البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

عبداللَّه بن سبأ: قراءة تاريخية في الحدث والدلالة

الباحث :  أ.د. ابراهيم بيضون
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  1
السنة :  السنة الاولى ربيع 1416هج - 1996 م
تاريخ إضافة البحث :  March / 11 / 2015
عدد زيارات البحث :  1690
عبداللَّه بن سبأ: قراءة تاريخية في الحدث والدلالة
أ.د. ابراهيم بيضون‏ (*)
- 1 -
تندرج حركة عبداللَّه بن سبأ في ما يُعرف بـ «الإسرائيليات» في التاريخ الإسلامي، والتي كانت تجليَّاتها في يثرب، حيث تداول اليهود ـ أو قيل ذلك ـ أخباراً عن ظهورٍ قريب لنبي، وأخذوا يتوعَّدونه ويهدّدون من يعتقد به. فكانوا ـ حسب رواية الطبري ـ إذا جرى حديث بينهم وبين العرب (الأوس والخزرج) «قالوا لهم: إن نبيّاً قد أظلّ زمانه، نتَّبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرم» (1) .
ولعل حديث الإسرائيليات كان أحد الموضوعات البارزة التي أولاها عناية كبيرة الأخباريّون المسلمون، إلى جانب اهتمامهم بسيرة الرسول(ص). فكان من روادها كعب الأحبار، وهو عالم كبير من يهود اليمن، عاصر دعوة الإسلام، ولكنه تأخر في الانضمام إليها حتى خلافة أبي بكر(2) ، أي بعد رسوخ هذا الدين وانتشاره على مساحة واسعة خارج شبه الجزيرة العربية، وأصبح حينذاك مرجعاً للأخبار لما قبل الإسلام. فقد تتبَّع بعض هؤلاء الإخباريِّين بشغف الفترة السابقة على الإسلام، في محاولة منهم لربط الحاضر بالماضي، وما يمكن أن تضيفه في التعرّف على الظروف والعوامل المؤثِّرة في العقيدة، المتصلة جذورها بالحنيفية.
كان كعب الأحبار ـ وقد ظلّ مشكوكاً بإسلامه ـ أوّل المروِّجين للإسرائيليات على نطاق واسع ما جعلها تتخذ ذلك الحيِّز في الروايات
________________________________________
(1)تاريخ الطبري، ج‏2، ص 354.
(2)سهيل زكار، التأريخ عند العرب، ص 34.

[الصفحة - 187]


التاريخية العربية. وثمة من يرى أنه مجرّد انتهازي ركب موجة الإسلام، ولم ينفك مسخِّراً ذكاءه للطعن في «سلفية» (3) الدين، وإظهار ما لليهود من معرفة واسعة بالغيبيَّات. حدث ذلك، أو شي‏ء منه، في عهد عمر بن الخطاب، الذي تنبّه لما يضمره اليهودي المخضرم، فيروي الطبري أن الخليفة عندما أراد إقامة المسجد في بيت المقدس، بعد فتحها، استدعى كعباً وسأله: «أين ترى أن نجعل المُصَلَّى؟ فقال: إلى الصخرة، فقال(عمر): ضاهيت، واللَّه اليهودية يا كعب... بل نجعل قبلته صدره.. فإنا لم نؤمر بالصخرة ولكن امرنا بالكعبة» (4) .
وعندما توعّد أبو لؤلؤة الخليفة عمر، كان كعب حاضراً بدوره «المشبوه»، مضفياً على الحادثة مسحة «توراتية» تذكرنا بتلك الأجواء التي سبقت هجرة النبي(ص) إلى المدينة. وفي هذا السياق يروي الطبري، أن كعباً جاء الخليفة في اليوم التالي، فقال له: «يا أمير المؤمنين، إعهد، فإنك ميِّت في ثلاثة أيام. قال عمر: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب اللَّه عز وجلّ: التوراة. قال عمر: اللَّه!، إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا، ولكني أجد صفتك وحليتك وأنه قد فني أجلك» (5) . وعلى الرغم من أن أحداً لم يأخذ بصحة أقوال كعب في المدينة، فإنه على ما يبدو لم يكن بعيداً عن التهمة، بأنه ضالع بصورة ما في عملية الاغتيال، ما دفعه ربما بسبب ذلك إلى الخروج من الحجاز والانزواء في حمص‏ (6) ، ولكن الملف برمته طوي بأمر من الخليفة الجديد، لأن التحقيق لو فُتح، لطال شخصيات كانت لها مصلحة في غياب الخليفة القوي، وهي التي ألمح إليها عبيداللَّه بن عمر، بعد قتله ثلاثة (7) اعتبرهم ضالعين مباشرة في الاغتيال قائلاً: «واللَّه لأقتلن رجالاً ممن شرك في دم أبي، يعرّض بالمهاجرين والأنصار»، حسب الرواية التاريخية (8) . وكان عليّ(ع) قد طالب بإجراء محاكمة للمتهمين، بمن فيهم ابن الخليفة السابق، إلاَّ أن ذلك لقي معارضة من «بعض المهاجرين»، فضلاً عن عثمان الذي حسم الأمر على الطريقة «الأموية»، حين تحمّل ديّة القتلى من ماله الخاص‏ (9) .
ينطوي كعب الأحبار بعيداً عن الأضواء في «منفاه»، ولكن مدرسته ظلت
________________________________________
(3)السلفية هنا بمعنى الإبداع والريادة، انظر لسان العرب، ج‏9 ص 158.
(4)الطبري، ج‏13، ص 611.
(5)المصدر نفسه، ج‏4، ص 191.
(6)زكار، المرجع السابق، ص 34.
(7)جفينة والهرمزان واببة أبي لؤلؤة، الطبري، ج‏4، ص 239.
(8)المكان نفسه.
(9)المكان نفسه.

[الصفحة - 188]


قائمة تجذب إليها أولئك الذين أغراهم الدخول إلى عالم الأساطير والبحث في التاريخ «المجهول» لما قبل الإسلام. وقبل موته نسب له القول في مجال التنبؤ: «لن يملك أحد هذه الأمة ما ملك معاوية» (10) . وقد تصدى لهذه المسألة بشكل خاص، الأخباريون اليمنيون الذين وجدوا في الإسرائيليات مادة خصبة للتعرف إلى تاريخ بلادهم القديم. ومن أبرز هؤلاء: وهب بن منبّه وعبيد بن شريه في القرن الأول الهجري، إذ راكم كل منهما، بدافع التعصب لموطنه ـ كما يعتقد الدوري ـ أخباراً عن تاريخها، هي عبارة «عن مزيج من القصص الشعبي والإسرائيليات، وحاول الإخباريون اليمنيّون بذلك تمجيد عرب اليمن، بأن نسبوا إليهم أمجاداً في الحرب والصنعة واللغة والأدب وحتى في الدين، ليدللوا على أنهم سبقوا عرب الشمال في أمجادهم، أو أنهم لا يقلّون عنهم في ذلك» (11) .
وقد تمتع عبيد بن شريه بشهرة خاصة في هذا المجال، لا سيما وأنه عمّر طويلاً وعاصر معاوية بن أبي سفيان الذي كان شغف بسماع قصص التاريخ، «ويستمر حسب ـ رواية المسعودي ـ إلى ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها والعجم وملوكها وسياستها لرعيتها وسير ملوك الأمم وحروبها ومكايدها... وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة» (12) . وغالباً ما استدعى معاوية عبيداً، ليحدّثه بمثل هذه الأخبار التي كان كثيرها على ما يبدو ملفّقاً، ويدخل في نطاق الأساطير أكثر من الواقع.
وهكذا يدخل الفكر اليهودي عبر التاريخ إلى تراث العرب، فيشكّل مادة أساسية في أخبار المرحلة السابقة على الإسلام. وكان أكثر من روّج له في ذلك الوقت المبكر الذي شهد بدايات التكوين التاريخي، وهب بن منبّه، وهو وُلد لأم عربية في اليمن، إلا أن الغموض يحيط بنسب أبيه، إذ يرى المؤرِّخ زكّار بأنه يتحدّر من «الأبناء» الفرس وربما اعتنق اليهودية (13) ، ولكن وهباً سارع إلى الانخراط في الإسلام، وتوصّل إلى أن يكون «من خيار التابعين... ومات وهو على قضاء صنعاء».
________________________________________
(10)السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص 195.
(11)عبد العزيز الدردي، بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب، ص 15.
(12)مروج الذهب، ج‏3، ص 31.
(13)سهيل زكار، المرجع السابق، ص 36.

[الصفحة - 189]


كما جاء في تصنيف ياقوت الحموي له‏ (14) ، والذي وصفه أيضاً، بأن «صاحب القصص... كثير النقل من الكتب القديمة المعروفة بالإسرائيليات» (15) . وعلى الرغم من اتخاذ سيرة الرسول حيِّزاً ما في أخبار وهب، إلا أنه اهتمّ أساساً ـ شأن عبيد بن شريه ـ بتاريخ اليمن، دامجاً الكثير من الإسرائيليات بالأساطير العربية القديمة عنه‏ (16) .
ولا شك أن تأثير الإسرائيليات ظلّ واضحاً، ولوقت غير قصير، في الأعمال التاريخية للعرب المسلمين، حتى إذا كان عصر المؤرخين الكبار في القرن الثالث الهجري، بات من المألوف في منهاجهم، وضع مقدمات لتواريخهم تتّسع لقصص الأنبياء السابقين، وهو ما يندرج أيضاً في باب الإسرائيليات‏ (17) ، كما يتجلى على الخصوص لدى كل من اليعقوبي‏ (18) والطبري‏ (19) . وعلى هذا النحو سار المؤرخون في القرون التالية، فجاءت مقدماتهم مزدحمة بأخبار الأمم القديمة، لا سيما أخبار بني إسرائيل.
وإذا كان المؤرخون الأوائل، في انكبابهم على التأريخ للإسلام، قد رأوا أن عملهم لا يكتمل إلا بالعودة إلى ما قبله، فإن موجة الإسرائيليات ـ ربما عن غير قصد ـ لم تعدم تأثيراً في أخبارهم، لا سيما تلك التي يشوبها تلفيق من حركات المعارضة. وليس بعيداً أن تكون شخصية عبداللَّه سبأ، من ضمن ما لفقته الروايات التاريخية، في سياق الدفاع عن الشرعية الممثلة بالخلافة، والتي كان المؤرخون عموماً يدورون في فلكها، ويرون أنها رمز وحدة المسلمين، كائناً من كان القائم بأمرها. وهي مسألة لا تعدو المنهج في النهاية، لأن المؤرخ محكوم بالنص ولا سبيل أمامه سوى الالتزام به. ولكنه انطلاقاً من الخبرة وما يتمتع به من ثقافة تاريخية، فضلاً عن النظرة النقدية التي يتوصل إليها، يستطيع، ومن غير صعوبة، التمييز بين الروايات، شأن الذين حققوا في أحاديث الرسول، فنبذوا الكثير مما ليس مقبولاً منها. والشك يصبح هنا من واجبات المؤرخ، دون أن يكون غير وسيلة لاكتناه الحقيقة التاريخية، لأن
________________________________________
(14)معجم الأدباء، ج‏19، ص 259 ـ 260.
(15)المصدر نفسه، ج‏19، ص 59.
(16)شاكر مصطفى، التاريخ العربي والمؤرخون، ج‏1، ص 138.
(17)المكان نفسه.
(18)تاريخ اليعقوبي، ج‏1، ص 24 وما بعدها.
(19)تاريخ الطَّبري، ج‏1، ص 272 وما بعدها.

[الصفحة - 190]


الاستسلام للنص معناه الاصطدام بمنطق الحدث الذي خضع لاعتبارات ربما مسّت الجانب الموضوعي فيه.
وليست رواية عبداللَّه بن سبأ وحدها مما يثير الريب لدى المؤرخ الذي يجد نفسه أحياناً أمام أحداث ليست خالية من الصَّنعة، أو من تدخل العنصر الخارجي فيها، على نحوٍ يخلّ بالإنسياب في مسار المرحلة، ونتوقف هنا بشكل خاص عند حادثة «فلورندا» (20) التي يبدو أنها مدسوسة من المؤرِّخين الأسبان، كأحد العوامل التي مهّدت لفتح بلادهم، دون أن يكون لها من هدف سوى تشويه الإنجاز الذي حققه العرب المسلمون في أسبانيا.
وهكذا تسرّبت، إلى الفكر التاريخي العربي، المؤثرات اليهودية مؤدية إلى تراكم الأساطير والغيبيات فيه، دون أن يقتصر ذلك على الحقبات السابقة على الإسلام، ولكنها انعكست بصورة ما على أحداثٍ بعده، لم تخل أخبارها من نفس أسطوري، ولم يتنبّه المؤرخون من أقطاب المدرسة الحديثة كثيراً إلى هذه المسألة، خصوصاً وأن الغالبية منهم أغفلت نقد النصّ التاريخي، ما جعل أعمالهم محاكاة لأعمال الأسلاف في المضمون والأسلوب وحتى في طريقة التفكير. وعندما ترجم المؤرخ حسن ابراهيم حسن، كتاب المستشرق الهولندي «فان فلوتن» (21) بدا تأثّره واضحاً بالمناخ السائد في القرون الهجرية الأولى، فاستبدل بـ «المعتقدات المهدية» (من عنوان الكتاب)، «الإسرائيليات» التي وجدها أكثر ملاءمة لمنهاجه المتطابق إلى حد كبير مع مناهج المؤرخين الأوائل.
- 2 -
من هو عبداللَّه بن سبأ؟
بعد هذا المدخل في المنهج، نتساءل عمَّ إذا كانت شخصية عبداللَّه بن سبأ من إنتاج ذلك الموروث «الإسرائيلي» الذي اختزنته الذاكرة العربية قبل مرحلة التدوين، أو بمعنى آخر عمَّا إذا كان مجرد أسطورة على هامش الأحداث، أم
________________________________________
(20)هي ابنة جوليان حاكم سبته الذي أرسلها إلى بلاط الملك لذريق (رودريك) في طليطلة للتأدب بآداب الملوك. فبهر جمالها الملك الذي اعتدى عليها، ما أثار حقد جوليان الذي اتصل بالعرب وحرّضهم على غزو أسبانيا، مقدماً لهم المساعدات العسكرية حسب الرواية التاريخية. ابن القوطية، تاريخ افتتاح الأندلس، ص 34.
(21)ترجمة في ثلاثينات هذا القرن تحت عنوان «السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات في عهد بني أمية». وقد قمت بإعادة ترجمته عام 1980 وصدرت مؤخراً طبعة ثالثة له حاملة العنوان الأكثر مطابقة للأصل الفرنسي، وهو: «السيطرة العربية والتشيع والمعتقدات المهدية في ظل خلافة بني أمية».

[الصفحة - 191]


حقيقة تغلغلت في نسيجها، وبالتالي كانت وراء ذلك المنعطف الأكثر خطورة في تاريخ الإسلام؟.
هذه القضية ظلَّت ساكنة خلال قرون عديدة، ولم يتعد التعرض لها ما جاء في رواية سيف بن عمر المُفردة عنها، أي أنه تمّ التعامل معها على أساس أنها جزء لا ينفصل عن سياق ما عُرف بـ «الفتنة» الأولى، بل من أدوات تفجيرها الرئيسة عند بعض المؤرخين. ولقد بقي ذلك قائماً، ما بقي المنهج التاريخي متوكئاً على منهج الرواية الخبرية، بعيداً عن أي نقد أو تحليل أو مقارنة. على أن «السبئية» ـ دعوة ابن سبأ ـ اصطدم بها لأول مرة في هذا القرن، الكاتب الكبير طه حسين، وهو وإن لم يكن مؤرِّخاً، إلاّ أنه امتلك حسّاً تاريخياً مرهفاً، مكّنه من الخوض في إشكاليات مهمة على مساحة المرحلة. وقادته أبحاثه حول ابن سبأ إلى التشكيك بظهوره في الأصل، فاتحاً الباب أمام إعادة النظر في هذه المسألة وغيرها من المسائل في التاريخ الإسلامي.
غير أن الشك يصبح يقيناً لدى مؤرِّخ معاصر، هو السيد مرتضى العسكري الذي تصدى على نطاق واسع لشخصية ابن سبأ، متوّجاً جهوده بكتاب قارب فيه المنهج العلمي، وقد صدر في ستّينات هذا القرن تحت عنوان: «عبداللَّه بن سبأ وأساطير أخرى». نقول قارب هذا المنهج، لأن الدخول كليّاً فيه يقتضي الحيادية التامة وعدم الانطلاق من فكرة قائمة في تفسير التاريخ، إذ أن العسكري يتعامل مسبقاً مع موضوعه على أساس أنّه رواية ملفّقة هدفها النيل من عليّ، وربط التيّار الذي يمثله بعنصر خارجي، في حين أن المؤرخ محكوم، من حيث المبدأ، بالعودة إلى النص.
وأي استنتاج يصل إليه إنما يكون من داخل هذا النصّ وليس بعيداً عنه. ولا نقصد هنا التبخيس بما قام به هذا العالم المحقق، ولكن الانحياز الذي يتجلى ابتداءً من المقدمة في الكتاب، وذلك على قاعدة الرفض المطلق لوجود هذه الشخصية، جعل منه طرفاً «مقاتلاً»، أكثر منه مؤرخاً هادئاً يتوخَّى فقط الحقيقة التاريخية.
________________________________________

[الصفحة - 192]


ولعل ما تردد من عبارات «متوتّرة» ـ إذا جاز التعبير ـ في مستهل الكتاب، إنما جاء استجابة لهذا الموقف الذي يسارع «العسكري» إلى إعلانه. ومن ذلك: «يتلخّص ما زعموا بأن يهودياً من صنعاء اليمن أظهر الإسلام في عهد عثمان واندسّ بين المسلمين... وسمّوا بطل قصتهم عبداللَّه بن سبأ، ولقَّبوه بابن الأمة السوداء... وزعموا أن السبئيين أينما كانوا أخذوا يثيرون الناس على ولاتهم... وزعموا أن المسلمين بعد أن بايعوا علياً وخرج طلحة والزبير لحرب الجمل، رأى السبئيون أن رؤساء الجيشين أخذوا يتفاهمون... فاجتمعوا ليلاً وقرروا أن يندسوا بين الجيشين ويثيروا الحرب... وزعموا أن حرب البصرة.. وقعت هكذا دون أن يكون لرؤساء الجيشين فيها رأي أو علم... إلى هنا ينتهي هذا القاص من نقل قصة السبئيين، ولا يذكر بعد ذلك عن مصيرهم شيئاً...» (22) .
ولعلّ نفي الكاتب، على هذه الصورة لشخصية ابن سبأ، قد يؤدي إلى عكس ما يتوخَّاه، أي إلى «تكبير» هذه الشخصية ونسب أعمال خارقة إليها، حتى لو أشارت إلى ذلك الرواية. إذ في هذه الحالة، منطق الحدث الذي يعني المؤرخ وليس الحدث نفسه، خصوصاً إذا كان مقطوعاً عن سياقه أو على تنافر معه.
فإذا توقَّفنا عند حرب الجمل التي وردت في النص السالف كمسرح للسبئيين فإنها ـ واستناداً إلى مجموع الروايات ـ قد نضجت فكرة في مكة بعد التئام قادة المعارضة لعلي (طلحة، الزبير، عائشة)، وموافاة يعلى بن منبه التميمي (والي عثمان على صنعاء) لهم، ومعه خراجها، حيث أسهم والزبير وعبداللَّه بن عامر (والي البصرة في عهد عثمان) في تمويل حركتهم المناوئة للخليفة (23). وقد اختار هؤلاء البصرة بعد دراسة دقيقة، كونها مهيأة أكثر من غيرها لتشكيل بؤرة يعملون من خلالها على إسقاط خلافة علي.
ولم تكن الحرب التي وقعت فيها إلا محصلة حتميَّة لخروج قادة المعارضة في جو مشحون أساساً بالعداء للخليفة، ولم يكن بحاجة إلى عنصر
________________________________________
(22)مرتضى العسكري، عبداللَّه بن سبأ وأساطير أخرى، ص 29 ـ 31.
(23)الطبري، ج‏4 ص 450؛ ابن الأعثم، فتوح، ج‏2، ص 79.

[الصفحة - 193]


آخر يسهم في شحنه وجرّه إلى الصدام المسلح.
وفي ظل هذا الجوّ، ذهبت سدى مناشدة عليّ لهم «في الدماء»، إذ «أبوا إلا الحرب» كما يقول المسعودي‏ (24) ، كما تبدّد تحذير الممول الرئيس للحركة (يعلي بن منبه) الذي قدّر صعوبة الموقف في البصرة، وأخذ يتجه بأنظاره إلى الشام‏ (25) ، حيث أسس معاوية لسلطة قوية فيها، متقاطعاً في ذلك مع عبداللَّه بن عامر الذي نصح بعدم تجاهل معاوية: «فإن غلبتم علياً فلكم الشام، وإن غلبكم علي كان معاوية لكم جُنَّة» (26) .
والسؤال ما زال قائماً.. من هو عبداللَّه بن سبأ؟
وبداية لا بدّ من القول ـ وهذا ما تنبه له أولاً طه حسين وخاض فيه على نطاق واسع مرتضى العسكري ـ إن الطبري تفرّد من بين مؤرخي جيله الكبار، بذكر هذه الرواية المنسوبة للإخباري سيف بن عمر التميمي. ولعل هذا المؤرخ الذي تستهويه التفاصيل، وعُرف عنه عدم الاكتفاء برواية واحدة، خلافاً لمعاصريه الذين تعمّدوا الانتقاء في رواياتهم، كان يجنح أحياناً عن هذه القاعدة، فيقع في شرك الرواية المفردة في غير موضع من «تاريخه» المطوّل، منحرفاً بها من السياق مكاناً وزماناً، وعن المنهج الذي التزم به على مساحة واسعة منه. ومن ذلك تلك الرواية الغربية ـ وهي لسيف أيضاً ـ التي تتحدث عن غزوة أمر بها الخليفة عثمان إلى الأندلس‏ (27) ، دون أن يكون العرب المسلمون قد انتشروا نفوذاً ما يتعدى «برْقة» في أفريقية. وإذا توقفنا عند الجزء الرابع من «تاريخه»، والذي تغطي مادته أحداثاً شديدة الأهمية في التاريخ الإسلامي (16 ـ 36 هـ)، فنجد أن أغلب الروايات متوكئة على سيف، وهو كإخباري لا يتمتع بالثقة نفسها التي يتمتع به الآخرون، ممن اعتمد الطبري على رواياتهم ما يدعونا إلى الحذر من ركام الروايات لدى هذا المؤرخ، حيث انصبت غزيرةً في مكان، وتخلخلت حتى الرواية الوحيدة بل المبتسرة في مكان آخر.
وبالعودة إلى رواية سيف عن ابن سبأ، فإننا لا نعثر فيها إلا على القليل جداً من سيرة هذا الرجل: نشأةً وسلوكاً وتوجّهات، قبل أن يبرز فجأة في ذلك
________________________________________
(24)مروج الذهب، ج‏2، ص 361.
(25)الإمامة والسياسة، ج‏1، ص 56.
(26)المصدر نفسه، ج‏1، ص 56.
(27)تاريخ الطبري، ج‏4، ص 255.

[الصفحة - 194]


الدور المنسوب له، مخترقاً وعلى نحو غير مألوف، البنية الفكرية والسياسية للمسلمين في «المدينة» والأمصار. فقد اكتفت الرواية بوصفه أنه «كان يهودياً من أهل صنعاء، أمه سوداء، فأسلم زمان عثمان، ثم تنقّل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم، فبدأ بالحجاز، ثم البصرة، ثم الكوفة، ثم الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام، فأخرجوه حتى أتى مصر، فاعتمر فيهم، فقال لهم فيما يقول: لعجب ممَّن يزعم أن عيسى يرجع، ويكذّب بأن محمداً يرجع، وقد قال اللَّه عزّ وجلّ: {إن الذي فرض عليك القرآن لَرَادّك إلى مَعَاد } (28) . فمحمد أحقّ بالرجوع من عيسى.. ثم قال لهم بعد ذلك: إنه كان ألف نبي، ولكل نبي وصيّ، وكان عليّ وصيّ محمد، ثم قال: محمد خاتم الأنبياء وعليّ خاتم الأوصياء. وقال بعد ذلك: من أظلم ممن لم يجز وصية رسول اللَّه(ص)، ووثب على وصيّ رسول اللَّه(ص). وتناول أمر الأمة! ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصيّ رسول اللَّه(ص)، فانهضوا في هذا الأمر فحرّكوه، وابدأوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر» (29) .
هذه مجمل أفكار ابن سبأ في القسم الأول من الرواية، وهي تركز على قضايا أربع رئيسة:
1 ـ فكرة الرجعة بالنسبة للرسول محمد(ص).
2 ـ التأكيد على حق علي(ع) بالخلافة وصيّاً للنبي.
3 ـ الطعن بعثمان الذي تولى الخلافة بغير حق.
4 ـ التحريض على الثورة.
ولم يكتف ابن سبأ ـ ودائماً حسب الرواية ـ ببث هذه الأفكار، وإنما يسعى إلى الترويج في الأمصار، حيث أصاب على ما يبدو شيئاً من النجاح في مصر، كونها أقل تأثراً بالعصبيات القبلية من الأمصار الأخرى. فأخذ يستنهض أهلها، الأمر الذي أثمر بعد وقت قصير عن موقف كان الأكثر تطرفاً ضد الخليفة
________________________________________
(28)سورة القصص، الآية 85.
(29)الطبري، ج‏4، ص 340 ـ 341.

[الصفحة - 195]


عثمان. ولكن المؤرِّخ لا يدع هذه الرواية، قبل أن يجابه أسئلة لا بدّ من طرحها في هذا السِّياق:
1 ـ كيف استطاع هذا الرجل، وهو حديث العهد جداً بالإسلام، أن يصل على ذلك النحو من السرعة إلى الموقع الذي صار إليه، متحدِّثاً بأمور تمسّ عمق المعتقد الديني، وبالتالي الانتقال بالسرعة نفسها إلى قيادة التيّار المناهض للخليفة على كامل مساحة الدولة الراشديَّة.
2 ـ هل كان ابن سبأ يقوم بهذه الحركة بحافز إصلاحي، أم بحافز تضليليّ، انطلاقاً من خلفيّته اليهودية؟ واستطراداً، هل كان يتحرك عبر قناعات خاصة به، أم بفعل قوة خفية كانت تخطط وارءه وتدفع به إلى الواجهة؟.
3 ـ علاقته بعليّ! كيف بدأت؟ ولماذا كان الانحياز له؟ هذا ما تجاهلته رواية سيف، ولم تلمح إليه أية رواية أخرى. فقد كان لعليّ أنصار كثيرون، متحمسون لحقّه بالخلافة، فلمَ جاء التركيز على شخصيته من خارج النخبة التي تميّز باستقطابها، واستمد منها حضوره المعنوي البارز في ذلك الوقت.
4 ـ هل كان ابن سبأ، فعلاً، هو الموجّه للتيار «الإصلاحي» المعارض لعثمان؟ وهذا يعني لو قبلنا به، أننا نلغي تلك المقدمات التي كانت سابقة على حركته. فالرواية التي تتحدث عن انتقاله إلى مصر، تندرج في العام الخامس والثلاثين للهجرة، فيما كانت حركة أبي ذرّ الغفاري في العام الثلاثين منها، وبعدها بثلاثة أعوام قامت حركة الأشتر النَّخعي في الكوفة، متصديةً لوالي عثمان، سعيد بن العاص، وسياسته الاقتصادية بشكل خاص‏ (30) .
5 ـ هل كان هذا «الداعية»، وانطلاقاً من الرواية، شخصية خرافية اصطنعها خيال «سيف» لإضفاء عنصر جديد على رواياته، يميزه عن غيره من الإخباريين الذين خلت رواياتهم من أية إشارة لها أم أنها شخصية انتهازية توخّت ركوب موجة السخط على عثمان، وصولاً إلى أهداف لم يُتح ذلك العهد تحقيقها؟..
________________________________________
(30)الطبري، ج‏4، ص 318.

[الصفحة - 196]


هذه الأسئلة ـ عدا الشك الذي تثيره ـ حول شخصية ابن سبأ، وقدرته «الفائقة» على الدخول في نسيج المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت، فإنها تكشف ضعفاً في رواية سيف، بإهمالها نقطة أساسية، وهي أن يتاح لابن سبأ، ولم يكن قد مضى سوى القليل من الأعوام على إسلامه، التصدي لمسائل كانت ما تزال من شأن النخبة، أو ما يسمى بذوي السابقة. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، فهذا الرجل «الخارق» ـ وفقاً لما جاء في القسم الثاني من الرواية ـ يصبح له جهاز تنظيمي متقن، ودعاة منتشرون باسمه في الأمصار، ما يذكِّر بجهاز الدعوة العباسية التي احتاجت إلى سنوات طويلة لتنظيم نفسها على ذلك النحو.
تتابع الرواية فتقول: «بثّ (ابن سبأ) دعاته، وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السرّ إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار يضعونها في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم أخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصفون، فيقرأه أولئك في أمصارهم حتى تناولوا بذلك المدينة، وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون ويُسرّون غير ما يبدون»(31) .
هذه «الدعوة السريّة»، يبدو أن شيئاً من أخبارها قد تسرّب إلى عثمان، فأشار عليه المقربون أن يبعث رجالاً ممن يثق بهم إلى الأمصار لاستطلاع الأمر، فانتدب لذلك محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وعبداللَّه بن عمر إلى الشام، وعمّار بن ياسر إلى مصر، وأسامة بن زيد إلى البصرة، فرجعوا جميعاً دون ملاحظة ما يريب، باستثناء عمار الذي استماله القوم «ومنهم عبداللَّه بن السوداءْ»(32) .
وتنتهي الرواية عند هذا الحدّ، فلا تشير إلى ما كان من أمر عثمان إزاء هذه الحركة التي تؤلب عليه أهل الأمصار وتدعوهم إلى إسقاطه، ولعل ما يستوقفنا، في هذا السياق، تلك السرية التي أحاطت بها نفسها، في وقت كانت
________________________________________
(31)الطبري، ج‏4، ص 341.
(32)مرتضى العسكري، عبداللَّه بن سبأ، مصدر سابقد المكان نفسه.

[الصفحة - 197]


الأصوات مرتفعة في الاحتجاج على عثمان، والقيادات في الأمصار تتأهب للقدوم إلى المدينة.
وهذا الواقع لم يخف على الرجل القوي في البيت الأموي، معاوية بن أبي سفيان، الذي ترقّب سقوط الخليفة: «واللَّه يا أمير المؤمنين لتغتالن أو لتغزين»، استناداً إلى رواية ثانية لسيف‏ (33) . ذلك أن والي الشام، وقد رأى صعوبة إنقاذ الخليفة في ظل النقمة الواسعة التي استهدفته، دعاه إبّان اجتماع الولاة في المدينة (34 هـ) للانتقال إلى الشام، «قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به، فإن أهل الشام على الأمر لم يزالوا» (34) . وإذ رفض عثمان «بيع جوار رسول اللَّه(ص) بشي‏ء»(35) ، فقد تعهّد معاوية إرسال جنود لحمايته، ولكن من غير أن يفي بعهده، ما جعل الخليفة في ما بعد، يواجه مصيره وحيداً، ودونما تدخّل لمصلحته حتى من الجانب الأموي.
وهكذا فإن «الفتنة» التي أطاحت عثمان، كان أكثر من طرف ضالعاً فيها، بدءاً من قادة الكوفة الذين عانوا تسلّط الولاة وتهميش هؤلاء لهم، وصولاً إلى مصر، حيث كان لمحمد بن أبي بكر الذي عينه عثمان والياً عليها ثم تراجع عن قراره، دور بارز في قيادة الحملة على الخليفة. ولم يكن معاوية خارج هذه الدائرة، بدفعه الأمور إلى المأزق في المدينة، متحفزاً للانقضاض عندما تسنح الفرصة بذلك. ومن اللافت أنّ عبداللَّه بن سبى لم يكن مع قادة الأمصار بعد وصولهم إلى المدينة وسيطرتهم على الوضع فيها، خلال أربعين يوماً ولم نعثر خلال هذا الوقت على أي أثر فيها له، ولم نجد في الروايات، بما فيها تلك المنسوبة لسيف، ما يوحي بأي اتصال له مع هؤلاء القادة.
قد يكون السبب أن ما توخّاه ابن سبأ قد وصل إليه، وهو اندلاع «الفتنة» بين المسلمين، فتراجع إلى الظلّ، مؤدِّياً دوره على أتم وجه. ولكن هل كانت الدعوة إلى عليّ الذي توجهت إليه الأنظار كبديل أساسي بعد عثمان، تندرج في سياق هذه «الفتنة»؟ فالجواب على أنك دون الكثير من الغموض الذي لم تستطع تلك التطورات تبديد شي‏ء منه. فلعله(ابن سبأ) خاض «معركته» تحت ستار هذه
________________________________________
(33)الطبري، ج‏4، ص 345.
(34)المكان نفسه.
(35)المكان نفسه.

[الصفحة - 198]


الدعوة، لتسويغ حركة «التضليل» التي قام بها وجذب الأنصار إليها. والجواب مرة أخرى: إنَّ دوره ـ إن صح وجوده ـ لم يمت بصلة إلى التحرك الذي كان عليّ يقوده في تلك المرحلة، والذي صبّ أساساً في اتجاه المحافظة على مركز الخلافة، والعمل على إنقاذها من السقوط. ذلك أن علياً الذي أعدّ نفسه لهذا الموقع بعد وفاة الرسول، ورأى انطلاقاً من عدة اعتبارات أنه مؤهل لقيادة الأمة، أصبح زاهداً بالخلافة بعد هبوب تلك «الفتنة» وما تحمله من رياح عاتية تهدّد وحدة المسلمين. ولكن مخاوفه نفسها عادت فألقت به في ذلك الخضم المائج، خصوصاً بعد انكفاء البقية من الصحابة، ولم يجد بدّاً من مواجهة الدور الذي تطلّب رضوخاً أمام المحنة، وقيل إنَّه استجاب للبيعة أمام إلحاح قادة الأمصار، وفي طليعتهم الأشتر، استناداً إلى رواية يذكرها الطبري‏ (36) !
كان تلك الحلقة المركزية في رواية سيف عن عبداللَّه بن سبأ والتي اندرجت في العام الخامس والثلاثين للهجرة، حيث بلغت الأزمة ذروتها في المدينة. فوجد هذا الداعية «الدخيل» ـ كما توحي الرواية ـ فرصته النادرة للتحرك وركوب الموجة التي أخذت تتسع، فيما الخليفة المتداعي موقعاً، يضيق المدى من حوله وينتهي صريعاً في صخب العاصفة. وعلى الرغم من أن الخاتمة لم تحمل الكثير من المفاجأة، فإن موته على ذلك النحو يشكّل سابقة خطيرة في تاريخ الإسلام، إذ فقدت الخلافة هيبتها، ولم يتورّع المغامرون فيما بعد عن الانقضاض عليها، مقتبسين الأسلوب نفسه حين تتعارض مصالحهم مع الخليفة.
ولكن هل كان للسبئيين دور في قتل عثمان؟..
هذا نطرحه من باب الشك فقط، خصوصاً وأن «اتهام» محمد بن أبي بكر بذلك، أضفى شيئاً من اللبس على هذه المسألة. لقد شاعت هذه «التهمة» في الواقع لدى بعض المؤرخين، بناءً على أنَّ محمداً كان من أواخر الذين دخلوا على عثمان قبل اغتياله. بيد أن القارى‏ء بدقة تفاصيل ذلك اللقاء الأخير، لا يجد معطيات كافية ـ سوى التحريض ـ ترجح هذا الاتهام، إذ جرى ما يشبه العتاب
________________________________________
(36)الطبري ج‏4، ص 429.

[الصفحة - 199]


ـ وإن كان حاداً بين الاثنين ـ خرج على أثره محمد «منكسراً»، حسب رواية الطبري‏ (37) . في هذا الوقت كان «المصريون» (38) يُحكمون حصارهم على منزل الخليفة، ويتسلّق أحدهم «السور» (سودان بن حمران) فيصرعه حسب الرواية نفسها (39) .
ولو عدنا إلى ما رواه سيف عن دعوة ابن سبأ في مصر؛ حيث حققت، ربما، من النجاح أكثر من بقية الأمصار، ـ لأمكن القول ـ من باب الافتراض فقط ـ أن السبئيين تسلّلوا في الوقت الملائم إلى صفوف «المصريين» الذين وضعوا حدّاً للحصار بقتل الخليفة. ولعل رواية «خليفة بن خياط» تعزّز هذا الاتجاه، إذ تنسب إلى الحسن بن علي(ع) قولاً في معرض الردّ على سؤال، إذا «كان فيمن قتل عثمان أحد من المهاجرين والأنصار؟ قال: لا، كانوا أعلاجاً من أهل مصر» (40) . ولكن الطريقة التي تمّ بها اقتحام دار عثمان، وما صاحب ذلك من انتهاب لبيت المال، ترجّح النمط البدوي الذي اندرجت فيه قبليّة قاتل الخليفة، وبالتالي يصبح التأثير الخارجي ضعيفاً في هذه العملية التي ألفت مثلها القبائل في «الأيام» السابقة على الإسلام.
وإذا خرجنا من هذه الحلقة الأساسية، في رواية سيف، لنتابع أطرافها في تلك المرحلة، فلا بدّ لنا من العودة سنوات خمساً إلى الوراء، حين وردت أول إشارة عن ابن سبأ في العام الثلاثين للهجرة، في سياق الانتفاضة التي قادها أبو ذرّ الغفاري ضد الخليفة عثمان. وفي مقدمة ما يعنيه ذلك أن حركة المعارضة انطلقت من المدينة، وعلى يد واحد من النخب في الإسلام الأول، وأن عبداللَّه بن سبأ التحق بداعيتها في الشام، راكباً الموجة تحت ظله، وضارباً على وتر القضية الأساس في خطابه، حين بادر ـ حسب الرواية ـ بقوله: «يا أبا ذر. ألا تعجب إلى معاوية، يقول: المال مال اللَّه! ألا إن كل شي‏ء للَّه، كأنه يريد أن يحتجنه دون المسلمين» (41) .
فأصاب ذلك الهدف الرئيسي عند الغفاري الذي كان يرفع شعاره في هذا الاتجاه، مندّداً باستئثار عثمان بالأموال التي يراها الخليفة أموال اللَّه، انطلاقاً
________________________________________
(37)المصدر نفسه، ج‏4، ص 391.
(38)المصدر نفسه، ج‏4، ص 388.
(39)المصدر نفسه، ج‏4، ص 394.
(40)تاريخ خليفة بن خياط، ج‏1، ص 192.
(41)الطبري، ج‏4، ص 283.

[الصفحة - 200]


من مفهومه للسلطة، بأنها أيضاً «سلطة اللَّه»، فأتى الغفاري معاوية وقال له: «ما يدعوك إلى أن تسمّي مال المسلمين مال اللَّه! قال (معاوية): يرحمُكَ اللَّه يا أبا ذر، ألسنا عباد اللَّه، والمال ماله، والخلق خلقه، والأمر أمره. قال (أبو ذر): فلا تقله. قال(معاوية): فإني لا أقول: إنه ليس للَّه، ولكن سأقول: مال المسلمين». ولعل معاوية في ردّه المرن على أبي ذرّ، إنما يكشف عن أبعاد رؤيته الواقعية في السياسة، والتي كانت أساس مشروعه القائم على التوفيق بين الإسلام والصيغة القبلية المتوازنة، وهذا ما دفعه إلى تفادي الصدام مع الصحابي الكبير، تاركاً البتّ بقضيته إلى الخليفة.
وهكذا فإن الغفاري الذي قاد حركة التصويب لمسار الحكم في الإسلام، خالجه الشَك، وهو الصحابي القديم بهذا الوافد عليه، فقد اشتبه به أبو «الدرداء» ـ وكان مع أبي ذر ـ وقال له: «من أنت؟» «أظنك واللَّه يهودياً» (42) . وبعد ذلك تنساب رواية سيف، محدّثةً عن الغفاري وتنديده بالأغنياء، محرّضاً عليهم الفقراء، حتى «ولع» (43) به هؤلاء، و«نازعتهم نفوسهم إلى التمرد حتى ضاق به معاوية وأعاده إلى المدينة، ومنها قام الخليفة بنفيه إلى الربذة حيث توفي فيها». أما ابن سبأ، فقد تجاهلته الرواية تماماً، دون أن تشير في الوقت نفسه إلى موقف معاوية منه، خصوصاً وأن ثمة من جاء به إلى معاوية محذِّراً: «هذا واللَّه الذي بعث عليك أبا ذرّ» (44) .
ويغيب «السبئي» سنوات ثلاثاً عن رواية سيف، حتى يعود إلى الظهور مرة أخرى في سياق حملة التأديب التي استهدفت في ذلك العام (533) قادة المعارضة في الكوفة والبصرة. فقد فشل ولاة عثمان في حملهم على الاستكانة، ما دفع الخليفة إلى إحالة هذه المهمة على معاوية الذي قام بها على أكمل وجه. وجاء في الرواية «أن رجلاً من عبد القيس، وهو حُكيم من جبلة، أفسد في الأرض.. فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة إلى عثمان، فكتب إلى عبداللَّه بن عامر (والي البصرة) أن أحبسه ومن كان مثله فلا يخرجن من البصرة حتى تأنسوا منه رشداً، فحبسه فكان لا يستطيع أن يخرج منها. فلما قدم ابن
________________________________________
(42)الطبري، ج‏4، ص 283.
(43)المكان نفسه.
(44)الطبري، ج‏4، ص 283.

[الصفحة - 201]


السوداء (عبداللَّه بن سبأ) نزل عليه، واجتمع إليه نفر، فطرح لهم ابن السوداء ولم يصرّح، فقبلوا منه واستعظموه، وأرسل إليه ابن عامر، فسأله: ما أنت؟ فأخبره أنَّه رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام ورغب في جوارك، فقال: ما يبلغني ذلك، أخرج عني، فخرج حتى أتى الكوفة، فاخرج منها فاستقرّ في مصر وجعل يكاتبهم ويكاتبونه ويختلف الرجال بينهم» (45) .
ولعل ما يدعو إلى الغرابة هنا، أن يتحرك ابن سبأ بمثل تلك الحرية، ويجوب دونما عائق الولايات، ناشراً أفكاره ضد السلطة التي كانت متشدّدة في ملاحقة المعارضة، كما تبدَّى لنا من الرواية حول سجن حكيم بن جبلة بتهمة هي على الأرجح سياسية، وما تبع ذلك من «نفي» آخرين إلى الشام‏ (46) . فهذه السلطة التي ضاقت بحركة الغفاري، وهو سابق في الإسلام وله موقع معنوي بارز فيه، نجدها تتصرف بشي‏ء من الليونة مع ابن سبأ، وهو بعد خارج الإسلام، أو «راغب» فيه كما عرّف عن نفسه في الرواية. فاقتصرت ردّة الفعل إزاءه على نفيه من البصرة، على غرار ما جرى له في الشام على يد معاوية فيما بعد (47) . فقد يكون مرد هذا الموقف إلى دافعين:
1 ـ إن أركان الحكم جهلوا تفاصيل الحركة «السرية» التي يقودها ابن سبأ، استناداً إلى قول عبداللَّه بن عامر في الرواية «ما يبلغني ذلك».
2 ـ إن هؤلاء لم يجدوا فيها خطراً على «نظامهم»، كذلك الذي وجدوه في حركة الغفاري الذي خاطبهم من موقع الإسلام، بما ينطوي عليه ذلك من إحراج مباشر للخليفة وسلطته «الإلهية».
وهكذا، بناءً على هذه الرواية المُفردة عن ابن سبأ، فإن الأخير لم يحقق ما توخَّاه من نجاح، لا في مركز الخلافة، ولا في الأمصار الثلاثة (البصرة، الكوفة، الشام). ولكنه، على ما يبدو، وصل إلى شي‏ء منه في مصر التي اكره على اللجوء إليها، ممارساً نشاطه بسرية تامة وبعيداً عن المراقبة المباشرة. وإذا كان من محصلات ذلك، أن وفد أهل مصر بدا أكثر حدّة في معارضته للخليفة عثمان بعد قدومه المدينة، فإن ما حدث في الأخيرة من تطورات
________________________________________
(45)المصدر نفسه، ج‏4، ص 326 ـ 327.
(46)الطبري، ج‏4، ص 327.
(47)المصدر نفسه، ج‏4، ص 340.

[الصفحة - 202]


خطيرة، لم تكن خاضعة كما تبين لمؤثرات مسبقة، بقدر ما أسهم المناخ الداخلي فيها. ذلك أن قادة الأمصار لم يحملوا معهم خطة مبيّتة لقتل الخليفة، وإنما طرأت عوامل جديدة، جعلت هذا الأمر سبيلاً ربما لدى بعضهم للخروج من الأزمة. وثمة ما يمكن التوقف عنده أخيراً في هذا السياق، وهو علاقة السبئيين بالتطرف الذي أبداه «أهل مصر» إزاء الخليفة عثمان. فإذا رجعنا إلى الرواية نجد أن «إخراج» ابن سبأ إلى مصر تم على يد معاوية بعد رجوعه إلى الشام قادماً من الكوفة في العام الخامس والثلاثين للهجرة، أي في العام نفسه الذي توجّهت فيه وفود أهل الأمصار إلى المدينة.. فهل استطاع، وعلى ذلك النحو من السرعة أن يبث دعوته في هذا الإقليم، وأن «يوسع» اتباعه «الأرض إذاعة» كما جاء في الرواية (48) .
ومن اللاَّفت أن «السبئي» نفتقده في الحركة التي يُفترض ـ وفقاً للرواية ـ أن يكون في مقدمتها، وهي التي تطورت إلى قتل الخليفة عثمان. لعله كان يحيط نفسه بسريّة شديدة في ذلك الوقت، حتى إذا احتدمت المواجهة في البصرة ـ ودائماً بالاستناد إلى رواية سيف ـ ظهر بقوة كمحرك للفتنة وداعية للحرب على رأس جماعة من المصريين تدفع في هذا الاتجاه‏ (49) . وكانت تلك آخر مرة يتردد فيها ذكر السبئي، معبّرة عن الرواية بابن السوداء أو عبداللَّه بن السوداء (50) .
ولكن السبئيِّين بوصفهم تيّاراً سيبقى لهم دور بعد نهاية حرب البصرة، متخذين حيّزاً مستقلاً عن الخليفة (علي). فقد جاء في الرواية: «وأعجلت السبئية علياً عن المقام، وارتحلوا بغير إذنه، فارتحل في آثارهم ليقطع عليهم أمراً إن كانوا أرادوه» (51) .
على أن هذا الدور بقي غامضاً، ولم يرشح منه ما ينمّ عن أي نشاط لهم خلال الوقت الذي أمضاه علي خليفةً في الكوفة.
إن كثيراً من عناصر الضعف تحيط في الواقع برواية سيف بن عمر عن عبداللَّه بن سبأ، مما يعرّضها للشك من منظور علمي، ومن منظور المنطق
________________________________________
(48)الطبري، ج‏4، ص 341.
(49)سيف بن عمر، الفتنة، ص 147.
(50)المصدر نفسه، ص 148.
(51)الطبري، ج‏4، ص 543 ـ 544.

[الصفحة - 203]


التاريخي نفسه. وكونها رواية مفردة، بعد إهمال ركام الروايات لهذه الشخصية، يعزّز هذا الشك الذي يبنى على المقارنة والنقد والتحليل، وليس على الرفض المبدئي الذي أعلنه مسبقا بعض المؤرخين لأسباب خاصة بهم. كذلك فإن الرواية بحدّ ذاتها مرتبكة ولا تقدّم من المعطيات ما هو كاف للإحاطة بملابسات الدور الذي قام به هذا «اليهودي» القادم حديثاً إلى الإسلام.
وسواء كانت هذه الشخصية موجودة بالفعل، أم أنها تلفيق من إنتاج التواتر الإخباري المعقَّد، فإنها لا تشكل بنظر المؤرخ العلمي تلك الأهمية التي أحيطت بها، إذ أن الأخير، بقدر ما تتوافر المعطيات لموضوعه، فإن الطريق تصبح ممهدة أمامه لمقاربة الحقيقة التاريخية. وبناء على ذلك فإن حركة ابن سبأ، بالقليل جداً من المادة حولها، من الصعب اتخاذ موقف أكثر وضوحاً إزاءها، وهي لا تعدو بالتالي أن تكون ـ إن وجدت فعلاً ـ على هامش المسار التاريخي، سواء بالنسبة للمعارضة بشكل عام، أو بالنسبة لعلاقتها بعلي(ع) والتشيّع بشكل خاص.
________________________________________

[الصفحة - 204]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف