البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

العقل والإيمان في التعاليم الإسلامية علاقة جدليّة أو إقصاء مزيّف

الباحث :  أ‌.علي رضا شجاعي زند
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  34
السنة :  السنة التاسعة صيف 1425هجـ 2004 م
تاريخ إضافة البحث :  March / 1 / 2015
عدد زيارات البحث :  2538

العقل والإيمان في التعاليم الإسلامية علاقة جدليّة أو إقصاء مزيّف

أ‌.علي رضا شجاعي زند (*)

مدخل
يشارك البشر، عادة، لدى مواجهتهم مقولة الدين، بجميع أبعادهم الوجودية، والتي يشكل كل بُعدٍ منها نافذة مطلّة على شطر من حياتهم، فيضعون ـ في ظل علاقة انجذاب وتعلّق ـ جميع عواطفهم في تنوّر الإيمان الملتهب من جهة، في ما يفتحون دفائن عقولهم وطاقاتهم الذهنية على التعاليم الدينية من جهة أخرى، ليضعوا في نهاية المطاف كلّ إرادتهم وسلوكياتهم تحت تصرّف الأوامر الدينية، لتحرّكهم في الوجهة والمسير.
لقد أشار الباحثون الدينيّون إلى هذه الأبعاد الثلاثة (العواطف ـ الفكر ـ السلوك) في إطار سعيهم إلى عرض حقيقة الدين بصورة أكثر جلاء عن طريق منهج التجزئة وعمليات الفصل بين الأبعاد المختلفة له (الدين)، والقائمة على أساس المديات الوجودية للإنسان المتدين.
وقد كانت إشارتهم هذه غير خالية من التأكيد ـ في سياق بيانهم مصاديق هذه الأبعاد الثلاثةـ على أن أسباب التنوّع القائم في الاعتراف بالدين وكيفية تبنّيه تعود إلى الدور الذي تؤدِّيه مكانة كلّ بعد من هذه الأبعاد المكوّنة له في المكوّن النهائي للدين نفسه.
والأمر الذي يبدو بديهياً هو هذه الحقيقة المنادية بأنه حتى في الأديان الآحادية البعد لا تبلغ الأبعاد الأخرى درجة الصفر أبداً، وبالتالي فلا يمكن الإقرار بهذا الوهم القاضي
________________________________________
(*)باحث من إيران. ترجمة: الشيخ حيدر حب الله

[الصفحة - 208]


بنقص الأديان ذات البعد الواحد حتى ما كان منها على صورة بدائية جداً أو في عزلة وإقصاء، وما يمايز بين دينٍ وآخر، أو بين مرحلةٍ وأخرى، أو بين ظروف وثانية، وما يقبل التنوّع، ليس ضعف الأبعاد الوجودية للإنسان وقوَّتها الذي يواجه انشداداً دينياً، وإنما في القوّة والضعف الحاصلين في تلك الأبعاد بسبب حجم الحاجات الفردية والاجتماعية الإنسانية والاستعدادات الكامنة في ذلك الدين.
ومن هنا، فعندما يقول نيتشه: إن المسيحية دين العمل لا العقيدة (1)، أو عندما يرهن بولس الرسول نجاة المتديّن المسيحي بالإيمان الصرف، ليحرّره من بوتقة العمل ـ الأعم من العمل الخير الحسن أو العمل بالشرائع (2) ـ فإنه لايعني ـ بأي وجه من الوجوه ـ النفي الشامل لبُعد الفكر أو السلوك الموجودين في الدين، وإنما يدلّ على التأكيد الأكبر من جانب الديانة المسيحية ـ وطبقاً لتصوّر هذا القائل ـ على أحد أضلاع هذا المثلث الثلاثي (البُعد) لا أكثر.
ولعل وجود المنحى العملاني المسيحي، أو عدم وجوده على أساس المدعيين المتقدمين المتعارضين بحسب الظاهر، مورد للاختلاف والنقاش، كما هي الحال في الكتاب المقدّس نفسه؛ حيث يلاحظ اختلاف في هذا الصدد بين كلمات بولس ويعقوب (3)، بيد أن نوعاً من التوافق والإجماع قائم على الاهتمام المحدود في الديانة المسيحية بالبعد العقلاني والنظري للإيمان، بل إن الاهتمام الذي أبدته الكنيسة في بعض مراحل تاريخها، تجاه الفلسفة وتقوية البعد العقدي واللاهوتي للمسيحية عن طريق السماح بممارسة تأملات عقلية ونظرية في مضمون الإيمان المسيحي... هذا التوجّه لم يشكل باعثاً للشك في هذه الصورة المأخوذة عن المسيحية، بل ولا على شيوعها واشتهارها.
وقد أخذ الباحثون الدينيون ودارسو المسيحية تصوّراتهم هذه انطلاقاً من القراءة المباشرة لنصوص الكتاب المقدّس، وكذلك دراسات آباء الكنيسة واستنتاجاتهم، بوصفهم أوَّل من تلقّى الرسالة المسيحية إلى الأجيال اللاحقة وفهمها ونقلها، وأيضاً عن طريق مواصلة السعي في المسارات التاريخية والحقبات الزمنية التي استوعبت المواجهات التي حصلت ما بين الكنيسة ومقولات الفكر والمعرفة (4)... وقد وصل هؤلاء الباحثون إلى اعتقادهم هذا مشكّلين نوعاً من الإجماع، رغم اختلافات وقعت بينهم في الاستنتاجات النهائية، وفي تحديد ميزان الدليل على بقاء عنصر الوعي والتفكير مغفولاً عنه في الديانة المسيحية على صعيد تحكيم الإيمان.
ولم تكن الاختلافات، في أوساط الاتجاهات السائدة في الديانة المسيحية، حول العلاقة ما
________________________________________
(1) فردريك ويلهلم نيتشه، الدجّال، ترجمة عبدالعالي دستغيب، طهران، آكاه، 1973م.
(2) أنظر أفسوس 2: 9 و3: 9، وكولوسي 2: 20.
(3) يؤسّس بولس، في الكتاب المقدّس، اتجاهاً في الديانة المسيحية يفصل فيه بين الإيمان والعمل وإطاعة الأوامر الإلهية، ويقابل هذا الاتجاه الإيماني المحض لبولس، يعقوب وإلى حدّ ما بطرس الرسول، حيث يؤكّدان تأكيداً شديداً على العمل والطاعة للأوامر الإلهية.
(4) الحقبة التي عرفت بحقبة آباء الكنيسة، وهي تبدأ من القرن الميلادي الثاني بنهاية عمل آخر الرسل وتَستمّر حتى القرن الخامس، لقد أدّى آباء الكنيسة الذين كانوا في ما بعد واسطة في نقل المسيحية إلى الأجيال اللاحقة... أدّوا دوراً مؤثراً للغاية في حفظ تعاليم الرسل، وتدوينها، وتبويبها، وتفسيرها، ونشرها أيضاً في أوساط المسيحيين الذين عاشوا في القرون المسيحية الأولى، ومن هنا كانت جهودهم تحظى على الدوام بالاحترام والتقدير، بل غدت النتاجات التي دوّنوها متوناً معتبرةً ونصوصاً ذات قيمة أقرّ بها المجتمع المسيحي برمّته. وأبرز الشخصيات اللامعة، على هذا الصعيد في أوساط آباء الكنيسة، كان: جوستنيان الشهيد (165م)، وكلمنت الاسكندراني (215م)، وأورجينوس (254م)، وترثوليانوس (225م) وأوزيبوي القيصري (359م) وأمبرواز (397م)، وجروم (420م)، وأغوسطين (430م).

[الصفحة - 209]


بين "العقل" و "الإيمان"، لتشمل أبداً الإلغاء الكامل والإقصاء الشامل لدور الوعي والتفكير في بلورة ظاهرة الإيمان وترسيخها، وإنما تركّزت على تحوُّل واحد من هذين الركنين ـ أي العقل والإيمان ـ إلى عِدلٍ أو بديل عن الآخر، أو لتكون هناك علاقة أصل وفرع بينهما، أو ليكتفى بأحدهما عن الآخر وما شابه ذلك.
وعلى حد تعبير الكتّاب المسهمين في تدوين كتاب "العقل والاعتقاد الديني"، فإنّ البحث لم يتركّز على دور العقل في الدين أو سلبه عنه، وإنما حول الإجابة عن السؤال القائل: ما هو دور العقل في الدين، وما هي علاقته بالإيمان؟! (5).
وبدورنا، نهدف في هذه المقالة للقيام بجولة سريعة ومختصرة على مكانة العقل في الإيمان الإسلامي ودوره على هذا الصعيد، وللدلالة على بعض السمات المميزة لذلك، وتعتمد جولتنا هذه على فرضية يختزلها التساؤل الآتي:
- هل يمكن لعلاقة التفاهم والانسجام القائمة مابين العقل والإيمان في التعاليم الإسلامية، التأثير في تكوين دنيوية هذا الدين، ليقدم أنموذجاً مختلفاً عمّا قدّمته التجربة المسيحية؟
وفي هذا الصدد، يمكن إثارة موضوعة الوعي والمعرفة في الدين على مستويات أربعة على الأقل، ومن ثم دراستها على هذه المستويات أيضاً، كما أن دراسة رؤية الإسلام لـهذا الموضوع بصعده الأربعة سيرشدنا إلى كيفية حماية الموقف الإسلامي الإيجابي من أهم شواخص العصر الجديد ـ أي العقلانية ـ قبال أمواج العلمنة وظواهر المنحى الدنيوي.
1- بناء الإيمان على الوعي / الوعي ـ الإيمان
قدّم "بترسون" وآخرون تعريفاً للاتجاهين الأكثر أهمية في أوساط المتدينين، وفقاً لقراءة مدى إمكانية قيام الإيمان على البعد المعرفي أو عدم إمكانيَّة ذلك، فمن جهة كان الاتجاه العقلي بحدّه الأعلى (Strong Rationalism) معتقداً بأن التعاليم والإخبارات الدينية كافّة تخضع لمديات النشاط العقلي ولتجوال الذهن البشري، ومن ثم، فليس هناك من إقرار بحدّ أو حدود لـهذا الاعتراف بالعقل.
وانطلاقاً من ذلك، تغدو المعرفة والتصديقات العقلانية ركناً أساسياً للإيمان لدى هذا الاتجاه.
________________________________________
(5) مايكل بترسون وآخرون، عقل واعتقاد ديني، ترجمة أحمد النراقي وإبراهيم سلطاني، طهران، طرح نو، 1998م، ص72.

[الصفحة - 210]


وفي النقطة المقابلة، تستقرّ النـزعة الإيمانية البحتة (Pure Fideism) ، والتي تذهب إلى الاعتقاد بأن المنظومات الدينية لا تدع مجالاً للتقييمات العقلانية والجهود الفكرية، ومن ثم فالإيمان الديني لا يمكن، بل لا يجوز، أن يقوم على البراهين والحجج العقلية.
فليس مصادفةً أن ينتمي ممثلو هذين الاتجاهين المتعاكسين ـ أي ابن رشد (6)، وكيركغارد (7)، إلى منازع داخلية في الإسلام والمسيحية (8)، بل إن ذلك ينبئ عن وجود أرضيات مساعدة لبروز هذا النوع من الميول والاتجاهات رغم إفراطها في الديانتين معاً.
وحتى لو تخطينا هذه الاتجاهات الإفراطية في هاتين الديانتين الكبيرتين، وتحوّلنا في مسارنا ناحية الميول الوسطية والغالبة، لرأينا أيضاً تمايزات مهمَّة بين الإسلام والمسيحية حول مقولة "الإيمان" وعلاقتها بـ "المعرفة"، فهناك ـ على الأقل ـ ثلاث خصائص تميّز الإيمان المسيحي عن الإيمان الإسلامي، ترتبط واحدة منها فقط بمقولة العقل والمعرفة والوعي.
1- 1: الإيمان منحة أو اكتساب
ترى المسيحية أن الإيمان فيض بحت يقدّمه الرب لعبيده المنتجبين، ومن ثم لا يُناط هذا الاصطفاء وهذا العطاء بأي شرط من الشروط، كما لا يستدعي لـه أيّة مقدّمات مكتسبة أو مراحل يلزم طيّها.
أما الإيمان، في التصوّر الإسلامي، فيعني تموضع الفرد في محل شمول الفيض، منوطاً ذلك بتحقق جملة شرائط وحصول اللياقات المطلوبة لـه، وهي شروط يجري اكتسابها من جانب الإنسان المسلم الجاد السالك سبيل الجهاد.
ويقول الشيخ محمد مجتهد شبستري في هذا الصدد: "إن الإيمان، في القراءة الإسلامية، نتاج بشري مكتسب تصاحبه رؤية تفاؤلية للطبيعة الإنسانية القادرة على كسب موهبةٍ كهذه، أما الاعتقاد المسيحي بالتلوّث الإنساني في ذاته فهو يحيل الإيمان إلى تقدير غير قابل للتغيير، وعطاءٍ إلهيٍّ خاص" (9).
2- 1: العلم والإيمان معارضة أو انسجام
يرى الدكتور مهدي بازركان أن كلمة "الإيمان" في التصوّر الإسلامي تختزن نوعاً من
________________________________________
(6) يبدو أن ابن رشد يذهب إلى نوعٍ من الامتياز ما بين مجال العقل ومجال الوحي والشرع، فيرى كلّ واحدٍ منهما واجداً لمرتبة من مراتب الحقيقة، وطبقاً لـهذا الرأي تغدو مجموعة من القضايا المحكية بالوحي غير مفهومة لدى العقل الفلسفي، في ما يتمّ تجاهل الموضوعات الفلسفية المدركة بالتأملات العقلية من جانب الوحي نفسه من طرف آخر. هذه النظرية المسمّاة بنظرية الحقيقة الثنوية تمثل العمود الفقري لتكوّن الرشدية، فابن رشد يضع العقل في مرتبة أعلى من الوحي في نيل الحقيقة المطلقة، رغم اعتقاده أيضاً بضرورة الدين وتأثيره على عامة الناس أبلغ بمراتب من الفلسفة، إنه يقول في ضرورة اجتماع المعرفة العقلية والدينية في الاجتماع الإنساني بأن الخلائق متنوّعون، ولذلك لزم لإقناعهم ــ وفقاً لرتبهم في الوعي ــ استخدام مناهج احتجاجية ثلاثة هي: الأسلوب الخطابي الذي يستخدمه الخطباء، والأسلوب الجدلي الذي يتبنّاه المتكلّمون، ومنهج البرهان الضروري الذي أَعْمله الفلاسفة، وثمة استنتاجات أكثر تعادلاً مستوحاة من نظريته، حيث يذهب ابن رشد إلى وحدة مجال العقل والوحي، وليس ثمّة إثنينية ما بين الحقائق الدينية والمكتشفات العقلية، ويرى سيد حسين نصر أن أرسطية ابن رشد الأصيلة والإفراطية في الوقت نفسه حالت دون اشتهار فلسفته في أوساط المسلمين. لمزيد من التفصيل، راجع: جيلسون، 1. العقل والوحي في القرون الوسطى (عقل ووحي در قرون وسطى) الفصل الثاني، وكذلك سيد حسين نصر، إنسان وطبيعت، ص73.
(7) ما تحويه كلمات كيركغارد ومدعياته عن "الإيمان" يتضمن تلك الأفكار التي قصدها آباء الكنيسة نفسها، فهو يقول: إنّ الإيمان يعني إيداع ذاتك عند شيء يتعالى عن أن يكون لدينا حولـه برهان قاطع، فلا بد لنا من ممارسة إقدام مخيف ينبع من القلب لا العقل، من دون أن نهتدي إلى سلّم معرفي يبلغ بنا البحث والإيمان، وهذا ما لا يحتاج أبداً إلى أي دليل أو شاهد عقلاني يحكي صدق المعتقدات. انظر: بترسون، م. وآخرين في كتاب عقل واعتقاد ديني، ص80.
(8) يأتي بترسون وآخرون في كتاب العقل والاعتقاد الديني على تيار ثالث يسمّى "العقلانية النقدية" (Critical Rationalism) وهو تيار لا صلة لـه بالإيمان الديني ضرورة، وفي ثنايا حديثهم عن التيار الثالث يقولون: إنه يضع همّه وهمّته في نقد النظم الدينية وتقويمها، لا في إثباتها العقلاني..
(9) مجتهد شبستري، محمد، "برواز در ابرهاي ندانستن" شهرية كيان، العدد 52، 2000م، ص18.

[الصفحة - 211]


اليقين، في ما تصاحب نوعاً من الظن في الرؤية المسيحية (10).
وهذا التصوير العام يشرح مدى اهتمام الإيمان الإسلامي بعنصر الوعي والمعرفة والتزامه بهما، الأمر المفقود في الديانة المسيحية؛ حيث لا يستدعي الإيمان ولا تحكيمه أي مبادئ أو مؤيّدات عقلانية (11).
بل يمكن القول، بعبارة أكثر صراحة: إن الإيمان المسيحي يرى الوعي والمعرفة عنصرين مخلّين به ومعارضين لـه، في ما ينظر الإيمان الإسلامي إليهما بوصفهما من العناصر المساعدة التي توافقه وتسانده.
3- 1: الإيمان المحض أو الإيمان الداعي للعمل
تكسو مجملَ التعاليم التي أطلقها بولس الرسول، والقراءات المُعادة التي مارسها على تعاليم بولس كل من مارتن لوثر وكالون وبقية المتألّهين المنتسبين إلى المذهب البروتستانتي... تكسوها بشارة تنادي بأن المسيح رفع عن كاهل البشر عبء التكاليف الشاقّة التي تستدعيها الشرائع، ليغدو الإيمان الصرف بعد ذلك الطريق الوحيد للنجاة، من دون ذاك المزيّن بالعمل الصالح، ذلك أن أي عمل يهدف إلى التعويض مقابل تلك المحبة والعطية الأبوية لا نتيجة لـه عدا إسقاط الإيمان الإلهي إلى مستوى تجارة قليلة المردود.
وفي مقابل الإصرار المسيحي على إحداث القطيعة الكاملة ما بين الإيمان والعمل (الشرعي والأخلاقي)...، أكّد الإسلام ـ بقوّة وثبات ـ على النتائج العملية للإيمان، وقد بلغ هذا التأكيد الإسلامي حدّاً قلّما نجد معه ذكراً لإيمان المؤمنين دونما تركيز على العمل الصالح إلى جانبه(12)، فالعمل الصالح نتيجة حتمية وعلامة لصيقة لا تنفك عن الإيمان، وإعادة ذكره مرّة أخرى إنما يرشد إلى مدى ضرورته وأنه جزءٌ لا يتجزّأ من الإيمان، لا أنه إضافة زائدة أو تفضّل، كما يصرّح القرآن الكريم بأن المؤمنين فاعلون للصالحات بالتأكيد (13).
ويحتوي الإيمان الإسلامي، في صورته المتعارف عليها ووضعه العادي، على جوانب ثلاثة على الأقل، ألا وهي الجوانب "المعرفية" و "العاطفية" و "الإرادية"، أي أنه مبني بالدرجة الأولى أو منبثق عن المعرفة حتى لو كانت إجمالية في موردها، ومن ثم ليخطو الخطوة الثانية التي تتخطّى المعرفة الصرفة عندما يتماهى بُعداً عاطفياً، ليصل في نهاية المطاف إلى بلورة تعهّد والتزام وإرادة شديدة لتحمّله، وقد أشار الشهيد المطهري إلى البعدين الأوّلين للإيمان
________________________________________
(10) بازركان، مهدي، مذهب در اوروبا (الدين في أوروبا)، طهران، نشرسهامي، 1975م، ص34.
(11) ينفي أغوسطين بشعاره "الإيمان للفهم" وكلمنت بعقيدته "أؤمن لكي أفهم" كل أنواع الاستباق الذي يقع من الوعي ضد الإيمان، لقد أدت حالة اللامبالاة بالمعرفة في الإيمان المسيحي، إلى نوع من سوء الظن ومناهضة النقل الديني في العصور اللاحقة، أي في عصر النهضة والإصلاح، وكذلك حصل الأمر نفسه كردّ فعلٍ على رسوخ آراء ابن رشد وكلام توما الأكويني في الثقافة آنذاك.
(12) يقول الإمام علي(عليه السلام) عن العلاقة بين الإيمان والعمل الصالح: "الإيمان والعمل أخوان توأمان ورفيقان لا يفترقان، لا يقبل الله أحدهما إلاّ بصاحبه" الحياة، ج1، ص246، ويقول أيضاً: "فبالإيمان يُستدلّ على الصالحات وبالصالحات يستدل على الإيمان..." انظر: نهج البلاغة، الخطبة: 155.

[الصفحة - 212]


"الإقناع" و "العشق" بعبارة مقتضبة مليئة بالإحكام (14).
إنه يلقي بهذا البيان الموجز الفكرة الآتية: إن الإيمان الإسلامي، ورغم كل الصلة الوثيقة التي تربطه بالوعي والمعرفة، يعبّر عن أمرٍ يتخطّى مجرّد المعرفة العقلانية البحتة والمعتقدات الناجمة عنها.
أما العلامة الطباطبائي، فيشير من جانبه إلى بُعدين آخرين للإيمان، هما: "العلم" و "الالتزام"(15).
ويذهب الحكيميّون في "الحياة" إلى اعتبار الإيمان كالهرم الذي تمثّل العقيدة القلبية قاعدته، في ما يحتل العمل مكانة الرأس منه (16).
وهكذا يذهب الدكتور سروش إلى نفي معادلة الإيمان للاعتقاد المحض، ذلك أن في الإيمان ـ علاوةً على العنصر العقدي ـ توكّلاً، واعتماداً ومحبّةً وطاعةً، ويرى الدكتور سروش أن وجود مفاهيم في القرآن الكريم من نوع الرجاء، والظن، والأمل والتوكّل يؤيّد أن الإيمان لا يتأتى بمجرّد اليقين، وإنما يكتمل بصورة تدريجية مع اليقين نفسه.
ومع تصنيف الدكتور سروش عقد القلب والإحساس بالأمل والانخراط في سياق القلب... الأجزاء الأكثر أهميةً في الإيمان، بيد أنه يعتقد بأن وجود الحدّ الأدنى من الاعتقادات شرطٌ أساسي لحلول الإيمان، معتبراً إياه مولّداً للإرادة المنبعثة ناحية العمل، وهو ـ أي سروش ـ يرى فرقاً على صعيد المقدّمات والمستلزمات الضرورية للإيمان بين الخواص والعوام، معتقداً بأنَّ الإيمان الأصيل للأنبياء، وهو الصورة الإيمانية الأكمل، أمرٌ إيجابي فاعل، اختياري وواعٍ (17).
ويأتي أحمد النراقي على ذكر أنواع ثلاثة للإيمان هي "الإيمان الفلسفي" و "الإيمان العرفاني" و "الإيمان الجامع"، حيث يعبّر الأخير عن تلفيق بين عنصري " العشق" و "الاعتقاد"، وهما عنصران أُغفلا في الإيمانين الأوَّلين.
ومن دون أن يفرّق، ذهب النراقي إلى القول بارتكاز الأديان الإبراهيمية على ما أسماه "الإيمان الجامع"، ومع تأكيده على الدور المحدِّد للإرادة والمشاعر والأحاسيس، أي رجحان البُعد العملي والعرفاني الإيماني على نظيره المعرفي، بيد أنه يقيم الإيمان على أعمدة ثلاثة هي التجربة الدينية، والمعرفة الدينية، والعمل الديني (18).
________________________________________
(14) مطهري، مرتضى، مقدّمه بر جهان بيني (مدخل إلى الرؤية الكونية)، المجلدات 1-7، قم، مكتب النشر الإسلامي، 1983م، ص48.
(15) العلامة محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، الدار الإسلامية، قم، ج18: 282.
(16) الحياة 1: 242.
(17) سروش، عبدالكريم، "إيمان وأميد"، (الإيمان والأمل)، شهرية كيان، العدد 52، 2000م.
(18) النراقي، أحمد، رسالة دين شناخت، طهران، نشر طرح نو، 1998م، ص33 ـ 40.

[الصفحة - 213]


ويشير أبو القاسم فنائي في مقالته "سلّم السماء" إلى ما يسمّيه التركيب القرآني البديع "الشهود العقلاني"، مميزاً بينه وبين مختلف المناهج السائدة في الاستدلالات القياسية ـ الفلسفية والعلمية ـ التجربية (19)، ومذكّراً بدوره الرئيس في بعث الاعتقاد والإيمان وإيجادهما في عقل المؤمن وقلبه(20).
نواجه مع هذه التَّعريفات والاستنتاجات المتنوّعة للإيمان الإسلامي، رغم ما بينها من اختلاف في اللغة والبيان والأسلوب، خصوصية مشتركة، وهي خصوصية تضعها جميعها في خانة الإطار الكلامي الإسلامي رغم جميع التمايزات، وهذه الخصوصية هي التجسير والوصل القائم بين الإيمان والعقل.
وما يكفي هنا لموضوعنا الرئيس، هو عدم رؤية تعارضٍ ما بين الإيمان والعقل، وهذا الأمر كما يساعد على كشف الحدود الفاصلة بين الإسلام والمسيحية، يسهم أيضاً في تحديد المواقف المتباينة بين هاتين الديانتين إزاء الميل العقلاني للعصر الحديث، ومن هنا لا يحظى موضوع معيار اعتماد الإيمان على الوعي، وشكل تعاضدهما واختلاف الرؤى والنظريات في هذا المجال... لا يحظى بأهمية خاصّة (21).
وعلى أية حال، تتفق الصياغات المختلفة المطروحة حول الإيمان بمجملها على تأييد هذه الحقيقة، وهي أنه رغم الاعتماد الكامل للإيمان على العقل والمعرفة، وما يتركه ذلك من آثار ونتائج على شخصية الإنسان وفكره وسلوكه... فإنَّه ليس نتاجاً معرفياً صرفاً، وليس متمظهراً بالكامل في الأعمال الظاهرية، وإنما هو أمرٌ يتجاوز كلا هذين، ومن هنا نجد في نصوص القرآن والسنة ما يعدّ الإيمان مستقرّاً في قلب المؤمن لا في عقله ولا جوارحه (22).
علاوةً على ذلك، يرتكز الإيمان الإسلامي على إرادة المؤمن كما يتّكئ على جملة مقدمات معرفية ونتائج عملية خارجية، أي أنه يستدعي مسلسلاً من الجهود والمجاهدات الباطنية والظاهرية الواقعة في سياق كسب الفضائل اللازمة لحلول الإيمان وهبوطه (23)، فالعقل والفطرة البشرية، من المقدمات والمستلزمات لحلول الإيمان، كما يمثل الإقرار والعمل آثاره ونتائجه الظاهرية.
إلى جانب هذه العناصر، لابد من الإشارة إلى الدور المتزايد للعاطفة والمشاعر والأحاسيس، وكذلك للجذبات الباطنية التي تكوّن بواعث لتبلور الإرادة في كافّة مراحل تكوين الإيمان وتجلّيه وتقويته، وكذلك النتائج الباطنية للإيمان في إدراك معنى الوجود والاتصال بالمعبود المطلق.
________________________________________
(19) إن فكرة الدكتور فنائي وكلماته تشبه إلى حدّ كبير تعبير الأخوة الحكيمي في كتابهما "الحياة"، حيث أطلقوا وصف "التعقل القرآني الخالص" مميزين بينه وبين العقل الفلسفي وحتى العِرفاني الصرف، ولمزيد من التفصيل يراجع كتاب الحياة، ج1، ص40 ـ 138.
(20) فنائي، أبو القاسم، "نردبان آسمان" (سلّم السماء)، فصلية نقد ونظر، العام الخامس، العدد الأول والثاني.
(21) ثمة أقوال صريحة حول اعتماد الإيمان على العقل والمعرفة في التراث والمصادر الإسلامية، نشير ـ لرعاية الإجمال والاختصار ـ إلى عدد من النصوص الصغيرة، منها ما عن علي(عليه السلام) "أهل الإيمان العلم" كما في البحار، ج69، ص81، وعن الصادق(عليه السلام): "العقل دليل المؤمن" كما في أصول الكافي، ج1، ص29.
(22) الذين قالوا آمنّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم المائدة: 41، قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم الحجرات: 14.
(23) قل الحقّ من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر الكهف: 29، يا أيها الذين آمنوا آمِنوا...النساء: 136.

[الصفحة - 214]


وخلافاً لبعض التوجّهات الكلامية في القرون الهجرية الأولى، والتي ذهبت إلى التشكيك بدور العمل الصالح في الإيمان الإسلامي نتيجة أوضاع سياسية ـ إجتماعية أحاطت البلاد الإسلامية(24)، وقعت التشكيكات الحداثية الأخيرة في الأوساط الإسلامية ـ متأثرةً إلى حد معين باللاهوت البروتستانتي الجديد ـ في سياق البعد المعرفي.
وليس ثمّة ما يُلزم بتطابق الإيمان الإسلامي والأنموذج المسيحي نتيجة الإصرار الذي أبداه الدكتور سروش (25)، ومجتهد شبستري (26)، ومصطفى ملكيان (27)
في السنوات الأخيرة على مفهوم "التجربة الدينية"، بل سوف يقلّص ذلك إلى حد كبير من أهم الآثار الوجودية للإيمان ـ أي الوعي ـ ويفتح الباب على مصراعيه لتعارضٍ مرئيّ بين العقل والإيمان.
2 ـ تضامن العقل والوحي
يبدو العقل والوحي، أحياناً، ظاهرتين متمايزتين تأسيساً على المرجعية المختلفة التي يؤولا إليها بشرياً وإلهياً، كما يبدوان كذلك في لغتهما وخطابهما، كما في محتواهما وتعاليمهما، ورغم هذه النواحي الثلاث، لا تزال علامات الفصل والتحديد بين العقل والإيمان محاطة باللبس والإبهام إلى حد معين، أي أنه رغم الاختلاف الموجود بينهما، في ما يتعلّق بموقع هاتين المرجعيَّتين، ورغم الامتيازات اللغوية والمضمونية لما يصدر عنهما، إلا أن الخطاب التكليفي الآمر ليس من مختصّات الوحي، كما ليس الخطاب الإقناعي ومنهج التفهيم والتفهم سمةً حصرية للعقل، كما أنّ قضايا الوحي ليست فاقدة بمجملها للبعد العقلاني، كما أن العطاءات العقلية لا تخلو من إلهامات ماورائية، بل على العكس من ذلك تماماً، ثمة شواهد كثيرة على التبادل بين العقل والوحي والتمازج، كما أنَّ هناك ما يؤكّد تعاوناً مشتركاً بينهما أيضاً.
أما السرّ في هذا الأخذ والعطاء، وفي هذا التقارب المتبادل، فلابد من التفتيش عنه في الحقيقة الآتية: إن مخاطبهما معاً هو ذاك الإنسان العاقل الواعي، المتمتّع بمزايا واستعدادات وجودية محدّدة، ولعل هذا هو السبب في تنـزّل الرسالة الإلهية إلى هذا الحد من أجل البشرية كلّها، ولهذا كان الأنبياء موظفين وملزمين بمخاطبة الناس على قدر عقولهم (28)، فرسالة الأنبياء الإلهيين كانت ـ مع تزامنها والوحي الإلهي ـ قائمةً على توسعة المديات الوجودية للإنسان، وتعميق قدرات الوعي والإدراك عنده بغية تمكّنه من كسب الوحي الرباني النازل، فـ "نـزول الوحي الإلهي" و " تسامي العقل الإنساني" جهدان متنوّعان أدّتهما الأرض والسماء، وكانت الغاية من
________________________________________
(24) يرى المرجئة والأشاعرة، والحنفية، والماتريدية أن الإيمان تصديق صرف، ولهذا لم يشرطوه بالإتْباع بالعمل أو مصاحبة العمل لـه، وفي المقابل، أقحم المعتزلة العملَ في معنى الإيمان إقحاماً تاماً، فقد ذهبوا إلى أن الإيمان هو العيش المؤمن والحياة المؤمنة، كما زخر التراث الإسلامي القديم بتيارات مثل أهل الحديث، والإخباريين المناهضين لسلطة العقل، وكذلك العرفاء و... تتجاهل البُعد المعرفي للإيمان، ولا توليه أهميةً بل تنظر إليه بنوع من الريبة، إلاّ أن أيّ واحدٍ من هذه الاتجاهات لم يتحوّل إلى تيار غالب ومسيطر في التراث الإسلامي، ولمزيد من التفصيل عن هذا الموضوع يراجع الدكتور محمد تقي فعالي، في كتابه: إيمان ديني در إسلام ومسيحيّت، (الإيمان الديني في الإسلام والمسيحية).
(25) يرى الدكتور سروش أن التجربة الدينية تمثّل سبباً مسوِّغاً للإيمان في وقت واحد، معتقداً أن الإيمان النبوي الخالص قائم على تجربة دينية، وفي الوقت نفسه، يوافق سروش على أن نمط إيمان العوام نمطٌ تلفيقي من التجربة الدينية الشخصية والتربية والتعليم، والعادات وأمور أخرى أيضاً، انظر الدكتور عبدالكريم سروش، "إيمان وأميد" (الإيمان والأمل).
(26) "إن الإيمان يعني الانجذاب، والتحوّل، وتعلّق الذهن بمركز مخاطب، مخبر، بحيث يشكل هذا التعلّق همّ الإنسان وهمومه، ... (والإيمان يعني) الاهتمام المنجذب... فأولئك الذين قالوا بأن الإيمان هو التصديق بما جاء به النبي، يراعون غالباً البُعد المعرفي في الإيمان، أما العرفاء فقد سعوا على الدوام للاهتمام بالتجربة الإنسانية المعاشة... إن الإيمان نوع من "التجربة الدينية" يظهر على شكل قضايا عقدية، وهذه القضايا العقدية تجلي لنا وتوضح تلك التجربة الإيمانية المعاشة للمؤمن، ومن هنا كان الاعتقاد ذا مرتبة تالية لمرتبة الإيمان والتجربة... إن الثقة والأمل من العناصر الأساسية في الإيمان، لا الاستدلال ولا البرهان...". ورغم ذهاب الشيخ محمد مجتهد شبستري إلى ذلك يضيف قائلاً: "إن صاحب التجربة الإيمانية لـه أفكاره الفلسفية المسبقة، أو تلك الانثروبووجية أو الوجودية، ولهذا لا يمكن للعقل الفارغ من المعطيات القبلية والأحكام المسبقة أن ينال تجربة إيمانية... لاغناء لنا أبداً عن النص، لأن الخطاب الإلهي لا يمكن سماعه إلاّ من أعماق هذه النصوص" انظر، محمد مجتهد شبستري، "برواز در ابرهاي ندانستن" (على سحاب الجهل).
(27) يطرح الدكتور مصطفى ملكيان عوامل تعسير الإيمان وتيسيره في العصر الحاضر بما يبدو أنه يقضي وكأن الإيمان ينحسر أمام نمو العلم وتنامي العقلانية، في ما يزدهر الإيمان عند بدو الشكوك في تمامية العقل وكمال العلم وجدارة المعرفة، ويقيم ملكيان الإيمان لا على أساس الاعتقاد والمعرفة وإنما في مقابلهما، وهو يرى أنّ الإيمان الحقيقي إنما يظهر في ظلّ الفراغ المعرفي ويغدو ممكناً في مناخ الشك واللايقين، فالإيمان قفزة فوق بحر المعرفة، وهو على علاقة بالأمل قبل أن تكون لـه علاقة باليقين، راجع: مصطفى ملكيان، "دويدن دربي آواز حقيقت". والذي يستفاد من الإشارات المستكنّة في كلمات المهندس مهدي بازركان والدكتور عبدالكريم سروش، والدكتور مصطفى ملكيان عن اليقين، هو أنّه مرتبة من مراتب الوعي والمعرفة، في ما تعدّ الروايات المأثورة اليقين مرتبةً من مراتب الإيمان ودرجاته، وأن محلّه القلب لا العقل. وعلى أية حال، فإن هدفنا يتمركز على غرضهم ومقصودهم لا ألفاظهم ومفردات تعابيرهم، ولمعرفة معنى اليقين وعلاقته بالإيمان، انظر: أصول الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، كتاب الإيمان والكفر، باب أن الإيمان أفضل من الإسلام واليقين أفضل من الإيمان.
(28) عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) : "إنّا أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلّم الناس بقَدْر عقولهم"، أنظر البحار، ج2، ص69.

[الصفحة - 215]


وراء ذلك تقليص الهوة واختصار المسافة ما بين الوحي والعقل.
ورغم ذلك كلّه، لا يزال جوهر الاختلاف باقياً، ليبدو في كل حين مظهرٌ من مظاهره، فمن جملة المواقف التي لا يمكن غضّ الطرف عنها رغم كل الانسجام القائم، مسألة حجيّة قضايا الوحي والعقلانية واعتبارها، وكذلك ما يتّصل بالمنهج والأدوات التي يجري توظيفها لدى الطرفين بغية إقناع المخاطب، ذلك كلّه رغم ما يؤدِّيه وجود قضايا عقلانية في رسالة الوحي، والاستفادة ـ في المقابل ـ من الاحتجاجات والأساليب الدينية من قبل العقل... في تحطيم الحدود وإيجاد علاقات تواشج متبادلة من الطرفين معاً، وكذلك فإن هذه الخصوصية تعدّ من أكثر المميزات شخوصاً في هذين المجالين المعرفيّين، ذلك أنه في هذا النوع من التداخل والاختلاط يمكن إرجاع المدعيات إلى مبادئها الأصلية، وتحديد الدائرة الجغرافية للكلام.
فالمضامين الدينية المستكنّة في الوحي وكذلك اللغة تكتسب اعتبارها وقيمتها ـ نوعاً ـ من مصدرها الذي أتت منه، ومن ثم فهي لا تنفصل عنه في الحالات كافّة، أما المعطيات العقلانية فهي ترتكز أساساً على المنطق والبرهان الداخلي المختزن فيها، ووفقاً لذلك لا يحق لـها أخذ اعتبارها من مصدرها ما دامت استنتاجاً منطقياً وسالماً من حيث المادة والصورة، كما أنها لا تتقبل أي تغيير مهما كان بسيطاً نتيجة تأثيرات خارجية.
وقد أدّت ملاحظة هذه التباينات والمقارنات ما بين الوحي والعقل، إلى اتخاذ أهل النظر والمعرفة مواقف تـتسم بالتباين والاختلاف، ولم تكن الموائز الموجودة في النصوص المقدسة للأديان بعيدة في تأثيرها عن هذه الاستنتاجات.
لقد عدّ بعضهم الوحي ـ على تقدير الاعتراف به ـ رشحاً من آثار العصر الطفولي للبشر، ومن ثم فقد بلغ النهاية بمجرد بلوغ العقل البشري ونضوجه، وهذا الانطباع عن الوحي بلغ درجةً أكثر إفراطاً لدى إعلان عدم حاجة الإنسان إلى الوحي الإلهي في عصر العقل والعقلانية (29).
وقد اختار فريق آخر الحديث عن الحدود الفاصلة بين العقل والوحي على صعيد الدوائر والمجالات، مستفيضاً بذلك في الحديث عن تصنيفات زمانية قائمة على منح العقل والوحي حقبات منفصلة، وقد سعى هذا الفريق جاهداً إلى الحيلولة دون أي تداخل أو امتزاج ـ وحتى تعاضد ـ ما بين العقل والوحي في مجاليهما.
والتمظهر المفرِط لـهذا التيار، تمثّل في إلغاء الحدود الفاصلة على صعيد المجالات ودوائر
________________________________________
(29) عُدَّ إقبال اللاهوري والدكتور علي شريعتي ممّن قدّم تفسيراً زمانياً لعلاقة العقل والوحي، ويعتقد الشيخ المطهري في كتاب "الوحي والنبوّة" أن إقبال اللاهوري مال من حيث لا يشعر إلى مفهوم ختم الديانة منحرفاً بذلك عن مفهوم ختم الرسالة، ونهاية مرحلة الوحي، لمزيد من التفاصيل. أنظر: إقبال اللاهوري، إحياء الفكر الديني (فارسي) ص5 ـ 144، وكذلك شريعتي، الوصاية والشورى، والمطهري، الوحي والنبوّة.

[الصفحة - 216]


العمل بين العقل والوحي، ليخرج في النهاية إلى الاعتقاد بأن نطاق الوحي آخذ بالانحسار لتتسع في المقابل دائرة الفعل العقلي، وذلك بمرور الزمان وتكامل البشرية أكثر فأكثر (30).
انطلاقاً من مضامين الوحي القرآني، ومن المكانة السامية التي يمنحها القرآن الكريم للعقل الإنساني، ورفضه أي نوع من أنواع التحديد ما بين العقل والوحي، سواء كان تحديداً قائماً على أساس التحقيب الزماني أم على تحديد المجالات، انطلاقاً من ذلك كلّه، نجد أنفسنا أمام نوع جديد ومختلف تماماً لعلاقة الوحي بالعقل، علاقة يكسوها ما يمكننا القول إنه أهم سمة فيها، ألا وهو التضامن.
ومقصودنا من حالة التضامن والمعاضدة المثارة في الإسلام بين العقل والوحي أمران:
أحدهما: أن كل واحدٍ منهما يؤيد الآخر ويكمّله ويعضده.
وثانيهما: أنهما معاً يستبطنان الكمال الإنساني.
إن الرؤية التضامنية بين العقل والوحي، تنبعث من سمة الدمج الإسلامي، ذلك أنها تستعيض عن التعارض، ومن ثم عن تعطيل أحدهما لصالح الآخر وفقاً لتحقيب زماني أو فرز دائري...، بالاستفادة منهما معاً في مختلف الأزمنة وعلى الصعد كافّة، وهي حقيقة يمكننا لمسها باليد استناداً إلى شواهد خارجية وداخلية.
فعلى سبيل المثال، المعجزة المحمّدية، إذ كانت بنفسها نصّاً موحى به (القرآن الكريم) خلافاً لمعجزات الأنبياء السابقين (31)، فالقرآن الكريم إعجاز ليس فقط لم يُخضع عقول الناس، بل إنه زاد من أهميّة العقل وأحكم مكانته بينهم، فلم ينشر الإسلام بين أتباعه ثقافة سوء الظن إزاء العقل والتفكير الإنسانيَّين، ولم يجعل من إشاعة الوحي عاملاً من عوامل تعطيل العقل أو احتقاره وتقزيمه، بل على العكس من ذلك تماماً ضاعف من قوّته بين المؤمنين وزاد من رفعته ومكانته.
ولم يحدّ القرآن الكريم ــ في سياق استعراضه الوظائف التعليمية للأنبياء ــ من دورهم بحصره في إنـزال الكتب وإبلاغها الناس، وإنما جعلهم ملزمين بتعليم الإنسان "الحكمة" أيضاً (32).
فقد بلغت وصايا القرآن وتعاليمه للمؤمنين في التدبّر في الكلام والوحي الإلهي، والتعقّل وممارسة التفكير في الأنفس والآفاق، والتأمّل في خالق الكون وناظم الوجود، وكذلك في التفكير في نظام الخِلقة والقوانين السارية في العالم، والسنن الاجتماعيّة والتاريخية المسيطرة على الحياة.. بلغ ذلك مبلغاً عظيماً حتى أفقد كلّ صاحب عذرٍ من المؤمنين عذره في تقصيره عن
________________________________________
(30) راجت في أوساط المثقفين العلمانيين الجدد فكرة الفصل في الدوائر والمجالات بين العقل والوحي، مع اعتقادهم بصحّة النصوص المنبثقة عن الوحي واعتبارها، ويمكن ـ على سبيل المثال ـ مراجعة مهدي بازركان، "خدا وآخرت، هدف بعثت انبياء".
(31) يجيب القرآن أولئك الذي يطلبون من النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) ـ كعادة الأمم السالفة ـ أن يأتيهم بمعجزة تفوق الأوضاع الطبيعية بقولـه: أولم يكفهم أنا أنـزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم...،العنكبوت: 51، ويصرّح في موضع آخر: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً الإسراء: 88، وحول مقارنة إعجاز النبي 6 بمعجزات مَن سبقه من الأنبياء :، راجع حديث ابن السكيت عن الإمام علي النقي(عليه السلام) في أصول الكافي، ج1، ص28، ويقوم "ترنر" بمقايسة أخرى، بين كاريزما النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) والنبي عيسى(عليه السلام) ولا يراهما إلاّ متفاوتتين، انظر ترنر. ب، ماكس فيبر والإسلام، ص56.
(32) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ...الجمعة: 2.

[الصفحة - 217]


ذلك، ذلك كله مع فتح القرآن الباب على مصراعيه أمام الإيمان والوحي، من دون أن يجعل دائرةً من الدوائر حكراً على العقل والتفكير.
فالعقل والفكر في الإسلام ليسا تلك الفاكهة الشيطانية المحظورة التي أتاها الإنسان فالتهمها عصياناً وتجرّؤاً، لتُهبطه من جنّته وتكون سبباً في بلائه وشقاوته (33)، وإنما هما الجوهر الإلهي الأكثر أصالة والأغلى ثمناً، الذي استودعه الله الإنسانَ، ليبلغ طريقه التكاملي في سيره إلى ربّه عن طريقه، فيسير به ويقطعه بيسر وسهولة.
إن الإسلام يعتقد بأن بذور الإيمان ومعرفة الله سبحانه تعطي ثمارها في أرض العقل والمعرفة الأفضل (34).
من هنا يظهر لنا أن مكانة العقل في الإسلام تتسامى وتعلو إلى حدّ يستخدم في حقّ الله تعالى تعابير من قبيل: "العقل الفعّال"، ويطلق على النبي تعبير "العقل الأوّل"، ويؤتى على ذكر القوّة العاقلة الإنسانية بوصفها: "النبي الباطني" (35)، وهي تعابير بمجملها تقطع الطريق على مختلف محاولات الفصل والتجزي والتشطير والمقابلة التي يمكن أن تمارس بين الوحي والعقل.
وهكذا تنطلق آليّات الاستنتاج الأصولية بين علماء الكلام على أساس الادعاء الذي يقول: إنَّ العقل الإنساني لمّا كان هو مهبط نـزول الوحي، وكان الأشخاص السامعون والعاملون بالرسالة الإلهية أصحاب عقل وتفكير.. فلا يمكن للوحي إلا أن ينبني على ملاكات العقل السليم الكاشف عن حقائق الأشياء والأمور (36).
إن العقيدة الإسلامية، أو على الأقل بحسب وجهة نظر فريق كبير من المسلمين المعتقدين بنفوذ مبدأ الحسن والقبح العقليّين في المفاهيم الدينية والوحيّية، وقيام الأوامر والنواهي الدينية على أصول عقلانية قبلية.. تحول دون أدنى أشكال المصادمة والتزاحم ما بين هذين النبيّين الظاهر والباطن، العقل والوحي.
وقد حالت الروح العقلانية المنسابة في النص الموحى به دون تبلور تيار مناهض للفلاسفة وذا منحى أشعري في الفكر الإسلامي على غرار الاتجاه الإيماني المحض الذي عرفته المسيحيّة، رغم كل ما نالته هذه الاتجاهات الأشعرية من حفاوة بالغة ودعم سياسي ـ اجتماعي فائق، وأرضية فكرية ـ روحية مساعدة، فلم يحصل في التراث الإسلامي أن تواءم الاتجاه الأشعري مع النـزعة الإنسانية والدنيوية في الثقافة الإسلامية، رغم كل ما تمتعت به التيارات ذات
________________________________________
(33) ثمة اختلافات مهمَّة ما بين الصورة التي يقدّمها لنا الكتاب المقدس عن حادثة هبوط آدم وحواء من الجنة وتلك التي يعرضها لنا القرآن رغم كل أوجه الشبه الموجودة، وهي اختلافات تؤول إلى مقولة العقل والمعرفة، ففيما يؤتى في سفر التكوين على الشجرة الممنوعة بوصفها شجرة المعرفة، تعرّفها الثقافة الإسلامية بشجرة الحرص والطمع أو الغفلة، ويقول المطهري: في ما ترتبط الشجرة الممنوعة في المسيحية بالبعد الإنساني لآدم وحواء، تتصل في الإسلام بالبعد الحيواني، فالمعرفة والعلم في الإسلام ليسا وسوسةً شيطانية، وإنما جوهر أودعه الله الإنسان بتعليم مباشر: عَلّمَ آدمَ الأسْمَاءَ كُلّها البقرة: 31، ولمزيد من التفصيل يراجع: المطهري في "إنسان وإيمان" في مدخل إلى الرؤية الكونية الإسلامية، ص19 ـ 21.
(34) إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء فاطر: 28، وعن الباقر(عليه السلام): "لم يُعبد الله عزوجل بشيء أفضل من العقل"، الحياة، ج1، ص47، وعن الرسول الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) : "لا دين لمن لا عقلَ لـه"، الحياة، ج1، ص45.
(35) عن الإمام الكاظم(عليه السلام): "إن لله على الناس حجّتين حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة :، وأما الباطنة فالعقول"، أصول الكافي، ج1، ص19.
(36) عن الإمام علي(عليه السلام): "العقل رسول الحق"، الحياة، ج1، ص46، وعنه في المصدر نفسه: "ملاك الأمر العقل".

[الصفحة - 218]


الصبغة الأشعرية من قوّة وسلطان ونفوذ، الأمر الذي أدّى بهذا الخط إلى الاصطدام على الصعيد العملي والاجتماعي للحياة بتناقضات وإشكاليات معقّدة وثقيلة (37).
ومن هنا يعتقد الدكتور زرّين كوب بأن المسارات اللافلسفية في التراث الإسلامي، كفكر الغزالي وعامّة الأشاعرة، بقيت خالية الوفاض من دون القدرة على تكوين تيار متكامل يناهض العقل ويحارب التعقل في الحياة الإسلامية، أيّ أن اللاعقلانية الأشعرية لم تستعض بذاتها مكان التيار العقلي، ومن ثم لم ينجر المسار الإسلامي العام في نفق معارضة العلم، فما ورد في القرآن الكريم من إلزام بالتفكير والتعقل ودعوة إلى العلم والعقل، ألجأ العامّة والخاصّة إلى الإحساس بضرورة الاهتمام بالعلم وتكريم أهله (38).
3 ـ الفقه العقلاني
يتكفّل الفقه (الشريعة)، في الديانات المختلفة، بمهمّة عرض السبل العملية وإصدار القوانين لأتباع هذه الديانات، لكي يتسنّى لـهم بذلك ممارسة حياة ملؤها الدفء والإيمان، ومن هنا حمل الفقه على عاتقه حفظ الصورة الظاهرية للدين بوصفه مجموعةً من الأحكام والتوجيهات الخارجية، وذلك لكي يتوافر المناخ المساعد لتفتّح براعم "الإيمان" ونشر "الأخلاق" في الحياة الفردية والاجتماعية للمؤمنين، وبناءً عليه، لا يُنْقِص من مقام الفقه وأهمّيته كونه معنياً بالأمور الظاهرية، كما لا تضاف إلى مكانته الطبيعية مكانة أسمى بسبب احتلاله مساحات مهمَّة من الحياة، فالذي يمنح الدين كماله ويبلغ به منتهاه ليس كمال الفقه وحده، وإنما ذاك المركّب المتوازن والمنسجم من الإيمان والفقه والكلام (العقيدة).
تبدأ المنطقة الخاصّة بالفقه من المجال المنسكي والشعائري، وهو المجال الذي يمثّل القسم الخاصّ بالدين، ليستطيل فيشمل ـ تبعاً لنوعيّة الأديان وجامعيّتها ـ دائرة القضايا المتحرّكة والأنشطة اليومية في الحياة، ما يعرف بالمجال العرفي (الدنيوي) لـها، إن الاكتفاء بالأمور المنسكية وتنحية المجال العرفي، يحصر الفقه في موقف الحد الأدنى لـه، ومن هذا المنطلق يفترض بالإسلام أن يكون واجداً لفقه من نوع الحد الأعلى قادرٍ على التلائم مع العرف، وملاحظة عابرة وتقييم كمّي للأبواب والعناوين الموجوة فعلاً في الفقه الإسلامي، تدل بوضوح على المدى الذي منحه هذا الدين للقضايا العرفية الحياتية وما علّمه لأتباعه في هذا المضمار، رغم عدم الرضا الذي يحمله المسلمون إزاء الحالة القائمة للفقه اليوم، ولهذا السبب
________________________________________
(37) زرين كوب، عبدالحسين، درقلمرو وجدان، طهران، علمي، 1980م، ص246.
(38) ساعد الاتجاه الأشعري في الإسلام ـ ولعدّة أسباب ـ في نمو نحوٍ من علمنة الدين، فرافق في أوج قدرته وشيوعه تيارات الغرب القادمة في المرحلة الأخيرة، واستطاع سوق المجتمع الإسلامي والتعاليم الدينية وبسرعة أكبر نحو هذه العلمنة، فبنفي الأشاعرة الحسن والقبح العقليين عن الذات والصفات والأفعال الإلهية، أبدوا استعداداً للإقرار بنوع من النسبيّة القيمية، وفي الوقت عينه عبّدوا الطريق ـ بإحالتهم معايير التحسين والتقبيح إلى النقل ـ لأولئك الذين فقدوا ثقتهم بالنقل والنصوص المنقولة، وذلك عبر تكوين نوع من التعارض بين العقل والنقل. ويرى المطهري أن الأشاعرة سعوا ـ عبر اختيارهم عنوان "أهل الحديث" ـ لنعت مخالفيهم من المعتزلة القائلين بالقبح والحسن الذاتيين وبالمستقلات العقلية بأنهم مخالفون للحديث والسنّة النبوية، في ما لم تكن الحال عليه كذلك لا هنا ولا هناك، ولمزيد من التفاصيل عن الحسن والقبح وآراء الأشاعر والشيعة والمعتزلة فيهما يراجع كتاب العدل الإلهي للأستاذ مطهري.

[الصفحة - 219]


والدور الذي يؤدِّيه الفقه، كانت أهمية دراسة مكانته في الأديان بوصفه معلماً مهمّاً من معالم حركة الدين وتفاعله مع الحياة، وهو ما جعل الفقه يتحمّل أحياناً بعض الهجمات الناقدة.
ويمثّل الفقه والأخلاق في الأديان المختلفة مسارين يمنحان المؤمن مجالاً لصبغ حياته الدنيوية بصباغ ديني، ليتجلّى إيمانه عن هذا الطريق، وهذا ما أدّى إلى منح الفقه دوراً مهمّاً وشاملاً في مجال تثبيت الحضور الاجتماعي للدين، وتبعاً لذلك، غدا الفقه على السواء مورداً للاهتمام الشديد، وضحيّة للعتاب والنقد.
والأمر الذي ينسجم مع بحثنا، هنا، هو دراسة معيار الانسجام والتوافق القائم بين الفقه ومجالات الحياة الإنسانية العرفية (الدنيويّة)، هذا التوافق الذي ينادي بحضور فاعل ومؤثّر لـه.
والسؤال الرئيس هنا هو: كيف يمكن للفقه، بوصفه المرشد السماوي للحياة الدنيوية، أن يخلع على الحياة العرفية خلعةً دينية من دون أن يؤدّي ذلك إلى حدوث اختلال أو اضطراب في الانسجام الطبيعي الداخلي؟ كيف يمكن التوفيق بين الجوهر النقلي للتشريعات الفقهية وبين الملاكات العقليّة؟ وكيف يقدر الفقه على تحمّل الانتقادات العقلية القاسيَة التي لا تغفر ولا ترحم؟ كيف يمكن للذَّات الثابتة المستقرّة للشريعة والتي تحتوي قداسةً وتستدعي حفظ وحدتها الداخلية.. كيف يمكن أن تتناغم مع المتطلّبات العصرية المتغيّرة، والظروف الاجتماعية الدائمة التحوّل، لتقدّم للمجتمع والبشرية أجوبةً غضّةً طريّة جديدة على الدوام؟
إن "العقلانية" و"استعداد التحوّل الداخلي" و"مراعاة العرف" و"ملاحظة المصالح".. بعضٌ من تلك الطرق والمنافذ التي جُهّز بها الفقه الإسلامي لكي يواكب "المتطلّبات الطبيعية" و"الظروف المتغيّرة" و"الطبيعة العقلائية" للأمور العرفية الدنيوية.
ومن الواضح أن تفصيلات كل واحد من هذه العناوين كانت ـ على الدوام ـ محلاًّ للاختلاف ما بين المذاهب والاتجاهات الفقهية، إلى حدّ سدّت فيه بعض الفِرق بعض هذه الأصول والمداخل بشكل كامل ونهائي.
وعلى أية حال، فوجود مثل هذه الاتجاهات لا يخلخل بتاتاً أساس بحثنا القائم على عناية الشريعة الإسلامية واهتمامها بالعقل والعرف والمصلحة، كما لا يَلْزَمُنَا الدخول التفصيلي في متاهات هذه الاختلافات وقراءة منطلقاتها العقلية والنقليّة، وذلك:
أولاً: إن الفِرَق التي لم تولِ أهمية لـهذه الموضوعات، مثّلت الأقلّية غالباً، وكانت على
________________________________________

[الصفحة - 220]


الهامش، وإذا ما تسنّى لـها أن تكتسح ـ في حقبةٍ ما ـ المسار الفقهي العام، فإنها لم تكن قادرة على الاستمرار في ذلك طويلاً، بل كانت تفقد رونقها وبسرعة، نتيجة تحوّل الأوضاع وانقلاب الظروف، لتنـزوي في الهامش، مثبتةً بذلك خوارها وضعفها، هذه الفِرَق التي حظيت بترحيب واسع في أوساط الأديان ذات النمط الزاهد البعيد عن الدنيا والمناهض للعقل والعقلانية لم تحظ بتلك القواعد الراسخة التي تعمّق وجودها في الداخل الإسلامي، وهو أمرٌ ذو دلالات مهمَّة، ويعنينا كثيراً نحن الذين نحاول قراءة تحوّلات الدين والتديُّن بين الأفراد والمجتمعات المسلمة من زاوية ظاهراتية فينومنولوجية.
ورغم أننا نحيل هنا بالدرجة الأولى إلى مصادر "شيعية" و"أصولية"، إلا أننا نجد مؤيّدات لما نقول في عقائد أهل السنّة أيضاً، وعلى سبيل المثال، في الوقت الذي يتعاطى فيه الشيعة مع توظيف العقل والإجماع، بوصفهما مصادر لكشف الأحكام الفقهية وصدورها، تعاطياً يبدو عليه التحفظ والاحتياط، وملاحظة شروط وأوضاع.. يطلق أهل السنّة العنان لهما بشكل أكبر، فيتوسّلون بالقياس والاستحسان، ما يفسح المجال للفقه بشكل أكبر للتعاطي مع العقل والعرف، وهكذا الحال مع المصالح المرسلة (39) ورأي أهل الحل والعقد، وهي مقولات راجت لأسباب تاريخية في الوسط السني قبل تغلغلها عند الشيعة، ما يدلّ على أن في الوسط الإسلامي استعداداً عالياً جداً للأخذ بالملاحظات العرفية ومراعاتها.
لقد خطا أهل السنّة، في اجتهاداتهم الفقهية، خطوات سبّاقة مهمَّة كان لها دور الريادة، رغم توقّفها سريعاً، ولكي نكتشف ظاهراتياً كنه الإقرار بالاجتهاد في الإسلام، لا بد لنا من العودة إلى السنوات الأولى التي أعقبت وفاة النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) ، أي ما قبل حالة التوقُّف والركود التي أتت في ما بعد، أما الحضور المتأخر للشيعة في المرحلة الاجتهادية فهو يُعزى إلى حضور "الأئمة المعصومين" إلى قرنين كاملين عقب وفاة النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) ، الأمر الذي أغنى الشيعة عن الحاجة إلى الفقهاء، ولا يمكن إطلاقاً تفسير هذا التأخر على أساس التشكيك في مبدأ تغيّر الأحكام تبعاً لموضوعاتها، أو ضرورات الاجتهاد وفقاً لعنصر مواكبة العصر ومتطلّباته، الأمر الذي (أي الاجتهاد) حثّ عليه الأئمة أنفسهم، وحظي منهم بالدعم والتأييد.
________________________________________
(39) تقع المصلحة المرسلة في منطقة الفراغ ما بين المصلحة المعتبرة والمصلحة الملغاة، ويقصد بها تلك المصالح التي لا نص ولا تصريح باعتبارها أو إلغائها من جانب الشارع سبحانه، ولهذا يتمّ تحديدها وتعيينها عبر الفقهاء وأهل الحل والعقد بهدف حفظ المصالح العامة والضرورات الكلية، أي حفظ الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال.

[الصفحة - 221]


1 ـ 3: المذهب العقلي
يمكن للعقل، في الفقه الإسلامي، أن يكتشف القانون، كما بإمكانه تحديده وتقييده بما يتناسب مع الظروف والمتطلبات، أو تعميمه وتوسعته كذلك، وهكذا يمكن أن يشكّل العقل معيناً وأداةً للاستنباط من سائر المصادر الفقهية كالقرآن والسنّة والإجماع (40)(41).
إن أخذ الأصوليّين وتبنّيهم قانون الملازمة القاضي بأن كل ما حكم به العقل، حكم به الشرع، وكل ما حكم به الشرع حكم به العقل، شاهدٌ دالّ على هذا الارتباط الوثيق والعلاقة المتينة التي تربط الشريعة بالعقل، وتتضاعف أهميّة العلم والمعرفة وتزداد جلاءً عندما ندرك أن العلم يمثّل ــ فقهيّاً ــ أحد شروط تحقّق التكليف، وشرط لازم لصحّة المعاملة، وهكذا يحظى العقل بمراتب من الأهمية عندما يغدو فقدانه رفعاً لمطلق أنواع المسؤولية والمؤاخذة بنقض حكم شرعي بل يغدو الحساب الأخروي مرهوناً بعقول الناس ودرجاتها (42)، ذلك أنّ العقل هو الحجة ما بين الخلق والخالق(43).
وتعبّر عملية الفصل ما بين "استنباط الحكم" (44) و"تشخيص الموضوع"في غالب الحالات، وكذلك إيكال الثاني إلى أهل الفن والتخصّص والخبرة أو إلى المكلّف نفسه.. تعبّر عن أنموذج آخر من نماذج احترام الإسلام للعقل وجهود الخبراء المختصّين، علاوةً على ذلك إقرار الإسلام بالمصالح والمفاسد النفس الأمرية بوصفها مبادئ أولية قبليّة ذات سلطة ونفوذ على الواجبات والمحرّمات الفقهية، يشكّل هو الآخر مانعاً يحول دون ممارسة عملية تقديس زائف أو اعتمادٍ معوجّ على الظواهر والشكلانيات الشائعة في الشرائع الدينية، فلم تأتِ الشريعة في الإسلام لمجرد التلقين القائم على مبدأ الطاعة المحضة، أو الاستسلام المفرط للمؤمنين أمام الأوامر الإلهية، ما يتكفّله الإيمان والعرفان الدينيّين اللذين يقوّيان روح التعبّد عند العباد ليتجلّى عن هذا الطريق في الفقه والأخلاق، كما أنّ الروح التعبّدية المنسابة في الأعمال المنسكيّة لا تؤدّي هي الأخرى إلى تحوّل العبادة نفسها إلى فعل مبهم وغير مفهوم، الأمر المرفوض عند الله سبحانه (45)، ولذلك لم يُشَد الفقه الإسلامي على أساس الإطاعة المحضة، بل على الأقل فإنّ قسماً مهمّاً منه قام أساساً على المصالح والمفاسد الفردية والاجتماعية، فما يبيّنه القرآن الكريم من أحكامه في بعض المواضع... إنما هو أولاً: لما يوليه من أهمية للتشخيص العقلاني لمخاطبيه، وثانياً: يرشد عبر ذاك إلى أن قيمة الشعائر والمناسك الدينية ليست أمراً في نفسه، وإنما يكمن في آثار تلك الشعائر ودورها في تحقيق المبادئ الأكثر أساسيةً للدين (46).
________________________________________
(40) المطهري، ختم النبوّة، قم، دفتر انتشارات اسلامي، 1، ص7 ـ 76.
(41) لقد ضاعف تسويغ الاستحسان والرأي والقياس في عملية استنباط الأحكام الشرعية على يد بعض فقهاء السنة، ضاعف من دور العقل بشكل كبير، رغم أنه وضع الاجتهاد الإسلامي تحت خطر انقطاع الاتصال مع المبادئ الإلهية للأحكام الدينية، أما في الوسط الشيعي فثمّة ـ عدا الأخباريين ـ فقهاء يرون العقل والإجماع ذا دور تابع للقرآن والسنّة، ومن ثم يؤدِّيان دوراً أداتيّاً فحسب، ورغم ذلك كلّه، يجب الانتباه إلى أن حضور العقل في عملية الاجتهاد الإسلامي كان وما يزال نافذاً وحقيقياً حتى عند أمثال الاشاعرة، أكثر الفرق الإسلامية الكلامية والفقهية نقداً للعقل وحدّاً من دوره وصلاحياته.
(42) يُحاسب الناس على قدر ما آتاهم من العقول في دار الدنيا، الإمام الصادق(عليه السلام)، الحياة، ج1، ص38.
(43) حجة الله على العباد النبي، والحجة في ما بين العباد وبين الله العقل، الإمام الصادق 7، أصول الكافي، ج1، ص29.
(44) المقصود من الحكم هنا الفتوى، لا الحكم الوضعي الحكومي والذي لا تفكيك فيه ضرورة بين الحكم والموضوع، إنما الأحكام فيه عين إنشاء الموضوع، فهي تدور وتؤول إلى مرجع محدّد ونقطة مشخّصة.
(45) المتعبّد على غير فقه كحمار الطاحونة يدور ولا يبرح، الإمام علي 7، الحياة ، ج1، ص58.
(46) وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ وَالله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَالعنكبوت: 46، جَعَلَ الله الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ المائدة: 97. ويشير الإمام علي(عليه السلام) في الخطبة رقم 110 والحكمة رقم 252 من نهج البلاغة إلى بعضٍ من أدوار الشرائع وتأثيراتها.

[الصفحة - 222]


2 ـ 3: التغيّر والتحوّل
إن الاعتراف بمبدأ الاجتهاد في الفقه الإسلامي ينبني في الواقع على اعتقاد بأصل مهم ورئيسي يتّهم المتدينون عادة بإنكاره، ويصنّف بوصفه سبباً من الأسباب الرئيسية لإعراض الإنسان الحديث عن التعاليم والأفكار الدينية المتشدّدة، وعرفيّة الفرد والمجتمع الحديث.
هذا الأصل المهم هو شمولية مبدأ التغيّر في تمام أجزاء العالم المادّي ودوامه، حيث يقال: إن المؤمنين ـ نوعاً ـ يرفضون هذا المبدأ ويصادمونه، لقد كان الاجتهاد في الإسلام خطوةً تمهيدية واعية لكشف القواعد الكلية والمبادئ الدينية الثابتة، ومن ثمّ تطبيقها على الحالات الجزئية والمتغيّرة تبعاً للظروف الزمكانية بصورة يبدو فيها إطلاق الحكم ونسبيّته توأماً ملحوظاً على الدوام، وفي الحقيقة فإن الحفاظ على طراوة الدين وجدَّته وحيويّته وتقديم ضمانات لبقاء الشريعة واستمراريتها أمران مرهونان لمدى ترحيبهما (الدين ـ الشريعة) بالظاهرة الاجتهادية، ومن الواضح أن الفقهاء بقدر ما لاقت جهودهم الحثيثة نجاحاً وتوفيقاً على هذا الصعيد بقدر ما كانوا في مأمنٍ من أمواج الغفلة عن الخطر المحتمل.
إن إفساح المجال لظهور المسائل المستحدثة الفقهية وإثباتها، وبذل العناية اللازمة والكافية بها، والأهم من ذلك كله الاعتقاد بتدخّل عنصري الزمان والمكان في الاجتهاد بما يعني تغيّر الأحكام تبعاً لتغيّر الموضوع (47)،ذلك كله يدلّّ على سمة التحوّل والصيرورة في التشريع الإسلامي، رغم أنه من الممكن أن لا يتم أحياناً ــ ولدى بعض الفرق والفئات ــ التوظيف المطلوب والمناسب لـهذه الأمور.
3 ـ 3: مراعاة العرف
يعني العرف تلك السِّيَر غير الرسمية الجارية في أوساط الناس، وقد تمّ الاعتراف به إسلامياً بهذا المعنى، بل إنه أخذ حيّزاً مهمّاً في الفقه أيضاً، والمنطلق الديني لشرعية العرف في المجتمعات المختلفة إنما هو سيرة الرسول الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) في تأييد العادات المقبولة لدى شعب الجزيرة العربية وإمضائها في المرحلة التي كان الإسلام فيها في طور التكوّن والانتشار.
ويرشد هذا الأمر إلى:
أولاً- دراية الإسلام بأهمية العرف ودوره في حفظ الترابط والانسجام الاجتماعيين.
________________________________________
(47) إن المسائل المستحدثة ـ أعم من ذات الموضوع الجديد، أو عينه مع تغييرات زمكانية ـ تطرح مسائل فقهية جديدة، فتؤسّس لعناوين فقهية جديدة، كما توجب صدور أحكام اجتهادية جديدة.

[الصفحة - 223]


ثانياً- اعتقاده بعدم وجود قالب واحد للبشر جميعاً وللمجتمعات كذلك.
ثالثاً- أنه يتمتع بقراءة واقعية في سياق سعيه للانتشار الجغرافي والديمومة الزمنية التاريخية.
ويدلّ على مكانة العرف في الفقه الإسلامي ذاك الاعتقاد بما يسمَّى "منطقة الفراغ" وكذلك "المباحات"، وأيضاً ملاحظة العرف في بعض الحالات التي يراد فيها إصدار بعض الأحكام الشرعية، ويشهد لذلك قيام بعض الأحكام على ما يسمى "بناء العقلاء"، وشرط قسم ملحوظ من الأحكام الفقهية بـ"العرف الاجتماعي" أو إحالة تحديد بعض الموضوعات إلى العرف نفسه.
4 ـ 3: رعاية المصلحة
تمثل قواعد "التزاحم" و"العسر والحرج" و"الاضطرار" و"الأهم والمهم" و"لا ضرر ولا ضرار" والكثير من الأصول الفقهية الأخرى التي تراعى في مقام تحديد الأحكام الثانوية.. تمثل شاهداً صارخاً على وجود "المصالح" وضماناً أكيداً على مراعاتها وترجيح أعلاها على أدناها في سياق إصدار المجتهد لفتواه، وتدخل هذه القواعد حتى في دائرة استنباط الأحكام الأوَّلية والتكاليـف الفردية أيضاً، بغية الحيلولة دون تحميل تكليفٍ لا يطاق أو سلب مصلحة من ناحية مروّجي الشريعة ودعاتها، تماماً كما صرّح بذلك الشارع نفسه في القرآن الكريم (48).
وقد شكّلت هذه السلسلة المترابطة من المصالح والمفاسد الجارية في الأمور عاملاً من العوامل المهمَّة التي أدت إلى امتياز الفقه الفردي عن الفقه الاجتماعي، وكلاهما عن الفقه الحكومي، ليشكّل ذلك مستويات متداخلة من الأحكام تقع على تماس وارتباط مع بعضها بعضاً.
إلا أنه في الوقت عينه، يجب الأخذ بعين الاعتبار أن مراعاة الإسلام للمصلحة لم يكن أمراً مرسلاً غير خاضع لأي قانون أو قاعدة مما أمازه عن الاتجاه المنفعي الصرف (Utilitarianism)، بل إن النـزعة التي سرت في أوساط أهل السنّة أنفسهم، انطلاقاً من توظيف آليات "المصالح المرسلة"، لم تنجر إلى مثل هذا الاتجاه المنفعي نتيجة قيامها على جملة من القواعد والضوابط التي تحول دون تخطّيها، فلم يلق فقه السنّة مصيراً كهذا أيضاً، أما في الفقه الشيعي فلم تكن المصلحة أساساً تقوم عليه عملية استنباط الأحكام الشرعية، وإنما أساليب ومنافذ وطرق، أو فلنقل مفاتيح آليات يعتمد عليها الحاكم الإسلامي وفقاً لصلاحيات منحت لـه، وذلك لكي
________________________________________
(48) لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا البقرة: 286، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ الحج: 78، وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ الأنعام: 119.

[الصفحة - 224]


يستفيد من توظيفها في الحالات الضرورية والحسّاسة بغية حفظ الاجتماع الإسلامي ونظامه وفقاً لشروط خاصة، وهذه المقدّمات الاحتياطية هي التي تحول دون السقوط في مزالق النـزعة العقلية، أو المنـزع التحوّلي، أو الاتجاه المصلحي والعرفي، ومن ثم تمنح هذا الدين عناصر الوقاية دون نفوذ مثل هذا الخطر إليه، أي خطر علمنته بأحد المعاني السلبيّة.
4 ـ طلب العلم
تسارعت وتائر علمنة المجتمع المسيحي مع وقوع الثورة العلمية في القرن الميلادي السابع عشر، وقد ساعد إبطال جملة من المدّعيات العلمية للكتاب المقدّس، وردود الأفعال غير المنطقية التي صدرت عن الكنيسة ضد العلم والعلماء، والإحساس الكاذب بعدم الحاجة إلى الدين الذي عزّزه المنـزع العلمي الجديد في أوساط الناس.. ذلك كله ساعد مساعدةً بالغة في تعميق هذا التيار الجارف الذي اجتاح أوروبا برمّتها ونشره على صعيد واسع.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه ملحّاً هو: هل أن حبّ العلم والحثّ على طلبه في الديانة الإسلامية يمكن أن يفسح في المجال لظهور أفعال وأوضاع في أوساط المسلمين شبهَ ما حصل في المجتمع المسيحي؟
لقد اهتمّ القرآن الكريم ـ أكثر من أيّ كتاب مقدّس آخر ـ بموضوع المعرفة وكسب العلم، فقد أسهب في العديد من آياته في الحديث عن مسألة إمكان المعرفة (49)، ومصادرها (50)، وأدواتها (51)، وموضوعاتها أيضاً.
ولكي ندرك بوعي تام تلك الأهمية التي منحها القرآن الكريم للمعرفة بشكل عام (52)، لا بدّ لنا من عطف أنظارنا ناحية مفردات جرى تداولها في النص القرآني من قبيل: التدبّر، التفكّر، التعقّل، البرهان، العلم، البصيرة، العبرة، أصحاب العلم، أولو الألباب، أولو الأبصار، سيروا في الأرض فانظروا و... والحال أن أيّ واحدٍ من هذه المفاهيم التي سلفت الإشارة إليها لم يتمّ التعاطي معه في النص القرآني بسلبية أو ذم، وقد كان العتاب ــ أسوأ العتاب ــ نصيب أولئك الذين لم يبالوا بهذه الأمور ولا يبالون (53)، فالقرآن لا مداراة فيه إطلاقاً ولا مجاملة عنده إزاء معوِّقات الفكر والتأمّل الحر مثل التعصّب (54)، والتقليد (55)، واتّباع الظن (56)، والنفس (57)، وترجيح المصالح التي تزيل العقل والحقائق (58)، وتضييع حقوق الآخرين، وكذلك حارب القرآن وبشدّة تقليد السلف والتراث، وعبادة الأشخاص وصنميّتهم (59)، وعبادة الأهل
________________________________________
(49) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا البقرة: 31، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ العلق: 5.
(50) الطبيعة: قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يونس: 101 والبقرة: 164. التاريخ: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ آل عمران: 137، وانظر أيضاً وصية الإمام علي 7 لابنه الإمام الحسن المجتبى في نهج البلاغة. العقل: ، قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَالنمل: 64، و قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا الأنعام: 148. القلب: لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَاالأعراف: 179، و لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا الحج: 46.
(51) وَالله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ النحل: 78.
(52) يصرّ بعضهم على أن كلّ هذه التأكيدات الإسلامية على كسب العلم والمعرفة والتي لا تنسجم مع محاربة العلم التي سيطرت على التعاليم والأداء المسيحي.. يصرّ على أن تصريحات القرآن والسنة في هذا المجال محدودة بالعلم الديني، والحال أن هناك أحاديث تنفي مثل هذا الاستنتاج مثل: "اطلبوا العلم ولو بالصين" المروية عن الرسول الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) ، كما في ميزان الحكمة ج30، ص13740، أو "خذ الحكمة أنّى كانت" كما في نهج البلاغة، الحكمة رقم: 79، أو "الحكمة ضالّة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق" كما في نهج البلاغة، الحكمة رقم: 80، أو "كلمة الحكمة ضالّة المؤمن فحيث وجدها فهو أحقّ بها" كما عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) ، في ما رواه البحار، ج2، ص99. لقد كانت حركة الترجمة العملاقة التي شهدها الزمن الإسلامي منذ القرن الهجري الثاني نتاجاً من نتائج هذا الحضّ والترغيب الديني في الإسلام، وهي ترجمة حفظت ونقلت للعالم حصيلة النتاج المعرفي والحضاري للأمم التي سبقت الإسلام وظهوره.
(53) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ الله الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ الأنفال: 22، يَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ يونس: 100، وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ الإسراء: 36.
(54) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ الله وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ الزمر: 18،قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ آل عمران: 6، وعن النبي عيسى(عليه السلام)، أنه قال: "خذوا الحقّ من أهل الباطل ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق، وكونوا نقّاد الكلام"، بحار الأنوار، ج4:، ص96، وميزان الحكمة، ج3، 13882، و"لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال" هداية العلم وغرر الحكم، 10189 وعن علي 7: "إن دين الله لا يُعرف بالرجال، بل بآية الحق، فاعرف الحق تعرف أهله" ذكره في البحار، ج68، ص120.
(55) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء التوبة: 23.
(56) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَالأنعام: 116.
(57) كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ المائدة: 70، أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً الجاثية: 23.
(58) عن علي(عليه السلام) : "أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع"، نهج البلاغة، الحكمة رقم: 219.
(59) رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا الأحزاب: 67.

[الصفحة - 225]


والآباء والعشيرة (60)، في ما ساند ـ وبقوّة وبأحسن الطرق ـ تمام السُبُل التي تفضي إلى نموّ المعرفة ونضوجها كاتّباع البرهان (61)، وطلب الحقيقة (62)، والحوار والمناظرة، مانحاً الميدان لتعاطي المعارف والأفكار بروح إيجابية فاعلة (63).
إن حثّ الإسلام على التعليم والتعلّم حثٌّ عام مصاحب لإنذاره وتشدّده، فقد وردت الكثير من الأقوال في هذا المضمون، ومنها: إنَّ صرف العمر خسران إلا إذا كان من عالم أو متعلّم (64)، فلا حدّ ولا حدود لطلب العلم في الإسلام أبداً، إلا بشرطين هما:
1 ـ أن يعلم طالب العلم وراغبه أن العلم وسيلةٌ لا هدف.
2 ـ أن يَعِيَ أن العلم لا بدّ لـه في النهاية من أن يكون نافعاً للناس لا مضرّاً بحالهم وأحوالهم، أو مضرّاً بالطبيعة (65).
إن الهدف من وراء طلب العلم في الإسلام هو:
1 ـ فهم عظمة الخالق (66)، ووجوده (67)، وتقوية الروح العبادية عند الإنسان نفسه (68).
2 ـ الاستفادة من هبات الخَلْق (69).
وقد رأى رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) هذين الهدفين في عرضهما معاً، وأن كليهما أمرٌ عملي (70)، ذلك أن سبيل الوصول إلى الحياة، بمعناها العام والشامل، إنما هو كسب العلم ونيل الوعي وبلوغ المعرفة (71)، كما أن هلاك الناس ـ مادياً ومعنوياً ـ مستبطن في ترك هذين الأمرين(72).
إن ما شهدته الحياة الإسلاميّة، في حقبات من الزمن الإسلامي من أفولٍ لشمس العلم وخسوفٍ لقمر المعرفة، إنما كان ناشئاً ــ قبل كلّ شيء ــ عن التعقيدات السياسية والأوضاع الاجتماعية للمسلمين أنفسهم، لا سيما من ناحية انعدام الأمن وتبدّد الاستقرار، ما يلزم بالضرورة لتربية العلماء ونشر العلم والتعليم، إن المسافة الزمنية القصيرة الفاصلة ما بين عصر التكوّن العلمي الإسلامي وبين عصر الرسالة تشهد على التناغم الكامل الذي كان قائماً بين العلم والدين، وذلك قبل مرحلة المواجهة مع بعض المعوِّقات والتلوّثات والانحرافات التي أخذت المسلمين في طرق شططٍ وأبعدتهم عن سواء السبيل.
إن دراسة نجوم العلم والمعرفة في العصر الذهبي الإسلامي تدلّ على مدى الاهتمام الذي أولاه المسلمون للعلوم العقلية، والطبيعية، والعلوم الدقيقة في ذلك العصر، ما بلغ أضعاف ما
________________________________________
(60) قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ المائدة: 104.
(61) وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لـه المؤمنون: 117، قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ النمل: 64، وعن علي 7 أنه قال: "إنّ الطيش لا تقوم به حجج الله ولا تظهر براهين الله) راجع البحار، ج54، ص232.
(62) عن الرسول (صلي الله عليه و آله و سلم) : "في القلب نور لا يضيء إلا من اتّباع الحق"، بحار الأنوار، ج2، ص265، وعن الإمام الحسين 7: "لا يكمل العقل إلا باتّباع الحق"، البحار، ج78، ص127.
(63) ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ النحل: 125، وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ العنكبوت: 46.
(64) عن الإمام الصادق(عليه السلام): "الناس إثنان: عالم ومتعلّم، وسائر الناس همج، والهمج في النار" راجع الحياة، ج1، ص42.
(65) عن الإمام علي(عليه السلام): "واعلم أنه لا خير في علم لا ينفع ولا يُنتفع بعلم لا يحق تعلّمه" نهج البلاغة، الوصية رقم: 31.
(66) وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً آل عمران: 191، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ الروم: 22.
(67) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لـهمْ أَنَّهُ الْحَقُّ فصّلت: 53.
(68) عن الإمام عليّ(عليه السلام): "لا عبادة كالتفكّر في صنعة الله عزوجل"، الحياة، ج1، ص51.
(69) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً البقرة: 29، والغرض الثالث الذي ذكره بعض المفكّرين للعلم، هو الاستجابة لحب البحث والاستطلاع، وهذا الغرض يؤول في نهاية مطافه وبحسب نتائجه ومعطياته إلى الغرضين الأوّلين الأصليين، وعلى أية حال، فالعلم في الإسلام ممدوح في حدّ نفسه، وفضيلة في حدّ ذاته، حثّ الإسلام عليه كذلك، كما أنّ قول الله بأنّ من يؤتى القرآن يؤتى الخير الكثير (البقرة: 269) أو ما يقولـه علي(عليه السلام) من أن العلم أساس الفضائل والحسنات (غرر الحكم، 20) يمكن أن يكون ناظراً إلى الجوانب المشارة أعلاه.
(70) عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) أنه قال: "من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومن أرادهما فعليه بالعلم"، وهكذا لا يرى علي(عليه السلام) أي تعارض ما بين "المعاد" والمعاش أو الاستفادة من اللذائذ والطيبات الدنيوية المشروعة، بل يرى أن السعي خلف هذه الأركان الثلاثة هو بنفسه شرط للعقل، يقول(عليه السلام): "ليس للعاقل أن يكون شاخصاً إلا في ثلاث: مرمّة لمعاش، أو خطوة في معاد، أو لذّة في غير محرّم" نهج البلاغة، الحكمة رقم 390.
(71) عن الإمام علي(عليه السلام): "اكتسبوا العلم يكسبكم الحياة" راجع هداية العلم وغرر الحكم: 2486.
(72) عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) : "هلاك أمتي في ترك العلم" انظر: إرشاد القلوب، ج1، ص183.

[الصفحة - 226]


صرفوه على العلوم الدينية نفسها.
إضافةً إلى ذلك، كان نشر مثل هذاالنوع من العلوم والبحث والتنقيب فيها على يد علماء الدين أنفسهم، شاهداً صارخاً على انعدام أي نوع من التعارض أو التزاحم في عقول هذه الطبقة من العلماء ما بين العلوم الدينية الخاصة والعلوم غير الدينية المصطلحة، وأنهم كانوا يعدّون عملهم هذا مقبولاً ومرضياً عند الله تعالى، فهو سبحانه يحبّ العلماء (73).
إن شخصيات بارزة في التراث الإسلامي، من أمثال جابر بن حيان (عالم الكيمياء)، والخوارزمي (عالم الرياضيات)، والمسعودي (عالم الجغرافيا) والبيروني (عالم الانتروبولوجيا)، وابن سينا (الفيلسوف والطبيب)، وعمر الخيّام (الشاعر وعالم الرياضيات)، والخواجه نصير الدين الطوسي وابن رشد الفيلسوفان البارزان، وغيرهم من علماء الدين الكبار في عصرهم.. يؤيّد ما زعمناه من هذا التلاؤم والتفاهم القائمين بين العلوم الدينية والدنيوية.
لقد كان الكندي، والسجستاني، وابن رشد، والفارابي، وابن سينا وزعماء إخوان الصفا من أشهر فلاسفة المسلمين على الإطلاق، فقد جمعوا ما بين اتجاهاتهم ومشاربهم المختلفة وبين نفي التضاد المدّعى بين الدين والفلسفة (74).
إن القراءة الإيجابية المتفائلة التي حملها هؤلاء إزاء العلوم العقلية لم تكن مستقلّة أو منفصلة عن المعتقدات الدينية والسلوك المتشرّعي الذي كانوا يسيرون عليه، ولذلك نجحوا في طَلْيِ العلوم والفلسفات الواردة من الحضارات المختلفة إلى الداخل الإسلامي بطلاء إسلامي يحمل لوناً إسلامياً وصبغةً إسلامية، بحيث غدا هذا المنْتَج الجديد متمايزاً عن غيره بكلّ سهولة حتى لو كان الآخر شبيهاً به جدّاً.
* * *
________________________________________
(73) عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) : "ألا إن الله يحبّ بُغاة العلم" راجع الحياة، ج1، ص277.
(74) زرين كوب، عبدالحسين، در قلمرو وجدان، طهران، علمي، 1990، ص306 ـ 308.

[الصفحة - 227]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف