحو الكثير من الاتجاهات على مدى العقود القليلة المنصرمة وهي الفرضية التي يعززها الواقع القائل بأنه على مدى السنوات العشرين الماضية جرى نشر الكثير من الأعمال الأكاديمية  التي تعالج مختلف العناوين الشيعية، وهو ما يشمل  الدراسات المتعلقة بفقه المذهب الشيعي وتاريخه وأدبه المتعلق بسيرة رموزه، وصولاً إلى الدراسات التي تعالج فلسفة المذهب وعقائده والتقية في المذهب والنظريات الشرعية. وعليه فإن الأمر لم يقتصر على مجرد دراسات في مختلف نواحي المذهب الشيعي إنما أيضًا تطورّت المقاربات والمنهجيات التي تعتمدها الدراسات الشيعية، حيث بات هذا المذهب يُدرس من النواحي التاريخية والسياسية والاجتماعية والشعائرية والإثنية والأنثروبولوجية والتأويلية.

إشارةً إلى أن مراسم الحداد وشعائره في المذهب الشيعي  كانت موضع دراسة العديد من الباحثين من أمثال فيرنون شوبيل (Religious Performance in Contemporary Islam الشعائر الدينية في الإسلام المعاصر) ودافيد بينو (The Shiites, Horse of  Karbala الشيعة، جواد كربلاء) والسيد أكبر حيدر (Reliving Karbala إحياء كربلاء) وكامران سكوت آقايي (The Martyrs of Karbala: Shi’i Symbols and Rituals in Modern Iran شهداء كربلاء: الرموز والشعائر الشيعية في إيران المعاصرة) وطوبي هاوارث (The Twelver Shi’a as a Muslim Minority in India الشيعة الاثنا عشرية باعتبارهم أقلية إسلامية في الهند). هؤلاء الكتاب تعمقوا في كربلاء والطريقة التي تستحث فيها هذه المعركة الحزن والمعاناة لدى كل فرد من أفراد المذهب الشيعي. أضف إلى أنهم درسوا أنماط الاستمرارية والتغيير الكامنة في شعائر شهر محرم ورموزه، حيث إنّ هذه النظرة المعمقة تظل ذات قيمة ما دامت تبرز للقارئ وجهة النظر التي من خلالها يرى المجتمع الشيعي بنفسه سلطة الأئمة والوفاء لقادته وكيف يسعى إلى التبين عن طريقهم. كما أن هذه الدراسات تظهر كيف ترصد مختلف الجماعات مسألة استشهاد الحسين ـ انطلاقًا من اعتباره مناسبة حداد فردي وجماعي  وصولاً إلى عدّها منطلقاً للاحتجاج والصراع الذي يقود إلى المطالبة بالإصلاح الاجتماعي والديني. كما أن هذه الأبحاث تستعرض تأثير معركة كربلاء في الساحة الثقافية والأدبية في مناطق جنوب آسيا. وهو ما يُثبت كيف استطاع النص الكربلائي مع الوقت أن يتأقلم ويتعايش مع المحتوى الثقافي للمسلمين وغير المسلمين في جنوب آسيا وفي ذاكرتهم في العديد من الأوقات. وفي أثناء إجراء دراساتهم عمد بعض الباحثين إلى اعتماد نظرية فيكتور تورنير حول وظائف الشعائر وتأثيرها في قولبة حياة المؤمنين بها.

في الفترة الممتدة قبل الثمانينيات كانت الدراسات الغربية بشأن المذهب الشيعي لا تكاد تأتي على ذكر النظرية السياسية الشيعية، وعلى الأغلب الأعم فإن السبب في ذلك يعود إلى أنه في غياب الإمام الثاني عشر، لم يقم الفقهاء الشيعة بإنشاء أي شكل من أشكال الحكومات التي تعوّض أثناء فترة الغيبة. وعليه فإن الثورة الإيرانية وما أرساه الخميني من قواعد مبدأ حكم ولايةة الفقيه قد شجّع الكثير من الباحثين للخوض في هذا المضمار، حيث إنّ واحدًا من أهم الإسهاماتت في هذا المجال هو كتاب يعود لحامد الكار تحت عنوان Islam and Revolution الإسلام والثورة والذي يتضمن مقابلة مع آية الله خميني حول نظريته المتعلقة بالحكومة الإسلامية. علماً أن الثورة الإيرانية لم تكن قد حثّت على تزايد الوعي تجاه المذهب الشيعي شيئًا فشيئًا وحسب، بل إنّها أدت أيضًا إلى الربط ما بين المذهب الشيعي وإيران. فضلاً على ذلك فإن إسهامًا كبيرًا آخر يأتي من جانب سعيد أرجمند في كتابه The Shadow of God on Earth ظل الله على الأرض. أما المؤلفات الأخرى التي لا تقل أهمية فتأتي من كتّاب على منوال فانيسا مارتين وكتابها Creating an Islamic State إنشاء الدولة الإسلامية، ونيكي كيدي Religion and Politics in Iran الدين السياسة في إيران، وحامد الكار Religion and State in Iran 1785 – 1906 الدين والدولة في إيران 1785 – 1906، وروي متحدة The mantle of the Prophet عباءة النبي، والكتاب الذي حرّرته صابرينا ميرفين تحت عنوان The Shi’a Worlds and Iran  العوالم الشيعية وإيران. ولا بدّ من الإشارة إلى أن العديد من الأعمال درس المذهب الشيعي ضمن إطار الصراع السياسي الذي دار حول الإصلاح والديمقراطية في إيران، ومن ضمن هذه الأعمال نورد كتاب بيهروز غماري تبريزي تحت عنوان Islam and Dissent in Postrevolutionary Iran الإسلام والتمرد في إيران ما بعد الثورة، ومجيد محمدي Political Islam in Post-Revolutionary Iran الإسلام السياسي في إيران ما بعد الثورة، والدراسة الحديثة التي أصدرتها أورليك فون شوارين The Dissident Mulla الملا المتمرد، وزينا مير حسيني وريتشارد تابير Islam and Democracy in Iran الإسلام والديمقراطية في إيران.

ومع بروز مبدأ ولاية الفقيه، راح العديد من الدراسات يصب جُلّ تركيزه في مسألة السلطة الشرعية في المذهب الشيعي المعاصر، حيث نجد أن الدراسات التي تتركز في تاريخ مبادئ المرجعية 18 والتقليد والأعلمية 19 وتطور هذه المفاهيم قد تجلت بصورة خاصة في أعمال علىى سبيل كتاب عبد العزيز ساشدينا The Just Ruler  الحاكم العادل، وأحمد كاظمي موسوي   Religious Authority in Shi’ite Islam السلطة الدينية في الإسلام الشيعي. علماً أن هذه الدراسات ترى في تطور سلطة الفقهاء في التاريخ الشيعي على أنه منعكس في الأعمال الفقهية، حيث إنّ دراساتهم تتصدى للنظرية القائلة إنّ سلطة الفقهاء متجذرة في جذور الإسلام القائم على مبدأ الوحي، كما أنهم يُظهرون أن الفقهاء الشيعة اكتسبوا المزيد من السلطة مع مرور الوقت وهي التي راحت تتراكم حتى وصلت إلى شكل السلطة المطلقة التي نادى آية الله الخميني بها.

حتى إنّ السنوات الأخيرة شهدت دراسة للقيادة الدينية الشيعية من مختلف الزوايا، حيث نجد أن ألفير كوربوز في كتابها Guardian of Shi’ism حماة التشيع تغوص في استخدام المجتهدينن للعديد من الشبكات من أجل بناء سلطتهم وتوسعة نطاقها خارج حدود بلدانهم، علمًا بأن كتابهاا يطرح خرائط لشبكات العلماء والتقائها مختلف المجتمعات في شتى أصقاع الأرض. أما شاوولل ميشال وأوري غولدبيرغ في كتابهما Understanding Shiite Leadership  فهم القيادة الشيعية،، فيطرحان الطرائق التي من خلالها استطاعت نظرة القيادة الشيعية أن تغيّر الشيعية السياسية في لبنان وإيران، من مجرد مجتمع مهمّش إلى كيان قوي اجتماعيًا وسياسيًا قادر على إثبات نفسه، وعلى تشكيل الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط بطريقه.

أضف إلى أن العديد من الباحثين غاصوا في مبدأ سلطة الأئمة وتلامذتهم والفقهاء، وذلك بالاستناد إلى مفهوم السلطة الملهمة. في حين أن مؤلفات أخرى على سبيل Authority in Islam السلطة في الإسلام للكاتب حميد دباشي، وThe Charismatic Community  المجتمع الملهم  للكاتبة ماريا دكاك، وظلّ الله للكاتب أرجمند، وThe Heirs of the Prophet خلفاء النبي كتابة لياقت تاكيم، جميعها أسهمت إسهامًا جمًا في مجال دراسة السلطة الملهمة في المذهب الشيعي، حيث إنّ أبحاثهم التي أجروها بشأن هذا المذهب إنما نجدها بارزة ضمن الإطار الاجتماعي الذي تطرحه نظرية ماكس فيبر حول السلطة الدينية الملهمة. كما أنهم غاصوا في مسائل أخرى ذات صلة، على سبيل روتنة الكاريزما النبوية وأهمية الكاريزما المتوارثة في زيادة سلطة الأئمة.

إضافة إلى أن بعض الدراسات الأخرى المتعلقة بالنظرية السياسية الشيعية أجريت بالاستناد إلى مبدأ سلطة الفقهاء، وفي هذا المجال لا بدّ من القول إنّ كتاب حميد مواني Religious Authority and Political Thought in Twelver Shi’ism السلطة الدينية والفكر السياسي عند الشيعة الإثني عشرية، الذي صدر منذ مدة ليست ببعيدة يُعدّ ذا أهمية بالغة ولا سيما أنه يتطرق إلى نظريات محمد باقر الصدر والسيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين حول  أنواع السلطة السياسية التي يجب أن تميّز الدولة الشيعية المعاصرة، وفي حين أنه يستشهد بأقوال للعديد من الفقهاء الإيرانيين والعراقيين واللبنانيين فإن يفصّل مختلف وجهات النظر حول السلطة السياسية ونظام الحكم. كما أن بعض الأعمال الحديثة على سبيل كتاب أورليك فون شوارين الملا المتمرد فيناقش براهين آية الله منتظري حول أشكال الحكم البديلة التي تقوم على أساس مشاركة العامة وموافقتهم. كما أن كتاب محمود دواري The Political Thought of Ayatullah Murtaza Mutahhari الرؤى السياسية لدى آية الله مرتضى مطهري يوّضح نظريات هذا الأخير حول السلطة السياسية.

إشارةً إلى أن ثمة مواضيع تتداخل بشكل كبير مع مسألة سلطة المرجعية، التي جرى التغاضي عنها فترة طويلة. وهي مسألة الجدال الفقهي الداخلي ما بين الفقهاء الشيعة أنفسهم، حيث شكّل الصراع بين الأخباريين (التقليديين) والأصوليين (العقلانيين ) موضوعا للكثير من التأمل والتعمق من جانب باحثين على طراز روبيرت غليف في (Scripturalist Islam الإسلام والنصوص المقدسة)، ونيومان  ( ‘The Nature of Akhbari/ Usuli Dispute in late Safavid Iran’ طبيعة الجدال الأخباري الأصولي في أواخر الحقبة الصفوية في إيران) ودايفين ستيوارت (Islamic Legal Orthodoxy التشدد الإسلامي الفقهي)، حيث نجد أن هؤلاء الباحثين يُظهرون أنه وفي إطار النظرية السياسية الإخبارية كان ثمة العديد من الاختلافات والتباينات الفقهية. كما أنهم يؤكدون أن الإخباريين لم يكونوا يعتمدون على النصوص بحرفيتها وحسب بل إنهم برهنوا ثقافة فكرية وحنكة في بناء قضية الدفاع عن النظام الفقهي المتماسك.

كما ذكرنا آنفًا، في العقود الأخيرة المنصرمة انهمك الباحثون الغربيون في مختلف مجالات الدراسات الشيعية، ولكن حتى وقت قريب ظلت الأبحاث الغربية تتجاهل بشكل كبير النظرية الفقهية الشيعية أو أصول الفقه الشيعي، وهو المجال الذي بدأ حديثًا يُطرح على طاولة البحث بصورة مطولة من قبل باحثين على طراز روبيرت غليف (Inevitable Doubt الشك المحتم)، وأمير حسن بوزاري (Shi’i  Jurisprudence and Constitution الفقه الشيعي والدستور) ومؤخرًا علي الرضا بوجاني (Moral Rationalism and Shari’a العقلانية الأخلاقية والشريعة) وزاكري هيرن (The Emergence of Modern Shi’ism صعود المذهب الشيعي المعاصر)، وهم جميعًا ممن استفاضوا في مجال المبادئ التي تقف في صف الفقه الإسلامي وأبرزوا المنهجية التي يلجأ الفقهاء المسلمون إليها عند استخلاص الأحكام المعنوية الفقهية. كما تلاحظ الدراسات التي تناولت أصول الفقه الشيعي كيف بات التخلي التيقّن والقبول بالتخمين شيئًا فشيئًا العلامة الفارقة التي تميّز المذهب الشيعي في القرن التاسع عشر. وهم أصروا على أن انتصار الأصولية مع بداية القرن التاسع عشر إضافة إلى المستجدات التي طرأت على الساحة عزّزت الدور الذي أدّاه المنطق العقلاني في إطار المذهب الشيعي، وهو ما لم يكتفِ بتثبيت موقف المجتهدين داخل المجتمع وحسب بل إنّه أيضًا أدى إلى وضع مبدأ الاجتهاد في صلب هيكلية السلطة الفقهية الشيعية التي بات في الإمكان بناء المؤسسة المرجعية على عمادها.

كما خرجت الأصوات المنادية بإجراء الإصلاحات داخل العالم الشيعي، إذ إنّ باحثين شيعة على نحو محسن كافيدار ومحقق داماد ومجتهد شبستري وعبد الكريم سروش وعبد العزيز ساشيندا وحميد مواني ولياقت تكيم وغيرهم قد ألفوا الكثير من المقالات والمداخل الموسوعية حول الاجتهاد والحاجة إلى تطوير الأدوات التأويلية والحث عليها عند تطبيق الشريعة الإسلامية، ولا سيما بالنسبة إلى المسلمين الذين يعيشون في دول الانتشار. كما نذكر في هذا المجال بعض الأعمال الأخرى المهمة من ناحية هذا المضمون على سبيل Shi’i Reformation in Iran الإصلاح الشيعي في إيران لعلي رحنيما، وReligious Secularity العلمانية الدينية لناصر غوبدزاده، وIran’s Intellectual Revolution الثورة الفكرية في إيران لمهران كمرافا. علماً أن هذا الأدب الإصلاحي يتصدى للسمة القدسية التي يلصقها المسلمون بمصادر الأحاديث ويدعو إلى عدم التغاضي عن العنصر التاريخي في المحور الإسلامي التقليدي، فبالنسبة إلى الإصلاحيين، إن الإدعاء أنّ الأدب الفقهي ينطبق على مختلف المجتمعات الإسلامية بغض النظر عن الزمان والمكان، هو بمنزلة إضفاء الصفة القدسية على جميع النتاجات الفكرية الإنسانية التاريخية. فضلاً عن أن هؤلاء الإصلاحيين يحاججون بالقول إنّه من الممكن اللجوء إلى مختلف الإسترايتجيات التأويلية من أجل العودة إلى القوانين التقليدية، ومراجعتها، إلى جانب كون هذه الإستراتيجيات قادرة على تشكيل الأوساط الإجتماعية والدينية التي يعيش فيها أكثر من مليار إنسان.

وهنا نذكر أحد المجالات الأخرى التي استحوذت على الكثير من الاهتمام في السنوات الأخيرة، ألا وهي التجربة الشيعية في أميركا. وليس جديدًا القول إنّه حتى وقت قريب كانت غالبية الدراسات تساوي ما بين الإسلام في أميركا والمذهب السني في أميركا، حيث إنّ هذه النظرة الأحادية ساهمت في إعاقة الإدراك والفهم الفعليين للتجربة الدينية للأقلية الشيعية في أميركا. علمًا أن باحثين من أمثال ليندا والبريدج (Not Without the Imam ليس من دون الإمام)، وفيرنونن شوبيل (في العديد من المقالات)، ولياقت تاكيم (Shi’ism in America المذهب الشيعي فيي أميركا) قد أسهموا بصورة كبيرة في هذا المجال، في حين أن آخرين على سبيل أوليفر شاربروتت قد ركّزوا في دراساتهم في المذهب الشيعي في المملكة المتحدة. إشارةً إلى أن بعض هذه الدراسات انتهج المقاربة الإثنوغرافية في معرض دراسة المجتمعات الشيعية في ميشيغان ولندن، أما آخرون فقد تتبّعوا الخيوط التاريخية التي تؤرخ لوجود المجتمعات الشيعية في أميركا، بحيث توغلوا في التحديات التي تواجه هذا المجتمع بينما يحاول تخطي حاجز الأقلية المزدوجة إلى جانب تحديات العيش في العالم بعد أحداث الحادي عشر من أيلول. كما أن هذه الدراساتت جاءت على الانقسام العرقي داخل المجتمع الشيعي الأمريكي وتعمقت في الطريقة التيي استطاع الشيعة من خلالها أن يعدّلوا مراسم الحداد التي يمارسونها حتى تتناسب والوسط الأمريكي. أما هذه النسخة المعدلة فقد مكّنت الجيل الجديد من الشعور بالانتماء تجاه هذه الشعائر ومن إيجاد هوية شيعية متباينة في أميركا.

فضلاً عن أن الأعمال الصوفية التي كتبها الملا صدرا كانت موضع دراسة الباحثين الشيعة من أمثال سجاد رضوي (Mulla Sadra and the Later Islamic Philosophical Tradition الملاا صدرا والتقليد الفلسفي الإسلامي، Mulla Sadra and Metaphysics الملا صدار والميتافيزيا)،، ومحمد رستم (The Triumph of Mercy  انتصار الرحمة)، علمًا بأن نقطة الارتكاز في كتاب رستم تقوم عند نهاية العملية المعقدة التي استغرقت ما يقارب تسعمئة عام من التأثير المشترك والتبادل الفكري والتطورات المستجدة في الفلسفة والعقيدة والتصوف، وهو ما يشكل بالتالي نقطة القمة بالنسبة إلى تاريخ الفكر الإسلامي في حقبة ما بعد ابن سينا. علماً أن هذه الدراسة هي الأولى في دائرة العلوم الحديثة التي تغوص في العلاقة المركبة بين الفلسفة والتفسيرات القرآنية في العصور الإسلامية الوسطى.

و من الباحثين القلائل الذين تجرأوا على الخوض في مسألة التفسيرات الشيعية  مئير بار آشر (Scripture and Exegesis in Early Imami Shi’ism النصوص والتفسيرات لدى أوائل الشيعة الإمامية)، حيث يناقش النصوص التفسيرية الشيعية في القرنين التاسع والعاشر ويغوص في تطور الفكر والعقائد الشيعية في أثناء الفترة التأسيسية للمذهب الشيعي. كما أنه يتطرق إلى تأثير الطرائق التفسيرية الرمزية والنموذجية التي كان يتمتع بها هؤلاء العلماء الأوائل في أعمالهم التفسيرية، وهو ما يتضمن مختلف القراءات القرآنية وإفتراض أنّ بعض الآيات القرآنية تتضمن المعاني المبطنة. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن ساشيندا قام بترجمة كتاب آية الله ابو القاسم الخوئي البيان في تفسير القرآن (The Prolegomena of the Qur’an)، حيث يشدد الخوئي على أهمية فهم القرآن في الإطار التاريخي من أجل التمكن من تطبيق أحكامه في المجتمع الإسلامي المعاصر. وبعد التعمق الدقيق في المصادر خلص إلى أن النص القرآني الحالي، على الرغم من احتوائه على العديد من القراءات التي لا تضرّ بالرسالة الأساسية، هو نفسه الذي نقله النبي بذاته، وبالتالي فهو يوجد فرقًا بين عملية النقل التي جرت في ظل التوجيه المباشر من النبي وبين عملية الجمع اللاحقة التي جرت ضمن سبع قراءات في ظل الخلفاء الأوائل. ومن خلال رفضه الرؤية التقليدية في ما يخص نقل القرآن، يتمكن الخوئي من إثبات موقفه القائل إنّ جمع القرآن ونقله قد جرى تحت إشراف النبي وفي أثناء حياته.

علمًا بأن بعض الباحثين من أمثال زيبا مير حسيني تعمقوا في المذهب الشيعي والدراسات الجنسانية، فمؤلفاتها تضم Men in Charge? Rethinking Authority in Muslim Legal Tradition  هل يتولى الرجال زمام الحكم؟ إعادة التفكير بالسلطة في التقليد الفقهي الإسلامي و Islam and Gender: The Religious Debate in Modern Iran الإسلام والجنس: الجدال الديني في إيران المعاصرة. إضافةً إلى أن مؤلفات مطهري حول المرأة في الإسلام قد تُرجمت على يد العديد من الأعلام حيث إنّ التشريعات الشيعية حول المرأة كانت موضع نقد العديد من المؤلفات على سبيل Law of Desire قانون المتعة لشهلا حائري وAn Enchanted Modern  الحاضر الساحر بقلم لارا ديب، إلى جانب المؤلف من مجلدين Women in Iran from the Rise of Islam to 1800 المرأة في إيران منذ فجر الإسلام حتى عام 1800 (تحرير غويتي ناشات ولويس بيك) و Women in Iran from 1800 to the Islamic Republic المرأة في إيران منذ عام 1800 حتى الجمهورية الإسلامية (تحرير لويس بيك وغويتي ناشات). هذه الدراسات تحاجج بالقول إنّ التفسير الأحادي الطرف للتبعية في الشريعة إلى جانب تزمّت بعض تيارات الفكر الإسلامي قد ساهمت في الماضي في إخضاع المرأة لنوع من الحياة الاستسلامية أو التبعية، ونجد إصرارًا في هذه الدراسات إلى أن الأهم بالنسبة إلى الفهم الصحيح للإسلام هو ليس حرفية النص بل روحية القرآن والتقليد النبوي.

وعليه فإن الدراسات الجنسية تحدّت الموقف الفقهي المعياري بشأن المرأة وطالبت بأن تُظهر الأحكام الشرعية الشيعية المزيد من المساواة، ويتجلى هذا الوضع من خلال رفض العلماء التكلم عن حالات التمييز ضد المرأة والأقليات في الهيئات الشرعية وعدم نيتهم مراجعة الإسلام التقليدي بصورة معمقة ودقيقة كما هو وارد في هذا النوع من النصوص. كما وتعمّق الباحثون في دراسة الشخصيات النسائية الشيعية الرمزية على سبيل فاطمة وزينب، وفي هذا المجال نأتي على ذكر ماري ثيركيل ومؤلَفها Chosen Among Women  المختارة بين النساء وناديا أبو زهرة في The Pure and Powerful النقية والقوية، وديان داسوزا  Partners of Zaynab شركاء زينب، وكريستوفر كلوهيسي Fatima, Daughter of Muhammad  فاطمة بنت محمد. يجمع هؤلاء الباحثون بين التحليل التاريخي وأدوات الدراسات الجنسية من أجل تقييم أهمية هذه الرموز النسائية في تشكيل الهوية والروحية الشيعية، إلى جانب دراسة سلطتهن وصراعهن الإنقاذي في رفع القيم الإسلامية على سبيل العدالة والمساواة.

علماً أن باحثين آخرين قد تعمقوا في الصوفية والروحانية الشيعية، وبصورة خاصة نذكر منهم محمد علي أمير معزي في مؤلَفه The Spirituality of Shi’i Islam الروحانية لدى المذهب الإسلامي الشيعي، ومؤلف ويليام شيتيك The Psalms of  Islam التراتيل الإسلامية التي هي عبارة عن ترجمة لمناجاة الإمام الرابع عند الشيعة. ومن جانبه فإن محمد علي أمير معزي، الذي يستند في مؤلفه (The Devine Guides الهدي الإلهي) على كتاب بصائر الدرجات للحسن الصفار (توفي عام 902) الذي عاش بين القرنين التاسع والعاشر والذي كان يتبع المذهب التقليدي، يستعرض الطريقة التي يرى من خلالها الشيعة القوى الغيبية التي يعتقدون بأن الأئمة يتمتعون بها إلى جانب التفرّع الاجتماعي والديني لقدراتهم الإعجازية.

فضلاً عن ذلك نلحظ وجود اهتمام أكبر في مجال الخوض في الدراسات المناطقية في إطار المذهب الشيعي، وهنا نشير إلى أن مؤلفات على سبيل The Shi’a of Samarra شيعة سامراء من تحرير عمران علي بنجواني، وShi’ite Lebanon شيعة لبنان  لشيري إيزنلوهر، و The Shi’a of Lebanon الشيعة في لبنان، لروجير شانهان، وThe Shi’ite Movement in Iraq الحركة الشيعية في العراق لفالح جبار، و The Shi’is of Iraq شيعة العراق لييتزاك نقاش، The Arab Shi’a: The Forgotten Muslims الشيعة العرب: المسلمون المنسيون لغراهام فولير وراند فرانك، تعتبر إسهامات هامة في هذا المجال. علمًا بأن هذه الدراسات تنظر في العوامل الاجتماعية والدينية والسياسية  التي أسهمت في تطور المذهب الشيعي وتوسعه، وبالتالي فإنها تساهم بصورة كبيرة في فهمنا للتفاعل في ما بين الدين والسياسة والحضور المتجذر للشيعة في العديد من أصقاع الشرق الأوسط.

في حين أن باحثين آخرين صبّوا تركيزهم على الجانب العسكري من المذهب الشيعي ولا سيما على حزب الله في لبنان، وعلى الرغم من صعوبة أن نرد على ذكر جميع المؤلفات التي تصدر على الساحة يبقى أنه من المهم جدًا أن نذكر بعض الأعمال التي تناولت شؤون حزب الله على سبيل نعيم قاسم وأوغوستوس نورتون وجوديث بالمر حريق. بينما نجد أن آخرين على منوال جمال سنكاري فضلوا التركيز في الرموز الدينية الشيعية ذات التوجه السياسي من أمثال فضل الله. وعلى مقربة من هذا الموضوع نجد مسألة تصاعد الصراع المذهبي انطلاقًا من أعوام الثمانينيات، وفي هذا المجال يقدّم لنا كل من والي نصر (The Shia Revival النهضة الشيعية)، وييتزاك نقاش (Reaching for Power البحث عن السلطة)، وبريجيت مارشال وسامس زمني (The Dynamics of Sunni-Shia Relationships ديناميات العلاقات السنية الشيعية)، وفريديريك ويري (Sectarian Politics in the Gulf السياسة المذهبية في الخليج)، وأليشيفا ماكليس (Shi’i Secterianism in the Middle East المذهبية الشيعية في الشرق الأوسط)، ونيكولاس بيلهام (A New Muslim Order النظام الإسلامي الجديد) المراجع الوافية بشأن الصراع المذهبي والكفاح الشيعي للحصول على السلطة السياسية في الدول الشرق أوسطية المعاصرة.

كما أن بعض الباحثين ركزوا في أبحاثهم في التفسيرات الشيعية، وهنا نشير إلى أن أشك دالين في كتابه Islamic Law, Epistemology and Modernity الفقه الإسلامي والمعرفيات والحداثة يناقش التفسيرات الحديثة لدى كل من عبد الكريم سوروش ومجتهد شبستري، علمًا بأن هذا الأخير يصرّ على ضرورة الحاجة إلى أسلوب جديد للنقد التاريخي الذي يرى في النص أنه نتاج حالة تاريخية معينة بذاتها ويحاول إعادة موضعتها في سياقها الأصلي، وهو الذي لا يزال مصرًا على أن هذه المقاربة لن تقوم إلا بالقضاء على المعتقدات والتقاليد الخاطئة داخل المذهب، ولكنها لن تمس أبدًا لا بالدين ولا بالتدين. أما هؤلاء الباحثون الذين يشجعون على آليات التفسير الحديثة للنصوص الشيعية يعتقدون أنّه على المسلمين بين الفينة والأخرى أن يراجعوا النصوص ويعيدوا تأويلها وفقًا لمتطلبات العصر الحاضر، ذلك أن التأويل بذاته هو عبارة عن عمل إنساني؛ أي إنّ الإنسان يبنيه بذاته وبالتالي هو يتأثر بالمحيط الذي يقيم فيه هذا المؤوّل أو المفسّر. وعليه فإن لجوء بعض الإصلاحيين على سبيل كديور وسوروش وشبستري إلى النمط الحديث في التفسير باعتباره أداة نظرية لا بدّ منها جاء تحدياً للرؤية التقليدية التي تحيط بالقراءة المعيارية والأحادية للنص الإسلامي المقدّس.

الدراسات الشيعية في عالم ما بعد أحداث أيلول

والتحدي الشيعي في تمثيل الذات

لا شك في أن الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من أيلول 2001 قد أعادت إحياء سلسلة الأحكام المسبقة التي أطلقت حول الإسلام باعتباره دينًا يشجع على قتل الأبرياء وحول المسلمين باعتبارهم ميليشيات بالفطرة وجماعات لا عقلانية. لقد عمدت الوسائل الإعلامية إلى توصيف «الآخر المسلم الغائب» وسعت إلى خلق صورة نمطية تقدّم من خلالها  الإسلام و المسلمين وهي الصورة التي ما عاد بالإمكان التغاضي عنها. أضف إلى ذلك أن الحرب العالمية التي قادتها الولايات المتحدة على الإرهاب إلى جانب غزو العراق، كلها ساهمت في تعزيز هذه الصور النمطية والشكوك تجاه المسلمين، ولا سيما مسلمي مناطق الشرق الأوسط.

ومنذ أحداث 11 أيلول سعى الشيعة أكثر من ذي قبل إلى جعل أنفسهم أكثر بروزًا وفهمًا في الأوساط الأمريكية، وذلك من أجل كسر حاجز الخرافات والأعراف التي نشأت حول الإسلام، وكذلك من أجل الوقوف في وجه من يحاول تقديم الإسلام في المظهر السلبي. فضلاً على أن أحداث 11 أيلول أثبتت للمجتمع الشيعي الأمريكي، هذا إذا ما افترضنا الحاجة للإثبات، أن التعددية في أميركا هي حقيقة اجتماعية لا مجال أبدًا للهروب منها. في الواقع، لقد شهدت الساحة تزايدًا في أعداد الشيعة ممن باتت أسماؤهم بارزة وأصواتهم مسموعة وطباعهم منفتحة في حين أن آخرين أصروا على انتمائهم للهوية الأمريكية عوضًا عن هوية موطنهم الأساس.

تمامًا كما غيرهم من المسلمين، بات الشيعة أكثر وعيًا لضرورة الحاجة إلى منح المزيد في المقابل للمجتمع الأمريكي، إذ إنهم باتوا مدركين أن من الأجدى لهم التكلم مع الآخر عوض التكلم عنه. لذا نجد أنّهم راحوا ينخرطون في الحوارات والمسؤوليات المدنية وغيرها العديد من حملات توزيع الطعام ومساعدة المشردين الأمركيين في مختلف أنحاء البلاد.20 أضف إلى ذلك أنهم باتواا يبرزون أنفسهم أكثر وأكثر في المجالات الأكاديمية، وهنا نجد أن الاهتمام المتزايد في الدراساتت الشيعية وحولها منعكس من خلال الواقع الذي يقول إنّه انطلاقًا من أحداث 11 أيلول تزايدت بشكل كبير المشاريع والمؤتمرات والمراكز التي تصب تركيزها في المذهب الشيعي بشكل عام أو في بعض النواحي داخل هذا المذهب. إشارةً إلى تزايد عدد اللوائح المتعلقة بالمذهب الشيعي التي تقدّمها الأكاديمية الأمريكية حول الأديان في مؤتمرها السنوي أكثر من أي وقت سابق. حتى إنّ أحد المشاريع الذي جاء بتمويل من إحدى الأكاديميات البريطانية تحت عنوان «السلطة في المذهب الشيعي» كان يهدف إلى إنشاء شبكة واسعة من الباحثين الذين ينشغلون في هذا الموضوع وإلى تطوير وضع الأبحاث حول المذهب الشيعي. علماً أن تزايد  الإهتمام بالمذهب الشيعي ليس محصورًا بالأبحاث والدراسات والمقالات،21 حيث إنّ الشيعة في شمالل  أميركا عمدوا إلى رقمنة بعض أهم نصوصهم ومصادرهم.

إشارةً إلى أن مشروع مكتبة أهل البيت الرقمية (al-islam.org) وهي ذات إدارة شيعية، يتضمن العديد من المصادر الشيعية الأصلية القيّمة، فضلاً عن الروابط والمقالات البحثية وغير البحثية والكتب الإلكترونية. كما جرى إصدار صحيفتين شيعيتين منذ أحداث 11 أيلول، The Journal of Shi’a Islamic Studies صحيفة الدراسات الإسلامية الشيعية وInternational Journal of Shi’i  Studies الصحيفة الدولية للدراسات الشيعية، دون أن ننسى العديد من الأقراص المدمجة التي تتناول الفقه والحديث والأصول والأخلاق والتفسير عند الشيعة والتي باتت الآن متوافرة للعامة، علمًا بأن هذه السلسلة جاءت بترويج وإنتاج من مؤسسة نور للبرمجيات في إيران. ولكن يبقى أن أيًا من متون الشيعة الأربعة العائدة للكليني أو الطوسي أو الصدوق لم يترجم بعد إلى الإنكليزية. و بعض أهم الأعمال التي تتعلق بالفقه والتاريخ والسيرة والفلسفة والعرفان لدى المذهب الشيعي فهي أيضًا لا تزال غير مترجمة. وفي هذا المجال لا بدّ من الإشارة إلى أن مؤسسة أنصاريان للنشر في مدينة قم في إيران عمدت إلى ترجمة ونشر عدد من النصوص الشيعية، وعلى الرغم من أن هذه الأعمال تعتمد النبرة الاعتذارية والجدلية إلا أنها تبقى بمنزلة مصادر قيّمة في دراسة مختلف مجالات المذهب الشيعي.

علماً أنه جرى إنشاء بعض المقاعد لأسماء إسلامية في بعض الجامعات في شمال أميركا على سبيل مقعد الأمير الوليد، ومقعد عمر بن الخطاب ومقعد الشارقة في غلوبال إسلام (في كندا) ومقعد الملك فيصل، وغيرها. وحتى وقت قريب، لم يكن قد أنشئ أي مقعد من هذا النوع للدراسات الشيعية وعندما عرضت المسألة أمام آية الله السيستاني في عام 2013 ، أشار إلى أن هذا المقعد يجب أن يُنشئ بشرط أن المنهاج المدرّس يجب أن يكون بالاستناد إلى المعتقدات والممارسات الشيعية «الصحيحة»، وهنا مما لا شك فيه هو أن تعليق آية الله يشير بوضوح إلى ما يتوقع أن ينشأ على الأغلب من خلاف بين العديد من الأجندات المتضاربة لمختلف السلطات الدينية في الإسلام الشيعي ـ في إطار الترويج للدراسات الأكاديمية ـ والمقاربات التي في الغالب ما تعتمدها الدراسات الأكاديمية الغربية. وهذا الأمر في الغالب ما يضع الأكاديميين الشيعة في موقف متزعزع، إذ  المطلوب منهم أن يُرضوا الآمال التي تتوقعها منهم مجتمعاتهم وقياداتها الدينية من جهة و المجتمع الأكاديمي من جهة أخرى.

في عام 2016 جرى استحداث مقعد الإمام علي للدراسات الشيعية في معهد هاتفورد في كونيكتيكت، ووفقًا للموقع الإلكتروني لهذا المعهد، فإن مقعد الإمام علي للدراسات الإسلامية الشيعية والحوار بين المدارس الفقهية الإسلامية يقدّم الفرصة في الأكاديمية، للإسلام الشيعي كي يتكلم عن نفسه. ولتشجيع الحوار بين مختلف المدارس الفقهية الإسلامية، بما في ذلك السنة والشيعة. من جانبه، فإن معهد هاتفورد يرى أن الفهم والقيادة الدينيين متداخلي البناءين والمعاصرين لا بد من أن يتضمنا  التقاليد الشيعية والسنية في إطار الإسلام.22

منذ أحداث 11 أيلول جرت من دون شك نقلة نوعية في الانخراط الشيعي العام، حيث إنّ الرقابة الحكومية المتزايدة إلى جانب غيرها من الإجراءات جعلت الشيعة يدركون أنها وحدها المشاركة في النظام الشمال أمريكي الاجتماعي والسياسي هي ما تساعدهم على رفع الستار الذي يبقيهم في الخفاء في أميركا الشمالية. وعليه فإن الانخراط في المجتمع الشمال أميركي والحاجة إلى إسماع مخاوفهم الاجتماعية والسياسية يتطلب من الشيعة أن يصبحوا أكثر نشاطًا في مختلف قطاعات المجتمع.

لقد منحت أحداث 11 أيلول المجتمع الشيعي الفرصة للوقوف في وجه أسطورة الإسلام المتجانس والأحادي والتصدي لها، إذ شهد الشيعة على نقلة نموذجية  تمثلت في انتقالهم من كونهم هم الآخر داخل المجتمع الإسلامي الذي يشكلون فيه أيضًا صورة الآخر، وباتوا  أقلية قادرة على إيصال صورتها وصوتها في أميركا الشمالية. كما يشعر الشيعة بحاجتهم إلى أن يمثلوا أنفسهم بأنفسهم عوض أن تمثلهم الأغلبية السنية، ولا سيما على خلفية الغزو الأمريكي للعراق واحتلال هذا البلد وزيادة الوعي لدى الشيعة بشأن التبعية، حيث شعروا بضرورة التصدي للصورة السلبية التي تقدّمها الوسائل الإعلامية عن الإسلام.

الخاتمة

لقد غاص هذا المقال في الأعمال الأكاديمية الغربية التي تألفت حول الإسلام الشيعي، حيث قدّمنا في القسمين الأول والثاني من هذة الورقة لمحة عامة تكشف النقاب عن التضارب الصارخ، إذ شهدت المراحل الأولى ندرة في النصوص التي تدرس المذهب الشيعي. علمًا بأن المستشرقين الذين تناولوا في كتاباتهم المذهب الشيعي قبل السيتينيات كانوا يستندون في ذلك على المصادر السنية وأظهروا المذهب الشيعي باعتباره متفرعاً خرج مع مضي الأزمنة عن المجتمع السني السائد. إنما إنظلاقًا من الثمانينيات شهدت الساحة طفرة في الأعمال التي راحت تتناول المذهب الشيعي والتي تصدت لهذه النظرية. ومع مرور الوقت، بدأ الباحثون الغربيون يدركون أن ثمة حاجة لسماع الصوت الشيعي في المعاهد الأكاديمية، وعليه فقد جرت نقلة جلية من مجرد الكلام عن الشيعة إلى محاورتهم. كما أن الباحثين من الشيعة شعروا بضرورة تقديم إيمانهم إلى العلن، لذا فقد أسهموا في الدراسات الأكاديمية حول المذهب الشيعي متسلحين بالأدوات المنهجية التي يستخدمها الغرب إلى جانب المعرفة التي اكتسبوها في حوزاتهم، استطاعوا أن يطرحوا الدوافع والمواضيع والشخصيات الشيعية البحتة في خطابهم. مجتمعين، استطاع هؤلاء الباحثون أن يحدثوا تغييرًا في طريقة تدريس المذهب الشيعي حتى فهمه في الغرب.

في عالم اليوم، باتت البيانات تتسرب في أحجام أكبر وبسرعات أقصى على طول المسافات الطويلة لكي تصل إلى متناول الجمهور أسرع من ذي قبل، ومع ذلك يبقى أن النتيجة لم تتحسن لناحية التنوّر والتعرّف، بل واقعًا فإن النتائج تأتي عكسية في الغالب. فالانفجار المعلوماتي قد ساهم نوعًا ما في خلق المزيد من الكراهية والتعصب، ومن خلال عقد الندوات ودخول المجال الأكاديمي ونشر الكتب والمقالات في الصحف والبروز أكثر على شبكة الإنترنت وتقديم المحاضرات في العديد من المؤتمرات وورش العمل، بدأ الشيعة يغيّرون نمط تفكيرهم حول أميركا الشمالية وأنفسهم أيضًا. وفي حين أن عقلية «العالم القديم» و»الموطن الأم» بدأت تتلاشى شيئًا فشيئًا، كما جرى على نحوٍ واسع في منتصف أعوام الثمانينيات وبداية التسعينيات، فإن المنظمات بدأت تغيّر الدراسات والخطابات المدنية الشيعية في الولايات المتحدة، حيث بات همهم هو كيفية التواصل مع غيرهم من الشمال الأمريكي من دون أن يتخلوا عن الهوية الخاصة التي تميّزهم.

ملاحظات

1- تم طرح هذا البحث في مؤتمر “Shi’i Studies: Past and Present” (الدراسات الشيعية: بين الماضي والحاضر)، في المعهد الإسلامي، لندن، المملكة المتحدة، آيار 2015.

2- فيرنون شوبيل، Religious Performance in Contemporary Islam: Shi’i Devotional  Rituals in South Asia (الممارسات الدينية في الإسلام المعاصر: الشعائر العبادية الشيعية في جنوب آسيا)، (كولومبيا: منشورات جامعو جنوب كارولينا)،ix. هذا المقال هو عبارة عن نسخة مطولة عن مقالي السابق “Western Studies of Shi’i Islam” (الدراسات الغربية حول المذهب الإسلامي الشيعي) في آمريكان جورنال أوف إسلاميك سوشال ساينش، XXXIII، الرقم 2 (2016)، ص. ص. 133 – 144.

3- العلامة السيد محمد حسين طبطبائي،Shi’ite Islam الإسلام الشيعي، (ألباني: صاني، 1975)،1

4- مينو ريفس، Muhammad in Europe: A Thousand Years of Myth-Making محمد في أوربا: الف عام من صناعة الخرافات (نيويورك: منشورات جامعة نيويورك، 2000)، 84

5-  المصدر السابق ص. 87

6- جون تولان، Cambridge Companion to Mohammad زميل كامبريدج لدى محمد. (كامبريدج، 2013). راجع أيضًا لياقت تاكيم، “Western Depictions of Muhammad” “صورة محمد لدى الغرب» في Muhammad in History, Thought, and Culture: An Encyclopedia of the Prophet of God  محمد في التاريخ والتفكير والثقافة: اسنكلوبيديا حول نبي الله (المجلد الثاني)، تحرير سي. فيتسباتريك وأي. واكر (سانتا بربارا، كاليفورنيا: أي بي سي – كليو، 2014)

7-  إيتان كولبيرغ، “Western Studies of Shi’a Islam” «الدراسات الغربية عن المذهب الإسلامي الشيعي»، في مارتن كرايمر تحرير المذهب الشيعي، Resistance and Revolution المقاومة والثورة (بولدير: واستفيو، 1987) ص. ص. 31 - 2

8-  المصدر السابق، ص. 32

9-  الأب رافيال دو مانس، Etat de la  Perse en 1660 الدولة الفارسية في العام 1660 (باريسك شيفير، 1890)، ص. 58

10-  إيتان كولبيرغ،  «الدراسات الغربية عن المذهب الإسلامي الشيعي» راجع أيضًا عباس أحمدواند، “An Iranian Point of View of Shi’i  Studies in the West” «وجهة النظر الإيرانية حول الدراسات الشيعية في الغرب»، في انترناشونال جورنال أوف شيي ستاديز، العدد الخامس رقم 1 (2007)، ص. 15

11-  إيتان كولبيرغ، «الدراسات الغربية عن المذهب الإسلامي الشيعي»، ص. 35

12- راجع إدوار سعيد،Orientalism  الإستشراق (لندن: روتلادج آند كيغان بول، 1978)، ص. ص. 12 - 14

13- إيتان كولبيرغ، “الدراسات الغربية عن المذهب الإسلامي الشيعي”، ص. 36

14- أليساندرو كانسيان “Shi’im”  «المذهب الشيعي»، في Handbook of Medieval Studies: Terms – Methods – Trends دليل دراسات العصور الوسطى: المصطلحات – الطرق – التيارات، ثلاث مجلدات، تحرير أي كلاسن (بيرلين ونيويورك: دو غرويتير، 2010) ص. 97

15- لوي ماسينيون، Die Ursprunge und die Bedeutung des Gnostizismus im Islam  أصول ومعاني المذهب العرفاني في الإسلام (دوسيلدورف: راين – فيرلج، 1938)؛ Der gnostische Kult der Fatima im Shiitischen Islam: العبادات العرفانية لدى فاطمة في الإسلام الشيعي  (دوسيلدورف: راين – فيرلج، 1939)

16- المصدر السابق.

17- باتريسيا كرون ومارتن هيندس، God’s Caliph: Religious Authority in the First Centuries of Islam خليفة الله: السلطة الدينية في العصور الأولى من الإسلام، (كامبدريدج: منشورات جامعة كامبدريدج، 1986)، ص. ص. 33 - 36

18- تقوم القيادة الدينية الشيعية على نظام هيكلي عالي التكامل يسمى مرجع التقليد أو المرجعية. يُطلق هذا المصطلح على أعلى سلطة عالمة في المجتمع الشيعي بحيث يتبع أحكام هذا الشخص المتعلقة بالشريعة الإسلامية من هم محيطون به باعتباره المصدر الذي يرجعون إليه، ومن هنا جاء لقب مرجع. يقوم المقلدون بالاستناد في ممارساتهم الدينية بما يتوافق مع أحكامه وآرائه الفقهية. يكون المرجع مسؤولاً عن إعادة تأويل النصوص الفقهية الإسلامية بما يتناسب مع العصر الحديث وهو يتمتع بسلطة إصدار الفتاوى الشرعية وهو ما يمنحه النفوذ الديني على الحياة الإجتماعية لمقلديه في جميع أنحاء العالم.

19- يطلق على عملية اتباع الفتاوى الشرعية للفقيه الأعلم التقليد. في الفقه الشيعي، يعتبر التقليد التزاما بقبول جميع الأحكام الشرعية كما يراها الفقيه المؤهل لهذا المنصب وللتصرف وفقًا لهذا الالتزام.

20- راجع لياقت تاكيم، Shi’ism in America المذهب الشيعي في أميركا (نيويورك: منشورات جامعة نيويورك، 2009)، الفصل الخامس

21- أليساندرو كانسيان   «المذهب الشيعي»، ص. 104

22- http://www.hartsem.edu/2015/12/fundraising-goal‑reached-for-imam-ali-chairfor- shii-studies-and-dialogue-among-islamic-legal‑schools

------------------------------

لياقت تكيم : بروفسور في جامعة مكماستر في هاملتون ومختص في الشؤون الإسلامية، عنده كتب عدة من بينها " المذهب الشيعي في أميركا".          

 
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف