البحث في...
عنوان الحوار
إسم المحاور
إسم مجري الحوار
المصدر
التاريخ
ملخص الحوار
نص الحوار
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

December / 8 / 2021  |  993الحرب الناعمة هي التعبير الأشد خطورة من هيمنة الميديا الغربية

الحوار مع :زهير ماجد
الحرب الناعمة هي التعبير الأشد خطورة من هيمنة الميديا الغربية

لعلّ أبرز مشاهد التحوّلات في الإعلام المعاصر هو هيمنة الفضائيات المرئيّة والمسموعة على الجمهور العالمي، وقدرتها التأثيريّة على أنماط التفكير والسلوك، فضلاً عن استخدامها كعاملٍ حاسمٍ في التغيير السياسي والاجتماعي.

في هذا الحوار مع الباحث في الإعلام المعاصر والصحافي زهير ماجد سوف نتوقّف على طائفةٍ من الإشكاليات التي تولَّدت من عالم الميديا، أبرزها التغييرات الهائلة في أنظمة القيم، وسعي الغرب الاستعماري على سلاح الميديا لإخضاع الشعوب وبخاصة شعوبنا العربية والإسلامية.

وفي ما يلي نص الحوار:

«المحرر»


* بصفتكم من المتخصّصين في الصحافة والإعلام المعاصر، هل يمكن بداية أن تضعونا في الآثار التي ترتّبت على الصحافة المكتوبة بعد ثورة الميديا وعلى نحو أكثر تحديدًا؟ وإلى أيّ مدى تراجعت الصحافة الكلاسيكيّة المكتوبة أمام هذه الثورة؟

ـ عندما أمسكت العدد الأخير من صحيفة «السفير» اللبنانية في الواحد والثلاثين من شهر ديسمير/ كانون الأوّل 2016، كنت على علم أنّها لن تكون الأخيرة التي ستتوقف عن الصدور، وإنّ السبب الذي دفعها إلى المشيئة تلك، عامة وتتناول الصحافة المكتوبة بعدما انتصرت الميديا بكلّ أشكالها الحاليّة من تواصل اجتماعي وتلفزة متقدّمة وأساليب تعبير متطوّرة. ولا شكّ أنّ انحجاب الصحيفة سبّب انزعاجًا من قبل قرّاء اعتادوا عليها ورأوا فيها المناخ الصحفي الذي يعجبهم في شكلها ومقالاتها، والأهم في موقفها وانحيازها إلى الجهة التي تلائمهم. ومع أنّ أكثر من صحيفة لحقتها إلى الإغلاق في لبنان، إلّا أنّ الأثر الذي تركته سيكون صعبًا تقبّله في وقته، وإن كان المرء يعتاد (والعادة طبيعة ثانية في الإنسان) على الحقيقة كلّما مرّ وقت وزمن، تمامًا مثل الحزن، الذي يبدأ كبيرًا ثم يتضاءل كلّ يوم. والحقّ يُقال إنّ الكلمة المكتوبة هي عمر الزمن الذي بدأ التعبير بتلك الكلمة، فهي بالتالي روح تطوّر الأجيال التي تمتّعت بها وشكّلت أهليتها الإنسانيّة. الكلمة المكتوبة هي النّصّ الذي قدّم للإنسان شتّى تطوّر الحياة بكلّ اختصاصها وصاغ الأفكار ووضع لها مفاهيم، ومهما تمّ تحديث الأشكال التي تحاول تحديها فلن يكتب لها النّجاح، ولن تكون بديلًا عن الأصل الذي هو البداية والنهاية، والعالم مهما يتطوّر، يظلّ حنينه إلى كلاسيكياته وعودته الدائمة إليها. وأستطيع القول إنّ ثورة الميديا بكلّ أشكالها أثبتت نجاعتها، لكنّها ظلّت عاجزةً عن تحدّي الكلمة المكتوبة والورقة والحبر واللون. هي دخلت في حيّز مختلفٍ يتأقلم مع طبائع البشر الحاليين ومع أجيال تريد أن تتسابق في التعبير الإنشائي عن قيمها وبعض من أفكارها. صحيح أنّ ثورة الميديا حاولت تحدّي الكلمة المكتوبة، إلّا أنّها أخفقت في أن تكون البديل ولن تكون.

لكن الأمر لا يتوقّف عند هذا الحدّ من المفهوم؛ لأنّ الصحافة المكتوبة كما قلنا ليست ورقًا وحبرًا وألوانًا، وإنّما هي جزء من حالة إعلاميّة عامّة يعيشها العالم في كلّ مكوّناته الإعلاميّة. فلقد ترتّب على انتصار الميديا بانفجارها التّطوّري الذي حصل، إن جعلها لحظويّة في بعضها، بعدما جعل العالم سوقًا واحدةً، وهو شعار دعاة العولمة الإعلاميّة.

ما بلغه واقع الميديا أنّ تطوّره لم يكن هادئًا، بل جاء قفزةً في كلّ أشكاله فحقّق للإنسان المعاصر رغبات دفينة في إيصال كلامه وصورته ومفاهيمه عبر القنوات السريعة لها، ولا شكّ أنّها إضافةً إلى أشكال أخرى من الثورة الرائدة، قفزة فوق النّمطيّة التي اعتدنا عليها، ونعرف سلفًا أنّ ثورة الميديا لن تقف عند هذا الحدّ، بل ستجد دائمًا فرصتها لتقديم الجديد الذي لن يبدّل من الكلمة المكتوبة دورها التاريخي.. لنأخذ مثلًا: واحدة من الدلالات الحسيّة لتطوّر الميديا، فما شهده الخلويمثلاً من تطوير كبير يمكنه أن يكون مكتبة متكاملة لصاحبه، ففيه كلّ الارتباطات بالعالم الخارجي، وفيه الصورة السريعة اللحظويّة، وفيه الخبر الذي يبرز أيّة صحافة مكتوبة، ومن خلاله نطلّ على حاجتنا المعلوماتيّة مهما كان عنوانها.. لكنّنا بكلّ أسف لم نستعمله لهذه الغايات، بل حوّلناه نحن العرب إلى وسيلة للتسلية وقضاء أوقات من الفراغ، وما المشاهد التي نراها في مراكز التجمع العربية وغيره لشباب يتلهون به سوى تعبير عن فقرٍ ثقافيٍّ سوف يزداد مع الوقت.

لن تزول الكلمة المكتوبة مهما واجهها من تحديات «ثورية إعلامية» جديدة؛ حيث من المتوقّع أن نُفاجأ دائمًا بها. فمن قالمثلاً إنّنا قد نتوصّل إلى مفهوم السكايب؛ ليظلّ الدفء قائمًا بين العائلات الموزّعة بين هذا العالم لتزول المناطقيّة وبُعد القارات، فيما زالت الرسائل المكتوبة التي كانت أجيال وأجيال تنتظرها لتفرغ من شحنة الإحساس بالفراق والبعاد. 

* يقول الخبراء في علوم الإعلام المعاصر وتقنيات التّواصل إنّ هيمنة الغرب على شعوب العالم ومجتمعاته هي من أبرز النتائج الراهنة التي حقّقتها الميديا. ما رأيكم بذلك، وما هي الدلالات التي يحملها هذا التطوّر لجهة ما يُعرف اليوم بالحرب الناعمة التي تشهد عليها منطقتنا بصفةٍ خاصّةٍ؟

- هو ليس صراعاً، بكلّ أسفٍ، ما يدور بين الغرب والشّرق في مجال الميديا، كي لا نقول أيضًا كما رأى عدد من روّاد الفكر العربي المعاصر من أنّ الشّرق شرقٌ والغربَ غربٌ ولن يلتقيا.. فما وصله الغرب من قدرات في هذا المجال هو الذي تحوّل إلى أساس عالميّ في عالم الميديا، فكان وضع أيضاً بتصرّف الآخرين ومنهم العرب، فالحاجة بالتالي إلى سطوة الغرب في مجال الإعلام وتقنياته كثيرة ومتشعّبة، ولا يمكن لغيره أن يحقّق أهداف ثورة بحجم ما بلغته الميديا بكلّ أشكالها.

سيطر الغرب على التّواصل الفضائي والأرضي، محقّقًا قفزةً تاريخيّةً في بلوغ أهداف كانت بالنسبة إلينا نحن أهل الإعلام الأوائل معجزة. رعيلنا أبناء الستينيات والسبعينيات والثمانينيات الذي يعود بالذاكرة إلى زمن مضى، يعرف بساطة العمل الصحافي مثلاً في أيّامه، لكنّه كان أيضًا في مجال الأخبار متحكّمًا به من قبل شركات إخباريّة كلّها أو جلّها غربيّ. وحين أقول كلمة البساطة في العمل، فالمقصود أنّ أساسيات الأخبار الدوليّة والعربيّة، كانت واحدة تقريبًا بين كلّ الصحف المحليّة وحتى العربية، وربّما العالميّة. أمّا اليوم، فثمّة أساليب جديدة يتعلّمها الصحافي في الجامعة، وينفّذها أثناء عمله، وهو التواصل السريع والمنوع مع الخارج، وانعكاسه على التّواصل داخل الصحيفة ذاتها.. إضافة إلى مصادر الأخبار وسرعة انتشارها وأهميّة الصورة التي كانت وما زالت.

 ثورة الإعلام تلك، دخلت في نسيج الفضاء، وتملّكت منه تمامًا على مستوى السيطرة الكاملة من خلاله على الكرة الأرضيّة، صارت الأرض أصغر بكثير من إمكانيات المسيطرين عليها، حتى يمكن القول إنّ حدثًا مهمًا كان ستكون له مشاهدته في لحظته. فإضافة إلى السيطرة التقنيّة للثورة الإعلاميّة، هنالك واقع جديد لم يكن بالحسبان، وهو قضيّة الخلوي وقدراته التصويريّة كما قلنا، والتي جعلت مشهدًا مروّعًا كارثيًا كالذي وقع في مرفأ بيروت يوم الرابع من أغسطس / آب حاضرًا بقوّة ومن جوانب متعدّدة من تصوير أناس ليس لهم علاقة بالصحافة إلّا أنّهم دخلوا في نسيجها عندما قدّموها إلى الإعلام المرئي ومن ثم الورقي.

السيطرة الكاملة للإعلام، مهّدت لحربٍ جديدةٍ في هذا العالم، باتت معروفة ومستمسكاتها واضحة. فلقد تم استبدال الدبابة بالإعلام، والجيوش بالعملاء، والاحتلال المادي بالاحتلال الفكري والايديولوجي. إنّها الحرب الناعمة، بكل مقوّماتها الجديدة التي تُسخّر اليوم شتّى المواقع لتكون المصادر لتلك الحرب، والتي هي مصانع هوليوود وكل الإنتاج السينمائي، ومن ثم الطلاب الوافدين للدراسة ورجال الأعمال وغيرهم وهؤلاء خير من يحمل الأفكار ومصطلحات تلك الحرب.. هذا لا يعني تدمير الطائرات العسكرية والدبابات والآليات والبوارج البحرية وكل آلات الحرب لأجل تلك الحرب الدقيقة، التي تبدو وكأنّها لا تبدو أو غير ظاهرة كتسمية، فيما هي من أصل العلاقة بين العالم المتقدم والنامي؛ لأنّ الصّراع البشري طويل وعميق ومعقّد، ولن تكتب له أيّة نهاية، ولسوف يخترع البشر دائمًا مادّة صراعهم بأشكال جديدة.. كأنّما الحفاظ على الجنس البشري يتطلّب تأكيدًا للصراع.. الشيء الوحيد الذي ينهيه هو تحويل دم الإنسان إلى ماء كما يقول تولستوي، وهذا لن يحصل البتة كما يضيف.

-  يرى الخبراء إلى ظاهرة الميديا باعتبارها الموجة الرابعة من حروب السيطرة الغربية على العالم العربي والإسلامي، وخصوصًا بعد سلسلةٍ من الحروب وموجات الغزو العسكري والاقتصادي والسياسي والثقافي.. إلى أيّ حدّ يصدق هذا التوصيف على الميديا بما هي ذروة استراتيجيات السيطرة الغربية على العالم؟

- حافل التاريخ الإنساني بموضوعات الحروب والسيطرة، هو موضوع الإنسان عبر تاريخه كلّه كما أسلفنا، بل هو صورته في مرآة الحياة التي قرّرها منذ أن اخترع النار ومضى يطوّر حاجياته دون أن ينسى أن في دمه تكمن مشكلة انشداده الدائم إلى صراع الآخرين مهما كانت الأسباب، عدائيّة أو اقتصاديّة أو منافسة أو حب السيطرة.. مأساة فلسطين مثلاً واحدة من فظائع السيطرة التي قادتها بريطانيا عبر التاريخ البشري.. ويوم تقاسمت هذه الدولة الاستعمارية مع فرنسا منطقتنا العربية ووضعتها تحت نفوذها مباشرة، كان الرهان أن لا قيامة لها، لكنّها قامت مرّة على يد جمال عبد الناصر، وما لبث أن تكالبت عليه دول العالم. الحلم الغربي بالمنطقة العربية قديم العهد، وليست موجات الحروب الصليبية سوى الوجه الدال عليها. وقبلها صنع الرومان إمبراطوريتهم الكبرى بدماء أبناء المنطقة، وشيّدوا مآبدهم بعصارة تعبهم. الواقع المتخيّل لذلك التاريخ، يجعلنا أسراه.. ويفتح دائمًا عند كتابة الحقيقة التاريخيّة، إن السيطرة على منطقتنا بما هي كانت محطة جغرافية مهمّة، عبقرية المكان، ثم لاحقًا محطّة خامات أرضية في غاية الأهميّة، أضيف عليها وجود الكيان الغاصب «اسرائيل»، الهدف الدائم.

قبل أيّ إعلام، اكتشف الغرب أهميّة المنطقة العربية.. أضاءت كنوز الشّرق عقل الغربيين ولم يكن الدين هدفًا على الإطلاق. كانت أوروبا على تنابذ، لكنّها توحّدت لحظة التفكير بالاستيلاء على الشرق الإسلامي والعربي.

* لا تبدو الميديا التي صنعتها الحداثة الغربية في السنين الأخيرة بريئة من الغايات السياسية، خصوصًا وأنّ ما يُسمّى مجتمع الإعلام العالمي الذي يقاد منذ عقود من جانب الطبقة المسيطرة في أميركا، بات يلعب دورًا محوريًا في تفعيل تسعير الأزمات وقيادة الحروب. ما تعليقكم على هذه الفرضية؟

ـ قد لا تكفي كلمة بريئة في وصف التكالب الأميركي الإعلامي، كونها المغزى العميق لكلّ أنواع الميديا الحديثة والمخترعة التي صمّمها الغرب وخصوصًا أميركا ونفخ فيها روحه المجرمة، وهو السيطرة على عقول العرب تحديداً.. فمن يسيطر، هو من يمسك بالقرار، ما تتطلّبه الدولة الكبرى أميركا هو تصنيع المجتمعات العربية كي يخدم اسرائيل عاجلًا وآجلًا.. كلّ ميديا مستحدثة يجب أن يكون غرض ما في إضافة ما يجعل اسرائيل أكثر تجذّرًا في المنطقة. ليس صدفة، أن ترسل الإمارات صاروخًا كلّه صناعات غربية بالطبع، إلى المريخ، فهو مكافأة محسوبة لها على حالة التطبيع والاعتراف باسرائيل، يراد منه فعل صارخ في خدمة هذا البلد العربي.

من المؤسف أنّ العرب ليسوا صنّاعًا للميديا وغيرها. ولن يكونوا بالتالي شركاء للصانع، بل خدم له. الغرب وتحديدًا أميركا لا تتحمّل مسؤوليّة الضّعف العربي الذي هو من مسؤوليّة العرب أنفسهم. كان الفيتناميون يقولون «خيار الكرامة والسيادة والوطنية أمر صعب لكنّه لذيذ».. فأين العرب من هذا الكلام البسيط. يبدو أنّ العملقة الوطنيّة تحتاج لدماء غزيرة كما دفعتها فيتنام، وليس فعل الدلال وخصوصًا الخليجي.

كلّ نقلة غربيّة سواء في الإعلام أو غيره لها معنًى.. وعندما يصوّب الأميركي على دول الخليج وبشكلٍ إعلاميّ سافر بالدفع كما يأمر أمرًا الرئيس ترامب، فهو يخترع طريقة إعلاميّة جديدة هدفها الاذلال لمن توجّه إليهم.. بل هو إعلام إسقاط الهيبة عن المتوجّه إليهم.

ومن نافل القول، إنّ المنطقة العربيّة هي المستهدفة دائمًا، سواء في نهب الخيرات أو التآمر في إشعال الحروب كما يفعل في سوريا واليمن والعراق وحتى في ليبيا، لا يمكن للأميركي أن يخرج من مسرح الشرق الأوسط؛ لأنّه المكان الذي يحقّق له طلّته العالميّة بفخار وعنجهيّة.

* في سياق حروب التجزئة المستحدثة التي يخوضها الغرب ضدّ المجتمعات الإسلامية أسهمت الميديا بفعاليّة في تعزيز الايديولوجيا الإرهابية. حتى إنّ هناك من علماء الاجتماع الغربيين من يقول: إنّ الإرهاب ليس شيئًا يُذكر من دون وسائل الإعلام.. ما يعني أنّ الميديا شريكة فعليّة في صناعة الإرهاب الذي يجتاح البلاد العربية والإسلاميّة منذ تفجيرات مركز التجارة العالميّة في نيويورك عام 2001 إلى يومنا هذا. ماذا تقولون في هذا الشأن؟

- النّظرة الأولى إلى مشهد البرجين وهما يحترقان في 11 ايلول / سبتمبر عام 2001، وما نتج عنها من فكرة أوّليّة، سوف تأخذ بلا شكّ إلى الإصبع الأميركي الذي سيضعها على خارطة الشرق الأوسط وعلى بعض أقطاره، وقد فعلها. كان واضحًا أنّ التحقيقات السريعة التي أجريت يومها، أنبأت بسياسة أميركية مباشرة تجاه تلك الخارطة بعد تحميلها مسؤوليّة الحادث.. فكان لا بدّ إذن من اعتماد نظريّة «الإرهاب الإسلامي» كما سمّاه الرئيس السابق جورج بوش الابن كردّ فعل على الحادث الخطير.. وما زلنا نذكر إلى اليوم، الكم الهائل للحوارات التلفزيونية والمقالات والكتابات وهجمة الإعلام الغربي عمومًا والأميركي خصوصًا على الإسلام والمسلمين وتحميلهم المسؤوليّة في كلّ ما حدث. ومنذ ذلك التاريخ الذي صار منعطفًا، بدا واضحًا أنّ المستهدف الأوّل من ردّة الفعل الأميركيّة سوف تكون بلاد المسلمين لا غيرها.

أمام انقراض الاتّحاد السوفياتي قبل نهاية التسعينيات فتح الباب لهيمنة دولة واحدة على العالم، بدت الولايات المتحدة أثناءها وكأنّها في حالة نشوة للواقع العالمي الجديد الذي سترسمه كما يحلو لها، فكان الإعلام بالتالي التجهيز الذي كرّس تلك الزعامة، وأحاطها بالضمانات والافتراضات التي أوصلتها إلى ما أرادته لاحقًا. 

أذكر أنّي كنت في القاهرة عام 1990 حين زار الرئيس بوش الأب مصر.. كنت في مهمّة تنفيذ برنامج ثقافيّ حين خذلني المصوّر المصري ولم يأتِ للتصوير في اليوم الذي وصل فيه بوش، وعلمت في اليوم الثاني أنّ إدارة التلفزيون المصري احتجزته كاحتياطيّ في تغطية الحدث، فأخبرني أنّ الجهاز الفنّي والإعلامي الأميركي المرافق للرئيس بوش هو من أدار عملية الكاميرات بشتّى تفاصيلها الصغيرة والكبيرة وسيطر عليها وكان يدير حركة الرئيس بدقّة، ولم يسمح لنا بالاقتراب إطلاقًا لا من التصوير ولا تغطية الحدث. ويومها كان الواضح أنّ الأميركي قد وصل إلى مبتغاه وحقّق أهدافه الإعلاميّة في رسم الطريق لتكون حربه على العراق مبرّرة ومقنعة للعالم.

آسف للقول، وربّما لا آسف أيضًا إن قلت إنّ الانحطاط العربي ساعد الأميركي على بلوغ أهدافه التي رسمها منذ تاريخ الحادث في نيويورك وما تلاه، بل ساهم العرب في تحقيق غايات الإعلام الأميركي وتقديم ما يساعده على التأثير حتى في عقول العرب، فكيف بأهل الغرب.

* برأيكم، هل استطاع العرب والمسلمون استخدام الإعلام الإلكتروني والتلفزة الفضائية في الحفاظ على القيم الأخلاقيّة والهويّة الوطنيّة في بلادنا؟

- الذين أوجدوا الإعلام الإلكتروني بكلّ مشتقّاته، ليس العرب، ومن المعروف أنّ من يؤسّس فكرة وينفّذها له فيها حسابات جمّة. فحينما سلك العرب طريق الواتس آب والتويتر والفيس بوك وغيره، حوّلوا منصّاتها عبر «جيوش» كثيرة إلى كلام فارغ في أكثره، وهو ما تشجّع عليه سياسة ذلك الإعلام ويهمّها أن يتواجد ويكبر ويتمدّد. فهي تريد للفراغ أن يتأبّد في العقل العربي وأن تظلّ التوافه سيدة تبادله مع الآخر أو الآخرين. أحدهم كتب مرة في آليات التواصل، من يحترم عقله يبتعد نهائيًا عن تلك المنصات التافهة التي ولدت أساسًا لتحطيم عقولنا. . وكتب آخر، ما لهذه الحروب الكلامية التي تجري، وكلّها مدسوسة وثمة من يساعد على رمي النفط في نارها المشتعلة. الغرب أوجد تلك الثورة الإعلامية الإلكترونية من أجل تسهيل التواصل بين الأفراد والشعوب وتبادل الثقافات وتعليم ما يمكن تعليمه، لكنها تحوّلت إلى غايات وتبادل للشتائم والكلام غير المقبول عندما وضعنا يدنا عليها.

أمّا التلفزة الفضائية فحدّث ولا حرج.. كأنّما ولدت من أجل السباب والشتائم، وبدل أن تخدم قضايا العرب الكبرى وتساهم في مشاريع تنميتهم وتؤسّس حالات فكريّة نموذجيّة تصيب في تحديث الحياة العربية والعقل العربي، تراها تذهب في اتجاه الخطاب الطائفي والمذهبي والتحريض عليه، وهي بالتالي تزيد الجرعات منه يوميًا لكي يتأكد لنا أنّ وراءها خبير ووراء الخبير عقل ينفذ ووراء العقل من يدير ويخطط لإبقاء المنطقة على ما هي عليه من إحباط وانقسام وقلق وتوتّر وتأهّب؛ لتأديب الآخر، بل لحروب إلغاء هذا الآخر.

الكثرة الساحقة من التلفزة العربية الفضائية هويّتها إمّا سياسيّة ولها أداء واضح في بثّ خصومتها ضدّ هذه الجهة أو تلك، وإمّا دينيّة كما قلنا عن أهدافها الجهنّميّة. ونحن بالتالي أمام إعلام عربيّ في شتّى حالاته مصيبة كبرى.. فلا هو كتاب أخلاق موظف لصناعة التهذيب السياسي والاجتماعي والإنساني، ولا هو كتاب ديني يترجم حميمية الدين ومفهومه الحياتي والإنساني، ولا هو دعوات لنهوض الأمّة وتسخير طاقاتها، ومن ثم تحرير فلسطين.      

* مع اجتياح جائحة كورونا العالم بأسره، حصل ما يشبه الزلزال الذي لم تتوقّف ارتداداته العميقة على شعوب العالم، وعلى المجتمعات الغربية بوجه خاص. كيف ترون إلى النتائج المترتّبة على الجائحة، وكيف تعاملت الحكومات الغربية معها خصوصًا لجهة التنصّل من مسؤولياتها في المجال البيئي وتوظيف الميديا ووسائل التّواصل لمصلحة الشركات الكبرى؟

ـ احتجزني منزلي.. منذ شهور وأنا مختبئ عن عيون زائر غريب، يقول المختصّون جميعًا إنّه يزور الأرض لأوّل مرّة، وهو على خطورته ما يبشّر بأنّه انتصر عليها وما زال يبعثر أبناءها بين أموات وأحياء مرضى.

حتى كتابة هذه السطور لم اصطدم به بعد رغم أنّ لا معركة معه، وإن جرت فأنا الخاسر سلفًا.. ومن علامات اضطرابي وقلقي وجزعي منه، حماية انفي وكلّ تفاصيل وجهي ورئتاي وحتى ثيابي والأهم يداي.. هو غير مرئيّ، وزنه إنْ جمع من كلّ الأرض لا يوازي غرامًا واحدًا، فلنتصوّر كم هو جزيئيّ، وكم هو متناه في حجمه.

لا أريد التّعرّف على هذه الكورونا الخبيثة المطلّة من تاريخ لا نعرفه، ولا إلى تاريخ نجهله. حقّق هذا الزائر الفيروس واقعًا جديدًا في العالم، صنع علاقات اجتماعيّة تناسبه تمامًا: ممنوع اللقاء حتى مع الأقرب إليك، وممنوع التقارب الاجتماعي، وممنوع المصافحة بالأيدي، وممنوع على حبيبين إظهار شغفهما أثناء أيّ لقاء، والندوات ممنوعة وكذلك لقاءات المقاهي وكلّ شأن ثقافي جماعي.. كلّ لمسة مشكوك فيها يجب أن تخضع فورًا إلى غسل اليد بالماء، وللعطس حكايته الخاصة، والسعال أيضًا..

من الواضح وهو سرّ أسرار هذا الفيروس الزائر، أنّه فتك بالغرب وقلّل فتكه بالعرب. كأنّما له مزاجيّته العربية في خياراته. كأنّه حنون علينا وشرس عليهم، بل كأنّه يرأف لمصائبنا الكثيرة فيخفّف من غلوائه بنا .. تراه في الغرب هدّار يقتل بلا رحمة، مفترضًا أن هؤلاء الغربيين يستحقّون هذا التعامل القاسي، ولم يشفع له تقدّمهم العلمي والاختراعات المتطوّرة والمختبرات المميّزة، ولا حتى العنجهيّة بأنّهم الأوائل في كلّ شيء. ويبدو من الظلم الذي لحق بالشعوب الأوروبية والأميركية تحديدًا أنّها تدفع ثمن استهتارها بهذا الزائر الفتّاك الذي لم تعرف حتى كتابة هذه السطور كلّ تفاصيله، بل بدت أوروبا وأميركا وكأنّها لا تفقه شيئًا عن الفيروس. وفوق استهتارها منحت هذا الفيروس حرية قتل كبار السن من أبنائها خلاصًا من أموال تقاعدهم الضخمة. ثم إنّها من أجل اقتصادها رفعت الحجر فكان رد الفيروس قتل بالآلاف وإصابات بعشرات الآلاف أيضًا. وفي الولايات المتحدة، التي تعتبر الدولة الأولى في العالم من حيث عدد الإصابات والوفيات، تركت جزءًا هامًا من شعبها بدون تغطية صحيّة، فمات معظمهم في منزله لعدم قدرته على الذهاب إلى المستشفى.       

الآن يجري في عالم الغرب صراع بين الشركات المنتجة للأدوية.. همّها ليس إراحة إنسانها من هذا المرض الفتاك، وإنّما كميّة الربح الذي سيتوفّر لأوّل من سيعلن التّوصّل إلى دواء أو لقاح. من هنا نفهم تهجمها على اللقاح الروسي إعلاميًا ومحاولة تصويره بأنّه سيء وغير فعّال، (بعدما استطاب للرئيس الروسي فلادمير بوتين أن يعلن عنه شخصيًا)، من أجل تحطيمه قبل أن يبلغ السوق..

بالآلاف يموتون يوميًا في الغرب وخاصّة في الولايات المتحدة الأميركية.. لا شكّ أنّ عيونهم على الشرق حيث أرقام موتى الفيروس أقل بكثير. وللحقيقة أقول: إنّ من حقّ أيّة شركة كانت واستطاعت العثور على الدواء أو اللّقاح لهذا المرض، أن تتقدّم بكلّ فخر إلى البشرية التي تنتظر حدثا من هذا النوع. هنالك ظمأ إنسانيّ للخلاص من هذا الفيروس والحدّ من رعبه على مدار الساعة.

إذا كان الفيروس سرّ المختبرات، فهو في مسيرة تحدّيه لجميع المجتمعات دون استثناء سرّ آلهيّ يقول للإنسان إنّك أضعف منّي، ومهما كان صغر حجمي فلن تنال مني. سوف أرافقك من الآن وصاعدًا حتى لو وجدت اللقاح أو الدواء، وسأكون إلى جانب كلّ الأمراض والفيروسات التي عرفتها منذ عشرات السنين، لكن ما يُميّزني عنها أنّني اختفي في من أصيبه لسببٍ وجيهٍ كي أصيب آخرين أيضًا، وهذا هو السبب الذي جعلني قهّارًا مخيفًا وضعت الكرة الأرضيّة أمام خيار الموت المؤكّد.        

* انطلاقا من موقعكم الأكاديمي والمعرفي كيف ترون إلى الآثار التي تركتها الميديا على مناهج البحث العلمي، إنْ على صعيد تيسير الحصول على المراجع والمصادر لإنجاز الأبحاث والدراسات، أو لجهة إحداث فوضى منهجيّة لدى الباحثين وطلّاب الدّراسات العليا في التّعامل مع السيل الهائل للمعلومات على المواقع الإلكترونية؟

- أمدّ يدي إلى زر اللابتوب أثناء بحثي عن معلومات ما، فيأتيني الجواب دائمًا أسرع ممّا أتوقّع، أو أكثر سرعةً من كتابة اسم المعلومة. اعتقد، بل أجزم أنّه تيسّر للدارسين وللكتاب ولكلّ باحث وطالب دراسات عليا ما لم يتيسّر في زمن مضى من سهولة في الوصول إلى الغاية المعلوماتيّة بأقلّ وقت وأقلّ تعب وبحث مضن في بعض الأحيان.

تحقّق إلى حدّ بعيدٍ مشروع وضع المعلومة بخدمة من يريدها ويبحث عنها، بل تحقيق مبتغى أيّ منا إلى حاجاته الفكريّة التي يرى في أجوبتها أحيانًا تفاصيل متعدّدة ومن جوانب متعدّدة. جميعنا حين نكتب في أكثر من الأحيان إنْ كان تأليفًا أو بحثًا أو دراسة نضطر إلى كبسة الزر تلك، ليأتينا الجواب على بساط مريح.

هذا العالم المفتوح على مصراعيه للمعرفة قد لا يكفي المرء الباحث، لكنّه يضع أمامه عناوين أساسية توصله إلى الغايات التي يبتغيها. ويبدو أنّ لا حظر على المعلومات، فهي متوفّرة في كلّ الاختصاصات، وبكلّ اللّغات، والأهم أنّها حياديّة في أكثر الأحيان، أي أنّها تقدّم المعلومة بدون ارتباط بأيّة فكرةٍ مسبقةٍ.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف