البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

March / 3 / 2018  |  1457علمانيون نواصب .. بين تاريخ مزور ومتخيل مهووس

السيد محمد علي الحلو المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية آذار 2018
علمانيون نواصب .. بين تاريخ مزور ومتخيل مهووس

ربما في البدء يبدو العنوان غريباً ، ولعله حاكياً عن مفاجئة جديدة ، اذ اضافة العلمانية الى الانتماء المذهبي غيـر معهود في ادبيات الفريقين ، سواء كان العلمانيون الذين تبرؤا من الاصطفافات المذهبية التي على انقاضها اسسوا رؤيتهم، او المتدينين الذين يلقون باللائمة على العلمانيين الذين انفلتوا عن القياد الديني الموروث ، واستثمار المصطلح المتداول في الاروقة العامة يشير الى ان العلمانية قد اختلفوا في نشأة اللفظ المصطلح ، فهل هي بالكسر ((العِلمانية)) ام هي بالفتح ((العَلمانية)) ، فالأول مشتق من العلم ومنسوب اليه ، والثاني يشير الى العالمية وكون العلمانية منسوبة الى العالم وهو سجال فيما بين الطرفين من العلمانيين الذين كل منهما يذهب الى رؤيته وقناعاته ، ولا يهمنا النزاع بينهما وما قدم كل منهما من ادلة وتحقيقات أجهدا بهما بحوثهما ومتابعيهما ، الا ان الذي يهمنا هو المصطلح الشائع من النسبة الى العلم وأن العلمانية محاولة علمية أو ردّة فعل حضارية كما اراد لها منظورها أن يطلقوا عليها ، الا أن غير المتوقع أن يحدث اخفاق لمتبنى هذا المصطلح الذي يعتمد رواده على التحقيق العلمي الممنهج.

الباحث التقليدي:

 والبحث الموضوعي المحقق الذي لا يأتيه اللغو والعبث بين يديه ، اذ آليات البحث العلمي المتوافرة اليوم غير  تلك التي توافر عليها الباحث المطارد من قبل سلطة الرقيب الاموي او العباسي ، وبين هذه المطاردات والاقصاءات التي اثقلت كاهل المحقق ، الّا ان بين هذا الزحام من تراكمات الرقابة السلطوية والمحذورات الامنية انتج الكاتب التقليدي ثماره التحقيقية بشكل موضوعي متين لم تزعزعه عاديات الخوف والتهديد ، فقد بذل الباحث التقليدي خصوصاً التاريخي جهداً جدير بالاهتمام ، وحقيق على باحثي اليوم ان يجعلوا أعماله خارطة طريق من اجل رسم ملامح بحث موضوعي جاد خصوصاً ونحن احوج الى النهوض بالبحث التاريخي للكشف عن الحقائق وتدوينها بما ينفع الحاضر  والآتي . فقد قدم الباحث التقليدي نماذج تحقيقية ممتازة أغنت مكتبة السيرة الاسلامية بفنون من التحقيقات الممتازة التـي اثرت الواقع العربي ، ورفعت الابهام عن الواقع التاريخي المتأرجح بين الحقيقة التاريخية التي فرضت نفسها على الاحداث وبين سلطة الرقيب الذي يسعى الى تقديم الحدث الاسلامي بمستوى يتكافئ مع توجهاته وتحدياته المحيطة به، وبين هذه الظروف المتشنجة التي يعيشها الكاتب التقليدي فقد قدم ما بشأنه أن يكون موضع التقدير ، فلو استعرضنا جهود الرواد من المؤرخين كالطبري في تاريخه وابن الاثير في الكامل والمسعودي في مروجه وابن قتيبة الدنيوري في الامامة والسياسة واليعقوبي في تاريخه وغيرهم من رواد التوثيق التاريخي الذين قدموا اعمالهم الموضوعية بمهنية عالية الجودة في الجمع والتحقيق ، بغض النظر عن محاولاتهم الاعتذارية لبعض الاحداث من اجل ترميم صور الاصحاب الذين كان لهم تاريخاً حافلاً بالغدر والنكوص ، او الاجرام والتعدي على الحرمات ، ولعل المحاولات الاعتذارية كانت للتخفيف من غائلة السلطتين الاموية والعباسية اللتان تحظران التوثيق التاريخي الموضوعي غير المنسجم مع توجهاتها ، وكل ذلك فقد قدمت هذه الاعمال التاريخية المبكرة محاولاتها الجادة في تثبيت شطر كبير من التاريخ الاسلامي الذي وثقته هذه الاعمال .

من هنا نتطلع ان يكون البحث التاريخي الحاضر قد اقتفى سلفه من التوثيق الموضوعي الذي يندرج تحت اعمال المحققين التجديدين الذين توفروا على آليات التحقيق واسبابه المتاحة لتوفر المعلومة متى ما شاءوا وأنى شاءوا ، فالمطبوعات المبثوثة  والمخطوطات المتوفرة المخزونة في اجهزة الكومبيوتر والدوريات المتلاحقة بين واحدة واخرى ، وشبكات الاعلام وادوات التواصل الاجتماعي حتى لا تكاد تخفى معلومة الا على غافل أو مغفل لا حظّ له من التحقيق ، ولا نصيب له من التدقيق كحاطبِ ليلٍ يتعثر بأذيال الاخفاق والتجني على الحقيقة وهو ما وقع به احد ضحايا الاعلام المزور المعروف بالباحث الاكاديمي بسام الجمل التونسي المحاضر في جامعات تونس والذي يفتـرض أن يكون موضوعياً طالما يحمل صفة العلمانية والتـرفع عن الطائفية واصطفا فاتها المقيتة.

كثيـر هم الباحثون العلمانيون  وأكثرهم مثلوا وجهاً ناصعاً لرؤيتهم من خلال التعاطي مع النص الديني الذي يفترض أن يتم التعامل معه على اساس الموضوعية الموصلة الى الحقيقة مع توفر الادلة الناهضة بالآراء والداعمة للتوجهات التي يحملها هذا الباحث أو ذاك المحقق ، أما ان تكون العشوائية طاغية على مباني الباحث مدعياً نهجه الاكاديمي فهو تجن واضح على المنهج الاكاديمي الذي عُرف بصرامته في تناول الحقيقة ، أو على تحفظات الباحث التقليدي الذي يسعى للحفاظ على نقل المعلومة دون المساس بها ، بمعنى ان هناك منهجان يسعيان للوصول الى الحقيقة التاريخية خصوصاً :

الاول : المنهج التوصيفي الذي احتفى به الكاتب التقليدي .

الثاني : المنهج التحليلي الذي سعى اليه الباحث المعاصر خصوصاً ذوي المنهج الاكاديمي .     

وكلا المنهجان يقدمان رؤية واضحة المعالم للوصول الى المعلومة وملازماتها وبما تتوفر لديهم من آليات البحث والتحقيق ، أما أن يكون البحث عشوائياً فهذا ما لا تتوقعه من باحث معاصر اكاديمي يحترم مقومات البحث وسلامة آلياته .

عشوائية "الجمل" في تاريخه ومتخيله :  

قدم الكاتب التونسي بسام الجمل محاول في التعرف على شخصية من أهم الشخصيات الاسلامية والتي لم يُختلف فيها ، فالمسلمون جميعاً أذعنوا لهذه الشخصية وروت مدوناتهم الحديثية ما أشبعتها الذاكرة الروائية من احاديث تشير الى منزلتها عند النبي (ص) وكرامتها وعلو شأنها ، وكانت السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام من الشخصيات المهيمنة على التاريخ الاسلامي بكل تفاصيله.

كان التاريخ عند الكاتب بسام الجمل غيـر ذي أهمية فهو يطوعه حسب ارادته وعلى اساس رغباته ، فاذا روى رواية أنقضها بذوقه ، واذا اراد حديث رده بعقله ، لم تجد للدليل اثرا عنده ، ولا للبرهان اي تقديس لديه ، فالمقدس عنده ذوقه ، والمحترم لديه عقله ، وعلى التاريخ الاسلامي بعد ذلك العفى .  

هذه هي عشوائية "الجمل" يُثبت ليُلغي ، ويُلغي ليُثبت، تراه هائجاً لا يقر له قرار ، يحاكم الرواية بحسب توجهاته ودواعيه الشخصية ، لم يجد قيمة للتحليل ، ولا مكاناً للمنطق ، واذا اردنا تصديق ما اوردناه عليه أخذنا ما كتبه من أول امره في السعي لتثبيت ولادة فاطمة الزهراء عليها السلام هل هي قبل البعثة أم بعدها ؟ .

الولادة المختلف فيها : 

اختلف المؤرخون من الفريقين في تاريخ ولادة السيدة الزهراء عليها السلام فالمؤرخون الامامية يصرون على ان ولادتها في الخامس من البعثة ، واهل السنة تمسكوا بقولهم أن ولادة فاطمة الزهراء عليها السلام في الخامس قبل البعثة ، ولعل اسباب الاختلاف نوردها الى امور :

الاول : سعى الامويون الى تشويش سيرة السيدة الزهراء عليها السلام بعد أن وجدوا أن العلويين صارت هذه السيدة لديهم منار فخر واعتزاز ، وذلك للحط من شأن العلوية التيار المعارض لتوجهات الامويين ، ولابد من السلطة الاموية أن تكسر هذا الصرح الكبير من خلال الدس في تاريخ فاطمة الزهراء عليها السلام للتقليل من منزلتها وعلى حساب "امهات المؤمنين" نساء النبي (ص) خصوصاً عائشة المعارضة الاقوى للإمام علي بن ابي طالب وام حبيبة بنت ابي سفيان الاموية وغيـرهن من نساء النبي (ص) وباتت شخصية السيدة الزهراء عليها السلام هي المهيمنة على كل الشخصيات لاغية بذلك الضئيل لنساء النبي عدا خديجة الممول الرئيسي لدعوة النبي والداعم لبعثته آنذاك ، وبهذا فسيصور لنا التاريخ الاموي أن فاطمة الزهراء عليها السلام المولودة قبل البعثة بخمس سنوات ستكبر حتى لم يرغب بها رجال قريش في الزواج منها ، وسيكون زواجها من علي بن ابي طالب الفقير دفعاً لإحراج التأخير في زواجها فقبلته على مضض ، هكذا يسعى الامويون الى تصوير شخصية الزهراء وزواجها وسنقرأ فيما بعد روايات الزواج المشتركة بين السنة والشيعة لنجد ان زواجها الانموذج احتفى به اهل السماء قبل اهل الارض .

الثاني : محاولة تثبيت أن عائشة اصغر نساء النبي (ص) ، وكان النبي يعتز بها ويحبها اكثر من نسائه الاخريات ، بل حتى اكثـر من خديجة التي بلغت سن الخمسين ، وفرق بين المرأة في سن الخمسين وبين المرأة في سن تسع سنوات عند الرجل وهذا أمرٌ فطري ، لذا كانت منزلة عائشة تفوق نساء النبي حتى خديجة السيدة الاولى في تاريخ البعثة النبوية .

على أننا نؤكد أن خديجة لم تبلغ الخمسين بل حتى ولا حتى الاربعين والاقوال في عمرها كثيرة تتراوح بين 25 سنة وبين 46 سنة وهي كم يلي :

اولاً : ان عمر خديجة 25 سنة :

 كما عند البيهقي وابن كثير في البداية والنهاية والسيرة الحلبية كذلك[1].

ثانياً : 28 سنة:

 كما في تاريخ دمشق وسير أعلام النبلاء وأنساب الاشراف والحاكم في مستدركه وتاريخ الخميس[2].

ثالثاً : 30 سنة:

 وهو ما ذكره في السيرة الحلبية وتاريخ الخميس[3].     

رابعاً : 35 سنة:

 وقد ذكر ذلك ابن كثير في البداية والنهاية والسيرة الحلبية[4].      

خامساً : 40 سنة:

 وهو ما ذكره البلاذري في أنساب الاشراف وشذرات الذهب[5]. 

سادساً : 44 سنة:

 وقد ذكره في تهذيب تاريخ دمشق[6].

سابعاً : 45 سنة:

 وهو ما ذكره في تاريخ الخميس ومختصر تاريخ دمشق[7].

ثامناً : 46 سنة:

 وذكره البلاذري في انساب الاشراف[8].

وقد احصى هذه الاقوال وفهرسها العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي في كتابه الصحيح من سيرة النبي الاعظم (ص)[9].

هذه هي الاقوال في عمر خديجة ، ولم يصل احد من الاقوال الى سن الخمسين ، فمن اين جاء الكاتب بهذا الرأي ، مما يعنـي انه تكلف في احداث رأي آخر يخالف اجماع المؤرخين ، وهذا الخلل في البحث العشوائي الذي لم يستند إلى دليل كلف الكاتب الكثير من المصداقية .

الزواج :   

ولننتقل الى ما اثاره الكاتب في مسألة الزواج حيث قال : ((والحق اننا لا نعثر على اسباب صريحة تفسر عزوف شباب أهل مكة خاصة عن التقدم لخطبة ابنة الرسول ...))

ولم يتـروَّ الكاتب عن هذه الدعوى لو كان مطلعاً على مصدر واحد من مصادر التاريخ التي اجمعت أن فاطمة كان يتعرض الى خطبتها العديد من رجال قريش ، فعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر بعض هذه المصادر التي اوردت هذا الخبـر :

عن علي قال : قال لي رسول الله (ص) يا علي لقد عاتبتني رجال قريش في امر فاطمة ، وقالوا خطبناها اليك فمنعتنا وزوجتَّ علياً ..[10] .       

وعن ام سلمة وسلمان الفارسي وعلي بن ابي طالب قال : لما ادركت فاطمة مدرك النساء خطبها اكابر قريش[11].

وروي انه خطبها قبل علي جمع من الصحابة وان تزويجها من علي كان بوحي من الله ودعا لهما النبي (ص) حين اجتمعا فقال : جمع الله شملكما واسعد جدكما وبارك عليكما واخرج منكما كثيراً طيباً[12]  .

واذا كان رجال قريش قد حاولوا خطبة فاطمة ولم يستجب النبي (ص) الى ذلك فمعنى ان امر زواجها سيكون مشروطاً بتوفر الكفاءة الحقيقية لدى خاطبها الذي سيوافق عليه النبي بعد ذلك ، وهذا يدحض دعوى الكاتب في أن شباب قريش لم يتعرضوا الى خطبتها ، وبغضّ النظر عن الروايات المتكاثرة المجمعة على تكرار خطبة فاطمة فأن مقتضى حالها يؤكد محاولات عديدة ومتكررة لطلب الزواج من فاطمة كونها بنت نبي وليحظ كل من يفوز بخطبتها شرف الانتساب والقرب الى النبي (ص) .

مثلبة الفقر في نظر الكاتب :

ولم يعد الفقر والترفع عن ملاذّ الدنيا في نظر الكاتب الا مشكلة خلق ازمة نفسية لدى فاطمة كما يدّعي ، فالفقر الذي هو احدى سمات الانبياء وعنوان رسالتهم والذي من خلاله قطع دابر التفاخر وغمط حقوق الامم المحرومة ، فالزعامة الدنيوية هي ان يكون الملك أرفع من رعيته في كل شيء ، ولابد للرئيس أن يستأثر بكل شيء من ممتلكات الامة ، ويسومهم سوء العذاب ولا يتنزل الى أحد من رعيته وكونه افضلهم في المعيشة وأسباب الحياة وتوفر متاعها لديه ، هذه هي طريقة الحكم الدنيوي والملك العضوض لدى الحاكم وفريقه .

ألا أن كل ذلك يختلف في موازين الحكم النبوي ، فالنبي الحاكم سيكون أضعف رعيته في متاع الدنيا ، ويكون أزهدهم عن ملذاتها .

وكان رسول الله (ص) مترفعاً عن الدنيا وما فيها وهو يوصي اهل بيته أن يقتفوا أثره وأن يحتذوا سيرته ، فكانت فاطمة خير من مثّلت النبي (ص) في زهده وفقره وحاجته ، وقد ترفعت عن الخيانة وواست بنفسها نساء المسلمين اللواتي كن يعانين من شظف العيش وقساوة الحياة التي كانت هي الصفة العامة لحياة نساء المسلمين ، وقد واستهم ابنة النبي بكل تفاصيل الحياة الشاقة وهي مكرمة ما بعدها مكرمة .

الا أن اصحاب المنهج العشوائي ومنهم الكاتب قد احال هذه المكرمات الى مثالب فقد قال :

(ويبدو ان انجاب الابناء لم يحقق لفاطمة الاستقرار الأسري والتوازن النفسي المطلوبين ، نظراً الى ما كانت تلقاه من صعوبة في العيش ، ومن قسوة الحياة عليها ، اذ كانت تلقى في حياتها اليومية الواناً من الضنك والتعب حتى ان علياً تحدث عنها يوماً فقال : جرت بالرحى حتى اثرت بيدها ، واستقت القربة حتى اثرت القربة بنحرها ، وأقامت البيت حتى اغبرت ثيابها ، وأوقدت تحت القدر حتى دنست ثيابها ، واصابها من ذلك ضر[13]) .

والعجيب ان مثل هؤلاء يتفاخرون اذا وجدوا ابنة احد الرؤساء تقوم بشؤونها دون ان يساعدها احد ، وأنها تكتفي بأبسط مقومات الحياة فتجدهم يجعلون ذلك رمزاً للعدالة وعدم التعدي على حقوق الاخرين ، فلماذا يجعل هذا وامثاله ما اتصفت به فاطمة من مواساتها لابسط رعية ابيها مكتفيةً بأقل من الحياة التي اعتاد عليها اكثر نساء المسلمين ، فلماذا هذا التصور العكسي الذي غلب على مخيلة الكاتب ليصف فاطمة بأنها قد تأثرت من حياة الحرمان والحاجة ؟!

علاقتها مع علي :

ونعجب من ذلك انه عكس حالة الفقر والحرمان على العلاقة الزوجية المتعثرة بسبب ما كانت تعانيه الزهراء من الحاجة التي لم يستطع ان يوفرها علي بن ابي طالب لذا فهو سيعكس ذلك على حالة الود والتفاهم بين الزوجين ليحيلها بمخيلته المأزومة الى خلاف بقوله : ( ومن المرجح تاريخياً ان ما كانت تعانيه فاطمة من مشقة كبيرة في حياتها اليومية من اعباء وخصاصة وجوع مثّل سبباً من اسباب ما عرفته حياتها الزوجية من توتر مستمر ، وتشير الروايات الى أن علياً كان يعاملها بشدة وقسوة ، وربما انقطعت بينهما لغة الحوار)[14].

وحبذا لو دلنا على الروايات التـي توثق موضوعة الخلاف والعلاقة المتأزمة بينهما ، وهذه الطريقة من الدعاوى والتدليس تنقل الكاتب من باحث علمي موضوعي الى مهرج عشوائي طائفي ، فأين الروايات المدعاة ، وهل صحيح أن ينتج الاحتمال نتائج قطيعة في موضوع تاريخي يعتمد على الروايات الصحيحة واجماع الفريقين ؟ .

زواج علي من ابنة ابي جهل :

وتطورت سوء العلاقة في نظر الكاتب بعد اسفافه في التهم والطعون على سلوكية الزهراء وشخصيتها وصل بنتيجة مخيبة الى آماله وهي زواج علي من ابنة ابي جهل كردة فعل حيال فتور العلاقة بينهما فتشبث برواية مختلقة حول هذا الزواج المزعوم وقد اورد ذلك البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وابي داود والحاكم وابن ابي شيبة وعن احمد بن حنبل ومجمع الزوائد والمطالب العلية وغيرها تحدثت بألفاظ مختلفة الا انها نقلت قصة الخطبة فقط ، وعند البحث عن اسانيد كل هذه الروايات وجدناها ضعيفة لا تنسجم مع مجريات الاحداث بل شخصيتي علي وفاطمة فضلاً عن شخصية النبي (ص) وسلوكه ، وبذلك فقد اضاف الكاتب الى رصيد عشوائياته رقماً آخر يحكي عن خيبة امله في رسم تاريخ مزور .

ان محاولات كهذه لا تتناسب والمنهج العلمي الذي يدعيه هؤلاء اصحاب المحاولات الحداثوية في التعامل مع هذه الدعاوى ، فهناك منهج يحاكم الرواية على اساس السند فضلاً عن شواهد صحة المتن بقرائن معينة ، الا أن الكاتب لا يعي المنهج السندي الذي يتعاطى به العلماء في محاكاة الرواية وتبويبها ضمن مصنفات الروايات الصحيحة أو الضعيفة التي لا يُعتنى بها ولم يكد يذكرها في بحوثه .

المعارضة بنحو آخر :

لعل القارئ لم يتفق معنا في عنونة البحث حول ناصبية بعض العلمانيين ، الا أنه سيظهر صحة المقولة والعنوان حيثما تقرأ تحريفاً آخر يطعن في تفاصيل الحدث مع الاقرار بما وقع على الزهراء من ظلم واجحاف واعتداء فيسعى الى تبرير الهجمة البربرية التي تعرضت لها من قبل ابي بكر وعمر فقد نقل بالحرف الواحد مرويات الفريقين حيال ما جرى على فاطمة الزهراء معترفاً بوقوع الاعتداء الا انه مبـرراً ذلك كون الاعتداء الذي كان ردة فعل لموقف الزهراء من بيعة ابي بكر وعدم اعطاءها البيعة ، وان المعارضة لابي بكر كانت قد اتخذت بيت الزهراء مقراً لاجتماعها ضد ابي بكر فضلاً عن رفض تسليمها الكتاب الذي دفعه ابوبكر والقاضي بمنحها فدك ، وجعل الكاتب هذه الامور مبرراً شرعياً للاعتداء والهجوم على دار فاطمة .

وليت الباحث اتعب نفسه قليلاً ليبحث في كتب الصحاح الحديثية التي تحدثت عن رعاية النبي لابنته فاطمة وحرصه على سلامتها وعدم ايذاءها ، وقرن حبه بحبها وبغضه ببغضها ، واشاد بذكرها في المحافل ، وأضاف نفسها لنفسه فهي بضعته وروحه التي بين جنبيه .

ففي احاديث متواترة ورد عن النبي (ص) :

فقد روى الحاكم في المستدرك عن النبي (ص) : ان الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها[15].

وروى ابن حجر عنه (ص) : فاطمة بضعة مني من آذاها آذاني ومن احبها فقد احبني[16].

وعن الحموي : فاطمة قلبي وروحي التي بين جنبي[17].

وفي مسند احمد قال (ص) : انما فاطمة شجنة مني ، يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها وان الانساب يوم القيامة تنقطع غير نسبي وسببي وصهري[18] ، وخرج رسول الله (ص) ذات يوم وقد اخذ بيد فاطمة (ع) وقال : من عرف هذه فقد عرفها ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد وهي بضعة مني وهي قلبي الذي بين جنبي ، فمن آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله[19].

وبعد هذه الاحاديث فما هو الكاتب الذي برر  للانقلابيين  هذا الاعتداء على فاطمة الزهراء بحجة معارضتها وعدم اعطائها البيعة ، على ان هذه الاحاديث كلها شهادة في تزكية النبي (ص) للزهراء بل هي نصوص على طهارتها عن كل ما يشين المؤمن من العمل المنافي لله ولرسوله وكون كل حركة من حركاتها لا تخرجها من حق وتدخلها في باطل ، فمن اباح لهؤلاء بعد كل هذه التوصيات في حقها أن يفعلوا ما فعلوه ، ومن أباح للآخرين ان يعتذروا كل هذه الاعتذارات الواهية ، وبعد هذه الاحاديث التي تلوتها وعشرات مثلها لم نذكرها فهل بعد ذلك شكّ في أن فاطمة أغضبها ابو بكر وعمر وكان لغضبها غضب النبي (ص) وغضبه غضب الله؟ فهل يشك مرتاب في أن الله غاضب على هؤلاء بعد نقمة الاجراءات التي اتخذها اهل السقيفة .

الكاتب ومحنة فدك : 

ولم يستطع الكاتب ان يبرز امكانيات بحثه بموضوعية تامّة امّا قصوراً او تقصيراً ، أو كلاهما معاً ، حيث ادعى ان الخلاف بين الامامية وغيرهم من اهل السنة بـ ((أن الاشكال بين اهل السنة والشيعة في هذا الباب هو : هل الرسول منح فدك لفاطمة في حياته ام لا ؟))[20] وهذا التساؤل يكشف عن قلة باع الكاتب في معرفته بالتاريخ الاسلامي وملامح السير النبوية ، وقد غيّبت الكثير من الحقائق عن تصوراته لقلة اطلاعه بعد أن اقحم نفسه في غير ميدانه ، وسأزود القارئ بما انكره او تغافل عنه من حقائق .

ففي الدر المنثور عن ابي سعيد الخدري انه قال : لما نزلت الآية ((فآت ذا القربى حقه ..)) دعا رسول الله (ص) فاطمة الزهراء واعطاها فدكاً[21] ،ومثله في تاريخ الحاكم النيسابوري . وذكر ابن حجر العسقلاني في الصواعق المحرقة ان عمر قال : اني احدثكم عن هذا الامر ، ان الله خص نبيه في هذا الفيئ بشيء لم يعطه احداً غيـره فقال : ((وما افاء الله على رسوله منهم فما اوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط..)) فكانت هذه ((يعنـي فدكاً)) خالصة لرسول الله(ص)[22].

وقد روى البخاري عن عائشة : ان فاطمة بنت النبي (ص) ارسلت الى ابي بكر تسأله ميراثها من رسول الله (ص) مما افاء الله عليه بالمدينة وفدك ، وما بقي من خمس خيبر .

فقال ابو بكر : ان رسول الله (ص) قال : لا نورث ما تركنا صدقة[23] .

وفي صحيح مسلم عن عائشة في حديث .. قالت : كانت فاطمة تسأل ابا بكر نصيبها مما ترك رسول الله (ص) من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة فأبى ابو بكر عليها ذلك.[24]

ولا يمكن لنا اتهام دعوى فاطمة بعد ان اجمع المسلمون ان آية التطهيـر نزلت فيها وفي آلها وقد نزهتهم عن كل رجس وقبيح ومنه الكذب والخيانة ، وانها صادقة مصدقة في دعواها ، فكيف توقف الخليفة في تصديقها طعناً منه على دعواها وتكذيباً للنبي الذي شهد بعصمتها . هذه الاسئلة وأمثالها لم يكد يجيب عليها الكاتب او يتوقف عندها مما اوقعته في دوامة العشوائية البحثية .

شتان بينهما :

ومن الامور المستغربة في البحث كون النبي (ص) يشيد بشخصية فاطمة وانها شجنة منه ، وروحه التي بين جنبيه ، وان الله يرضى لرضاها ، ويغضب لغضبها وكثير من الاحاديث التي ذكرناها والتي لم نذكرها تبين شأن فاطمة وخصوصيتها ، الا ان الكاتب يفاجئنا بقوله : ((والحاصل من سيرة فاطمة انها لم تكن سوى شخصية عادية ، سواء في حياة الرسول ام بعده ، فلم تكن لها اي حظوة في وسطها الاسري الضيق قبل الزواج وبعده ، او في وسطها الاجتماعي القبلي في مكة ثم في المدينة ، ولا خبر في المصادر التاريخية عن سبب عزوف شباب قريش عن طلب الزواج بها ، على الرغم من كونها ابنة النبـي ، حتى اذا قيض لها الزواج لها من علي بن ابي طالب فان ذلك تم بأَخَرَةٍ مقارنة بسن تزويج الفتيات وقتئذ[25].

وشتان بين التقيمين ، تقييم النبي (ص) لمقام فاطمة وبين تقييم الكاتب لمكانتها واعتبارها امرأة عادية ، ولا تتفاجئ اذا وجدنا ان الكاتب لا يقر حتى للنبي (ص) عظمته ومنزلته بعد أن يصفه بأنه ذو منزلة خيالية بقوله : ومن البديهي ألا ترضي هذه السيرة التاريخية الباهتة علماء الاسلام سنة وشيعة فانبروا يؤولون احداث التاريخ المقترنة بفاطمة ، فأعادوا بناء سيرتها فأسسوا بذلك خطاباً في سيرة فاطمة يعبر نظرة الاجيال الاسلامية اللاحقة الى ابنة النبي والى آل البيت عموماً ، وقبل هذا وذاك نظرتهم الى الرسول نفسه بعد ان تبوّأ في ضمائرهم ووجدانهم منزلة مرموقة لا مزيد عليها[26] .

هذا ما يمكن ان يكون عليها الكاتب متمثلاً النبي بأنه ذو تاريخ متخيل رسمته وجدانيات المسلمين فما بالك في تقييمه لسيرة فاطمة . ؟!

المتخيل المهووس :

لم يعد الاخفاق التحقيقي الذي واجهه الكاتب نهاية ازمته النفسية ، بل عبّر عن أزماته واخفاقاته العلمية في محاولات الاصرار الباعثة على كشف توجهاته المأزومة بعد ان وجد التاريخ يحيل السيرة الفاطمية الى ملحمة من ملاحم النصر النبوي على الازمات المفتعلة التـي اثارها المنافقون لإيقاف عجلة التقدم في البعثة النبوية المباركة ، والانموذج الفاطمي كان انعكاساً لنجاح مرحلة من اهم مراحل الصراع الذي خاضه النبي (ص) مع مناوئيه فكانت الحصيلة هيمنة الخطاب الفاطمي على مجمل الاحداث الاسلامية حتى هذه الساعة .

من هنا شعر الكاتب ومن على طريقته أن العقل المتأزم يدخلهم في صراع الماضي لخلق حاضر موهوم ، وهو المتخيل الذي عكسته توجهات الكاتب وخطه، لذا اعتبر التاريخ الفاطمي لم يلبي رغبات المؤرخين فعمدوا الى تفعيل المخيلة التاريخية لرسم صورة لفاطمة اخرى تخالف الواقع التاريخي .

هذه هي ازمة الكاتب النفسية بعد ان خرجت من تخيلات المدرسة الاموية التي اختصت في خلق المتخيل الاسلامي لخلق شخصية الخليفة ، ورعه ، زهده ، تقواه ، حلمه ، كرمه الى غيـر ذلك مما لم يشهد التاريخ بها ، فكانت شخصية معاوية حاضرة في المتخيل الرسمي ومن قبل كانت شخصية عائشة هي الباعث في خلق متخيل خلاق يعطي انطباعاً آخر من حب النبي لها وتقديمه على نسائه الاخريات ومن ثم على خديجة وبالتالي على فاطمة التي وردت فيها روايات متواترة في مكانتها الجليلة ورتبتها العظيمة ، وقد عملت ماكنة الاعلام الاموي على ذلك منذ ان بدأ الصراع مع الخليفة الشرعي –الامام علي– حتى ساعتنا هذه ، وكان لعائشة النصيب الاكبر من رسم ملامح شخصيتها في المخيلة الشعبية حتى سرت الى مخيلة الكتّاب المتأخرين ، وبهذا فالكاتب لا يزال مستغرقاً في المتخيل الاموي حتى اذا دعته الضرورة في التحقيق انعكست لديه جهد المتخيل الاموي الذي رسم ملامح أشخاص وحدد معالم توجهات الفكر وتداعيات التسابقات المحمومة .   

------------------------------

[1] . دلائل النبوة للبيهقي 71:2 ، البداية والنهاية 294:2 ، السيرة الحلبية 140:1

[2] . تاريخ دمشق 1 : 303 ، سير اعلام النبلاء 2: 111 ، انساب الاشراف : 98 ، المستدرك للحاكم 3 : 182، تاريخ الخميس 1 : 264

[3] . السيرة الحلبية 1 : 140 ، تاريخ الخميس 1 : 303

[4] . البداية والنهاية 2 : 295 ، السيرة النبوية 1 : 140

[5] . انساب الاشراف : 98 ، ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب 1 : 140

[6] . تهذيب تاريخ دمشق 1 : 303

[7] . تاريخ الخميس 1 : 301 ، مختصر تاريخ دمشق 2 : 275

[8] . انساب الاشراف : 98

[9] . راجع الصحيح من السيرة 2 : 200

[10] . اعلام الورى : 64 ، حبيب السير 1 : 115

[11] . مناقب الخوارزمي : 343 ، كشف الغمة 1: 363

[12] . الفتوحات الربانية 2 : 50

[13] . فاطمة من التاريخ الى المتخيل : 7

[14] . نفس المصدر السابق : 8.

[15] . المستدرك على الصحيحين 3 : 154.

[16] . الصواعق المحرقة : 289.

[17] . فرائد السمطين 2 : 66.

[18] . مسند احمد 4 : 323

[19] . كتاب المختصر عن تفسير الثعلبي : 133.

[20] . فاطمة من التاريخ الى المتخيل : 10.

[21] . الدر المنثور 4 : 177.

[22] . الصواعق المحرقة : 25.

[23] . صحيح البخاري 5 : 177.

[24] . صحيح مسلم 3 : 1381 حديث 54.

[25] . فاطمة بين التاريخ والمتخيل : 13.

[26] . نفس المصدر السابق.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف