البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

العقل والعقلانية في القرآن الكريم

الباحث :  الشيخ علي بيضون
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  28
السنة :  السنة السابعة شتاء 1423هجـ 2003 م
تاريخ إضافة البحث :  February / 18 / 2015
عدد زيارات البحث :  1729

العقل والعقلانية في القرآن الكريم

الشيخ علي بيضون (*)

تمهيــــد
من خلال التأمُّل في كتاب الله الكريم، نجده يتناول العقل كأنه أمير بيده أزمَّة أمور الهداية والهلاك، يرأس مملكة واسعة تعمل في خدمته، وهو يعمل من خلالها وبوساطتها. كل منهما بحاجة إلى الآخر، لكنه هو الأساس والأصل، فالفطرة والحواس والقلب... جميعها أعوان له، فإن استعمل الإنسان هذا العقل فاز ونجا، وإلَّا هلك وتهاوى في الخسارة الأبدية.
يقوم العقل بإدراك نفسه أوَّلًا، ثم يدرك الحقائق والقواعد المنطقية، ويحدِّد الخير والشر والحق والباطل، لذلك فهو عقل عملي فعَّال، ثم يدرك العالم الخارجي من المحسوسات، وذلك بوساطة الحواس التي تشكل أحد أعوانه، ثم يدرك «اللامرئي» من المشاعر والأحاسيس والمعاني الباطنية عبر القلب. وإن نظرنا إلى الموضوع من زاوية ثانيةٍ، نرى أن أفعال الإنسان معلولة ومسبَّبة عن هذه المركزية العقلية، فكل ما يصدر سوف يتأثر بها.
إنّ التأمّل، مليّاً، في هذه الآيات المباركة، يمنحنا وعياً بنوع النظرة القرآنية للعقل (1)قال تعالى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ}[البقرة/171].
________________________________________
(*)باحث من الحوزة العلمية، من لبنان
(1)«لو تتبعنا القرآن الكريم لوجدنا فيه أكثر من ثلاثمئة آية تتضمن دعوة الناس إلى التفكُّر أو التذكُّر أو التعقُّل أو تلقن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم)الحجة لإثبات حق أو لإبطال باطل... ولم يأمر الله تعالى عباده في كتابه ولا في آية واحدة أن يؤمنوا به أو بشيء مما هو من عنده أو يسلكوا سبيلًا على العمياء وهم لا يشعرون، حتى أنه علل الشرائع والأحكام التي جعلها لهم مما لا سبيل للعقل إلى تفاصيل ملاكاته بأمور تجري مجرى الاحتجاجات...»، العلامة الطباطبائي، تفسير الميزان، 6/255.

[الصفحة - 301]


{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ} [يونس/42].
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الَأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الَأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج/46].
{لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر/14].
فقد بيّنت الآية الأولى، من خلال التشبيه، أو بيان الحقيقة، الذين كفروا بأنهم كمن ينعق بما لا يسمع إلَّا دعاء ونداء، ثم عقّبت بالحكم عليهم بأنهم صمّ بكم عمي، فهم كمسلوب الحواس الرئيسية الثلاث، ثم رتَّبت النتيجة على ذلك بأنهم غير عاقلين، فهم مسلوبو العقل بسبب عدم سمعهم وخرسهم وعماهم.
وهذا التصوير يوضح لنا أن نظرة القرآن للعقل ترى فيه المركزية القابعة في الوسط.
كما أن الآية الأخيرة توضح أن السبب في تشتُّت قلوبهم وتفرُّقهم هو عدم عقلانيَّتهم، فهي تبرز تأثير العقل على فعل الإنسان وواقعه، وسوف نستعرض بقية الآيات في ما يأتي إن شاء الله.
ويتضح، من هذه الآيات، أن السُّفهاء لم يسلبوا في الحقيقة السَّمع ولا البصر ولا القدرة على الكلام، وإنما ذلك تشبيه لحالهم من العناد وعدم الإصغاء للحقيقة بأنهم صمٌّ بكم عمي فهم لا يعقلون، والحال أن سبب عدم فهمهم هو عنادهم ومشكلتهم النفسية واتباعهم الشهوات، كما سيأتي بيانه في استعراض أسباب عدم الفهم والعقل. ومع ملاحظة ذلك يصير المعنى أعمق بكثير؛ ذلك أن هذه الآيات وأمثالها، بحسب التشبيه المجازي الوارد فيها، تبيِّن جانباً من العلاقة القائمة بين العقل والحواس، ومن جهة ثانية ـ بلحاظ حقيقة المشبَّه ـ تبيِّن أن عدم عقلانيتهم إنما هو بسبب عنادهم واتّباعهم الدُّنيا، وتوضح الربط الآخر القائم بين عدم العقل والسلوك الإنساني أو بين عدم العقل واتباع الهوى والدُّنيا.
وبهذا البيان يتَّضح حال الآيات الأخرى وكيفية دلالتها على ما نحن فيه، كما
________________________________________

[الصفحة - 302]


يتَّضح لنا أنَّ العقل بالمنظار القرآني آلة ووسيلة تنسب إلى الإنسان نفسه، يستفيد منه تارة فيصل إلى الكمال، ويهمله أخرى فيخسر وينحرف ويضل.
وعلى ذلك، نستطيع القول: إن القرآن الكريم أَوْلى اهتماماً كبيراً لبيان حقيقة العقل ومراتبه وكيفية تأثُّره وتأثيره، ولكن عبر اهتمامه بالعقل العملي، وهو العقل القابل للتطوُّر والاشتداد والترقي، الذي يؤدِّي إلى إدراك الحق الواجب اتباعه، وإدراك الباطل اللازم اجتنابه، فالعقل في القرآن يمثل الجانب التطبيقي في الوعي الإنساني، وهذا لا يعني إهمال العقل بوصفه مملكة للتفكير قبال الوهم والخيال، كما لا يعني إهمال المدركات الأولية للعقل، كيف والقرآن من خلال محاجّته مع الكفار والمنافقين وجميع البشر إنما يرتكز على العقل بوصفه آلة إدراكية عامَّة يشترك فيها الجميع وتكون حجَّة على الناس بلا تفاوت.
ولنا أن ندَّعي أن الكتاب الكريم قد عالج جوانب كثيرة أبرزها:
يوضح القرآن الكريم، أوَّلًا، أهمية العقل، فيمتدح العقلنة والفهم والتفكير، ثم يبيِّن علامات العقلانية عند الإنسان، ثم يوضح مخاطر السَّفه وعدم الفهم، ويذم الجهل والجهلاء، ويبين الآثار الناتجة عن عدم العقلانية، من خلال بيان علامات تركها.
ويبيِّن القرآن الكريم، ثانياً، ضرورة الاعتماد على العلم وإناطة المعرفة بالدَّليل في المساحة المعرفية للإنسان كلِّها، فيوضح مخاطر متابعة الظن والشك، وأنهما يبعدان الإنسان عن الحق والواقع.
ويعرّج، ثالثاً، على مراتب العقلانية، ليشرح، رابعاً، الأسباب التي تقوّي العقل وتربّيه وتعضده سواء من داخل الإنسان أم من خارجه، وفي ذلك يؤكِّد القرآن على تهذيب النفس، ويبين من ثمّ وجود حلقة ثلاثية تربط العقل والنفس والعمل، ليصير كل منها مؤثراً على الآخر، ويجمع بذلك المنطق القرآني، خامساً، بين البرهان والوجدان.
أهميَّـة العقل ومخاطر السَّفه
اهتم القرآن الكريم ببيان طرق العقل وكيفية تحقيقه عملياً؛ وذلك من خلال توجيهه وهدايته إلى كمال رشده، فقد حدّد المؤثرات الداخلية ضمن التكوين الذاتي
________________________________________

[الصفحة - 303]


في الإنسان سواء فيها غلبة الحس أم الخيال أم الأوهام أم الاعتبار والتساهل العلمي، وكذا تأثير النفس على العقل العملي وسائر الطبائع والملكات، كما بيَّن العديد من المحرَّمات والمهلكات التي توجب بعد الإنسان عن العقلانية الواقعية، سواء الظاهرية أم الباطنية ـ الفكرية أم الاعتقادية ـ النظرية أم العملية ـ العبادية أم الاجتماعية: الفردية أو الجماعية.
أ ـ فقد بيَّن القرآن الكريم أن العقلنة والفهم متوقِّفان على العلم بوصفه شرطاً أساساً {وَتِلْكَ الَأمْثَالُ نَضْرِبُهَا للنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت/43]وكذا قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الَأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الَأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج/46].
ب ـ كما بيَّن تأثير العقلانية على الخارج في حركة تفاعلية من الداخل إلى الخارج {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة/58]وكذا {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة/103]وكذا قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَللدَّارِ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام/32].
ج ـ وقد ركّز القرآن، أيضاً، على عنصر اتكال الإنسان على أمور خارجية رأى فيها إضعافاً للعقل، ولذلك ذمّها، كما في قوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة/100]وكذا {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البقرة/243]وكذا {وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ} [آل عمران/110]وكذا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة/105]. وغير ذلك مما ينبه العقل بأن عليك أن تعمل طبقاً للدليل والعلم من دون التأثُّر بغيرك.
ولأجل ذلك نهى القرآن الكريم عن اتباع الظن كقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء/36]، وقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [النجم/28]وكذلك قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنَّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} ، وركّز في المقابل على العلم بوصفه ميزاناً للمعرفة، فقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا}
________________________________________

[الصفحة - 304]


{قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً»} [النساء/157]، وكذلك {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ الله مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام/148].
هـ ـ وكذلك بيّن ضرورة التفكُّر والاعتبار كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أنَّ الله أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الَأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأولِي الَألْبَابِ} [الزمر/21]وكذا {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالَأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لُأولِي الَألْبَابِ} [آل عمران/190].
و ـ وكذلك ضرورة التهجُّد والعبادة والخشوع والتَّضرُّع مقدمةً لتفتُّح لبِّ الإنسان وفهمه، كقوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الَألْبَابِ} [الزمر/9].
ز ـ وقرّع عدم العقل، وعدم التعقل من دون جعل علامة له، كقوله تعالى: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ الله الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال/22].
ح ـ كما بيّن أسباب عدم الفهم كالنفاق والظلم، كقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[المنافقون/8]، وكذا {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الطور/47]، وكذلك طول الأمل {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الَأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر/3]وغيرها...
ط ـ وقد شرح القرآن الكريم الأسباب التي تقوِّي العقل وتربِّيه وتعضده، سواء من داخل الإنسان أم من خارجه، فهناك العديد من الآيات القرآنية التي تولَّت تفعيل حركة التعقُّل لدى الإنسان؛ وذلك بتسهيل الطريق أمامه وفتح آفاق المعرفة والتَّذكير بعواقب الأمور، فمن ذلك قوله تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة/73]وكذلك {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة/242]وكذا{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام/151]وكذا {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ}
________________________________________

[الصفحة - 305]


{تَعْقِلُونَ»} [يوسف/2]وكذا {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل/44]وكذلك {يسألونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة/219]، وكذلك قوله تعالى: {وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات/138]وكذلك قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الَأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم/24]. قوله تعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام/151].
ي ـ كما أفاد القرآن الكريم، في نصوصه، أن النظام التكويني غايته العقل {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَة ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمّىً وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر/67].
كما أن هناك علامات كثيرة لعدم العقل، مثل السخرية من الصلاة أو الاهتمام بالحياة الدنيا لذاتها واللعب واللهو، وكذلك الكفر والافتراء على الله، وأيضاً عدم الاهتمام بالوحي وتضييع تعاليمه وعدم إقامة الصلاة، وكذلك فعل المحرمات وترك الواجبات بشكل عام، وهي آيات كثيرة تربط بين هذه الأفعال والأمور المتروكة وبين تأثيرها على العقلانية والعقل والفهم الإنساني.
فقد قال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الَأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى الله إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
ومن هذا البيان يتضح لنا جلياً الفرق بين العلم في النَّظرية القرآنية وبينه في ثقافتنا المتداولة، فنحن قد نكتفي في تصويرنا العقلانية بتحصيل العلم نظرياً، ولكن القرآن يُدخل مفهوم العقل العملي في العقلانية، ولا يهمِّش تأثير النفس في تشكُّل
________________________________________

[الصفحة - 306]


الرؤى والمناهج والأيديولوجيات.. ولذا فإن للنَّفس أثراً في طبيعة هكذا علم، ومنه يقال: إن كلًّا من الاجتهاد ومنصب الإفتاء ملكة قدسيَّة وكذلك الحكم القضائي، وأشد منهما منصب الولاية العامة للفقيه، والقرآن لا يهمِّش حركة النفس وتأثيرها على حياة المكلَّف وعموم الوجود الإنساني، وذلك لاهتمامه بالأثر العملي والتطبيقي، ومنه نعلم أن المنظومة الفكرية الدينية إنما يتم توسعها طبق مقياس خاص ومعادلة دقيقة جداً، وذلك على قاعدة تطوُّر الوجود الإنساني كلِّه، فلا يكتفي بالظاهر على حساب الباطن ولا العكس، ولا بالنظريات على حساب العمل ولا العكس، ولا بالتهجُّد على حساب التفكر ولا العكس، ولا بالعزلة على حساب الحياة الاجتماعية والكسب والمعاشرة ولا العكس... وفي ذلك كله يرى القرآن ضرورة مراعاة الأهم فالأهم والاستفادة من الأعلى فالأعلى.
وقد ورد، في الدُّعاء المأثور، عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم): «اللّهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع» (2)، والتعوُّذ يكون عادة من الشرّ لا من الخير، والحال أن العلم هو علم، وهو خير بالطبع، ولكن بما أن الشَّريعة تنظر إلى الواقع البشري العملي، فطبقاً لأولويات هذا الواقع، يصير تضييع العمر بغير الأنفع خسارة وهباءً، فيكون بمنزلة الشر النِّسبي حينئذ.
مراتب العقلانية
للعقل مراتب مختلفة تبدأ بالمستوى الفطري المعتمد على الأسس البديهية والوجدان، وبه تتم المحاجَّة مع أبناء البشر بعامَّة، كما في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} [يوسف/108]، وكذلك قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيةً مَكَانَ آيةٍ وَالُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل/101]، فإن عدم العلم هنا هو عدم العلم النظري كما سيأتي توضيحه إن شاء الله، وبه يتم إدراك المبادى التصورية والتصديقية وهيآت القياس وموادّه الأوَّلية، وهو المعبَّر عنه بمرحلة التفكير المنطقي عند أبناء البشر، ثم يترقَّى بسبب توسُّع دائرة علومه، فيعود العقل ثانية يستفيد ممَّا علمه في المرحلة الأولى ليوظّفه آلياً في استكشافاته اللاحقة، ومن هنا نجد أن القرآن
________________________________________
(2)العلامة الطباطبائي، سنن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم)، ص 362.

[الصفحة - 307]


الكريم يركز على اتباع الأحسن والأقوم، فللعقل إدراكات متعددة وكله حسن وقويم، وعلى الإنسان أن يتبع الحق والصراط المستقيم الذي لا عوج فيه ولا ضعف، ومسألة التركيز على التراتبية للعقل تعد من امتيازات الدين الإسلامي كأساس أولي وأصل أصيل يدخل في تشريعاته وأحكامه جميعها، وقد قال الله سبحانه في محكم كتابه: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ الله وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الَألْبَابِ} [الزمر/18]، {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِ وَهُوَ مُحْسنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنيفاً وَاتَّخَذَ الله إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء/125]، {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة/121]، {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل/125]، {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلِإنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} [الإسراء/53]فإن هذه الآيات الكريمة وأمثالها توضح فكرة مهمة جداً، فالقرآن يريد أن يقول للناس: إن في الوجود حقائق متفاوتة، والحال أنها جميعها حقائق وواقع، فاتباع أحسن القول وأفضل الشرائع والأديان، والجزاء بأحسن ما كانوا يعملون، والتمحيص والبلاء لأجل إظهار أفضل الأعمال وأجودها، والمجادلة مع الكفار وأهل الضلال بأفضل كيفية وأحسن أسلوب يضمن هدايتهم وإنقاذهم من الباطل، ثم التَّعوُّد على القول الأحسن والأكثر ليناً في مقام الخطاب، ومتابعة أحسن الآلهة ـ وذلك حسب رؤيتهم وشركهم، فإن الله سبحانه وتعالى هو أحسن الخالقين بالقياس إلى سائر الأرباب التي افترضوها. أما في الواقع فإن الله سبحانه وتعالى في نهاية السلسلة والواقعية وهو الخالق الحقيقي وكل الأسباب معدَّات غير مستقلة ـ وكذلك إتباع أحسن ما أنزل على قلب الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) والحال أن الشريعة كلها خير وحسن، وكلها قد نزلت على قلب الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم)، ومع ذلك علينا أن نتبع أحسنه وأكمله ولا نكتفي بالمباحات وعدم المعصية فقط، وهناك بعد آخر من التراتبية وهو الخلقة التكوينية في أحسن تقويم وفي أتم تصميم...
ذلك كله يوضح أن هناك مراتب تبدأ من الأعلى إلى الأسفل، والحال أن هذه المراتب جميعها هي حسن وكمال وواقع وحقيقة، ولكن بينها تفاوت من حيث
________________________________________

[الصفحة - 308]


الشدَّة والشرف، ومن حيث أثرها على حركة الإنسان إلى الله تعالى والقرب منه، والله سبحانه وتعالى يأمرنا بأن لا نكتفي بالمراتب العادية من الجودة والحسن، وإنما علينا أن نبذل جهودنا جميعها لنيل أفضل المراتب والتحقق بأحسن واقعية ممكنة لنا، حسب استعدادنا وحسب الطاقة التي وضعها الله فينا.
وهذا النَّوع من التفكير هو الذي يرمي إليه القرآن الكريم في توجيه الناس ودعوتهم إلى التَّفكير السليم والعقلانية الحقة، والحال أن القرآن نفسه هو الذي بيَّن الحسن والأحسن. وهذا الأصل المهم له تطبيقات كثيرة في الشريعة الإسلامية، ولعله يمثل النظام التربوي الأكمل للدين الإسلامي، فإن الإنسان يخلق مفطوراً على العقل والتفكير، وما يميزه من سائر المخلوقات هو عقله ونفسه الناطقة المفكرة، ولكن هذا العقل يتفاوت شدة وضعفاً، فالطفل عاقل والمميز عاقل والفتى عاقل والبالغ الرشيد عاقل وكذا الشاب القوي، ثم لو بلغ أربعين سنة فهو عاقل وكذلك في عام الستين ثم الكهل والشيخ... ولا يمكن أن نسلب العقل عن الإنسان في أيٍّ من هذه المراحل الإنسانية التي هي من ذاتياته، إذ هو ذو نفس ناطقة وعقل دائماً، ولكن من الواضح أن هناك تفاوتاً في شدة العقل وضعفه وخبرته وتربيته وتعليمه وسرعة بداهته وقوة حدسه وعمق تفكيره واعتياده على التفكُّر والتأمل وحل المشكلات الصعبة وما شاكل ذلك، وعلى ذلك فما هو الذي يتبدل ويتغير عند الإنسان بحيث يوجب ازدياد التعقل واشتداد العقلانية؟ لماذا أكثر الناس يقتصرون على العقل الأدنى وآخرون يطلبون أعلى المراتب وبعضهم يكتفي بالمراتب المتوسطة؟
وفي مقام الجواب يمكن أن نقول: إن السبب في اكتفاء الإنسان بالمرتبة الدُّنيا من العقل هو جهله بعاقبة الأمور وعدم علمه بما يفوته من الخير، فتقنع نفسه بالمستوى الذي يعلم ويلمس.
وهذا الجواب صحيح، ولكنه لا يسوِّغ المساحة الواسعة التي يتخلف فيها الإنسان عن طلبه للمراتب الأعلى من التعقُّل، بداهة أن الإنسان في كثير من الحالات يعرف الأمور والعواقب ولكنه يتلكأ ولا يقدم، وذلك إما لصعوبة تحصيل المراتب العليا لما تحتاجه من صبر وتضحية وثبات أو عناداً، وبخاصَّة أننا افترضنا أنه يعرف الصلاح واقعاً ولكنه لا يقدم عليه، وإما لمانع يمنعه عن بلوغ ذلك، والجواب التام هو الآتي:
________________________________________

[الصفحة - 309]


إن مسألة تفاوت العقلانية بين شخص وآخر، أو أمة وأخرى، أو زمن وآخر.. أو بين حال نفس الإنسان بالنسبة لحاله الأخرى.. ذلك كله يخضع لمعادلة فنية دقيقة، ولا يمكن أن نرجى تخلف «الفرد أو المجتمع أو الحضارة» إلى عوامل غيبيّة خارجة بتمامها عن دائرة تكليفنا، وهذا ما يعبر عنه القرآن الكريم بقانون الهداية والضلال أو الإضلال، يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم: {في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة/10]، {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف/13]، وغير ذلك كثير في الكتاب العزيز.
فالإنسان مخلوق منظّم تنظيماً أولياً على عدة أمور: عقلية، وجدانية قلبية، خيالية... وهو ما نعبِّر عنه بالفطرة الأولى، فكل عقول بني آدم تفكِّر بالطريقة نفسها، فلم نجد أحداً يفكر (غير مجنون) ويؤمن بإمكانية اجتماع النقيضين، أو يحب الشر لنفسه أو يأنس بإحراق نفسه، أو يلتذ بالعطش، أو يكره الكمال، أو يرى أن مجموع واحد وواحد يساوي ثلاثة... والفطرة مساحتها واسعة تشمل العقل الأولي النظري والعملي، كما تشمل قلب الإنسان ووجدانه، وكذلك تشمل نفسه وذاته، وكذلك تشمل غريزته ثم خياله ووهمه وغير ذلك، نعم الفطرة في كل قسم تمثل نوعاً خاصاً من الواقعية، فلا يمكن أن نجعل كاشفية ما نشعر به في حدود غرائزنا أو خيالنا بنفس القوة والحكاية عن الواقع الذي نلمسه من مدركاتنا العقلية أو الوجدانية، وهذا موكول إلى محله يبحث عنه مفصلًا في نظرية المعرفة.
وعليه، فالجواب عن سؤالنا السالف (كيفية تفاوت العقلانية من خلال مراتبها الطولية) يكمن في أن العقل «العملي» المنهجي، المتأثر بالواقع والمؤثر فيه، هذا العقل غير منفصل عن وجود الإنسان وعن نفسه وذاته وخياله ووهمه، ولأجل ذلك اهتم القرآن بتربية النفس وتهذيبها {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}[الأعلى/14]، وكذلك {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس/10]، ومنه يتضح معنى قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالَأرْضَ لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الْحَمْدُ لِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [لقمان/25]، فإن العلم الأول نظري والثاني عملي اعتقادي، وكذا قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ}
________________________________________

[الصفحة - 310]


{العَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت/41]، والحال أن جميع الناس يعرفون أن أوهن البيوت هو بيت العنكبوت، ولكن نظر القرآن في تقريعهم إلى جانب العقلانية العملية، وهذه الرؤية الخاصة للعقلانية هي التي تجعل القرآن يؤاخذهم على عدم العلم، والحال أن الإنسان ينبغي أن لا يؤاخذ إلا على ما يعلم كيف، والتكليف شرطه العلم، ولكن القرآن يرى أن حالة عدم العلم ترجع إلى مسؤولية الإنسان في المرتبة السابقة لأنه تخلَّى عن وجدانه وفطرته، يقول الله، سبحانه، في كتابه الكريم{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَالِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} [النحل/56].
وهذا التحليل السابق إنما يوضح لنا الترابط المعرفي بين النفس والعقل، ولكن هناك ترابط وجودي أقوى من ذلك يمثل خلفية هذا الربط المعرفي، وذلك من جهة أن حقيقة النفس والعقل المجرَّدتان (مع تفاوت خاص في نسبة التجرد) هو ما تقوم به واقعية التأثير والتأثر، ولعل منه قوله تعالى:{إن الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد/11]، فجعلت الآية التغيير العملي متفرِّعاً على النفس، وهذا عام يشمل العقل ولكن من جهته العملية لا النظرية. أما من الناحية النظرية التي تحاكي الفطرة الأولى، فقد عبرت الآية {فِطْرَة الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم/30]. والفطرة هنا تمثل التشفير الأوَّلي في البنية الإنسانية من وجدان وعقل نظري، وهي حاكمة على النفس ومقدمة عليها ولا يمكن لسلطة النفس أن تحجب هذه الفطرة، أما العقل المدرَّب العلمي الذي يخوض التجارب في الحياة وتزداد مدركاته على الدوام فإنه يبقى متأثراً بالنفس وحالاتها.
وهنا أرى ضرورة لفت نظر القارى العزيز إلى أن هذا المبدأ يختلف بطبيعته عن حكمة الإشراق أو التصوُّف وسائر المدارس الباطنية، كما أنه أعم من العلم اللدنّي والإلهام الذاتي، وإنما هو الحقيقة الواقعية الواسعة الشاملة للجميع، والتي تحكم كل المساحة الوجودية للإنسان من العقل والنقل والشهود وتربية النفس والخيال والوهم، فكل من يلتزم بالمراقبة والمجاهدة سوف يصل إلى كمالات تلك المجاهدة، فمن سهر الليالي وهو يقرأ ويتعلم كتب الطب، وآثر الدرس على اللعب واللهو فسوف يصير طبيباً حاذقاً بالطبع، ومن صبر وتحمَّل في تمرين نفسه فنياً
________________________________________

[الصفحة - 311]


فسوف يصل إلى أعلى مرتبةٍ من الفن، ومن أمضى لياليه في التهجُّد والتفكُّر والمجاهدة فسوف يتنور قلبه بنور الله ويصير ممتلكاً للأسرار العبادية، وهكذا في السياسة وسائر العلوم الظاهرية والباطنية والنظرية والعملية... وهكذا في دائرة الوجود كلها، وعليه فإن قوله سبحانه وتعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت/69]لهو إرشاد إلى قانون تكويني عام في كل شيء، وتعتمد المدرسة العرفانية على هذا الأصل العام المعبَّر عنه بحقيقة المراقبة العامة التي تمثِّل تطبيق الحق والواقعية على دائرة وجود السالك كلها، سعياً وراء الحق والحقيقة وطلباً لإزاحة الباطل عن وجوده، سواء الباطل الظاهري أم الباطني بلا تفاوت أبداً.
والإسلام يريد أن يربِّي الإنسان تربية عالية جداً، لا يعود معها ما يُخاف من «الأنا»، ولا تعود الذاتية موجبة لحجب الحقيقة والواقعية، بل تصير المرآة الناصعة للواقع، وتصير قوى الخيال والوهم والعقل والنفس منضبطة ومقننة تماماً كما هو الحال عند الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، فمناماتهم حجَّة ووحي، وحدسهم واقع وحقيقة، وخيالهم يحكي عن الواقع بصدق لا تشويش فيه ولا يخلط بين الحقيقة والمجاز، كما أن الفارق بين النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) وبين سائر الأنبياء (عليهم السلام)هو في شدة كماله من هذه الجهة، وهو معنى قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه/114]وكذلك قوله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء/114]وكذلك اختلاف الأنبياء ومراتبهم، وهذا هو الكمال الذي أراده الله تعالى لعباده، وهو الذي قاله أبو عبد الله (عليه السلام)«للحسن الصيقل» حين سأله «عمَّا يروي الناس أن تفكُّر ساعة خير من قيام ليلة، قلت: كيف يتفكر؟ قال (عليه السلام): يمر بالخربة أو بالدار فيقول: أين ساكنوك، أين بانوك، ما لك لا تتكلمين؟» (3). وعن أبي عبد الله (عليه السلام)«قال: كان أكثر عبادة أبي ذر خصلتين: التفكر والاعتبار» (4)، ومن ذلك يتضح لنا معنى ما تمسك به الشيعة الإمامية في اعتقادهم بأنَّ الأئمة الإثني عشر جميعهم مع الحق، كما أن الحق يعرف بهم كما عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) «علي مع الحق والحق معه لا يفترقان حتى يردا علي الحوض» (5)، وكذلك قوله (صلي الله عليه و آله و سلم): «من فارق علياً فقد فارقني، ومن فارقني فقد فارق الله عز وجل» إلى غير ذلك مما هو متظافر ومتواتر ومتكاثر.
________________________________________
(3)الشيخ الكليني، الكافي، 2/54.
(4)الشيخ الصدوق، الخصال، ص 42 وكذا وسائل الشيعة، 15/197.
(5)الشيخ المفيد، المسائل الصاغانية، ص 109، وكذا الشيخ جعفر كاشف الغطاء، كشف الغطاء، ج1، ص 11، الشيخ الصدوق، الخصال، ص 496 و559 وغير ذلك.

[الصفحة - 312]


أمَّا العلم النظري فإنَّه، إن لم يكن في خدمة تنوير الإنسان وتوسعة فهمه، لا ينفع ولا يكون إلا كمن يحفظ «جدولًا للضرب»، أو يحفظ العديد من المصطلحات أو التجارب أو الأخبار التي لا أثر لها على الواقع، ومنه يعلم حرمة بعض الأعمال كالسحر والشعوذة وأمثالهما، مع أن العلم، علم وهو خير مطلقاً.
القرآن وتأثير النَّفس على العقل
هناك عوامل عديدة تتحكَّم في طبيعة الإدراك، وتوجب عدم وضوح الاستكشاف للواقع، والقرآن يقرر أن التفكير والتعقل متأثران، سعةً وضيقاً، وشدةً وضعفاً، بسلامة هذه الوسائل وتحرُّرها من أي تأثير طارى. ويرى القرآن أن المعرفة البشرية ـ سواء المشتركة بين أبناء البشر أم المختصة بكل فرد ـ تحتاج إلى تهذيب دائم من خلال مراقبة كل ما يؤثر على التفكير بوصفه وسيلةً إدراكية، من سلامة الطبع وتسوية النفس، واعتدال المزاج، وعدم الأنانية، وترك الذاتية في التفكير... ذلك كله وأمثاله يؤثر على طبيعة التفكير الإنساني.
وبعبارة جامعة: إن للإنسان عقلًا ونفساً، والقرآن الكريم يرى أن النفس تؤثر في وجود الإنسان كله بما في ذلك العقل، ولا بد للإنسان من أن يهذِّب هذه النفس، وإلا لطغت عليه وأفسدت دنياه وآخرته.
والنفس ليست بالشيء الصغير أبداً، فالنفس فيها العديد من القوى والحالات، وهي ذات مراتب عديدة، كما أن دائرة النفس تغطِّي مساحة وجود صاحبها، فكل ما يصدر منه أو يتفاعل معه أو ينفعل أو يفعل به إنما يمر بالنفس ويخرج منها، سواء كان محسوساً أم معقولًا أم متخيَّلًا، في اليقظة أو النوم، حين الغفلة أو التنبُّه.. فالنفس هي الجانب الحي من الإنسان، وهي التي تعي وليس اليد أو الأنف، وكل الوسائل إنما هي مقدمات مساعدة لتحصيل الوعي عند الإنسان من خلال نفسه، والعقل بوصفه آلة تفكير إنما يقوم بدور الكاشف والرائي والناقل ليحصل العلم بالنفس ويرتفع الجهل عنها لا عنه (6)، وهذه الحقيقة التي نعبر عنها بـ «أصالة النفس»، قد بيَّنها لنا القرآن الكريم بقوله تعالى: {إن الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد/11]كذا {ذلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى}
________________________________________
(6)بحث الفلاسفة والحكماء في هذه المسألة ضمن عنواني «الوجود الذهني» و «اتحاد العاقل والمعقول» أو مباحث النفس بشكل عام، وقد أثبتوا أن هناك نوعاً من الاتحاد بين الوجودين: الذهني والخارجي، كما أثبتوا فيه تجرد النفس وأن علمها بالخارج عن نفسها، يتم بوساطة الاتصال المجرد القائم بين العالم والمعلوم على قاعدة «لا يعلم شيء شيئاً إلا بما هو فيه منه»، فتكون الصور العلمية العارضة على النفس من مراتب النفس نفسها، وهو معنى «إرجاع العلم الحصولي إلى حضوري»، وهو معنى الاتحاد والعينية بين المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض، راجع: صدر المتألهين الشيرازي، الأسفار الأربعة، 1/291.

[الصفحة - 313]


{يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ»} [الأنفال/53]، وكذلك قوله تعالى في وصف حال الكفار،{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد/24]، حيث رأت الآية الكريمة أنَّ سبب عدم تدبُّرهم القرآن هو مرض القلوب.
فالعقلانيَّة، بوصفها إدراكاً معرفياً تراكمياً يتَّصف بالإبداع والوعي وتحمّل المسؤولية، تحتاج ـ إضافة إلى العقل الفطري والوجدان ـ إلى سلامة النفس وسويّتها وتحقيق واقعيتها من خلال نظام دقيق جداً، ولهذا اهتمّ القرآن الكريم بالعقل عملياً أكثر منه نظرياً، بداهة أن العقل النظري (كإدراك أن الكبير أكبر من الصغير، والنقيضين لا يجتمعان، وكل معلول يحتاج إلى علته، وفاقد الشيء لا يعطيه...) وكذا الرياضي الأولى (1+ 1 = 2) وما شابه ذلك، هو على حد العصمة، ولا يختلف فيه العقلاء أبداً.
وعلى هذا الأساس تدرّجت الشريعة في بلاغاتها، فلم تثقل على حديثي العهد بالإسلام الذين لم يتفهَّموا مباني الدِّين جميعها، ولم يحيطوا بأغراض الشارع والشريعة، وعن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم): «إنّا معاشر الأنبياء نكلِّم الناس على قدر عقولهم» (7)، فالنفس لها حالات من إقبال وإدبار وانبساط وانقباض واضطراب وسكون... وذلك كله يؤثر على طريقة الفهم وكيفية تلقِّي المعرفة ومدى رسوخ المعاني فيها، وقد تكون النفس في موقع معين يجعل صاحبه يتقبل الحق ولو على نفسه، وجعله يفهم الأمور بنزاهة وشفافية، والحال أنها قد تنفّر من ذلك الأمر نفسه في حالات أخرى (8)، ولذلك يعدُّ العناد حسب المفهوم القرآني نوعاً من مشاكل النفس: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل/14]، وهذه الآية المباركة لها مدلول مهم جداً بالنسبة لبحثنا، حيث إنها توضح علاقة العقل بالنفس وكيفية تأثيرها عليه، فتبيَّن الآية معادلة دقيقة جداً، تقوم بين اليقين القلبي ـ النفسي ـ وبين الصياغة النظرية العقلية الجدلية عند الإنسان، فحينما يقتنع الإنسان ـ قلبياً ـ وتذعن نفسه لأمر معين، فإن هذا الإذعان يكون مدعاة لتحريك العقل في المرتبة الثانية، فيتولَّد تحرك داخلي، من النفس إلى العقل، ليقوم الثاني بصياغة ما اقتنعت به النفس صياغة عقلانية، ولا فرق بالنسبة لحركة العقل بين كون المطلب حقاً أم باطلًا، فالآية تبيِّن أن الجحود يجتمع مع اليقين النفسي والعلم الوجداني،
________________________________________
(7)المولى محمد صالح المازندراني، شرح أصول الكافي، 1/292.
(8)تعد المداراة أصلًا مهمَّاً في مدرسة السير والسلوك العمليين، فتهذيب النفس والسير إلى الله، سبحانه وتعالى، لا يتم بالقساوة والضغط أو القهر، نعم لا بد من الحزم وعدم الإهمال، ولكن مع الرفق والمداراة، وفي ذلك يذكر آية الله العظمى العلامة الطهراني في كتابه «رسالة لب اللباب في سير وسلوك أولي الألباب»، ضمن الشرح التفصيلي للطريق وكيفية السير إلى الله ما نصّه: «الشرط الثالث: الرفق والمداراة. وهي من أهم الأمور التي ينبغي أن يراعيها السالك إلى الله، بأن أدنى غفلة في هذا الأمر تكون ـ إضافة إلى منعه من السير والترقي ـ سبباً كلياً في انقطاع السفر»، كما يذكر في موضع آخر عن المراقبة ومراتبها: «فكلما سار نحو الكمال وطوى المراحل والمنازل أصبحت مراقبته أدق وأعمق، بحيث لو حملت تلك الدرجات من المراقبة على السالك المبتدى لم يقم بها، بل يترك السلوك فوراً ويهجره أو يحترق ويهلك».

[الصفحة - 314]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف