البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الإصابة بوباء الغرب كيف سقط العالم الإسلامي في مستنقع التَّغريب؟

الباحث :  أ محمد دكير
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  19
السنة :  السنة الخامسة خريف 1421 هجـ 2000 م
تاريخ إضافة البحث :  February / 4 / 2015
عدد زيارات البحث :  1094

الإصابة بوباء الغرب كيف سقط العالم الإسلامي في مستنقع التَّغريب؟

قراءة في كتاب «نزعة التَّغريب» للكاتب الإيراني جلال آل أحمد

‏‏ الأستاذ محمد دكير (*)

ه«لم يكن مادِّياً.. بل كان أصيلًا، إذا كان قد اتجه للدِّين، فقد اتجه عن وعي وبصيرة، لأنه اختبر قبل ذلك الماركسية والاشتراكية، وإلى حدٍّ ما الوجودية. وكانت عودته النِّسبية إلى الدِّين وإمام الزمان، طريقاً للتحرُّر من الأمبريالية وصيانة للهوية الوطنية..».

د. سيمين دانشور (زوجة المؤلِّف)
التَّرجمة وأزمة التَّواصل العربي ـ الإسلامي
بعد الإقبال الكبير على قراءة التَّرجمة العربية الأولى لمجموعة قصصيَّة، مختارة من الأدب الفارسي المعاصر، هي «أزرق ولكن بلون الغروب»، للأديب الإيراني مهدي شجاعي، قرَّر اتحاد الكتّاب والأدباء العرب الذي تولَّى نشر المجموعة، ترجمة خمسة أعمال مختارة من الأدب الفارسي كل سنة، وذلك لتعريف العالم العربي بالإبداع الأدبي في إيران المعاصرة. هذا ما أكَّده رئيس الاتحاد علي عقلة عرسان الذي شارك في فعاليات معرض طهران الدولي في دورته الثالثة عشرة (آذار/مارس/ سنة 2000م).
وهذا القرار، إن دلَّ على شيء، فإنما يدل على التعطش الكبير، لدى الوسط الفكري والثقافي العربي، لمعرفة ما يكتب ليس فقط في إيران الثورة، وإنما كذلك في الدول الإسلامية التي تتكلم لغات أخرى غير العربية، مثل التركية والأورديَّة،
________________________________________
(*) باحث و کاتب من المغرب

[الصفحة - 204]


علاوة على ما يكتبه بلغات عالمية معروفة، كتاب مسلمون في دول مثل الهند وماليزيا وأندونيسيا، بالإضافة إلى ما يكتب في الجمهوريات الإسلامية المنسيَّة وسط آسيا والتي استقلت مؤخَّراً، وبدأت أخبارها تصل تباعاً إلى العالم العربي نتيجة الأحداث السياسية التي تعرفها المنطقة.
هناك أزمة تواصل حقيقية بين العالمين العربي والإسلامي؛ وذلك بسبب الاختلاف اللُّغوي، وضعف الترجمة، وليس هناك إحصائيات يمكن اعتمادها لمعرفة حجم ما ترجم سنوياً من كتب أو مقالات من لغات هذه الشعوب المسلمة إلى اللغة العربية، لكن ضآلة المعرفة بما يقع داخل هذه الدول المسلمة، والجهل الذي يكاد يكون مطبقاً بالإنتاج الفكري الإسلامي وغيره الذي تنتجه الأوساط الثقافية هناك، يكشف حجم ما يترجم وما ينقل سنوياً إلى اللغة العربية، وإذا قارنَّا بين ما يعرفه العالم العربي من إنتاج إسلامي غير عربي، وبين ما تعرفه الشعوب المسلمة غير العربية عن العالم العربي وإنتاجه الفكري، نلاحظ فرقاً شاسعاً، خصوصاً بالنسبة لإيران، أوَّلًا، لأن الوسط العلمي ـ الديني هناك، مرتبط باللغة العربية، لأنها تعدُّ لغة أساسية في مناهج التعليم الديني، وهذا ماجعل الدولة بعد الثورة الإسلامية تجعل اللغة العربية اللغة الأجنبية الثانية بدل الإنجليزية. وهذا الارتباط باللغة العربية جعل الوسط الديني، بخاصَّة، دائم الاطلاع على الإنتاج الفكري في العالم العربي.
أما بالنسبة لباقي الدول الإسلامية، فإن معرفة اللغة العربية تتضاءل لتنحصر في نخبة جامعية محدودة. وبشكل عام، هناك أزمة ترجمة تؤثر على التواصل الفكري بين الشعوب العربية والإسلامية. وحتى الآن، لم نسمع عن قيام مؤسَّسات حكومية أو أهلية تهتم بالترجمة من اللغات الإسلامية المعروفة إلى اللغة العربية أو العكس، وما يوجد عادة ينحصر في مبادرات شخصية محدودة، يقوم باحث أو أستاذ متخصص بإحدى اللغات الإسلامية بترجمة إبداع فكري يراه مهمَّاً، أو يستحق أن يترجم، ليطلع عليه أبناء لغته. وهذا ما يجعل حجم الإنتاج المترجم لا يتجاوز بضعة كتب أو مقالات خلال السنة.
طبعاً لن نخوض كثيراً في الحديث عن مشكلة الترجمة في العالم العربي، لأنها
________________________________________

[الصفحة - 205]


من المشكلات والقضايا التي كثر حولها اللغط والجدال، وارتفعت الأصوات منادية بتحقيق مجموعة من الأهداف لصالحها، لكن حتَّى الآن لم يتحقق إلا القليل؟!
نعود إلى مشكلة الترجمة وأزمة التَّواصل بين العالمين العربي والإسلامي، لنؤكد، وخصوصاً بالنسبة لإيران، تعطّش الأوساط الفكرية العربية لمعرفة الإبداع الفكري والإنتاج العلمي الذي يكتب بالفارسية. ظهر ذلك في غير مناسبة، وقد تحدثنا في البداية عن الإقبال الذي عرفته الترجمة لإحدى المجموعات القصصية. لكن هذا الإقبال لا يمكن مقارنته بالإقبال الذي عرفته كتب د. علي شريعتي، وخصوصاً كتابه «العودة إلى الذات» الذي ترجم وطبع في مصر، وكذلك كتب زعيم الثورة الإمام الخميني (قدس) وكتب مرتضى مطهري وبهشتي ودستغيب وغيرهم.
ومع أن كتابات هؤلاء لم تترجم إلَّا بعد مرور عقود من الزمن على كتابتها إلَّا أن القارى العربي أقبل عليها بشغف كبير، ووجد فيها تحليلًا عميقاً للقضايا الإسلامية، ونظرة نقدية فاحصة تغوص في بواطن الأمور، بعيدة عن التَّسطيح.
ومع الأسف، لا يعرف القارى العربي إلا أسماء معدودة من الكتاب والمفكرين الإيرانيين ممَّن ترجمت بعض كتبهم. وأخيراً تولت «دار الجديد في بيروت» ترجمة كتابات الرئيس محمد خاتمي ونشرها، وقد لقيت تجاوباً كبيراً. ومع ما تُرجم بعد الثورة، إلا أن ما لم يترجم يظل كثيراً، خصوصاً الكتابات المهمة التي عالجت قضايا الفكر الإسلامي المعاصر، مثل: التجديد، الحداثة، مواجهة الغزو الثقافي، إشكالية العلاقة مع الغرب، نقد الفكر الغربي، قضايا الدولة الإسلامية.. وغيرها من المواضيع.
وإذا كان وهج الكتابات الثورية التي أسهمت في تفجير الثورة الإسلاميَّة قد خَفَّ، فإن الكتابات التي جاءت بعد ذلك لها أهمية كبيرة جداً، لأنها تتعلق بتجربة قيام الدولة الإسلامية وبالطرق التي عالج بها الإيرانيون القضايا التي اعترضت سبيلهم في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية. لذلك فالاطِّلاع على هذه التجارب والكتابات سيغني الفكر العربي الإسلامي ويرفده بتجارب واقعية معاصرة، ويقدم له نماذج متنوِّعة من المعالجات لقضايا مشتركة كثيرة، لأن الوضع
________________________________________

[الصفحة - 206]


الحضاري يكاد يكون متشابهاً في الكثير من كلياته وتفاصيله، فالأزمات متشابهة والآمال والطموحات كذلك. وهذا ما يجعل التواصل الفكري له أهميته في إغناء الفكر الإسلامي، ويفتح أمامه آفاقاً واسعة للاستفادة من جميع الدوائر الحضارية وثقافات الشعوب المسلمة. وهذا ما شجعنا على القيام بقراءة هذا الكتاب الإيراني المتميِّز، ونقصد به «نزعة التغريب» لجلال آل أحمد، بعدما عرف طريقه نحو الترجمة، حيث أصدرته مجلة قضايا إسلامية معاصرة (تصدر في إيران)، وهو الكتاب الحادي والعشرون في السلسلة التي تصدرها هذه المجلة تباعاً. كما صدرت له ترجمة مصرية مؤخَّراً.
وكما قلنا، سابقاً، هناك أزمة ترجمة حقيقية وضعف في التواصل الفكري بين العالمين العربي والإسلامي، فالكتاب المترجم الآن (سنة 2000م) إلى اللغة العربية نشر سنة 1962م، أي قبل ثلاثة عقود. وأهميته يوم صدوره كانت كبيرة، ليس فقط بالنسبة للوسط الفكري الإيراني ولكن كذلك بالنسبة للمفكرين والمثقفين العرب والإسلاميين، لأن موضوع الكتاب من القضايا التي نوقشت في العالم العربي وكتب حولها الكثير، لكن الكثير منها لم يرق في نظرنا إلى مستوى ما كتبه هذا الأديب الإيراني حادّ المزاج والقلم. ومهما قيل أو يقال حول المسوِّغات، فإن نتائج عدم التواصل جعلت من الفكر الإسلامي، رسماً بيانياً لمجموعة من الدوائر المختلفة طولًا وعرضاً، فالاهتمامات الفكرية، وإن كانت واحدة، إلا أن مستوى المعالجة يختلف من منطقة إلى منطقة، وخصوصاً عندما يتدخل العامل اللغوي، ليؤثر على مستوى هذه المعالجة وتطورها، بحيث نكون أمام اختلاف وتباين ملحوظين، ولدينا الكثير من الأمثلة عندما نقارن مثلًا بين الإنتاج الفكري الإسلامي في كل من الهند وباكستان وإيران، وبين الإنتاج الفكري في منطقة الجزيرة العربية أو المغرب العربي. لذلك نرى أنه من المؤكد أنَّ معالجة موضوع الانقطاع والتباعد وضعف التواصل الفكري بين دول العالم الإسلامي، نتيجة ضعف ما يترجم سنوياً وضآلته، ستكون لها إيجابيات مهمة، تعود على الفكر الإسلامي بالتطور والنضج والتفاعل الإيجابي مع القضايا المعاصرة، وتجاوز المراحل بوتيرة أسرع. لأنه لن يضطر إلى تكرار بعض القضايا المتجاوزة في غير منطقة، كما سيحقق تراكماً كبيراً يجعل من معالجاته
________________________________________

[الصفحة - 207]


للقضايا الكبرى تنطلق من أرضية صلبة مليئة بالخبرات والتجارب والملاحظات النقدية والتحليلية، متنوعة المنطلقات والمشارب. ونعتقد أن القارى سيتفق معنا إذا ماأتيحت له قراءة هذا الكتاب الذي بين أيدينا أو غيره مما أشرنا إليه قبل قليل، مثل كتب د. شريعتي ومطهري وبهشتي والسيد محمد خاتمي.
لماذا «التَّغريب» الآن؟
تساؤل في محلِّه إذا تبادر إلى ذهن القارى، فبعد ثلاثة عقود من صدور الكتاب ما هي الأهمية التي تجعلنا نقوم بعرضه الآن؟
في الحقيقة هناك اعتباران رئيسيان: الاعتبار الأوَّل أن الكتاب لم يترجم إلا حديثاً، فهو بالنسبة للقارى العربي حديث وجديد، لذلك لا بدَّ من توجيه الأنظار إليه لقراءته والتعريف به، خصوصاً أنَّه قد طبع في مصر ويمكن الحصول عليه. الاعتبار الثاني كون الكتاب أصبح وثيقة ليس في معالجة موضوع التغريب قبل ثلاثة عقود من الزمن، وإنما باعتباره انموذجاً للكتابات الإيرانية التي سبقت الثورة وغذَّت شبابها. فالكتاب يمثِّل مستوى وعي الفكر الإيراني في تلك اللحظة ودرجته، ويبيِّن كيف عالج موضوع التغريب. بالإضافة إلى القيمة التغييرية الكبيرة، كما يقول المترجم حيدر نجف، لكتابات جلال آل أحمد. وقد كشفت هذه الكتابات للمجتمع الإيراني المفاسد والانحرافات التي يتخبط فيها، وعبأته ضد السلطة التي تعمق هذه الظواهر السلبية وتدفع بالمجتمع نحو التغريب والضياع، وتعمل على تمزيق هويته الدينية والثقافية. لذلك فقد حاربت الحكومة هذا الكتاب ومنعت نشره، وقد قدَّمه المؤلِّف أولًا تقريراً لـ «مجلس أهداف الثقافة الإيرانية» سنة 1961، لكن وزارة الثقافة نشرت التقارير المقدمة جميعها إلا تقرير جلال آل أحمد، وهذا يؤكِّد أن الحكومات في العالم الإسلامي تخاف من انكشاف الحقائق للناس، وتعمل على سترها وإخفائها، وتسمح فقط بترويج الكتابات السطحية التي تظل بعيدة عن الإفصاح عن الحقائق كما هي.
زد على ذلك أنَّ موضوع التَّغريب لم يُحْسم النِّقاش حوله، ولقد تغيَّرت العناوين واتسعت ميادين البحث، وتم استيعاب الكثير من المظاهر والأفكار والآراء
________________________________________

[الصفحة - 208]


والمدارس الفكرية الغربية، لكن الحديث عن مخاطر الاختراق الثقافي، أو العولمة الثقافية، لم ينته بعد، وما زال الموضوع جذَّاباً ويغري الكثير بمعالجته ومناقشته باعتباره وجهاً من أوجه الصراع بين الحضارتين الإسلامية والغربية.
بقي أن نقول: إن جلال آل أحمد كان عضواً بارزاً في حزب «تودة» الشيوعي العتيد في منطقة الشرق الأوسط، وقد اهتم بنشاطات الحزب الفكرية وأشرف عليها، لكنه ما لبث أن انشق عنه وأسس مع رفاقه حزباً جديداً لم يكتب له النجاح أو الاستمرار. تفرَّغ جلال آل أحمد للكتابة، وبدأ يبتعد رويداً رويداً عن الفكر الشِّيوعي ليقترب أكثر فأكثر من الإسلام، لقناعته بأن الإصلاح والتغيير الحقيقيَّين لا بد من أن ينطلقا من الأصالة والهوية الإسلامية. وأن المؤسسة الدينية، ممثَّلة في العلماء المتنورين، هي أقوى الحصون التي يمكنها أن تقف في وجه التغريب والتغرُّب وآخرها، والقادرة على تحقيق الاستقلال الثقافي والسياسي.
وإذا كان كتاب «نزعة التَّغريب»، كما اختار المترجم أن يسمِّيه، أو «الإصابة بوباء بالغرب»، هو أهم كتابات جلال أحمد، كما يرى عدد من الباحثين، فإن كتابات أخرى له لا تقل أهمية عنه، مثل «المستنيرون: خدمات وخيانات»، «جزيرة خارك: درة الخليج اليتيمة»، «السفر إلى ولاية إسرائيل»، وغيرها من القصص والروايات والمشاهدات وكتب الرحلات، بحيث يتجاوز عدد مؤلَّفاته العشرين مؤلَّفاً، بالإضافة إلى ترجمة تسع روايات وقصص غربية بمفرده وبالتعاون مع آخرين، ومنهم زوجته سيمين دانشو. لألبير كامو، وسارتر، وأندريه جيد، وأوجين يونسكو.
وباء التَّغريب
في البداية يتحدَّث المؤلِّف عن التَّغريب باعتباره مرضاً من الأمراض. عن عارض وفد من الخارج ونما في بيئة مستعدة للإصابة، وما نرمي إليه، يقول جلال آل أحمد، هو دراسة خصائص هذا الوباء وأسبابه، وإذا سنحت الفرصة قد نتطرَّق إلى سبل علاجه.. وبما أنَّ للتغريب طرفين أحدهما الغرب والآخر «نحن المتغرِّبون في الشرق»، فقد حاول المؤلِّف تحديد المقصود بهذين المفهومين المتقابلين اللذين لا يحملان في رأيه مضموناً سياسياً أو جغرافياً، «بل هما مفهومان اقتصاديان».
________________________________________

[الصفحة - 209]


لذلك، وبناء هذا التحديد، فالذي يفصل بينهما ليس مجرد مسافة جغرافية واسعة فحسب، «وإنما، وعلى حد تعبير «تيبورمندي»، هاوية سحيقة تزداد عمقاً واتساعاً يوماً بعد يوم، حتى أن الثراء والفقر والقوة والضعف، والعلم والجهل، العمارة والخراب، والحضارة والتوحش في دنيا اليوم ـ كما يقول آل أحمد ـ أصبحت ظواهر قطبية، قطب المتخمين والأثرياء وأصحاب القوة والصناعة والتصدير، والقطب الآخر من نصيب الجياع والفقراء والضعفاء والمستهلكين والمستوردين. في ذلك الطَّرف من العالم تبدو وتائر التطور والتقدم تصاعدية دائماً، وفي هذا الطرف تبدو المؤشرات جميعها متَّجهة صوب الانحطاط والعدم» (ص 23)، الغرب يصنع ويبدع ويصدر الآلة، أمَّا الشرق، أو العالم المتخلف، فعليه أن يستورد الآلة ويستهلك منتوجات الغرب، أما الوسائل لفرض هذه المأساة كما يسميها المؤلف فهي «فضلًا عن الدبَّابات والمدافع والقاذفات والصواريخ التي هي من صنع الغرب طبعاً، هناك اليونسكو والفاو ومنظمة الأم المتحدة وباقي المؤسسات التي تسمَّى دولية، وتعتبر في الظاهر عالمية وللجميع، ولكنها في الواقع أقنعة غربية تتحرك لاستعمار العالم الآخر في أمريكا الجنوبية وآسيا وإفريقيا، وهنا يكمن أساس التغريب الذي منيت به شعوب العالم الثالث...» (ص 26).
إذاً من خلال تحديد مفهوم هذين القطبين، والتأكيد على البعد الاقتصادي باعتباره يشكل مجال الاختلاف وبالتالي الكشف عن علاقة اللاتوازن بين الغرب المتقدِّم والشرق المتخلف، سيتم التركيز على جذر المشكلة في نظره، وهو «تصنيع الآلة»، فالشعوب المسماة نامية، ومن ضمنها إيران، لا تصنع الآلة وإنما تستهلكها، أو في أحسن الأحوال تقوم بتصليح بعضها، وأمام هذا الدفق الكبير للمنتجات الآلية الغربية، علينا «أن نخضع لسلطان الآلة. وننسق أنظمتنا الحكومية والثقافية وحياتنا اليومية وكل أمورنا بالشكل الذي يتناسب وإرادة هذا المارد الجديد» (ص 26)، وإذا كان الإنسان الغربي قد استطاع أن يتكيَّف مع وجود الآلة ومتطلَّباتها خلال زمن يمتد لثلاثة قرون، فماذا سيفعل الكويتي أو الإيراني أو الإفريقي الذي فرضت عليه هذه الآلات التي لا يعرف سرها وكيف صنعت ولماذا، «كيف تريد أن تقفز على هذه الهوة التاريخية الممتدة طوال 300 عام من الزمان؟. الجواب هو أن التكيف السريع
________________________________________

[الصفحة - 210]


والإجباي نتيجة الهيمنة الاستعمارية قد جعل شعوب العالم الثالث، ومن ضمنها العالم الإسلامي وإيران، تنهزم أمام الآلة وتسحق وتذوب تحت عجلاتها، وهذه الهزيمة كانت ضربة قوية للشخصية الثقافية والتاريخية، نجم عنها عدد كبير من الاختلالات والأعراض التي طرأت على حياتنا في جوانبها الثقافية والحضارية والفكرية من دون أن يكون لها أية جذور في التراث، أو أي عمق في التاريخ، ومن دون أن يكون دخولها تدريجياً يسمح بالاستعداد لها.. وإنما تداهمنا دفعة واحدة لتقول لنا: أنا هدية الآلة إليكم».
فالتغريب، إذاً، مؤشِّر حقبة من تاريخنا، لم نضع فيها اليد على الآلة، ولم تكن لنا معرفة بنظامها وبنائها، ولم نتوفر خلالها على مقدمات الآلة، أي على العلوم الحديثة والتكنولوجيا، والتغريب بعد ذلك، خصوصية حقبة من تاريخنا، اضطررنا فيها تحت وطأة جبر السوق والاقتصاد وتداول النفط إلى استيراد الآلة واستهلاكها.
كيف حلَّت هذه الحقبة؟ ولماذا ابتعدنا تماماً عن تطورات الآلة وتكاملها، في حين هرع الآخرون إلى الصناعة والعمل، فبلغوا أهدافهم، ولم نستيقظ إلا حين كان برج من أبراج الشركات النفطية الأجنبية مسماراً موجعاً مضروباً في هذه الأرض الطيبة؟ كيف أصابنا التغريب؟ لنعد إلى التاريخ.. (ص 31).
لا نستطيع مع الأسف، في هذه العجالة، أن نعود مع جلال آل أحمد للتاريخ، وإنَّما نطلب من القارى أن يعود إلى ما كتبه المؤلف حول «بداية الوباء»، وهو يتابع حركة الاستعمار وتسلّله إلى إيران والملابسات السياسية التي أحاطت بذلك. فقد تمكَّن المؤلف، وهو ليس مؤرَّخاً، من استعراض أهم الأحداث، سابراً غور الكثير من القضايا السياسية والاقتصادية المحلية، ما يكشف عن اطلاع واسع على التاريخ المحلي والإقليمي. وهذا في الحقيقة ما ينقصنا، مراجعة التاريخ بدقَّة وقراءته قراءة واعية نقدية فاحصة لمعرفة كيف وأين ومتى زُرعت بذور التغريب ومن سقاها حتى نمت وأينعت، ومن المستفيد من ثمارها. نحيل القارى إلى «التعفُّنات الأولى» أو المكونات الأولى لسيول التغريب، المتمثلة في جحافل المستشرقين والرحالة والجواسيس وأصحاب الشركات الغربية والسفراء والمستشارين الغربيين، الذين استقبلوا بحفاوة داخل البلاطات الملكية، وتمكَّنوا من تحريك اللعبة السياسية
________________________________________

[الصفحة - 211]


وتوجيه الشعوب بدقة نحو التغريب، وأخيراً المثقفين أو دعاة تقليد الغرب من أسماهم المؤلف «النسخ المحلية» لمونتسكيو ولوثر، في الوقت الذي كانت فيه المؤسسة الدينية التي تعد آخر حصون المقاومة إزاء التغريب.. منكفئة ومتقوقعة على نفسها، وقد أغلقت جميع الأبواب المفضية إلى العالم الخارجي، و «نسجت حول جسدها شرنقة لا تخرج منها إلا يوم القيامة» (ص 59). والنتيجة التي وصل إليها المجتمع، بعد عقود من التغريب، هي الغربة عن النفس «يتجلى ذلك ـ كما يقول جلال آل أحمد ـ... في أزيائنا وبيوتنا وأطعمتنا وآدابنا وصحافتنا، والأخطر من كل ذلك في ثقافتنا، إننا اليوم لا نربي سوى المتغربين، ولا ننظر لمشاكلنا إلا بعقلية تغريبية...» (ص 59).
والخلاصة التي يكشف عنها قلم آل أحمد، بحزم وإصرار، هي أننا ما لم نع «ماهية وأساس وفلسفة الحضارة الغربية، وما دمنا نصر على تقليد حركات الغرب بصورة ظاهرية وسطحية (عبر استهلاك منتوجاته) فلن نكون أكثر من ذلك الحمار الذي لبس جلد الأسد...، إننا ما دمنا مقتصرين على الاستهلاك، وما لم ننتقل إلى صنع الآلة فنحن متغرِّبون. وستزداد التبعية للاقتصاد والسياسة الغربية وللشركات النفطية، وهذا من أكبر مظاهر التغريب في زماننا حين تتكالب علينا الصناعة الغربية وتسوسنا وتحدد مصائرنا كما تشاء.. وحفظ الله لنا آبار النفط. يأخذون منها وقود الحياة ويعطوننا في مقابله كل ما نريد، من حليب البلابل إلى أرواح البشر إلى أطنان القمح والرز..».
كشكول المفارقات
الآن، وبعد الخطوات المتتالية التي سُلكت باتجاه التغريب وإدخال الآلة واستبدال التقاليد المحليَّة بتقاليد غربية لا جذور لها في البيئة الإيرانية، ماذا كانت النتيجة؟
يقدِّم جلال آل أحمد نماذج واقعية وإحصائيات لما وقع، فالمحراث العصري أدى استخدامه في البداية إلى «مذابح ونزاعات دامية»، وأدَّت سياسة الحكومات المتغربة إلى تزايد الهجرة من القرى إلى المدن التي ليست في الواقع ـ يقول
________________________________________

[الصفحة - 212]


المؤلف ـ سوى سوق للصناعات الأجنبية، حيث تجد إنتاج خمسين عاماً من الدراجات الهوائية لمصنع «رالي» البريطاني في «يزد»، (وسط إيران) وإنتاج شهر كامل لمصنع «ميتسوبيشي في «تربة حيدرية» (شمال شرق إيران) وإنتاج عشر سنوات لمعامل «فورد» و «شفرليت» و«فيات» في طهران. وبعد كل هذا لا يجد الإنسان قطعة من الزبدة في مدينة كرمان وفي تبريز، عليك أن تأكل المعلبات الاسترالية؟!»، والشباب الذي يغادر القرية ليلتحق بغابة المدينة يشعر بعد مدة بأنه قد اجتث من تربة آبائه وأجداده، وهنا تبرز أولى مظاهر التناقض الناجمة عن التغريب، وفي المدينة تنحصر اهتمامات الأغلبية في تلبية حاجات المعدة وما تحتها. ثم تلي ذلك بعض الاجتماعات الشكلية المتعلقة بالمظهر، «أما الأحزاب والجمعيات فممنوعة... وكذلك النوادي وما شاكلها من مراكز الاجتماع... أما المساجدفهي مما طواه النسيان ولم يعد لها ذكر...».
(إن جلال يصف واقع الستينات من هذا القرن). وإذا أخليت القرى من أصحابها وتوسعت المدن وكثرت احتياجات ساكنيها فمن أين ستلبَّى احتياجات هذه الجموع من الحليب والقمح؟ من أمريكا وأستراليا؟!
وهناك مفارقة لا تقل خطورة عما ذكر، وهي أن اجتياح الآلة والماكنة للقرى والمدن قد قضى على صناعات محلية وحرف يدوية متجذّرة، مثل حياكة السجاد والبسط اليدوية والطَّرق على النحاس، ودفع بأعداد كبيرة نحو البطالة. لقد التهمت الآلة الاقتصاد الريفي التقليدي من دون سابق إنذار أو استعداد فكانت الكارثة، ومع دخول الآلة وحلولها محل الأدوات القديمة بدأت طريقة التفكير تتبدَّل وتتغير، لقد أصبح الإنسان خادماً لآلة غريبة عنه لا يعرف عن أسرارها شيئاً؟!
وحتى تكتمل الصُّورة النمطية للمجتمع الجديد لا بدَّ من تحرير المرأة، لأن ذلك «من مستلزمات التغريب وحتمياته»، وتحريرها يعني إجبارها على خلع الحجاب وفتح أبواب بعض المدارس أمامها، أما الحقوق السياسية فلا حق حتى للرجال فيها، وعليه فلا شيء سوى التظاهر، أي أننا ـ كما يقول جلال آل أحمد ـ «سقنا المرأة، حصن التقاليد والعائلة والنسل والدم، إلى اللاأبالية والتحلل، سقناها إلى الشوارع وأرغمناها على التهتك وعرض نفسها.. والتقولب كل يوم بقالب
________________________________________

[الصفحة - 213]


الموضة الجديدة» (ص 78)، إن التحرير الحقيقي ـ حسب المؤلف ـ يعني المساواة وإيجاد العمل للمرأة وتقاسمها المسؤولية مع الرجل، لا بد من مساواة حقيقية مادية ومعنوية، وإلا «فلن تكون لنا (السنوات من الآن) أية غاية من تحرير المرأة، سوى مضاعفة حشود مستهلكي المساحيق وأدوات التجميل (منتجات العالم الغربي)» (ص 78).
وبشكل عام، هناك مفارقات عديدة ومتداخلة، فالحكومات «تستخدم التغريب والتشبه بالأجنبي، لتواصل مسيرتها في الطريق الذي لا ينتهي بنا ـ كما يقول آل أحمد ـ إلا إلى البوار والانحطاط والإفلاس، وبمقدار ما تستند السلطة اليوم على الغرب والأجانب لترسيخ وجودها، فإن السلطات الدينية تتوسل بالماضي لتواصل وجودها، وحينما ترى السلطة أن 90 بالمئة من الجماهير لا يستمعون إلى سحرها.. فإنها تجد الأرض تحت أقدامها متزلزلة، ولا ترى من طريق سوى المزيد من التهالك في أحضان الغرب...».
ومع الواقع الجديد الذي تفرضه الآلة والشركات التي تصنعها والتقسيم الجديد للعالم حسب نفوذ الشركات وأسواقها، فإن الدولة لم يعد لها من عمل سوى حراسة حدود هذه الشركة أو تلك، وهي إشارة لما سيحدث فعلًا مع العولمة التي كثر الحديث عنها في الآونة الأخيرة، باعتبارها أقصى درجات تغريب العالم ككل وليس فقط العالم الإسلامي أو إيران؟!
أمَّا كيف نبطل سحر التغريب، فإن جلال آل أحمد لا يرى ذلك ممكناً عبر المزيد من الاستهلاك أو الانكفاء داخل الجحور والماضي، فليس هناك إمكان أبداً للعودة إلى الوراء أو الوقوف والمراوحة في المكان نفسه أو الزمان، والآلة تدك حصوننا وتهدم أسوارنا. لم يبق أمامنا سوى النهوض للسيطرة على الآلة واستخدامها. «لا بد من صناعة الآلة واستهلاكها، من دون الوقوع في أسرها أو الرضوخ لسلطانها المستبد، فتكون الآلة بذلك وسيلة لا هدفاً، أما الهدف فهو القضاء على الفقر، وتوفير الرفاه المادي والمعنوي لجميع المواطنين...». (ص 88)، ولتصنيع الآلة لا بد من اقتصاد متين ومستقل، ولا يتيسر ذلك إلا بتعليم جاد يتعرف فيه الدارس إلى المناهج العلمية، ويمكن من تخريج عمال متخصصين،
________________________________________

[الصفحة - 214]


يتمكنون من تحويل المواد الخام داخل المعامل إلى مصنوعات تعرف طريقها إلى الأسواق المحلية في المدن والقرى، وهذا ما كان قد أشار إليه في البداية، لكنه الآن يتحدث عن الحل بنوع من التفصيل وقد شبه الآلة الغربية بالتميمة التي يعلقها الإنسان في عنقه لتحميه من شر الإنس والجن، لكنه لا يعرف كيف تعمل وما بداخلها، إنه يستخدمها ويخاف منها. لذلك يقترح على الإيرانيين حلّ هذه التميمة وفك رُموزها ومعرفة أسرارها حتى يتمكنوا من صنع مثلها، وفعلًا فقد قام الإيرانيون مُجبرين هذه المرة وأثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية بفك رموز عدد من التمائم (الآلات) التي كانوا بحاجة إليها ولم يكن باستطاعتهم الحصول عليها بسبب الحصار، وكانت النتيجة تصنيعهم لتلك الآلات وتوفيرهم ملايين الدولارات لخزينة الدولة. وهم الآن في طريقهم لحل رموز باقي التمائم والطلاسم الغربية الأخرى، أليس هذا هو الطريق الذي سلكته اليابان من قبل؟!
أما بخصوص الوسطاء السياسيين والتجاريين الذين يشجعون الاستيراد والاستهلاك فقط، فهم الجسر الذي تعبر عليه التبعية، بالإضافة إلى المثقفين والخبراء المتخصصين والمتنورين، فهؤلاء كما يصفهم المؤلف، «ليسوا في أفضل الحالات، وفي أضخم مهماتهم، سوى مترجمين للمستشارين الغربيين، إنهم مجرد كتاب ومترجمين لآرائهم ومخططاتهم..» (ص 99). إن هذه الفئة المتنورة والمتغربة ليست سوى «نَمر من ورق» ليس لها عمق اجتماعي أو ثقافي أو تراثي، والمجتمع الذي تقوده ستسوده الفوضى وتنتشر فيه مظاهر القبح والفظاعة.. فالاقتصاد هجين والوضع السياسي يتحكم فيه الاستبداد لكنه يتظاهر بالديمقراطية الغربية، «لإسكات الأجانب الذين يُفترض أن يمنحونا قروضاً» (ص 124). وهذا التظاهر بالديمقراطية هو كذلك كما يرى المؤلف من أهم مؤشرات التغريب.
دور الثقافة والجامعة
إن ثانوياتنا وجامعاتنا لا تخرِّج سوى موظفين، أو حملة شهادات عاطلين، لكن المسألة التي لم يلتفت إليها أحد حتى الآن ـ كما يقول المؤلف ـ «هي أن
________________________________________

[الصفحة - 215]


ثانوياتنا وجامعاتنا تخرِّج متغربين. وتنتج أناساً كأنهم نقوش على الماء، وتمهد الأرضية اللازمة للتغريب..» (ص 81). لقد أصبحت هذه المؤسسات التعليمية والثقافية مجرد مصانع للتغريب. أما كيف تم ذلك؟ وما هي الأسباب؟ والأدلة على صحة هذا الإدعاء؟ فإن جلال آل أحمد يقدم تحليلًا عميقاً ونقدياً لوضع التعليم بشكل عام. هذا القطاع الذي لا تهتم مناهجه سوى بالكم، وينعدم التنسيق والتكامل بين مؤسساته، لكنه يخرج سنوياً الآلاف.. إنهم ـ كما يقول المؤلف ـ «المادة المستقبلية لجميع المعضلات والعقد والأزمات.. وربما النهضات.. أناس بلا إيمان، ولا حيوية، ولا تطلعات. مجرد آلات طيعة بيد الحكومات.. كلهم مساومون وجبناء وعاطلون..» (ص 128).
أما فروع الجامعات العلمية والصناعية فالبحوث العلمية والاكتشافات والاختراعات ليست من مهمتها لأنها في النهاية لا تخرج سوى «حرفيين جيدين للصناعات الغربية». ولا يقل الوضع سوءاً في كليات الآداب والعلوم الإنسانية فهي بدورها «لا تخرج سوى نباشي قبور» ممَّن لا هم لهم سوى الغور في الماضي والبحث في العنعنات والأسانيد. وردة الفعل الطبيعية تجاه هذه التناقضات هي «المزيد من الانغماس في مستنقع التَّغريب»، لأن اللغات الغربية تزداد يوماً بعد يوم اكتساحاً للعقول والمناهج التعليمية..
وهناك قضية مهمة جداً أشار إليها المؤلف، وتحدث عنها باعتبارها ظاهرة مرضية تعمق التغريب في إيران، وهي ظاهرة الجموع المتعلمة العائدة من الغرب، وكل واحد منهم مرشح لكرسي وزاري، أو ملتصق بشكل أو بآخر بالتشكيلات الحكومية، لا يعترض جلال آل أحمد على الدراسة في الغرب، ولكن ينتقد التوجهات العشوائية للدراسة والتخصص هناك، فبعد سنوات من الدراسة والعيش في الغرب والتمثل لقيمة الفكرية، يصعب انسجام العائدين مع الواقع المحلي، فتقع هنالك مفارقات عجيبة، فينغمسون في معالجة مشاكلهم الشخصية التي لا حصر لها فتضيع الاستفادة من خبرتهم وتحصيلهم ـ لذلك يقترح جلال آل أحمد أن يتم الإرسال في إطار خطة مدروسة «تتناسب واحتياجاتنا العلمية والصناعية».
________________________________________

[الصفحة - 216]


اقتربت السَّاعة وانتشر وباء الآلة
لا يمكن مقاومة الاسترسال مع جلال آل أحمد، فالأفكار تتساقط كغيث منهمر من السَّماء، لا أوَّل له ولا آخر، والنَّبرة التشاؤمية تزداد تصاعداً، لأن الآلة أصبحت قدراً لا مفرَّ منه، والمراحل الانتقالية التي تمر بها المجتمعات غير المصنَّعة، تتميز بالأزمات والقلاقل والتمزُّقات النفسية الذاتية والاجتماعية، وإذا ما تم تجاوز هذه الأزمات وأصبح المجتمع الإيراني مجتمعاً مصنِّعاً للآلة «فكيف سيكون حالنا عندئذ؟ ـ يتساءل جلال آل أحمد ـ أفلن نكون مصابين بالأزمات التي يعاني منها الغرب، منذ آماد طوية ولحد الآن؟ فماذا سنفعل حينها مع هذه المشكلات الجديدة؟!».
كغيره من الأدباء الوجوديين، أو أصحاب النزعة الإنسانية الرافضة لاستعباد الآلة للإنسان وانسحاقه أمام تطوُّرها وتكاثرها وهيمنتها على تفاصيل حياته اليومية، لا يقدِّم جلال آل أحمد حلولًا، وإنما يذكِّر بالمصائر التي تحدَّثت عنها قصص وروايات مثل «الطَّاعون» لألبير كامو، ومسرحية أوجين يونسكو المسماة «الكركدن» أو وحيد القرن، وفيلم «البيدق السابع» لأنيغمار بريغمان، وجميعها تتحدَّث عن وباء ينتشر فيغيِّر ملامح الإنسانية التي تخرج في نهاية الأمر إلى الشوارع لتدمر كل ما تجده أمامها من تحضُّر وجمال.
إنها إشارة إلى الآلة والمَكْنَنَة التي تتجه بالإنسانية نحو الانمساخ. إن هؤلاء الكتّاب والروائيين يرسمون نهايات كئيبة، ويبشرون بمصير غريب للإنسانية التي مزقتها عجلات الماكنة، وجلال آل أحمد عندما يختم بها كتابه فلأنه يعتقد أن «هذه المصائر القصصية أجراس تنذر باقتراب الساعة الأخيرة؛ حيث غول التكنولوجيا يزرع القنبلة الهيدروجينية في طريق البشر ما لم نهيمن عليه ونعيده إلى قمقمة».
وعلى أساس هذه الرؤية يقول جلال آل أحمد: أطهِّر القلم، في ختام هذه الصفحات، بالآية الكريمة:{اقتربت الساعة وانشقَّ القمر..} .
________________________________________

[الصفحة - 217]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف