البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مفهوم الثقافة وقفات وتأملات

الباحث :  الشيخ خالد الغفوري
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  49
السنة :  السنة الثالثة عشر شتاء 1429هجـ 2008 م
تاريخ إضافة البحث :  March / 24 / 2015
عدد زيارات البحث :  1321
مفهوم الثقافة وقفات وتأملات
الشيخ خالد الغفوري (*)
الثقافة لغة
ثَقِف وثَقُف ثقْفاً وثقَفاً وثقافة: صار حاذقاً خفيفاً في إدراك الشيء وفعله، فهو ثَقْف وثَقُف وثَقِف وثَقيف، والثِّقِّيف الحاذق جدّاً، والثَقاف من النساء: الفَطنة. وقد يتجوّز فيستعمل في الإدراك، وإن لم تكن معه ثقافة، قال تعالى {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} (سورة البقرة: 191)، وقال: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ}(الأنفال: 57), وقال أيضاً: {مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا} (الأحزاب: 61).
وثقّف الرمح قوّمه وسوّاه، والولَد: هذّبه وعلّمه فتهذّب وتعلّم، فهو مثقّف، وهي مثقّفة. وهذا مستعار من ثقّف الرمح.
والثِّقاف: آلة تُثقّف بها الرماح. والمثقَّف في عرف الشعراء: الرمح.
والثقافة: التمكّن من العلوم والفنون والآداب (1).
الثقافة اصطلاحاً
قد يبدو لأول وهلة أنّ الثقافة لا تختلف كثيراً عن العلم والفكر، فإنّ (العلم .. الفكر .. الثقافة) ألفاظ قد تبدو متحدة أو متقاربة معنىً، كما يشهد لذلك الاستعمالات الرائجة إعلامياً، حيث نرى أنّ التعامل مع هذه المفردات مبتنٍ على أساس أنّها مترادفة أو كالمترادفة.
________________________________________
(*)كاتب وباحث، متخصّص في الفقه الإسلامي، رئيس تحرير مجلة فقه أهل البيت، من العراق.
(1)المنجد: 71؛ المفردات؛ الراغب: 173.


[الصفحة - 58]
ونحن نريد التوقّف عند ذلك لتقويم هذه النظرية تجاه هذه الألفاظ، وليس الغرض هو اكتشاف الجذور اللغوية والاستعمالات الأدبية لها، بل المراد هو تحليلها مفهومياً باعتبارها عناوين تعبِّر عن حقائق وأنماط معرفية متفاوتة. والمهم لنا هو فرز مصطلح (الثقافة) عمّا يشابهه من الألفاظ من خلال دراسة خصائصه ومقوّماته.
أولاً: الثقافة بنظرة تحليلية
إنّ الثقافة كمصطلح حديث عرّفت بعدّة تعاريف:
1 ـ إنّها الحركة الحيوية للحياة، والحركة المشخّصة والمعاشة.
2 ـ إنّها ليست الشعر أو الرواية أو المسرح والسينما والتشكيل حسب، بل هي أيضاً العلوم، والفلسفة، والعادات الفكرية، وأنماط رؤية الحياة، والمعتقدات العامة، وهي اللغة المثقَّفة بتاريخ المعاني، وبالماضي الذي كان مشخّصاً ثم غاب أو الحاضر الذي يستفيق أو قد لا يستفيق (2).
3 ـ ويقول هنري لاوست: إنّ الثقافة هي مجموعة الأفكار والعادات الموروثة التي يتكون فيها مبدأ خلقي لأمّة ما، ويؤمن أصحابها بصحتها، وتنشأ منها عقلية بتلك الأُمّة تمتاز عن سواها.
4 ـ وعرّفها أرنست باركر بأنها ذخيرة مشتركة لأُمّة من الأُمم تجمّعت لها، وانتقلت من جيل الى جيل خلال تأريخ طويل، وتغلب عليها بوجه عام عقيدة دينية هي جزء من تلك الذخيرة من الأفكار والمشاعر واللغة (3).
5 ـ وعرّفها آخر بأنّها وعاء حركة الإنسان المتقوّمة بوعيه والمقوّمة أيضاً (4).
6 ـ وبالنسبة إلى الصيرورة والنشوء فقد ذكروا أنّها مرت بثلاث مراحل أساسية: فقد كانت ابتداء تدلّ على اتجاه نمو طبيعي (5)، ثم دلّت على عملية تدريب إنساني (6)إلى أن أصبحت تعني شيئاً مستقلاً في حدَّ ذاته في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر, وأصبحت أولاً حالة أو عادة عقلية عامة ترتبط بفكرة الكمال إلانساني, الفكري في المجتمع بأسره. وفي أواخر القرن أصبحت تعني طريقة شاملة للحياة مادية وعقلية وروحية (7).
________________________________________
(2)التراث والحداثة، موسى السيد، مجلة الوحدة، العدد 42, الصفحة 6 و7 .
(3)أضواء على الثقافة الإسلامية، الدكتورة نادية شريف العمري: 14.
(4)أُنظر مجلة الفكر الجديد، العدد 10: الصفحة, 24.
(5)الثقافة والمجتمع (ترجمة وجيه سمعان): 178.
(6)المصدر السابق.
(7)المصدر السابق.
[الصفحة - 59]
ومن الواضح أنّ هذه البيانات ناظرة إلى نمو مصطلح الثقافة في العالم الغربي، وإن كانت الثقافة كمفهوم فهو أقدم بكثير مما يتصوره بعض من عالج الموضوع.
ثانياً: وقفة مع ما قيل حول الثقافة
وليس غرضنا أن نحاكم ما ذُكر من تعاريف الثقافة على أساس القواعد المنطقية المذكورة في التعريف، بل المراد معرفة أنّها إلى أيّ حدّ استطاعت أن تشخّص وتبيّن مفهوم الثقافة، ولو بنحو الإجمال أو الإشارة أو ذكر المصداق على الأقلّ.
1 ـ أمّا التعريف الأول، فهو في منتهى الإبهام والغموض، فهذا التعريف ينطبق على الحركة الطبيعية والكونية للحياة، كما أنّه أسقط الإنسان من الحساب.
2 ـ وأمّا التعريف الثاني، فهو وإن كان واضحاً بعض الشيء، وقد جعل الإنسان والنشاط الإنساني هو المحور في بيان مفهوم الثقافة، لكنّه فضفاض جدّاً، بحيث يستوعب كلّ الأنشطة الفكرية والفنية والعلمية والسلوكية وعلى امتداداتها الزمنية الماضية والحاضرة.
3 ـ وأمّا التعريف الثالث، فهو وإن امتد ليشمل كل الأفكار والعادات، إلاّ أنّه رسا أخيراً على المبدأ الخلقي كمحور، لكنّه ضيَّق من المفهوم عندما قيَّد الأفكار والعادات بالموروث، وجعل لكل أُمّة ثقافة خاصة بها دون سواها.
4 ـ ويمتاز التعريف الرابع بأنّه أعطى للعقيدة الدينية دوراً ملحوظاً في الساحة الثقافية للأُمم.
5 ـ ولم يوضّح لنا التعريف الخامس ما المراد بحركة الإنسان علمياً أو سلوكياً أو الأعم منهما، كما أنه لم يوضّح لنا كيف تكون الثقافة متقوّمة بوعي الإنسان ومقوّمة له أيضاً.
ومهما يكن من أمر، فإنّ في بعض هذه التعاريف إثارات مهمة وصحيحة في نفسها، وإن لم يفلح بعض المفكّرين في صياغتها فنياً، مما أدّى إلى الخلط بين الثقافة كحقيقة ومفهوم وبين العناصر المؤثرة في نشوئه وتبلوره وبين الآثار والنتائج المترتّبة
________________________________________
[الصفحة - 60]
عليه، فلم يكن هناك فرز بين الحيثيات التعليلية وبين الحيثيات التقييدية، فإنّ الأًولى خارجة عن حريم المفهوم، والثانية داخلة في ذات المفهوم.
ثالثاً: خصائص مفهوم الثقافة
وسنذكر فيما يلي بعض الخصائص للثقافة، استوحيناها من التتبع والتحليل، تصلح أن تكون حاصرة أو مشيرة إلى مفهوم الثقافة:
1 ـ إنّ العلم يعنى عادة بزاوية ما من زوايا عالمنا الوسيع، ويعكف على دراستها متوفّراً عليها، ولا ضرورة في أن يكون ناظراً لما سواها إلاّ بمقدار ما تتطلّبه الدراسة نفسها، والثقافة تنفتح على الحياة بكلّ جوانبها وتلحظها طرّاً كوحدة واحدة، أو على الأقل تكون ناظرة إلى مجال من مجالات الحياة بأكمله.
فعندما تُطرح مسألة الهدفية في الحياة التي هي مسألة ثقافية، أو مسألة الحرية، فهنا لا نركّز النظر على مسألة جزئية محدودة، ومن هنا تكون المسائل والأفكار الثقافية قضايا مركّبة مكوّنة من سلسلة من الأفكار والرؤى، فالثقافة تعني المركّب الثقافي، وهي تمثّل اتجاهاً لا فكرة موضعية فحسب.
2 ـ إنّ الإنسان بما هو مادة للدراسة ليس له أيّة خصوصية في الدائرة العلمية، ولا يمتاز عن أنّه عيّنة أُخرى في الوجود الداخلة ضمن اهتمام العلم، بينما يشكّل الإنسان بما لـه من وجدان وآمال المحورَ للثقافة والهدف، فإنّ الفنّ كمفردة ثقافية قضية تستهدف الإنسان، في حين أن الأمواج الصوتية يدرسها العلم مع قطع النظر عن ارتباطها بالإنسان.
3 ـ إنّ أقصى ما يصل إليه العلم من حيوية، وغاية ما يبلغه من فاعلية في أغلب حالاته هو مواكبة الحياة كحركة، غير أنّ الثقافة عبارة عن مجموعة من الأفكار والتصورات تنبثق من الحياة كماضٍ أو حاضر، وتتفاعل معها كرؤى وتطلّعات مستقبلية. فإنّ الثقافة دائماً ناظرة إلى مستقبل تنشده وحضارة تشيّدها تدفع الإنسان باتجاهها وتزوّده بمنظومة أحلام ورزمة أمانيّ موضوعية منبثقة عن وعي وليست أمانيّ طائشة ناشئة من الخيال الذاتي للفرد.
________________________________________

[الصفحة - 61]
4 ـ إنّ لغة العلوم المعادلات والأرقام والقواعد والقضايا الحقيقية، بيد أنّ الثقافة لغتها القضايا الخارجية.
فالعالم الطبيعي في المختبر يتعامل مع المقادير والنسب، والعالم في دائرة العلوم الإنسانية والأدبية يتعامل مع قواعد وضوابط وقوانين سواء كان لها مصداق خارجي حياتي أو مجرّد فرض عقلي أو فرض مختبري في ظروف قياسية لا تحقق لها خارجاً.
لكنّ المسائل الثقافية دائماً تنطلق من القضايا المعاشة والتي يشعر بها الإنسان حسياً أو نفسياً، نظير مسالة المكانة الاجتماعية للمرأة أو قضية عزّة الأُمّة والمجتمع.
5 ـ إنّ العلم يتناول مسائله طبقاً لتسلسلها المنطقي في هذا الاختصاص أو ذاك، في حين أنّا نلاحظ أنّ المسائل الثقافية تُطرح مترتّبة حسب ما لها من الأهمية الحياتية وبمقدار ما تتسم به من أولوية منبثقة من الواقع المعاش.
ففي المجتمع الذي يعيش حالة الاحتلال والغزو والهيمنة الخارجية تنطلق في أجوائه نداءات الاستقلال والبحث عن الهوية والأفكار الوطنية.
وفي المجتمع الذي يعيش الضعف الاقتصادي تتحرّك فيه دعوات البناء والإعمار والعمل والمشاريع.
وعندما يمّر الإنسان بمرحلة الشباب يتشوّق أكثر من غيره للاطلاع على ما يرتبط بالفتوة من شؤون.
6 ـ هذا، وقد تلعب الصدفة في بعض الحالات دوراً في دفع عجلة العلم وكشوفاته إلى أمام وتعجيل حركته، إلاّ أنّنا لا نكاد نجد مداخلة ثقافية ـ وإن مازجها اللاشعور أحياناً بنسبة ما ـ إلاّ ويكون وراءها هدف ما، ولا نواجه عرضاً ثقافياً إلاّ وينشد غاية معيّنة. فقد كان نيوتن محظوظاً عندما التفت صدفة إلى التفاحة التي سقطت من الشجرة إلى الأرض؛ لتكون سبباً لاكتشاف قانون الجاذبية، وكذلك الحال بالنسبة إلى أرخميدس الذي رأى وهو يستحمّ ما يحدث في الحوض من ظواهر اكتشف على أثرها القاعدة التي عُرفت باسمه فيما بعد. ولكنّ فكرة الصراع الاجتماعي أو الأفكار الديمقراطية أو التمييز العنصري أو الأفكار القومية كلّها ثقافات لم تحصل
________________________________________

[الصفحة - 62]
صدفة، بل هي أفكار منظّمة ومرتّبة وفق سياق خاص انطلقت من منطلقات خاصة لتحقيق أهداف خاصة.
7 ـ إنّ العلم لا يتحدّد من حيث هو علم بحدّ قيمي، بينما الثقافة هي أفكار قيمية أساساً، والقيمية فيها عنصر ذاتي ومقوّم لها، ولعلّ هذا هو السبب الذي جعل البعض يُقحم الأخلاق والمبادئ الخلقية أو المعتقدات العامة أو الدينية في تعريف الثقافة.
ومن هنا قد نرى اختلاف الثقافات بحسب اختلاف الأُسس القيمية التي تنطلق منها، فهناك ثقافات مادية، وهناك ثقافات دينية.
8 ـ إنّ العلوم أكبر ما يمكنها أن تحققه هو الرفاه للإنسان والتمدّن والتطور التقني حتى يتمكن من سدّ حاجاته بسهولة، وأمّا الثقافة فهي تسعى لتحقيق حضارة للبشرية تنطبع بطابعها الخاص بها.
فالثقافة الإسلامية تدعو إلى حضارة ذات طابع خلقي يسودها السلام والحرية والعدالة والكرامة والعبودية لله والحب للبشرية والمساواة بينها.
والثقافة الغربية تدعو إلى حضارة يحكمها منطق القوّة والتفوّق التقني والهيمنة الاقتصادية والعسكرية، وحضارة القطب الواحد.
9 ـ حينما تختلف لغة كلّ من العلم والثقافة, فمن الطبيعي أن يختلف الخطاب والمخاطّب. فإنّ الخطاب العلمي يوجّه إلى الإنسان بشرط، وهو الإنسان المتخصص والمهتمّ بهذا المجال العلمي أو ذاك. إلاّ أنّ الخطاب الثقافي يوجّه إلى الإنسان لا بشرط، فكلّ إنسان مهما كان اختصاصه العلمي أو اتجاهه الذوقي والمزاجي يقع في دائرة الخطاب الثقافي.
فمسألة دلالة الأمر على الوجوب أو دلالة النهي على التحريم مسألة موجّهة إلى علماء أُصول الفقه، ولا شأن لغيرهم بها. غير أنّ مسألة التحلّل الخلقي أو التفكّك الاجتماعي أو الهيمنة الاستكبارية أو الاستبداد من المسائل التي يفقهها جميع الناس خاصتهم وعامتهم. فالثقافة ذات خطاب جماهيري مفتوح، والعلم خطابه نخبوي مغلق.
________________________________________

[الصفحة - 63]
ويجدر الالتفات إلى حقيقة هامّة، وهي أنّ الخطاب الديني القرآني والنبوي في مجمله خطاب ثقافي، ومخاطبوه الناس، والمؤمنون، أهل الكتاب وأفراد المسلمين، وليس مرادنا من ذلك هو وجود لفظة {يا أَيُّهَا النَّاسُ} أو {يا أَيُّهَا الَّذِِينَ آمَنُوا} أو {يا أَهْلَ الْكِِتَابِ} ، بل المراد من الخطاب الأعم؛ فإنّ الأوامر والنواهي والأفكار وجّهت إلى الملأ العام وعلى مستوى الفهم العام ويهدف منها توجيه الرأي العام.
وهذه نقطة خطيرة جديرة بالدراسة والبحث، فنجد القرآن والسنة الشريفة حافظت على الإطار الثقافي حتّى في بيان مراداتها التشريعية والقانونية والإلزامية وفي توضيح مسائلها وقضاياها العقائدية.
ولنا في سيرة النبي(صلي الله عليه و آله و سلم) ـ قولاً وفعلاً ـ ما يؤكّد هذه الدعوى. كيف وقد أُرسل إلى الناس، وقد أُمر أن يكلّم الناس على قدر عقولهم ويؤثّر فيهم بكلماته المحرّكة للوسط الجماهيري، فإنّه حتّى في أوائل الدعوة حيث كانت المرحلة السرّية والكتمان، ولم يكن يؤمن به إلاّ الثلّة، مع ذلك لم يتحوّل الخطاب النبوي إلى خطاب الثلّة والنخبة، ولم تشغله حركته السرّية عن الانفتاح على عامة الناس بمختلف طبقاتهم.
10 ـ إنّ المحصّلة النهائية للعلم هي أن يقدّم للعقل البشري كشفاً ومعلومة إضافية، في حين أنّ الثقافة مآلها أن تخلق في فكر الإنسان وعياً، فإنّه وبسبب الجرعات الثقافية يعيش ويتعامل مع الحياة بالتفات إلى ما يكمن وراءها من قيمة أو هدف سلبي أو إيجابي، فهو يحلّل الظاهرة الاجتماعية، ويفسّر الخبر السياسي، ويقيّم المواقف وهكذا، فهو يشعر ويحسّ بما حوله وينتظر ما هو آت.
11 ـ إنّ العلم وظيفته الإخبار عن المعلومة والكشف، في حين أنّ الثقافة طروحاتها ليست إخبارية صرفة، بل هي إمّا أن تكون إنشائية أو إخبارية تنتهي إلى الإنشاء، أي أنّ العرض الثقافي له محرّكية للمخاطب، ودفع نحو الوجهة التي ترسمها له تلك الثقافة، وليس المراد بالإخبار والإنشاء القوالب اللفظية والصياغية، بل الملحوظ هو الأثر العملي والسلوكي والمحرّكية التي تترتّب على الفكرة الثقافية، بخلاف العلم الذي يكون عبارة عن معلومات جامدة لا حراك فيها.
________________________________________


[الصفحة - 64]
رابعاً: إيضاحات وبيانات
1 ـ ولعلّ في ما ذكرناه من نقاط فاصلة بين العلم والثقافة تكفي لإيجاد تصوّر ولو إجمالي عن الثقافة.
وأمّا العلم فهو إجمالاً واضح لدى العرف والعقلاء، وما هذه الاختصاصات والفروع العلمية والمعرفية التي لا تحصى إلاّ تجلّيات للعلم.
وأمّا العلم في المصطلح المنطقي فهو أعم من العلم بمعناه العرفي.
وأمّا الفكر ـ الذي هو عبارة عن حركة العقل بين المجهول والمعلوم ـ فهو يشمل كلا السنخين من الممارسة المعرفية، وهما: العلم + الثقافة.
وقد اتضح أن كلاً منهما يمتاز عن الآخر جوهرياً، وليس محض التسمية هو الفارق بينهما، فلا يظنّ أحد أنّ المائز بين العلم والثقافة إنّما هو مجرّد الاصطلاح، ولا مشاحّة في الاصطلاح كما يقال، بل لكلّ منهما حقيقته المشخّصة لـه، ومنظومته الخاصة به، وميدانه الذي يتحرّك فيه، وفلكه الذي يدور حوله، وأدواته التي يعتمدها، ولكلّ إستراتيجيته التي ينطلق منها في وضع برامجه وأولوياته التي يحكّمها فيما يبتكر من طروحات.
ولو تتبّعنا النصوص القرآنية لوجدنا أنّ هناك تمييزاً واضحاً بين هذين السنخين من المعرفة؛ إذ إنّ مفردة (العلم) قد وردت كثيراً في القرآن الكريم، لكن لا يراد منها المعرفة العلمية، بل يراد منها المعرفة الثقافية، نظير قوله تعالى في سورة الروم {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ} (الروم: 6 ـ 7) فهنا القرآن الكريم ينفي عنهم العلم ويثبت لهم العلم، وهذا التعبير لا يستقيم إلاّ إذا كان متعلّق العلم المنفي يختلف عن متعلّق العلم المثبت لهم، فالعلم المنفي عنهم هو المعرفة الثقافية دون المعرفة العلمية، ويشهد لذلك قوله تعالى {وَهُمْ عَنِ الآْخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ} فإنّ ثقافتهم ثقافة مادية ودنيوية وليست دينية مرتبطة بالله والآخرة، ثم يعقّب القرآن بعد ذلك يتزريق المركّب الثقافي لهم بقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالأَْرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ }
________________________________________
[الصفحة - 65]
{لَكافِرُونَ* أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَْرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الأَْرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(الروم: 8 ـ 9).
وكذلك الحال بالنسبة لمفردة (الجهل)، فقد حكى القرآن الكريم عن يوسف(عليه السلام) قوله: {قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ} (يوسف: 33), فالظاهر منه أنّ الجهل ليس في مقابل العلم، بل في مقابل نوع خاص من المعرفة وهي الثقافة، فإنّ من لم يتزوّد بالثقافة الإلهية ـ التي تجعل منه إنساناً ملتزماً منضبطاً سلوكياً ـ يصحّ أن يوصف بالجهل، وإلاّ فإنّ الانحراف الأخلاقي والسلوكي لا ربط له بالمعلومات الذهنية الصرفة.
ونظير ذلك ما حكاه القرآن الكريم عن لوط(عليه السلام): {وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ* أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (النحل: 54 ـ 55). فهم لم يمارسوا الفاحشة إلاّ عن علم وعمد، فكيف يخاطبهم بأنّهم قوم يجهلون؟! وهذا دالّ على أنّ الجهل هنا ناظر إلى الجهل بالثقافة الدينية التي تهذّب الإنسان سلوكياً وعملياً.
2 ـ إنّ المعرفة البشرية بكلا شقّيها (العلم + الثقافة) ضرورية للحياة الإنسانية، لكن لكلّ منهما مقتضياته واقتضاءاته، ولكلّ دوره الذي يليق به وحجمه المناسب له، فلا يستعاض عن أحدهما بالآخر، ولا يُستغنى عن أيٍّ منهما، فكلاهما يسهمان في صياغة الحياة الإنسانية الأسمى.
وليس المراد أنّهما منفصلان عن بعضهما، فكثيراً ما تؤخذ المحاصيل العلمية كأُصول موضوعية تستلمها الثقافة وتعتمدها في فكّ الإشكالات وتحديد المسارات. بل، إنّ الثقافة غير المرتكزة على العلم سحابة من المشاعر الفوضوية والطموحات الهائجة التي تسري في ليل بهيم لا يزيدها السير إلاّ بعداً، كما أنّ العلم ما لم يسر في الركب الثقافي ما هو إلاّ ركام من المدركات التي يمكنها أن تشبع الرغبة الشخصية في حبّ الاستطلاع، وربما يكون وسيلة لتحطيم الحياة وتحويلها إلى جحيم؛ لأنّ الثقافة هي التي تعطي للعلم بعداً قيمياً وضوابط عملية.
________________________________________

[الصفحة - 66]
إنّ كلّ كيان اجتماعي وكلّ بناء حضاري لا يمكن أن يحالفه التوفيق ما لم يبن على هاتين الدعامتين، فلا بدّ من إعطاء كلّ منهما حقه وإيصاله إلى نصابه المرتجى له، وإلاّ فإنّ الإغضاء عن أحدهما سيجعل الانطلاقة عرجاء.
3 ـ ربّما نواجه نمطاً من المعرفة ذا وجهتين: الوجهة العلمية التخصصية الخاصة، والوجهة الثقافية العامة، كما هو الحال بالنسبة إلى بعض العلوم الدينية، كالفقه، فهو علم بكلّ ما للعلم من خصائص ومميّزات، حيث إنّ له قواعد وضوابط دقيقة، لا يعرفها إلاّ المتخصص الخبير، ومن جهة ثانية هو ثقافة في ذات الوقت بكلّ ما للثقافة من عناصر ودلالات، حيث إنّه يخاطب الإنسان عموماً ويحرّكه كمكلّف نحو الامتثال والسير في اتجاه رسمته له الرسالة الإلهية.
ففي قولـه تعالى: {وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122)، إنّنا نجد الإشارة إلى كلتا الحيثيتين في هذه الآية، أمّا الحيثية التخصصية فقد قُدّمت حسب منطوق النص على أخطر تكليف وأعظم وظيفة وهو الجهاد المسلّح، بل هي جهاد أيضاً لكنّه جهاد علمي، ولئن كان الجهاد المسلّح يمهّد الأرضية المناسبة لتحكيم دين الله في الأرض بإزالة الموانع عن الهداية وإعداد المقتضي للاستقامة والانفتاح على رحاب الحق، فإنّ الجهاد التخصصي مؤهّل لكي يكون لـه دور مشابه أيضاً، بيد أنّ هذا الدور لا يكتمل ما لم يُشفع بالبيان الثقافي الذي يحرّك الجماهير نحو الالتزام العملي والسير بالاتجاه المراد ربّانياً.
ونحن لا نريد أن نقصر مفهوم الفقه على الفقه الاصطلاحي، فإنّ المراد في الآية جميع معارف الشريعة والتي منها الفقه بالمعنى المصطلح.
وعلى أيّة حال فإنّ المتخصصين مدعوّون شرعاً إلى إنذار الشعوب وإرشادهم بكلّ ما تريده الشريعة، وتحويل مرادات الشريعة إلى موادّ ثقافية في متناول الجميع، وجعلها موادّ فكرية متداولة بينهم، ولا يكفي بلورة المادة علمياً في الأروقة التخصصية، فإنّ على علماء الأُمّة أن يترجموا الثقافة الشرعية والأفكار الرسالية إلى وعي في ذهن الأُمّة وإلى رشد جماهيري كي تساهم الجماهير في تحقيقها عملياً.
* * *
________________________________________
[الصفحة - 67]
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف