البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

العقل والعقلانيّة في الفكر الإسلامي مقارنات مع الغرب وبين المدارس الإسلاميّة

الباحث :  د. زهير غزاوي
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  27
السنة :  السنة السابعة خريف 1423هجـ 2002 م
تاريخ إضافة البحث :  February / 17 / 2015
عدد زيارات البحث :  1623

العقل والعقلانيّة في الفكر الإسلامي مقارنات مع الغرب وبين المدارس الإسلاميّة

د. زهير غزاوي (*)
تمهيــــــد
في النصف الثاني، من القرن الثاني الهجري، بدأ اكتمال المذهب العقلي في الأيديولوجيا الإسلامية.
لقد جاء هذا الاكتمال مترافقاً ونضجَ المنهج العرفاني، أيضاً، ففي عصر الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)كان قد برز على سطح الحياة الثقافية الإسلامية نقيضان معاً: العقل والعرفان، فهل كانا نقيضين حقَّاً؟
في ازدهار علم الكلام الإسلامي يبرز العقل قاعدة لتفسير الأصول الإسلامية، وهي عقلنة الدَّلالات الإيمانية والوصول إلى الله سبحانه عبر جدلية الذات والصفات التي تدل عليه، فلا مجال أمام المؤمن، بغية معرفة الله، غير النظر في صفاته السلبية نظير: عدم التركيب، عدم التحيُّز، عدم الاتحاد بشيء، ليس في جهة الخ... أو صفاته الإيجابية نظير: القدرة، والعلم، والحياة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام الخ..
هذا العقل الذي رفعه الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، من خلال حديثه المروي عن الإمام علي (عليه السلام)، إلى درجة الذروة في العبادة حين قال: «ما عبد الله بشيء أفضل من العقل..»(1)إلى آخر الحديث»، تقابله معرفة الله لعبادته أيضاً في حديث الإمام الصادق (عليه السلام)عن جدلية الذات والصفات المشتق من أحاديث للإمام
________________________________________
(*)باحث فلسطيني
(1)محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ط. دار الأضواء، 1/66، ح12.

[الصفحة - 294]


علي (عليه السلام)في المسألة نفسها: «.. من زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك؛ لأن حجابه ومثاله وصورته غيره، وإنما هو واحد متوحد، فكيف يوحِّده من زعم أنّه عرفه بغيره؟ وإنّما عرف الله من عرفه بالله، فمن لم يعرفه به فليس يعرفه إنما يعرفُ غيره، ليس بين الخالق والمخلوق شيء، والله خالق الأشياء لا من شيء كان، والله يسمَّى بأسمائه، وهو غير أسمائه والأسماء غيره» (2).
إذن هناك تناقض ظاهري أو شكلي بين معرفة الله بالعقل وعبادته، وبين أنّ جدلية المعرفة نفسها تتصل بمعرفة الله مقادة عبر العقل إلى الصفات سلباً أو إيجاباً. فالله سبحانه يعرف بآياته أو بانعكاساته وقدراته على الأشياء، فهي ظلاله أو ارتسامات آلائه على الكائنات. والإنسان مقيّد بجسده وأحاسيسه التي تحدّ من معرفته، رغم أنّه ليس بين الخالق والمخلوق شيء: فكيف يوحِّده من زعم أنه عرفه بغيره؟ إنما يُعرفُ الله بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه. إنه كلام الإمام الصادق مشتقاً من كلام الأئمة كما مر، ولا يمكن تفسير كلام كهذا إلّا من خلال العرفان القلبي حكماً، وهذا مدخل العرفان، فهل هناك من تناقض؟
كيف يعبد الله من لم يعرفه؟ عبارة دقيقة وبالغة التعبير عن الواقع في حديث الإمام علي (عليه السلام). فإذا تعذّرت المعرفة عبر حجب العقل من دون الوقوع في الثنائية أو الشرك، فلا مناص من العودة إلى المعرفة القلبية أو العرفان.. فكلاهما يكمل الآخر.. «فالإيمان ما وقر في القلب وصدقته الجوارح (أو السلوك)»، كما جاء في الحديث الشريف.
وكما سوف نرى فإن المذهب العقلي، عند الإمام الكاظم (عليه السلام)، يتناول السلوك في نواح كثيرة منه، فقد جاء في القرآن الكريم: إن القلوب تنحرف أو تزوغ «أحياناً» (3)، هنا يأتي دور العقل ليصبح أداة القياس الممكنة الوحيدة؛ لأنه غير قابل للانحراف رغم قصوره النسبي.
قبيل الدخول في مجاهل المصطلحات اللُّغوية لمفاهيم تختص بالعقل والقلب وماهيتهما وتخوم كل منهما، لا بد من الإشارة إلى أن المنهج العقلي في مدرسة أهل البيت قديم البزوغ ومتّصل اتصالًا وثيقاً بالمنهج القرآني لا ينفك عنه. لقد أوضح القرآن أن للعقل حكماً أولياً يقود إلى الله والخير في آيات كثيرة سنلمسها في حديث
________________________________________
(2)م.ن.، 1/167 و168، ح4.
(3)تبعاً للآية الكريمة: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ، بينما لا يمكن للعقل أن ينحرف مطلقاً عن منهج الإمام (سلام الله عليه) كما هو موضح في حديثه في الكافي.

[الصفحة - 295]


الإمام الكاظم، ولعل أوضح صورة لذلك ما جاء في السنّة النبوية، وبخاصَّة في الحديث المتَّفق عليه: «لمّا خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحبّ إلي منك، ولا أكملتك إلّا في من أحب، أما إني إياك آمر وإياك أنهى وإياك أعاقب وإياك أثيب» (4).
وهذا الحديث نقله الكليني في الكافي عن الصادق(رض)، فيما نقلته كتب الحديث الأخرى بعبارات مشابهة عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم).
وقد أضيف ـ في تلك الكتب ـ لهذا النص عبارات تتعلّق بالنفس وعصيانها عندما أمرها الله بعد خلقها بأن تُقبل فأدبرت وأن تُدبر فأقبلت، فعصت الله.
وفي هذا الصدد، يمكن أن يطرح السؤال الآتي: لماذا أُضيف المنهج العقلي إلى مدرسة أهل البيت، مع أن أحداً من المسلمين لا يمكن أن يكون ضد العقل؟ في الحقيقة أنّ تلك المسألة تتعلق بأصول الاستنباط في الفقه الإسلامي ومدارسه المختلفة. فمدرسة الجمهور تحدثت عن أصول هي القرآن والسنة والإجماع والقياس والمصالح المرسلة، بينما أضافت مدرسة أهل البيت العقل إلى تلك الأصول، ورفضت بعضها كالقياس ـ مثلًا ـ وكذلك الاجتهاد مع وجود النص الجلي الواضح في القرآن والحديث النبوي. وهكذا يتم إعمال العقل في كل شيء؛ في تفسير الكتاب والسنة من جهة، وفي قبول حديث رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) عند البحث في علم الحديث (الصحة أو الوضع)، وفي مجمل حركة الاجتهاد الإسلامي من جهة أخرى متصلة بمصالح المسلمين المستقبلية والظروف المستجدة.
عندما يوضع العقل مقياساً في الأصول، يبرز نظر مدرسة الجمهور (السنة والجماعة) بأن العقل عليه أن يقر بالنقل حتى وإن خالفه، فيقول الإمام الشافعي: إنَّ الحديث الصحيح هو مذهبه، وينضمّ مع أحمد بن حنبل (رحمهما الله) إلى المحدثين ورفَضَة العقل وأحكامه. وليقرر الأشعري وأبو الحسن أن الحُسن والقبح شرعيان وليسا عقليين ـ وتلك كانت قمة الخلاف بين المدرستين ـ بينما أصرّ المذهب الحنفي (وليس أبو حنيفة) على القياس مع كل عيوبه العلمية المعروفة باعتماده على النتائج فقط، وليس على البحث في المقدمات وصحتها. وليس آخراً رفض الجمهور مبدأ السببية وهو من أبرز مبادى العقل (5).
________________________________________
(4)أصول الكافي، 1/57، ح1.
(5)يقول الأشاعرة: إنَّ النار ليست علة للحرارة، ولا الثلج أو الماء للبرودة، ولا الشمس للنمو، ولا السموم للقتل، ولكنها إرادة الله، فالله قادر على عقاب أهل الجنة وإثابة أهل النار من دون سبب ويوردون حديثاً منسوباً للرسول (صلي الله عليه و آله و سلم): «... وهل يدخل الإنسان الجنة عمله؟ قال: لا، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن تدركني رحمة الله».

[الصفحة - 296]


العودة إلى جدلية العقل تقتضي إذاً البحث في ماهية هذا المفهوم على ضوء المذاهب العلمية والفلسفية، وليس من بديل آخر، وذلك قبيل توضيح الخطوط الرئيسية لهذا المنهج لدى مدرسة أهل البيت.
العقل والقلب والنفس
العقل والقلب مفهومان متناقضان أو مختلطان أحياناً في اللغة العربية؛ إذ يأتي العقل بمعنى كلمة اللبّ التي وردت في القرآن الكريم، والقلب يحتل معنى النفس، ويأتي أحياناً بمعنى العقل أيضاً في آيات أخرى: {لهم قلوب لا يفقهون بها} [الأعراف/179]أو {وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور}[الحج/46].
نزل القرآن بلغة العرب وطرح مفاهيمهم أيضاً، وتعامل مع المصطلح الدارج في لغة ترشد الألفاظ كهذه، لكن البحث العميق في دلالات الكلمات اقتضى أن تكون قضايا علم الكلام الإسلامي باقية في إطار الإسلام، ومشكلات الفكر التي طرحها القرآن والسنة مبتعدة عن مقولات الفلسفة اليونانية التي نمت ترجمتها حديثاً، وبخاصة تلك التي كانت متداولة زمن المعتزلة في القرنين الثاني والثالث الهجريَّين، عندما اكتملت ترجمة مؤلفات الثلاثي اليوناني سقراط وأرسطو وأفلاطون. وعندما جاء الأشعري (المتوفى سنة 324هـ) في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع، واجه علماً ناضجاً مكتمل الأركان، متشرباً في بعض جوانبه بالفلسفة اليونانية (خصوصاً عند المعتزلة)، بالإضافة إلى سيطرة مدرسة أهل البيت الكلامية وطغيانها على الساحة الثقافية، ما دعاه إلى الخوض في غمار هذا العلم كرد فعل وتحدّ، فأصبح رائداً ومنظراً للجمهور وتيار السنة في الإسلام عندما بني على يد أصحاب المذاهب السنية الأربعة.
ومن الجدير بالذكر، هنا، أن بعض الباحثين رأوا أنَّ الترجمة بحد ذاتها ـ خصوصاً للفلسفة والآثار اليونانية الأخرى زمن المأمون ـ أتت ردَّ فعل على السيطرة الثقافية لمقولات التشيع، فقد أرادت الخلافة العباسية أن تواجه مدرسة أهل البيت وتنافسها بالفلسفة اليونانية (6).
أين يقع العقل من جسم الإنسان ما دام يكمن فيه، وأين يقع القلب المفسّر بالنفس التي تفسّر أحياناً بأنها الروح؟
________________________________________
(6)محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت: ط2، ص 127.

[الصفحة - 297]


قال بعضهم: إنَّ العقل يقع في الدماغ، وإن النفس تتربّع هناك أيضاً ما دام لا يوجد من مراكز منفصلة للأعصاب تستقل عن الدماغ بالعمل.. أما القلب فهو عالم منفصل مستقل حقيقة بجملته العصبية المحركة، لكنه بالفعل مجرد مضخة للدم مهمتها إدامة الحياة حتى عندما يتعطّل عمل الدماغ. وعندما قرر علم فيزيولوجيا الأعضاء أن القلب يتصل بالدماغ أيضاً، وأن البصلة السبسائية تمد إليه قنواتها العصبية، أدرك العلماء أن تحديد مراكز تحكّم منفصلة أمر صعب الوصول إليه، فللجسم وحدة فيزيولوجية متكاملة متصلة متشابكة المهمَّات بقيادة دماغ الإنسان.
الدماغ خزّان الذاكرة، بدليل أن فقدان هذه الذاكرة يأتي من ارتجاج الدماغ، والذاكرة عملياً جزء مهم من عملية التعقل، وكذلك الحواس الخمس التي تأخذ أوامرها منه مباشرة. وثبت أن القلب يعمل منفصلًا عن الدماغ في حال فصل الرأس عن الجسم لمدة محدودة من الزمن يقتضيها بقاء الدم متحركاً فيه، منه وإليه. ويعمل القلب زمناً محدداً أيضاً إذا فصلناه كلياً عن الجسم.
العقل والقلب والنفس رموز لغوية ذات دلالات لا يمكن البحث في مواضعها من الأعضاء، وإن جرى البحث في مهمة كل منها في السلوك الإنساني وجدلية الحياة والتفكير والخير والشر.
فالشخصية الإنسانية كلّ موحَّد ممتد «فهي نظام كامل من النزعات الثابتة نسبياً، جسمية ونفسية تميِّز فرداً معيناً وتقرر أسلوبه المميز في التكيف مع المحيط» (7). هذه الشخصية ذات تأثير متبادل مع المحيط (البيئة الجغرافية والمجتمع)، وتؤثر فيها الوراثة بشدّة مترافقة مع تأثير الأبوين تربوياً، وبخاصَّة أنها تكتمل عند الإنسان في سنواته الست الأولى من العمر. فهو يكتسب من أبويه الدين والقيم المرتبطة به واتجاهاته الحياتية، وقد أثبت رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) ذلك حين قال: «يولد الإنسان على الفطرة، وأبواه يهوّدانه ويمسّحانه ويمجِّسانه» (8). المقصود بالفطرة، هنا هي الفطرة المتصلة بدين الإسلام، على أساس أنه دين الفطرة. إذاً هو فصل دراسي محض ذاك الذي نضعه بين ثالوث الجسم الإنساني المتحكم، ولم يكن ممكناً دراسة الإنسان إلا عبر هذا الفصل.
________________________________________
(7)زهير غزاوي، نمو الطبع والاتجاهات عند طفل ما قبل المدرسة، دار المبتدأ، بيروت: 1992، ص 20.
(8)محمد عمارة، جواهر البخاري، المكتبة البخارية، ص 152.

[الصفحة - 298]


هناك الفلسفة، وعلم الكلام، وعلم النفس، وماهية الروح الخالدة، وكل منها علم قائم بذاته بحث فيه الكثير.
أجمل تحليل لمعنى النفس جاء عند أرسطو حين عبّر عن النفس بأنها «قوة الحياة» التي تتموضع في جسم ذي أعضاء، فهي إذاً التحقق بالفعل لهذا الجسم، فهو يقول: «إن سؤالًا عن الجسم والنفس ووحدتهما سؤال خال من المعنى، خلو السؤال عما إذا كان الشمع والشكل الذي دفعه به الخاتم يكوّنان وحدة، أو السؤال بصفة عامة عمّا إذا كانت الهيولى للشيء والشيء نفسه بما فيه من هيولى يكوّنان وحدة، وللوحدة معانٍ كثيرة لكنّ أنسب معانيها وأقربها إلى الأسس العميقة هو علاقة تحقق بالفعل بذلك الذي هي تحقق له». وهو يؤكد بالتالي أن البدن الحي يمارس من خلال النفس وظائفه ممارسة فعلية. فالمعاني النفسية تأخذ في اعتبارها ما يتصل بها من حقائق فيزيولوجية ونفسية. مؤكداً كما هو واضح استحالة الفصل. لكن أرسطو يفصل العقل عن النفس، فنشاط العقل (novs) ، أو الفكر الحدسي الخالص، لا يتوقف على البدن، وقد يوجد بناء على ذلك مفارقاً له (9). فهل هذا يكمل وضوح الصورة؟
هناك غموض ـ كما يعتقد معظم الباحثين ـ في تعليل أرسطو لهذا الفصل، لكنه ـ كما سنرى ـ مناسب لوجهة نظر مدرسة أهل البيت في جدلية العقل والنفس وانفصالهما، وهو تعليل مناسب لمسألة خلود النفس إذا اتخذت من الروح معنى من ضمن معانيها. واتصلت بالعقل جذرياً (في الإنسان) من ضمن معان أخرى.
إن وظيفة الفكر الحدسي، عند هذا الفيلسوف الأشهر، ترجع العقل إلى مبادئه أو جذوره الأساسية التي بني التفكير عليها وكذلك منطق الكلام. هذه المبادى هي: الهوية ـ عدم التناقص ـ الوسط الثالث المرفوع، والتي أصبحت شعاراً لفلسفة العقل عند الجميع، وأصبح مشهوراً أن الفيزياء الحديثة حاولت تدمير هذه المبادى فلسفياً عبر نتائج نظرية النسبية ودراسة ميكانيك الكم والأجسام في حالة الحركة وصولًا إلى سرعة الضوء، كما بدا عند آنشتاين وغيره. وقد أبرز الماديون افتراضات ترفض مبدأ عدم التناقض مثلًا؛ باعتبار أن الحركة لجسم ما قد تضعه في لحظة ما في مكانين مختلفين (10)في آن واحد وفي ذلك تناقض، وهذه الافتراضات لمواجهة هذه
________________________________________
(9)الموسوعة الفلسفية المختصرة، ترجمة فؤاد كامل وآخرون، مراجعة زكي نجيب محمود، مكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة: 1962، ص 29.
(10)فردريك أنجلز، وزارة الثقافة السورية، دمشق: 1970، ترجمة أنطون حمص، ص 150.

[الصفحة - 299]


المبادى أتت بغاية تحطيم مقولة: إن العقل منفصل عن النفس ويقود إلى الوحدانية والإيمان بالله.
لكن «البداهة» المشتقة من الهوية ـ وهي أهم اءُسس العقل باعتمادها على الحدس، والتي لم يحاول أحد تحطيم هيمنتها على منطق فلسفة العلوم، والفلسفة الخالصة، وعلم الكلام الإسلامي الذي تعامل معها بمصطلح التصديقات ـ ظلت خالدة في مبادى العقل الإنساني، وهذا العقل يقود دائماً في التفكير إلى المحرك الأول واجب الوجود، وهو الله.
إنّ مما دفع إلى عدم الجرأة على ذلك من قبل الماديين هو معرفتهم بأن رفض جميع المبادى التي وضعها أرسطو للعقل قد يؤدي إلى تحطيم مبدأ التواصل مع الآخر، وابتكار فرضيات بسيطة تبنى عليها العلوم جميعها.
ما هو المنهج العقلي والحال هذه؟
في الواقع إنّه المنهج ـ في البحث ـ الذي يعتقد أن بإمكان العقل الوصول إلى استدلالات صحيحة، والوصول إلى معرفة جوهرية، استناداً إلى أن في العقل قضايا قبلية منفصلة حتى عن التجربة، ومن هذه القضايا يمكن إدراج قضايا رياضية محضة ومعلومات توضح طبيعة هذا العالم.
لقد اتفق الجميع، فلاسفة وتجربيين، على أن العقل وحده هو المؤهل للبحث في الميتافيزيقيا، وهي كل ما يشمل ما وراء الطبيعة ـ وبخاصَّة الإلهيات ـ وأضاف المسلمون، ومدرسة أهل البيت في الطليعة، سلطة العقل على بحوث الحديث والفقه والتفسير، فكل ما في الدين الإسلامي يمكن إخضاعه لهذا العقل لأسباب جوهرية.
ما هو العقل؟ وماذا يمكن أن يطلق على العمليات العقلية من مضامين؟
كان اليونانيون سادة هذا المجال، وجاءت الفلسفة الأوروبية في عصر النهضة عبر ديكارت وليبنز وكانط وهيغل وغيرهم، لتسهم في تحليل ماهية النظام العقلي لاستخلاص طبيعة المنهج من خلاله.
نحن نقرّ سلفاً بانفصال مدرسة الأئمة (رضي الله عنهم) عن التراث اليوناني،
________________________________________

[الصفحة - 300]


ومع ذلك لا بد من أن يجري تحليل المنهج العقلي عبر هذا التراث وامتداداته، لأنه الأفضل، حتى تمكن المقارنة وإلقاء الضوء، ولا بد من الاعتراف بأنَّ تحليلًا كاملًا غير خاضع للشك بالنسبة للمنهج العقلي ـ كمنهج ـ غير متوافر في تراث الأئمة أو تلامذتهم، وهذا لأنه لا تناقض مطلقاً في التحديد والمصطلح، بين ما ورد عن الأئمة ـ في المنهج ـ وما ورد في التراث اليوناني (أرسطو ـ أفلاطون ـ سقراط) وامتداداتهم الحديثة، وبخاصَّة كانط.
إنّ أصل تحديد الوجود الإنساني وتحليله إلى أبسط مكوناته ـ وهو الوعي ـ ينبثق من أن الإنسان حيوان مفكر، أو موجود مفكر يستخدم عقله لتحديد وجوده ووعيه، وهكذا وصل ديكارت ـ وهو أقدم أصحاب المنهج العقلي في الفلسفة الأوروبية (بمعنى عقلنة التراث الديني وفكرة الله) (11)ـ إلى «الكوجيتو» الخاص به: «أنا أفكر إذاً أنا موجود».
العقل مركز الأسئلة التي لا تتوقف البتة، ولأن التجربة الإنسانية قاصرة عن تلبية احتياجات الإنسان، ولأنه مجبر على التجربة والتأمل والاستخلاص معاً، فإن هذا العقل يضطر إلى الاستعانة بمبادى تتخطى كل استعمال تجريبي ممكن، مع أنها تبدو خالصة من الشبهة إلى درجة أن العقل العامي البشري يجد نفسه متفقاً معها.. أي أنها شمولية في الاتفاق الإنساني.
من أسس العقل يأتي البديهي اللامشروط. فهو ما يتخطى حدود التجربة وجميع الظاهرات، ويطلبه العقل في الأشياء نفسها بالضرورة، ويحق لكل ما هو مشروط من أجل أن تكتمل سلسلة الشروط(12).
البديهي، أو اللامشروط، أو التصديق يكمن في الأشياء من حيث لا نعرفها (أي في الجوهر) من حيث هي أشياء في ذاتها، في التجريد، في اللاسبب. الأشياء ظاهرات ويقوم الديالكتيك بجمع الظاهرات والجواهر في الأشياء كي توافق فكرة اللامشروط، أو البديهي، العقلية الضرورية (كما يقول كانط)، وهو يرى أن هذه الموافقة لا تحصل إلا من خلال التمييز الذي هو تمييز صحيح.
لقد عالج المتكلِّمون المسلمون هذا المبدأ بالتفصيل، ويمكن الرجوع إليه في
________________________________________
(11)ديكارت (1596 ـ 1650) التأملات في الفلسفة الأولى، ترجمة عثمان أمين، مكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة: 1951، ص 96 وصدرت الطبعة الأولى من الكتاب سنة 1647م بالفرنسية وسنة 1641م باللاتينية.
(12)عمانويل كانط (1724 ـ 1804)، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، مركز الاتحاد القومي اللبناني، ص 25.

[الصفحة - 301]


مظانه (13)، ويجد أي باحث ـ ملتزم بالمنهج العقلي أو غير ملتزم ـ نفسه مجبراً على العودة إليه، لأنه كما أشرنا جسر التواصل الأساسي للعقول الإنسانية.
يتميز المنهج العقلي من غيره بأنه يصرّ على أن المعرفة لا تنبثق عن التجربة كلها، ولكنها تبدأ زمنياً مع التجربة، فهناك في العقل أشياء أو معارف سابقة على التجربة، يدركها الإنسان هكذا من دون تجريب، أو هي ضرورة أصلًا للبدء بالتجريب واستخلاص نتائجه. فالمحاكمة العقلية سابقة على التجريب أي قبلية.
ويناقش كانط هذه المقولة بالاعتماد على التجربة نفسها، فهي لا تعطي لأحكامها أبداً الكلية الحقيقية الصارمة، بل تمنحها الكلية المفترضة، الكلية النسبية تبعاً لطبيعة الاستقراء الناقص نفسه؛ والحقيقة أن جميع التجارب، بالغاً ما بلغت من الدقة، ناقصة وخاضعة للاستثناءات في التعميم، وهكذا نصل إلى أن أي حكم يتمتع بالكلية الصارمة ولا يقبل أي استثناء ممكن هو حكم لا يشتق من التجربة، بل يكون حكماً قبلياً.
الكلية، أو التعميم التجريبي (الإمبريقي)، ما هي إلّا تعميم تعسفي لما هو صادق في «معظم الحالات» وليس فيها جميعها. أما المعرفة القبلية فهي ضرورية وكلية وصارمة كقضايا الرياضيات الإقليدية والفيزياء ما قبل النووية. على سبيل المثال: إذا نظرنا إلى جسم ما ـ منضدة مثلًا ـ ونزعنا من مفهومنا تدريجياً جميع معطيات التجربة عن هذا الجسم: اللون، الصلابة، الوزن، الشكل الخ..، سنلاحظ أن هذا الجسم المتلاشي كان يحتلّ مكاناً أو حيزاً لا يمكن إزالته.. فعندما تزول المنضدة من ذهننا يظل فيه أنها كانت تشغل مكاناً، فإذا غاب الجسم بقي الجوهر أو المفهوم المتحيز لهذا الجسم تماماً كمفهوم المكان وهو مفهوم قبلي. فالمكان تبعيّ لا ذاتي كما عبّر الإمام الصادق (عليه السلام)، فهو يتراءى بالطول والعرض والعمق محتوياً الجسم، وعندما يفقد أبعاده الثلاثة هذه يفقد وجوده أيضاً، لكنه يبقى في المفهوم النسبي، فهو مختلف تبعاً لسنوات العمر عند الإنسان (14)، طفلًا ومراهقاً وناضجاً ومريضاً وسليماً، جميلًا كان أم قبيحاً، إنه انعكاس السلوك الإنساني عليه، ويحتل، بوصفه مفهوماً في العقل حالة قبلية على التجربة لأنه ليس نتاجاً لها.
________________________________________
(13)على سبيل المثال يراجع: الفخر الرازي، محصلة أفكار المتقدمين والمتأخرين، مرجع سابق.
(14)الإمام الصادق في نظر علماء الغرب، ترجمة نور الدين آل علي، دار الفاصل دمشق: 1995، ص 132.

[الصفحة - 302]


يتميز العقل بالتحليل والتركيب في جذر عملياته التي منحته هذا المعنى؛ فالحكم التحليلي لدى كانط يعني أن ينتمي المحمول (ب) إلى الحامل (أ) بوصفه شيئاً متضمناً فيه، ويتم ذلك بتحليل القضية المعروضة إلى عناصرها (أ) و(ب). أما التركيب فهو: أن يكون (ب) خارجاً عن (أ) خروجاً تاماً على الرغم من أنه مرتبط به، ويقوم العقل بتركيب القضية المعروضة بجمع (أ) و(ب).
والأحكام التحليلية الموجبة هي تلك التي يحتويها التفكير بالاقتران فيها بين الحامل والمحمول من خلال الهوية، أما الأحكام التركيبية فهي التي يحتويها التفكير بالوصول إلى ذلك الاقتران من دون الهوية (15). التحليل للقضية إذاً يتضمن معرفة هوية (أ) و(ب) المقترنين في القضية، بينما يتم التركيب من دون معرفة الهوية مسبقاً، بل اكتشافها ووصل (أ) و(ب) بعد ذلك، وبذلك تتكون القضية أو الحكم، والعمليتان تحليلًا أو تركيباً تمتلكان حالة من الإبداع أو الإبتكار، وتلك صفة العقل عموماً، والميزة الرئيسية للتعقل. وتسمى الأحكام التحليلية تفسيرية، بينما تدعى التركيبية توسيعية؛ لأنها تضيف إلى مفهوم الحامل محمولًا جديداً لم يكن وارداً في التفكير من قبل أو مستمداً منه قبل ذلك.
ويمكن أن نمثّل للقضية التركيبيَّة بمثال: (الأجسام جميعها ثقيلة)، فالأجسام هي الموضوع والثقل هو المحمول. المحمول هنا مختلف تماماً عما أفكر فيه عن مفهوم الجسم بعامة، فالجسم يعني الامتداد (أخذ الحيّز)، لتصبح هذه القضية في التحليل كما يأتي: كل الأجسام ممتدة. وهكذا أضفنا في الحكم التركيبي شيئاً إبداعياً هو مفهوم الثقل الذي لم نكن قد فكّرنا به من قبل.
تبعاً لذلك، فإن الأحكام التجريبية جميعها تركيبية (في رأي كانط) لأنه من الخطأ والتناقض تأسيس حكم تحليلي على التجربة، حيث لا يحق لي أن أضع مفهومي الخاص لأشكل هذا الحكم قبل أن يثبت بالتجربة العلمية. لهذا تكون قضية «الجسم ممتد» تبعاً لذلك قبلية، وليست حكماً تجريبياً، لأن لدي قبل التجربة جميع شروط حكمي في مفهوم الامتداد الذي أخذته من مفهوم المكانية الموجود في العقل سابقاً على التجربة، متضمناً في عملية التعقل نفسها.
________________________________________
(15)نقد العقل المحض، ص 48.

[الصفحة - 303]


والأحكام الرياضية تركيبية، ولكنها قبلية أيضاً بسبب ضرورتها وحتميتها «بمعنى أن 1 + 2 = 3 حتماً»، وأن ذلك سابق على التجربة (في نظر كانط) والفلسفة العقلية عموماً، إذاً هناك حكم قبلي تركيبي (16)، على سبيل المثال: الخط المستقيم أقرب طريق بين نقطتين، هي قضية تركيبية؛ لأن مفهوم الاستقامة لا يتضمن الكم بل يتضمن الكيف، ليأتي مفهوم «أقصر» مضافاً كلياً، ولا يستمد من أي تحليل كان للمفهوم (الخط المستقيم). هنا يبزغ الحدس العقلي ـ أو ما يسمى بالقبلية المتضمنة في التعقل السابق للتجربة ـ لكي يجعل التأليف ممكناً.
مثال آخر: هناك قضايا رياضية تحليلية ـ لكنها وهي تستند إلى مبدأ «عدم التناقض» الأرسطوي الاكتشاف ـ تصلح لدعم المنهج العقلي وترابطه، منها: قضايا تختص بمبدأ الهوية، مثل: (أ) هي (أ)، الكل مساوٍ لنفسه، وأ+ ب < أ، أي أن الكل أكبر من أجزائه الخ... هذه القضايا تقبل التصنيف في الرياضيات؛ إذ إنَّه بالإمكان تصورها عن طريق الحدس، ما يدفع إلى الاعتقاد بأنّ محمول هذه الأحكام اليقينية يكمن حتماً في مفهوم التعقل سلفاً.
هناك في الفيزياء، أيضاً، قضايا ضرورية، تركيبية قبلية بوصفها مبادى لا تحتاج إلى تجربة، مثل «كل فعل له رد فعل يساويه» وهي قضية تركيبية قبلية، لأن تخطِّي مفهوم الفعل إلى دوام وجود رد الفعل المساوي يتخطَّى مفهوم مادة الفعل ليضيف إليها شيئاً لم يجر التفكير فيه، وهذا بحد ذاته تركيب، ولكنه قبلي متضمن في العقل.
والميتافيزيقا، في رأي كانط، تتشكل من قضايا قبلية تركيبية مثل «العالم يجب أن يكون ذا بداية»، وتلك قضية قبلية تركيبية متضمنة في العقل غير خاضعة للتجربة مطلقاً (17). ومنها مشكلات العقل المحض التي لا مفرّ منها كالله والحرية والخلود، فهي جميعها أفكار قبلية موجودة في بنية العقل سابقة على التجربة.
لقد كان للماديين، بطبيعة الحال، آراؤهم التي ترفض ذلك كله، معتبرين أن مبدأ السببية القبلي ممتنع، وأن كل الميتافيزيقا لا تؤدي إلّا إلى مجرد وهم أو توهم لرؤية عقلية مزعومة لما تَمت استعارته من التجربة. هذا الصراع معروف وقديم
________________________________________
(16)م.ن.، ص 50.
(17)م.ن.، ص 52.

[الصفحة - 304]


ويُرجع إليه في مظانّه. لكن المنهج العقلي، باستناده إلى مبادى العقل ومتضمناته، أنجز للإنسانية صرحاً هائلًا من التقدم الحضاري. وهو منهج هوجم بطبيعة الحال باتهامه بمعاداة التجريب والتجربة، بل إنّه كان معوِّقاً أمامها، وكأنما يخالف نظر الإنسان في الكون والأشياء.
والحقيقة أن هذا الرأي ربما كان فيه بعض الصحّة لما شوهد من تطور الحضارة الغربية وظهور الفلكيين والفيزيائيين الكبار، أمثال غاليله ونيوتن وغيرهما، مع معارضة المجتمعات الغربية الناهضة لهم بذريعة مخالفتهم لاستخدام العقل والتأمل العقلي، لكن النظر في مجريات تطور الحضارة الإسلامية، في مرحلة النهوض، يثبت أن العقل أسهم، بوصفه منهجاً، في تطور علوم الإسلام المعروفة، ولم يمنع مطلقاً من استخدام معطيات التجربة، ولعلّ جهود الإمامين الصادق والكاظم أبرز دليل على ذلك (18).
ومن أبرز عمليات التعقّل يتأتى مبدأ السببية. هذا المبدأ يتلازم دوماً مع مبدأ عدم التناقص الذي نحكم بمقتضاه أن ما يشمل التناقض إنما هو خطأ، وأن كل مضادّ للخطأ هو صواب، ليأتي مبدأ السبب الكافي بحكم يعدّ بمقتضاه أنه يستحيل أن يكون أي أمر صادقاً أو موجوداً، أو أن يكون أي تعبير صادقاً من دون أن يوجد سبب كافٍ ليكون هذا الأمر على ما هو عليه، أو على خلاف ما هو عليه، حتى وإن غمضت الأسباب أحياناً (19).
هذا المبدأ تحديداً شطر علم الكلام الإسلامي إلى شطرين ـ فريقين كبيرين: مدرسة أهل البيت، والأشاعرة (كما أسلَفنا). فالأشاعرة يرفضون مبدأ السببية لأن الله سبحانه فوق الأسباب وغير ملزم بها في تعامله مع الأشياء، فهو الذي يعطي المظاهر الطبيعية سببها العلمي المعروف. وعلى سبيل المثال: ليست النار سبباً للإحراق إنما هي قدرة الله (20). والواقع أن آراء كهذه لم تلق القبول حتى من كثير من مفكري الجمهور الذين يتلاقون مع آراء أبي الحسن الأشعري في مسائل التوحيد.
لقد رُفض المنهج العقلي بمكونات التعقل ـ كما نرى ـ من طرفين متناقضين أيضاً: التجريبيون الماديون، والمؤمنون المحافظون جداً إلى درجة وقوفهم ضد العلم والعقل. فهل من بديل من المنهج العقلي في خلق تصوّر أفضل، وبخاصَّة في مسائل الميتافيزيقا؟
العقل هو القدرة على صياغة المبادى، هو القدرة على صياغة المبادى التي هي
________________________________________
(18)راجع الإمام الصادق (عليه السلام) في نظر علماء الغرب، م.س.
(19)غوتفريد ويلهلم ليبتز (1646 ـ 1716)، المونارلوجيا، ترجمة ألبير نصري نادر، اليونيسكو، بيروت: 1956، ص 24.
(20)أصول الكافي، 1/221، في الهامش.

[الصفحة - 305]


معرفة الجزئي من الكلي بوساطة المفاهيم، فكل استدلال عقلي هو صورة من صور اشتقاق المعرفة من مبدأ ما، وكل معرفة كلية تصلح أن تسمى مبدأ (21). فلا بديل من المنهج العقلي في صياغة المعرفة الإنسانية بشموليَّتها.
نصوص للتَّحليل
الحديث الشهير في الكافي للإمام الكاظم (عليه السلام)يلخص منهجه في تحديد العقل من خلال مهمته الرئيسية للوصول إلى الله سبحانه من جهة، وعبر السلوك الإنساني الدالّ على التعقل من جهة أخرى. وسوف نختار الفقرات الأكثر أهمية من دون الخضوع لترتيب ورودها في الحديث. لقد نقل الحديث مرفوعاً عن هشام بن الحكم: «يا هشام، إن الله بشر أهل العقل والفهم في كتابه، فقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ اءَحْسَنَهُ اءُولئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ الله وَاءُولَئِكَ هُمْ اءُوْلُو الَألْبَابِ} [الزمر/17 و18]» (22).
والتعقل يتصل بالفهم، ومصطلح الفهم يعني المقدرة على التحليل والتركيب، وهو في رأي الإمام هبة من الله سبحانه، فلماذا عُدَّ ذلك بشارة رغم أن كل الناس يمتلكون هذا الفهم بحكم أنهم يمتلكون العقل؟
الإمام يلتزم بالاشتقاق من القرآن الكريم، فهو يصوغ الفهم الإسلامي لعملية التعقل وبناء الميتافيزيقا من خلال آيات القرآن، وتلك مزية علم الكلام الإسلامي عن الفلسفة الأوروبية (اليونانية وامتداداتها).
هناك فروق بين العقل والتعقُّل الذي يلازم الفهم، فوجود العقل في الإنسان هو بالفعل، بينما يتسم التعقل بوجوده بالقوة (كامن)، ويظهر إلى الفعل لحظة استخدامه، وعندما يتم الاستخدام بطريقة منتجة تؤدي إلى إدراك الوجود كما هو عليه وصولًا إلى الله، يكون التعقل بشارة وهداية من الله تصل إلى مرتبة المنحة السامية التي تهب الإنسان درجة العابد، والعبّاد هم الموصوفون بالهدى والاتجاه نحو الكمال الإنساني الذي يفصلهم عن الفصيلة الحيوانية التي هم منها أصلًا.
«يا هشام إن الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين بالبيان ودلّهم على ربوبيته بالأدلّة...» (23).
________________________________________
(21)نقد العقل المحض، ص 88.
(22)الكافي، 1/60، ح12.
(23)م.ن.، ص 60، ح12.

[الصفحة - 306]


أن يصل العقل إلى الله أمر مشترك بين علم الكلام الإسلامي والفلسفة العقلية المسيحية التي عرضناها لدى كل من كانط وديكارت وليبنز وهيغل، ولكن الكلام الإسلامي يختلف بالدرجة في مسألة الوصول هذه. الله فكرة كامنة في العقل بالقوة لدى الفلاسفة العقليين الأوربيين، ويستطيع العاقل إدراك الله بمجرد التأمل لأن الفكرة موجودة في صلب بنية العقل. ولا يخالف الكلام الإسلامي هذا، لكنه يتقدم عن هذا المنطق الأوروبي المسيحي اللاهوتي، الذي اعتمد الدليل الانطولوجي الشهير الذي عبر عنه ـ بأسبقية زمنية ـ القديس أوغسطين بأن دلائل وجود الله متوافرة أيضاً بالتجربة الحسية. فالله فكرة قبلية في العقل حقاً، وهي تصل إلى مرتبة اليقينية (الدغمائية) غير الخاضعة للشرط وصولًا إلى البديهية لدى أولئك، لكن يختلف المنطق الإسلامي عنهم بتوفير الأدلّة التجريبية التي يعرضها الإمام على الشكل الآتي مشتقاً من آيات القرآن الكريم:
{إنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالَأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ الله مِنَ السَّمَاءِ مِن مَاء فَأَحْيَا بِهِ الَأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّة وَتَصْريفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالَأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة/163].
القرآن يعرض أدلّة حسية تتّصل بقوانين طبيعية، فيها استخدام للفيزياء (الفلك التي تجري في البحر)، ثم يدعو للوصل المنطقي بين هذه المظاهر أو الظواهر ووجود الخالق وحتمية وجوده معاً. إنّ استخدام العقل بقوانينه (التي عرضناها) لا يقتصر على العامل المطلق بل يتعداه إلى استخدام التجريب عبر النظر في قوانينه الطبيعية ونظام الأرض التي يعيش عليها الإنسان، وينهج الإمام عبر التحليل والتركيب في العقل، وبخاصَّة الحكم التركيبي البعدي بالتعامل مع معطيات الطبيعة الجلية، ويقول: «قد جعل الله ذلك دليلًا على معرفته بأنّ لهم مدبراً».
«فقال:{وسخّرَ لكُم اللَّيلَ والنَّهارَ والشَّمسَ والقَمَر والنجومَ مسخّراتٍ بأمره إنّ في ذلكَ لآيات لقومٍ يعقلون} ».
وهي من بعض معطيات علم الفلك هائل الحجم والدلالة على المطلق، وكله
________________________________________

[الصفحة - 307]


تجريبي (ومعلوم أن علماء الفلك جميعهم وصلوا إلى الله كما نقرأ في كتاباتهم). ثم يستعرض الإمام مناحي شتى من مختلف أنواع العلوم:
علم فيزيولوجيا الجسم الإنساني: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَاب ثُمَّ مِنْ نُطْفَة ثُمَّ مِنْ عَلَقَة ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً... وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر/67]وهذا يتصل بعلم الجنين أيضاً كما نرى. ثم يستعرض علم الجغرافيا والمناخ: {واخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ الله مِنَ السَّمَاءِ مِن رِزْق فَأَحْيَا بِهِ الَأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية/5]، ثم علم الزراعة: {وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَاب وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَان يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْض فِي الُأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد/4]، ويعدد الإمام (رض) نواحي علمية أخرى ليضرب مثلًا في علمي الأخلاق والاجتماع عبر الآية: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِنْ إِمْلَاق نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام/151].
لقد تعمّد الإمام، عبر استعراضه للعلوم، أو لأمثلة من العلوم المختلفة، أن يصرّ على اشتراك التجربة العلمية وليس التأمل القبلي فحسب، في إمكانية التعقل للوصول إلى الله، وهو في الحقيقة ما انفرد به الإسلام عبر علم الكلام مخالفاً به الفلسفة الأوروبية كلياً.
الإمام موسى الكاظم، ومن خلال منهج مدرسة أهل البيت العقلي، والمستوحى من الإسلام بتفاصيله جميعها، وباستعراض أمثلة من القرآن الكريم نفسه، يقدم فكرة الألوهية نتيجة علمية تتّسم بالمنطقية العلمية عبر الاستقراء في العلوم جميعاً، ليقدمها استخلاصاً علمياً ويصل في اليقين إلى درجة الرياضيات والفيزياء وغيرهما، وليست فكرة ميتافيزيقية مجردة. وهو بهذا يقدّم الألوهية مقولة تتسم بالضرورة والكلية القبلية والبعدية... التحليلية، والتركيبية القبلية والبعدية معاً في العقل والتجريب الحسي، رافعاً مبدأ السببية أو العلّية في العقل إلى مرتبة القانون الأساسي في الدلالة على الله سبحانه، فلا بد لكل نظام من منظّم ولا مندوحة من اكتشاف المنظم الواحد خلف النظام الواحد الذي يشمل الأشياء في الكون، وهو ما
________________________________________

[الصفحة - 308]


تمّ اكتشافه حديثاً من قبل علماء الفلك جميعاً في دراستهم لنشوء الكون، وهو ما تمّ اكتشافه حديثاً من قبل علماء الفلك جميعاً في دراستهم لنشوء الكون، ليعززوا نتائج دراساتهم بما ورد في كلام أهل البيت من خلال مدرستهم (نهج البلاغة والكافي وغيرهما) على شكل أحكام، ليضعوا المسألة في مكانها العلمي الذي تستحقه وصولًا إلى مدبّر الكون ومنظمه (24).
إذاً فإن فكرة الألوهية، لدى مدرسة أهل البيت، فكرة قبلية وبعدية معاً، وهي حصيلة معطيات التجربة العلمية التي هي استقراء ناقص في جميع الأحوال، فكيف يمكن أن يقود استقراء ناقص إلى حقيقة يقينية (كلية) كوجود الله سبحانه؟
لقد عالج السيد الشهيد محمد باقر الصدر هذه المسألة بطريقة بالغة الشفافية ليصل إلى نتيجة مهمَّة ملخصها: «إنّ الُأسس المنطقية التي تقوم عليها كل الاستدلالات العلمية المستمدة من الملاحظة والتجربة، هي نفس الُأسس العلمية المنطقية التي يقوم عليها الاستدلال على إثبات الصانع المدّبر لهذا العالم، عن طريق ما يتصف به العالم من مظاهر الحكمة والتدبير [وحدة النظام التي تقود إلى وحدة المنظم] فإن هذا الاستدلال ـ كأي استدلال علمي آخر ـ استقرائي بطبيعته. وتطبيق للطريقة العامة التي حددها الدليل الاستقرائي في كلتا مرحلتيه.
فالإنسان بين أمرين: فهو إما أن يرفض الاستدلال العلمي ككل، وإما أن يقبل الاستدلال العلمي، ويعطي للاستدلال الاستقرائي على إثبات الصانع نفس القيمة التي يمنحها للاستدلال العلمي.
العلم والإيمان مرتبطان في أساسهما المنطقي الاستقرائي، ولا يمكن ـ من وجهة النظر المنطقية للاستقراء ـ الفصل بينهما.
وهذا الارتباط المنطقي بين مناهج الاستدلال العلمي، والمنهج الذي يتخذه الاستدلال على إثبات الصانع بمظاهر الحكمة، قد يكون هو السبب الذي أدى بالقرآن الكريم إلى التركيز على هذا الاستدلال بين ألوان الاستدلال المتنوعة على إثبات الصانع، تأكيداً للطابع التجريبي والاستقرائي للدليل على إثبات الصانع.
فإنّ القرآن الكريم ـ بوصفه الصيغة الخاتمة لأديان السماء ـ قد قدّر له أن يبدأ
________________________________________
(24)أثبت العلم الحديث مقولات الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في نشوء الكون والتي وردت في خطبته الأولى من نهج البلاغة، بأن الله سبحانه وضع قوانين صارمة في خلقه الكون والإنسان، ووحدة هذه القوانين تدل على وحدة المنظم واضع هذه القوانين.

[الصفحة - 309]


بممارسة دوره الديني مع تطلع الإنسان نحو العلم. وأن يتعامل مع البشرية التي أخذت تبني معرفتها على أساس العلم والتجربة، وتحدد بهذه المعرفة موقفها في كل المجالات، فكان من الطبيعي ـ على هذا الأساس ـ أن يتجه القرآن الكريم إلى دليل القصد والحكمة ـ بوصفه الدليل الذي يمثل المنهج المنطقي للاستدلال العلمي، ويقوم على نفس أُسسه المنطقية ـ ويفضّله على سائر الصيغ الفلسفية للاستدلال على وجود الله تعالى.
هذا إضافة إلى أن الدليل التجريبي على وجود الله أقرب إلى الفهم البشري العام، وأقدر على ملء وجدان الإنسان وعقله بالإيمان من تلك البراهين الفلسفية ذات الصيغ النظرية المجردة (الدغمائية) التي يقتصر معظم تأثيرها على عقول الفلاسفة وأفكارهم» (25).
أن ترتقي فكرة الألوهية إلى مستوى الحقيقة العلمية، في الفكر الإسلامي، وفي تراث مدرسة أهل البيت، لا بد من أن تمر بطريقها الوحيد الممكن وهو العلم المتلازم بالعقل، فليس أمام الإنسان من طريق لليقينيات غيرهما.
يقول الإمام (رض): «إن العقل مع العلم، فقال تعالى: {وَتِلْكَ الَأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ} [العنكبوت/35]» (26).
هذه الفقرة تمتلك أهميتها من تكثيفها لمنهج مدرسة أهل البيت. العلم يقود إلى العقل، والعقل يبدع العلم، وتلك علاقة جدلية هدفها الرئيسي الوصول إلى الله الذي هو هدف بحث الإنسانية عن علّة وجودها وغايته معاً. ثلاثية الأرق الإنساني برمته: العلم، العقل، الله... ثلاث مقولات وضعها الإمام في مرتبة التجريبي المحسوس ضمن مكوّنات العقل وشروطه معاً.
ولكن أين يقع الكشف القلبي بين هذا الثنائي الجذري المتصل باكتشاف الله الموجد والغاية النهائية لسعي الإنسان نحو اكتماله؟
يعرّف العرفان عادة بأنه الوصول إلى معرفة لا تتصل بالعقل وآلية عمله المعروفة في التحليل والتركيب، هذه المعرفة تتم بالكشف المباشر للحقيقة بوساطة رياضة روحية تؤدي إلى الاتصال بحقائق إلهية أو علمية. هذا الكشف مختصّ
________________________________________
(25)محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء، دار التعارف للمطبوعات، ط الرابعة، 1982م، ص 469.
(26)الكافي: 1/62، ح12.

[الصفحة - 310]


بالصفوة القادرين على الصبر على هذه الممارسة، ويستخدم مفهوم «القلب» هنا تمييزاً لها عن استخدام العقل وليس لاتصالها بعضلة القلب مثلًا. لكن في العلم نفسه تتم عمليات من الكشف أحياناً لا تتم من طريق التجربة حتى في إطار التجريب نفسه، ويضرب لذلك مثل في عمليات التعلم والإبداع في حل المشكلات مما أطلق عليه في علم النفس مقولة الاستبصار (insight) .
ما هو الاستبصار؟ إنه ترجمة لعملية الكشف ببساطة. ويعتقد أُولئك الذين طرحوا هذه الصيغة على اعتبار أن العقل يعمل في صيغ كبيرة بطريق سد الفراغات ونحوها، أولى من أن يعمل في هذه الصيغ بما تقوم به الطرق العصبية في الجسم من ربط هذا المركز الصغير في المخ بالآخر. لهذا، ففي نظرهم أن كلّ إبداع علمي يقوم على الاستبصار (27)إلى حد كبير.
ويتم الوصول إلى حل مشكلة علمية، أي الوصول إلى معرفة ما عن طريق التجريب والمحاولة والخطأ. لكن الاستبصار لا يلغي مسألة المحاولة والخطأ بوصفها طريقاً وحيداً لحل المشكلات فحسب، بل يضعها مكانها كلياً، بمعنى أن المعرفة أحياناً لا تتمّ عن طريقي التَّحليل والتركيب اللذين هما سمة التعقل، فقد يقوم الإنسان بمحاولات كثيرة العدد للوصول إلى حل مشكلة ما أو إلى إبداع فكرة ما ويُجري الكثير من التجارب، ثم لا يصل إلى أية نتيجة مهما طال الزمن، وحتى باكتسابه الخبرة والمران وبتكوين أعداد كبيرة من الروابط لعناصر تتصل بمواقف تساعد على إيجاد الحلول، وفجأة يهبط الحل، الذي يختلف كلياً في إبداعه عن الأجزاء التي أسهمت في تكوينه أو الوصول إليه. فمثلًا اللحن يتألف من درجات السلم الموسيقي، ولكنه لا يوجد في أي من هذه الدرجات إذا أخذت كلًّا منها بمفردها على حدة (28). إنّه صيغة جديدة أو صورة خاصة به وإبداع جديد أسهم به كشف من نوع خاص لم يكن من إنتاج العقل وحده.
لكن هذا النوع من الكشف يظل ناقصاً دائماً إذا لم يتعزَّز بالعقل، فكلّ ما عدا العقل معرَّض للخطأ والانحراف. والإمام الكاظم قد جسّم هذه النقطة بهذه الفقرة من حديثه مقرَّاً بالفصل بين العقل والقلب من ناحية إمكانية الضلال، يقول: «إن الله حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ}
________________________________________
(27)روبرت ودورت، مدارس علم النفس المعاصرة، ترجمة كمال دسوقي، ط1، دار المعارف، بمصر: 1948، ص 194.
(28)المصدر نفسه، ص 175.

[الصفحة - 311]


{لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} [آل عمران/8]، حين علموا أن القلوب تزوغ وتعود إلى عماها ورداها. إنّه لم يخف الله من لم يعقل عن الله، ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه، ولا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدّقاً وسرّه لعلانيته موافقاً، لأن الله تبارك وتعالى اسمه لم يدلّ على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه وناطق عنه...، كان أمير المؤمنين (عليه السلام)يقول: «ما عبد الله بشيء أفضل من العقل...» (29).
الإمام الكاظم (عليه السلام)يبدو معززاً بنتائج العلم الحديث في وصل القلب بالعقل، ويبدو أنّه يتخذ للقلب هنا معنى النفس تحديداً، وليس أيّ معنى آخر سواه، لأنا نرى في علم النفس الحديث استخدامه للقلب بمعنى العقل حين يقول: «إن الله تعالى يقول في كتابه: {إنَّ في ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق/37]يعني «عقل». وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان/12]قال: الفهم والعقل»(30).
هذه المفاهيم تختلط في القرآن الكريم وفي اللغة العربية كما ألمحنا، والإمام حريص على توضيحها في سياق بحثه في المنهج العقلي.
لدينا إذاً حالة الفصل من جهة والسيطرة من جهة أخرى، فالعقل هو وحده الذي يساعد على أن يعقد القلب على معرفة الله ما دام له مشاركة مهمَّة في تلك الوظيفة (أي المعرفة)، فلا غنى لتلك الملكة المسمَّاة القلب بمختلف معانيها المفارقة لمفهوم العقل تحديداً للوصول إلى المعرفة، ولولا ذلك لما تمت الإشارة إليها أصلًا، وعلى ضوء ذلك يمكن أن نستنتج معنى المنحى العرفاني في مدرسة أهل البيت من أنّه يوصل العرفان بالعقل حكماً وسيطرةً. فإذا كانت القلوب تزوغ وتنحرف وتبتعد أحياناً عن الله ومعرفته الحقة، رغم أنها لصيقة به عرفاناً، فإن العقل هو الذي يعيدها إلى جادة الصواب: «فمن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة»، «وما عبد الله بشيء أفضل من العقل».
وهنا تبرز إشكالية معنى الإيمان بالله الذي وقر في القلب وصدّقته الجوارح (أو السلوك)، فهل وقر أو استقر في القلب على أنّه النفس، أو الروح، أو العقل، في اشتقاقاته الثلاثة هذه التي وردت جميعاً في مأثورات مدرسة أهل البيت؟
________________________________________
(29)الكافي، 1/66، ح12.
(30)أصول الكافي، 1/64، ح12.

[الصفحة - 312]


هل توضّح هذه المأثورات، في منهجها العقلي، مفهوم الإيمان أو تحيطه بغموض مقصود؟
تبدو للباحث ـ للوهلة الأولى ـ شبكة من تناقض وانفصال وتقطيع للشخصية الإنسانية الموحدة، التي لا يمكن تقطيعها إلا لغرض البحث (كما أسلفنا) ولا شيء غير ذلك، لكننا وأمام هذا البناء الضخم من تراث الفكر الإنساني أدباً وعلماً وفناً لا نجد مناصاً من فصل هذا الكائن الغامض على التعريف المسمى (عقلًا)، ونقسر أنفسنا على أخبار الرؤوس للحكمة التي يفسرها الكاظم (عليه السلام)نفسه بالفهم والعقل، ونبحث عن هذا القطع النادر من البشر الذي يتسمون بها، لكي نرضخ لقيادتهم لهذا العالم.
ليس من تناقض في مسار النصوص، فالإيمان هو حالة عاطفية تحايث حالة تعقلية محكمة القبضة عليه، توجّه مساره نحو هدف وحيد هو الله الواحد المتوحد، نحو التوحيد الذي هو غاية إنسانية ثلاثية الأبعاد مع الزمن ماضياً وحاضراً ومستقبلًا... وإلّا فالإيمان، بوصفه حاجةً وعاطفة إنسانية، معرض للشطط مع الهوى، ودروب الضعف الإنساني، ونفاذ الشر إلى أعماق الذات البشرية، تدفعها إلى إيمان يصل إلى حد الوله بكائنات هي أحياناً من صنع هذه الذات.
الإنسان يؤمن بمن يحب من البشر، بل ويعبده أحياناً... خوفاً أو طمعاً أو شهوة أو ضعفاً بشرياً واحتياجاً إلى الحماية. إنها عبادة الانبهار بالمجهول الغامض الجميل. وقد يؤمن بالشمس والقمر والفرعون والعاصفة والذهب، والأقوى...
هذا كله يسكن في النفس التي تحمل معنى القلب، على أنها مقر الغرائز الإنسانية ومستوطن التشهي والضعف والقوة وآلاف العواطف المتضاربة التي عبّر عنها الإمام الصادق في حديثه الشهير الذي بدأه: «اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده» (31)، والذي عدّه بعضهم من موضوعات الكافي متأثراً بالفلسفة اليونانية، رغم تهافت هذا الزعم.
النفس عالم فسيح تعزّز بآلاف الكتب وعشرات المذاهب العلمية، تحكمها فيزيولوجيا الجملة الباراسميتاويه أو شبه الودية، لحركة الانفعالات والعواطف، أما العقل فكائن ساكن متحرك في برجه العاجي، موطن الاتزان والسيطرة والتفكير
________________________________________
(31)م.ن.، 1/69، ح14.

[الصفحة - 313]


والتأمل والخلق والإبداع والقرار. يبدو أحياناً في صراع مع النفس في حيز واحد للشخصية الإنسانية، ونتيجة هذا الصراع ـ في غلبة أحدهما على الآخر ـ يتحرك العالم الإنساني لهذا الاتجاه أو ذاك.
والطافي على سطح توجه الأحداث، في عالمنا، يبدو أنّ من له الغلبة هو سلطان الشر الكامن في نفوس أصحاب القرار، في مواجهة الخير الذي يستوطن العقل... في هزيمة جلية على صعيد القيم الأخلاقية العظيمة، وفي انتصار مؤزر على صعيد التقنية والتقدم العلمي.
بالنتيجة يتكون الإنسان من ثنائية دراسية من جهة، ومن وحدة ممتدة من جهة أخرى، ومن إصرار على الثنائية من قبل الفلاسفة والمتكلمين وأهل البيت، ومحصلة آيات القرآن الكريم المتعلقة بطبيعة المخلوق الإنساني.
هذه الثنائية تترافق مع ثنائية وجودية تتصل بوجود الخير وإرادة خير الإنسانية المتمثلة بالله سبحانه من جهة، وكيان الشر المتجسم بالشيطان الخالد حتى يوم الدينونة بإرادة الله من جهة أخرى.
إن فلسفة الخير والشر، وهما المتموضعان في محيط الإنسان وداخله، تحمل جدلية صراعية، وبنتيجتها يرتدي مصير الكائن البشري ثوب السعادة الأبدية أو الشقاء الأبدي، وهما ليسا شرطاً لسعادة الحياة الدنيا أو شقائها. إن منهج مدرسة أهل البيت يحدد سعادة الدنيا بالزهد فيها عبر اتّباع متطلبات العقل على صعيد السلوك، ليرتقي الزهد في الدنيا إلى مستوى التعقل، وتحتل فلسفة العمل للآخرة والسعادة فيها مرتبة العقل الخالص، الذي يحتقر المتع الزائلة، وصولًا إلى سعادة الخلود في الذات الإلهية في الجنة.
إنها ثنائية لا مناص من التعامل معها في تحليل المنهج العقلي الإسلامي الإمامي، أحدهما يقود الإنسان إلى السعادة والآخر إلى الشقاء. فالعقل الذي هو أحدها يتسم بالخلود الأبدي؛ لأنه مصدر الذاكرة التي يتم الحساب على أساسها يوم الدينونة، حيث يترتب الثواب والعقاب على أساس أن الذي لا يزوغ ـ وهو العقل ـ لم يستخدم بما يكفي لردع النفس موطن نزعات الشر، وأنه تمّ تغييبه فاستحق التدمير
________________________________________

[الصفحة - 314]


من قبل الله سبحانه على ما سنرى عبر الاشتقاق من القرآن الكريم، بما يدفع إلى طرح أسئلة متجدِّدة لا تجد جواباً في حياة مؤرقة تطغى فيها الأسئلة المرهقة للعقل نفسه، والذي يعجز بحكم محدودية العلم فيه عن استخدام مكوناته التعقلية على سعتها للوصول إلى الحقيقة.
وفي سياق جدلية التعقل، فإن مدرسة أهل البيت لها رأي في ذلك يمكن استنطاقه من خلال رائدها الإمام الصادق (عليه السلام)؛ حيث وضع تصنيفاً للعقول مثيراً للجدل حقاً، عندما سئل عن ماهية عقل معاوية بن أبي سفيان فقال: «تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل»(32).
وهو بذلك منسجم مع مقولة الإمام الكاظم، أو بالعكس، بأن العقل لا يقود إلا إلى الخير، وأنه ما ليس عقلًا في الإنسان يقود إلى عكس ذلك، بمعنى النفس التي هي مستودع الغرائز البشرية ومنفذ الشيطان إلى الشخصية الإنسانية، وهدف وقوع العقاب الإلهي.
يفسّر الإمام الكاظم، ضمن مترادفاته الكثيرة، ما ورد في القرآن الكريم، بـ «الأبصار» أي بالعقول، عندما سئل بما هو شبيه بسؤال الصادق في الحديث الآتي: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): إنّ عندنا قوماً لهم محبة وليست لهم تلك العزيمة يقولون بهذا القول؟ فقال: ليس أولئك ممن عاتب الله، إنما قال الله: {فَاعْتَبِرُوا يَا اءُولِي الَأبْصَارِ} » (33).
الإمام يجسّم التعقل بالوقوف مع الحق بشجاعة، ومن امتلك العقل أصبح له موقف من الحياة، وانحاز إلى المبدأ الذي يلائم قناعاته، أما من لم يفعل ذلك فهو منحاز إلى ضد العقل، إلى اللاعقل في ذاته، لهذا لا ينطبق عليه قوله تعالى بما خاطب به أصحاب العقول بالاعتبار.
الإمام يحدِّد تخوم العاطفة والعقل في المواقف، ويصل بالنتيجة إلى تعريف التعقل أو العقل في حالة الفعل على أنّه موقف من الحياة معبّر عنه من خلال السلوك وليس الكميَّة أو الألفاظ التي تجيش في النفوس على شكل حوار لا يستتبع مسؤولية ما أمام الآخر.
________________________________________
(32)م.ن.، ص 58، ح3.
(33)م.ن.، ص 58، ح5.

[الصفحة - 315]


وهو هنا يقصد النيّة التي إن وجدت سبيلًا إلى التحقّق بوساطة العمل عمدت إلى ذلك، ولا يناقض ذلك مبدأه في التقيّة، وأولئك هم الصفوة القلائل دوماً.
نظريّـة الصفوة
يقول الإمام: «ثم ذم الله الكثرة فقال: {وَإِنْ تُطِعْ أكْثَرَ مَن فِي الَأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ الله}[الأنعام/117]، وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالَأرْضَ لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الْحَمْدُ لِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [لقمان/31]، وقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَن نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الَأرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الْحَمْدُ لِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت/63]، ثم مدح القلّة فقال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ/13]، وقال: {وقليل ما هم} [ص/28]، وقال: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا اءَنْ يَقُولَ رَبِّيَ الُ} [المؤمن/29]، وقال: {وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلَّا قَلِيلٌ} [هود/40]، وقال:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام/38]، وقال: {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة/103]، وقال: {وَأَكثرُهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة/369]» (34).
هذا الحديث المهم ـ وإن لم يخصّص الأمة الإسلامية تحديداً بالخطاب ـ يقسم البشر إلى شطرين (بمن في ذلك المسلمون): الصفوة العقلاء، والرعاع أصحاب التقليد والاتباع، فهل تتَّصف هذه النظرة إلى الأمة بالإنصاف حتى وإن أخذت على ضوء آيات القرآن الكريم؟!
تحديدات الإمام تقودنا إلى بحث مرهق في جدلية الوجود الإنساني برمته، غايته أسبابه، تشكيلاته التي اتخذها منذ فجر التاريخ، وأخيراً سيادة الشر والشرك واللاعقلانية، ومسألة الضرورة الحتمية في وجود الأشياء لهداية البشر (البشر جميعهم) على ضوء العقل.
هل يطلق الإمام صرخة تحذير من هزيمة الخير والعقلانية في هذا العالم بسبب قلة الذين يتمتعون بهاتين الصفتين من البشر؟
الصَّفوة، في هذا الاعتبار، هم الذين يمتلكون النظرية والتطبيق معاً، ولقلَّتهم
________________________________________
(34)م.ن.، 1/92 و93، ح12.

[الصفحة - 316]


فإنّ ظاهر نظرية الإمام (رض) هو فصل الأفراد الصفوة عن الأمة، واعتبار حركة التاريخ هي فعل هؤلاء الأفراد وإبداعهم. إن في مجال التبشير أم في مجال العلم، بحيث تصبح الأمة أو تتحول إلى ذيل للتاريخ وليس فاعلًا فيه.
من تحليل النصوص، يمكن أن نضيف أنّه ليست الصفوة امتلاكاً للنظرية والتطبيق فحسب بل هي فوق هذا وذاك، حالة من الاقتراب من الكمال في العلم والسلوك.. حالة اتصال بالمطلق الكلي القدرة؛ هذا فينظر الإمام عند تحليله آيات القرآن الكريم وبما يتصل بالمؤمن الحق... وبالتالي ليس شرطاً لهذا المؤمن الحق الممتلك للنظرية والتطبيق أن يكون فاعلًا في مجتمعه، يحتل مركز القيادة فيه ما دامت الكثرة ليست كذلك، فقد يكون محارباً مضطهداً معذباً، وهو يعمل على نشر الدعوة والتبشير.
وإذا نفذنا إلى عمق منهج الإمام، في النصوص السالفة، فإننا نجده يسعى إلى تأسيس عقلنة نظرية الإمامة في مدرسة أهل البيت بالاستناد إلى نصوص القرآن الكريم. وفي جميع الأحوال علينا الإقرار بأن من العناصر التي حدّدها القرآن في القلّة البشرية: الشعور، الإيمان، العلم، العقل، الشكر، التميّز باستشفاف المستقبل والاتصال بالله... الخ.
إن هذه العناصر تمتلك مزية التفاوت في تواجدها في الناس. لأنها بحد ذاتها أبرز روائز التقييم للبشر. إنها ميزان القياس بين هذا وذاك في الرفعة أو الانخفاض، في السمو أو الاعتيادي المتكرر في الغالبية العظمى، إنها ما يميز الفنان من الفحّام كما يقول أرسطو.
والإمام (عليه السلام)يعلم أن نظرية الإمامة، في مدرسة أهل البيت، مؤسّسة على الصفوة من بيت النبوّة، وهو يعلم أيضاً بالاثني عشر إماماً (عليهم السلام)، والغيبة الأخيرة، لهذا فإن استنتاجاته من خلال آيات القرآن الكريم تتعلق تحديداً بالمستقبل الأبعد من وجود الأئمة (رضي الله عنهم)، إنها تتعلّق بقيادة الصفوة من حكماء الأمة المقبلين في زمن الغيبة، وهو يصل الحالتين عبر الآيات بأن العقلاء المؤمنين العلماء القلّة هم الذين عليهم أن يتحملوا مسؤولية قيادة الأمة إلى آفاق بعيدة من الزمن لا يعلمها إلا الله، لكنه مع ذلك يرى أن الله سبحانه يعزّي القلّة العاقلة المعذّبة برسالتها المرهقة
________________________________________

[الصفحة - 317]


نحو الأمة، بأنّها الأفضل والصفوة والأقرب إلى نعيم الله سبحانه، تماماً كتعزيته لرسله، ومنهم محمد بن عبد الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، بسرد قصص الأنبياء وعذاباتهم ـ وانتصاراتهم أيضاً ـ في القرآن الكريم.
لقد اختلفت المراتب والدرجات في الدنيا والآخرة تبعاً لذلك حكماً {وَجَعَلْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجَات}، وليس من شك في أنّ نظرية ولاية الفقيه في مدرسة أهل البيت اشتقت من إرشادات على ضوء نصوص كالتي جاءت من حديث الإمام الكاظم.
إن صفة التعقل واستخدام العقل، بوصفها حالةً، هي فرع من السعادة المذهلة والعذاب المرهق في آن واحد معاً، والصفوة الذين يتَّصفون بجدارة حملهم لذلك ـ كما اشتق الإمام صفاتهم من آيات القرآن الكريم ـ هم الذين استطاعوا في زمنه الثبات أمام أعتى صنوف الإرهاق والعذابات والاضطهاد والملاحقة، لأنهم بعقولهم التي أوصلتهم إلى الإيمان بحق الأئمة في قيادة الُأمة إلى الخير والسعادة، أثبتوا الفهم لواقع الإسلام عبر النصوص (ظاهراً وباطناً)، ولا يعقل ذلك إلا العالمون... والذين هم في الآن نفسه، زهدوا في الدنيا السريعة الزوال العابرة كالريح العاصف، واختاروا الآخرة بإرشاد عقولهم، تماماً كاقتدائهم بالإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)قطب العاقلين بعد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم). تعقّل راهن الدنيا لا يقود إلّا إلى فهم الزمن الذي هو الله، والذوبان في ذاته في خلود هو السعادة الأزلية التي لا تشكّل الحياة الدنيا منها إلّا التماعة برق في النور السرمدي الهائل الذي لا ينتهي. فكم من البشر بإمكانه تعقّل ذلك وفهمه واستيعابه إن لم يكن من أُولي العزم، وأُولئك بحساب الكم مجرد {ثُلَّةٌ مِنَ الَأوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ}[الواقعة/13 و14]. تلك سنة الحياة كما أرادها الله.. الأمانة التي عرضها على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها... وحملها الإنسان... ورغم أنّه حملها فإنه سبحانه يصفه بالجهول الظلوم، رغم محبته لهذا المخلوق ورحمته الهائلة له.. شعور المطلق الغامر تجاه ذرات الهباء السابحة في كون فسيح أزلي ليس له حدود. وتلك هي مجرد التماعات ضئيلة في أفكار ربما أرادها الإمام في حديثه عن القلّة في معرض من حديثه عن أولي العقول وجبروت العقل، وكان هذا المعرض مثيراً للغرابة والدهشة معاً.
________________________________________

[الصفحة - 318]


نماذج من السلوك العاقل
يقول الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام)في سياق حديثه موضع البحث: «قال الحسن بن علي (عليهما السلام): إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها، قيل: يا ابن رسول الله، ومن أهلها؟ قال: الذين نصّ الله في كتابه وذكرهم فقال: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الَألْبَابِ} . قال: هم أولو العقول.
وقال عليّ بن الحسين (عليهما السلام): مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح، وآداب العلماء زيادة في العقل، وطاعة ولاة العدل تمام العز، واستثمار المال تمام المروءة، وإرشاد المستشير قضاء لحق النعمة، وكف الأذى من كمال العقل، وفيه راحة البدن عاجلًا وآجلًا» (35).
بإسناده إلى الإمامين الحسن وزين العابدين ثم الإمام علي، يكمل الكاظم حلقة الاقتباس لإكمال رسم ملامح المنهج العقلي على صعيد السلوك.
أولو العقل هم الأكثر غيرية من غيرهم، لذا تراهم يلبون حاجة الآخرين إن طلب منهم ذلك، ويفهم من ذلك أنهم الأبعد عن الذرائعية أو البراغماتية ـ رفض تلبية حاجة الآخر من دون توقع مقابل مادي منه ـ ليوضع العقل (الذي هو الخير) في مواجهة مبدأ المنفعة، هذا ما يفهم من حديث الإمام الحسن (عليه السلام)المهم على صعيد ربط الغيرية بالتعقّل. إنّ تلبية حاجات الآخرين من أسمى مهمَّات فعل التعقل في السلوك الإنساني، فهو ليس عملًا عاطفياً. ومنهج أهل البيت يعدّ العقل منبعاً لهذا الخير الذي يدفع إلى خدمة الآخرين من دون مقابل.
لماذا يحتل حديث كهذا تلك الأهمية البالغة؟
إنّ ذلك ينبع من أنّ مذهب المنفعة من أخطر المذاهب الفلسفية على مقولة القيم الأخلاقية، فهو يرفضها بالمطلق، فليس هناك أخلاق بل هناك عملياً تبادل للمنافع.
هذا الرفض تبلور مذهباً أو منهجاً فكرياً في العصر الحديث، رغم قدمه الموغل على صعيد السلوك. والخطورة هنا تكمن في فلسفة التبادلية، وتدمير فعل القيم الأخلاقية المرتبطة جذرياً بفعل السلوك العاقل (وليس العاطفي) لدى الإنسان.
________________________________________
(35)الكافي، 1/68، ح12.

[الصفحة - 319]


ولم تكن مصادفة أنّ موطن تطوّر نظرية المنفعة كان في الولايات المتحدة الأميركية ـ رغم أن ميكيافيللي عُدّ واضعاً للُأسس في فن السياسة، وهو إيطالي ـ وقد جاء ترسيخ نبذ القيم المثالية في الأخلاق عند وليم جيمس وجون ديوي هناك، ثم إيجاد الأرضية الصالحة للتطبيق في أميركا، لتصبح رمزاً للشر في هذا العالم انطلاقاً من النصف الثاني للقرن العشرين، ولتكون قاعدة للسلوك البراغماتي واستعباد البشر ونظرية القوة المتصلة بالمنفعة الذاتية المطلقة من دون اعتبار لمصالح الآخرين، تماماً في اتجاه معاكس للنبوّات وأفكار الأديان السماوية.
لقد كان الرسول والأئمة قدوةً في سلوك الغيرية، بذلوا في سبيل الآخرين كلّ ما يمتلكون (أحياناً)، وظلوا الأبرز على صعيد النظرية والتطبيق لعلم الأخلاق ضمن رموز الصفوة الإنسانية على مرّ العصور. ويعدّ الإسلام وسلوك المرتبطين به من العظام من رموزه، الذين تمثلوا الايديولوجيا مثالًا ساطعاً على النظرية والتطبيق بالتلازم، ولولا ذلك لما أتيح لهذا الدين أن يكتسب الخلود والانتشار واقتحام المستقبل، الأمر الذي يخيف ـ حقيقة ـ حاملي دين النخب المهيمنة في العالم (المسيحية السياسية، واليهودية الصهيونية)، الذين وضعوا الإسلام في قائمة الأهداف المطلوب تحطيمها وتدميرها أيديولوجياً واجتماعياً، تحت خانة الإرهاب.
معلوم أنّ هناك نهوضاً إسلامياً يحمل على كاهله ـ على اختلاف المشارب ـ مهمة محاربة النخب المهيمنة ـ تلك ـ على العالم، من خلال طرح المبادى والقيم الاجتماعية الكبرى وبالتلازم مع الكفاح المسلح، في مواجهة البراغماتية المسيطرة.
إن من أبرز مظاهر السلوك العاقل، أيضاً، كما ورد عن الإمام الرابع علي بن الحسين (عليه السلام)، مجالسة الصالحين والعلماء والاقتباس من أدبهم وتجاربهم في الحياة، ثم طاعة ولاة العدل.
لقد وردت هذه الفقرة في خاتمة حديث الإمام الكاظم (عليه السلام): إن طاعة ولاة العدل في فعل التعقل يقابلها حكماً عصيان ولاة الظلم في هذا السلوك، ليبدأ عكس ذلك في تصنيف السلوك غير العاقل؛ أي طاعة ولاة الظلم والاغتصاب. إنّه مبدأ عام تشريعي ليس له علاقة بنظرية التقية، فهو تلخيص مكثف لنظرية مدرسة أهل البيت
________________________________________

[الصفحة - 320]


السياسية، وقد وردت هنا بالشكل الإيجابي (الطاعة)، وليس السلبي (المعصية) عاكسة بجلاء طبيعة عصر الإمام الرابع وأسلوبه في العمل والتنظير.
ولكن لماذا وضع الكاظم (سلام الله عليه) هذه المقولة في خانة السلوك العاقل؟ بينما وضعها زين العابدين (عليه السلام)في خانة «تمام العزّ». الكاظم (عليه السلام)يعقلن المقولة وعلي زين العابدين (عليه السلام)يسيّسها، والفارق في الحالتين طفيف ومع ذلك مهمّ.
تعزيز العدل ودعم الحاكم العادل صفة المجتمع الصالح والراقي اجتماعياً، وداعياً للتقدم والسعادة للمحكومين، والعدل هدف أساسي من أهداف الجمهورية الفاضلة، وقمة القيم الأخلاقية وصلب علم الأخلاق. هذا المفهوم يرتبط بمطلقات هذا العلم، بؤرة التبشير الأخلاقي عبر العصور وبؤرة الأخلاق العملية، وعنوان للسلوك الإنساني الصحيح. وهو في الايديولوجيا الإسلامية فرض إنساني شامل: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالِإحْسَانِ...} [النحل/90]و {إِنَّا خَلَقْنَاكُم من ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ} [الحجرات/13].
وفي علم كلام مدرسة أهل البيت يأتي مفهوم العدل الإلهي في البشرية، وفي التطبيق الاجتماعي على الأرض بين الناس، قمة جدل هذه المدرسة الكلامي. وقد ورد في الفلسفات الأوروبية الحديثة ـ وبخاصَّة لدى كانط ـ سنداً رئيسياً للفعل الأخلاقي العاقل... (أن تعامل الآخر كما تعامل الإنسانية في ذاتك): «أنه مبدأ فعلي، وبالتالي الفعل الذي أقوم به تبعاً لهذا المبدأ إنما يكون أخلاقياً من حالة واحدة، وواحدة فحسب، هي أن أراني قادراً على أن أريد له أن يكون قانوناً كلياً» (36)، أي يشمل الإنسانية كلها، فالعدالة قيمة مطلقة لا تتجزأ وتطبق إسلامياً على العدو والصديق معاً «فهي ليست نسبية» ويدخل فيها عملياً «قانون التعامل بالمثل» الشهير. ومع ذلك فقد أورد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) حديثاً عن منهج السلوك الأخلاقي العاقل للمسلم قائلًا: «لا تخن من خانك» في ترسيخ لمبدأ أساسي، وهو أن لا ينحدر المسلم ـ حتى ضمن مبدأ التعامل بالمثل ـ إلى درك تحطيم القيم الأخلاقية الكبرى التي أقرّها الإسلام.
ضمن ملامح عصر الإمام الكاظم (عليه السلام)اقتضاء السلوك العاقل عصيان ولاة
________________________________________
(36)عمانوئيل كانط، نقد العقل العملي، ترجمة محمد سلامة، دار الكتب العلمي، بيروت: 1984، ص 112.

[الصفحة - 321]


الظلم، ولم يدرج الإمام هذه القضيَّة، بهذا النص، في حديثه ليكتفي بعكسها إكمالًا لنظريته في منهجه العقلي، حتى يتعدَّى التنظير السياسي المباشر، أو بالأحرى التحريض على ولاة الظلم، والذي كان له مكان آخر في أحاديثه المنقولة عنه في الكافي أو غيره، تأييداً لمقولة: إن في العدل السياسي خلود الدول والعهود، وفي الظلم خرابها. وتلك حقيقة تؤشر عبر التاريخ إلى المنهج العقلي.
ويستكمل الإمام الكاظم (عليه السلام)عن الإمام زين العابدين ثلاثية عقلانية تكمل الإحاطة بصفات عصره، وهي: استثمار المال، إرشاد المستشير وكفّ الأذى.
هذه الثلاثية الاقتصادية الاجتماعية تفتح الآفاق على مناقشة جوانب من نظرية مدرسة أهل البيت بعامَّة، وتسلط الضوء على أفكارٍ للإمام الرابع (عليه السلام)بخاصَّة، وهو الذي عرف عنه استثمار الأموال ـ كما أسلفنا ـ في أنواع من التجارة، بل لعلّه الوحيد بين الأئمة في ممارسته لذلك.
إنّ مناقشة الجانب الاقتصادي من زاوية العقلنة لا يمكن اختزاله في بحثنا وإيفاءه حقه، ولمعرفة أنّه يحتل أهمية بالغة في النظرية الاجتماعية لمدرسة أهل البيت، يمكن الرجوع إلى أبحاث متميزة للسيد الشهيد محمد باقر الصدر في كتابيه اقتصادنا، والبنك اللاربوي في الإسلام (37).
المثير للاهتمام، في المنهج العقلي هنا، هو تصنيف السلوك الإيجابي للإنسان ضمن السلوك المتَّصف بالعقلانية. فإرشاد المستشير، وكذلك كف الأذى هما سلوكان أخلاقيان إيجابيان. فمن خلال استعراض مجمل الحديث نجد أنه يقدم نوعي السلوك العقلاني السلبي والإيجابي في إطار واحد، وفيهما السلوك الأخلاقي الإيجابي والسلبي، والعقلاني المحض الإيجابي والسلبي. فالصمت، والوحدة، والاعتزال، على سبيل المثال، لا الحصر، عقلية سلبية، والامتناع عن الأذى، أو كف الأذى بالامتناع عنه، والامتناع عن الكذب أخلاق سلبية، بينما إسداء النصيحة والمشورة، وقول الصدق (موقف مباشر)، وتحقيق العدالة أو الإعانة عليها عمل أخلاقي إيجابي، وقد يصنّف في العمل العقلي، إلّا إذا قبلنا نظرية: إنّ كل عمل أخلاقي هو عمل عقلاني، وتلك مقولة لا تتسم دائماً بالدقة، فالصدق (المشار إليه)
________________________________________
(37)زهير غزاوي، النظرية الاقتصادية لدى الإمام الصدر (البنك اللاربوي في الإسلام) مجلة النور، لندن: العدد 1996.

[الصفحة- 322]


مثلًا قد لا يتسم بالعقلانية في بعض الأحيان والظروف، والتقية المنبثقة من التعقل قد تعاكس الأخلاق في كثير من الأحيان، وحتى الإيجابية في السلوك الاجتماعي، بوصفها فعلًا أخلاقيّاً قد تأتي معاكسة للتعقل إذا أدّت للاستغلال الإنساني ـ وبخاصَّة في عملية الاستثمار المالي ـ الذي ترفضه القيم الأخلاقية المتصلة بالعدالة، والتي عالجتها نصوص كثيرة في السنة النبوية.
وفي الواقع، تظل الإيجابية في السلوك على الصعيد الاجتماعي أكثر أخلاقية دائماً، وقد مدحتها السنّة النبوية في حديث رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم): «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه [والعملان إيجابيان] فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». وأضعف الإيمان يقلّ في القيمة كثيراً عما سبقه في الإيجابية (الشجاعة). بل إن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) يقول: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»، ويقول أيضاً: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» وهو يفسّر دائماً برفضه طاعة ولاة الأمر إذا لوحظ لديهم مخالفة لأي من تعاليم الإسلام الأساسية، ويقول: «المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف». طبعاً القوي بالموقف الإيجابي وليس بجسده وصحته، المؤمن القادر على قول كلمة الحق، الذي يغيّر المنكر بيده، والذي يقدم النصيحة، ويكفّ الأذى ويساعد أو يعزز إحقاق العدالة بدعم ولاة العدل ومساندتهم ومحاربة ولاة الظلم.
الموقف الأخلاقي الإيجابي تحديداً هو موقف السلوك الظاهر الذي يتم التقييم على أساسه، واستناداً إلى الايديولوجيا الإسلامية، فهو الموقف المعزز أيضاً بالنيَّة أو القصد. وهو الموقف الذي تتفق عليه المذاهب الأخلاقية الإنسانية جميعها ـ حتى البراغماتي المنفعي باعتباره يحقق ذات الإنسان على الأقل ـ، فالسلوك الأخلاقي الإيجابي (وهو يتسم بالعلنية غالباً) يقف دائماً في الذروة من التقييم الأخلاقي ـ وفي اعتقادنا أنّه صفة الإنسان المناضل الذي يستحق الخلود تاريخياً ـ لأنه غالباً ما يكلّف سالكه دفع ثمن باهظ (بما في ذلك حياته نفسها أحياناً)، والمناضلون، أمثال هذا الإنسان، هم الذين يصنعون التاريخ الإنساني أو يشكّلون منعطفاته المهمَّة، ومنهم الأنبياء والمفكرون الكبار. وكان الأئمة (عليهم السلام)من أصحاب هذا السلوك الإيجابي العقلاني والأخلاقي معاً، حتى عندما رفضوا «قيادة» الثورة ضد السلطة العباسية الظالمة.
________________________________________

[الصفحة - 323]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف