البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

خصائص الحضارة الاسلامية

الباحث :  كريم جبر الحسن
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  13
السنة :  السنة الرابعة ربيع 1420 هجـ 1999 م
تاريخ إضافة البحث :  January / 26 / 2015
عدد زيارات البحث :  1826

خصائص الحضارة الإسلاميَّة

الأستاذ کریم جبر الحسن (*)

‏مقدِّمة
إنّ الدِّين الإسلامي منهج ربَّاني أُرْسِل لإسعاد الناس جميعهم، ويتمُّ ذلك بتغيير الإنسان والارتقاء به نحو الأفضل والأحسن والأكمل، وبما أنه منهج رباني صادر عن الذَّات الإلهية، فإنّ اللَّه، سبحانه، يعرف طبيعة النفس البشرية ويعرف هواجسها، ويعلم جوانب القوَّة والضعف فيها، ويعرف ما ينفعها وما يضرها، ويعرف، سبحانه، طرق تغيير هذه النفس والسلوك بها في الطريق الصحيح؛ حيث رضوان اللَّه ورحمته وغفرانه، لذلك يبدأ الإسلام بالتغيير الفكري والروحي فيملأ عقل الإنسان وروحه بعقيدة نقية صافية تقنعه وترضيه، وتريح قلبه من الشكوك والوساوس والأوهام، وتجعل هدفه واضحاً في الحياة، وطريقه واضح المعالم والخطوات، لا يتيه ولا يتعثَّر في سيره إلى اللَّه سبحانه.
إنَّ الإسلام يُعطي للمسلم تصوُّراً واضحاً عن اللَّه سبحانه وعن الكون، وعن الإنسان وموقعه على صفحة الوجود، ثم يبيّن له الأهداف العظيمة للرسالة الإسلامية. ويبدأ المسلم في الإطلاع على تفاصيل الشريعة الإسلامية وجزيئيات النظام الإسلامي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وخلال ذلك يتعرف المسلم إلى الأصول الأساسية لهذا الدين والميِّزات العامة للشريعة الإسلامية؛ وهذه الميِّزات هي أسس وقواعد ومناهج وطرق رئيسية تدخل تحت أبوابها تفاصيل التشريع الإسلامي جميعها. ومن خلال معرفتنا لهذه الخصائص والميِّزات والصِّفات نستطيع إرجاع كل حكم شرعي وموقف عملي للرسالة الإسلامية إلى هذه الخصائص والمبادى. تتمثَّل أهداف هذه الخصائص في تحقُّق بُعدين رئيسيَّين:
________________________________________

[الصفحة - 192]


أولاً: الوصول إلى تحقيق الخير والرفاه والحق والسعادة للبشرية.
ثانياً: سلوك أقصر الطرق وأفضل الأساليب، أو بالأحرى الطريق الوحيد الذي يضمن النجاح لتطبيق الشريعة الإسلامية، وذلك بسبب الميِّزات العالية والرَّاقية والعملية لهذه الخصائص.
إن هذه المبادى والخصائص، بقدر ما تتعدَّد وتتكاثر، فإنها تجتمع وتأتلف وتتكامل لتحقِّق هدفاً واحداً هو تطبيق الرسالة الإسلامية على واقع الحياة. وقد يتساءل بعضهم عن الهدف من معرفة هذه المبادى والخصائص وعن الفائدة من شرحها والخوض في تفاصيلها. وفي ما يأتي نذكر أهمَّ النتائج والأهداف التي تتحقق على ضوء معرفتنا بهذه المبادى والسير وفق أصولها ومناهجها:
1 - تبيان عظمة التشريع الإسلامي وكماله وسموه ورفعته، وقوَّته وفاعليته.
2 - تفيد معرفة هذه الخصائص قادة العالم الإسلامي وأئمة الفكر، ورجال التشريع، والسَّاهرين على تطبيق الإسلام والسائرين على نهجه والساعين في سيرهم إلى اللَّه، تفيدهم جميعهم في أخذ أحكام اللَّه نقيَّة صافية، ويتوضح الطريق أمامهم فيسيرون على هدىً من ربِّهم لا يتخبَّطون ولا يتحيَّرون، ويزول الغبش من أمام أعينهم، فيسيرون في طريق واضحة المعالم، معروفة البداية والنهاية، وهذا هو ما يميز الإسلام: سمو في الهدف ووضوح في الطريق، وأخلاق راقية ومُثل سامية في الغاية والوسيلة.
إنَّ مبادى الحضارة الإسلامية وخصائصها عديدة يمكننا إجمال أهمِّها بما يأتي:
1 - الإنسانيَّة
أهم ما يميّز الحضارة الإسلامية هو بُعدها الإنساني والعالمي، وقد نزلت الشريعة الإسلامية لتطبّق على الأرض وتنتشر في كل أنحاء الكرة الأرضية، فالإسلام للبشر كلهم وللإنسانية، جمعاء يقول سبحانه: { ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } {الأنبياء/107} . ويقول تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاّ كافة للنَّاس بشيراً ونذيراً } {سبأ/28}
________________________________________

[الصفحة - 193]


. هذا مفهوم واضح يفهمه كل مسلم مهما كانت درجته الفكرية أو ذهنيته العقلية. وكثيرة هي النُّصوص الإسلامية التي تتحدَّث عن هذا المفهوم وتؤكّد عليه من آيات قرآنية وأحاديث شريفة ومواقف عملية للنبي محمد(صلي الله عليه و آله) وللمسلمين الأوائل. إنَّ الإسلام «كان عالمياً بطبيعته، فمنذ اللحظة الأولى والقرآن يوجه الخطاب إلى الناس أجمعين، وأداة الخطاب «يا أيها الناس» تملأ القرآن وتتخلل آياته، وقد بلغ عدد مرّات استعمال هذا الخطاب في القرآن نحو ثمانٍ وعشرين مرّة، كما ورد فيه «لفظ الناس» مئتين وأربعين مرّة، ولفظ «الإنسان» إحدى وستين مرّة. وقد كان رب المسلمين وإلههم، منذ اللحظة الأولى للدعوة، هو «رب العالمين» و «رب المشارق والمغارب» و «رب السموات والأرض». وقد كان الناس جميعهم خلقه، وكانوا سواسية كالأخوة أمام والد كبير ورحيم‏ (1) .
ووردت، على لسان النبي محمد(صلي الله عليه و آله) ، أحاديث كثيرة تؤكّد على مفهوم العالمية والإنسانية في الدِّين الإسلامي أهمّها ما ورد عنه (صلي الله عليه و آله و سلم) في خطبة حجة الوداع: «إنّ ربكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، كلُّكم لآدم، وآدم من تراب، إنّ أكرمكم عند اللَّه أتقاكم وليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض فضل إلاّ بالتقوى» (2).
ومن جهة ثانية، فإن التشريع الإسلامي، في أصوله وأحكامه، وفي كل ما يستنبطه المجتهدون، يتوجَّه إلى سعادة الإنسان ومصلحته وراحته ودفع الأذى والضَّرر عنه، فأينما تكن منفعة الإنسان ومصلحته وخيره، فالإسلام يوجب ذلك أو يحثُّ عليه، وأينما كان ضرر الإنسان فإنَّ الإسلام يحرِّمه أو يكرّهه إلى النفس الإنسانية حسب درجات الأذى والمضرّة، يقول تعالى: { ويُحِلُّ لهم الطَّيّبات ويُحرِّمُ عليهم الخبائث } {الأعراف/157} ، ويقول النبي محمد(صلي الله عليه و آله) : «خيرُ النَّاس من نفع النَّاس». ولو استقرأنا لائحة الواجبات والمحرَّمات في الإسلام، لوجدناها تصبُّ كلها في هذا الاتجاه، فالواجبات ذات منفعة عظيمة للإنسان في الدنيا والآخرة، والمحرَّمات ذات أضرار كبيرة وجسيمة في الدنيا والآخرة.
وقد لا يتبيَّن في بعض هذه الأحكام وجه المنفعة أو وجه المضرة للإنسان، ولكنها في جوهرها وحقيقتها تصب في هذا المفهوم. وما دام العلم لم يصل إلى
________________________________________
(1)من فلسفة التَّشريع الإسلامية، ص 52. د. فتحي رضوان، دار الكتاب اللبناني ط2، 1975م.
(2)المصدر نفسه، ص 56.

[الصفحة - 194]


نهايته بعد، فلا يحقُّ لنا الاعتراض على بعض المفاهيم أو الأحكام التي لم تتوصَّل عقولنا إلى إدراكها أو فهمها. إنَّ الإسلام دين الفطرة البشرية: { فِطْرةُ اللَّه التي فَطَر النَّاس عليها لا تَبْدِيلَ لخلق اللَّه ذلك الدِّين القيّم } {الروم/30} جاء بالأحكام والأنظمة والقوانين التي تلائم هذه الفطرة تماماً. وقد وهب اللَّه سبحانه الإنسان المنزلة العظيمة في هذا الكون فهو محور حركته، وخليفة اللَّه على أرضه، يتحرك وفق مشيئة اللَّه وإرادته، وتركّزت تعاليم التربية الإسلامية على الإنسان لتربيته وتغييره ليؤدِّي دوره الرسالي المطلوب على أفضل وجه وأكمله.
تتبيَّن عالميَّة الإسلام وإنسانيَّته من خلال النُّصوص الإسلامية، ومن خلال المواقف العمليَّة للرسول محمد(صلي الله عليه و آله) ، فالإسلام امتداد لرسالة إبراهيم (عليه السلام) يقول تعالى: { ملَّةَ أبِيكُم إبراهيمَ هو سمَّاكم المُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ } {الحج/78} .
ومن أوّل الأعمال التي قام بها الرَّسول محمد(صلي الله عليه و آله) إرساله الرسائل إلى ملوك عصره في أقطار الأرض يدعوهم إلى الإسلام واعتناق هذا الدين الحنيف، فأرسل (صلي الله عليه و آله و سلم) الرسائل إلى هرقل إمبراطور الرومان وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى ملك الحبشة وإلى ملك اليمن وغيرهم، الأمر الذي يدل دلالة قاطعة على نظرة الإسلام العالمية وسعة أفقه ليشمل الإنسانيَّة كلَّها: «إنَّ الإسلام تميّز منذ انطلاقته الأولى بصفته العالمية أو الكونية الأممية، ليس بتوجيهه إلى الأمم والشعوب المختلفة فقط، بل بأخذه بفكرة تدرُّج المعرفة البشرية واستيعاب المرحلة اللاحقة لما قبلها وتخطِّيها لها، وإيمانه بوحدة العقل البشري ووحدة العالم رغم وجود خصائص تميّز الشعوب والأمم» (3) .
2 - الوسطيَّة
إنَّ سبب إخفاق أغلب الأنظمة والأفكار التغييرية، هو إفراطها أو تفريطها في المفاهيم والمواقف العمليَّة، فالغلوُّ في الشي‏ء أكثر من مقداره وحقّه، أو الاستهانة به وغمط حقّه، يؤدِّيان فكلاهماف إلى الفشل والاندحار في النتائج، الأمر الذي يؤدِّي إلى ظهور المشاكل المتفاقمة والانحرافات المتواصلة، وينعكس ذلك كلّه على الإنسان، وعلى البشرية كلّها، على شكل جوع وفقر وأمراض وحروب وآلام ومشاكل لا تُعدُّ ولا تحصى.
________________________________________
(3)معالم على تحديث الفكر العربي، ص 97. د. معن زيادة، عالم المعرفة، رقم (115)، الكويت، ذو القعدة 1407هـ ـ تموز 1987م.

[الصفحة - 195]


إنَّ مذهب الوسطيَّة في الإسلام واضح كل الوضوح، واضحٌ في النَّص عليه في القرآن الكريم والحديث الشريف، وواضح في التطبيقات العملية للرسالة الإسلامية، فالقرآن الكريم ينصُّ صراحة{ وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً } {البقرة/143} . أمّا التشريعات الإسلامية فإنها تؤكّد على إشباع الرغبات المادية والحاجات الروحية على حدٍّ سواء، فالإسلام يدعو الإنسان إلى عبادة اللَّه والتقرّب إليه، ويدعوه أيضاً إلى الاستمتاع الحلال بملذَّات الحياة الدنيا، والإسلام يرفض البخل ويرفض الإسراف، ويحث على اتخاذ موقف وسط بينهما. يقول سبحانه: { ولا تَجْعَلْ يَدَك مَغْلُولةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْها كلّ البَسْط } {الإسراء/29} ، كما أن الإسلام يُعطي حقّ الفرد وحق الجماعة على السواء، فلا يُوغل في الفردية ولا يوغل في الجماعية، بل حالة الوسط هي أفضل الأشياء.
إنَّ السَّير في وسط الطريق لا يعني أنَّ الإنسان المسلم يعيش مذبذباً في حياته، لا يسلك طريقاً معيّناً، ولا يلتزم موقفاً محدّداً، وإنما يعني ذلك أنَّ الإسلام يرفض الطرق والأساليب التي تسير خلاف الطبيعة البشرية والتي قد تسرف في جانب وتقصّر في جانب آخر، فتبخس شريحة من المجتمع حقّها، أو تقصّر في جانب حياتي ضروري لجسم الإنسان وعقله وروحه، الوسطية في الإسلام تعني مواكبة الحياة الإنسانية مئةً بالمئة، كما هي وكما خلقها اللَّه، وكما ينبغي لها أن تكون...
3 - المحبَّة والرَّحمة
أ ـ المحبة:
الإسلام دين المحبَّة، هذا ما نستنتجه بعد مطالعتنا للآيات القرآنية والأحاديث الشَّريفة التي تتحدَّث عن الحب الإلهي بين اللَّه سبحانه وعباده المؤمنين من خلقه: { يحبُّهم ويحبُّونه } ، هكذا وصفت الآية القرآنية تبادل المحبَّة بين اللَّه سبحانه والمؤمنين. ومن المواقف الأساسية في الإسلام أن يحب المسلم في اللَّه ويبغض في اللَّه في مسارات حياته كلّها، بحيث يكون ذلك مقياساً ثابتاً له في التعامل مع الناس، أن يحب الإنسان المسلم الإنسان الآخر بمقدار تقرّبه إلى اللَّه سبحانه، ويكرهه ويبتعد عنه بمقدار ابتعاد هذا الإنسان عن اللَّه، فالمؤمن يحب المطيعين للَّه ويبغض العاصين
________________________________________

[الصفحة - 196]


له، هذا ملخص لمفهوم المحبة في الإسلام، ولكن ما الذي تفيدنا إيَّاه هذه المحبة في مجال خصائص الحضارة الإسلامية؟!.. تفيدنا هذه المحبَّة من جهتين:
الجهة الأولى: ضمان تنفيذ التَّشريع الإسلامي وتطبيقه عملياً في حياة المسلم ثم في الحياة الاجتماعية كلّها للنّاس، فالإنسان المسلم حينما يحبُّ اللَّه حبّاً صادقاً، ينفِّذ أوامره بحذافيرها عن حبّ واطمئنان قلب، لا يتأفَّف ولا ينزعج من شي‏ءٍ حرّمه اللَّه عليه، ويؤدِّي الأوامر والواجبات الإلهية بجدٍّ وإخلاص وعن طيب خاطر.
الجهة الثانية: حينما ينتشر مفهوم الحب في اللَّه والبغض في اللَّه بين الناس، ويكون المقياس المهم في مواقفهم وتعاملاتهم كلّها، فإنّ ذلك سيؤدِّي وبالتدريج إلى خلوِّ الساحة من العاصين والمجرمين والمحاربين للَّه ورسوله، وبذلك يأخذ التشريع الإسلامي طريقه إلى الحياة الاجتماعية بيسر وسهولة.
ب ـ الرحمة:
يمكننا إدراك عمق الرَّحمة الإلهية للإنسان، من خلال معرفتنا حالات الضعف البشرية، ومن خلال مطالعتنا للآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي تتحدَّث عن رحمة اللَّه وعفوه وغفرانه. إنَّ اللَّه سبحانه حينما خلق الإنسان خلقه من طين، وهو سبحانه يعلم بحالات ضعفه، ففتح له باباً سماه «التوبة». والتصور الإسلامي للإنسان يتعامل «مع هذا الإنسان الواقعي الممثل في هؤلاء البشر كما هم، بحقيقتهم الموجودة!.. مع هذا الإنسان ذي التركيب الخاص، والكينونة الخاصة، الإنسان من لحم ودم وأعصاب، وعقل ونفس وروح، الإنسان ذي النوازع والأشواق والرغائب والضرورات، الإنسان الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ويحيا ويموت، ويبدأ وينتهي، ويؤثر ويتأثر، ويحب ويكره، ويرجو ويخاف، ويطمع وييأس، ويعلو وينحط، ويؤمن ويكفر، ويهتدي ويضل، ويعمر الأرض أو يفسد فيها، ويقتل الحرث والنسل.. إلى آخر سمات الإنسان الواقعي وصفاته المميّزة» (4) .
أمام هذه الحالات، تتوالى الآيات القرآنية الكريمة لتشمل برحمتها الإنسان وتدعوه إلى التوبة، وتحذِّره من اليأس والقنوط... يقول تعالى: { كتب على نفسه الرحمة } {الأنعام/12} ، ويقول سبحانه:{ إنَّ رَحْمَةَ اللَّه قريبٌ من المحسنين }
________________________________________
(4)خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، سيد قطب، ص 203.

[الصفحة - 197]


{الأعراف/56} ، ويقول تعالى: { فإن كذّبوك فقُلْ رَبُّكم ذو رحمةٍ واسعة } {الأنعام/147} ، ويقول تعالى: { وربُّك الغفور ذو الرَّحمة } {الكهف/58} .
وتزخر كتب الفقه الإسلامي بالفتاوى التي تعبّر عن الرحمة الإلهية أصدق تعبير، فصلاة المسافر غير صلاة المقيم في وطنه، والصائم يفطر في سفره تخفيفاً عليه من العناء والمشقَّة، وصلاة المريض كذلك، فالذي لا يقدر على أداء الصلاة وقوفاً يستطيع أداءها جلوساً، والذي لا يستطيعها جلوساً، يؤدّيها بحركات رأسه، والذي لا يستطيع ذلك يؤدِّيها برموش عينيه وهكذا.. وهناك أمثلة كثيرة تعبّر عن الرحمة الإلهية للإنسان..
إنّ هذه الرحمة هي طابع الرسالة الإسلامية في جميع مجالاتها ومواقفها الحياتية، ليس في الإسلام تعسّف ولا تعنّت ولا كبت ولا إكراه ولا اضطهاد، بل الإسلام دين الرحمة واليسر والسماحة والعطف والمحبة.
4 - الاستقامة
ليس في أهداف الإسلام وأساليبه لفٌّ ولا دوران، وإنما غايات كلّها أخلاق وأساليب كلها شرف، الإسلام دين الاستقامة ودين الحق، دين الحقيقة، لا مراء في الإسلام، ولا انحراف في مبادئه وأساليبه، وتزخر النصوص الإسلامية بحث المسلمين على الاستقامة في سلوكهم، والثبات على مبادئهم، يقول سبحانه: { فلذلك فادْعُ واستقم كما أمرت } {الشورى‏/15} ، ويقول تعالى: { وألّوا استقاموا على الطَّريقة لأسقيناهم ماء غَدَقاً } {الجنّ/16} .
وفي الآية الكريمة: { كما أمرت } معانٍ كثيرة.. أن يستقيم المسلم كما أمره اللَّه سبحانه، ويعمل بجميع ما ورد في الشريعة الإسلامية من اعتقادات وعبادات ومعاملات وسلوك يتعامل به المسلم مع الناس... إلى أبسط عملٍ يقوم به المسلم تجاه ربه وتجاه نفسه وتجاه الناس.. وقبل ذلك كلّه يجب أن يخلص المؤمن في نيته، وأن يكون صادقاً مع ربه ومع الناس.. وأن يتعلق قلبه باللَّه في جميع أحواله.. في السَّرَّاء أو الضرَّاء وأن يزهد بما في أيدي الناس.. يقول سبحانه: { ما جَعَل اللَّه لرجلٍ من قلبين في جوفه } {الأحزاب/4} أن تتساوى سريرته مع علانيته، أن يكون
________________________________________

[الصفحة - 198]


ظاهره ناصعاً وباطنه بمثل نصوع ظاهره.. حتى يطمئن له المؤمنون، وتصبح الثقة والصدق منهجين يلتزم بهما المسلم مع الناس في حياته كلّها..
إنَّ الكلام السابق يُطبّق في السلوك الشخصي للإنسان المسلم مع إخوانه المسلمين، ومع الناس الآخرين الشرفاء الطيِّبين الصالحين، ولا يشمل ذلك الأمور التي تتطلب الكتمان والتخطيط وعدم إفشاء الأسرار التي فيها مصلحة الإسلام والمسلمين، يقول النبي محمد(صلي الله عليه و آله) : «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان»، وينطبق هذا الحديث على مواقف التجمُّعات الإسلامية وتصرفاتها بشكلٍ كبير، كالدولة الإسلامية أو الحركة الإسلامية، أو المؤمن الذي يكون لوحده أمَّةً بين الناس.
إنَّ الإسلام يؤكّد بوضوح أنَّ «الغاية لا تبرر الوسيلة»: «لا يُطاع اللَّه من حيثُ يعصى» «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، كما ورد في الحديث الشريف، ولكن هناك استثناءات يسمح بها الإسلام، والاستثناء ليس كالقاعدة، بل هو الأمر النادر الوقوع، لأنّ المسلم قد يمرُّ في حياته بمواقف محرجة تتطلَّب منه موقفاً معيناً وسلوكاً خاصاً قد يكون مخالفاً للشريعة الإسلامية، وهذا السماح يكون في حالة الإضطرار فقط وليس في حالة توفُّر الخيارات المتاحة، وحتى هذا الاضطرار يجب أن يخضع لشروط صارمة حدّدها القرآن الكريم بوضوح في قوله تعالى: { فمن اضطُرَّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه } {البقرة/173} يفعل الإنسان ما اضطُرَّ إليه شريطة عدم التعدِّي أكثر من اللازم، وأن لا يكون هناك بغي في استخدام الحكم الشرعي، أسلوبٌ واضح كل الوضوح في رفض «المكيافيلية» التي تعتقد بأن «الغاية تبرر الوسيلة».
إنَّ أكبر مرض اجتماعي ابتُلي به المسلمون ووقعت فيه بعض الهيئات الإسلامية، هو استخدامها الكثير لأسلوب «الغاية تبرر الوسيلة»، وتجرَّأ الكثيرون على أحكام الشريعة الإسلامية، وصار الشك بين هؤلاء الناس هو السمة البارزة في حياتهم وفي مُعاملاتهم، ما أفقد الحياة الإسلامية الاجتماعية رونقها وصفاءَها.
إنَّ الإسلام يدعو بوضوح إلى الثَّبات على الإسلام إلى آخر الطريق، وخلال حياة المسلم كلها إلى أن يتوفَّاه اللَّه سبحانه، وعليه أن يسلك خلال ذلك الطُّرق والأساليب الشَّريفة.
________________________________________

[الصفحة - 199]


5 - الثَّابت والمتغيِّر
يُعَدُّ الثَّبات ميزة أساسية من ميزات الشريعة الإسلامية، ويشمل ذلك جميع المفاهيم والأحكام الإسلامية: ثبات العقائد، ثبات الحقائق، ثبات القيم، ثبات التشريعات، وهذا الثبات لا يعني الجمود والتقوقع والركود كما يدّعون، ولا يعني عدم قدرة الإسلام على مواكبة التطورات التي تطرأ على الحياة البشرية في مختلف جوانبها الفكرية والنفسية والاجتماعية، بل إنَّ هذا الثبات يستند إلى حقائق وأدلَّة دامغة لا يرقى إليها الشك، أهمُّها:
أ ـ إنّ هذا الدِّين هو صنع اللَّه الذي أتقن كل شي‏ء، وهو سبحانه عارف بالحاجات الحقيقية للنفس الإنسانية، عارف بما ينفعها ويضرُّها، عارف بما سيطرأ عليها من تطوُّرات وتغيُّرات عبر التاريخ. ومن خلال هذه المعرفة الكاملة بالإنسان، وضع سبحانه هذا الدين بما يلائم هذه الحاجات ويسد رغباتها الحقيقية، وهو علاج ناجع لما يطرأ على النفس البشرية من أمراض وأوهام وانحرافات.
ب ـ إنَّ اللَّه سبحانه خلق الإنسان وأودع فيه غرائز ثابتة لا تتغيَّر عبر الدهور، وفطر اللَّه سبحانه الإنسان على مبادى وقيم ومُثل تكفل سعادته، وفيها كل الخير إذا التزم بها الإنسان، وهذه المُثل والقيم يؤمن بها كل إنسان، ويعتقدها بعقله، ويطمئن لها قلبه، شريطة أن تظلّ النفس نقية وصافية لا يشوبها شي‏ء، وكيف لا يكون ذلك وهو سبحانه خالق الإنسان وبارئه ومصوّره، ولذلك نرى كثيراً من الفلاسفة والمفكرين وعلماء الحضارة يتفقون على كثير من الحقائق والمبادى في ما يخص سعادة البشرية وصلاحها، نعرف ذلك من خلال أفكارهم المبثوثة في كتاباتهم، وهذا دليلٌ ساطع على ثبات الحقائق والقيم في النفس البشرية، مهما اختلفت جذورها الاجتماعية ومذاهبها السياسية، إنَّ التغُّيرات المادية والابتكارات في الوسائل من أجهزة ومعدّات، لا يمكن أن تجعل من الحقّ باطلاً، ولا من الصِّدق كذباً، ويبقى الإنسان في خضم الأجهزة والآلات المتطورة هو الإنسان بنفسه ولحمه ودمه، وإذا تغيّرت نفسيته، فهذا يعني تلوثه بالمحيط الذي يعيش فيه، ولا يعني أبداً تغيّراً جوهرياً وحقيقياً في حياته.
________________________________________

[الصفحة - 200]


هذه الحقيقة الثابتة والواضحة، أكّد عليها الإسلام وثبَّتها في قلوب المسلمين؛ وذلك من خلال الآيات القرآنية والحديث الشريف، يقول سبحانه: { وتمَّت كلمة ربّك صدقاً وعدلاً لا مبدّل لكلماته }{الأنعام/115} ، ويقول سبحانه: { فلن تجد لسنَّة اللَّه تبديلاً ولن تجد لسنة اللَّه تحويلاً } {فاطر/21} ، ويقول تعالى: { لا تبديل لكلمات اللَّه ذلك هو الفوز العظيم } {يونس/64} .
ويقول النبي محمد(صلي الله عليه و آله) : «حلال محمَّد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة».
ولا يقدح، في هذا الكلام، ما يستنبطه المجتهدون من أحكام يختلفون في ما بينهم في حرمتها أو حلِّيتها أو وجوبها أو استحبابها، فإن فتاواهم هذه تخصُّ الفروع والجزئيات التي لا نص واضحاً فيها؛ إذ لا اجتهاد في موضع النص، وهذه الأحكام هي آراؤهم الاجتهادية، وقد يصيبون وقد يخطئون فيها، مثلهم مثل القاضي إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجرٌ واحد.
ومع هذا كله، فإن الإسلام حينما ظهر على الكرة الأرضية بوصفه رسالة سماويّة، أخذ بنظر الاعتبار واقع الإنسانية وما قد يطرأ عليها من تغيُّرات وتحوُّلات، فوضع مبادى وأحكاماً ثابتة، وترك للإنسان اختيار الوسيلة والطريقة شريطة أن تكون الوسيلة شريفة ليس فيها حرمة شرعية، فاستخدام الآلات واختيار الطرق الكفيلة بتطبيق الشريعة الإسلامية وسعادة الإنسانية متروك أمرها للناس وللتطورات والتغيرات المستقبلية.
ثم وضع الإسلام استثناءات للتشريعات الإسلامية تُستخدم عند الضرورة وفي الحالات الطارئة فقط، لكي لا يقع الإنسان المسلم في عسر وحرج حينما يمر بظروف قاهرة يضعه فيها الإنسان المنحرف ويظلمه بها، أو قد يقع المسلم تحت ظروف طبيعية أو اجتماعية قاهرة، وهذه الحالات موجودة أو قد تستجدُّ في المستقبل، يمر بها الإنسان أثناء حياته اليومية أو خلال تأديته لواجباته الدينية كالصوم والصلاة وغيرها من الأحكام الشَّرعية.
وهكذا نرى الإسلام قد جاء بما يلائم الفطرة البشرية من مفاهيم وأحكام، وترك للمسلمين مساحات واسعة في الحياة يتصرَّفون بها حسب علمهم،
________________________________________

[الصفحة - 201]


و حسب ما يستجدُّ في العالم من تغيرات وتطورات، شريطة مراعاة الأخلاق والآداب الإسلامية.
6 - الشُّمول والتَّكامل والتوازن‏
إذا ألقينا نظرةً سريعةً على أحد الفهارس الموضوعية للقرآن الكريم، أو الحديث الشَّريف، أو راجعنا أبواب الفقه الإسلامي وفصوله، في الكتب الفقهية، فإننا سنخرج بنتيجة مؤكّدة مفادها أنَّ الإسلام عقيدة إلهية ينبثق عنها نظام شامل وكامل للحياة، ففيه العقائد، وفيه الأخلاق، وفيه السياسة، وفيه الاقتصاد، وفيه العبادة، ونرى الإسلام يُولي اهتماماً كبيراً لتنظيم العلاقات الاجتماعية كنظام الأسرة، وكيفية التعامل مع الناس، ويهتم بالتربية الشخصية للمسلم ويرشده إلى الآداب الرَّائعة، كآداب المشي والجلوس والأكل والشرب وغيرها.
هذا الاستنتاج المستند إلى الاستقراء الصحيح للتشريع الإسلامي يؤكّد صحة المقولة السابقة بشمول الإسلام لجميع جوانب الحياة، وإذا أردنا أن نعرف على رأي الإسلام الصريح في هذه المسألة فأوّل ما نطالع القرآن الكريم نجد أن الآيات القرآنية تتوالى لتؤكّد شمولية الإسلام وكماله وتوازنه. يقول سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه الكريم محمداً(صلي الله عليه و آله) : { ما فرَّطنا في الكتاب من شي‏ء } {الأنعام/38} ويقول سبحانه: { ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شي‏ء } {النحل/89} ، وفي الحديث الشريف: «ما من حادثة إلاّ وللَّه حكمه فيها». هذه النُّصوص الإسلامية تؤكد، بما لا يقبل الشك، أنَّ الإسلام يُحيط بالحياة بجميع تفاصيلها، وهو على أتم الاستعداد ليُعطي رأيه بكل ما يستجد في الحياة من وقائع وأحداث ومبتكرات يأتي بها التطوُّر المادي.
ومع هذا الشُّمول في الإسلام، هناك توازن وتكامل لجميع المبادى والأحكام الإسلامية؛ أمّا التكامل، فإن الإسلام يشمل بتشريعاته جميع جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والروحية، فهو دين يعطي حق الدنيا وحق الآخرة ويشبع حاجات الرُّوح والجسد في آنٍ واحد، ليس هناك شي‏ء لا يُعطي الإسلام فيه رأياً واضحاً. وخلاصة الأمر أن الإسلام دين كامل ومتكامل، وقد أشارت الآية القرآنية إلى كمال الدين الإسلامي بقوله تعالى: { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُم دِيْنَكُم وأَتْمَمْتُ عليكُم }
________________________________________

[الصفحة - 202]


{نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُم الإسْلامَ ديناً} {المائدة/3} . إن المفاهيم والتشريعات الإسلامية مترابطة في ما بينها ويكمل أحدها الآخر، فالصلاة تتأثر بالزكاة، والزكاة تتأثر بالصلاة، إذ لا يمكن أن يدفع المسلم الخمس أو الزكاة وهو لا يصلِّي، ولا يمكن للمصلِّي أن يؤدِّي صلاته بخشوع وهو خالي المعدة يتألم جوعاً، ولا يمكن للجيش الإسلامي أن يخوض المعارك بنجاح من دون تربية جهادية وفكرية تدفع بالإنسان المسلم إلى التضحية والإيثار وطلب الشهادة.
إنَّ نجاح التشريعات الإسلامية في تغيير حياة الفرد والمجتمع منوط بتطبيق تشريعات الإسلام جميعها من دون استثناء، وإلاَّ فلا يمكن أن يؤدِّي المسلم دور الفاعل في الحياة في وسط مجتمع منحل فاسد بعيد كل البعد عن القيم الإسلامية. ولا يمكن أن تنجح التشريعات الاقتصادية والمالية من دون تغيير المحتوى الداخلي للأفراد عقلياً وروحياً ونفسياً، لأن تطبيق الأحكام الإسلامية لا يتمُّ ولا يأخذ مجراه إلى حيز التطبيق إذاكان الناس غير مقتنعين بالإسلام، ولم يتغيروا بمفاهيمه وأخلاقه. ولا يعني ذلك العجز عن تطبيق بعض مفردات الشريعة الإسلامية على واقع الحياة، بل يمكن ذلك، ولكنه لا يُعطي الثِّمار نفسها فيما لو طُبّق الإسلام بصورة كاملة وشاملة لجميع جوانب الحياة.
أمّا التوازن فيتجلى لنا من أول نظرة إلى الكون وكيف يسير في نظام دقيق وإلى جسم الإنسان، ثم نظرة فاحصة إلى النظم والمبادى الإسلامية، يقول سبحانه: { وعِنْدَه مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما في البرِّ والبحر وما تَسْقُطُ من وَرَقة إلاّ يَعْلَمُها ولا حَبَّةٍ في ظُلُماتِ الأرض ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلاّ في كتابٍ متبين } {الأنعام/59} .
كلُّ شي‏ء بمقدار وحسب دوره وقدره لا يزيد ولا ينقص شيئاً. هكذا هي التعاليم الإسلامية وضعت وفق نظام دقيق ومحسوب بما يؤدِّي إلى تحقيق دورها كاملاً، فالمسلم الحقيقي لا يوغل في الماديات فتنتزع الإنسانية والرحمة من قلبه، ولا يسرف في التصوُّف والزُّهد في الحياة فيصبح إنساناً مشلول الحركة لا يستطيع التعامل مع الحياة بفاعلية وإيجابية ولا يتمكن من إدراك ما يجري حوله من أشياء وأحداث. شرَّع اللَّه الإسلام ووضع مفاهيمه ونظمه وفق هيكلية فريدةٍ وتخطيط منقطع
________________________________________

[الصفحة - 203]


النظير، لكل شي‏ء دوره المحدد ووجهته المعلومة، فالصلاة لها أوقاتها وحدودها المعروفة، والزكاة لها موازينها المعروفة أيضاً وللحاكم في الإسلام شروطه وواجباته، وللكدح في الحياة والسعي إلى الرزق وكيفية الإنفاق مجالاتها المحدّدة والموضَّحة في الشريعة الإسلامية، ليس هناك إفراط أو تفريط، ولا يجوز للمسلم أن يتعدَّى الحدود المرسومة له في الشريعة الإسلامية فيزلّ عن جادّة الطريق، ويخرج عن الهدى والصواب، إنَّ معرفة هذه الأمور بدقة والسير على توازناتها في الحياة يجعلنا نسير على الطريق الإسلامي الصحيح، ويجنِّبنا كثيراً من الانحرافات الشخصية والاجتماعية، لأنّ السير على هذا المنهاج يقودنا إلى الفوز والنجاح وأن الخطأ أو الانحراف في الالتزام بهذه الأمور، أكثر أو أقل مما طلبه اللَّه سبحانه منا، يقودنا إلى التخبُّط والانحراف، وقد يُخرجنا عن الدين الإسلامي الحنيف.
إنَّ اللَّه سبحانه وتعالى يؤكّد على هذا التوازن الدقيق في الشريعة الإسلامية ويأمرنا سبحانه بعدم الطغيان في هذا النظام الإلهي البديع، يطالبنا اللَّه سبحانه أن نتعامل مع هذا الدين بكل حذرٍ ودقَّةٍ وتنظيم، أن يكون هناك توازن في التطبيق كالميزان يقول سبحانه { والسَّماء رفعها ووضع الميزان ألاَّ تَطْغَوا في الميزان } {الرَّحمن/7 و8} ، ويقول تعالى: { وخلق كل شي‏ء فقدّره تقديراً } {الفرقان/2} ، ويقول سبحانه: { إنّا كل شي‏ء خلقناه بقدر } {القمر/49} ، ويقول عز من قائل { وكل شي‏ء عنده بمقدار } {الرعد/8} .
7 - الربَّانيَّة
إن أهمَّ ميِّزة تتصف بها الحضارة الإسلامية هي الألوهيَّة والربَّانية، أي أنَّ مصدر جميع الأفكار والتصورات والتشريعات الإسلامية هو اللَّه سبحانه المهيمن على العالم كلّه، وله الأسماء الحسنى، وهو سبحانه يشعُّ من عظمته ونوره وجلاله على الإنسان وعلى الكون كلّه، والحضارة الإسلامية هي منحة من منح اللَّه سبحانه للإنسان المسلم وللبشرية قاطبة، فيتخلَّقُ المسلم بأخلاق القرآن الكريم، ويستلهم منه الآفاق الحضارية، فيسير على نهج اللَّه القويم، وتأخذ التَّشريعات الإسلامية طريقها إلى الناس بيسر وسهولة، وتغمر الحضارة الإسلامية المجتمع الإسلامي
________________________________________

[الصفحة - 204]


برونقها وجمالها وإبداعاتها التي تُظهر الأهداف العظمى للإسلام بتحقيق عالم مثالي سعيد لا آلام فيه ولا أوجاع ولا حزن ولا نحيب بسبب متاع الحياة الدنيا، إنَّ اللَّه سبحانه يأمرنا أن نتعامل مع الحياة بخلق ربَّاني عظيم { ولكن كونوا ربَّانيين بمَا كنْتُم تُعَلِّمُونَ الكتَابَ وبما كُنْتُم تُدْرُسُون } {آل عمران/79} .
هذه الربَّانية تحقِّق للحضارة الإسلامية ميزتين رئيسيتين تتفوق بهما على جميع المبادى والنظم والأفكار الأخرى. الأولى: هي إلهية المصدر التي تضمن سلامة المبدأ الإسلامي من الخطأ والزيغ والانحراف. الثانية: ضمان تطبيق التشريعات الإسلامية جميعها على الناس، لأنهم آمنوا بها، واعتقدوا اعتقاداً جازماً بصحتها وأفضليتها على جميع المبادى والمذاهب الأخرى، لأنَّ الإسلام يهتم بتربية الأفراد تربية روحية وخلقية، وبذلك يتركَّز جانب الاندفاع الذاتي للإنسان المسلم فيطبّق تشريعات الإسلام لوحده من دون رقيب عليه.
إنَّ الحضارة الإسلامية تقوم على «ردّ هذا الوجود كلّه إلى إرادة الذات الإلهية السرمدية الأزلية الأبدية.... إنَّ هذا التصور يقوم ابتداء على تعريف الناس بربهم تعريفاً كاملاً شاملاً، يعرّفهم بذاته سبحانه، ويعرّفهم بصفاته، ويعرّفهم بخصائص الألوهية المتفرِّدة، التي تَفْرِقها تماماً من خصائص العبودية. كما يعرفهم بأثر هذه الألوهية في الكون، وفي الناس، وفي جميع العوالم والأمم الحيّة، ويتم هذا التعريف على نطاق واسع جدّاً في القرآن الكريم، يصبح معه الوجود الإلهي في النفس البشرية، وجوداً أكيداً، واضحاً، موحياً، مؤثراً، يأخذ النفس من أقطارها جميعاً، وتعيش معه النفس مشدودة إليه، لا تملك التفلُّت منه، ولا نسيانه، ولا إغفاله، لأنّه من القوة والوضوح والفاعلية، بحيث يواجه النفس دائماً، ويتراءى لها دائماً ويؤثر فيها دائماً» (5) . يقول الشاعر التيجاني أحمد يوسف بشير في قصيدة «الصُّوفي المعذب»:
الوجودُ الحقُّ ما أوسعَ في النَّفس مداهْ‏
والسكونُ المحضُ ما أوثقَ بالرُّوح عُراهْ‏
كل ما في الكونِ يمشي في حناياهُ الإلهْ‏
________________________________________
(5)المصدر نفسه، ص 115.

[الصفحة - 205]


هذه النَّملةُ في رقّتها رجعُ صداهْ‏
هو يحيا في حواشيها وتحيا في ثراهْ‏
وهي إنْ أسلمتِ الرُّوحَ تلَّقتْها يداهْ‏
لم تَمُتْ فيها حياةُ اللَّهِ إنْ كنتَ تراهْ‏
هكذا هو الوجود الإلهي الذي يحيط بالكون كله، ويتحرَّك هذا الكون وفق هداه سبحانه، يقول تعالى: { إنَّ اللَّهَ يُمْسِكَ السَّمَواتِ والأَرْضَ أَنْ تَزُولا ولَئِنْ زالتا إن أَمْسَكَهُما من أحدٍ من بعد إنّه كانَ حَليماً غفوراً } {فاطر/41} . ويستمر الوجود الإلهي يتابع الإنسان ويرعاه حتى بعد مماته: { يا أيَّتُها النَّفسُ المطمئنَّة ارجعي إلى ربّك راضيةً مرضيَّة } {الفجر/27} .
إنَّ نجاح الحضارة الإسلامية وديمومتها وبقاءها راجعٌ إلى مصدرها الإلهي، وإن فشل جميع المبادى والنظم الأخرى وانهيارها راجعٌ إلى مصدرها الإنساني الذي يعتريه النقص والخطأ والقصور في الإحاطة بجميع جوانب الحياة.
خاتمة
هذه هي أهم الصِّفات والخصائص التي تميز الحضارة الإسلامية عن باقي المبادى والمذاهب والتصوُّرات. ويصفها أحد الكتاب فيقول: إنَّ الحضارة الإسلامية هي «إلهية المصدر، عربية اللغة، خلقية المبنى، مثالية القيم، إنسانية النزعة، متوازنة العناصر، واقعية التطبيق، تقويمية المنهج، ثابتة الأصول، عالمية المجال، فطرية الطبيعة والخصائص، ضرورية المقاصد والأهداف» (6) . ويصفها كاتب آخر فيقول: «الحضارة الإسلامية تتحصّن بالوحدة والتوحد، وتتسم بالكمال والشمول والذوق والأناقة، وتستعلي بالإلفة والمحبَّة والانسجام والوئام والطهر والنظافة والصدق والقوة، وتزهو بالتحرر والحركة والانطلاق الاجتماعي الخيّر في وجهته، يقودها إلى اللَّه التزام بطاعته وأخذ بشريعته» (7) .
________________________________________
(6)ندوة الإسلام والتحديات المعاصرة، الدكتور فتحي الدريني، ص 91. منشورات مجلة الجهاد، المركز الثقافي مالطا، سبتمبر 1988م.
(7)جوانب من الحضارة الإسلامية، د. عبد الرحمن علي الحي، ص 9. دار القلم، دمشق، ط1، 1399هـ ـ 1979م.

[الصفحة - 206]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف