البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

عبدالرحمن الكواكبي وحركة الإصلاح الديني مشروع مناهضة الاستبداد

الباحث :  أ. مختار الأسدي
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  44
السنة :  السنة الحادية عشر شتاء 1427هجـ 2007 م
تاريخ إضافة البحث :  March / 22 / 2015
عدد زيارات البحث :  5085

عبدالرحمن الكواكبي وحركة الإصلاح الديني مشروع مناهضة الاستبداد

أ. مختار الأسدي (*)

مقدمة حول سيرته الذاتية (1)
ولد الكواكبي في حلب (1855) لأُسرة عربية، تمتد جذورها إلى الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) من جهة الوالدين. توفيت والدته عـفـيـفة آل النقيب وعمره ست سنوات، فكفلته خــالته صفية واصطحبته إلى بيتها في أنطا كية، حيث بقي هـناك ثـلاث ســنوات، عـاد بعـدها إلى حلب؛ ليتعلم فيها على يـد الشيخ «طاهر الكلزي». وبعد أن تعلم القراءة والكتابة، وأتم قراءة القرآن وحفظه، عـــاد إلى خالته، كي ترعــى تنمية علومه، فاستعانت بقريبها «نجيب النقيب» (أصبح فيمابعـد اُستاذاً للخديوي عباس الذي كان على عرش مصر حين لجأ إليهاالكواكبي).‏
وحين أتمّ تعليمه هناك، عاد إلى حلب ليتابعه بالعـربية والفارسية، بعـد أن أتقن التركية في أنطاكية، فدرس الشريعة والأدب وعلوم الطبيعة والرياضيات في المدرسة الكواكبية، التي كانت تتبع مناهج الأزهر في الدراسة، وكان يشرف عليها ويدرّس فيها والده مع نفر من كبار العلماء، لم يكتفِ الكواكبي بالمعلومات المدرسية، فقد اتسعت آفاقه أيضاً بالاطلاع على كنوز المكتبة الكواكبية التي تحتوي مخطوطات قديمة وحديثة، ومطبوعات أول عهد الطباعة، فاستطاع أن يطلع على علوم السياسة والمجتمع والتاريخ والفلسفة…الخ.
________________________________________
(*)باحث وناقد، من العراق.
(1) جميع المعلومات التي وردت في هذه المقدمة، اُخذت من كتاب حفيد الكواكبي القاضي سعد زغلول الكواكبي، وهو بعنوان "عبد الرحمن الكواكبي: سيرة ذاتية" دار بيسان ـ بيروت، ط1، 1998، ص15120ـ بتصرف، اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق.

[الصفحة - 81]


لا شك أن هذه الثقافة المنفتحة التي تمتع بها الكواكبي بالإضافة إلى التربية الإسلامية منحته شخصية متميزة.‏
عمله الصحفي
بدأ حياته بالكتابة إلى الصحافة، ويرجح حفيده (سعد زغلول الكواكبي) أن جده عمل في صحيفة «الفرات» الرسمية سنتين لا أكثر، وقد ترك العمل فيها نظراً لمعاناته (الرقابة والاضطهاد؛ لكونه لا يمدح السلطة…).‏
وقد أحس أن العمل في صحيفة رسمية يعرقل طموحه في تنوير العامة وتزويدها بالأخبار الصحيحة، لذلك رأى أن ينشئ صحيفة خاصة لاعتقاده أنه يستطيع الكتابة فيها بحرية أكبر من الصحيفة الرسمية للدولة، فأصدر صحيفة «الشهباء» (عام 1877) باسم صديق له (هاشم العطار)، كي يفوز بموافقة السلطة العثمانية؛ لأنه لو طلب الترخيص باسمه لما فاز به، وكان عمره آنئذ حوالي اثنين وعشرين عاماً!‏
لم تستمر هذه الصحيفة طويلاً، فقد عُطّلت ثلاث مرات قبل أن تغلق بشكل نهائي بعد صدور العدد السادس عشر، إذ لم تستطع السلطة تحمل جرأته في النقد، فالحكومة كما يقول الكواكبي نفسه: «تخاف من القلم خوفها من النار».‏
تابع جهاده الصحفي فأصدر (عام 1879) باسم صديق آخر جريدة الـ «اعتدال» سار فيها على نهج «الشهباء» فعطّلتها السلطة، فتابع الكتابة في صحف عربية تصدر في بلدان عربية وغربية («النحلة» بنسختيها العربية والإنكليزية، و«الجنان»، و«ثمرات الفنون»، و«الجوائب»، و«القاهرة»، و«المؤيد»...).
كان قلمه نصير الحق، يقف إلى جانب المظلوم بغض النظر عن انتمائه الديني أو العرقي، لذلك وجدناه يشرّع قلمه في وجه المستبد، فينقد تصرفاته وتهاونه تجاه مواطنيه، فكتب مقالاً ينتقد فيه عدم قبول بعض المسيحيين في الجيش العثماني إلاّ بعد اشتراط تغيير أسمائهم بأسماء إسلامية!!‏
المهن التي زاولها الكواكبي
بعد أن تعطّلت صحيفتاه، انكبّ على دراسة الحقوق حتى برع فيها، وعيّن
________________________________________

[الصفحة - 82]


عضواً في لجنتي المالية والمعارف العمومية، والأشغال العامة (النافعة) ثم عضواً فخرياً في لجنة امتحان المحامين، وفي سنة 1886 صار مأموراً للإجراء.‏
وبعد أن أحس أن السلطة تقف في وجه طموحاته، وتعرقل مشاريعه، بل وصل الأمر بها إلى عزله وقطع رزقه، لذلك انصرف إلى العمل بعيداً عنها، فاتخذ مكتباً للمحاماة في حي (الفرافرة) قريباً من بيته وسراي الحكومة، يستقبل فيه المظلومين من سائر الفئات وسائر أنواع الظلم، فيسعى إلى تحصيل حقوقهم ورفع ظلاماتهم بكتابة الشكاوى وإرشادهم إلى طرق الاحتجاج القانوني، وقد كان يؤدي عمله، في معظم الأحيان، دون أي مقابل مادي، حتى اشتهر بلقب (أبي الضعفاء)‏.
ولكن إلى جانب هذا العمل الخاص نجد الكواكبي قد شغل مناصب عامة كثيرة، دون أن تفلح الدولة في جعله تابعاً لها، أو تغيير منهجه في نصرة الحق وخدمة المصالح العامة، لذلك سيواجه المتاعب في كل أعماله، وسيحاربه كل المستفيدين من الفساد والتسيّب، فحين عُيّن رئيساً لبلدية حلب (في زمن الوالي، الذي كان مقدراً لمواهبه، عثمان باشا 1893) قام بمشاريع عمرانية، كما حاول الحفاظ على سوق المدينة الأثري، فأقام أعمدة حديدية تحول دون دخول الجمال إلى السوق التي كانت تصدم المارة وتملؤه أوساخاً.
درس مشروع سد الفرات، وتجفيف مستنقعات الروج، وكلّف بعض المهندسين باستثمار (حمامات الشيخ عيسى) بعد تجميلها وترميمها، وقد كانت المكافأة التي تلقاها الكواكبي على إصلاحاته هي العزل، فقد ضجّ التجار الذين منعت دوابهم من دخول السوق، ولم يكتفِ الوالي بعزلـه، بل غُرّم قيمة الأعمدة الحديدية، وفروق رواتب موظفي البلدية التي زادها لهم قطعاً لدابر الرشوة!!‏
ثم تسلّم رئاسة المصرف الزراعي، ورئاسة غرفة التجارة في حلب، فأسس شركة للتبغ بالتعاون مع تجار حلب، كي يخفف الضغط على الفلاحين، بالإضافة إلى قيامه بإصلاحات اُخرى تضرر منها أصحاب السلطة، الذين كانوا يشاركون المهربين في تهريب التبغ، فأحرقوا مواسم الفلاحين من هذا المحصول، فاضطر الكواكبي إلى حلّ الشركة ودفع قيمة الأسهم المستحقة من جيبه الخاص!!‏
________________________________________

[الصفحة - 83]


في عام (1894) تسلّم وكالة المحكمة الشرعية بحلب، فاستطاع أن ينظّم ديوان المحكمة، ويحارب شهود الزور الذين يجلسون أمام المحكمة على المصطبة متظاهرين بالتدين (كانوا يدعون بشهود المصطبة) فحاربه هؤلاء وغيرهم من الفاسدين حتى عُزل.‏
بعد ذلك عُيّن رئيساً للجنة بيع حق الانتفاع من الأراضي الأميرية (التي أصدر السلطان أمراً بتملكها هو وورثته)، فبدأ الكواكبي يوزعها على الفقراء ويحجبها عن المتسلطين من رجال الدولة، لذلك عملوا على الإسراع بإقالته!‏
معاناة الكواكبي مع السلطة العثمانية
عُرف الكواكبي بمقالاته، سواء في حلب أم في خارجها، التي تفضح فساد الولاة، لذلك ناصبه هؤلاء العداء، وتوفّروا على أية فرصة لإيذائه، فقد استغلت السلطة محاولة اغتيال (أو بالأحرى تهديد) والي حلب (جميل باشا) من قبل شاب (أرمني) يتدرب على المحاماة في مكتب الكواكبي، فألقت القبض عليه بتهمة التحريض على قتل الوالي، لكنه خرج من هذه التهمة بريئاً، رغم ذلك لم يتخلص من مضايقات والي حلب، فقد اتهمه الوالي (عارف باشا) بالتآمر مع الأرمن لإثارة المشاكل في حلب، وقد استغل حادثة تعرض القنصل الإيطالي للإصابة بحجر قرب بيت الكواكبي، ليثبت هذه التهمة، فقبض عليه وصودرت أملاكه، وحكم عليه بالإعدام في محكمة حلب، وكان رئيسها من أعوان الوالي، فقدم الكواكبي استئنافاً لإعادة محاكمته في بيروت، نظراً للخلاف بينه وبين الوالي، حيث برّأته المحكمة، وعُزل الوالي، بعد أن عانى الكواكبي من السجن مدة عام تقريباً في حلب وبيروت.‏
لم تكتفِ السلطة بمصادرة حريته الصحفية بمنعه من إصدار صحيفة، ومصادرة حريته الشخصية بالسجن والاستيلاء على أملاكه، بل وصل الأمر بالاستبداد أن اغتصب منه نقابة الأشراف، وإعطائها لأبي الهدى الصيادي الذي زوّر انتسابه لآل البيت، مع أنه من المعروف أن نقابة الأشراف تتوارثها اُسرة
الكواكبي في حلب والأستانة وبغداد، باعتبارهم من آل البيت من جهتي الأُم والأب منذ أيام أحمد
________________________________________

[الصفحة - 84]


الكواكبي في منتصف القرن الحادي عشر الهجري، وقد كانت نقابة الأشراف مغتصبة من ابن عمه الأكبر منه سناً (حسن الكواكبي) من قبل الصيادي صديق السلطان عبد الحميد ونديمه الأثير!
بعد وفاة ابن عمه استحق عبد الرحمن الكواكبي نقابة الأشراف، وكان يعدّ نفسه وأهل حلب أيضاً النقيب الحقيقي وإن لم يصدر أمر سلطاني بذلك؛ لأن النقابة تكون في الأكبر سناً من أفراد الأُسرة المؤهل علمياً واجتماعياً.
اعترض على تزوير نسب الصيادي لآل البيت، بل نجده يحرج أبا الهدى الصيادي أمام جمع من الناس أتوا لتهنئته بمناسبة خروجه من السجن، حين قال له: «الحمد لله على السلامة يا بن العم»، فردّ عليه أمام الناس جميعاً «وعليك السلام، لكن ابن العم هذه من أين أتيت بها؟» قاطعاً عليه طريق الاعتراف بنسبه إلى آل البيت، مبطلاً ادعاءه أمام الناس جميعاً، ومن المعروف أن النسب إلى آل البيت يحتاج إلى تصديق ممن يعدّون أنفسهم يمثلونه، وقد كان عبد الرحمن يمثلهم خير تمثيل، لهذا كان إحراجه للصيادي كبيراً، سيردّه له أذى مضاعفا.ً‏
لم تكن ثورة الكواكبي على الصيادي بسبب اغتصابه نقابة الأشراف فقط، وإنما كانت بسبب أعماله وظلمه للرعايا، فقد استغل تأثيره الكبير على السلطان عبد الحميد في اضطهادهم، ولهذا من الطبيعي أن يكون الصيادي أحد الذين كادوا له وأوصلوه إلى منصة الإعدام، وهذا ما أشار إليه الكواكبي في مرافعته ببيروت.‏
ضيّق الاستبداد الخناق على الكواكبي، حتى كان يقترض ليعيش بعد أن صودرت أملاكه، ومنع من مزاولة أي عمل، رغم ذلك لم تستطع السلطة شراءه بالمناصب، فرأت أن تتخلص منه، بعد أن أصبح شخصية مؤثرة في حلب، بل امتد تأثيره إلى سائر البلاد العربية، بسبب مقالاته التي كان يرسلها إلى الصحف العربية، لذلك أرسلت له شخصاً ملثماً لاغتياله، وفعلاً طعنه أثناء عودته إلى بيته ليلاً، بعد هذه الحادثة التي نجا منها باُعجوبة، رأى أن المقام في ديار الاستبداد بات مستحيلاً، فقرر الهرب إلى مصر سنة (1900)، حيث ستصلها يد الاستبداد وتفلح في قتله، بأن تدس له السم في فنجان قهوة في مقهى يلدز عام (1902)، لا فرق أن تكون هذه اليد هي يد
________________________________________

[الصفحة - 85]


السلطان عبد الحميد أو يد أبي الهدى الصيادي، ومما يؤكد هذه الجريمة الإسراع بدفنه على نفقة الخديوي عباس دون فحص أمعائه، خاصة أنه صرّح لصديقه في القاهرة (عبد القادر الدباغ) قبيل وفاته قائلاً: «لقد سموني يا عبد القادر»‏.
لعل الأذى الأكبر الذي تعرض لـه الكواكبي من قبل الاستبداد هو سرقة مؤلفاته وأوراقه، إذ يقال أن السلطان عبد الحميد أوعز إلى من يدّعي صداقة الكواكبي (عبد القادر القباني) صاحب جريدة «ثمرات الفنون» في بيروت بالرحيل إلى مصر وسرقة مؤلفات الكواكبي المخطوطة، وقد فعل ذلك من أجل أن يفوز بمنصب رفيع في الدولة، فتمّ الاستيلاء عليها وتسليمها إلى القاتل، ليقضي عليها كما قضى على مبدعها، لذلك افتقدنا كثيراً من المخطوطات التي كتبت في المرحلة الأخيرة من حياته قبل خروجه من حلب وبعده، وكان من الممكن أن تضاف إلى مؤلَّفيه المطبوعين «اُم القرى»، و«طبائع الاستبداد»، وقد ذكرها لنا حفيده سعد زغلول الكواكبي في كتابه «عبد الرحمن الكواكبي: السيرة الذاتية»، وهي:
«العظمة لله»، «صحائف قريش»، «الأنساب»، «أمراض المسلمين والأدوية الشافية لها» «أحسن ما كان في أسباب العمران»، «ماذا أصابنا وكيف السلامة»، «تجارة الرقيق وأحكامه في الإسلام».
ويلاحظ من دلالة عناوينها أنها كانت استمراراً لما كان قد طرحه من أفكار في كتابيه السابقين، وإذا كانت هناك بعض الإضافات فلا شك أنها نتيجة رحلاته التي قام بها في السنتين الأخيرتين قبل استشهاده، ونتيجة نضج معاناته، ورغبته في مناقشة القضايا الإشكالية التي قد تشوّه الدين الإسلامي كقضية الرق.‏
وهكذا لم يكتف الاستبداد باغتيال الكواكبي، وإنما سارع إلى اغتيال كلمته، التي كانت لظى على الاستبداد، يخافها كما كان يخاف الكواكبي، ويرى فيها تجسيداً لروحه، لذلك لا معنى لقتل الجسد وبقاء روحه الثائرة! لكن هذه الروح، بفضل الله تعالى، باقية بيننا رغم كل هذا القهر، وجدناها حية متألقة ثائرة في وجه الاستبداد في كتابيه «اُم القرى» و«طبائع الاستبداد»، وفي بعض مقالاته التي استطاع الباحث جان دايه العثور عليها في صحف: «الشهباء» و«اعتدال» و«العرب»، وهي ما زالت حية بفضل
________________________________________

[الصفحة - 86]


عناية الباحثين في كل مكان في العالم بما بقي من إنتاجه؛ لأن عظمة أي إنتاج فكري لا تقاس بكميته، وإنما بفعاليته التي تتجاوز الشرط الزماني والمكاني.‏
وبذلك نجد أن الكلمة الصادقة التي هي نبض المعاناة اليومية للكواكبي، بقيت حية لا تموت، رغم ما تعرضت له من محاولة اغتيال وقهر على يد الاستبداد، فقد بدت لنا أقوى من المستبد قادرة على مواجهته والقضاء عليه في أي زمان وأي مكان.‏
رحلات الكواكبي‏
ذاق الكواكبي صنوف المعاناة على يد الاستبداد العثماني وأعوانه، حتى لم يبق له مصدر رزق، وصار يستدين من أجل متطلبات حياته اليومية، لذلك حين عرض عليه السلطان منصب قضاء (راشيا) كي يبعده عن بلده (حلب) ويضعف تأثيره، تظاهر بقبوله، وسافر إلى الأستانة سراً، ليقوم بتحريات سرية عن أعمال السلطان وزبانيته، ويرى أنواع استبداده في عقر داره، لكن سرعان ما اكتشف أمره، ودعي للإقامة في قصر خاص بالضيافة، وقد التقى أثناء زيارته تلك بجمال الدين الأفغاني (1895) الذي جاء إلى الأستانة (1892) وبقي هناك (حتى وفاته أو بالأحرى قتله 1897) في منـزل للضيافة تحت الإقامة الجبرية، وقد أحس الكواكبي بعد لقائه بالمصير المشابه الذي ينتظره، لذلك سارع بالعودة إلى حلب سراً.‏
لقد كان ظاهراً للعيان رغبة السلطان في التخلص منه، خاصة بعد أن أدرك أن المناصب في حلب لم ولن تغيره، فرأى الكواكبي حين عرض عليه السلطان منصب القضاء في راشيا وسيلة جديدة لإبعاده، خاصة أن هذا المنصب قد جاء بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها، والتضييق على حريته في الأستانة، لذلك قرر الهرب إلى مصر سراً (1900) بعد أن رهن البيت الذي كان مسجلاً باسم زوجته، ليؤمن تكاليف سفره.‏
ولو تأملنا أسباب اختيار الكواكبي مصر موطناً له، للاحظنا أنها تنحصر في الحرية: جوهر الوجود الذي عاش من أجله الكواكبي ومات في سبيل تحقيقه، وهذا ما تخيل وجوده في مصر زمن الخديوي عباس، فقد كانت ملاذاً للكتاب، الذين هاجر
________________________________________

[الصفحة - 87]


إليها أغلبهم من بلاد الشام، رغبة في الحرية، (التي يلمسها المرء خاصة في الجرائد المصرية التي كانت تتمتع بحرية نقد السلطان عبد الحميد) وإلى جانب الحرية في التعبير، كانت هناك حرية في استخدام اللغة العربية في الكتابة التي كانت شبه ممنوعة في شرقي السلطنة، لذلك أسس المهاجرون إليها صحفاً ومجلات، واستطاعوا أن يسهموا في إغناء الحياة الأدبية والفكرية في مصر، وقد شكّلوا صوتاً واضحاً في الصحافة عرف فيها، واشتهر باسم «الشوام»‏.
عاش الكواكبي في القاهرة حوالي سنتين حيث ذاع صيته، وتابع نشر مقالاته في الصحف المصرية، بل نجده قد أصدر فيها «صحيفة العرب» التي لم تلبث أن توقفت، دون أن نعرف السبب، ربما قد يكون بسبب تقارب الخديوي عباس والسلطان عبد الحميد!! وقد كان أحد أهم شروط هذا التقارب، ألا يساند الخديوي المناوئين للسلطة العثمانية!!‏
كذلك استطاع أن ينشر فيها كتابيه «اُم القرى» و«طبائع الاستبداد» اللذين كتبهما في حلب ولم يستطع نشرهما إلاّ بعد هربه منها، ويقول نديم الكواكبي (عبد المسيح الأنطاكي) إن الكواكبي ظل مختفيا في القاهرة حتى طبع كتاب «اُم القرى» إذ أرسل منه نسختين إلى الخديوي في الإسكندرية، ونسخة إلى «الشيخ محمد عبده» والثالثة إلى«الشيخ علي يوسف»، وقد سرّ الخديوي بالكتاب فطلب إلى الشيخين أن يسعيا للتعرف على صاحب الكتاب الذي لم يذكر اسمه عليه، ومنذ ذلك الوقت نشأت صداقة بين الخديوي والكواكبي التي يبدو أنها لم تعمّر طويلاً، بسبب التقارب بين الخديوي والسلطان عبد الحميد، ورفض الكواكبي طلب الخديوي للسفر معه إلى الأستانة للتصالح مع السلطان.
أثناء إقامته في القاهرة، قام برحلتين زار فيهما بلاداً عربية واُخرى إسلامية، ليتفهم أحوال المسلمين وليدرس عن كثب مشروع رابطة اُم القرى الذي تحدث عنه بشكل نظري في كتابه «اُم القرى»، فزار السودان والجزيرة العربية واليمن، والتقى القبائل العربية، ليعرف مدى مقدرتها على القتال، وليحرضها على الثورة ضد الأتراك، لكن اللافت للنظر اهتمامه بالشؤون الاقتصادية والجيولوجية لبلاد العرب، حيث ذكر
________________________________________

[الصفحة - 88]


ابنه (كاظم) الذي رافقه في رحلته الثانية، أنه كان يجمع نماذج من صخورها، ويجلبها معه إلى مصر لدراستها من قبل المتخصصين لمعرفة الثروات المعدنية التي تحتويها الجزيرة (وقد كان من بينها على ما يذكر ابنه زيت النفط الذي دلّه عليه الأعراب في الجزيرة).‏
إذاً، لا تبدو الغاية من رحلاته دراسة أحوال الأُمّة العربية والإسلامية من الناحية السياسية والعسكرية فقط، بل دراسة أحوال البلاد الاجتماعية والاقتصادية، كي يؤسس لدولة عصرية، ترتكز على إمكاناتها الاقتصادية الذاتية، لذلك سعى إلى معرفة ما تملكه من ثروات باطنية بالإضافة إلى ما تملكه من استعداد حربي، فهو يدرك أن حرية الدول لا تكون بجلاء الغريب عنها، وإنما بامتلاك القدرة الاقتصادية التي تستطيع حماية الحرية، وتأسيس بنيان الدولة على اُسس متينة، تمنحها استقلالاً حقيقياً.
لقد امتلك الكواكبي وعياً سابقاً لعصره، فسعى إلى الحرية بأفضل معانيها، وجنّد في سبيلها كل ما يملكه من مواهب أدبية وفكرية، وضحى من أجلها بكل ما يملك، حتى دفع حياته ثمناً لها.‏
رجال الاستبداد والكواكبي
من الطبيعي أن تتناسب ردود فعل السلطات المستبدة تناسباً طردياً وطبيعة الموضوعات التي يُثيرها المصلحون أو يقتربون من مجسّاتها الحساسة.
فلقد أثار الكواكبي مسائل وموضوعات ليست حساسة وحسب، وإنما محرّمة بنظر أنظمة الحكم الاستبدادية. إذْ ليس من السهل أن يستمع الحاكم المستبدّ إلى نصّ وصفي يقول فيه الكواكبي مثلاً:
«المستبد يتحكّم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المتعدّي الذي يضع كعب رجله على أفواه الملايين... المستبد يودّ أن تكون رعيّته كالغنم درّاً وطاعة، وكالكلاب تذلّلاً وتملّقاً، وأنا أقول: إنّ على الرعية أن تكون كالخيل إذا خُدمت خَدَمت، وإذا ضُربت شرست، وعليها أن تكون كالصقور لا تُلاعَب (أو تداعَب)، خلافاً للكلاب التي لا فرق عندها اُطعمت أو حُرمت». (2)ويضيف:
________________________________________
(2)طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، عبد الرحمن الكواكبي، الطبعة الثانية 1973، ص 25 ـ 26.

[الصفحة - 89]


«والناظر في أحوال الأُمم يرى أن الأُسراء يعيشون متلاصقين متراكمين يتحفّظ بعضهم ببعض من سطوة الاستبداد، كالغنم تلتف على بعضها إذا ذَعرها الذئب. أما العشائر والأُمم الحرّة المالك أفرادها الاستقلال الناجز فيعيشون متفرقين».
ولم يُحاول الكواكبي أن يطْرِق على رؤوس المستبدّين وحدهم، وإنما واصَل طرقه على المستعبَدين أو المستحمرين أنفسهم ـ حسب تعبير الدكتور علي شريعتي ـ فهؤلاء شُركاء المستبدّين في تمرير الاستبداد بصمتهم وخنوعهم، ولقد صدق رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) حينما قال: «كيفما تكونوا يولّ عليكم». وهذا ما يتساوق مع حكمة الله وعدله، في منح الحرية للإنسان ومساءلته عن هامش الحرية الممنوحة له، وكيف تعامل معها، أو تصرّف فيها؟ وإذا صحّ قول الشاعر:
أمنَ الشـرّ بأسـنا فتمادى وسكتنا عن الفساد فسادا
نتوقف عند ما كتبه الكواكبي حول هذه الإشارة الحساسة الأُخرى، حيث قال: «وإذا سأل سائل لماذا يبتلي الله عباده بالمستبدين؟ الجواب: إن الله عادل مطلق لا يظلم أحداً، فلا يولّى المستبدّ إلاّ على المستبدين» ثم لا يتردّد في القول:
«إن الكلب الطليق خيرٌ من الأسد المربوط »... وإن «المستعبَدون ليس من شأنهم أن يفرّقوا مثلاً بين (الفعّال المطلق) والحاكم بأمره، وبين من (لا يُسألُ عما يفعل) وغير مسؤول، وبين المنعم ووليِّ النعم، وبين (جلّ شأنه) وجليل الشأن» (3).
المستبد ووعّاظ السلاطين والاُصلاء
ويحاول الكواكبي وضْع أصابعه على الجُرح فيوزّع أو يُحمّل مسؤولية الاستبداد عدة جهات بعد أن شخّص دور المستبدين والمستعبدين في هذا المنحدر، مؤكداً أولاً على بطانة علماء الدين أو وعاظ السلاطين، فيقول:
«ما من مستبد سياسي إلاّ ويتّخذ له صفةً قدسية يُشارك بها الله أو تعطيه مقام ذي علاقة مع الله، ولا أقلّ أن يتّخذ بطانة من خَدَمة الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله»... وإذا نبغَ منهم البعض ـ يضيف الكواكبي ـ ونالوا حرمة بين العوام لا يَعدم المستبدّ وسيلة لاستخدامهم في تأييد أمره ومجاراة هواه في مقابل أن يضحك عليهم
________________________________________
(3)المصدر السابق، ص 27 ـ 31.

[الصفحة - 90]


بشيء من التعظيم ويسدّ أفواههم بلقيمات من مائدة الاستبداد».
هذا من جانب خَدَمة الدين ووعاظ السلاطين، أما ضعاف الناس والهمج الرعاع الذين وصفهم الإمام الحسين (عليه السلام) بأنهم «ينعقون مع كلّ ناعق ويميلون مع كل ريح، الدين لعق على ألسنتهم يحوطونه مادرّت معايِشهم، فإذا مُحّصوا بالبلاء قلّ الديانون»، فيأتي إليهم الكواكبي ويَصف تخادمهم مع سيدهم المستبد بقوله:
«المستبدّ لا يستغني عن أن يستمجد بعض الأفراد من ضعاف القلوب الذين هم كبقر الجنة لا ينطحون ولا يمرحون» (4).
فإذا أمنَ شرهم، وأطمأنّ أنهم لا ينطحون ولا يمرحون، هدأ باله، واستقرت نفسه، أما إذا شكّ في أحدهم ساومه أو استماله، وإذا عجز عن ذلك عمدَ إلى اُسلوب التصفية أو التنكيل.
يقول الكواكبي:
«المستبدّ يجرّب أحياناً في المناصب والمراتب بعض العقلاء الأذكياء، اغتراراً منه أنه يقوى على تليين طينتهم، وتشكيلهم بالشكل الذي يريد، فيكونوا له أعواناً خبثاء ينفعونه بدهائهم، ثم هو بعد التجربة، إذا خاب ويئس مِن إفسادهم يتبادر إلى إبعادهم أو ينكّل بهم، ولهذا لا يستقر عند المستبد إلاّ الجاهل العاجز الذي يعبده من دون الله، والخبيث الخائن الذي يُرضيه ويُغضب الله».
أما مع الأُصلاء والأحرار فيستخدم المستبد معهم أساليب اُخرى منها ما يُسمى اُسلوب الترغيب والترهيب، أو إثارة الفتن والشحناء، أو سياسة الإذلال والامتهان، فيقول:
«ويستعمل المستبدّ أيضاً مع الأُصلاء سياسة الشدّ والإرخاء، والمنْع والإعطاء والالتفات والإغضاء كي لا يبطروا، وكذلك سياسة إلقاء الفساد وإثارة الشحناء فيما بينهم كي لا يتفقوا عليه، وتارة يعاقب عقاباً شديداً باسم العدالة إرضاءً للعوام، وأخرى يقرنهم بأفراد كانوا يقّبلون أذيالهم استكباراً فيجعلهم سادة عليهم، يفركون أذانهم استحقاراً ويقصد بذلك كسر شوكتهم أمام الناس»(5).
ولا يتردّد المستبد أيضاً أن يستعين بما سمّاه الكواكبي (اللئيم الأعظم في الأُمّة)
________________________________________
(4)المصدر السابق، ص 47.
(5)المصدر السابق، ص61.

[الصفحة - 91]


الذي يسوّغ للسلطان أفعاله، ويسوّق أفكاره، ويبرر جرائمه، ولا يتردد هذا أيضاً في أنْ يصبّر الناس، أي يدعوهم للصبر والتحمّل والتضرّع إلى الله تعالى لكشف الكربات ودفع الشدائد. مستعيناً بنصوص الدين الجاهزة طبعاً التي تدعو للطاعة، والدعاء بطول العمر للسلطان، وسلامته وعافيته ودوام ظلّه على البلاد والعباد.
يقول الكواكبي هنا:
«ولهذا لا بدّ أن يكون الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم في الأُمّة».
مضيفاً:
«إنّ وزير المستبد هو وزير المستبد لا وزير الأُمّة.. فلا يغترّ العقلاء بما يتشدّق به الوزراء والقوّاد من الإنكار على الاستبداد والتفلسف بالإصلاح وإنْ تلهّفوا أو تأففوا، ولا ينخدعون لمظاهر غيرتهم وإنْ ناحوا وبكوا، ولا يثقون بهم أو بوجدانهم مهما صلّوا وسبّحوا، أو حجّوا وزكّوا».
والسبب أن هؤلاء الدجالين إنما يستخدمون نصوص الدين للضحك على ذقون الأبرياء، واستهبالهم باسم الدين، فتراهم يخاطبون هؤلاء الأبرياء بقولهم:
«يا بؤساء هذا العالم... هذا قضاء من السماء لا مردّ له، فالواجب تلقّيه بالصبر والرضاء والالتجاء إلى الدعاء..» (6).
بهذه الحيل، أو بهذا الدجل يستعين المستبدّ على تمشية أُموره فيستميل من يُمكن استمالته، ويقصي من يستعصي على الاستمالة، ولا يفوته أن يستخدم الدين وعلماء الدين في استهبال العوام وتمرير مشاريع السلطان عليهم، وبنصوصٍ تقبل التأويل والتوجيه لا يستطيع هؤلاء العوام ـ بسبب جهلهم ـ معرفة الصادق من الكاذب، ولا الصحيح من السقيم، ولا يفرّقون بين الثابت والمتغيّر، وبين الرواية والدراية، فيوظفهم ضد الأحرار والشرفاء ممن يعرفون دجل الحكام وأساليبهم الماكرة في استخدام الشعوب واستعبادها.
الكواكبي والدولة العثمانية
ارتبك العديد من الباحثين في تقييم الكواكبي من خلال موقفه من الدولة
________________________________________
(6)المصدر السابق، ص65.

[الصفحة - 92]


العثمانية، فراحوا يحمّلون مواقفه من هذه الدولة على الإسلام، إذا راقَ للبعض أن يسحب موقف الكواكبي السلبي جداً من ممارسات السلطة العثمانية ـ المحسوبة على الإسلام ـ على أنه معادٍ للدين أو أنّ له موقف مضادّ من الدولة الدينية. وهذا هو سرّ الارتباك أو الخلل، إذْ لم يفرّقوا بين ممارسات هذه الدولة والدين، أو ما هو خاص بها كدولة وسلطنة وامبراطورية، وإن حَسبتْ ذلك على الإسلام، وبين الإسلام نفسه.
أما الكواكبي فقد ميّز بين ما هو عقيدة دينية أو دين، وبين ما هو موروث أو تراث. فقال: إن الإسلام بما هو دين، إنّما هو وحي إلهي لا يتعدّى ما جاء في القرآن الكريم والحديث الشريف. أما الثاني ـ أي التراث ـ فإنما هو من صنع البشر واجتهادات الناس، ولا يفترض بالإنسان المسلم الالتزام بهذه الاجتهادات أو التعبّد بما طرحوه من آراء ونظريات، وإنما لكل عالم اجتهاداته، ولكل فقيه استنباطاته من النصّ المقدس.
ويتّضح فهْم الكواكبي الخاص لاجتهادات العلماء أو بعضهم لما كان يرفضه من مزاعمهم عن الزهد مثلاً، وأنهم يتمسكون بقشور الدين ولا يغوصون في لبابه. بمعنى أنه فرّق بين (الدين الأصيل) الذي ينبغي أن يبقى البنية التحتية لكل اجتهاد، وبين (دين البشر) الذي تتدخل فيه ثقافة العالم أو خلفيته المذهبية وأحياناً ذوقه ومزاجه. وكثيراً ما كان الكواكبي يندّد ببعض تفسيرات الدين وتأويلات رجاله، ويرى أنّ إسلام القرن التاسع عشر لم يكن بالدين المطلوب الذي يقود اُمة ويحقق نهضة؛ لأن هذا الدين تعرّض إلى تشويهات ودخلت فيه طوارئ غيرّت معالمه وبدّلت أُصوله. وهذه الطوارئ أو التغييرات ـ برأي الكواكبي طبعاً ـ إما أن تكون (تغييرات أو متروكات أو مزيدات) ـ حسب تعبيراته ـ وعلى هذا الأساس فإن دعوته للإسلام كانت تؤكّد على الثابت الأصيل، وليس الطارئ المتغيّر (7).
وكان هدف الكواكبي في دعوته الإصلاحية، هو العودة بالإسلام إلى جذوره الأُولى ببساطته ويسره، وقوام ذلك الأول هو إيمان الضمير (8).
وقد أشار الأستاذ طحّان في كتابه (بدائل الاستبداد في فكر الكواكبي) إلى ذلك بقوله:
________________________________________
(7) سمير أبو حمدان، عبد الرحمن الكواكبي وفلسفة الاستبداد، موسوعة النهضة ـ بيروت 1992، ص 66-67.
(8) عباس محمود العقاد، عبدالرحمن الكواكبي ـ المجموعة الكاملة، بيروت 1980، عن كتاب اُم القرى، ص333.

[الصفحة - 93]


«أما منطلق الكواكبي الأساسي فهو الإسلام، إنه مفكر متديّن، ولأنه يدين بالإسلام، فقد شرحه مبيّناً اختلافه عن الإسلام الرسمي السائد، وميّز بين المسلمين والإسلام والإسلامية التي عدّها المنهج المشتق من الإسلام، وبهذا شكّلت الإسلامية عنده المنطلق والمنهج والهدف».
وعلى خلفية ما يمتلكه الكواكبي من خزين معرفي ورصيد فقهي وفكري، ووعي بأحوال الزمان والمكان، نراه حدّدَ في وقت مبكّر موقفه من الحكومات المحسوبة على الإسلام على أساس التكليف الشرعي، وليس على أساس التقليد الأعمى لهذا الخليفة أو ذاك، أو هذا العالم أو ذاك. لذا نراه واضحاً وصريحاً من خلافة بني العثمان التي لم تنعقد ببيعة من قِبل حكومات المسلمين، ولا من رعايا الدول الإسلامية، فلم يقبل بها مثلاً ملوك إيران والمغرب وأئمة الجزيرة العربية الذين لم يخضعوا لسيادة الحكومة التركية، ولا يذكرها المسلمون في هذه الدول في صلاة جمعة أو جماعة إلاّ أولئك الأتباع الذين يدينون لتلك السيادة في أوضاعهم السياسية الخاصة. ولم يحدث قبل السلطان محمود العثماني أن تلقّب أحد من سلاطين القسطنطينية بلقب الخلافة والإمامة الكبرى أو إمارة المؤمنين: «إذْ صار بعض وزرائه يخاطبون بذلك أحياناً تفنّناً في الإجلال، وغلوّاً في التعظيم، ثم توسّع استعمال هذه الألقاب في عهد ابنيه وحفيديه، إلى أنْ بلغ ما بلغه اليوم، بسعي أولئك الغشاشين الذين يدفعون ويقودون حضرة السلطان الحالي، للتنازل عن حقوق راسخة سلطانية، لأجل عنوان خلافة وهمية مقيّدة في وضعها بشرائط ثقيلة، لا تلائم أحوال الملك، ومعرّضة بطبعها للقلقلة والانتزاع والخطر العظيم» (9).
ويرى الكواكبي أيضاً ومن تحقيقه التأريخي أن ساسة الترك (لا يقصدون بالاستناد للدين غير التلاعب السياسي، وقيادة الناس إلى سياستهم بسهولة، وإرهاب أوربا باسم الخلافة، واسم الرأي العام) (10).
ويقدّم الكواكبي أدلة كثيرة على اتّهامه الدولة العثمانية بتغليب مآرب الملك على واجبات الخلافة، كما تمليها مصالح الأُمّة الإسلامية على من يستطيع رعايتها ويقول:
________________________________________
(9)المصدر السابق، ص 339؛ والأعمال الكاملة للكواكبي، ص401.
(10)الأعمال الكاملة للكواكبي، ص 401.

[الصفحة - 94]


«إني أذكر لك نموذجاً من أعمالهم التي أتوا بها رعايةً للمُلك وإنْ كانت مصادمة للدين، فهذا السلطان محمد الفاتح، وهو أفضل آل عثمان قد قدّم المُلك على الدين فاتّفق سراً مع (فرديناند) ملك الأراغون الاسبانيولي، ثم مع زوجته (إيزابيلا) على تمكينهما من إزالة ملك بني الأحمر آخر الدول العربية في الأندلس، ورضي بالقتل العام والإكراه على التنصير بالإحراق، وضياع خمسة عشر مليوناً من المسلمين، بإعانتهما بإشغاله أساطيل إفريقيا عن نجدة المسلمين، وقد فعل ذلك بمقابلة ما قامت له به روما من خذلان الإمبراطورية الشرقية عند مهاجمة مكدونيا ثم القسطنطينية..» ويضيف:
«وهذا السلطان سليم غدرَ بآل العباس واستأصلهم، حتى إنه قتل الاُمّهات لأجل الأجنّة، وبينما كان هو يقتل العرب في الشرق (11)، كان الأسبانيون يحرقون بقيتهم في الأندلس».
ومثله فعل السلطان سليمان عندما ضايق أهالي إيران حتى ألجأهم إلى إعلان الرفض المكفر (...) ثم لم يقبل العثمانيون تكليف نادر شاه لرفع التفرقة بمجرد تصديق مذهب الإمام جعفر، كما لم يقبلوا من أشرف خان الأفغاني اقتسام فارس كي لايجاورهم ملك سنّي».
وأكثر من ذلك، يواصل الكواكبي قائلاً:
«وقد سعوا (أي الأتراك) في انقراض خمس عشرة دولة وحكومة إسلامية، ومنها أنهم أغروا وأعانوا الروس على التتار المسلمين، وهولندة على الجاوة والهنديين، وتعاقبوا على تدويخ اليمن، فأهلكوا إلى الآن عشرات الملايين من المسلمين يقتلون بعضهم بعضاً، لايحترمون فيما بينهم ديناً ولا ذمّة لا اُخوّة ولا مروءة ولا إنسانية، حتى إن العسكر العثماني باغتَ المسلمين مرّة في صنعاء والزبير، وهم في صلاة العيد...
وهذا السلطان محمود اقتبس من الإفرنج كسوتهم، وألزَم رجال دولته وحاشيته بلبسها حتى عمّت أو كادت، ولم يشأ الأتراك أن يغيّروا منها الأكمام رعاية للدين؛ لأنها مانعة من الوضوء أو معسّرة لهُ...
وهذا السلطان عبد الحميد رأى من مؤيدات إدارة ملكه إباحة الربا والخمور
________________________________________
(11)جدير ذكره أن سليم الأول هذا الذي حكم بين 1467 ـ 1520 م بدأ حكمه بقتل أربعين ألفاً من شيعة الترك وشيعة العراق.

[الصفحة - 95]


وإبطال الحدود (أي حدود الدين)، ورأى مصلحة في قهر الأشراف وإذالال السادات بإلغاء نفوذ النقابات، ففعل..».
ولا يكتفي الكواكبي بكل هذه الأرقام، والسرد المفجع لكل هذه الأفعال المنافية لأُصول الدين وفروعه، وأبسط تعاليمه وأخلاقه، ولكنه يواصل كلامه قائلاً:
«وفي هذه المقدار كفاية إيضاح لقاعدة: إن مؤيدات الملك عند السلاطين مقدّمة على الدين. أما صفة خدمة الحرمين، واُلفة مسامع العثمانيين للقب الخلافة، فهذا كذلك لا يفيد الدين وأهله شيئاً، وليس له ما يتوهّم البعض من الإجلال عند الأجانب..» (12).
وخلاصة ما أراد الكواكبي تأكيده، إنه كان يعتقد أن السلاطين العثمانيين لم يكونوا مسلمين مخلصين لإسلامهم؛ لأنهم قدّموا أولاً مصالحهم السياسية التوسعية على مصالح الإسلام الحقيقية.
وربّ سائل يسأل هنا، وما هو البديل عن الخلافة الإسلامية العثمانية؟ فلا يتردّد الكواكبي في تقديم اُطروحته الجاهزة التي أكّد فيها على ضرورة إقامة حكومة جديدة بـ (خليفة عربي قرشي مستجمع للشرائط في مكّة يكون حكمه مربوطاً بشورى خاصة تتشكل هيئته العامة من نحو مئة عضو منتخبين مندوبين من قِبل جميع السلطنات والإمارات الإسلامية...) (13).
أما لماذا الحجاز؟ ولماذا مكة؟ ولماذا من قريش؟ وهل هذه دعوة قومية كما قيل في حينها من قبل الخصوم أم إذكاء لروح التعصب، أم شيء آخر؟ فالنص يذكر، وبلا مواربة، أربع عشرة حاضرة إسلامية، إضافة إلى مكّة ليس بينها سوى ست مدن عربية... ولا ندري كيف استنتج الدكتور محمد عمارة من ذلك المشروع، أنه كان مؤتمراً للعرب العثمانيين وليس مؤتمراً دينياً؟! علماً بأن الكواكبي راح مفصّلاً ومحللاً ومعللاً لكل ذلك وبشيء يتوفّر على الكثير من التعقل والدراية، لا نرى مجالاً للوقوف عنده أو تحليله في هذه العجالة أو في هذا العرض الموجز السريع ولرجلٍ مصلح،ٍ بل مصلح كبير في العالم الإسلامي على امتداد القرن التاسع عشر. وهو ما أجمع عليه معظم العارفين بسيرة هذا الرجل وشخصيته، وحرصه على تحكيم الإسلام وقيمه
________________________________________
(12)الأعمال الكاملة للكواكبي، ص 395-396.
(13)للمزيد من الاطلاع على مشروع الكواكبي هذا، يمكن مراجعة التفاصيل في الأعمال الكاملة للكواكبي، ص 397 ـ 398.

[الصفحة - 96]


ومثله، بعيداً عن هذا الانتماء القومي أو ذاك، إلاّ بما يؤدي إلى منفعة الدين نفسه أو تكريسه أو ترسيخه.
الكواكبي بين خصومه ومؤيّديه
كانت هناك ثلاث حلقات أو ثلاث دوائر تتحرك وبسياق موحّد ضد الكواكبي ومشروعه الإصلاحي التحرري الداعي لإنهاء الفساد والاستبداد المتمثل بسلاطين الدولة العثمانية، وهذه الدوائر هي: راسبوتين، السلطان عبد الحميد، وأبو هدى الصيادي ذلك الرجل الكبير الذي لم يألُ جهداً في الكيد والوقيعة بكل صاحب صوت شريف.
إذاً، ثاني الأثافي في هؤلاء تمثّل بنموذجه الفاقع، السلطان عبد الحميد الذي زرع بلاد المسلمين بالجواسيس وأحاط بلاطه بالمتملّقين والوصوليين، وعشاق الكراسي، وأضفى على نفسه القداسة المزيّفة، يستغفل بها البسطاء ويستبيح حرمات الناس ويخنق أنفاسهم ويعتدي على كراماتهم، ويستهبلهم تحت عنوان: «السلطان ظل الله في أرضه».
كان الكواكبي عربياً حلبياً، استفزّه استبداد عبد الحميد وقداسته المزيفة، واستعباده لشعبه واُمته، إذْ كانت سورية والشام تخضع للسيطرة العثمانية مباشرة. عرفَ اسطنبول في صباه الباكر، وقد ذاق طعم الظلم والاستبداد والاستعباد، واعتبر الاستبداد أساس الشرور وجذر الفساد، فراح متحدثاً عن أخلاق المستبدين وأوصافهم، وكان مما قاله في المستبد ما نصّه:
«لو كان المستبد رجلاً وأراد أن ينتسب لقال: أنا الشرّ، وأبي الظلم، وأُمّي الإساءة، وأخي الغدر، وأُختي المسكنة، وعمي الضرّ، وخالي الذل، وابني الفقر، وابنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب. أما ديني وشرفي وحياتي فهي المال.. المال.. المال...» (14).
ومن هنا، انطلق في البحث عن أخلاق الشورى والحرية وأثرها على الفرد والمجتمع، قبال التأثيرات الأخلاقية والنفسية المدمّرة التي يخلّفها القهر والاستبداد.
________________________________________
(14)طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، مصدر سابق، ص 69.

[الصفحة - 97]


ومن هنا أيضاً توالت الحملات الظالمة ضد الكواكبي، فألصقتْ به ألوان التُهم، بحيث تم التشكيك حتى في نسبه الشريف، ونُشرت بحوث ومقالات في ذلك لعل أشهرها كتاب «الروض البسّام في أشهر البطون القرشية بالشام» لأبي الهدى الصيادي المذكور الذي حسب نفسه على البطون المشهورة، وراح معرّضاً بالكواكبي، الخصم العنيد.
وقبل الخوض في تقييم ودراسة شخصيات الإصلاح الديني ـ السياسي في القرن التاسع عشر، ومنهم الكواكبي طبعاً، يجدر استحضار إثارة مهمة للأُستاذ سمير أبو حمدان في هذا الصدد، يقول فيها:
«إنه لمن الخطأ الجسيم إطلاق أحكام قطعية، حاسمة ونهائية، بالنسبة لمصلحي ومفكري عصر النهضة، فقد وُجد هؤلاء في وقت لم تكن بعد تحدّدت المفاهيم وتبلورت، فمفاهيم ومصطلحات: القومية والإسلامية والوطنية والعروبة كانت لا تزال تتداخل في بعضها البعض، بحيث إنّ الحدود بين مفهوم وآخر لم تكن قد رُسمت وأصبحت على درجة من الوضوح. من هنا، جاء الالتباس لدى الباحثين اليوم على صعيد الأفكار والطروحات التي تداولها وتبنّاها مفكرو القرن التاسع عشر، ومن هنا أيضاً جاء الالتباس على صعيد النظرة إلى عبد الرحمن الكواكبي..» (15).
ومن هنا أيضاً جاء تحليل البعض، في أن الكواكبي داعية من دعاة القومية العربية مثلاً، انطلاقاً من عدائه للعثمانيين وسلطانهم القائم على القهر والاستبداد، وهذا ما أشار إليه الكاتب الأردني (سليمان موسى) الذي اعتقد أن كتابات الكواكبي تمثّل البداية الحقيقية لأفكار القومية العربية (16)، أو ما جاء في (موسوعة السياسة) التي اعتبرته رائد الفكر القومي العربي في العصر الحديث(17).
وهو ما دأبت عليه كتابات التيّار القومي الذين كتبوا عن الكواكبي من أمثال: الجابري، وشبلي شميل، ونجيب عازوري في كتابه «يقظة الأُمّة العربية»، وكذلك كتابات ميشيل عفلق، وساطع الحصري وأضرابهم...
وللردّ على هؤلاء نكتفي بما أشارت إليه الدكتورة وداد القاضي في مداخلتها أثناء نقاشات الندوة الفكرية حول (القومية العربية والإسلام) المنعقدة في عام (1980) إذْ قالت:
________________________________________
(15)سمير أبو حمدان، عبد الرحمن الكواكبي وفلسفة الاستبداد، مصدر سابق، ص 89.
(16)مجلة الفكر العربي، العددان 39 و 40، تشرين أول 1985، ص 228.
(17)عبد الوهاب الكيالي وآخرون، موسوعة السياسة ج3، بيروت 1983، ص 829.

[الصفحة - 98]


«أخشى أننا في حماستنا للقومية نُلبس التأريخ لبوساً ليس له، وندافع عن القومية العربية بأدلّة واهية نحن بغير حاجة إليها، وهي أدلّة على أي حال تنهار فتضعف موقفنا بدلاً من أن تقوّيه»(18).
ولعل أكثر ما أثار هذه الإشكالية حول الكواكبي هو مرور الرجل بمرحلتين في كتاباته: المرحلة الأُولى وتمثلت في كتابه «أم القرى» حيث كان همّه الإسلامي سائداً على أي همّ آخر، فيما تمثّلت المرحلة الثانية بكتابه «طبائع الاستبداد» الذي كان همّه فيه عربياً محضاً ـ على حد تعبير الدكتور محمود مصطفى حلاوي ـ الذي زعم أنه اكتشف منهج الكواكبي الإصلاحي وقرأه برؤية جديدة.
ونحن هنا لسنا بصدد الاستغراق في معترك الجدل القائم حول أسبقية أي من الكتابين، أو ترجيح أسبقية الثاني على الأول، أو بالعكس؛ لأن الكتابين كانا في سياق واحد هو معالجة الاستبداد والتسلّط، وأنّ الكتابين يصبّان لخدمة هذا الغَرض، كما يقول ويؤكّد الأُستاذ عباس محمود العقاد، الذي كتب يقول معلّقاً على كتاب أُم القرى:
«إنه أول كتاب وضعه الكواكبي، فهو باكورة أعماله العلمية وفاتحة اشتغاله بالتأليف. أما من ناحية التفكير والتحضير فلا يُحسب الكتاب من أعمال البواكير؛ لأنه نتيجة ناضجة لدراسة طويلة وصل منها إلى نهاية الرأي في أحوال العالم الإسلامي وأسباب ضعفه، وبواعث الأمل في صلاحه وتقدّمه. فهو محصول حياة فكرية وقفها على هذه الدراسة في جوهرها، ولم تكن دراسته الأُخرى إلاّ شعاباً متفرّعة عليها...» (19).
أما الأُستاذ أنور عبد الرحمن فيقول عن كتاب «اُم القرى» ما نصّه:
«والأمر اللافت للنظر، والذي أثار الباحثين في رسالة «أم القرى»، هو تنوّع وخصوبة الآراء التي قيلت على ألسنة الوفود المختلفة في شرح أمراض الأُمّة، وبيان طرق علاجها الصحيحة، حيث كانت الآراء المعروضة تمتاز بالعمق والدقة والحماسة، إلى الحد الذي يصعب فيه تصديق أن هذه الأقوال كلّها من معين واحد، وأنّ مفكّراً واحداً انطلقَ (أبطال روايته) بهذه المعاني الدقيقة في تحليل أزمة الأُمّة الحضارية...» (20).
________________________________________
(18)يُراجع تعقيب د. نزار الحديثي في ندوة (القومية العربية والإسلام)، ط3، مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت 1988، ص 194 ـ 195.
(19)عبد الرحمن الكواكبي ـ المجموعة كاملة، مصدر سابق.
(20)صحيفة (الهلال الدولي) السنة الرابعة ـ العدد التاسع 16 ـ 30 رجب 1411هـ الموافق لـ 15 شباط فبراير 1991.

[الصفحة - 99]


اللافت، أن هذا البعض الذي وسم أفكار الكواكبي بالقومية العربية، يقابله تيار آخر من كتّاب ومفكرين وسموه بأنه أقرب إلى الحماسة الإسلامية منه إلى العروبة والعربية، وفي مقدمة هؤلاء طبعاً هو الأُستاذ عباس محمود العقاد الذي أفرد فصلاً كاملاً في كتابه عن الكواكبي تحت عنوان (الجامعة الإسلامية والجامعة العثمانية)، وكان مما قاله في هذا السياق: «إنّ الكواكبي اتفق له الإيمان بالإصلاح الديني والإصلاح الوطني في وقت واحد» (21).
هؤلاء من جانب، ومن جانب آخر، وفيما يؤكّد الدكتور أسعد الاسطواني أن كلاً من الكواكبي ومحمد رشيد رضا (المفترى عليه هو الآخر بأنه ذو نزعة قومية) من بين أئمة الإسلام في زمانيهما، فإن الدكتور حسن حنفي يضع الكواكبي في خانة تيار الحركة الإسلامية التي تنبع من الموروث الإسلامي الأصيل، والتي تمتد جذورها إلى ألف وأربعمئة عام، وقد جسّدتها كما قال: حركة الإصلاح الديني الأخيرة منذ الأفغاني، ورشيد رضا، وحسن البنا، وسيد قطب، والكواكبي، ومحمد إقبال، وعبد الحميد بن باديس، وعلال الفاسي، والطاهر بن عاشور وغيرهم، عِبر أربعة أجيال، وما زال الجيل الخامس منهم يملأ الأرض صخباً في محاولة لإعادة صياغة الصحوة الإسلامية... (22).
أما الدكتور محمد عمارة الذي صنّف الكواكبي مع التيار القومي ـ كما ذكرنا ـ فقد وقع في مفارقة صارخة، حينما عاد هو نفسه وصنّفه ضمن ما سمّاه (السلفية العقلانية المستنيرة)، حيث قال ما نصّه:
«وهذا التيار هو الذي بدأه فيلسوف الإسلام وموقظ الشرق جمال الدين الأفغاني (1838 ـ 1897) وتجسّد فكره، وخاصة ما تعلّق منه بتحرير العقل والإصلاح الديني في الآثار الفكرية والجهود العلمية للإمام محمد عبده (1849 ـ 1905)، وكان جناحه في المشرق العربي المفكر عبد الرحمن الكواكبي (1854 ـ 1902م)، وفي المغرب العربي عبد الحميد بن باديس (1889 ـ 1940). ومن حول هؤلاء جميعاً عرفت الأُمّة أقوى تيارات التجديد واليقظة في عصرنا الحديث، وأكثرها أصالةً ومستقبليةً أيضاً» (23).
نعم، يمكن القول: إن هذا النزوع في توصيف الكواكبي، منطلقٌ من نزعة
________________________________________
(21)راجع كتابه عن الكواكبي، ص 268.
(22) الدكتور حسن حنفي والدكتور محمد عابد الجابري، (حوار الشرق والغرب) ـ القاهرة 1990، ص 24، علماً بأن رؤية حنفي هذه كان أطلقها عام 1989 وهو بصدد الدعوة إلى فتح حوار بين التيارات الفكرية والسياسية الرئيسة الأربعة في الوطن العربي والمتمثلة بـ (الحركة الإسلامية، والليبرالية، والماركسية، والقومية العربية أو الناصرية أو الاشتراكية العربية).
(23) راجع كتاب (العرب والتحدي) للدكتور محمد عمارة الصادر عن دار المعرفة ـ الكويت 1980، ص 222. وقد ردّد الدكتور عماره هذه الأفكار أثناء انعقاد ندوة (القومية العربية والإسلام)، التي مرّ ذكرها.

[الصفحة - 100]


الكواكبي للتحرر من السيطرة العثمانية التي حسبت نفسها على الإسلام، ووظّفتهُ توظيفاً سياسياً للترويج لسلاطينها والباشوات. وهذا ما أشار إليه الدكتور (محمد دكروب) الذي قال:
«لا أحد يستطيع المزايدة على إسلامية المصلحين الثلاثة (الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي)، ولا أن ينتقص من معارفهم في اُمور دينهم ولا في إيمانهم الإسلامي... » وأضاف:
«الكواكبي، المناضل الجسور ضد الاستبداد والاضطهاد القومي، والطليعي في حركة التفكير التحرري القومي العربي (...) كان يرى في السيطرة التركية والاستبداد العثماني العدو المباشر، فيوجّه نحوه النار بحسمٍ ونُضج ووضوح، ويرى أنّ نضاله للتحرّر من السيطرة العثمانية هو جزء أساسي من تحرير الإسلام نفسه، وانتزاعه من أيدي الظالمين، الذين جعلوا منه وسيلة سيطرة واضطهاد، والعودة بالتالي إلى الينابيع الأُولى للإسلام...» (24).
الكواكبي والمفكر الإيطالي فيتريو الفييري
وهناك من لا يرى في الكواكبي نقيصةً يمكن إلصاقها به إلاّ بكونه تأثّر بأفكار المفكّر الإيطالي (فيتريو الفييري 1749 ـ 1803م) عبر ما رأوه من تطابقٍ في الأفكار والرؤى بين الرجلين، إلى الحدّ الذي دعا العديد من الباحثين لإرجاع النزعة (القومية العلمانية) في كتابات الكواكبي إلى أثر ذلك المفكر الإيطالي عليه، متناسين أنّ الفكر البشري كلّه، ليس أكثر من تراكم كمّي يُضفي عليه هذا الإنسان أو ذلك بعضاً من عندياته ليتكامل مع الآخر، وقد يلتقي معه في هذه الرؤية أو تلك، أو يتأثر به في هذا الرأي أو ذاك، إلاّ أن هذا لا يُلغي دوره في التجديد والإضافة والإتمام، وبناءً على الظروف والحيثيات والخلفية الثقافية والفكرية لكل باحث ومفكر، علماً بأن الأُطروحة التي قدّمتها الباحثة الإندونيسية (نور ليلى عدنان) لنيل درجة الماجستير من جامعة القاهرة عام 1970، والموسومة (الكواكبي: مصلحاً وأديباً)، تابعت هذه النقطة بصبرٍ وتأمّل، حيث قامت بترجمة فصول كاملة من كتاب (الفييري) المذكور عن النسختين
________________________________________
(24)دراسات في الإسلام لمجموعة من الكتاب اليساريين، دار الفارابي ـ بيروت 1981، ص 183، 184، 178.

[الصفحة - 101]


الإيطالية والتركية، فوجدت أن الكواكبي لم يأخذ منه شيئاً، عدا بعض الأفكار التي تتوارد أحياناً بين شخصيتين تعيشان عقدة الاضطهاد والاستبداد من السلاطين والحكام، وبالتالي فإن هذه الباحثة رجّحت أن يكون الكواكبي كان قد اطّلع على الكتاب دون أن يتأثر به رغم تطابق بعض الرؤى والأفكار بين الكاتبين أو الكتابين.
الكواكبي مفكر عميق
وقد غاص الكواكبي عميقاً في تحليل شخصية المستبد ومحاولاته لقلب المفاهيم والحقائق وإبقاء الناس كالقطيع تحت إمرته، مفصّلاً ذلك في تفسير المستبد أو توجيهه للمنظومة المعرفية والثقافية للناس، وكيف أن هؤلاء الناس لا يجدون مفرّاً أحياناً من مجاراة الحاكم المستبد والدوران مع تأويلاته وتفسيراته وتوجيهاته، وحتى استخدامه المبتور للنص المقدّس أحياناً لإتمام المهمة الخبيثة.
يقول الكواكبي:
«وقد اتّبع الناس المستبد في تسميته النُصح فضولاً، والغيرة عداوة، والشهامة عتوّاً، والحمية حماقة، والرحمة مرضاً، كما جاروه على اعتبار النفاق سياسة، والتحايل كياسة، والدناءة لطف، والنذالة دماثة...».
ويضيف:
«حتى إنهم يقرأون كما يقرأ المستبد. نعم، يقرأون الآية القرآنية: {لاَّ يُحِبُّ الله الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ} ويغفلون عن قراءة بقيتها: {إلاّ من ظُلم} » (25)؛ لكي يسدّوا الطريق أمام صرخات الناس وزفراتهم ولعناتهم على الظلم والظالمين، وإبقائهم في دائرة التوسّل والتماس الحاكم، وانتظار عطفه ورحمته ورأفته التي لن تأتي بالتأكيد.
ويروح الكواكبي مقارناً بين منهج الحاكم في الغرب والحاكم في الشرق، والفرق بين الشخصية الشرقية والشخصية الغربية وآفاق تحرّك ووعي كلتا الشخصيتين وكلا الحاكمين، فيقول ما نصّه:
«الغربيون يستحلفون أميرهم على الصدق في خدمته لهم والتزام القانون، والسلطان الشرقي يستحلف الرعية على الانقياد والطاعة له..
________________________________________
(25)طبائع الاستبداد، مصدر سابق، ص 87، 90.

[الصفحة - 102]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف