البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

التیّار السّلفي المصري ودراسة الشیعة الإمامية من خلال الإمام جعفر الصادق (ع) ـ (مؤسسة الأزهر نموذجاً)

الباحث :  الدکتور زهیر غزاوي
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  4
السنة :  السنة الاولى شتاء 1417 هجـ 1996 م
تاريخ إضافة البحث :  December / 13 / 2015
عدد زيارات البحث :  1797
التیّار السّلفي المصري ودراسة الشیعة الإمامية
من خلال الإمام جعفر الصادق (ع)
ـ (مؤسسة الأزهر نموذجاً)

الدکتور زهیر غزاوي (*)

مدخل‏
ربما كان أفضل من عرّف السلفية من دون الدخول في التفاصيل الشهيرة عنها هو عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته حين قال: «هذا هو الذي ينبغي أن تحمل عليه أفعال السلف من الصحابة والتابعين، منهم خيار الأمة، وإذا جعلناهم عرضة للقدح فمن الذي يختص بالعدالة؟، والنبي(ص) يقول: خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم مرتين أو ثلاثاً، ثم يفشو الكذب(...). فإياك أن تعوّد نفسك أو لسانك التعرّض لأحد منهم، ولا تشوّش قلبك بالريب في شي‏ء مما وقع منهم والتمس لهم مذاهب الحق وطرقه..» (1) .
إن ظاهر النص ينحو إلى التأكيد على رفض التعامل مع أي من السلف الذين عاصروا الرسول(ص) بأي شكل من أشكال النَّقد، بحيث تضعهم في مرتبة العدالة المطلقة والعصمة، أي ببساطة في مرتبة الرسالة ذاتها. وتتلاقى في ذلك كل التيارات السلفية المعروفة، ومنها التيار السلفي المصري ممثلاً بالشيخ المرحوم محمد أبو زهرة، مع اختلاف بالدرجة بين هذا التيار أو ذاك. لكن هذا التيار بالذات يتسم بالتناقض المتجذر في خطابه الديني، بين تقديسه لرموز آل بيت النبي(ص) وإدانة الأسرة الأموية، وبين رفضه للتشيع جملة وتفصيلاً. وحتى عندما قسرته ظروف تاريخية لمرحلة قصيرة، في نهاية عقد الخمسينات وبداية عقد الستينات من هذا القرن، على دراسة موسعة لمذهب الإمام جعفر الصادق فقد جاء الكتاب المعتمد في الأزهر للتدريس‏ (2) ، بغاية التقريب بين المذاهب
________________________________________
(*)أستاذ في جامعة دمشق.
(1)مقدمة ابن خلدون، دار العودة، بيروت، بلا تاريخ، ص 172.
(2)محمد أبو زهرة، الإمام الصادق حياته وعصره وآراؤه الفقهية، مطبعة مخ، بلا تاريخ، القاهرة.

[الصفحة - 81]


الإسلامية والاعتراف بالمذهب الجعفري، جاء في إطار من التعسف والتناقض وابتعاد عن العلمية وإثارة للجدل والردود، بحيث استحق أن يكون موضوعاً لبحث مستقل عنه، في سبيل التعريف بالتيار الذي تقوده مؤسسة الأزهر في مواجهة التشيع.
ولا غنى عن القول أن معتنقي التشيع في الدولة المصرية، يتعرضون وبدعم من الأزهر الآن، لأقسى حملة من القمع تفوق مثيلاتها في أية بقعة من العالم‏ (3) .
تطور دراسة المذهب الجعفري عند أبي زهرة
تعني دراسة الشيعة الإمامية واقعياً التعامل مع سيرة الإمام جعفر بن محمد الصادق(رض) وفكره، من خلال تراث ضخم من المدوّنات المنقولة عنه. فعنه تتفرع كل السواقي وإليه تصل كل الدروب في نهاية المطاف. ولأن في الإمام بالذات يتبدى عصر التدوين في صدر الإسلام: بداية القرن الهجري الثاني، ولأنه سلام اللَّه عليه أملى الأصول الأربعمائة الشهيرة في الفقه، ولأن الكتب الأربعة المعتمدة لدى الإمامية تنهل من فكره‏ (4) ، فقد اتجه الدكتور أبو زهرة إليه مباشرة، مكملاً ـ ولو متأخراً ـ سلسلته عن حياة أئمة المذاهب الإسلامية جميعاً: «الشافعي، مالك، ابن حنبل، أبو حنيفة وابن تيمية».
دأب الشيخ، في جميع مؤلفاته تلك، على تقديم التشيع، عند دراسته للفرق الإسلامية في صدر الإسلام، محدداً كغيره موقعه خارج إطار ما اصطلح عليه تاريخياً بتيار (السنّة)؛ لكنه، عندما كتب عن الإمام الصادق، بدا ظاهرياً أنه يسعى إلى تحديد ملامح مذهب خامس يجوز التعبد به، وإن من خارج الإطار.
إن متابع دراسات الشيخ الراحل لا تفوته ملاحظة هذا التطور من مواقف المؤسسة الأزهرية تجاه الإمامية، ولهذا اعتبر كتابه عن الإمام الصادق في قمة الاعتدال النسبي، رغم أنه لم يكن كذلك بإطلاق.
شن أبو زهرة، في بداياته البحثية شن أبو زهرة على الشيعة عموماً والإمامية خصوصاً حملة عنيفة أخرجتهم من الإسلام، وعندما كتب عن الإمام مالك‏ (5) ابن المدينة المنوّرة تعمد أن يتجاهل كلياً وجود الإمام الصادق فيها، معاصراً لمالك وأستاذاً له.
________________________________________
(3)وائل الأبراشي، مجلس سري للشيعة في مصر، مجلة روز اليوسف، عدد 3558، 19/8/96.
(4)الكتب الأربعة هي: 1 - الكافي للإمام الكليني. 2 - الاستبصار للطوسي. 3 - التهذيب للطوسي، 4 - من لا يحضره الفقيه للقمي.
(5)محمد أبو زهرة، الإمام مالك حياته وعصره وفقهه، دار الفكر العربي، القاهرة، 1966.

[الصفحة - 82]


ولعلّه بدا أكثر تشدداً، في كتابه عن الإمام الشافعي‏ (6) ، في مواجهة الشيعة عندما تبنى آراء مجموعة من المستشرقين الكبار ومعهم الشهرستاني في كتابه الأشهر «الملل والنحل»، من دون تحفظ أو مناقشة علمية. يقول: «ذهب فلهاوزن إلى أن العقيدة الشيعية تنبعث من اليهودية أكثر مما تنبعث من الفارسية مستدلاً بأن مؤسسها عبداللَّه بن سبأ اليهودي.
أما دوزي فيميل إلى أن أصلها فارسي، فالعرب تدين بالحرية والفرس يدينون بالملك والوراثة في البيت المالك ولا يعرفون معنى انتخاب خليفه» (7) . وعندما اقتبس عن الشهرستاني فإنه اختار نصاً يشكك بأحاديث صحيحة للرسول(ص) حين يتبنى قوله: «ويستدلون (أي الشيعة) على تعيين علي(رض) ببعض آثار عن النبي يدعون صحتها ويشك علماء الحديث من الجماعة بصدقها وصحة سندها، مثل حديث الولاية وحديث (أقضاكم عليّ) وغير ذلك من الآثار» (8) .
والمثير للدهشة، في هذا المجال، موقف الشيخ «أبو زهرة»، وهو عالم الدين المعروف، ليس في مجال قبوله لآراء مستشرقين مشكوك بمصداقيتها بإجماع علماء المسلمين بمن فيهم هو، وفي اندفاعه إلى تجاهل ما يعلمه يقيناً عما ورد في صحاح السنّة المعروفة عن تلك الأحاديث التي أشار إليها الشهرستاني، والتي وردت في مناقب الإمام علي(رض) واعتبرت من الأحاديث التي لا يرقى إليها الشك.
لقد ظلت آراء أبو زهرة، نظراً لأهمية المؤسسة الأزهرية، أكثر إثارة للجدل والردود لدى علماء الشيعة المعاصرين، فلم تخل أيّ من كتاباتهم من تحليل لكتاباته ونقدها، متضمنة تهما له تتعلق ببعده عن الحياد العلمي والموضوعية. لهذا بدا كتابه عن الإمام الصادق كأنما هو حالة من نقله نوعية باتجاه شكل من الموضوعية أو الانصاف لشريحة من المسلمين (الشيعة) عبرت في تاريخها عن حالات من الرفض والاضطهاد والقمع بمختلف أشكاله.
كانت المقدمة تتضمن إيحاءً بذلك، أما المضمون فلم يكن كما سنرى إلا خطوة في سياق أسلوب البحث نفسه، انسجاماً مع حالة اجتماعية سياسية طاغية. ومع ذلك فهو خطوة مهدت لهدنة في حرب طويلة ومريرة. وغني عن القول إن المؤسسة نفسها تجاهلته كما تجاهلت فتواها بجواز التعبُّد على المذهب الجعفري، كأحد المذاهب الإسلامية، بعد ذلك بزمن قصير.
________________________________________
(6)محمد أبو زهرة، الشافعي حياته وعصره، دار الفكر العربي، القاهرة، 1948، ص 92 - 191.
(7)يلاحظ أن تلخيص الشيخ «أبو زهرة» لآراء المستشرقين موجه لخدمة آرائه هو ولا يمثل ما قالوه فعلاً، فالقبائل العربية في الجاهلية لم تشكل حكومة مركزية ولم تصل بمفردها إلى حالة من الديمقراطية تدفع إلى توصيف واقعها بالتقدم الحضاري إلى درجة الديمقراطية والانتخاب الحر. أما مسألة اختيار الخلفاء، في مرحلة ما بعد رسول اللَّه، فقد ظلت مثيرة للجدل ولا تستحق حكم قيمة كهذا، ناهيك عن الحقبة القصيرة جداً للتجربة، لتعود الأمور في المرحلتين الأموية والعباسية إلى طبيعة تلك المراحل التاريخية، أي الملك العضوض كما اتفق عليه المؤرخون.
(8)الإمام الشافعي م.س. ص 100.

[الصفحة - 83]


الإمام جعفر والجعفرية في الكتاب‏
في متون هذا المؤلف الهام، وانسجاماً مع التيارات الأخرى ونسجاً على منوالها، لا يغفل المؤلف طرح شروطه لوحدة إسلامية فيقول: «نرجو من الشيعة ألا يعتبروا آراءنا في السياسة موجباً للنقص في إيماننا، وأن يعلنوا ذلك على الملأ من الأمة ويخطئوا الكتب التي كتبت هنا ولا يأخذوا بها وبذلك تتلاقى القلوب» (9) .
هذه الرغبة المنتشرة في الأبحاث المصرية متضمنة شروطاً قاسية، لا تعدو الاشتراط لحدوث «تلاقى القلوب»، أن يتخلى الشيعة عن مذهبهم. فهو حوار مشروط مسبقاً وتعجيزي من الأغلبية للأقلية حتى يتم الحوار نفسه.
وبما أن هذا الحوار حاصل حكماً في كل مراحل التاريخ الإسلامي ومستمر بالتأكيد من خلال دراسات الطرفين، فإن طرحه بهذه الصيغة في الكتاب يعبّر مباشرة عن طبيعة البحث العلمي الذي يتناول التشيع ومدى حياديته وموضوعيته!
تبدو حياة الإمام الصادق(رض) وفكره، في الكتاب، محكومة بمنهجين بعيدين عن الموضوعية العلمية.
الأول: استخدام الباحث لمنهج النفي المطلق للآخر، وهو منهج المستشرقين نفسه، وإن بأسلوب ذكي.
الثاني: ترسيخ منهج الفصل بين الإمام الصادق وشيعته وإبرازه مجرَّد عالم إسلامي من التابعين، رغم إحاطته بكم من المديح والإطراء والتقديس الذي لا ينسجم مع هذا المنهج.
لقد اتبع الكاتب أسلوباً، في الدراسة المقارنة بين النصوص عند الطرفين، لشرح مذهب الإمامية، بدا أبعد ما يكون عن موضوعية المقارنة وعلميتها، ذلك أن الرفض المسبق حكم مسار البحث برمته وساقه إلى غاية محددة أراد الكاتب الوصول إليها وحددها سلفاً، ليقدم سيرة الإمام الصادق مجرّد وجهة نظر لم تتوخ البحث عن الحقيقة.
________________________________________
(9)محمد أبو زهرة، الإمام الصادق، مصدر سابق، ص 214.

[الصفحة - 84]


أولاً منهج النفي‏
يُعدّ المستشرقون أبرز من استخدم هذا المنهج في دراساتهم عن الإسلام. ومن كبارهم نذكر فلهاوزن وغولدتسيهر ودوزي وفان فلوتن وهناك العشرات غيرهم.
النفي طريق تختلف عن الشك المنهجي أو التجريبية. فالباحث فيها يضع فرضية مسبقة وهي: إنّ الظاهرة المدروسة خاطئة أو فاسدة سلفاً باستحالة إثبات نقطة إيجابية في مضمونها تبرز حقيقة علمية. بل إنه يسعى جاهداً إلى إثبات الفساد برفضه لكل الوثائق والمعطيات المتوفرة بين يديه عنها، ويرى أنها مزوّرة أو كاذبة، خاصة في البحوث التاريخية. وفي هذا المجال تناول المنصفون من باحثي الغرب والغالبية العظمى من المسلمين أبحاث المستشرقين في إطار من الاتهام والحذر(10) .
يقول المستشرق أتيين دينيه: «من المتعذر بل من المستحيل أن يتجرد المستشرقون عن عواطفهم وبيئتهم ونزعاتهم المختلفة، وإنهم بذلك بلغ تحريفهم لسيرة النبي والصحابة مبلغاً يغشى على صورتها الحقيقية، بل إنهم صوَّروها حسب منطقهم الغربي وخيالهم العصري..».
هذا القول ينسحب ببساطة على كتاب الشيخ «أبو زهرة» موضوع الدّراسة.
بداية، تجدر الإشارة إلى أن مصادر بحث الكتاب تعتمد على جهات ليس أنها معادية للتشيع بجملته وحسب بل إن المؤلف في دراسته لسيرة الإمام الصادق يتجاوز ذلك إلى رفض مسبق لكتب الشيعة الأشهر، وعلى رأسها كتاب «الكافي» للإمام محمد بن يعقوب الكليني، المتوفى عام 329هـ، والمتضمن 16099 حديثاً تتصل بالإمام الصادق والأئمة الآخرين بغالبيتها.
حجته الرئيسية للرفض أن الكليني يروي أحاديث تقول بنقص القرآن الكريم ويقول: «ليس كل ما ينسب إلى الإمام الصادق من آراء في المذهب صحيح النسبة إليه، فقد نسب إليه الكليني القول بنقص القرآن(..) لهذا فإننا لا نصدق من هذا الكتاب وغيره إلا الروايات التي تتفق مع الجمهور»(11) .
هذه التهمة للإمام الكليني كان لها أن تثير ردوداً عنيفةً من قبل علماء الشيعة. ويشار
________________________________________
(10)راجع: ادوار سعيد، الاستشراق، ترجمة كمال أبو ديب. ومجموعة من الباحثين، مناهج المستشرقين في الدراسة العربية والإسلامية، ج‏1، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس 1955، وغيرهما.
(11)محمد أبو زهرة، الإمام الصادق، مصدر سابق، ص 13 و15.

[الصفحة - 85]


إلى أنّ أبرز من فنّدوها خلال النصف الثاني من هذا القرن: السيد حسين مكي في كتابه «عقيدة الشيعة» (12) والشيخ أسد حيدر في كتابه «الإمام الصادق والمذاهب الأربعة» (13) وهناك غيرهما. أما قديماً فقد نفى مقولة النقص في القرآن علماء بارزون يشير إليهم أبو زهرة نفسه، كالشريف المرتضى والطوسي، وجاءت ردود الشيخين المعاصرين تتجه إلى أنَّ الكافي أورد أحاديث تحت عنوان «النوادر» التي لا يعتقد بصحتها بل يوردها كما هي ومنها أحاديث النقص.
أما الشيخ أبو زهرة فقد انطلق من هذه النقطة في «الكافي» ليرفضه كله، ومعه كل الكتب الأخرى فارضاً شروطاً في بحثه تقترب من استحالة كونها صحيحة إلا فيما لا يتعارض مع كتب السنّة (جميعها). وهو كما نرى شرط تعجيزي أيضاً ولا ينسجم مع البحث العلمي الذي يقتضي تناول النصوص من مختلف جوانبها، وهو ما أصبح معروفاً في المناهج العلمية المعاصرة. هذا ما استدعى أن نجد لدى المرحوم السيد مكي نصاً ينضح بالمرارة حين يقول: «أثبتنا أن الكليني رحمه اللَّه لا يقول بنقص القرآن، ومجرد ذكر الرواية لا توجب العقيدة بمضمونها، وإلا فإن البخاري ومسلم وغيرهما من حملة الحديث من علماء السنة أوردوا روايات في نقص القرآن. فما يرد على الكليني من إشكال في ذلك يرد عليهم لا فرق(...) فالشيخ أبو زهرة متحامل لهوى في نفسه» (41)يتهم أبو زهرة كما نرى بالتحامل والهوى، وهو ما أثار استغراب أولئك العلماء من باحث يريد التقارب والاعتراف المتبادل. لكن ما أغفله الباحثون أن الكتاب ليس إلا جزءاً من منهج يستخدم «النفي المسبق» في تيَّار سلفي أزهري كان الكاتب مجرد ممثل له.
تبرز ملامح هذا النفي، في كتاب «الإمام الصادق»، عبر مجموعة من العناصر المحتشدة نستعرض أهمها:
1 - إن نزع المصداقية عن الكتب الأربعة المعتمدة لدى الإمامية يخلّ بشكل مثير للاستغراب بالشروط التي يؤمن بها التيار السلفي لإقرار صحة الحديث، وضعفاً بذلك أسس هذا العلم نفسه. هذا النفي يتهم مؤلفي هذه الكتب بالوضع وانعدام المصداقية والكفاءة على الجمع وصولاً إلى الاتهام بنفي الوثاقة عنهم. فهم كما يرى المؤلف لم يتصلوا بالإمام مباشرة، ولم تكن الأحاديث التي سجلوها متواترة حتى تكون صحيحة (15) ،
________________________________________
(12)السيد حسين مكي العاملي، عقيدة الشيعة في الإمام الصادق وسائر الأئمة، دار الأندلس، دمشق، 1962.
(13)أسد حيدر، الإمام جعفر الصادق والمذاهب الأربعة، دار الكتاب العربي، بيروت، 1983.
(14)عقيدة الشيعة م.س. ص 236.
(15)محمد أبو زهرة، الإمام الصادق، مصدر سابق، ص 258.

[الصفحة - 86]


لكن «أبو زهرة» يستدرك بأنه لا يتهمهم بالخروج عن الإسلام‏ (16) ، مقدماً عذراً لبعدهم عن عصر الإمام وأن لهم شرف المحاولة رغم فساد وسائلهم في جمع الحديث. فهل أفاد هذا النفي مؤلف الكتاب في إثبات بديل ما أو حقيقة محددة حول مصادر التشيع؟ في الحقيقة لا يجد قارى‏ء الكتاب ما يؤدي إلى ذلك.
لكن قارى‏ء الردود عليه يكتشف، إضافة إلى الباحث في الكتب الأربعة وخاصة الكافي، أنَّ «أبو زهرة» لم يلتزم بشروطه هو في صحة الحديث من جهة، ومن جهة أخرى فإنه قام بعملية تزوير مستغربة فعلاً. ذلك أن أمثلته التي أوردها عن «الأسانيد المنقطعة» في الأحاديث التي احتجَّ بها على فساد «الكافي»، لم تكن كما قال، بل إنها جميعاً وخاصة حديثه الوارد عن المعلى بن خنيس ـ الذي أعدم في عهد الصادق ـ متصل السند بالإمام الصادق بخمسة من الرواة (17) . فلماذا تجاهل الدكتور الراحل ذلك مع أنه موجود بوضوح في كتاب الكافي؟
إن الردود التي حللت اتهامات الكاتب في مسألة أخرى تتعلق بالفارق الزمني بين كتاب صحاح الشيعة والإمام الصادق، بما في ذلك وسائلهم المعتمدة في جمع الحديث وتصحيحه أو تحسينه، وصلت إلى نتيجة أساسية مفادها أن ما ينطبق في هذا المجال على صحاح السنة من شروط هو نفسه ما ينطبق على صحاح الشيعة (18) ، فما الذي يسعى إليه الباحث الشيخ من خلال تسجيل تهم تستند إلى دعاوى مسبقة أو إشاعات، من دون أن يكلف نفسه مشقة تحري الحقيقة العلمية؟ والغريب في مسألة كهذه أن باحثاً كالشيخ أبو زهرة لم يقم فعلاً بدراسة كافية للكتب الأربعة حتى يبتعد عن الطعن والاتهام بالتحامل، ويحاول تقديم دراسة مقارنة حقيقية.
2 - في مجال النفي يقدم الكاتب مقولة أشدّ إثارة للغرابة، فهو ينفي أن يكون الإمام الصادق سعى إلى تشكيل مذهب إسلامي‏ (19) . وهو يشير إلى أن اتباع الإمام نسبوا إليه قواعد معينة منها أنه أجاز الوصية لوارث، وأجاز المتعة وغير ذلك. وبما أن «أبو زهرة» يشك بوثاقة هؤلاء الاتباع، وبالمقابل يسبغها على معاصرية من تلامذته الذين اشتهروا، في ما بعد، كأصحاب مذاهب (مالك، أبو حنيفة)، فهو يسعى إلى نتيجة محددة مؤداها أن ما لدى تلامذته التقاة كمالك وأبي حنيفة هو ما كان لديه هو. لهذا لا يمكن أن نجد حقيقة الإمام
________________________________________
(16)المصدر نفسه، ص 196.
(17)أسد حيدر، م.س. ص 156.
(18)عقيدة الشيعة م.س. 206.
(19)الواقع أن هذه المقولة فيها من الحقيقة ما لم يرد «أبو زهرة» أن يقوله فعلاً، فالصادق سعى إلى تقديم الإسلام الذي تلقاه من آبائه عن رسول اللَّه ولم يكن يشكل مذهباً. لكن «أبو زهرة» تجاهل هذه المسألة كلياً.

[الصفحة - 87]


الصادق بعيداً عن تلميذيه وما نقل عنهما ثم يقول: «أما ما لم يخالف السنّة ولكنه ورد في ما روي عن الإمام من أطراف أخرى فإننا نقبله ولا نرده، ونقبل كذلك ما لا يتفق مع الجمهور ولكنه لا يعارضه» (20) .
وإذا أضفنا إلى ذلك ملاحظته الغامضة التالية: «إن الأقوال التي تخالف إجماع جماهير المسلمين ليست كثيرة على أية حال» يكتشف القارى‏ء أن تضارب الأقوال في هذا النوع من النفي مردّه إلى الرغبة في الوصول إلى حل وسط. ولكن.. تبدو الخطورة والتحامل في أسلوب كهذا ليس فيما ينفي من صلة للجعفرية بجعفر رغم توصيفه بهذا الإسم، بل في طريقة التعامل الاستعلائي مع الوقائع لدى الطرف الآخر، بما لا ينسجم مع أي بحث علمي هدفه الحقيقة.
إن حوادث تلك المرحلة ذات الأهمية البالغة، والممتدة بين عصرين: الأموي والعباسي )ولادة الإمام الصادق عام 83 ووفاته 148هـ( تجمع نصوصها على تولي الصادق وآبائه الكرام قيادة الحركة العلمية التدوينية، كونهم مركز الاستقطاب الجماهيري. لكن الدكتور الشيخ، وقد تجاهلهم سابقاً، تابع نهجه بوصفهم على أنهم مجرد رجال يتسمون بالتقى والصلاح والعلم، لا يتجاوزون ذلك إلى القيادة، وأنهم كانوا متصلين بعصرهم يأخذون منه ويعطونه، يمدهم ويمدونه لم يسعوا إلى أبعد من هذه الدرجة فلم يكونوا أئمة.
عندما يتم التدقيق في الكتب التي دوّنت تلك المرحلة يكتشف الباحث شذرات من الأخبار تُؤشر على أمر بالغ الأهمية في حياة الإمام الصادق، فكما جاء في طبقات ابن سعد «سئل الإمام مرة عن الأحاديث التي يرويها فقال مرة: سمعت هذه الأحاديث من آبائي، وسئل مرّة فقال: إنما وجدتها في كتبه» (22) .
ويقول عنه أحمد أمين في موضوع آخر: «لكن من لا يروي عنه يتهمه بأنه لا يتقيد بما سمع بل يحدث بما قرأ في الكتب، وهذا عيب في نظر المحدثين» (23) ، وبما أن أحداً لم يتهمه بالكذب، ولأن «أبو زهرة» ينفي التدوين عن مدرسة أهل البيت بما في ذلك الإمام علي(رض) قائلاً: «لم يدوّن الإمام علي شيئاً عن الرسول لأنه كان منصرفاً إلى الجهاد..» (24)فإن وقائع التاريخ تدحض ذلك بجلاء كما رأينا. لهذا واستطراداً فإنه ينفي وجود مصحف فاطمة وكتاب الجفر (25) ويعتبر الروايات منهما مجرد تزايدات مؤكداً «ننفي نسبة الكلام في الجفر إلى الإمام الصادق لأن فيه علم الغيب» (26) .
________________________________________
(20)محمد أبو زهرة، الإمام الصادق، مصدر سابق، ص 15.
(22)أحمد أمين ضحى الإسلام، ح‏3، دار الكتاب العربي، بيروت، ص 215.
(23)المرجع نفسه، والصفحة نفسها.
(24)محمد أبو زهرة، الإمام الصادق، مصدر سابق، ص 426.
(25)مصحف فاطمة يعني حسب الروايات كل ما دوّنه الإمام علي بن أبي طالب عن الرسول(ص) من أحاديث، وكان مودعاً عند فاطمة الزهراء، وهو بالتأكيد لم يعن قرآناً آخر بل تعني الكلمة كتاباً وحسب.
(26)محمد أبو زهرة، الإمام الصادق، مصدر سابق، ص 35.

[الصفحة - 88]


لم تعد معرفة مضمون هذين الكتابين ذات أهمية كبيرة ما دام علماء الشيعة يصرّون على أن ما فيهما قد نقل في المدوّنات التي ورثت عن الأئمة، ولكن الأهم هو النفي المطلق القطعي للباحث الشيخ، ومن دون أية مستندات، لوجود المدونات والتدوين. والأغرب من ذلك هو ما يرشح مما سبق عن احتقار أهل الحديث للكتب والمدوّنات وإصرارهم على السماع، فهل يصبح النقل الشفهي المعتمد على الذاكرة أهم من الوثيقة المكتوبة؟
إن مجرد تواتر أخبار وجود الكتب لدى مؤسسة أهل البيت ـ رغم اختفاء أصولها ـ يدل بالقطع على وجودها، ويدل استطراداً على ريادتهم في مجال التدوين، بحيث تبدو السذاجة فاقعة عبر تسويغات «أبو زهرة» أن الإمام علي لم يكن عنده وقت للتدوين.
لقد اعتمد آل البيت على الوثيقة المكتوبة لتقديم أحاديث رسول اللَّه وسنته، ومعروف الآن أن الخلفاء الثلاثة الأوائل قاوموا كل محاولات تدوين الحديث النبوي وأتلفوا ما استطاعوا. وكم يبدو التهافت في مقولة أن الإمام الصادق لم يقدم للمسلمين نفسه كراوية ومفسر للسنة النبوية كما تلقاها عن آبائه بما يشكل عمليّاً مذهباً مختلفاً عن تيارات عصره. لقد سعى إلى توثيق السنة في ظروف بالغة الصعوبة، وكان نشوء المذاهب الأخرى مجرد ردة فعل على جهوده. ومن هذا المنطلق يمكن تفسير ابتعاد تلاميذه وتلاميذهم عن هذا العالم القطب لعصره ومرجع كل المسلمين.
تكوّن المذهبان الأولان: المالكي والحنفي تحت ظلال السلطة. ويعترف «أبو زهرة» بالتصاق الإمامين بالأمويين والعباسيين ومدى التشجيع الذي لقياه منهم، حتى أنّ سلاح المنصور العباسي في مناظرة الإمام الصادق كان أبا حنيفة النعمان كما ورد في الأخبار، كما أن هارون الرشيد شجع الإمام مالك بن أنس على نشر مذهبه وأبدى له حماساً منقطع النظير، حتى أن مقولة «لا يُفتى ومالك في المدينة» تبرز أكبر دليل على جهد السلطة في محاولة طمس وجود الإمام الصادق في المكان نفسه، مع كل ما له من سمعة وعلم لم ينكرهما أحد، وهل يقارن الصادق بمالك؟
ويمضي الكاتب الشيخ في النفي إلى مداه حين نلمس الشذرات التالية من القول مبثوثة هنا وهناك يقول: «لا يكوّن ما يرويه الرواة من أهل السنة عن الإمام مذهباً فقهياً لأنه روايات متناثرة، فمجموع ما يروى لا يكوّن مذهباً ولكنه يجعل صاحبه في مرتبة كبار
________________________________________

[الصفحة - 89]


المجتهدين». ويقول: «ليس للإمام جعفر فقه مستقل عن فقه الأئمة الأربعة سواه» (27) . ويتابع داعماً منهجه في النفي بتحطيم ركائز التشيع في «الكافي» قائلاً: «إن سند الكليني في الكافي غير متصل بالإمام الصادق، ولم يذكر السند المتصل بالصادق في كل الأحوال ولكن يروي عن تلاميذه ومنهم من مات في حياته، وقد يقال إنّه نقل من المدوّنات، ولكن يجب أن تكون هذه المدوّنات مشهورة وعرفت، وتكون هي الأصل الذي يعتمد عليه في هذا الشأن كالمجموعين اللذين نسبا إلى الإمام زيد عبر تلميذه أبي خالد وعرف من تلقوهما عنه جيلاً بعد جيل حتى اشتهرا..» (28) .
إن الدكتور الشيخ يغفل، عندما يستخدم لتحطيم الكافي منطقاً كهذا، أن طريقة الكليني في جمع الحديث لا تختلف عن طرائق أصحاب صحاح السنة، وهو ما أشار إليه مناظروه من علماء الشيعة، ذلك أن التشكيك ينسحب يشمل علم الحديث النبوي وجدواه، وذلك ما التقطه المستشرقون وأبرزوه لخدمة منهجهم في النفي‏ (29) برفضهم وتشكيكهم بصحة الحديث النبوي برمته. وفي إصرار المدرسة السلفية المصرية على رفض وتاقة رجال ومدوّنات مدرسة أهل البيت تصل منطقياً إلى اضطراب وتشوش يعم كل العلوم المشابهة لدى الطرف الآخر (السنة) ولا يشكل بالتالي منهجاً في البحث يؤدي إلى حالة من حالات اليقين والحقيقة، ولم يؤثر استطراداً على بروز مذهب أهل البيت وامتداده حتى اليوم. أما التشبث بفكرة أن الصحيح هو ما ورد من وثائق أهل السنّة والجماعة فقط فإنه يؤدي أمام انهيار الأدلة والتشكيك في الوثائق إلى حالة من الاضطراب والفوضى لا تخدم البحث الإسلامي، ولا الإسلام.
3 - ينفي الكاتب ميزة هامة انتشرت في كتب الشيعة، وفي كثير من وثائق الطرف الآخر، عندما يتطرق إلى نفي ريادة الإمام الصادق في وضع علم الأصول الفقه.
المقصود بهذا العلم هو ما يتصل بقواعد الاستنباط في الفقه الإسلامي. وهو ما يميزه عن علوم أخرى كالتفسير والحديث. يتصل هذا العلم بفقه اللغة العربية وقواعدها التي بدأ العمل لوضعها باكراً منذ الإمام علي بن أبي طالب(رض).
هذا الطراز من النفي، لدى الباحث الشيخ، يبدو نوعاً من المماحكة المذهبية أكثر منه بحثاً علمياً تاريخياً. وهو وإن كان لا ينفي تشابه طريقتي الإمام الصادق والإمام الشافعي
________________________________________
(27)المصدر نفسه، ص 245 و256.
(28)المصدر نفسه، ص 258.
(29)عبد الرحمن عبد الهادي، سلطة النص، المركز الثقافي العربي للنشر، بيروت ص 88.

[الصفحة - 90]


في هذا المجال فإنه يصر على ريادة الشافعي في التدوين لأن الإمام الصادق في نظرة لم يدوّن منهاج استنباطه ولكن أثر عنه كلام في الاستنباط (30) وما أثر عنه لا يشكل علماً، فهو مجرد ملامح غامضة، مثل إقراره أن الكتاب أصل الدين وأنّه مقدم على السنة وأن السنة لا يؤخذ بها إذا خالفته، وأنه يوافق على الناسخ والمنسوخ.. وغير ذلك..
الصادق إذن لم يعكف على التدوين بالمعنى الدقيق للكلمة في رأي الباحث الشيخ. وهو بعد صفحات عديدة يختم بعبارة كهذه: «إن الادعاء بالريادة في علم الأصول ما هو إلا نظرات استعراضية نقل منها الشيعة عن الصادق أنه تكلم في مناهج الاستنباط.. أي منهاج استنباط الصادق» (31) . الغاية من هذه المماحكة رغم عدم أهميتها ولا جدواها تتجه إلى غاية وحيدة، وهي وضع الصادق في مرتبة متأخرة علمياً عن المذاهب الأربعة «فالتدوين غير التأليف» كما يقول، لأن الإمام الصادق عكف على البحث والتوجيه والإرشاد والتلقين فقط (32) . ويكون أول من ألّف في علم الأصول من الشيعة هو النوبختي في القرن الثالث الهجري.
فهل ينتقص ذلك من قيمة الإمام الصادق وإبداعه بأن يكون محكوماً بعبارة أبو زهرة الغريبة «إن التدوين غير التأليف»؟ ما هو التدوين إذن إن لم يكن تأليفاً؟ وهل يعتبر تدوين الأصول الأربعمائة في الفقه الإسلامي والتي وردت في أخبار المسلمين مجرد أفكار لا تشكل علماً في الاستنباط؟ وهل يمكن مقارنة الإمام الشافعي بجعفر الصادق في مطلق الأحوال؟
4 - النفي الرباعي: الإلهام ـ العصمة ـ وراثة الإمامة ـ حديث الوصية والولاية. الإشكالية الكبرى لمنظّر التيار السلفي المصري في مسألة الإلهام تحديداً تنبع من أن الرسول تبعاً لحديث ثابت لدى (السنّة) في مناقب الصحابة بأنه أقرّ للخليفة الثاني عمر بن الخطاب(رض) بأنه ملهم: «لو كان في هذه الأمة محدّثون لكان عمر». إذن فالإلهام موجود فلماذا ينفى عن الصادق؟ يقول أبو زهرة: «لكن الملهم والمحدّث لا يقول كلامه قاطعاً متحدياً بل هو عبارات تجري على لسانه ولا يكون قاصداً لمعناها، بل تجري على لسانه من غير إرادة، وهذا ينطبق على الصادق(...) واللَّه أ علم بالغيب» (33) .
لقد أوردت الأخبار أن الإمام الصادق، قال في مواقف معيّنة، كلاماً جازماً قاطعاً
________________________________________
(30)محمد أبو زهرة، الإمام الصادق، مصدر سابق، ص 270 و275.
(31)المصدر نفسه، ص 272.
(32)المصدر نفسه، ص 269.
(33)المصدر نفسه، ص 51.

[الصفحة - 91]


مقصوداً، وخاصة ما ورد في مقاتل الطالبيين ـ الذي يعتبر ثقة في رواية التاريخ لأنه لا بديل عنه ـ عن استحالة تسلم محمد (النفس الزكية) للخلافة وأنّه ليس المهدي. هذه الكلام أوقع الباحثين في إشكالية مؤرقة، ذلك أن المنصور العباسي وصفه بالصادق تبعاً لقوله أن الخلافة ستؤول إليه في يوم ما في الاجتماع الشهير الذي عقده الهاشميون، وصار في مرتبة المتواتر لدى المؤرخين، هذه النبوءة وضعت أبا زهرة بين مأزقين أحلاهما مرّ. ولكنه كعادته لجأ إلى حلها هكذا «فإما أن تكون صفاء نفسياً للإمام وإما أنها قصة كاذبة لأن الروايات لم تجمع عليها». وبلجوئه إلى الإصرار على الإجماع بدا الشيخ متعسفاً، ذلك أن الإجماع يجب أن يحتل المرتبة الأولى في البحث التاريخي من أخبار جميع الشخصيات الإسلامية، وهذا ما لم يحصل، فلماذا يصر عليه في ما يتعلق بالصادق؟ إنه يقبل ويتبنَّى اتهام التشيع بالصدور عن عبداللَّه بن سبأ، اليهودي الأصل، رغم روايته عن خبر الواحد (سيف بن عمر في تاريخ الطبري)، ويأتي رفضه لأحداث اجتماع شهير كالذي تعلّق بقصة محمد بن عبداللَّه بن الحسن (النفس الزكية) متعسفاً في ظل تواتر أخبار رفض الإمام الصادق لعروض تولي قيادة الثورة ضد الأمويين في ما بعد، وهو ما لم ينكره أحد.
في هذا السياق يبدو المنطق المضطرب لبحثه حول الكرامة والمعجزة والإلهام باعتبارها مجرد مصادفة متكررة كما يقول‏ (34) فهل يطلب من الإنسان المسلم رفض الإيمان بذلك إلا إذا شاهد الكرامة تحدث أمامه؟ واستنباطاً هل على المسلمين رفض كرامات الصادق لمجرد عدم معاصرتهم له؟ وعلى هذه القاعدة يبني أبو زهرة نظريته في نفي العصمة أيضاً، مفنداً منطق علماء الشيعة حولها والتي وردت في كتبهم كما يلي: «لا بد أن يكن الإمام معصوماً عن الخطأ، لأنه لو كان يصيب ويخطى‏ء لكان كغيره وليس حجة في الأرض. ذلك أن علم الإمام إلهام إشراقي خالص لأن اللَّه أرحم بعباده من أن يتركهم هملاً لا هادي يهديهم، وإن الهادي هو الإمام وإن وجه الأرض لا يخلو من قائم للَّه بحجة، إما خائفاً مغموراً وإمّا ظاهراً مشهوراً» (35) .
ينطلق الباحث الشيخ من أنَّ مقولات كهذه حرضت الشيعة على تقصي مناقب الأئمة فإن لم تكن أوجدوها. وهذا يعني اتهام هؤلاء بالوضع، وبما أن المناقب وردت في وثائق عديدة، ولم يكن ممكناً من ذلك الزمن البعيد التمييز بين السني والشيعي إلا على أساس
________________________________________
(34)المصدر نفسه، ص 52.
(35)المصدر نفسه، ص 69.

[الصفحة - 92]


الظّن. كان كل من يتعاطف مع أهل البيت يتهم عادة بأنه من شيعتهم ويتهم في سبيل ذلك بمصداقيته وشرفه العلمي. من هنا يمكن أن نستقصي مدى علمية باحث معاصر كأبي زهرة وهو يستخدم المنطق نفسه من الاتهام والتصنيف للباحثين في هذا العصر. ثم يتابع القول: «العصمة تنفي الاجتهاد، وذلك مخالف للثابت عن الرسول(ص) أنه أجاز الاجتهاد، وهو كان مجتهداً كما فعل في حادثة أسرى بدر. وثبت أن النبي أخطأ واللَّه علمه الصواب فلا يصح لأحد أن يدعي العصمة فتعلو مرتبته على النبي(...) والإمام على أخطأ أيضاً(..) ولو كان الصادق ملهماً لما عني بدراسة آراء فقهاء عصره.. ولما أخذ علمه عن آبائه عن رسول اللَّه. (...) ومع هذا فإننا نضع الصادق في مرتبة عالية، ولكنه حسب منهجنا ليس ملهماً وبهذا نختلف مع الشيعة» (36) .
والحقيقة أن الاختلاف مع الشيعة هنا يبدو كبيراً جداً فعلاً، ذلك أنهم ينزهون الرسول عن الخطأ، فما ينطق عن الهوى بالإطلاق، ولا يعتبرون أن علياً أخطأ، ولا ينكرون أن الصادق أخذ علمه عن آبائه، فذلك لا يتناقض مع الإلهام الذي يتعلق بالمستجدات الحادثة في عصره.
هذا الافتراق الشاسع في مقولات كهذه لا يكفي لدى الباحث الشيخ، فهو يعطي انطباعاً بقبول جزئي للمذهب الجعفري على الأقل، لكنه ينتقل إلى موقع رافض أكثر حدة، عندما يقر بإصرار أن الإمامة لدى الشيعة لم تكن بالوراثة قطعاً ـ هنا يبدو كأنه يتدخل في شؤون لا يملك الحكم عليها ـ لكنه تبعاً يستخدم وقائع الاجتماع الذي شكك فيه وأشرنا إليه قبل سطور لإثبات وجهة نظره، حين يقول: إنّ الإمامة لو كانت بالوراثة لما وافق الإمام الصادق على مبايعة عبداللَّه بن الحسن، أبو محمد النفس الزكية، بدلاً عن ابنه‏ (37) .
هذه الواقعة ناقشتها عشرات المراجع من خلال بنيتها الذاتية، ومن منطلق مبدأ التقية الذي يقرُّ به الإمام الصادق، وذلك أن أبا زهرة يرفض وجود مبدأ كهذا في اجتماع كذاك، متعللاً بأنه كان لقاءً بين حلفاء لا يستوجب التقية من الصادق. إذن فلو قبل عبداللَّه بن الحسن البيعة لما انتقلت الإمامة إلى موسى الكاظم مثلاً. وبهذا يصل إلى نتيجته الشهيرة
________________________________________
(36)المصدر نفسه، ص 55 و74.
(37)المصدر نفسه، ص 50.

[الصفحة - 93]


بنفي وراثة الإمامة لدى الشيعة الإمامية والتي تعتبر من أبرز تقاليد مؤسسة الأئمة حتى الإمام الثاني عشر رضي اللَّه عنه.
من نافل القول تكرار ما قدمته المراجع المعاصرة في دفعها رأي الباحث الشيخ هذا، ذلك أن النظر إلى الحدث من زاوية أكثر إنصافاً تقنع الناظر بصوابية موقف الإمام وإلهامه معاً. كان الصادق يعلم ـ كما أثبتت الأحداث التالية ـ أن السلطة تؤول إلى السفاح والمنصور، ولكنه حاول جاهداً أنه يسجل موقفاً إنسانياً، رغم معرفته لاستحالة منع ما سيجري، فقام بتقديم النصيحة بما في ذلك مناورة بارعة لإبعاد محمد النفس الزكية عن تبني وجهة نظر والده بأنه المهدي والخليفة المقبل. هذه المناورة ـ مع علمه بما ستؤول إليه الأحداث ـ لا يمكن تفسيرها إلا بالتقية لأنها أكسبته منزلة عظمى في نفس الحكام الجدد وقد تولوا السلطة، فلقبوه بالصادق ولم يقدموا على قتله.
ولكن.. كيف علم الإمام الصادق سلام اللَّه عليه بالمستقبل، فإن تلك إشكالية لا يستطيع أي دارس للتاريخ إلا أن يضعها في خانة الإلهام بالقطع. ذلك أن قيادة الثورة عرضت عليه فعلاً بعد وفاة ابراهيم الإمام. ورفضها من دون تردد.
وكم يبدو رفض الباحث الشيخ لحديث الوصية ـ المتفرع جزئياً من حديث الغدير. وقد ورد في معظم صحاح السنة بهذا النص (خاصةً في مسلم): «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب اللَّه وعترتي آل بيتي» كم يبدو ذلك، وهو يقول إن من أورده بلفظ سنتي أوثق ممن أورده بلفظ عترتي، متهافتاً ومماحكة لفظية، خاصة عندما يلجأ إلى تأويل المعنى، وهو ما ترفضه السلفية أصلاً ـ بأن عترتي تدل على الوصاية بالفقه والعلم وليس الإمامة السياسية!! فالعصمة والمعجزات هي من قبيل الغلو في حق أهل البيت‏ (39) .
من هنا ألا يحق للباحث المنصف وهو يشهد هذا الاضطراب والتشوش لدى الشيخ الراحل إلا أن يحكم بشي‏ء من القسوة على قيمة كتاب كالذي بين أيدينا؟.
5 - في مجال الاتهام، الجذور اليهودية (السبأية» ـ تفريخ الغلاة ـ التفسير البوليسي لتطور الفكر ـ التعصب المذهبي.
________________________________________
(39)المصدر نفسه، ص 199 و200.

[الصفحة - 94]


في إطار دراسة الإمام الصادق وعصره يترافق النفي مع الاتهام دائماً لدى التيار السلفي. ولعلّ أبرز ما يتبناه المؤلف، من دون مناقشة، نسبة نشوء التشيع في الإسلام إلى قصة مشهورة عن شخصية أسطورية هي عبداللَّه بن سبأ (40) لكنه لا ينسى عندما يتحدث عن نشوء تيارات أخرى من الغلاة أن يجدّد مسؤوليّة الحكم الأموي عن ذلك بعيد استشهاد الإمام علي بن أبي طالب(رض).
لقد أتيح لقصة «ابن سبأ» أن تصبح بغنى عن التعريف لشهرتها، وانقسم الباحثون بين مؤيد لصحتها ومعارض لها. وتسلَّلت إلى بعض مصادر الشيعة مثل كتاب الرجال للكشي‏ (41) ويظل استخدامها في مواجهة التشيع عملاً لا يتسم بالسعي للوصول إلى الحقيقة ولا يعبِّر عن حسن النوايا تجاه مذهب أصبح يحمل صفة الإسلامية بعيد الاعتراف بجواز التعبد به مثل الأزهر. إن العنصر الأهم في تلك الدراما من تعليلات نشوء التشيع وفرقه هو ما يبدو من أسلوب بوليسيّ في تسويغ تصاعد تلك الفلسفات التي اتهمت بالغلو، وهذا ما يتبناه أبو زهرة منها جميعاً من دون مناقشة. وليس من شك في ظهور الغلو في كل الأفكار في العالم، لكن الحقيقة في ما حدث قبل ألف وأربعمائة من السنين أحيطت بالكثير من الغموض والشائعات والتهم التي لا يثبت كثير منها أمام التحقيق العلمي. هذه الفرق عارضت السلطة الأموية وسعت من منظورها إلى تحقيق العدالة. أما الشيعي منها فكان يرفع شعار الرضا من آل محمد والانتقام من ظالميهم كفرقة المختار الثقفي مثلاً. ولأنَّ ردود السلطة اتسمت بالقمع الشرس في المرحلتين معاً (الأموية والعباسية) فلا مندوحة من إبداء الحذر فيما نقل عن تلك الفرق من كتب المسلمين جميعاً. ذلك أن عصر التدوين ظل محكوماً بأمرين مهمين، أولهما: محاربة مستمرة للمعارضة الشيعية لتصفيتها جسدياً وفكرياً (وهذا هو الأهم) وثانيهما بروز ما سمى بتيار السنة كرد فعل في الواقع على الدعوات لآل بيت النبي(ص). وباتفاق الباحثين فإن تيار السنة في رموزه الغالبة انسجم في كتاباته مع طروحات السلطة وأطلق أحكام قيمة متعسفة على المعارضة بكافة تفرعاتها (42) .
ويطرح تساؤل مشروع: لماذا يستمر النزال مع التشيع كل هذا المدى الزمني؟ ولماذا لم يكن ممكناً اعتبار الإمامي منه مذهباً إسلامياً كغيره إلا قبل فترة وجيزة؟
لقد ترسخ النزال الفكري، في تيار السنة، من إطار ثوابت أفرزتها طبيعة النزال، رغم
________________________________________
(40)المصدر نفسه، ص 115.
(41)يراجع كتب السيد مرتضى‏ العسكري الهامة، عبداللَّه بن سبأ، مائة وخمسون صحابي مختلق، معالم المدرستين.
(42)راجع كتب الفرق: الملل والنحل للشهرستاني، الفرق بين الفرق للبغدادي، الفصل في الملل لابن حزم ـ فضائح الباطنية للغزالي وغيرها.

[الصفحة - 95]


عدم ثباتها للتمحيص العلمي، بحيث اعتبرت بعض الكتب(للسنّة) في ثانية بعد القرآن من القداسة.
وبما أن الباحث مقسور على التفكير بمقاييس زمنه بسبب غموض المراجع تلك، فإن السؤال الذي يبرز هو: هل يُصدَّق أنه حاكاً ما يندفع إلى القمع الفكري أو الجسدي نحو فرقة مسالمة لا تسعى إلى قلب نظامه؟ وفي إطار التسامح الكبير مع شرائح من فرق عاشت بين المسلمين بما من ذلك اليهودية والمجوسية وغيرها هل يصبح مشروعاً الادعاء بأن الحاكم يقوم بحملات لتصفية جماعات صغيرة مسالمة لمجرد فعالاتها في حب أهل البيت؟ لكن «أبو زهرة» يعرض المسألة بمنظور مختلف: هذه الفرق المسماة «البيانية، الكيسانية التي تفرعت عن حركة المختار الثقفي ثم الجبرية والقدرية والخطابية وغيرها وغيرها» هل كانت فرقاً مقاتلة حتى تستدعي شهوة التصفية الجسدية ومن وإلى الكوفة تحديداً أو من قام مقامه؟ ولماذا الكوفة تحديداً؟ ويصل إلى النتيجة التالية:
«كانت الكوفة وما وراءها مكاناً تأوي في ظلامه تلك الآراء التي تتولد في أخيلة مريضة قد أصابها درن المجوسية والوثنية القديمة ودرن الفساد، فكانوا في اعتقادهم باللَّه حشوية يأخذون بظاهر الألفاظ، وكانوا وثنيين بالنسبة للأئمة واعتقدوا بأنهم آلهة. كل ذلك ألقى عتباً على الباقر والصادق» (43) .
هذه العبارات تجعل القارى‏ء يتصور الكوفة باتساع لندن (مع أنها مجرد قرية) تصخب بالغلو والفرق والمجوسية وغيرها.. وأن ما وراءها متأثر بها. أما ما(قبلها) يعني الشام ومصر والحجاز فيمكن الاستنتاج بنظافتها وبأن الوالي الأموي (المؤمن) قام بتطبيق شريعة الإسلام على المرتدين عنه وأن الأئمة تبرأوا من شيعتهم. أما لماذا تبرأ الصادق منهم فلأنهم «تستروا باسمه لهدم الإسلام والحكم العربي وسعوا إلى إعادة الحكم المجوسي الفارسي». هكذا يقول أبو زهرة حرفياً من حكم قيم استقاه مباشرة من المستشرقين الذين تبنى أفكارهم. ولكن.. ألا يبدو حشر المسألة القومية هكذا بعيداً عن روح ذاك العصر.. في الإسلام لا فرق بين عجمي ولا عربي.. أما مدينة الكوفة فلأنها بؤرة التشيع قام الشيخ بصب جام غضبه عليها في خطاب سياسي ملي‏ء بالتناقض. أما ما أراد الوصول إليه أخيراً فهو «لقد دسوا على الإمام الصادق أحاديث كثيرة. فهل نتصور أن
________________________________________
(43)محمد أبو زهرة، الإمام الصادق، مصدر سابق، ص 124.

[الصفحة - 96]


القول بنقص القرآن قد وصل إلى الكافي منهم». ويتابع: «لقد أدى ذلك إلى اعتزال الإمام الصادق للسياسة بكل ألوانها فكان ما بلغه من المنزلة بهذا الاعتزال أكبر مما ناله غيره بالسيف والغلب»(44) .
إذن فقد اعتزل الإمام الصادق الحياة غاضباً على شيعته وليس على السلطان الظالم. لكن أي باحث يجد نفسه مقسوراً على التعامل مع مقولات ذاك العصر بكثير من التحفظ، بما في ذلك نشوء الغلو والغلاة وسبب قمع السلطة الطاغية لهم.
الباحث الشيخ يكمل اتهاماته بنص أخير يقول: «ورد في التهذيب أن الصادق رفض رواية غير الشيعي ولو كان عدلاً موثوقاً معروفاً ما دامت روايته لا يوثقها شيعي إمامي أو يمدحه إمامي.. وفي ذلك تعصب مذهبي نرجو ألا يستمر» (45) .
ثم نكتشف، بعد مراجعة التهذيب، أن ما نقل عن الإمام الصادق هذا محرّف بطريقة عجيبة.. إنه يريد أن يستمر في توجيه اصبع الاتهام مبرئاً الذين ينطق باسمهم كونهم وحدهم الذين يملكون الحقيقة.
ثانياً ـ الفصل‏
يقصد بهذا المفهوم ببساطة أن كل ما نقل عن الأئمة أهل بيت النبي(ص) من أحاديث وآراء فكرية وما تفرع عن مذهبهم أو ما عبر عنه تلاميذهم وشيعتهم وما نسب إليهم من مدوّنات، ليس لهم به وبناقليه أية علاقة. فليس لدى الأئمة شيعة أو أتباع. أما ما يمكن قبوله عنهم فهو ما ورد في كتب الجمهور التي لا تقبل النقد ولا يصل إليها الباطل. وهكذا تبدو مجمل الآراء التي يناقشها أبو زهرة في كتابه مجرد أفكار منسوبة إلى الصادق من تأليف أتباعه!!
وبالعودة إلى آرائه في أن الصادق لم يدّعِ الإمامة ولم يسع إلى تكوين أتباع‏ (46) فلا بد من التساؤل عن مصدر هؤلاء الأتباع ولماذا اتبعوه ووضعوا مذهبه بأقلامهم؟!
يعترف الباحث الشيخ بالحيرة في سعيه لتلمس الدور السياسي للإمام في عصره، قائلاً إنَّ الرأي السياسي للإمام لا يمكن الاتفاق على ماهيته‏ (47) . وبما أنه حسم القول عن الصادق بأنه لم يكن يعتقد نفسه إماماً معتبراً أن العبرة في الولاية، ليس بالوصاية ولكن
________________________________________
(44)المصدر نفسه، ص 129 و135.
(45)المصدر نفسه، ص 386.
(46)المصدر نفسه، ص 203.
(47)المصدر نفسه، ص 186.

[الصفحة - 97]


باختيار (أو بانتخاب) الأمثل. فإن السياق المنطقي لتحليله لتلك المرحلة يبدو بعيداً عن التماسك رغم تعمده المفرط الإشادة بالصادق في كل صفحة.
كان الإمام قطب عصره (كما يعترف) فهل يمكن لإنسان هذه صفاته أن يخلو من مريدين أو أتباع أو.. شيعة؟
لا يستطيع باحث منصف أن يتجاهل أن معارضة النظامين: الأموي ثم العباسي كانت في ظل قيادة ملهمة للحشود، ومثّلها الأئمة في حياتهم ثم نوابهم بعد اختفاء الإمام المهدي عام 265هـ، لكن الصادق كان على علم بكل الاتجاهات السياسية كما يقول أبو زهرة (48) ومع ذلك فهو ابن عصره وكان يجتهد برأيه في غياب النص. فهل في إطار ظروف كهذه لم يكن من تيار ينطق باسم أهل البيت وهل أن هؤلاء قد تخلوا عن هذا الدور؟ ويظل أشد ما حيّر الباحث هو إشكالية بقاء الإمام الصادق على قيد الحياة في خضم عصر بالغ الاضطراب والتغيّر في مرحلة ما بين عهدين. لقد نحا أبو زهرة إلى توصيفه بالحيادية المطلقة وعدم تدخله في شؤون الحكام أو المسلمين!! حتى أنه يتساءل بحيرة: هل اتصل الصادق بالخوارج مثلاً؟، علماً أنهم احتلّوا المدينة المنوّرة وهو قاطن فيها؟ لماذا لم يقتله الخوارج مع أنهم قتلوا من هو أشد مسالمة منه؟ وفي استسلام قدريّ عن غلبه الشر على عصر الصادق‏ (49) يحاول الباحث الخروج من حيرته باقتباس للمنصور العباسي يعطى تسويغاً للحفاظ على حياة الصادق يقول: «الصادق.. هذا الشجى المعترض في حلوق الخلفاء، الذي لا يجوز نفيه ولا يحل قتله، ولولا ما تجمعني وإياه من شجرة طاب أصلها وبسق فرعها وعذب ثمرها وبوركت في الذرية وقدّست في الزبر لكان جنى ما لا تحمد عقباه لما بلغني من شدَّة عيبه لنا وسوء القول فينا» (49) .
كان الخليفة العباسي على قناعة تامة بأن الصادق يقف في مواجهته، كما عبر عن ذلك بجلاء «شدة عيبه لنا وسوء القول فينا»، بل إن المنصور العباسي كان يعلم أنَّ الإمام يقود تنظيماً من الاتباع (والشيعة) يمتد في أرجاء دار الإسلام، فلماذا كان يخشاه حتى لم يجرؤ على قتله؟ هناك الكثير من التشويش في استخدام معطيات المراجع لدى الشيخ «أبو زهرة» وغيره من باحثي الطرف الآخر في محاولتهم تفسير ذلك. ولا يكفي أن يقال أن سلبيته أو حياديته الظاهرية وعدم تدخله في السياسة والأمور العامة تفسر بقاءه دون تعرّض
________________________________________
(48)المصدر نفسه، ص 179.
(49)المصدر نفسه، ص 138.

[الصفحة - 98]


للاغتيال. وبالمقابل لا يجوز اتهامه بالحرص على حياته إلى درجة ابتعاده عن الإيجابية التي تقتضيها مكانته الكبرى بين الناس وسعيه إلى خدمتهم ديناً ودنيا.
إن مكانة الإمام الصادق ـ بناء على ما رشح من كل المراجع ـ تحتل موقعاً لم يصله أحد من مشاهير عصره، فقد أثر عنه الكثير من مختلف العلوم، وكان مصدر معظم المدارس العلمية بما في ذلك الكيمياء (50) . بل إنه برز على واجهة الأحداث عام 134هـ عندما أتاه الدعاة ليرجوه تسلم قيادة المرحلة الجديدة الحتمية المجي‏ء. لقد أثار رفضه للقيادة الكثير من الاستغراب، فلم يكن له من منافس حقيقي بعيد اغتيال ابراهيم الإمام، وهو ما حيَّر التيارات البحثية المصرية جميعاً ـ في دراستها للتشيع. ولكنها لم تقدم من التفسير ما يستحق أن يوصف به الإمام الصادق كما هو عليه.. القائد الملهم الذي يعرف ما أوكل اللَّه سبحانه إليه من مهام، أدّاها جميعاً كما يجب أن يفعل إنسان تجاوز المألوف والاعتيادي ليكون إمام عصره فعلاً.
تروى تلك الحادثة كما يلي «حكى المسعودي، في مروج الذهب، أن أبا سلمة الخلال داعية العباسيين حين بلغه مقتل ابراهيم الإمام، أضمر الرجوع عمَّا كان عليه ـ من الدعوة العباسية ـ إلى آل بيت أبي طالب فبعث بكتابين مع رسول إلى المدينة، أحدهما إلى جعفر بن محمد والآخر إلى عبداللَّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فلما وصل الرسول إلى جعفر أعلمه أنّه رسول أبي سلمة ودفع إليه كتابه ليلاً، فقال جعفر: ما أنا وأبو سلمة وأبو سلمة شيعة لغيري؟ فقال: إني رسول فتقرأ كتابه وتجيبه بما رأيت، فدعا جعفر بسراج ثم أخذ كتاب أبي سلمة فوضعه على السراج حتى احترق وقال للرسول: عرّف صاحبك بما رأيت: ثم تمثل قول الكميت:
أيا موقداً ناراً لغيرك ضوؤرها يا حاطباً في غير حبلك تحطب»(51) .
لهذه القصة دلالات عديدة، ولكن أبلغ ما تدل عليه، سوى مدى ما وصلت إليه مكانة الصادق والهاميته، أنها تعبر عن امتلاكه المعرفة الدقيقة لشيعته وشيعة غيره رغم تشابك التنظيمين، وكان أحدهما على الأقل (العباسي) يسعى لإسقاط الدولة الأموية، وقد نجح في ذلك. وكم سعى المنصور العباسي بعد ذلك لاستدراجه للإيقاع به فلم يفلح. وما من شك في أنه أحاط الإمام الصادق بحشد من مخابراته، ومع ذلك لم يتمكن من إثبات
________________________________________
(50)راجع: محمد يحيى الهاشمي، الإمام الصادق ملهم الكيمياء، دار الأضواء، بيروت 1986.
(51)ضحى الإسلام م.س. ح‏3، ص 261 م.س.

[الصفحة - 99]


شي‏ء رغم معرفته اليقينية بوجود الشيعة وانتشارهم‏ (52) . فهل كان من الممكن حفظ وثائق الأئمة من أهل البيت النبوي لولا وجود هذا التنظيم؟ وهل يجوز القول إن ما نقل من أحاديث عن الصادق وأبنائه وآبائه في الكتب الأربعة التي أشرنا إليها هو مجرد بناء من الوضع والتأليف الذي لا يقوم على أساس من مراجع تتصل بهؤلاء الأئمة؟
يتطرق الشيخ أبو زهرة إلى مسألة تثير إشكالية أخرى، وهي رفض الصادق لخروج الناس على الحكام، أو عدم تأييده لذلك على الأقل حتى وهو يعترف بأن الإمام كان في حقيقة أمره لا يوافق على سلوك هؤلاء الحكام، بحجة، لعدم دعم الخروج، أن ضرره أكبر من نفعه‏ (53) . لكن الباحث وهو يؤكد ذاك الرفض من قبل الإمام بإطلاق يتجاهل التزام الصادق بأحقية خروج جده الحسين من جهة وبتأييده لسلوك عمه زيد بن علي عندما خرج على الحاكم الأموي واستشهد من جهة أخرى‏ (54) .
أما بالنسبة للإمام جعفر بن محمد الصادق شخصياً فقد قام بأداء مهمته.. حفظ وثائق الإسلام كما تلقاها عن آبائه، عن رسول اللَّه(ص). ولولا نجاحه في مهمته تلك لما شاهدنا أمامنا من هذا الزمن إلا نماذج من رجال للدين في مقدمتهم الدكتور الراحل ومؤسسة الأزهر وغيرها.. وبالتأكيد لم يكن ممكناً أن يبقى لأهل بيت النبي تراث يذكر في ظلال محاولات طمس السلطات المتعاقبة لتراثهم وشيعتهم معاً.
نظرية انتقاد الصحابة
يبدو تمسك التيار السلفي باتهام أتباع مدرسة أهل البيت بأنهم ينتقدون أو يهاجمون صحابة الرسول مجرد تبسيط واختزال للإشكالية القائمة في الإسلام منذ عصره الأبعد. ذلك أنها تعتبر هذا الانتقاد الخيط الفاصل بين السنة والشيعة. لذا نراها تأخذ حيزاً أكبر مما يستحق في الكتاب الذي بين أيدينا.
يجهد الشيخ أبو زهرة، في سعيه للفصل الكامل بين الإمام زين العابدين وبعده الباقر وشيعتهما، في مراجعه، لاكتشاف أقوال تؤيد وجهة نظره حول رفض الإمامين لانتقاد أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، لكنه لم يجد ذلك لدى الإمام الصادق فيقول: «لقد أثر عن زين العابدين والباقر رفضهما للطعن في الخلفاء الثلاثة، ولم يؤثر عن الصادق ما يخالف
________________________________________
(52)راجع: الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، مناقب آل أبي لابن شهراشوب.
(53)محمد أبو زهرة، الإمام الصادق، مصدر سابق، ص 53 - 206.
(54)نوري حاتم، زيد بن علي ومشروعية الثورة عند أهل البيت، دار الغدير، بيروت، 1995.

[الصفحة - 100]


ذلك.. أوصى الباقر جابر الجعفي قائلاً: أبلغ أهل الكوفة أنني بري‏ء ممن تبرأ من أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما وأرضاهما، ومن لم يعرف فضلهما فقد جهل السنة» (55) .
وقد أورد هذا الاقتباس من «حلية الأولياء»، مقرراً ببساطة ومن دون مناقشة أن هذا الكتاب مقبول لدى كل الأطراف وموثوق‏ (56) لديهم. تلك المقولة التي لا يسندها بأية وثيقة أو مرجع وخاصة من الجانب الشيعي. ويتابع الشيخ اقتباسه من الكتاب عن الإمام الباقر: «والذي نفس محمد بيده لو وليت لتقربت إلى اللَّه بدمائهم ولا نالتني شفاعة محمد إن لم أكن أستغفر لهما وأترحم عليهما وأن أعداء اللَّه لغافلون عنهم..». ثم يتابع: «بل إن الباقر كان يستشهد بأعمال أبي بكر وعمر ويقول نعم الصدّيق. وقد فسّر آية الولاية {إنما وليكم اللَّه والذين آمنوا} فقال: هم أصحاب محمد فقال السائل: يقولون هو عليّ فقال: «عليّ منهم» (57) .
إن استخدام «حلية الأولياء» لا يسهم مطلقاً في حل إشكالية مفادها أن تاريخ المسلمين يقرر أن الخلاف استحكم حول خلافة رسول اللَّه بين صحابته إلى درجة أن أقوالاً كهذه منسوبة إلى الإمام الباقر تبدو مجرد محاولة لتحميل لسانه ما لا ينسجم مع منطق التاريخ والأحداث المتواترة.
فإن بديهية التشيع الأولى وخاصة للإمام علي تنصّ على أن الشيخين غصبا حقه في خلافة الرسول، وتؤيِّد ذلك كتب التاريخ الإسلامي المعتمدة، ولا يبدو من خلال محاولة «أبو زهرة» التوفيقية (وقد حاول غيره ذلك من قبل) باعتماده على مجرد روايات لا تثبت أمام التحليل العلمي ومنطق الأحداث، إلا سعي بمحاولة التوفيق وتبسيط الأمور. إن تجاهل التاريخ لخدمة الأيديولوجيا لا يلغي التاريخ، وتجاهل الإشكالية لا يحلها. بل إن الادعاء بوجود تشيع من دون قيادة أو أئمة يُتشيّعُ لهم، فكرة فيها من التبسيط ما يثير الدهشة والاستفزاز.
وبعد فمن هم الصحابة؟
يحددهم أبو زهرة بأصحاب بيعة الرضوان العشرة (58) . هذا بحد ذاته تجاهل لآخرين لا ينكر فضلهم وجهادهم وفيهم كبار شيعة الإمام علي(رض) كالمقداد وسلمان وعمار وأبي ذر وغيرهم، وعشرات من الأنصار المجاهدون ـ الولاية ثابتة لهؤلاء العشرة فقط كما يصر الشيخ وهو يردف برأي لابن أبي
________________________________________
(55)محمد أبو زهرة، الإمام الصادق، مصدر سابق، ص 207.
(56)أحمد بن عبداللَّه الأصفهاني (أبو نعيم) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، دار الفكر بيروت، ص 172 - 206.
(57)محمد أبو زهرة، الإمام الصادق، مصدر سابق، ص 208.
(58)المصدر نفسه، ص 209.

[الصفحة - 101]


الحديد يقول فيه: «فأما الأفاضل من المهاجرين والأنصار الذين ولّوا الإمامة قبله (يعني الإمام علي) فلو أنكر أحد إمامتهم وغضب عليهم وسخط فعلهم فضلاً عن أن يشهر عليهم السيف أو يدعو إلى نفسه لقلنا إنه من الهالكين! لكن رأينا عليا رضي إمامتهم وبايعهم وصلى خلفهم وأنكحهم وأكل فيئهم فلم يكن لنا أن نتعدى فعله».
ثم يخلص أخيراً إلى غايته الأساسية، مقرراً أن هذا الرأي يخرج أكثر الصحابة عن موضع الطعن، مستشهداً بأن كتاباً معاصرين من الشيعة يقرّون بذلك، ومنهم محمد جواد مغنية (59) .
فهل استطاع الباحث الشيخ عبر منطقه الجدلي هذا أن يحل الإشكالية الأبرز في التاريخ الإسلامي من خلال تبرئة الأئمة بإدانة شيعتهم؟
إنَّ استخدام المراجع، بطريقة كهذه، لا يخدم أي بحث علمي تاريخي. لقد ثبت عن الأئمة ومن طريق مراجع أخرى تتسم بالوثاقة ما يناقض أقوال الشيخ، وهو يتجاهلها كلياً. فليس من المنطق الادعاء بأن الإمام علي لم يختلف مع قرنائه على خلافة النبي(ص) وإلا فإن علينا إلغاء عقولنا ومصادرنا وواقعنا الخلافي الراهن، وذلك لا يخدم الإسلام بحد ذاته.
الصحابة بشر.. تصارعوا، وسفكت في حروبهم الداخلية الدماء، وانتقدوا بعضهم، وتنبأ رسول اللَّه بذلك في أحاديث عديدة مدرجة في كل كتب الحديث. وظل ذلك طبيعياً في إطار الصراع على الحق، ولم يكن نشوء المذاهب المتعددة في الدين إلا انعكاس لهذا الصراع الذي لا يجوز تجاهله بإيصال الصحابة (مهما كان عددهم) إلى مرتبة العصمة.
يقول السيد محمد حسين فضل اللَّه: «مشكلتنا، في هذا الشرق الانفعالي العاطفي، أن الإنسان يكون في حاضره مع الناس شكله أو موقعاً للنقد والمناقشة، حتى إذا صار ماضياً ارتفع إلى أعلى القداسات، الإنسان القيمة العادة التقاليد، مشكلتنا أن الزمن عندنا عندما يمضي يدخلنا في تقديس الأخطاء والخرافات والعادات حتى تنطلق من حياتنا كأشياء مقدسة لا تملك أي معنى للقداسة سوى أن الماضي في عقلنا {إنا وجدنا آباءنا على أمة وأنا على أثارهم مقتدون} (60) .
________________________________________
(59)المصدر نفسه، ص 210.
(60)السيد محمد حسين فضل اللَّه، الإسلام والاجتهاد الحركي في فكر الإمام الخميني، مجلة الثقافة الإسلامية، دمشق عدد 67.

[الصفحة - 102]


هذا ينطبق على شخصيات عصر رسول اللَّه أشد ما ينطبق، فلماذا يصر التيار السلفي الإسلامي على وضع بشر ـ لم يجر النص القرآني على عصمتهم ـ في مرتبة تعلو البشرية، ثم بالمقابل ينقد الشيعة لأنهم اعتمدوا على نصوص القرآن (آية التطهير) في إثبات عصمة أهل بيت النبي: علي وفاطمة وبنوهما حتى الإمام المهدي.
في إطار نظرية الفصل لدى الباحث الشيخ يقدّم منحى جديداً يعتمد على تفسير قول منسوب للإمام الصادق، بتحميله نتائج لا تنسجم مطلقاً مع مسار فكره وحياته وحتى مع بنية نص هذا الحديث. هذا القول ورد كما يلي: «من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه، وفي المسلمين من هو أعلم منه، فهو ضال متكلف» (61) .
من خلال فلسفة تحليل حديث كهذا ينطلق أبو زهرة إلى آفاق عجيبة، فهو يعتبر أن الصادق منسجم مع ما وصل إليه (الجمهور) في مسألة الإمامة، ثم يقسّم الإمامة إلى قسمين: نبوية وتكون بالمبايعة وملكية لا تتصف بهذا الوصف. أما الصادق فيصر على أن الإمامة تكون بالمبايعة (62) . هذا الادعاء يخدم نظرية الشيخ في الفصل ووصف الأئمة بأنهم كانوا مجرّد رجال دين ولم يدعوا لأنفسهم الإمامة أو الولاية أو حتى تكوين أتباع وشريعة، ووافقوا على مجريات حادثة السقيفة المشهورة التي رفضها الإمام علي.
يستنتج الباحث الشيخ أيضاً، في تفسير الحديث، أن المقصود بالعلم هو علم الإسلام مضافاً إليه القدرة على إدارة دفّة الحكم، وفي اعتقاده أن ذلك ينطبق على الخلفاء الأربعة الرواشد. وكما نلحظ فإن الشيخ يتابع توظيف التاريخ لخدمة أفكاره، متجاهلاً أن الثلاثة الأوائل من الخلفاء اعترفوا للإمام علي بالأعلمية رغم أنهم لم يوافقوا على توليه الإمارة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن جدلية الإمامة لدى الشيخ، وهو يسعى إلى تشريع ما جرى من أحداث أو بالأحرى أسلمتها بادعاء الاجماع بين الجمهور، يقوده إلى القول: اتفق الجمهور في الإمام أن يكون قرشياً عادلاً صاحب شورى وجاء بالمبايعة، وهو يظل إماماً ما دام قائماً بالعدل، فإذا انحرف لا تستمر إمامته نبوية بل ملكاً دنيوياً، هذا بالاتفاق ولكن مجريات الأمور تستوجب اتفاقاً آخر لتسويغها ووضعها في إطار الشريعة، فيقول «إذا تغلب قرشيّ عادل ثم ارتضاه المسلمون بعد ذلك وبايعوه يكون خليفة ولو كان الاختيار متأخراً: هذا رأي الشافعية والمالكية والحنابلة، أما الحنفية فالاختيار عندهم سابق
________________________________________
(61)محمد أبو زهرة، الإمام الصادق، مصدر سابق، ص 213.
(62)المصدر نفسه، ص 212.

[الصفحة - 103]


للولاية» (63) . وبما أن مناقشة آراء كهذه ليست ذات جدوى حقيقية ما دامت تحمل صفة الدغمائية والاجتهادات المتضاربة، فإن ما يعنينا هو ما يتعلق بالإمام الصادق.
ذلك أن الادعاء بأنه موافق على رأي الجمهور يخرجه من مسار حركة التشيّع، وحتى ما عرف بالتواتر عن أفكاره التي تنسجم مع سيرة حياته؛ وذلك ما سعى إليه أبو زهرة من خلال كتابه.
الإمامة عند الصادق ركن الإسلام الخامس، وهو ما أثر عنه وعن الأئمة جميعاً وتحملوا من أجله كل ذلك العذاب والاضطهاد،
وإلا فلماذا عمل الحكام على مطاردتهم وقتلهم ما داموا يقفون مع جمهور مسوّغي شرعية الحكام؟ أما الأغرب فإن الباحث الشيخ يقول في سياق بحثه: «إننا لا نعرف للإمام الصادق رأياً مقطوعاً في شروط الإمام الذي يتولى أمور المسلمين» (64) متابعاً اضطرابه وتناقضه حتى النهاية.
يبدو من خلال هذا الكتاب، التيار السلفي الإسلامي، يبدو من خلال هذا الكتاب، مجموعة مقولات دغمائية لا تتصل بالمنطق والعقل بأية صلة، ولهذا لم يقدم للإسلام خدمات تذكر في مجال المستجدات،
وحتى في سبيل الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب، لكننا نسجل معه اعترافه الأخير «لما مات الإمام الصادق(رض) أحس العالم الإسلامي كله بفقده، وكان له ذكر عطر على كل لسان وأجمع العلماء على فضله، لم يغال في عداوته أحد ولم يعاده أحد» (65) .
________________________________________
(63)المصدر نفسه، ص 213.
(64)المصدر نفسه، ص 212.
(65)المصدر نفسه، ص 64.

[الصفحة - 104]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف