البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الصحيفة أو دستور المدينة التأسيس للعلاقة مع الآخر

الباحث :  الشيخ علي ناصر
اسم المجلة : 
العدد :  1
السنة : 
تاريخ إضافة البحث :  June / 7 / 2015
عدد زيارات البحث :  2208

الصحيفة أو دستور المدينة
التأسيس للعلاقة مع الآخر

الشيخ علي ناصر (*)

يحدّثنا القرآن الكريم عن اليهود الذين كانوا يرون في صفات النبيِّ(عليهما السلام) الجسميّة والخلقيّة، ومبادئ شريعته، ما هو مُدَوَّن في كتابهم المقدّس. وكانوا على يقين من أنّه النبيُّ المرتقب، فهم يعرفونه كما يعرفون أنفسهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (1)، وبالتالي كان من واجب اليهود أن يكونوا أوّل أهل المدينة دخولاً في الإسلام.
ولكنّ الواقع التاريخيّ كان على خلاف ذلك، فرفضوا الإيمان بنبيِّ الإسلام، وقد وادع النبيُّ(عليهما السلام) اليهود منذ بداية هجرته إلى المدينة، وعقد معهم معاهدةً تبيِّن حقوق الطرفين، وواجبَ كلّ منهما تجاه الآخر، والعلاقة بينهما. فقد ترك النبي (عليهما السلام) لليهود حريّة الاعتقاد، ولم يُجبرهم على الإسلام، وأعطاهم كامل الحقوق المدنيّة كسائر المسلمين، وكل ما طلبه منهم هو أن لا يكونوا عملاء لعدو المسلمين قريش. وقد وافقوا على ذلك، بل عقدوا معه معاهدة سُمِّيَت بالصحيفة.
فما هي هذه الصحيفة وما الأبعاد التي أرادها الرسول (عليهما السلام) من خلال ما قام به.
________________________________________
(*)باحث، في التاريخ والفقه الإسلامي، من لبنان.
(1) سورة البقرة، الآية: 146.

[الصحيفة - 166]


المحور الأوّل : المعاهدة في الإسلام
أ- مفهوم المعاهدة:
- المعاهدة لغةً:ورد في مصادر علوم اللغة العربيّة أنَّ المعاهدة تعني المعاقدة؛ «المعاقدة: المعاهدة. وتعـاقد القـوم فيما بينهم» (2). «والعهد لغـة: الأمان، واليمين، والموثق، والذمّة، والحفاظ، والوصيّة. وقد عهدت إليه، أي أوصيته. ومنه اشتقّ العهد الذي يُكتب للولاة. وتقول: عليّ عهد الله لأفعلنّ كذا.. وقولهم لا عهدة، أي لا رجعة» (3). وقال بعض المفسِّرين: «العهد كلّ ما عوهد الله عليه، وكلُّ ما بين العباد من المواثيق فهو عهدٌ. وأمر اليتيم من العهد. وقال أبو الهيثم: العهد جمع العهدة، وهو الميثاق واليمين التي تُستوثق بها ممَّن يُعاهدك.. والعهد: الحفاظ ورعاية الحرمة.. والعهد: الإلتقاء، والمعرفة.. والعهد: الوفاء، والحفاظ.. والعهد: الضمان.. والعُهدة: كتاب الحلف.. والعهد: الأمان، والذمّة.. ويقال أيضاً: أعهدك من هذا الأمر، أي أكفلك، أو أنا كفيلك» (4). وبالتالي فإنَّ المعنى اللغوي للمعاهدة يؤيِّد المعنى الاصطلاحي لها.
- المعاهدة اصطلاحاً:هي بمعنى المهادنة، أي: «الصلح، والاتِّفاق، والمعاقدة على ترك الحرب مدَّة معيّنة» (5). وفي ذلك يقول الشيخ الطوسي: «الهدنة والمعاهدة واحدة، وهو وضع القتال وترك الحرب إلى مدّة من غير عِوَض» (6). وفي ذلك يقول الإمام الخامنئي (دام حفظه): «الهدنة..ممّا ينتهي به الجهاد والقتال، والمهادنة هي في الأصل السكون، وتُستعمل في الصلح والموادعة بين المتحاربين، إلا أنَّه في اصطلاح الفقه الإسلاميّ يُستعمل في الصلح المؤقت بين المسلمين وطائفةً من الكفَّار الحربيين. ولذا يُطلق عليها ـ أي الهدنة ـ الموادعة والمعاهدة الظاهرتان في عدم الدوام»(7). ويفرِّق آية الله العظمى الخامنئي بين الهدنة والجزية قائلاً:
«والفرق بينهما جوهريّ، هو أنّ الطرف المقابل في عقد الجزية، هو العدوّ المغلوب الذي قد ظهر المسلمون عليه، وفُتحت أرضه، وأُسقطت دولته. والحال يُجعل عليه شيء عِوَضَ الضرائب الموضوعة على المسلمين، فهو من جملة مواطني المسلمين، ولكن على غير دينهم. أمَّا الطَّرف المقابل في المهادنة، فهو العدوّ المستقِّر
________________________________________
(2) الجوهري، الصحاح، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، ط4، بيروت- لبنان، دار العلم للملايين، ج2، ص: 510، 1407هـ.
(3) م.ن، ص: 515.
(4) الزبيدي، تاج العروس، تحقيق: علي شيري، لا ط، بيروت- لبنان، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ج5، ص: 145-147، 1414هـ-1994م.
(5) فتح الله، أحمد، معجم ألفاظ الفقه الجعفري، ط1، مطابع المدوخل الدمام، ص: 412، 1415هـ- 1995م.
(6) الطوسي، المبسوط، تصحيح وتعليق: السيد محمد تقي الكشفي، المكتبة المرتضوية لإحياء آثار الجعفرية، ج2، ص: 50.
(7) الخامنئي، علي، الهدنة، ط1، بيروت-لبنان، دار الوسيلة للطباعة والنشر والتوزيع، ص: 7-8، 1419هـ-1998م. وهي دراسة فقهية قيِّمة تبحث في أحكام عقد الهدنة التي ينتهي بها القتال بين المسلمين وغيرهم. وهي جزء من سلسلة بحوث فقهية عالية ألقاها سماحة الإمام السيد علي الخامنئي، قائد الجمهورية الإسلامية في إيران، على طلبته في درس الخارج في موضوع الجهاد وأحكامه.

[الصحيفة - 167]


على أرضه، والباقي على دولته ونظامه المدنيّ، وربَّما يكون قويّاً وغالباً على أمره، بل أقوى أحياناً من المسلمين. ففي صدر الإسلام، كانت الجزية على أهل الكتاب القاطنين في الشام، بعدما فُتحت وصارت من أراضي الإسلام. لكن الهدنة انعقدت مع قريش مكّة، ولم يفتحها المسلمون بعد» (8).
ب- جواز المعاهدة وحرمة نقضها:
أجاز الشيخ الطوسي المعاهدة إذا كان فيها مصلحة للمسلمين، واعتبر أنَّ الهدنة والمعاهدة واحدة. وفصَّل بين أن يكون الإمام مُستظهَراً على أعدائه أو غير مستظهرٍ: «فإن.. كان في الهدنة مصلحةٌ للمسلمين، ونظرٌ لهم (أي المشركين) بأن يرجو منهم الدخول في الإسلام، أو بذل الجزية، فعل ذلك. وإن لم يكن فيه نظر للمسلمين، بل كانت المصلحة في تركه، بأن يكون العدو قليلاً ضعيفاً، وإذا ترك قتالهم اشتدَّت شوكتهم وقرّوا، فلا تجوز الهدنة لأنَّ فيها ضرراً على المسلمين» (9).
وكذلك أجاز الإمام الخامنئي المهادنة أو المعاهدة ولكن بشروطٍ أهمُّها المصلحة: «وهي جائزة في الجملة بإجماع المسلمين.. وما لم تتوفّر الشروط، تكون الهدنة محرّمة.. والدليل على ذلك مضافاً إلى كونه متسالماً عليه بين المسلمين، آياتٌ من الذكر الحكيم.. بدلالتها اللفظيّة، تدلُّ على جواز عقد المعاهدة مع الكفّار.. ومنها قوله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (10).. كما يدلُّ عليه ما نُقل من السيرة النبويّة القطعيّة من معاهداته (عليهما السلام) مع الكفّار من مشركهم ويهودهم ونصاراهم، وكلّها راجعة ـ إمّا بالمطابقة وإمّا بالملازمة ـ إلى ترك القتال واستقرار الهدوء والصلح المؤقّت.. فحاصل الأدلّة بمجموعها، أنّ وجود المصلحة في قبول الصلح أو اقتراحه على العدو، شرطٌ في جواز ذلك. ثمَّ إنّ المصلحة لا تنحصر في ما ذكره الفقهاء رحمهم الله، من ضعف المسلمين وقلّتهم عن المقاومة، أو رجاء دخول الكفّار في الإسلام، أو الحصول على المال الذي يبذلونه للمسلمين. فهناك مصالحُ أُخرى تُناسب ظروف العالم في كلِّ عصرٍ، منها تحسين سمعة النظام الإسلاميّ، بوصفه نظاماً يقترح الصلح على مناوئيه، ومنها تخويف عدوٍّ
________________________________________
(8) م.ن، ص: 8-9.
(9) الطوسي، المبسوط، م.س، ج2، ص: 50.
(10)سورة : الأنفال، الآية: 61.

[الصحيفة - 168]


طامعٍ في بلاد المسلمين من جهة كونهم مشغولين بالحرب، فإذا رأى ذاك العدوّ أنَّ الإمام بصدد الصلح مع مقاتليه، يخاف ويقطع طمعه، ومنها غير ذلك ممّا يعرفه الذي بيده أمر تشخيص المصلحة في كلِّ زمان ومكان» (11).
وقد قال الكلانتريّ بجواز عقد المعاهدات: "نعم يجوز للحكومة الإسلامية (12)عقد المعاهدات الماليّة وغير الماليّة مع الأمم الخارجيّة الكافرة، بحسب ما تراه من المصالح، كأن يتعّهد قومٌ إعطاء مالٍ إلى الحكومة الإسلاميّة، في قبال تقبّل النظام الإسلاميّ الدفاع عن ثغورهم وحوزتهم في مواقع الخطر، أو التزاماتٍ أخرى. ولا مانع من شمول عمومات الوفاء بالعقود والعهود، لهذا النحو من المعاهدات التي تنعقد مع تراضي الطرفين" (13).
ويقول بعض الفقهاء أيضاً بجواز عقد المعاهدات على أساس ما يرى ولاة الأمور، فهي من القوانين المتغيّرة التي تتغيّر بحسب المصالح الزمانيّة والمكانيّة، فإنّ قراراً قد يكون في صالح المسلمين في زمانٍ، بينما يكون في ضررهم في زمانٍ آخر (14). وقد تدخل هذه الموارد في منطقة الفراغ التي يكون للاجتهاد (15)فيها دور هامّ جداً. ولا بدّ لوليّ أمر المسلمين من مواصفات وشروط كماليّة، ليستطيع القيام بهذه المهمّة الإلهيّة بأمانة وكفاءة. فلا بدّ له من العدالة (16)، والتحلّي بالخُلُقِ الحسن. ولا بدّ له من الكفاءة في الإدارة والحنكة في السياسة وحلِّ النزاعات. وقد ورد عن رسول الله (عليهما السلام) أنّه قال: « لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتّى يكون لهم كالوالد الرحيم» (17). أمّا الشرط الأساسيّ فهو العلم بالقانون الإلهيّ أي الفقاهة.
وفي نهج البلاغة روايةٌ جامعة لهذه الشروط والمواصفات وهي قول الإمام علي(عليه ‏السلام) « لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي
________________________________________
(11) الخامنئي، علي، الهدنة، م.س، ص: 9-15.
(12) ونذكر قولاً لإمام الأمة الراحل آية الله العظمى الإمام الخميني(قدس سره الشريف): " إن الحكومة هي الفلسفة العملية للفقه الواقعي بكل أبعاده" ويضيف: "ليست قضية ولاية الفقيه بالقضية التي ابتدعها مجلس الخبراء، فهي أمر الله تعالى، وهي نفس ولاية رسول الله (ص)، بيد أن هؤلاء يخافون حتى من ولاية رسول الله (ص)". راجع: الخميني، روح الله، الحكومة الإسلامية، ترجمة وإعداد: مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني، ط2، بيروت-لبنان، مركز بقية الله الأعظم (ع)، 1999م، ص: 22.
(13) الكلانتري، علي أكبر، الجزية وأحكامها، ط 1، قم- إيران، مؤسسة النشر الإسلامي، 1416هـ، ص: 148.
(14) أما القوانين الثابتة فهي التي لا يطرأ عليها بالذات أي تغير، بمعنى أنه لا يمكن رفعها أو تحديدها، وذلك مثل وجوب الصلاة والصوم والحج والزكاة واستحقاق الإرث على ما رسمته الشريعة، وحرمة الربا وشرب الخمر والزنى والقتل وأمثال ذلك. فهذه أحكام ثابتة لا يطرأ عليها أي تغيير، بمعنى أنه لا يجوز لأحد أن ينسب إلى الشريعة القول بتساوي الذكر والأنثى في الإرث، أو عدم تحريم شرب الخمر، أو عدم وجوب الزكاة. ولا يُتوهم أن تحليل مثل الميتة والخمر للمضطر من هذا القبيل، فتكون حرمة الميتة من القوانين المتغيرة. لا، ليس الأمر كذلك، لأنه ما من حرام إلا ويحلله الاضطرار، فيكون الاضطرار من القوانين الحاكمة على كل القوانين مثل قاعدتي "لا ضرر" و "لا حرج"، فهي تغير القوانين الثابتة أيضاً في ظروف خاصة. راجع: الأنصاري، محمد علي، الموسوعة الفقهية الميسرة، ط1، إيران، مجمع الفكر الإسلامي، 1415هـ، ج1، ص: 13-14.
(15) بما هو عملية استنباط واستخراج للأحكام الشرعية من أدلة الشرع لا بمعنى الرأي والتفكير الشخصي في مقابل الكتاب والسُنَّة.
(16) وهي ملكة نفسانية تعصم الإنسان عن فعل المحرمات، وتدفعه إلى إلتزام الواجبات.
(17) الكليني، الكافي، ط5، إيران، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1363هـ،، ج 1، ص: 407.

[الصحيفة - 169]


فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطّل للسُّنة فيهلك الأمة» (18) .
والوفاء بالعهد (19)ملازم لصفة الإيمان، ونقض العهد شأن المنافقين، قال تعالى واصفاً المؤمنين:{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلا ينقُضُونَ الْمِيثَاقَ } (20) {. وقال في آية أخرى: } {وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ }(21). كما ورد عن رسول الله (عليهما السلام) أنه قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» (22).
وقال أيضاً: {بَرَاءةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَأَنَّ الله مُخْزِي الْكَافِرِينَ } (23). فلم يرض بالبراءة دون أن يوسِّع عليهم أربعةَ أشهرٍ حتّى يكونوا على مهلٍ من التفكّر في أمرهم والترويّ في شأنهم، فيروا رأيهم على حريّة من الفكر، فإنْ شاؤوا آمنوا ونجوا، وإن لم يشاؤا قُتلوا وفنوا. قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } (24).
ج- نتائج الصلح والعهد:
وها هو أمير المؤمنين (عليه ‏السلام)، تلميذ رسول الله (عليهما السلام) وربيبه وابن عمه وصهره ووصيه وحامل لوائه يشجِّع على الصلح، مبيِّناً نتائجه، قائلاً في عهده لمالك الأشتر: « ولا تدفعنَّ صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضا، فإن في الصلح دعةً لجنودك، وراحةً من همومك، وأمناً لبلادك، ولكن الحذر كلُّّ الحذر من عدوّك بعد صلحه، فإنَّ العدوّ ربما قارب ليتغفَّل، فخذ بالحزم، واتِّهم في ذلك حسن الظن. وإن عقدت بينك وبين عدوّك عقدةً، أو ألبسته منك ذمّة، فحطّ عهدك بالوفاء، وارع ذمّتك بالأمانة، واجعل نفسك جُنَّة دون ما أُعطيت، فإنّه ليس من فرائض الله شيءٌ الناس أشدّ عليه اجتماعاً مع تفرّق أهوائهم وتشتّت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود. وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من
________________________________________
(18) عبده، محمد، شرح نهج البلاغة، م. س، ص: 305.
(19) يرى بعض الفقهاء أنه لا فرق بين العهد والعقد من ناحية وجوب الإلتزام، من غير فرق بين موارده، إلا إذا وقع عن إكراه وإجبار أو تغرير وخداع: "العقود في الآية فسرت بالعهود.. والتشكيك في ذلك اجتهاد في قبال النصوص. والتوثيق في العهود لا يدور مدار حكم الشرع فيها باللزوم، بل يكفي فيه حكم العرف والعقلاء بذلك. إذ بناؤهم في المعاهدات والمواثيق في جميع الأعصار كان على الإبرام ولزوم الحفظ، وكانوا يذمون ناقضها والمستخف بها. فكأن الإبرام أخذ في طبيعتها وإن اختلفت مراتبه.. فلزوم المراعاة أخذ في مفهوم العهد. وبالجملة، فالعهود بلحاظ إبرامها وشدها بالطبع، وفي اعتبار العقلاء، وجب الإيفاء بها عرفاً وشرعاً، لا أن وجوب الإيفاء بها شرعا صار موجباً لشدها.. فلا ينقسم العهد إلى لازم وغير لازم، ومبرم وغير مبرم، بل إلى اللازم والألزم، والمبرم و الأشد إبراما.. فيجوز الاستدلال بعموم الآية في موارد الشك في اللزوم، ويكون وزان قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (المائدة: 1)، وزان قوله: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا(الإسراء: 34)، ولاسيما بعد تفسير العقود في أخبار الفريقين بالعهود، ولم يشكك أحد في عموم آية العهد ودلالتها على لزوم العهود". راجع: المنتظري، دراسات في المكاسب المحرمة، ط1، قم-إيران، نشر تفكر، 1415هـ، ج1، ص: 47-49.
(20) سورة الرعد، الآية: 20.
(21) سورة البقرة، الآية: 177.
(22) الميرزا النوري الطبرسي، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ط1، بيروت، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، 1408هـ، 1987م، ج16، ص: 97.
(23) سورة التوبة، الآية: 1- 2.
(24) سورة التوبة، الآية: 6.

[الصحيفة - 170]


عواقب الغدر، فلا تغدرنّ بذمّتك، ولا تخيسنّ بعهدك، ولا تختلن عدوك، فإنّه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي. وقد جعل عهده وذمّته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريماً يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جواره، فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه. ولا تعقد عقداً يجوز فيه العلل، ولا تعولنّ على لحن قولٍ بعد التأكيد والتوثقة، ولا يدعونّك ضيقُ أمرٍ لزمك فيه عهد الله إلى طلب أنفساخه بغير الحق، فإنّ صبرك على ضيق أمرٍ ترجو انفراجه وفضل عاقبته، خيرٌ من غدرٍ تخاف تبعَته، وأن تحيط بك من الله طلبته، فلا تستقيل فيها دنياك وآخرتك» (25). فالغدر عجز وعدم ورع، وقد ورد عن الإمام علي (عليه ‏السلام) أنّه قال: « أيّها الناس: إنّ الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جُنَّةً (26) أوقى منه، ولا يغدر من علم كيف المرجع. ولقد أصبحنا في زمانٍ قد اتَّخذ أكثر أهله الغدر كَيْساً (27)، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حُسن الحيلة، ما لهم قاتلهم الله، قد يرى الحُوَّلُ القُلَّبُ (28) وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة (29) له في الدين» (30).
فمن نتائج الصلح والعهد دعَة الجنود، والراحة من الهموم، والأمن لبلاد المسلمين. وذلك معناه أنَّك أصبحت قادراً على التخطيط للمستقبل وتنفيذ خططك، لأنَّك تكون قد ارتحت من همومك، وامتلكت الوقت الكافي والطاقات الفاعلة المهيّئة للعمل الجادّ والدؤوب دونما مانعٍ أو رادعٍ. كما أنّ هذا السِّلم والأمن لسوف يجنّب بلادك التعرّض للأزمات الإقتصاديّة الحادّة، ويحفظ مرافقها الإقتصاديّة والحيويّة من التدمير، أو التعطيل، أو صرفها في مواجهة متطلَّبات الحرب. هذا عدا ما ينشأ عن ذلك من آثار إجتماعيّة لا تُجهل. ويجب أن لا ننسى أنَّ حالة عدم الإستقرار والخوف وعدم الأمن، من شأنها أن تشلّ حركة المجتمع وتمنعه من أن يقوم بدوره على النحو المطلوب والمؤثِّر. ثمّ هناك الحالة الفكريّة والنفسيّة السلبيّة التي تنشأ عن ظروف الحرب، وكلُّ ذلك يمثِّل هموماً حقيقيّة لأيّ حاكمٍ يشعر بمسؤوليّاته الإلهيّة والإنسانيّة تجاه مجتمعه وأمّته.
________________________________________
(25) عبده، محمد، نهج البلاغة، م. س، ص: 625-627.
(26) وقايةً.
(27) الكيس بالفتح العقل، وأهل ذلك الزمان يعدون الغدر من العقل وحسن الحيلة.
(28) أي أن البصير بتحويل الأمور وتقليبها قد يرى وجه الحيلة في بلوغ مُراده، لكنه يجد دون الأخذ به مانعاً من أمر الله ونهيه، فيدع الحيلة وهو قادر عليها خوفاً من الله، ووقوفاً عند حدوده.
(29) التحرُّج أي التحرُّز من الآثام.
(30) عبده، محمد، نهج البلاغة، م. س، ص: 146.

[الصحيفة - 171]


فالعهود لا تُنقض، وهي مُلزمة للجميع ممَّا يقطع أيّ عذرٍ ويمنع من أيّ محاولة خداعٍ. وهذا مطلب عادل وسليم، فإنَّ كلّ الأمور التي تمسّ حياة المجتمعات، لا يمكن أن يعتمد فيها مبدأ موافقة كلِّ فرد منها، وذلك بسبب اختلاف المصالح وتشتّت الآراء وتباين الأهواء. وحين يتمتّع المعاهدون بحماية دولة الإسلام، فإنَّ أموالهم كأموال المسلمين لا تُمس، بل تبقى لهم ويمارسون حريَّتهم التجاريّة بصورة تامّة. قال علي أمير المؤمنين(عليه ‏السلام): « ولا تَمَسُّنَّ مالَ أحدٍ من الناسِ، مُصَلٍّ ولا معاهد، إلا أن تجدوا فرساً أو سلاحاً يُعدى به على أهل الإسلام، فإنه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك في أيدي أعداء الإسلام فيكون شوكةً عليه» (31) .فإنّه لا ينبغي للمسلم أن يدَعَ ذلك في أيدي أعداء الإسلام فيكون شوكةً عليه. أضف إلى ذلك قول أمير المؤمنين (عليهما السلام) أن المعاهدين لا يُجْفَوْنَ ولا يُقْصَوْنَ: وقد كتب (عليه ‏السلام) إلى بعض عمّاله: « أما بعد، فإنّ دهاقينَ(32) أهلِ بلدكَ شَكَوْا مِنْكَ غِلْظَةً وقسوةً، واحتقاراً وجفوةً، ونظرتُ فلم أَرَهُمْ أهلاً لأن يُدْنَوا لِشِرْكِهِم، ولا أن يُقْصَوا ويُجْفَوا لِعَهْدِهم (33)، فَالْبَسْ لهم جلباباً من اللين تشوبُهُ بطرفٍ من الشِّدَّةِ، وداول لهم بين القسوةِ والرأفةِ، وامزُجْ لهم بين التقريبِ والإدناءِ والإبعادِ والإقصاءِ إن شاء الله»(34).
4- شروط المعاهدات:
ـ أن يكون« لله فيه رضا» :الشرط الأساس في كلِّ عهدٍ هو أن يكون "لله فيه رضا". وواضحٌ أنَّ رضا الله سبحانه إنّما هو في حفظ مصلحة الإسلام العليا، وكرامة المسلمين، وحريّتهم في الدعوة إلى الله سبحانه بأمنٍ ودَعَة واطمئنان. وحين يكون الداعي للصلح هو العدوّ، فإنّ معنى ذلك هو أنَّ العدوّ قد اعترف بك وبموقعك، وأصبح على استعداد لأن يقبل شروطك العادلة، ومعنى ذلك هو أنّك تكون قد سجّلت نصراً من أقرب طريق وأيسره. وأمّا إذا دعاك هذا العدو إلى صلحٍ ظالمٍ وفيه ذلٌ للمسلمين ووهنٌ على الإسلام، فإنّ من الطبيعي أن ترفض صلحاً كهذا لأنّه تسجيل انتصارٍ للعدوّ من أسهل طريق. وللمعاهدات شروطٌ أخرى أيضاً نذكر منها:
________________________________________
(31) عبده، محمد، نهج البلاغة، م.س، ص: 602.
(32) أكابر.
(33) لم أرهم أهلاً لأن يُقرَّبوا منك لأنهم مشركون، ولا لأن يُبعَّدوا لأنهم معاهدون.
(34)عبده، محمد، نهج البلاغة، م.س، ص: 539.

[الصحيفة - 172]


ـ أهليّة التعاقد:عقد العهد يكون من وليّ أمر المسلمين، لأنّه من المصالح العامّة التي ينبغي على وليّ الأمر النظر فيه على وجهٍ صحيح.
ـ التراضي:أو الإرادة الحرة، فالرضا والإختيار أساس العهد، لا الإكراه، أو القهر، أو الغلبة.
ـ شكل المعاهدة:كتابتها والإشهاد عليها، لإثباتها وتنفيذ شروطها. وحرصاً على المعاهدة، كان النبي (عليهما السلام) يأمر بكتابة جميع المحالفات والمعاهدات مع القبائل والملوك، لإثبات الاتِّفاق وتنفيذ شروط المعاهدة، كما حدث في كتابة أوّل معاهدة سياسيّة في المدينة مع اليهود، وكما حدث في كتابة صلح الحديبيّة، حيث أشهد الرسول (عليهما السلام) على الصلح رجالاً من المسلمين ورجالاً من المشركين لتوثيق المعاهدة.
ـ وضوح المعاهدة:أن تكون واضحة النصوص، بيِّنة الأهداف، تحدِّد الحقوق والواجبات، والأسماء، والتواريخ، والشروط بدقّة. وذلك من أجل إغلاق باب التشكيك، وعدم إعطاء فرصة المناورة للباطل، وأن يحتفظ العهد بقيمته وفعاليّته في حسم الصراع. فوضوح المعاهدة يعني أن لا تعقد عقداً تجوز فيه العلل، فلا بدَّ أن لا يكون في العهد إبهامات يُمكن التشبّث بها من قبل العدو، فإنَّ ذلك يوجب وهناً في العهد نفسه، وفيه فتح باب النقض والخيانة، وذلك يعتمد على نباهة من يتصدّى لعقد العهد ودقّته، وهو يتحمّل مسؤولية أي تقصير في هذا المجال، فرُبَّ إنجازٍ عسكريّ يضيع بسبب ضعف قدرة القيادة السياسيّة على التفاوض، وتحقيق الأهداف المنشودة، وتكريس النصر.
ـ موضوع المعاهدة: أن يكون موضوعها ممكناً ومشروعاً. فإذا تضمّنت المعاهدة شروطاً غير مشروعة فهي باطلة: "أن يخلوا العقد من شرط فاسد، وهو حقُّ كلِّ عقد، فإن عقدها الامام على شرطٍ فاسد، مثل أن يشترط ردّ النساء، أو مهورهن، أو ردّ السلاح المأخوذ منهم، أو دفع المال إليهم مع عدم الضرورة الداعية إلى ذلك، أو أنَّ لهم نقض الهدنة متى شاؤوا، أو يشترط ردّ الصبيان، أو الرجال، أو أن لا يُنزع أسراء المسلمين من أيديهم، أو يُردّ إليهم المسلم الذي
________________________________________

[الصحيفة - 173]


أسروه وأفلت منهم، أو شرط ترك مال مسلم في أيديهم، فهذه الشروط كلّها فاسدة، يفسد بها عقد الهدنة" (35).
ـ مدة المعاهدة:يبدأ نفاذها في الإسلام بمجرّد الاتّفاق عليها، واختلف فقهاؤنا في الحدِّ الأقصى للمدّة إذ لا بد أن تكون مُقَدَّرة بأجل مُعَيَّن (36). ويفصِّل الشيخ الطوسي في مدّة الهدنة قائلاً: «فإذا هادنهم.. فيجوز أن يهادنهم أربعة أشهرٍ بنصِّ القرآن العزيز.. ولا يجوز إلى سنةٍ وزيادة.. فأمّا إذا لم يكن الإمام مستظهرا على المشركين بل كانوا مستظهرين عليه لقوِّتهم وضعف المسلمين.. فيجوز أن يهادنهم إلى عشر سنين لأنَّ النبي (عليهما السلام) هادن قريشاً عام الحديبيّة إلى عشر سنين.. فإن هادنهم إلى أكثر من عشر سنين بطل العقد فيما زاد على العشر سنين، وثبت في العشر سنين. ولا بدّ من أن تكون مدّة الهدنة معلومة، فإن عقدها مطلقةً إلى غير مدّة كان العقد باطلاً لأنَّ إطلاقها يقتضي التأبيد، وذلك لا يجوز في الهدنة. فأمّا إن هادنهم على أنَّ الخيار إليه متى شاء نقض، فإنّه يجوز» (37).
المحور الثاني: أهميّة الصحيفة
ومن هذا المنطلق تبرز أهميّة معاهدة المدينة أو دستور المدينة، فتكوين المجتمع المسلم مقصدٌ أساسيّ لهذا الدِّين. ولم يتحقّق للنبيّ (عليهما السلام) ذلك إلا بالهجرة إلى يثرب، حيث أقام المجتمع على أساس الأخوّة، والعدل، والمسؤوليّة الفرديّة، والتكافل الاجتماعيّ، وصون العلاقات بين أفراد المجتمع، وعلاقته بالمجتمعات الأخرى في السلم والحرب. كما أكّدَ على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والقصاص، والديات، ونصّ على حقوق المواطنين، وحافظ على دمائهم.
لقد تضمّن ميثاق المدينة أحكاماً عمليّة ومنهاجاً واقعيّاً، التزم به المسلمون فأصبحوا أفضل المجتمعات وأقواها. وممّا يجدر ذكره أنَّ الرسول (عليهما السلام) لم يعقد مع اليهود معاهدةً لأنّ لهم قوّة ثقافيّة، ومعنويّة، وإقتصاديّة، وعسكريّة، وحسب، بل تعامل معهم بأخلاق الإسلام، وتعاليم الشريعة السمحاء، التي لا تُحاسب إنساناً إلا
________________________________________
(35) الحلي، تذكرة الفقهاء، منشورات المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، طبعة حجرية، ج1، ص: 447.
(36) الزحيلي، وهبة، العلاقات الدولية في الإسلام مقارنة بالقانون الدولي الحديث، ط4، بيروت، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر، 1417هـ- 1997م، ص: 133-149.
(37) الطوسي، المبسوط، م.س، ج2، ص: 50-51.

[الصحيفة - 174]


بعد أن تُلقي الحجّة عليه، وبحنكة السياسيّ الخبير، والقائد الفذّ الحكيم. لقد كان من أركان هذه العلاقة: حريّة المعتقد، وحريّة الملكيّة، والنُصرة حال العدوان، والأخوّة والتعاون.
ولا شكّ أن لدستور المدينة أهميّةً بالغةً في التاريخ الإسلاميّ، فقد شكّل منعطفاً دينيّاً، وسياسيّاً، وحضاريّاً، على مستوى البشريّة جمعاء. فمن يتمعَّن فيه ويحلِّل بنوده ويأخذ منه العبر، يرى فيه نموذجاً يُحتذى، ليس فقط على مستوى الجزيرة العربيّة، وقبل أربعة عشرة قرناً، بل على مستوى العالم، وفي أيّ مكان وزمان. إنّه نموذج للتعايش الدينيّ المشترك، ولحقوق الأقليّات الدينيّة في المجتمع المسلم، حيث نرى المواطنيّة والعدالة الإجتماعيّة تعمُّ الجميع، بشرط أن لا يسلبها الإنسان جوهرها، فيخون وطنه ويتآمر على أبناء بلده ويكون عميلاً للأعداء. فهذه الوثيقة (38) ،أو الصحيفة (39) ،أو الكتاب (40) ،أو دستور المدينة (41)، تدلّ على أنَّ الإسلام يقبل فكرة تأسيس مجتمعٍ سياسيّ متنوّع في دولةٍ واحدةٍ، ونظام حكمٍ واحد على أساس الإسلام، يتمتّع الجميع فيها بحقِّ المواطنة الكاملة. ولا يُشترط لإقامة الدولة أن تكون لمجتمع إسلاميّ نقيّ خالص، والمسألة تحتاج إلى مزيد من البحث والتأمّل (42). لقد حقّق النبيُّ محمدا (عليهما السلام) من خلال هذه الصحيفة أهدافاً إنسانيّةً، ودينيّةً، وإجتماعيّةً، وسياسيّةً عظيمة:
1- توثيق الصلات بين المسلمين وتحقيق الأمن والإستقرار: لقد كان هناك تفاوت إجتماعيّ، وثقافيّ، ونفسيّ، ومعيشيّ، بين المهاجرين والأنصار. كما كانت العلاقات بين الطوائف التي تسكن المدينة علاقات حربٍ وعداء، والحال التي كانت سائدةً بين الأوس والخزرج خيرُ مثالٍ على ذلك. وقد ساهمت هذه الصحيفة في توثيق الصلات وتعزيز الروابط والعلاقات الأخويّة بين المسلمين، أي بين المهاجرين والأنصار. كما ساهمت في تذويب العصبيّات والنزاعات الجاهليّة التي كانت تتحكَّم في مصير الأفراد والجماعات، وتجرّهم إلى الحروب، وإراقة الدماء، واستباحة الأعراض والأموال.
________________________________________
(38) إسم استعمله المعاصرون، ولاسيما المستشرق اليهودي مونتغمري واط في كتابه " محمد في المدينة ".
(39) الإسم الذي تردد ذكره في ثنايا النص كثيراً.
(40) الإسم الذي أطلق في مقدمة النص حيث ورد فيها "هذا كتاب من محمد النبي.. وفي البند الختامي "وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم".
(41) إسم إستعمله المستشرقون وغيرهم.
(42) شمس الدين، محمد مهدي، في الإجتماع السياسي الإسلامي، ط2، بيروت، المؤسسة الدولية، 1419هـ - 1983م، ص: 266.

[الصحيفة - 175]


2- التعبئة الثقافيّة:لقد أمَّنت هذه الصحيفة نوعاً من الأمن والإستقرار، ممّا ساعد الرسول (عليهما السلام) على أن يعبِّئ نفوس المسلمين من مهاجرين وأنصار بتعاليم الإسلام والإيمان دون إكراهٍ، بل بالحكمة والموعظة الحسنة. فالإسلام يبدأ بالشهادتين، لكنّه يحتاج إلى عقلٍ واعٍ منفتحٍ، وقلب سليم، ويحتاج إلى معرفة عميقة بصفات الله عزَّ وجلَّ، وبأصول الدِّين، وفروعه، ولاسيّما الجهاد(43). هذه التعبئة الثقافيّة الأصيلة، والمعرفة الإسلاميّة المركَّزة، كانت ضروريّةً لبناء مجتمعٍ إسلاميّ متماسك، يخوض اللججَ، ويبذلُ المهجَ في سبيل الله وعلى ملّة رسول الله (عليهما السلام).
3- الحريّة الدينيّة:لقد أعطى الرسول (عليهما السلام) الحقَّ لأصحاب الأديان الأُخرى في المناقشة، والمناظرة، والبحث عن الحقيقة على ضوء ما تهدف إليه تلك الأديان، وما يدعو إليه الإسلام من عبادة الله الأحد، الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. ولم يجبر الرسول (عليهما السلام) اليهود على اتِّباع الإسلام، بل دعاهم إليه وترك لهم حريّة الإختيار بين دينهم القديم الذي توارثوه على مَرِّ السنين، مع كلِّ ما طرأ عليه من تحريفٍ وتشويه، وبين الدّين الجديد، والرسالة الإلهيّة الخاتمة، التي تُقرّ بجميع الرسل والأنبياء، وتشمل تعاليمهم الحقيقيّة، وتشريعاتهم الأصيلة، بل تفُوقُها على مستوى السعة والشموليّة، والدقّة، والعمق، والمناسبة لكلِّ زمان ومكان، وفي كلِّ شؤون الحياة. فالإسلام يدعو للبناء والعمران في الدنيا والآخرة، لتنتظم الحياة، ويستوفي كلُّ فردٍ نصيبه دون بغيٍ أو عدوانٍ، وهذا ما ينسجم مع الفطرة الإنسانيّة.
4- تحقيق الوحدة بين جميع سكّان يثرب:لقد كان مجتمع يثرب مجتمعاً غير متجانسٍ، ولا متعاونٍ، مجتمع يسود علاقاته التوتّر، والتربّص، وهي مشكلةٌ كبيرة وخطيرة، ولا بدّ من حلّها لكي يتسنّى للنبيّ (عليهما السلام) أن ينشر دعوته ويركِّزَ دعائم دولته. وقد عالج النبيُّ (عليهما السلام) هذه المشكلة بخطوةٍ سياسيّة بارعةٍ وحكيمة، ففي السنة الأولى للهجرة، وبعد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وضع النبي (عليهما السلام) هذه الوثيقة السياسيّة الهامّة لتنظيم العلاقة بين المسلمين أنفسهم من جهةٍ، وبينهم وبين اليهود من جهةٍ
________________________________________
(43) الجهاد هو القتال في سبيل الله تعالى، أي القتال المشروع الذي يرضي الله ورسوله (ص) وأولي الأمر من بعده.

[الصحيفة - 176]


أُخرى، فقد بذل النبيُّ (عليهما السلام) جُهداً كبيراً لتحقيق الوحدة بين جميع سكّان يثرب، من مسلمين، ومشركين، وأهل كتاب (44)، باعتبار أنَّ الجميع يمثِّلون مجتمعاً سياسيّاً واحداً، متنوِّعاً في انتمائه الدينيّ. فقد حقَّق النبيُّ (عليهما السلام) وحدة يثرب على ما كان بين المواطنين من عداءٍ، وخصوماتٍ موروثة، ووضع نظامها السياسيّ بالاتِّفاق مع اليهود، على أساسٍ متين من الحريّة والتحالف. ولولا ذلك لوجد من الصعوبات والمشاقّ في نشر دعوته وهو في يثرب، ما لا يقلّ عما لاقاه وعاناه وتعرَّض له من صنوف العذاب في مكّة طوال ثلاثة عشر عام.
5- تجنّب خطر قريش ونشر الدعوة:إنَّ هذا التدبير الحكيم الذي أبدى فيه النبيُّ محمّدا (عليهما السلام) منتهى المهارة، والمقدرة، والحنكة، جنَّبه خطرين، ومكَّنه من أمرين:
-فقد جنَّبه خطر التفكّك والخصومات المحليّة، وخطر طمع قريش به وبالمسلمين، حيث حاولوا مطاردته وإرجاعه إلى مكّة، ولكنّهم لم يفلحوا في ذلك.
-كما مكَّنه من إلقاء الحجّة على اليهود، ومن تحقيق الانتصارات الباهرة، ونشر الدعوة في شبه الجزيرة العربيّة خلال سنوات معدودات.
المحور الثالث : موقف اليهود
لقد أحسن اليهـود استقبـال الرسول (عليهما السلام) بحسب الظاهر، وبـادر هو إلى ردِّ تحيِّتهم بمثلها، بل بأحسن منها، وعمل على توثيق صلاته بهم، فتحدّث إلى رؤسائهم، وتقرّب إليه كبراؤهم، وربط بينه وبينهم برابطة المودّة، باعتبار أنّهم أهل كتاب موحِّدين، وعقد معهم معاهدة صداقة وتحالف وتقرير لحريّة الاعتقاد. لقد رحَّب اليهود والمشركون في المدينة بهذه المعاهدة، حيث ظنّوا أنّها تتّفق مع مصالحهم ومنافعهم وتحفظ لهم نفوذهم. ولكنهم صمتوا صمت المستريب، بعد أن رأوا أن الإسلام سيوحِّد بين العرب، ويجعل من المسلمين على اختلاف أجناسهم أمّة واحدة، وأنَّه يحارب الاستغلال والجشع، ويُحَرِّم الربا وكلَّ المنافع التي تأتي عن طريق الغشِّ والخداع، فأيقنوا بالخطر على مصالحهم، بل على وجودهم القائم على
________________________________________
(44)كبني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، من اليهود المقيمين في المدينة وعلى مقربة منها. إن العلاقات المتوترة بين الأوس والخزرج من جهة، وبينهما وبين اليهود من جهة أخرى، إنعكست على التوزيع السكاني لهذه الجماعات، فقد كانت كل مجموعة من هذه العشائر تسكن في مُجَمَّع سكني خاص بها، وكانت هذه المجمّعات السكنية متباعدة بعضها عن بعض، وتشبه الحصون العسكرية، وقد سموها الأطام. (الأطم: هو حصن بناه أهل المدينة من حجارة).

[الصحيفة - 177]


التسلّط واستغلال الآخرين، ورأوا أنَّ الاسلام يضعّفهم اقتصاديّاً، ويزيد في قوّة المسلمين ومِنعَتهم سياسياً، فأعلنوا موقفهم من الدعوة، ونكثوا بالعهد والميثاق، وانحازوا إلى جانب المشركين. ممّا اضطرّ النبيّ (عليهما السلام) إلى استعمال القوّة ضدهم. فهل كان اليهود صادقين في توقيعهم على المعاهدة ثمّ انحرفوا؟ أم أنهم وقَّعوا عليها لأنّهم كانوا يخافون على مصالحهم الإقتصاديّة، وعلى علاقاتهم مع الأوس والخزرج إن هم واجهوا الرسول (عليهما السلام) منذ البداية؟ أم أنَّهم وقَّعوا على المعاهدة لأنَّهم كانوا يطمعون في حماية المسلمين لهم من حملات المسيحيين الروم؟
المحور الرابع : صِحَّة الصحيفة ونصها
دعا النبي (عليهما السلام) سكاّن المدينة واليهود على وجه التحديد إلى معاهدة وطنيّة، خالدةٍ عبر الزمن، لا تزال منهاجاً يُحتذى به إلى يومنا هذا، بل إلى يوم القيامة. فقد أنجز دستور المدينة مع فرقاء عديدين، حيث كان هناك أمةً يهوديةً، وأمةً إسلاميةً، داخل الجماعة السياسيّة نفسها. وقد تلقّى المؤرِّخون والمحدِّثون هذه الوثيقة بالقبول، ولم يُثر أحدٌ من المحدِّثين جدلاً حول صحّتها بالجملة. والحكم بالصحّة وعدمها أو التشكيك في النصوص التاريخيّة يخضع لثلاثة معايير (45):
1ـ المعيار الداخليّ : يتعلّق بتركيب النصّ، ولغته، ومضمونه، وانسجامه مع الواقع الخارجيّ، والمحيط الإجتماعيّ والسياسيّ الذي يُدَّعى أنّ النصَّ قد صدر فيه. فنصُّ الصحيفة طويل، وقد تكون الصحيفة تعرَّضت لبعض التغيير بسبب التصحيف، أو لبعض التغيير في تركيبها من حيث التقديم والتأخير، أو لبعض الحذف والزيادة في جُملها أو مفرداتها نتيجة للنسيان والسهو لتناقلها من راوٍ إلى آخر، أو لأنَّ الراوي ينقل جزءاً منها بحسب حاجته إليها. ولكن كلّ ذلك لم يؤثِّر على جوهر النصّ وبُنيته العامّة، وعلى تكامله ووحدته. فمن حيث اللغة، فإنَّ الأسلوب الذي صيغَت به الصحيفة وتركيب الجُمل والمصطلحات، يتناسب مع العصر الذي تُنسب إليه الصحيفة أي أوّل الهجرة إلى المدينة. كذلك فإنّ المفردات اللغويّة التي استعملت في
________________________________________
(45)راجع: شمس الدين، محمد مهدي، في الإجتماع السياسي الإسلامي، م.س، ص: 284-300.

[الصحيفة - 178]


الصحيفة، كانت شائعةً في تلك الفترة، فالتعبير بالمؤمنين يتناسب مع المرحلة الأولى في مكّة، وفي أوّل الهجرة، حيث إنّه لم يستقر الإستعمال على كلمة المسلمين إلا بعد ذلك. ولم يرِد التعبير بالمسلمين في الصحيفة إلا ثلاث مرات. أضف إلى ذلك أنَّ البساطة في ذكر اسم النبيّ (عليهما السلام) تتناسب مع تلك المرحلة من تاريخ الإسلام، حيث لم يقترن اسم النبيّ (عليهما السلام) بالدعاء والتعظيم كما هو الشأن السائد عند ذكر اسمه الشريف في العهود المتأخِّرة.
2- المعيار النقديّ الاتّهاميّ: ويقوم على الفحص عن إمكانيّة وضع النصّ واختراعه بحسب إمكانات ومصلحة الأطراف ذوي العلاقة بمضمون النصّ. فالفكرة المركزيّة التي تُعَبِّر عنها الصحيفة، هي إنشاء مجتمعٍ سياسيّ تعاقديّ بين جماعتين هما: المسلمون واليهود، وتشكيل دولة إسلاميّة لهذا المجتمع شريعتها الإسلام، وحاكمها النبيّ (عليهما السلام). أمّا الفكرة الثانويّة فهي تنظيم العلاقات الداخليّة بين المسلمين أنفسهم. ولا توجد أي دواعٍ أو حوافز لدى أيِّ طرفٍ من المسلمين، سواء المهاجرين أم الأنصار أم غيرهم، لاختلاق نصّ ونسبته إلى النبيّ (عليهما السلام). لقد خان اليهود الصحيفة وغدروا بالنبيّ (عليهما السلام) والمسلمين، وتآمروا عليهم مع قريش المشركة، ونتيجة لذلك حاربهم المسلمون في مواقع عدّة حتّى تمَّ التغلّب عليهم وإجلاؤهم، ونشأت لذلك حالة عداء وتربُّص بين المسلمين واليهود. وهذه الوقائع تجعل من الصعوبة بمكانٍ على أيّ جهةٍ أن تخترع وتضع وثيقةً من هذا القبيل. زد على ذلك أن وثيقةً كهذه، تُدخل المسلمين في التزامات مجتمعيّة وسياسيّة مع اليهود، وتحظى بهذا الرواج والذيوع والقبول الواسع النطاق بين المحدِّثين، وكتَّاب السيرة، والفقهاء، والمؤرِّخين، والأوساط العلميّة والفكريّة في المجتمع الإسلاميّ، دون أن تواجه أيّ اعتراض من السلطة السياسيّة في عهد الخلفاء، بعد أن قضوا على النفوذ اليهوديّ في الحجاز، ولم يعد لليهود أيُّ ثقلٍ اقتصاديّ أو سياسيّ أو عسكريّ في الدولة الإسلاميّة، تُلغي من احتمال أن تكون الصحيفة موضوعة في عهدٍ متأخِّر، وتؤكِّد أصالتها وصحّتها وكونها من إنجازات النبيّ الأولى في أوّل هجرة المسلمين إلى يثرب.
________________________________________

[الصحيفة - 179]


3-المعيار الخارجيّ: يتعلَّق بالسند الذي وصل إلينا النصُّ عن طريقه، ومدى وثاقة رواته، وتواتره، أو شهرته، أو ندرته. فقد نُقل النصُّ الكامل للصحيفة في كُتب السيرة والحديث والتاريخ، كما نُقلت مقتطفاتٌ منها وإشاراتٌ إليها في العديد من كتب الحديث (46).
ولعلّ أقدّم من نقل إلينا النصُّ الكامل للصحيفة المحدِّث الراوية الشهير محمّد بن اسحاق (47) ،الذي يُعتبر مرجعاً في السيرة النبويّة. ولعلّ التاريخ المُناسب لوضع الصحيفة، هو ما قبل بدر الكبرى، ولكن ليس في الأشهر الأولى للهجرة، وإنِّما بعد تبلور شكل المجتمع السياسيّ الإسلاميّ في يثرب، وظهور تصميم النبيّ (عليهما السلام) على الدفاع والمقاومة التي تجلّت في الغزوات والسرايا الأولى بعد ستة أشهر من هجرة النبيّ (عليهما السلام). ففي الأشهر الأولى كان اليهود يراقبون التجربة الجديدة، وسياسة المسلمين، ومدى تلاحمهم وتصميمهم، وقدرتهم العسكريّة. وبناءً عليه كان اقتراحهم على النبيّ(عليهما السلام) أن يعقدوا معه اتِّفاقات تعايشٍ سلميّ. وممَّا يجدر الالتفات إليه أيضاً أنَّ الصحيفة لم تكن في أهميّة النصِّ القرآنيّ أو السُّنة التي تشتمل على بيان أحكام الشريعة، بل كانت من قبيل كُتبه وعهوده التي تناقلها الرواة (48).
قال ابن اسحاق: وكتب رسول الله (عليهما السلام) كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه اليهود وعاهدهم، وأقرَّهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم:
«بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمّد النبيّ (عليهما السلام) بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبِعَهم، فلحق بهم، وجاهد معهم، إنّهم أمّة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم (49)يتعاقلون (50)بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، كلُّ طائفةٍ تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو ساعدة على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الحارث على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم
________________________________________
(46)كصحيح مسلم، ومسند أحمد، وكنز العمال للمتقي الهندي، والسنن الكبرى للبيهقي، والتهذيب للشيخ الطوسي، وبحار الأنوار للعلامة المجلسي، وأصول الكافي وفروع الكافي للكليني، والسيرة الحلبية، والسيرة الدحلانية، وسيرة ابن سيد الناس، إضافة إلى كتاب الأموال والروض الأنف، وأمهات معاجم اللغة كلسان العرب.
(47) توفي سنة 151 هـ.
(48) شمس الدين، محمد مهدي، في الإجتماع السياسي الإسلامي، م. س، ص: 297.
(49) الرّبعة: الحال التي جاء الإسلام وهم عليها.
(50) العاقل: الأسير. والمعاقل: الديات.

[الصحيفة - 180]


الأولى، وكلُّ طائفةٍ تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النجـار على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عمرو بن عـوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ تفـدي عانيها بالمعـروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النبيت على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفةٍ منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كلُّ طائفةٍ منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وأنَّ المؤمنين لا يتركون مفرحاً(51)بينهم، أن يُعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. وإنّ المؤمنين المتَّقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة (52)ظلمٍ، أو إثمٍ، أو عدوانٍ، أو فسادٍ بين المؤمنين. وأنَّ أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم. ولا يقتل مؤمنٌ مؤمناً في كافرٍ، ولا ينصر كافراً على مؤمن. وأنَّ ذمَّة الله واحدةً، يجير عليهم أدناهم. وأنَّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس. وأنَّ من تبعنا من يهود، فإنَّ له النصر والأسوة، غير مظلومين، ولا متناصرين عليهم. وأنَّ سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمنٌ دون مؤمنٍ في قتالٍ في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم. وأنَّ كلَّ غازية ٍغزت معنا يعقب بعضها بعضاً. وأنَّ المؤمنين يببيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله. وإنَّ المؤمنين المتَّقين على أحسن هدى وأقومه. وإنَّه لا يجير مشركٌ مالاً لقريش، ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن. وإنَّه من اعتبط (53)مؤمناً قتلاً عن بينة، فإنَّه قود به، إلا أن يرضى وليّ المقتول، وإنَّ المؤمنين عليه كافّة، ولا يحلُّ لهم إلا قيام عليه. وإنَّه لا يحلّ لمؤمنٍ أقرَّ بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الاخر: أن ينصر محدثا ً (54)، ولا يؤويه، وإنَّ من نصره أو آواه، فإنَّ عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا
________________________________________
(51) المفرح: المثقل بالدين والكثير العيال.
(52) الدسيعة: العظيمة، أي طلب دفعاً على سبيل الظلم، ويجوز أن يراد بها العطية.
(53) اعتبطه: قتله بلا جناية منه توجب قتله.
(54) المحدث: من أحدث في الإسلام بدعةً أو ضلالةً أو فتنةً.

[الصحيفة - 181]


يُؤخذ منه صرف ولا عدل. وإنَّكم مهما اختلفتم في شيء، فإنَّ مرده إلى الله عزّ وجل، وإلى محمد (عليهما السلام). وإنَّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإنَّ يهـود بني عـوف أمّة مع المؤمنين، لليهـود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ (55)إلا نفسه وأهل بيته. وإنَّ ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف. وإنَّ ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف. وإنَّ ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف. وإنَّ ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. وإنَّ ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته. وإنَّ جفنة (56)كأنفسهم. وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف. وإنَّ البر دون الإثم. وإنَّ موالي ثعلبة كأنفسهم. وإنَّ بطانة (57)يهود كأنفسهم. وإنَّه لا يخرج منهم أحدٌ إلا بإذن محمد (عليهما السلام). وإنَّه لا ينحجز على ثار جرح. وإنَّه من فتك فبنفسه فتك، وأهل بيته، إلا من ظلم. وإنَّ الله على أبر هذا (58). وإنَّ على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم. وإنَّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. وإنَّ بينهم النصح والنصيحة والبر دون الاثم. وإنَّه لم يأثم امرؤ بحليفه. وإنَّ النصر للمظلوم. وإنَّ اليهود يُنفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإنَّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة. وإنَّ الجار كالنفس، غير مضابى ولا آثم. وإنَّه لا تُجار حرمة إلا بأذن أهلها. وإنَّ ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإنَّ مرده إلى الله عزّ وجل، وإلى محمد (عليهما السلام). وإنَّ الله على اتقى ما في هذا الصحيفة وأبره. وإنّه لا تُجار قريش، ولا من نصرها. وإنّ بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنَّهم يصالحونه ويلبسونه، وإنَّهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنّه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدّين (59)، على كلّ أناس حصّتهم (60)، من جانبهم الذي قبلهم. وإنَّ يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم على مثل ما
________________________________________
(55) يوتغ: يهلك.
(56) بطن من ثعلبة.
(57) بطانة الرجل: خاصته وأهل بيته.
(58) أي على الرضا به.
(59) وإذا دعوا اليهود إلى صلح حليف لهم، فانهم يصالحونه وإن دعونا إلى مثل ذلك، فإن لهم ما على المؤمنين إلا من حارب الدين.
(60) على كل أناس حصتهم في الأموال، وعلى كل أناس حصتهم من النفقة.

[الصحيفة - 182]


لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة. وإنَّ البر دون الاثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإنَّ الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبرِّه. وإنَّه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم. وإنَّه من خرج فهو آمن، ومن قعد فهو آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم. وإنَّ الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله (عليهما السلام)» (61).
تلك هي الوثيقة الهامّة التي يجب أن يَهتمَّ بشأنها المؤرخون، ولا يُهمل دراستها وتمحيصها الكُتَّاب والباحثون، نُوَجِّه إليها أنظار الطامحين إلى البحث والتدقيق والتمحيص، ونأمل أن تحظى منهم بما يليق بها من اهتمام، على أمل التوفيق لدراسة هذه الوثيقة بصورة أعمق وأدق وأشمل لما لها من أبعاد سياسيّة، وإنسانيّة، وحضاريّة، تحتاجها البشريّة في كلِّ عَصرٍ ومِصر.
المحور الخامس: مضمون الصحيفة
1 - شموليّة الصحيفة:
لم تترك الصحيفة جانباً مهمّاً من جوانب الحياة الدينيّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة، والاقتصاديّة، في المدينة إلا وتناولته. فقد أقرَّت هذه الصحيفة التعاون المُخلِص بين جميع الأطراف خصوصاً بين المسلمين واليهود، وحريّة الأديان والمعتقدات (62)، والدفاع عن يثرب كوطنٍ للجميع، والضرب على أيدي المعتدين ومدبِّري الفتن، ومقاطعة المشركين في مكّة وعدم إسداء العون لهم، والوقوف صفّاً واحداً ضدَّهم فيما لو حاولوا غزو يثرب والعدوان عليها لينتقموا من النبيّ (عليهما السلام) وأصحابه. كما تضمَّنت النُصحَ والنصيحة والبرّ والنُصرة والأسوة لليهود إن التزموا بالعهد والميثاق، إضافةً إلى حفاظهم على أموالهم (63). زد على ذلك مضامين أخلاقيّة راقية وتكافلٍ اجتماعيّ حقيقيّ (64).
2- مبادئ الصحيفة:
لقد تضمَّنت هذه الصحيفة أُسساً ومبادئ عديدة:
ـ المسلمون أمّةٌ واحدة.
________________________________________
(61)السيرة النبوية لابن هشام، م. س، ص: 254-255.
(62) لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.
(63) على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم
(64) يتعاقلون بينهم، يفدون عانيهم، لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف.

[الصحيفة - 183]


ـ النبيُّ (عليهما السلام) هو قائد هذه الأمّة:ولا يُسمح لأحدٍ من اليهود بالخروج من المدينة إلا بإذن رسول الله (عليهما السلام).
ـ دفع الظلم:مسؤوليّة دفع الظلم تقع على عاتق الجميع، فعلى جميع المؤمنين أن يلاحقوا القاتل.
ـ إلغاء الاعتبارات القَبَلية ما أمكن.
ـ المسؤوليّة تجاه الأسرى.
ـ الحقوق المدنيّة:منحت الوثيقة اليهود، الحقوق المدنيّة العامّة، وجميع حقوق المواطنين، شرط أن يلتزموا بقوانين الدولة ولا يتآمروا على الإسلام والمسلمين.
ـ الحريّة الدينيّة:إنَّ النبيَّ (عليهما السلام) أعطى اليهود الحريّة في اعتناق الإسلام أو البقاء على دينهم (65)، فالأقليّات الدينيّة داخل المجتمع والدولة الإسلاميّة محترموا المال، والدّم، والعرض، والكرامة، بل هم كالمسلمين في داخل الدولة الإسلاميّة، قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } (66). ولم يَثبت من سيرة النبيّ (عليهما السلام) أنَّه أجبرَ أحداً على الإسلام، بل هم أحرار في أن يقتنعوا بالإسلام أو لا يقتنعوا به، وذلك لا يؤثِّر إطلاقاً على حقوقهم المدنيّة والدينيّة ما داموا يلتزمون القوانين، ولم يخونوا، ولم يتآمروا، ولم يجاهروا بالعداء.
ـ معاهدة الدفاع المشترك:إنَّ النبيّ (عليهما السلام) لم يُعفِ اليهود من المسؤوليّات الدفاعيّة والعسكريّة، وذلك بمقتضى كونهم جزءاً من المجتمع السياسيّ الذي أُنشئ بموجَب الصحيفة (67)، سواء أتمّ الاعتداء على المسلمين أم على اليهود، فالعدوّ الأوّل هو قريش فينبغي أن تكون علاقات اليهود مع قريش مقطوعة تماماً، وعلى المسلمين واليهود معاً أن يُدافعوا عن يثرب ويُقاتلوا في سبيل وطنهم إذا دهمهم أحد.
ـ إلقاء الحجّة:لقد ورد في الصحيفة ذكر كلِّ قبليةٍ باسمها الخاص، مع أنّ مضمون البنود واحد! وهذا يبرز التنوّع القبلي ويُلقي الحجّة على الجميع.
ـ مراعاة العرف:إنّ النبي (عليهما السلام) لم يتدخَّل في الأمور التفصيليّة الخاصّة بكلِّ
________________________________________
(65) لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.
(66) سورة البقرة، الآية: 256.
(67) وإنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.

[الصحيفة - 184]


قبيلةٍ، كمسألة الزعامة، وقضايا حقوق الملكيّة، والتركيب الداخليّ للعشيرة، وهذا المقصود من عبارة «على ربعتهم»، أي بقاؤهم على وضعهم السابق. كذلك الأمر بالنسبة إلى الديات، والتسويات المُتَبعَة في جنايات القتل والجرح التي كانت تُدفع حسب العرف السائد، إذ لم يكن قد شرَّع حين وضع الصحيفة حكماً إسلاميّاً خاصّاً في شأن الديات، وهذا هو المقصود بعبارة «يتعاقلون معاقلهم الأولى». لكنَّ النبيَّ(عليهما السلام) لم يترك العرف السائد كما كان تماماً، بل هذّبه بمعيارٍ مستمرٍ من روح الإيمان الجديد، نصَّت عليه عبارة: «بالمعروف والقسط بين المؤمنين»، التي تكرّرت أكثر من مرّة في الصحيفة.
ـ الحفاظ على السلم الأهليّ:أراد النبيُّ (عليهما السلام) أن يُحافظ على التوازنات العشائريّة القائمة، ولكن ليس على حساب السلام الأهلي الذي حلَّ بين الأوس والخزرج بدخولهم جميعاً في الإسلام. فوضع بعض البنود التي تحول دون استمرار بعض الولاءات والتحالفات التي كانت سائدةً في الجاهليّة بين جماعات يهوديّة وعشائر من الأوس والخزرج، ولم يُسمح لها أن تعبث بحالة السلام الجديدة وتؤدِّي إلى فسادٍ وفتنةٍ بين المؤمنين. إذ أنَّ هذه الولاءات كان لها مضمونٌ سياسي لم يعد من الجائز استمراره بعد الإسلام.
ـ الحريّة الاقتصاديّة:إنَّ النبيَّ (عليهما السلام) أعطى اليهود الحريّة الاقتصاديّة كما أنّه لم يُحَمِّلهم إلا نفقتهم (68) .
ـ قريش هي العدوّ:لقد ركَّز النبيُّ (عليهما السلام) على أساسٍ يحكم العلاقات الخارجيّة في تلك الحقبة من الزمن، فاعتبر العلاقات مع قريش محكومة بحالة الحرب، لذلك لا يملك أحدٌ إعطاء الحماية والإجارة لقريش سواء في ذلك الأموال والأنفس. وعلى هذا الأساس فإذا أراد مؤمن مسلم أن يُصادر مالاً قرَشيّاً أو يقتل أو يأسر قرَشيّاً فليس لأحدٍ أن يحول دون المؤمن ودون ما يبغي.
ـ تسمية بني قريظة:قريظة فخذٌ من جذام إخوة النضير، وقد نزلوا بجبلٍ يُقال له «قريظة»، فنُسبوا إليه. وقد قيل: إنَّ قُريظة اسم جدِّهم. و كانوا يزعمون أنَّهم من
________________________________________
(68) وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم.

[الصحيفة - 185]


ذريّة شعيبٍ نبيِّ الله (عليه ‏السلام). وهو أمرٌ مُحتملٌ لأنَّ شعيباً كان من قبيلة جذام، القبيلة المشهورة. وقد ذكر النبيُّ (عليهما السلام) بني قريظة مرّتين في هذه الصحيفة ولم يكتف بذكر اليهود بصورة عامة. ففي المرَّة الأولى يُعَدِّدهم مع القبائل اليهوديّة (69)آمراً إيّاهم بأن لا يَخرج منهم أحدٌ من المدينة إلا بإذنه. وفي المرَّة الثانية يقول بأنَّ ليهود الأوس (70)مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البرِّ الحسن، وأنَّ هذا الكتاب، أي الصحيفة، لا يحول دون ظالمٍ أو آثمٍ. ولا بدَّ أن يكون تكرار ذكرهم لأهميّتهم حيث أنَّ بني قريظة إحدى أكبر المجموعات اليهوديّة وأقواها، كما أنَّ مساكنهم داخل المدينة، وبالتالي فإنَّ غدرهم وخيانتهم للمسلمين مُكلف جداً ومؤذٍ جداً. أضف أنَّ أهلَ المدينة أدرى بشعابها وبنقاط الضعف لدى المسلمين. زد على ذلك أنَّ حليفهم سعد بن معاذ زعيم الأوس يتمتّع بموقعٍ ممتاز وبمنزلة هامّة عند النبيَّ محمد(عليهما السلام).
ـ التحذير من مخالفة مضمون الصحيفة:لقد أشعر الرسول (عليهما السلام) برقابة الله للجميع، وحذَّر من مخالفة تلك الأحكام، حيث ورد في الصحيفة العبارات الآتية: «وإنَّ الله جار لمن برَّ واتَّقى ومحمداً رسول الله(عليهما السلام)»، «وإنَّ الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرِّه»، «وإنَّ الله على أبرِّ هذا». وهذه إحدى مميِّزات المجتمع الإسلاميّ عن غيره من المجتمعات الماديّة التي لا تُقرّ إلا بالمصالح الدنيويّة بعيداً عن المصالح الأخرويّة والقيَم الإنسانيّة النافعة والعادلة والشاملة.
ـ إنّها صيغة المجتمع الإسلامي المتنوِّع:من حيثُ الانتماء الدينيّ، والذي يعيش وحدةً سياسيّة لا زالت تتمتّع بالشرعيّة الكاملة في الفكر والفقه الإسلاميين ويُمكن تطبيقها في كلّ زمانٍ ومكان.
ـ إنَّها تجربة حضاريّة راقية:لقد كان من الممكن لهذه التجربة الحضاريّة الفريدة من نوعها أن تستمرَّ وتنمو لو أنّ اليهود الذين وقّعوا على الوثيقة لم يخونوا النبيَّ (عليهما السلام) ويتآمروا مع الأعداء، ممّا اضطر النبيَّ (عليهما السلام) إلى محاربتهم ومعاقبتهم، فأفسدوا هذه التجربة وقضوا عليها.
________________________________________
(69) بني الحارث وبني ساعدة وبني جشم وبني ثعلبة.
(70) بني قريظة.

[الصحيفة - 186]


المحور السادس: شرحٌ وتعليق
لا بدَّ من التعليق على بنود هذه الصحيفة التي تعدُّ أكبر انتصارٍ سياسيّ للرسول(عليهما السلام) في ذلك الزمان، حيث رتَّب فيه أمور المدينة وأرسى قواعد استتباب الأمن فيها، ليتفرَّغَ للمهَمّة الأساسيّة وللهدف الأكبر وهو التصدِّي لكفّار قريش ومشركيها:
ـ لقد تضمَّنَت هذه الصحيفة كلمةَ أُمَّة: وهي تعني الجماعة السياسيّة المتميِّزة عن سائر الناس على أساس عقيديّ وليس على أساس قَبَلي دمويّ. ولعلَّ المراد من كلمة أُمَّة في قوله (عليهما السلام): « إنِّهم أُمَّة واحدة من دون الناس»، خصوص المسلمين. ولا يكون اليهود جزءاً من الأمّة وإنَّما هم فقط جزءٌ من المجتمع السياسيّ الواحد. وعلى كلِّ حال فإنَّ وحدة الأمَّة بالمعنى العقيديّ أمرٌ ثابتٌ، ولكن في إطار وحدة الأمّة يُمكن أن يتعدَّد المجتمع السياسيّ.
- المقصود بالمؤمنين وبمن تبِعَهم: في قوله: « هذا كتابُ من محمّد بن عبد الله النبي بين المسلمين والمؤمنين من قريش ويثرب ومن تَبِعَهم فلحقَ بهم وجاهد معهم». فلعلّه عبَّر عن المهاجرين من قريش بالمسلمين، وعن الأنصار بالمؤمنين من يثرب، وأمَّا اليهود في المدينة وجوارها فعبَّر عنهم بمن تَبِعَ المسلمين والمؤمنين ولحق بهم. وهناك تصوّر آخر يُفيد أنَّ المقصود بالمؤمنين هم اليهود على أساس أنَّهم أهلُ كتابٍ وتوحيد، وأنَّ المقصود « بمن تَبِعَهم فلحقَ بهم وجاهد معهم»، من يدخل في هذا الحلف من القبائل الأُخرى من العرب والمشركين، إضافةً إلى من يُهاجر من مكّة مؤمناً بالإسلام وملتحقاً بالمهاجرين الأوائل.
- الأساس التشريعيّ هو الإسلام: إنَّ الأساس التشريعيّ القانونيّ للمجتمع السياسيّ الجديد في يثرب هو الإسلام. إنَّ الذين قاموا بمبادرة تأسيس مجتمع سياسيّ متنوّع في دولةٍ واحدةٍ يتمتّع الجميع فيها بحقِّ المواطنة الكاملة دون تمييز عنصريّ أو دينيّ هم المسلمون. وبالتالي فمن الطبيعي أن يكون التابعون هم اليهود والمتبوعون هم المسلمون، ولاسيّما أن الصحيفة تقرّ بأنَّ المرجعيّة السياسيّة هي للرسول الأكرم (عليهما السلام) على مستوى المسلمين واليهود معاً.
________________________________________

[الصحيفة - 187]


ـ تركيز المعاهدة على الأمن الاجتماعيّ بين الناس: فالأفرقاء في المدينة يحملون الدية ويتعاونون عليها، ويُعينون المفرح (71)، ويشجِّعون على الأمر بالمعروف والنهي عن الإثم أو العدوان، ويحمِّلون نفس الظالم مسؤوليّة فعله القبيح ويَعدُونه بالمعاقبة والاقتصاص منه دون مراعاة القرابة أو الصداقة، لأنّ تطبيق القانون يجب أن يجري دون تمايز على الجميع. وقد ورد في الصحيفة: «وأنّ أيديهم جميعاً عليه ولو كان ولد أحدهم»، وهو ما يعبِّر عن مسؤوليّة الأمّة عن تنفيذ القانون، ويُلغي تقليد الثأر الجاهليّ عبر تشريع القَصاص الإسلاميّ، فيحرِّم على ذوي القاتل والمقتول أن يدخلا في اقتتالٍ بسبب هذه الجريمة، وهذا تأكيدٌ على حفظ النظام العامّ للمجتمع في مقابل الفوضى والإفساد وإحياء قيَم الجاهليّة.
- المرجعيّة للرسول (عليهما السلام): لا شكّ في أنّ الأمّة مسؤولة عن نفسها من باب وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن لا بدَّ للرعيّة من راعٍ وقاضٍ، وللأمَّة من مرجعٍ وقائد، يحسم النزاع إن وقع، ويُشَخِّص المصلحة العامّة إن تعدَّدت الآراء والاجتهادات، ويصون الدستور ويُشرف على تطبيقه، ويقرِّر الحرب والسلم، ويقود الجيوش، ويحرص على استتباب الأمن، ويعقد الإتِّفاقات، ويوقِّع المعاهدات والمواثيق، ويحمي الشريعة، ويصون المجتمع من الإنحراف، فيكون مصداقاً لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } (72). ومن أعلم من رسول الله (عليهما السلام) بالعقيدة والشريعة؟ ومن أطهر منه وأعدل؟ ومن أكثر إيماناً منه وعبادة؟ ومن أصلب منه وأقوى؟ وهو القائل لعمِّه أبي طالب « والله يا عم لو وضعوا الشمس بيميني والقمر بشمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته» وهو القائل « ما أوذي نبيٌ مثلما أوذيت».
الهوامش:
________________________________________
(71) أي الفقير المثقل بالدين وكثير العيال.
(72) سورة النساء، الآية: 141.

[الصحيفة - 188]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف