البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

المجتمع المدني الإسلامي قراءة أولية في الإشكاليات المعاصرة

الباحث :  أ. نبيل علي صالح
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  42
السنة :  السنة الحادية عشر صيف 1427هجـ 2006 م
تاريخ إضافة البحث :  March / 21 / 2015
عدد زيارات البحث :  1647

المجتمع المدني الإسلامي قراءة أولية في الإشكاليات المعاصرة

أ. نبيل علي صالح (*)
إن التأسيس النظري لبدايات تشكيل وبناء المجتمع المدني الإسلامي في عصرنا الراهن، يجب أن يمر أولاً على طريق فض النزاعات والخصومات الفكرية المعرفية السائدة على الساحة الثقافية والسياسية العربية والإسلامية حالياً، والتي يمكن تلخيص جوانبها المختلفة في إشكالية نظرية (وعملية) موضوعية هامة جداً هي إشكالية «الإسلام والعلمنة، وقضايا الحرية والديمقراطية والأخلاق الواقعية العملية»، وذلك بعنوان كونها ـ بحسب رأي التيارات والنخب العلمانية ـ من مقومات الانتقال إلى المجتمع الإسلامي (العلماني).
ويصل الأمر بتلك النخب أن تطرح وتنظّر لوجود تصادم وتناقض دائم بين البناء الإسلامي، وبين الحرية والاختلاف أو تعدد الآراء والاجتهادات، بحيث يبدو الإسلاميون وكأنهم في حالة ازدواجية بين قناعتهم الفكرية والنظرية وبين ممارستهم السياسية العملية. أي بينها وبين ركائز وآليات عمل المجتمع المدني نفسه. (1) وهذا التعبير نجده واضحاً في نقد النماذج الإسلامية، ومحاولة إيجاد عنصر رابط لكل تجاربها وأنماطها، بحيث تلقي التبعة على قدرة الدين على بناء حياة سياسية جيدة متطورة تناسب ازدهار وتطور الحياة المدنية.
لا شك بأن هناك إشكالية دائمة تواجه الإسلاميين تستلزم منهم إجابة شافية
________________________________________
(*)باحث وكاتب، من سوريا.
(1) يعتبر بعض المثقفين والنخب الفكرية والسياسية أن الأديان ـ عموماً ـ والطوائف والعشائر والقبائل تقف على تضاد (وطرفي نقيض) مع صيغة الدولة باعتبارها مؤسسة حديثة. وتبعاً لذلك، فإن هذه الانتماءات ما قبل الوطنية والقومية (والتي ترتد بحسب زعمهم إلى منطقة القاع الحضاري الماضوي الجامد للأُمة) تشكل ـ بمجملها ـ حواجز ومعيقات عملية تحول دون الانتقال إلى المجتمع المدني، حيث ستصر تلك الانتماءات على التمظهر ـ الإرادي أو القسري ـ في داخل ثنايا مؤسسات هذا المجتمع.. وبالتالي ستؤول إليها في النهاية دفة السيطرة عليه.
والأمر الذي نستغربه كثيراً في طبيعة هذا الطرح ـ وغيره من الطروحات المتماهية فيه أو المتوازية معه ـ هو إصراره الشديد على عدم التمييز والتفريق بين الدين كحالة حضارية ـ بالغة الرقي والتكامل ـ في الفكر والإحساس والممارسة، وبين الطائفية (والقبلية و…) كحالة عشائرية ليست من الدين في شيء.
فللدين مضمون ثقافي وسياسي يتصل بالحياة وبالتحديات التي تواجه الإنسان فيها.. في قضايا الحق والباطل، والظلم والعدل، وما إلى ذلك. ويوجد لهذا المضمون خطاب عملي واُسلوب حياة يريد من خلاله دعوة الناس سلمياً إلى فكرته الحضارية الإنسائية.
وهنا نلاحظ أن كل خطاب تغييري لابد أن ينطلق في الحياة من خلال وجود قواعد ومرتكزات ثقافية حياتية إنسانية، الأمر الذي يلزمه ـ بحكم ضرورة امتداده إلى الساحة الحياتية العامة ـ بأن يأخذ ببعض الأساليب والأجواء السياسية والاجتماعية، عندما تتصل قضية السياسة بقضية المصير الإنساني. أما الحديث عن ماضوية وجمود الانتماء والخطاب الديني عند بعض المثقفين فإنه يشبه تماماً الحديث عن ماضوية وجمود الخطاب السياسي والاجتماعي المعبّر عن مضمون ثقافي معين خاص بهذا الطرف أو ذاك .. والماضي ـ أساساً ـ هو تجربة اُناس عاشوا قبلنا فانطلقوا من خلال ظروفهم الموضوعية الثقافية والبيئية، وأوضاعهم الخاصة والعامة ليكسبوا فكراً وعلماً وتاريخاً.. ولذلك فإن الماضي شأنهم هم وليس شأننا، إلاّ بمقدار ما يحتاجه الحاضر من الماضي، باعتبار أن الماضي قد يختزن في داخله بعض القضايا والأفكار الحقيقية التي تتصل بالحياة؛ لأنها من خصوصيات الحياة، وليستْ من خصوصيات الزمن في عناصره الذاتية الضيقة والمحدودة.

[الصفحة - 49]


ووافية تتمحور حول السؤال التالي: هل بإمكان الإسلام (السياسي!) بناء نظام اجتماعي مدني ينتج قانوناً إسلامياً مدنياً؟! وما هي حدود العلاقة التي يقيمها هذا النظام المدني مع الآخر أياً كان انتماؤه وتوجهاته الفكرية؟! وهل هناك علاقة بين هذا النظام الاجتماعي المدني الإسلامي وبين الآخر العلماني؟!
في الواقع، لا تزال المسألة العلمانية تشغل الأوساط الثقافية العربية والإسلامية التي لم تتفق حتى الآن على تحديد المعنى المصطلح لكلمة «العلمانية»، (2) وربما يعود السبب الكامن وراء هذا الاختلاف في فهم المصطلح إلى طبيعة الجدل الذي انطلق من خلال منشأ تلك الكلمة ـ بلفظها ودلالتها ـ في البنية المعرفية الغربية، ومحاولة النخب والقوى الثقافية عندنا إيجاد مناخ مناسب لها في فضاء الثقافة الإسلامية، يمكن أن تنمو فيه «نبتة» العلمانية. وقد قاد هذا الاختلاف إلى انقسام النهضويين والسلفيين بشأن الأسئلة الكثيرة المثارة حول العلمانية وطبيعة علاقتها بالدين والدولة، والإشكاليات الناتجة عن طرح هذا الموضوع الفكري في السياق المعرفي الإسلامي في ظل المتغيرات الاجتماعية والسياسية المحلية والدولية، التي لا تزال تشهدها اُمتنا حتى الآن.
لقد جاء تقديم الإجابات عن تلك الأسئلة النهضوية ـ من قبل مفكري النهضة ومن جاء بعدهم تقريباً ـ دون مستوى الآمال والطموح في كثير من مواقعه واتجاهاته، متأثراً بعوامل وظروف تاريخية سياسية عديدة، كان من أبرزها الظروف الناشئة من حركة الاستعمار الأُوروبي لقسم كبير من بلاد العرب والمسلمين، وما رافق ذلك من تحولات اجتماعية واقتصادية وفكرية كبيرة. من هنا انقسمت الإجابات المتعلقة بالعلمانية ـ بشأن نشأتها في بلادنا ـ إلى قسمين:
الأول: قدّس العلمانية واعتبرها خشبة الخلاص والإنقاذ من بحر الظلمات والتخلف الذي تعيشه بلادنا في داخلها، بل وغيرها من البلدان المتخلفة باعتبار أن مسيرة التاريخ الكوني آيلة إلى العلمانية(نهاية تاريخية!!).
أما الثاني: فقد لعنها ورفضها وأصدر بحقها الفتاوى والتحريمات من دون الوقوف الواعي والمتأمل ـ إلاّ فيما ندر ـ أمام هذه الظاهرة التي لا يمكن توصيفها
________________________________________
(2) طرح هذا المفهوم (العلمانية) ـ نسبة إلى العلم: العالَم (الدنيوي أو المذهبي الدنيوي) ـ في سياق المواجهة التي دارت بين الكنيسة ورجالاتها من جهة وبين القوى الزمنية والعلمية الممثلة بالأُمراء والملوك من جهة اُخرى، نتيجة ادعائها لسلطة الحق الإلهي الذي استبعدت الكنيسة من خلاله حق الإنسان في تنظيم اجتماعه السياسي والمدني، وإدارة شؤونه العامة، وتقرير مصيره، وأدخلت جملة من المعايير والقيم الدينية في صلب الممارسة السياسية. لذلك كان الصراع مريراً والرد قاسياً، وقد أدّى ذلك إلى اشتعال حروب مدمرة دينية، ودينية ـ سياسية استنزفت الجهد البشري على مدى قرون طوي
ومن هنا جاءت حركة العلمنة لتفصل بين الكنيسة والدولة، وتحرر المسيحية من إرث الكنيسة المتخلف، وترجعها إلى حدودها الضيقة الأولية، وتبلور ـ للمرة الأولى ـ مفهوم العلمنة كدعوة للفصل بين الديني والدنيوي. وبذلك ولدت العلمنة في سياق الصراع بين سلطة الكنيسة وبين العلمانيين. ويلاحظ هنا أن وجود سلطان روحي لدى المؤسسة الكنسية ـ في مقابل سلطة الدولة ـ مكّنها من التدخل في القرارات المختلفة، ومصادرة قرارات الدولة، ومواجهة حرية العقل والتفكير والضمير باسم الحفاظ على الإيمان الصحيح وصيانته، إن ذلك هو الذي أكسب العلمانية معنىً إجرائياً في المجتمعات الغربية، وأعطاها مبدأ الضرورة في عملها للفصل بين سلطة الدولة وسلطة رجال الدين.

[الصفحة - 50]


بسهولة ويسر. باعتبار أنها جملة من التحولات التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية والإيديولوجية المعرفية.
ويبدو لنا أن هذه الثنائية التناقضية ـ في طبيعة الموقف أو ردّ الفعل العربي والإسلامي على مسألة العلمانية ـ قد حرم المشتغلين بقضايا الفكر والثقافة والتراث الإسلامي من تقديم قراءة نقدية موضوعية جادة لمسألة العلمانية ـ والنتائج التي أدت إليها في مجتمعاتنا في سياق حركة التطبيق والفعل ـ ولغيرها من المسائل الفكرية التي كانت موضوعاً للانقسام الحاد بين رواد النهضة وبين التيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية المشتغلة بهذه المسائل.
هذا وسنحاول في هذه العجالة الفكرية تقديم قراءة نقدية لمفهوم العلمنة، وإشكالية العلاقة بينه وبين الدين الإسلامي.
ذكرنا سابقاً أن القرآن الكريم يقدم الدين الإسلامي للناس جميعاً على أساس أنه عقيدة إلهية ناظمة لحركة الواقع الروحي والمفاهيمي، وينبثق عنها قانون ونظام كامل للإنسان والحياة، لذلك فهو(أي الإسلام) ليس مجرد علاقة روحية بين العبد وربه وحسب، فيها شيء من الروح ونفحة من الأخلاق تنعكس على الواقع الداخلي للإنسان، كما أنه ليس جملة تصورات قيمية لا تخضع للعقل والعلم، ولكنه دين حياتي عملي أنزله الله من أجل إقامة العدل بين الناس، وبالتالي إيصال كل إنسان إلى كماله الممكن له بالكلمة الطيبة والقلب المنفتح والروح المتسامية. وهكذا انطلقت الأديان كلها ـ ومنها الإسلام ـ منذ بداية حركة التاريخ وفجر النبوات من أجل أن تشرّع للإنسان القوانين والمبادئ التي تنظم له خط العدل، عدل الإنسان مع ربه، وعدله مع نفسه، وعدله مع الناس وعناصر الحياة الأخرى من حوله (3) . وجعلت له في كل ما يفعل وما يترك قانوناً معيناً مبرمجاً يستمد حيويته وحركيته مما أراد الله من مصالح للإنسان ليقوم بها، وليبتعد عن المفاسد التي نهاه عنها.
من هنا لا يكون الإسلام فكرة روحية وأخلاقية مجردة ومثالية تحلّق في عالم الخيال، أو تعيش في داخل الذات في علاقة الذات بالله. ومن هنا أيضاً يكتمل الجانب الروحي للإسلام بالجانب السياسي، كونه يمتلك جانباً غيبياً يتصل بالعقيدة، وجانباً
________________________________________
(3) لاحظ قوله تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط(الحديد:22) الذي يعني أن مسألة الدين تساوي وتوازن مسألة العدل. أي أن الرسالات السماوية كلها تختصر حركتها بهدف واحد هو العدل. والعدل يمثل قيمة عملية واقعية لا يمكن أن تتحقق من دون آليات، وهيئات، ومؤسسات، وقوى سياسية مختلفة تسعى إلى تحقيق قيمة العدل. إن مسألة عدل الإنسان، وعدل الحاكم، وعدل القانون، وعدل القضاء هي مسألة تختزن في داخلها المعنى الدنيوي، والخط السياسي التنظيمي الحركي الذي يقود الناس إلى النظام الأفضل في حياتهم، والذي لا يمكن أن يتحقق إلاّ من خلال التقائه بالقيم الدينية الحقيقية الإنسانية.

[الصفحة - 51]


مدنياً يتصل بالحياة والوجود الخارجي، ولا يوجد فصل أو قطيعة بينهما حتى نتحدث عن إشكاليات إدخال السياسة في الدين أو إدخال الدين إلى عمق الحياة السياسية والاجتماعية؛ لأنه من المفترض ـ مبدئياً ـ أن يمارس الدين عمله ووجوده ـ في الواقع الاجتماعي المدني ـ من خلال الأساليب والأدوات العقلانية المتوازنة التي لا تسيء إلى خطوطه العامة، وإلى أخلاقياته وقوانينه.
إن هذا الرأي صحيح عقائدياً وفكرياً؛ لأن الإسلام ـ وبخلاف المسيحية (4) التي ساعدت هي نفسها على إحداث الفصل بين الدولة والدين ـ منظومة من المبادئ والأحكام والضوابط الشرعية التي يلتزمها الفرد المسلم بصفة أنها واجب رباني مقدس في مجال الحقوق والواجبات الشرعية والسياسية، وعلى نطاق المعاملات، والعقود، والعقوبات، وقوانين خاصة وعامة أو تفصيلية في مجال الحقوق الفردية والاجتماعية تنظّم سلوكية الفرد والجماعة والأُمّة. ثم إن نبي الإسلام (رضي الله عنهم) نفسه كان قائداً للدولة الإسلامية، وهو الذي عقد التحالفات، وخاض الحروب، ونظم المعاهدات، ووقع المواثيق، واضطلع بمسؤوليات تنظيم الاجتماع السياسي والمدني الديني.
إضافة إلى ذلك فإن التاريخ السياسي والاجتماعي الإسلامي لم يشهدْ أبداً أية حركة قامت على أساس الفصل بين الديني والدنيوي، أو الفصل بين الدين والدولة، أو بين الدين ونظام الاجتماع السياسي أو الحقوقي أو المدني (باعتبار أن الإسلام كان هو الذي أسس للجانب المدني، وأكد عليه، وشرّع له) على الرغم من أن نفس هذا التاريخ قد عرف الكثير من ثورات الإصلاح في داخل الأُمّة، التي قامت غالباً على مبدأ ضرورة العودة إلى روحية المبادئ الإسلامية الأصيلة الأُولى في وجه السلطات السياسية الحاكمة التي استأثرت بالفيء، وبالسلطة، والامتيازات لوحدها مدعية أنها تحكم بموجب صك إلهي مقدس.
إن البدايات الزمنية الأُولى لتاريخية الصراع الفكري بين أنصار مشروع الدولة الإسلامية، وأنصار الصيغة العلمانية لا تكاد تتعدى بضعة عقود من السنين، كان الوعي الإسلامي قبلها لا يعيش اضطراباً حيال القضية، مفهوماً ومشروعاً، بل جل النقد الذي كُتب ـ في هذا المجال ـ كان يتطلع إلى إدخال تعديل على التجربة القائمة فعلاً باسم
________________________________________
(4) تخلو المسيحية من المبادئ والشرائع الخاصة بتنظيم الاجتماع البشري على صعيد السياسة والحقوق والمعاملات. فمملكة المسيح ليست في هذا العالم، وهي ـ في الأساس ـ فصلت بين الله وبين القيصر. لذلك فالمسيحي عندما يرتضي العلمانية كحركة في الجانب القانوني التشريعي الوضعي لا يخسر شيئاً من التزامه وإيمانه الديني. ولكن المسلم يخسر كثيراً؛ لأنه إذا أمكنه أن يخضع للواقع القانوني المدني ـ في غير المجتمعات المتنوعة ـ فإنه يعيش ازدواجية فكرية وعملية في الواقع بين ما هي الشريعة وما هو القانون المدني. وبذلك يكون الإرباك والاضطراب والقلق السلبي محور حياته.

[الصفحة - 52]


الخلافة أو باسم الدولة الإسلامية. وبضعة عقود في حساب الوعي التاريخي للأُمم لا تعطي شرعية للصيغة العلمانية للدولة إذا أردنا أن ننظر إلى المسألة من زاوية التقادم الزمني.
فالمسلمون عاشوا طوال قرون مع صيغة الدولة الإسلامية ـ بصرف النظر عن نقاشنا لهذه الصيغة إيجاباً أم سلباً ـ دون أن تكون هناك مشكلة نظرية تقود إلى الرفض، وإذا كنا قد شهدنا كثرة الصياغات الاجتهادية، فهي جميعاً تلتقي على الإيمان الكامل بالدولة الإسلامية كقاسم مشترك فيما بينها (5).
ونحن قد نفهم العلمانية ـ في حقيقة مفهومها العلمي الصريح ـ بأنها ليست ضد الدين، وليست إلحاداً، بالرغم من وجود فئات ملحدة تتخذ العلمانية شعاراً لها. (6) وأنها لا تلتزم ـ في الواقع القانوني ـ ديناً معيناً، وليست ملزمة ـ في الواقع السياسي ـ بخطوط دين معين. أي أنْ يغرق الدين والمتدينون في تسابيحهم وطقوسهم وصلواتهم وغيبياتهم في داخل الكنيسة والمسجد والقلب (باعتبار أن عرش الدين ليس له مكان سوى القلوب والضمائر) وتُترك الحياة ـ في الخارج ـ للناس كي يدبروها وفقاً للتشريعات والقوانين الوضعية التي يرونها مناسبة وصالحة لمعيشتهم الدنيوية المتطورة باستمرار.
إنني أرى ـ من خلال المقاربة السابقة ـ أن نقطة الخلاف الوحيدة بين العلمنة المؤمنة (7) وبين الإسلام هي في علاقة الدين بمسألة التشريع والسياسة التي يعتقد العلمانيون بعدم وجود أية صلة للدين بتنظيم المجتمع سياسةً وتشريعاً، في حين يرى المسلمون أن الدين الإسلامي أساس في عملية التشريع والسياسة والتدبير، باعتبار أن العدل يختزن في داخله عدل الحكومة والسلطة والحاكم، وعدل الشعب وعدل المجتمع والأُمّة. وعندما يكون الأمر كذلك فكيف يمكن أن تتحرك مسألة العدل في الواقع الاجتماعي والسياسي؟!
في الواقع لا بدّ من وجود إدارة تمارس العدل من خلال الشخصيات التي تتولى تنظيم وتسيير اُمور المجتمع والناس، والشخصيات التي تراقب الذين يتولون إدارة شؤون الناس، والشخصيات التي تراقب الساحة التي يتحرك فيها هؤلاء وأولئك..
________________________________________
(5) خالد توفيق، موقف التيار العلماني من الدولة الإسلامية .. مجلة التوحيد الإيرانية، العدد 93، ص 30، 1998م.
(6) يرفض الإسلام رفضاً قاطعاً مفهوم العلمانية الملحدة، ويتنافى قطعاً مع موجباتها ومنطلقاتها وركائزها الفكرية. وهذا عائد إلى طبيعة العقيدة الإسلامية بوصفها نظام فكري وعقائدي ديني، في حين أن العلمنة تنفي الدين من أساسه. لذلك لا مجال للتوفيق أو الالتقاء بينهما.
(7) مصطلح فكري يشير إلى العلمانية التي تقول بالتصرف وفق المقتضى العقلي، وفصل الدين عن الدولة، لكن من دون التورط في مواجهة حادة مع الدين من خلال نفيه. أي أنها تعترف وتقر بوجود الدين وتتعايش معه بسلام. لكنها لا تعطيه دوراً في العمل السياسي والتشريعي القانوني. ويمكن أن نقول هنا بأن للعلمانية ـ على العموم ـ وجوهاً
أ ـ وجه معرفي يتمثل في نفي الأسباب الخارجة عن الظواهر الطبيعية أو التاريخية.
ب ـ وجه مؤسسي يتمثل في اعتبار المؤسسة الدينية ـ كما هو الحال بالنسبة للعلمانية المؤمنة ـ مؤسسة خاصة.
ج ـ وجه سياسي يتجلى في عزل الدين عن السياسة.
د ـ وجه أخلاقي وقيمي يربط الأخلاق بالتاريخ، والوازع بالضمير. وبذلك فإن نظرية الفصل بين الدين والدولة تتلخص ـ بحسب العلمنة ـ في ميدانين رئيسيين: ميدان المجتمع السياسي الذي تصبح فيه هذه النظرية رداً مباشراً على النظام الثيوقراطي، وميدان النشاط العقلي حيث تهدف العلمانية إلى تصفية الإرث الماضي، والقضاء على النظام اللاهوتي، واستبداله بالنظام العلمي كمصدر لمعايير المعرفة الصحيحة واليقينية.

[الصفحة - 53]


هل هذا إلاّ الحركة السياسية في الواقع؟! لا سيما إذا عرفنا أن هناك عدلاً في الأمن، وعدلاً في القانون، وعدلاً في الحكم، وعدلاً في السياسة. أما إذا أردنا من السياسة، مفهوم اللعبة الشيطانية التي تسمى «اللعب على الحبال» وممارسة الالتواء والانحراف، فهذه السياسة لا يرفضها الدين وحسب، ولكن ترفضها كل المواقع والاتجاهات والحركات الحضارية التي تريد للإنسان أن ينفتح على قضايا الإنسان والحرية والعدالة بالطريقة المسؤولة الواعية التي تُؤسس لوجوده الفعّال وتبني له إنسانيته، بدلاً من أن تسقط له إنسانيته من خلال ممارستها لأساليب وفنون اللعبة السياسية بالمفهوم المتداول حالياً في مختلف الأوساط الفكرية والسياسية. وإذا كان هدف السياسة الدينية إقامة العدل بين الناس، وإيصالهم إلى ما يصلح اُمورهم وأحوالهم، ويبعدهم عن الانخراط في أجواء الفساد والانحراف، وبالتالي يحثهم على السير في خط الله والخير والعدل. وإذا كانت السياسة ـ في أعلى تعابيرها وأصدق معانيها ـ تهدف إلى إقامة العدل والتوازن والمساواة بين الناس.. فلماذا نفرق بين ما هو ديني وبين ما هو سياسي، يتساءل الإسلاميون؟!
إذاً، ليس للعدل معنى في الواقع العملي من دون سياسة، كما أن الدين ليست له أية واقعية أو فائدة من دون عمل.. فلماذا إذا تريد العلمانية ـ وهذا هو لسان حال الإسلاميين ـ فرض دينها وتشريعها الوضعي الجديد علينا كمسلمين، ونحن نزعم بأننا نمتلك قانوناً متكاملاً ندين به ونحترمه، ونقدسه، ونلتزمه في مسيرتنا الحياتية والإنسانية بكل مفرداتها وعناوينها، من خلال تشريعات الله الدينية والمدنية الواردة في القرآن الكريم والسنة الشريفة؟! ولماذا يصر عليها (على العلمانية) أصحابها بعد أن أدت إلى تحطيم التكوينات السياسية والاجتماعية والثقافية التقليدية في بلدانها، وخلخلت التوازنات الاجتماعية المادية والروحية، الأمر الذي كشف لنا بوضوح عجزها الفاضح عن صياغة معايير ونظم جديدة يمكن أن تكسبها ولاء الجماعة، وشرعيتها، وإجماعها كشرط أساسي لإنهاء التناقضات الاجتماعية والتوترات السياسية المتفجرة في كل حدب وصوب من عالمنا الإسلامي، والإسراع في معالجة الأزمة الحضارية المفتوحة التي من مظاهرها تدهور المناخ الفكري، ومصادرة الحريات
________________________________________

[الصفحة - 54]


العامة، وتراجع مناخ الحوار العقلاني والمسؤول.
إننا نريد أن نؤكد هنا على وجود خلاف ثانوي(أو أساسي) حول فكرة ـ أو نظرية، أو واقع معين بين التيارات والنخب السياسية والثقافية المختلفة ـ يجب أن يكون قاعدة للالتقاء، ومنطلقاً للبدء بحوار جدي فيما بينها، بهدف استبعاد الإشكاليات والتعقيدات الساخنة المتحركة هنا وهناك التي قد تتحول إلى مصدر للنزاعات الدموية، كما يحصل حالياً، بدلاً من أن تكون أساساً للتفاهم وتحكيم لغة العقل والحوار النقدي الموضوعي الذي كان لغيابه عن ساحتنا الأثر الأكبر في جعل العلمانية أكبر موضوع سوء تفاهم على الإطلاق في الفكر السياسي العربي الحديث.
لقد كانت محصلة ذلك التعقيد بين العلمانيين والإسلاميين أن انتفت علاقات الوعي والحوار المتواصل بين القوى والنخب الفكرية والسياسية العربية والإسلامية التي تورّط ـ فرق منها ـ في إقصاء ونفي الإسلام نفياً كاملاً من دائرة الاجتماع السياسي؛ لظنه خطأً بأن هذه الطريقة الاستبعادية المأزومة هي السبيل الوحيد لإقامة الدولة الحديثة بجنتها العلمانية الموعودة، فيما تورط قسم كبير من الفريق الآخر بمعاداة الدولة الحديثة؛ لظنه بأنها بديل عن الإسلام، أو على الأقل لظنه بأنها بديل عن قيم الإسلام وشرعيته في المجال السياسي والاجتماعي.
لقد نتجت تلك الورطة التي وقع فيها فريق من الإسلاميين ـ في إطار موقفهم الرافض مطلقاً لفكرة العلمنة ـ عن وجود خلل منهجي وفكري في طريقة وعيهم واستيعابهم لمدلول ومصطلح «العلمنة» من خلال عدم التفريق ـ إسلامياً ـ بين موضوعة السلطة كشأن بشري خاضع للتصورات والمفاهيم والتحولات والتغيرات البشرية بكل عناوينها ومفرداتها، وبين موضوعة الشريعة التي تعتبر شأناً إلهياً لا دخل للإنسان فيه مطلقاً.
إن الإسلام يؤكد في هذا السياق على ضرورة عدم تدخل السلطة أو المؤسسة الدينية ـ كسلطة إلهية تدعي لنفسها العصمة وعدم الخطأ ـ في حركة المجتمع والناس، طبعاً فيما يخص السلطة والحكم وطرق (آليات)تداول السلطة التي يجب أن ترتكز ـ في الوعي الإسلامي ـ على مبدأ الحرية والاختيار، وحق المعارضة في النقد،
________________________________________

[الصفحة - 55]


وحرية التعبير وإبداء الرأي الذي ضمن الإسلام وجوده وهيّأ له أجواءه الخاصة.
وهذا ما تؤكده العلمنة المؤمنة في واقعها النظري في تركيزها على أهمية حق المجتمع في اختيار نوعية الحكم والممارسة السياسية التي يرتضيها لنفسه من أجل إدارة مختلف شؤونه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والفصل في خصومات أبنائه وخلافاتهم.
إن الإسلام لا يلغي كسب العلمانية الغربية في ما أنجزت من تحرير للعقل، وإبداعات علمية تقنية، وحريات ديمقراطية، بل يرحب بها، ويهب لها الرؤية التكاملية والفكرة الموجهة، بما لا يجعل منها وسائل للتسلط والتدمير، إنما مجرد وسائل لعبادة الله تعالى والتقرب إليه، عبر تسخيرها لخدمة العائلة البشرية كلها، والمحافظة على الكون، وإعداد الإنسانية لنيل رضوان الله (خالق الكون والإنسان) والسعادة في الدنيا والآخرة، وتحقيق التعارف والتعاون والعدل بين البشر استجابة للنداء الإلهي لكل البشر { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنا أكرمكم عند الله أتقاكم } (البقرة:13). كذلك فإن العلمنة نفسها لا تفترض ـ ولم تفترض في أي مكان ـ فصل الدين عن السياسة، أو المعارضة بين قيمهما، فقيم السياسة لا يمكن أن تصدر عن شيء آخر غير معتقدات المجتمع وإيمانه، وإلاّ أصبحت السياسة نفياً لهويته الوطنية.. هذه هي وجهة نظر فريق الإسلاميين.
ويبقى علينا هنا أن نفكر ـ بعد المقاربة السابقة ـ بعقلانية متسائلين: كيف نحل إشكالية الإسلام والعلمنة؟!
في الواقع إن الإنسان المسلم محكوم بفكرة (وفطرة) التوحيد.. أي التنزيه المطلق لله تعالى. هذه الفكرة تحظى ـ على ما يبدو ـ بالأولوية المطلقة في فكره، وعقيدته، وجميع تصوراته عن الحياة والوجود؛ لتشكل ـ من خلال ذلك ـ الأساس الأولي لكيان الأُمّة المسلمة الواحدة. لكن هذا الفرد المسلم يواجه ـ كغيره من أفراد البشرية ـ واقعاً تعددياً متناقضاً في عناصره ومعطياته وأبعاده.. في طبيعة الواقع الدنيوي الاجتماعي والحضاري، فكيف يوفق ـ والحال هذه ـ بين عقيدته التوحيدية ودنياه التعددية المتنوعة؟! كيف يرضي ربه من خلال الالتزام بأوامره ونواهيه، ويعمل ـ في
________________________________________

[الصفحة - 56]


الوقت نفسه ـ على فتح إمكانات واقعية جديدة له في الحياة الاجتماعية التي يعيش بين جوانبها بمستجداتها ومتغيراتها المتناقضة والمناقضة ـ في كثير من مناحيها ـ لعقيدته وفكره الديني؟! ما هو الحل؟ وكيف يحسم الأمر، إذا كانت هناك إمكانية للحسم في واقعنا السياسي والاجتماعي المتخلف الراهن؟!
باعتقادي أنه لن تكون هناك ثمة إمكانية لأي حسم معرفي عملي لأزماتنا المتتالية، طالما أننا لا نزال مستغرقين في ثقافة تقليدية مهيمنة على الروح والجسد معاً، وطالما أننا نلف وندور حول ما تعكسه تلك الثقافة في الواقع من أعمال وانتهاكات لأبسط القيم الإنسانية، والإنسان في عالمنا الإسلامي لم ينخرط بعد بفعالية في عملية التنمية والإبداع الحضاري التي لا يمكن أن تتحرك من دون توفر شرط الحرية؛ ليكون باستطاعة مكونها الحقيقي السير والاستفادة الفعالة والمنتجة من القدرات والطاقات الهائلة الموجودة داخل هذه الأُمّة، من خلال ضرورة تعبئة إمكانياتها ومواهبها في معركتها الحاسمة ضد كل مواقع تخلفها واهترائها وانهيارها الحضاري الاجتماعي والسياسي، والواقع العملي يثبت صحة ذلك.
إننا نهدف من خلال الطرح السابق إلى إطلاق سراح الاجتماع المدني والسياسي الإسلامي، وتحرير عناصره ومنطلقاته الموضوعية المحاصرة بين علمنة تتسع للإسلام ولكنها تصر على استبعاده وعزله ونفيه، وبين إسلام يتسع للصيغة المدنية المؤسساتية المبنية على الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان، ولكنه يصر على استبعادها من خلال سلوكيات وتنظيرات كثير من منظري ومنتجي ثقافة الإسلام المعاصرة.. ولعل في هذه الحقيقة المرة ما يسلط ضوءاً على ذلك الانشطار العدائي الحاد في داخل المجتمعات العربية والإسلامية بين المجتمع المدني والسياسي.
ولذلك، قد يساهم ذلك العلاج الوسطي التقريبي ـ إذا صح التعبير ـ في تطوير الواقع السياسي والاجتماعي للمسلمين، ويدفع باجتماعهم المدني إلى المواقع الضرورية من التقدم، والدرجات العالية من الرقي، وامتلاك شروط الحياة المعاصرة، ومواجهة تحدياتها من خلال ضرورة التجديد والاجتهاد في فهم الدين، ومواكبة
________________________________________

[الصفحة - 57]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف