البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مقوّمات المدينة الفاضلة في الإسلام من النظريّة إلى التطبيق

الباحث :  الشيخ أحمد مهدي زاده , ترجمة: محمد عبدالرزاق
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  53
السنة :  السنة الرابعة عشر ربيع 1430هجـ 2009 م
تاريخ إضافة البحث :  June / 8 / 2015
عدد زيارات البحث :  1864

مقوّمات المدينة الفاضلة في الإسلام
من النظريّة إلى التطبيق

الشيخ أحمد مهدي زاده (*)
ترجمة: محمد عبدالرزاق
مقدّمة
باتت المدينة الفاضلة واحدةً من أبرز المقولات التي شغلت الفكر البشريّ، فقدّم فلاسفة كلّ عصرٍ نظريّاتهم في ذلك وفقاً لدراسةِ أوضاعهم الراهنة، والمقارنة مع حياة الأقوام السابقة، فتعدَّدت الاتِّجاهات، وتباينت المذاهب. ولا ننسی في الصدد ذاته نظريّة المُنجي؛ حيث كان لها في بعض الأديان علاقة وطيدة مع فكرة المدينة الفاضلة. ويُمكن تصنيف نمطيّة المُنجي الموعود بلحاظين هما: الدور، والأهداف، فيُنتج لنا التقسيم التالي:
أولاً: بلحاظ دور المُنجي
1ـ المُنجي الفرديّ (الموعود عند البوذيين «مهايانه»).
2ـ المُنجي الجماعي.
ويُمكن استخراج أنماطٍ أُخر من المُنجي الجماعيّ بلحاظاتٍ مختلفة:
بلحاظ الدور الاجتماعي
أ ـ المُنجي الاجتماعيّ فقط (موعود بعض الأديان الإفريقيّة والهنود الحمر).
ب ـ المُنجي الروحيّ والاجتماعيّ (موعود الشيعة).
ج ـ المُنجي الروحيّ فقط.
________________________________________
(*)كاتب في الحوزة العلمية، وباحث في دائرة معارف الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت(عليهم ‏السلام)، من إيران.

[الصفحة - 9]


بلحاظ الدور الخاصّ أو العام
أـ الموعود القوميّ (موعود اليهوديّة والصهيونيّة).
ب ـ الموعود العالميّ (الموعود في الإسلام وعند الهندوس والبوذيين وغيرهم).
ثانياً: بلحاظ الأهداف
1ـ بلحاظ الماضي
أـ صاحب المدينة الفاضلة (كالموعود عند أفلاطون).
ب ـ صاحب الفردوس (1).
جـ ـ الموعود التراثيّ (كما عند الكونفوشيوس).
2ـ بلحاظ المستقبل
أـ الموعود النهائيّ (موعود الإسلام).
ب ـ الموعود المرحليّ (موعود الزرادشتية) (2).
الأُسس الفكريّة للمجتمع المثاليّ
لعلّه من الصعب فهم نظريّة المجتمع الأمثل دون تحليل عناصر المجتمعات وخصائصها، فإذا كنَّا نؤمن بانتساب المجتمع الأمثل لمجتمعاتنا الإنسانيّة، إذن يتعيّن علينا تحديد ماهيّة المجتمعات وأركانها الأساسيّة، كي نعرف ما إذا كانت هذه المجتمعات صالحةً للتحوّل ونيل الكمال أم لا؟ وأين هو المجتمع المقصود والأفضل؟
لقد سجّل لنا تاريخ تطوّر نظريّة المدينة الفاضلة بين المفكّرين لا سيّما الغربيين منهم نتائج غريبة ومؤسفة أحياناً، يُستثنی من ذلك أمثال آغوستين ونظريّته (مدينة الرب).
وهذا استعراضٌ لجملة من العلماء الغربيين وآرائهم في المدينة الفاضلة:
أفلاطون
تُعتبر مدينة أفلاطون الفاضلة مجتمعاً طبقيّاً بأعراق رفيعة، تتكوّن طبقته السفلی من العمّال والحرفيين، والطبقة الممتازة من الحرس وقياداته، والذين يتشكّلون من زبدة الحرس والعبيد التابعين لأربابهم دون أن يكون لهم دور يذكر. والحكمة من
________________________________________
(1) يراد بذلك الفردوس الذي تصوّره بعض الأساطير بحياة مثاليّة، عندما تتجلّي الحقائق أمام الإنسان بشكل واقعيّ، وتتكامل العلاقة في ذلك بين الإنسان والطبيعة، ويرتفع الجهل بالواقع و......
(2) علي موحديّان عطار، گونه شناسي أنديشه موعود در أديان مختلف (نمطيّة فكرة الموعود في الأديان المختلفة)، مجلة هفت آسمان، عدد12ـ13، ص38ـ 39.

[الصفحة - 10]


انحصار المدينة في طبقة صغيرةٍ من القادة أو الحرس، هي أنّ العدالة في المدينة الفاضلة تعني أن يعمل كلّ بواجبه دون التدخّل بأُمور الآخرين.
يؤكّد أفلاطون علی ضرورة تنشئة النساء في مدينته الفاضلة كما يتمّ تنشئة الرجال، ومنهنّ ينتخب الأجدر لأداء الوظائف الرسميّة والواجبات من قبيل: الواجبات العسكريّة. كما ينصّ أيضاً علی أن تكون العلاقات الزوجيّة خاضعة لإشراف الدولة لا سيما بالنسبة للطبقات الرفيعة. ولا بدّ من إلغاء الملكيّة الشخصيّة والحياة العائليّة في أرفع طبقتين من المجتمع. وإذا كان بين أطفال الطبقة الأُولی ما لا يناسبها، فلا بدّ من إسقاطهم إلی طبقة العمّال، وإن كانت ولادتهم في الطبقة الأُولی ولادة قانونيّة. أمّا قائد المدينة فلا يُنتخب بطريقة ديمقراطيّة، وإنّما يسلّم الحكم بيد الفيلسوف الملك؛ لأنّه مطّلعٌ علی عالم الصور، وبإمكانه توظيفها في تأسيس مدينته خارجاً (3).
كانْت
تشكّل الإنسانيّة في مدينة (كانت) الملاك الرئيس في التعامل الأخلاقيّ؛ حيث كان يعتقد أنّ تحقّق هذا الملاك وهذه المدينة سيساعد بشكلٍ مباشر علی خلق قانون مدنيّ وفقاً للأُسس الأخلاقيّة. وسيكون الإنسان حينئذٍ المنظّر والمطبّق في آنٍ واحد (4).
كما كان يعتقد أيضاً بفصل الدّين عن التعامل الأخلاقيّ؛ ذلك أنّ الأخلاق عبارة عن معايير شخصيّة وليست قانوناً عالميّاً.
لقد أسّس (كانت)، مدينته وفقاً للمذهب الإنسانيّ، فالإنسان فيها هو من يضع الشريعة بمساعدة أخلاقه الإنسانيّة الداعية للإيمان. وكان يری أنّ حقيقة الإنسان أكبر من أن يؤسّس قيَمه الأخلاقيّة وفقاً للإيمان بوجود الله والآخرة. وأنّ الأصول الأخلاقيّة ـ بحدّ ذاتها ـ كفيلة بإحراز الفضيلة في المجتمع، علی أنّ سعادة الإنسان لا تتحقّق إلاّ بتحقيق الإيمان بالله والآخرة (5).
كان هدف (كانت) من ذلك كلّه إقصاء العلوم الطبيعيّة عن مرحلة المفاهيم الأخلاقيّة والدينيّة، فعمد إلی حصر دور العقل بالمجال التجربيّ، كما فسّر المفاهيم
________________________________________
(3) راجع: فردريك كابلستون، تاريخ فلسفه 1: 261ـ 272، نشر شركة المنشورات العلمية والثقافيّة بالاشتراك مع نشريّات سروش، مترجم إلى الفارسية.
(4) المصدر السابق 6: 333 ـ 337.
(5) المصدر السابق: 348ـ 349؛ آتين جيلسون، نقد تفكر فلسفي غرب (نقد الفكر الفلسفي الغربي): 217، منشورات الحكمة، ط. الثالثة 1402?. .

[الصفحة - 11]


الميتافيزيقيّة وفقاً لمدرسة (نيومان) ظناً منه باستبعادها عن حدود العقل. وفقاً لذلك، ثمّة قطيعة بين نظريّة (كانت) الأخلاقيّة والبُعد الميتافيزيقيّ، فلا تؤسّس أخلاقيّات المجتمع إلاّ بمنأیً عن التعاليم الدينيّة (6).
وتبقی فلسفة (كانت) محافظة علی الإيمان بالمفاهيم الميتافيزيقيّة في حدود المعقول، بل وتعتبرها من عوامل تحقيق السعادة. لكن لا ينبغي لها أن تؤرّق بال النفس الإنسانيّة المهيَّأة لارتكاب المعصية في وقتٍ ما، والتي لا تقنع بهذا القدر من مفهوم وجود الرب؛ لذا كان لا بدّ من تقديم حلّ بديلٍ يُخلّصها من عذاب التفكير بحقيقة الوجود الربانيّ وسائر الحقائق الميتافيزيقيّة الأُخری، ويوفّر لها السكينة والاطمئنان في إيمانها، وهذا ما يتأتّی من الإيمان الطبيعيّ الماديّ. وإذا ما أردنا فرض إلهٍ للبشر فلا بّد أن يكون ذا نزعة إنسانيّة؛ لكي يتسنّی للإنسان المتمدِّن أن يتصرّف بما يحلو لـه في حياته الاجتماعيّة، دون أن يكون هناك أحد يحدِّد له عمله؛ وإنّما من المُفترض أن يكون هناك مَنْ يحكم بصحّة كلّ أنواع ممارسات الإنسان علی مرّ العصور، من قتلٍ ونهبٍ وظلمٍ وانغماسٍ في الشهوات (7). هكذا تنال النفس الإنسانيّة هدوءاً في قرارة الضمير!
وهنا بزرت فلسفة (هيجل) بعقلها التاريخيّ.
هيجل
كان هاجس (هيجل) الأوّل هو إيجاد مخرجٍ لعقيدة التثليث والعلاقة ما بين المتناهي واللامتناهي(8). فقدّم نظريّة في ذلك أثبت فيها وحدة المتناهي مع اللامتناهي بطريقةٍ دياليكتيّكةٍ، وراح يطبَّقها في مجالات الكلام والسياسة والاجتماع والتاريخ والثقافة، فعلی صعيد الكلام: الربّ هو المسيح، والمسيح يَحيی مرة أُخری عقب صلبه (9). وعلی صعيد الفكر الفلسفيّ تفوّق هيجل علی (كانت)، حيث قال بأنّ عالم المحسوسات بجميع أبعاده الميتافيزقيّة متَّحد مع فكر الكائن، ولا بّد من إيجاد اللُّحمة بينهما.
فهو يری أنّ الخطأ والصواب في الفكر أيضاً هو من الأُمور الحسيّة التي تبقی موجودة في الذهن علی مرّ التاريخ، وأنّ الرب أيضاً موجودٌ تاريخيّ. وتنصُّ نظريّة
________________________________________
(6) نقد الفكر الفلسفي الغربي: 215؛ تاريخ فلسفه 6: 436.
(7) كابلستون، تاريخ الفلسفة 7: 222.
(8) المصدر السابق 7: 168ـ 170.
(9) المصدر السابق: 233ـ 238.

[الصفحة - 12]


هيجل علی أنّ الإنسان يكون جاهلاً في بداية المرحلة، باعتباره لا يدري بحقيقة ذاته وما وراءها، وأنّ الإنسان يحقِّق أرقی مستوياته الفكريّة عندما يعرف نفسه.
كما يعتقد هيجل بأنّ عصر الحداثة هو نهاية التاريخ، وهو العصر الذي يحقِّق فيه الإنسان غاية العرفان بنفسه. وتری فلسفة هيجل التاريخيّة في الحداثة ذلك الفردوس المخلوق علی يد الإنسان، والذي لا يلجه إلاّ بعد إدراكه ذاته إدراكاً مطلقاً، يفهم من خلاله أنّه ينبغي عليه أن لا يتلّقی أوامر ما وراء الإنسانيّة (10).
لم يفصل هيجل بين الدّين والسياسة، لكنّه سرعان ما يُصادر مصداقيّة الدِّين علی حساب الحداثة. ويری أنّ كلا مفهومي الدِّين والسياسة من نتائج الفكر البشريّ؛ لذا فليس هناك دين سماويّ أو وحي نازل، وأنّ فكرة الدّين السماويّ لا تعبّر إلاّ عن ثقافة العبيد. كما تنصُّ نظريّته بأنّه لا معنی لإله له وراء الإنسان، فليس هناك سوی المسيح بوصفه إنساناً وحسب.
وقد مهَّدت فلسفة هيجل لبعض العلماء أمثال فيورباخ لأن يقدِّموا نظريّة تأليه الإنسان ديناً يدان به في عصر الحداثة (11).
أُوغست كونت
يقسّم (أُوغست) الوضع المدنيّ والسياسيّ والمؤسّسات الاجتماعيّة إلی ثلاث مراحل هي: اللاهوتيّة، والفلسفيّة، والعلميّة، وقد جاء تقسيمه هذا وفقاً لدراسته واقع المؤسسات الاجتماعية والمدنيّة في أُوربا. فقال بأنّ المرحلة اللاهوتيّة هي مرحلة غلب عليها طابع النزاعات وحبّ الأنا. وفي القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر جاء دور المذهب الفلسفيّ، فمال اتّجاه السياسة والدولة إلی الملاكات القانونيّة وتوزيع الحقوق. وعندما وصل المجتمع الی عصر العلم وقع تحت تأثير وطأة الصناعة والتطوّر والبحث عن تحصيل الثروة والمحاصيل الصناعية، فكانت الواجبات المفروضة علی الإنسان مقدّمة علی حقوقه واختياراته. فانشغل الجميع بإيجاد الحلول الاجتماعيّة وتحسين العلاقات بين العامل ومدير العمل (12).
________________________________________
(10) المصدر السابق: 219ـ 223 و238 ـ240.
(11) راجع: المصدر السابق: 288ـ 294؛ نقد الفكر الفلسفي الغربي: 259.
(12) محمد علي فروغي، سير حكمت در أروبا (تطور الحكمة في أُوربا) 3: 117، ط. السابعة، منشورات زوار ـ طهران1379 ? .ش؛ نقد الفكر الفلسفي الغربي: 233 ـ 234.

[الصفحة - 13]


أمّا الفردوس المنشود في نظريّة (أُوغست) فهو متحقِّق في عصر العلم الذي يبدأ بغاليلو، وهي مرحلة اعتماد الظواهر التجربية.
لم تتّسم المرحلة الأُولی بالعقلانيّة؛ ذلك لميل الفكر البشريّ للدين والخرافة فكان الاعتقاد بالربِّ نابعاً من خوف الإنسان من الحوادث الطبيعيّة.
وفي المرحلة الثانية بحث الإنسان عن أُصولٍ عقلانيّة ميتافيزيقيّة يُثبت من خلالها عقلانيّة تلك الخرافات. أمّا في المرحلة الثالثة فقد نظّر أُوغست للدِّين الإنسيّ مصداقاً لتكامل الإنسان في هذه المرحلة (13).
نيتشه
كانت الأزمة الألمانيّة عقب الهجوم الفرنسيّ وما سيطر من يأس وانهزاميّة علی الشعب الألماني وانحطاط القيم الإنسانيّة هي القضية الأبرز التي هيمنت علی أفكار وفلسفة (نيتشه). فكان يعتقد بضرورة التشابه بين هذه الأزمة وأزمة اليونانيين عقب الهجوم الفارسيّ، عندما واجهوها بالفن وتغلّبوا عليها، وهو فنّ التراجيديا المُصاحبة للموسيقی والشعر.
كما يری أنّ العدمية إنّما تمتدُّ في أُصولها لفلسفة (أبولون) وتغلّبها علی أفكار (ديونيزوس) (الحب، السكر، الحماسة، الشعر، الموسيقی التراجيدية)؛ لذا فهو يری أنّ التغلّب علی العدميّة يكمن في العودة إلی مذهب ديونيزوس (14)، وتغليب (إرادة القوّة) علی العقلانيّة. وأنّ الفلسفة الغربيّة المنطلقة من تعميم نظريات أبولون، كانت قد اعتمدت الجانب الميتافيزيقيّ في طرحها، فنتج عن كلّ ذلك آيدلوجيّة القرون الوسطی المسيحيّة المُستعبدة للبشر. وقد هيمنت علی شتّی المجالات والعقل الغربيّ بشكلٍ عام (15).
إذن، فنيتشه أمام مواجهةٍ واسعةٍ، فهو يقف بوجه جميع النظريّات الفكريّة في الغرب مقدِّماً حلاًّ بديلاً من خلال تحكيم مبدأ (إرادة القوّة) وضرورة السعي في إيجاد (الإنسان الأعلی)، وهو الإنسان الكامل الذي وعد بظهوره زرادشت في تعاليمه، وستكون إرادته إرادة ديونيزوسيّة لا حدود لها، فيعمل بإرادته الشخصيّة وهمِّته العالية
________________________________________
(13) تطوّر الحكمة في أُوربا: 118؛ نقد الفكر الفلسفي الغربي: 244 ـ 245.
(14) راجع: تاريخ الفلسفة7: 387ـ 390.
(15) المصدر السابق: 393 ـ395.

[الصفحة - 14]


وفقاً لميولاته، دون الخضوع لمطاليب الأكثريّة، أو هوی النفس الضعيفة الأبولونيّة، وإنّما هو حقيقة جادّة لها أهداف يُخطِّط لها مسبقاً. إنّ الإنسان الأعلی هو من يضع القوانين ويُلزم الآخرين العمل بها، فكلّ ما يقوله حقٌ مُلزِم. وسيبقی العبيد يحومون حولـه؛ لأنّهم يقدَّسون العقل (16). ولا بّد أن يكون من سلالةٍ عريقة لم ينتسب لها العبيد بشكلٍ من الأشكال.
وفي نظريّة الرجعة يقول نيتشه بأنّ العالم يتكامل في كلّ مرحلة فيُختتم، وأنّ نماذج الإنسان الكامل تتعاقب في الظهور كلّ في مرتبته حتّی تصل لأكملهم، وهو لم يظهر بعد.
كما طرح نيتشه آلياتٍ لتنشئة الإنسان الكامل تعتمد خشونة العيش وتحمّل الصعاب، فقد كان اليونانيون يبحثون عن الفيلسوف الملك المتَّصل بعالم المثال والذي سيقودهم نحوه. وبما أنّ (نيتشه) استبعد الجانب الميتافيزيقيّ تماماً، لذا قال بمستقبل يشهد ظهور فلاسفة جُدد هم في صدد البحث عن الإنسان الكامل، وقد يقدِّمون أنفسهم لهذا المنصب، وهم فلاسفة تراجيديون يُمارسون حياتهم علی أساس (إرادة القوّة) بشكلٍ شفاف وهادئ. وليس هؤلاء إلاّ فلاسفة مضحّين ليتسنّی لهم العيش بهذه الطريقة، حاملين شعاعاً يدعو للتفاؤل بالخلاص، والقضاء علی العدميّة (17).
ماركس
يؤمن ماركس بأنّ كلّ شيء في الوجود خاضعٌ للأداء الاقتصاديّ في المجتمع: «يتحكّم البشر من خلال العمليّة الإنتاجيّة بنوعيّة كيانهم الاجتماعيّ، وعلاقاتهم الضروريّة المستقلِّة عن إرادتهم. وتتناسب تلك العلاقات الإنتاجيّة طردياً مع مستوی خاصٍ من الإنتاج والأيدي العاملة.
ومن مجموعة هذه العلاقات تتكوّن نواة المجتمع الاقتصاديّة؛ أي القاعدة الحقيقية لبناء مؤسسة قانونيّة وسياسيّة، مع مستویً معيّن من الوعي الاجتماعيّ. وبشكلٍ عام ستخضع كلّ أشكال التنمية الاجتماعيّة، والسياسيّة، والفكريّة لسلطة الإنتاج الماديّ ومستوياته.
________________________________________
(16) المصدر السابق: 402 ـ 406.
(17) المصدر السابق: 390.

[الصفحة - 15]


فليس الوعي هو المتحكِّم بوجود البشر؛ وإنّما الوجود الاجتماعيّ هو المتحكِّم بمستوی الوعي البشريّ» (18).
ويقول أيضاً: «ليس تكامل الطبيعة هو العامل الوحيد، بل لابّد من تكامل المجتمع وفقاً لقوانين ماديّة خارجةٍ عن إرادة الإنسان» (19).
في حين أنّه قال في موضعٍ آخر: «ليس في حياة المجتمعات قویً ميتافيزيقيّة، وأنّ الإنسان هو صانع تاريخه. نعم، لا يصنع البشر تاريخهم بدافع الهوی والهوس؛ وإنّما وفقاً لظروف ومعطيات القوانين الماديّة» (20).
تأسيساً علی ذلك، سيكون للتاريخ البشريّ تطوّر ديالكتيكيّ يبدأ بالشيوعيّة الأُولی حتّی يصل لمرحلة التكامل عند الشيوعيّة المتكاملة.
كما أنّ للمراحل المتخلّلة بين الشيوعيّتين ضرورة ملحة في خلق وتطوير القوی الإنتاجيّة، الأمر الذي ينتج عنه أيضاً نموّ في العلاقات الإنتاجيّة لا يجعل أمر الشيوعيّة المتكاملة ممكناً وحسب، وإنّما سيقدّمها خياراً أوحداً في المعادلة.
لم تأتِ نظريّة ماركس التاريخيّة تحليلاً للمشاهد التاريخيّة وتداعياتها، بل كانت عبارة عن وسيلة وسلاح تقود الطبقة العماليّة بقيادة زعيمهم (الحزب الشيوعيّ) إلی تحقيق ذاتها وترسيم تاريخها وأداء المسؤوليّة المُلقاة علی عاتقها. بعبارةٍ أُخری كانت نظريّته التاريخيّة نظرية إنثروبولوجيّة. لقد انطلق ماركس من نظريّة هيجل القائلة بأنّ علی الإنسان أن يحقِّق ذاته ويدركها إذا كان يريد إثبات وجوده. وإنّ العمل الإنتاجيّ هو أول مصاديق تحقيق الذات، فإذا كان الإنسان منتجاً فهو موجود.
لكنّ هذا النوع من تحقيق الذات قد يتحوّل إلی تصحّر واستلاب في ظلِّ المجتمعات القائمة علی الخصخصة؛ ذلك أنّ إنتاج العامل لن يُحسب من إنجازاته وإنّما من إنجازات صاحب رأس المال في المجتمعات الرأسماليّة. هذا بالإضافة إلی أنّ الاستلاب الاقتصاديّ سينتج عنه استلاب اجتماعيّ؛ لأنّه لم يمثّل طبقة الأكثريّة في المجتمع. ومهما انتمی الإنسان إلی طبقةٍ معيّنة ستبقی له جذور ممتدّة في طبقةٍ أُخری؛ لذا فإنّ محاربة الطبقيّة هي عبارة عن انقسام داخليّ عميق
________________________________________
(18) ريمون آرون، مراحل أساسي أنديشه در جامعه شناسي (المراحل الأساسيّة للفكر في علم الاجتماع): 163، ترجمة محمد باقر پرهام، ط.الأُولي، نشر مؤسسة الثورة الإسلاميّة للنشر والتعليم ـ طهران 1364 ?.شمسي.
(19) ولفانغ ليونارد، چرخشهاي يك أيدئولوژي (تداوم الإيديولوجيّة): 86، ترجمة هوشنك وزيري، ط. الثانية، منشورات نو ـ طهران 1363 ?.شمسي.
(20) المصدر السابق: 92ـ93.

[الصفحة - 16]


واستلاب ظاهرٍ في ذات الإنسان. وكذلك الدّين عبارة عن مصداقِ للاوعيّ البشريّ ـ كما يقول فيورباخ ـ ، أمّا اللاوعي في وجدان ماركس الدينيّ فهو انعكاس للاوعي الأشدّ مضاضة علی الصعيد الاجتماعيّ ـ الاقتصاديّ، ولا يمكن تجاوزه إلاّ من خلال إلغاء الملكيّات الشخصيّة وإقامة الشيوعيّة. فإذا تجاوزنا اللاوعي الاقتصاديّ والاجتماعيّ سيزول أيضاً عنصر الدِّين من حياة الإنسان ويتحوّل الإنسان الكامل إلی إنسانٍ موحِّد، وتقوم الأخلاق الإنسانيّة مقام الأخلاق الطبقيّة، وتعود الأُمور إلی زمامِ الإنسانيّة الأصيلة. ولا يقتصر معنی ذلك علی استبدال طبقةٍ متحكِّمةٍ بأُخری غيرها، أي إلغاء النظام الرأسماليّ علی يد الطبقة العماليّة، فإنّ لذلك معاني أبلغ من ذلك بكثير، فإنّ الديكتاتوريّة العماليّة مقدّمة لظهور مجتمع اللاطبقيّة الشيوعي والذي لن يكون لـ (اللاوعي) والاستلاب مجالٌ فيه، بعبارة أُخری لم تقتصر نتائج (البرولتاريّة) علی طبقةٍ معيّنة، وإنّما هي ثورة عالميّة ونجاة للبشريّة جمعاء، إنّها رسالية مسيحيّة (21).
بواعث الانحراف في الفلسفة الغربيّة
كان لمضايقات الكنيسة وأساليبها القمعيّة دورٌ في تعالي صيحات التمرّد علی الوضع الدينيّ. فحتّی محاولات بعض الإصلاحيين من التيّار الراديكاليّ لم تكن لتمنع ظهور بعض التيّارات الراديكاليّة كالذي ظهر بقيادة (لوثر). وشهدنا بعد ذلك ولادة حركاتٍ جديدة، حيث تمخّض عن حركة الإصلاح الراديكاليّة ـ التي بادرت للإصلاح في الدِّين المسيحيّ ـ ظهور مذهب البروتستانت، وعن نظريّة التسامح الدينيّ نتج خيار العلمانيّة، كما كانت هذه الحقبة مسرحاً لظهور المذاهب الفرديّة والرأسماليّة. فبينما كان التيار الراديكاليّ يسعی إلی حذف وساطة الكنيسة وتفعيل دور الأفراد تجاه الربّ، فوجِئنا بظهور مفهوم واجبات الفرد تجاه المجتمع؛ حيث استبدلت العلمانيّة واجبات الفرد تجاه الرب بقضيّة شخصيّة فرديّة. بينما قررّت التيّارات البارزة في عصر النهضة (القرن الخامس عشر) بإيطاليا، استبعاد ثقافة القرون الوسطی برمَّتها، فدعت إلی تحكيم تاريخ الإنسان المنتمي للقوانين والفنون وسائر الأفكار الإنسانيّة
________________________________________
(21) تاريخ الفلسفة 7: 320ـ 321.

[الصفحة - 17]


بدلاً من الفلسفة الدينيّة، الأمر الذي آل في خاتمة المطاف إلی ظهور المذهب الإنسانيّ في القرن السابع عشر. فلم يكن هناك مجال لمفاهيم خليفة الله أو ظلِّه في الأرض ممّا كان متداولاً علی عهد القرون الوسطی، بل كان كلّ شيءٍ يدور حول محورٍ واحد هو الإنسان، وهذا ما كان ينتظره (ميكافيللي) لتقديم نظريّاته في فصل الدِّين والأخلاق عن السياسة، وتقديم أصل المنفعة علی كلّ شيء، وبذلك نجحت أُولی نظريّاته (العلمانيّة) فحظيت بالقبول والترحيب، بينما واجهت نظريّته الثانية مخالفة فلاسفة الأخلاق التجريبيين أمثال جان جاك روسو وهيوم، لكنّها سرعان ما شقّت طريقها هي الأُخری إلی الرأي العام.
أمّا علی صعيد العلوم الطبيعيّة في القرون الوسطی، فقد تلاشت آيديولوجيا المسلَّمات القطعيّة حسب نظريّات بطليموس، وتركت مقعدها لنظريّات الشمس الثابتة عند (كوبرنيك). هنا شهد العالم تحوّلاً واسعاً حتّی وصلنا لمرحلة الفصل بين فلسفة الطبيعة وفلسفة الكتاب المقدّس علی يد (غاليلو)، وبدأت نظريّة الفصل بين العلم والدين ينظَّر لها بشكلٍ منهجيّ، وبحث الفلاسفة عن لغةٍ علميّة في تقديم مبتنياتهم. وقد شطّت فلسفة العلم بعيداً في محاولتها للحدّ من تدخّل الدّين في تفسير الظواهر الطبيعيّة، فأغلقت الأبواب بوجه العلم الإلهيّ في تفسير المفاهيم الدينيّة، فشنّ أربابها هجومهم العشوائيَّ بأسلحةٍ تجربيّة علی الحصون الميتافيزيقيّة، وعندما واجهوا نتائجهم العقيمة تلاعبوا بها ونفوا كلّ شيء وراء الطبيعة، وهنا لم يكن للربِّ دورٌ حتّی كموقِّت آلي كالذي كان عند ديكارت وجان لوك وأسبونزا، وقدّموه في إلهيّاتهم الطبيعيّة، فكانت تلك النظريّة بمثابة رصاصة الرحمة في جسد الإلهيّات الميتافيزيقيّة.
لقد رجّح نموّ العلوم الطبيعيّة المتسارع وقبول نتائجه كفّة هذه العلوم في مقابل العلوم الإنسانيّة بعدما كانا متساويَين، وكان هذا التيّار الخطير هو مَنْ يحاول تخليص الثقافة الغربيّة من المُستنقع الوحليّ من خلال بعض التفسيرات والتبريرات الداعية إلی التخلّي عن نظريّات ما بعد الطبيعة، والتزام الطبيعة بما هي طبيعة حُبلی بأحداثها الواقعيّة، وهو عالم يضجُّ بالمعطيات الاجتماعيّة.
________________________________________

[الصفحة - 18]


ويری بعض الباحثين أنّ أُوربا كانت قد غرقت في مستنقعها نتيجة لنظريّات (كونت) و(هيجل) في تقويض الجبر الفيزيائيّ لحساب المعطيات الاجتماعيّة، وهذا في الواقع من البِدَع الظاهرة البطلان. وقد انطلق الإثنان من مفاهيم فلسفة التاريخ، أي كان هدفهما الأساسيّ هو تقديم تفسيرٍ للمفهوم الحاكم علی العالم منذ انطلاقته الأُولی وحتّی ذلك العصر، لكنّهما سرعان ما فوجئا بنهاية التاريخ، وبعد إلغاء فرضيّته الوجوديّة فيما وراء الطبيعة والإلهيّات بات من العسير التماس تحقّق شيءٍ جديد حتّی علی الصعيد الإنساني عند (كونت)، إلاّ في وصول البشر للفردوس الافتراضيّ وخلودهم فيه. كذلك (هيجل) نراه يقود قرّاءهُ للنتيجة ذاتها لكن بأُسلوب آخر، فهنا يطلّ المفهوم المطلق من خلال الطبيعة ذاتها، فيفقد وعيه الذاتيّ، ثم يأتي الدور ليتجلّی في الإنسان، وهنا يجد نفسه ثانية، نظراً لقدرة البشر علی التفكير، وبمساندة العلم والتاريخ والفلسفة تُكتب له العودة من جديد، علماً أنّ هذه العودة للذات كانت قد تحقَّقت علی عهد (هيجل) أيضاً.
وبعد أن أثبتت فلسفة هيجل تجلّي هذا المفهوم في العالم بذاته، ونفت ما سواه، بهذا لم ينل هيجل أجوبته حول غاية العالم القصوی وحسب، وإنّما سينال العالم نفسه غايته بذلك أيضاً (22).
إنّ ما يثير الاستغراب حول هذه النظريّات كيفيّة التحام كلّ تلك المذاهب التشكيكيّة والفلسفات المُتناحرة فيما بينها، بغية تقديم فكرةٍ موحّدةٍ في خلق مجتمع الحداثة والليبراليّة في الوقت الحاضر، وبينما كانت أهدافهم ترتكز في كشف الحقائق وإرشاد الآخرين إليها، وجدناهم يُسرفون في تفاهات الحياة اليوميّة وتبرير الأهواء الشخصيّة، فضحّوا بكلّ تلك الحقائق في سبيل ذلك.
نهاية التاريخ
لم تفشل الفلسفة الإنسانيّة في تحقيق فضيلة الإنسان وسعادته وحسب، بل سلبت منه هويّته وقيمه السامية، فكان أن شهدنا في هذه الحقبة الفكريّة ظهور الفاشيّة، ووقوع أبشع الجرائم تحت مسمَّيات الحريّة وحقوق الإنسان! فقد بلغ الإنسان الماديّ
________________________________________
(22) نقد الفكر الفلسفي الغربي: 256، مصدر سابق.

[الصفحة - 19]


أسوأ مراحل انحطاطه بما لم يكن في الحسبان مطلقاً، وكما يقول الإمام الخمينيّ: «كان الغرب المُكتشف لموارد الطبيعة وقدراتها، لكنّه وظّف كلّ ذلك ضدّ الإنسان والإنسانيّة، أي للقضاء علی الإنسان وتدمير المُدن والحواضر. فأنتم تشاهدون اليوم ما يسمَّی بالدول المتقدِّمة وما يعاني في ظلِّها الفرد من ضغوط» (23).
كان المجتمع الحداثيّ أُنموذجاً للمجتمع الماديّ، لتُمارس فيه النفس الإنسانيّة كلّ شيء بحريّة مطلقة فتستبعد الآخرين، {بَلْ يُريدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أمامه } .
نعم، لقد وصلنا إلی نهاية العالم بهذه العولمة والديمقراطيّة الليبراليّة في الغرب بما حقَّقه من عبادة الهوی والملذَّات. لكن، ما هو واقع حال الإنسان؟ وهل أدرك سعادته المنشودة؟ فبينما كان يصبو إلی تحقيق ذاته بشكلٍ مطلقٍ، وجدناه تجاهلها تجاهلاً مطلقاً، ونسي أنّ وجوده مفتقرٌ في ذاته لخالقه، {أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى الله } ( سورة فاطر: 15، و محمد: 38)، إنّه أعرض عن ذكر الله فضاقت به السبل، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا } ‏ (سورة طه: 124).
ومن هذا المنطلق وَجّه الإمام الخميني خطابه إلی رئيس الاتِّحاد السوفياتي:
إنّ أول خطوة للنهوض بواقعكم تتمثّل في ضرورة إعادة النظر في آراء أسلافكم فيما يخصّ الدِّين والإله وإقصائهما من حياة المجتمع، حيث كان ذلك أقسی ضربة يتلقّاها الشعب السوفياتي. وعليكم أن تعلموا أنّه لا مناص من ذلك في مواجهة قضايا العالم. نعم، قد تكون الأساليب المُنحرفة لدی ساسة الشيوعيّة السابقين مُجديةً علی صعيد الاقتصاد فتخضرّ بذلك جنائن الغرب، لكنّ الحقيقة شيء آخر، فإنّ ما يتحقّق في حلّ مشاكل الاقتصاد الاشتراكيّ والشيوعيّ علی يد المركز الرأسماليّ الغربيّ، لم يكن مرهقاً للمجتمع وحسب، بل سيضطّر الآخرون لتحمّل تبعات أخطائكم هذه مستقبلاً، فإذا كانت الماركسيّة اليوم غارقةً في المستنقع الاقتصاديّ والاجتماعيّ، فإنّ العالم الغربي يُعاني من المشاكل ذاتها، لكن بأشكالٍ أُخری.
________________________________________
(23) صحيفه إمام (صحيفة الإمام الخميني)8: 108، نشر مؤسسة تنظيم وإحياء تراث الإمام الخميني.

[الصفحة - 20]


سعادة السيد گورباتشوف، لا بّد لنا من الإيمان بالحقيقة والواقع؛ فليس الوضع الاقتصاديّ أو الحريّة هو معضلكم الرئيسيّ، وإنّما هو إلحادكم بالله، وهي المشكلة ذاتها التي جرّتْ المجتمع الغربيّ للانحلال والانهيار أو أنّها ستجرّه مستقبلاً. إنّ المعضلة تكمن في رفضكم العقيم لمبدأ الخلق والعالم» (24).
لقد سعی الإنسان المتحضّر علی مرّ العصور إلی تحصيل ما هو هارب منه علی المدی، أعني تحصيل الحقيقة المطلقة وهي الله ـ عزّ وجلّ ـ الذي لا تحدّه جهةٌ من الجهات، لكنّ الإنسان انحرف عن سواء السبيل، وكما يقول أحد العرفاء:
«نحن في عشق أبديّ لفطرة الله، وبهذا العشق عشقنا الكمال المطلق الذي نری آثاره ـ شئنا أم أبينا ـ ، ومن ضروريّات تلك الفطرة نفي النقص المطلق، ومعناه نفي مطلق أشكال النقص. إذن، فنحن عشقنا الحقَّ تعالی وإن لم ندرك ذلك بأفهامنا، أي عشقنا الكمال المطلق، وعشقنا آثاره، كما أنّ وجودنا أحد مصاديق ذلك الكمال المطلق. ونحن إذ نعادي ونتجنّب كلّ الأشياء، فلا نقصد بذلك الكمال المطلق أو مطلق الكمال، وإنَّما النقص المطلق أو مطلق النقص المقابل والنقيض؛ فنقيض الكمال عدمه. وبما أنَّنا في حجابٍ مستور فلن ندرك الحقيقة، فإذا انقشعتْ عن بصيرتنا الحُجب فكلّ ما هو محبَّب فمن الله، وما هو مبغض ليس منه في شيء، فهو ليس موجوداً بالمرة (25).
فلو أنّ الإنسان عمل بفطرته لاستطاع ـ علاوةً علی نيل السعادة الفرديّة ـ أن يُقيم مع أبناء جلدته مدينتهم المثاليّة، مدينة الله .. المدينة الفاضلة .. المجتمع النبيل. {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (سورة الروم:30).
أُصول فكرة المجتمع الموحّد
تنصُّ الآيات القرآنيّة علی أنّ الإنسان اجتماعيّ بالطبع، أي أنّ ذلك أمر فطريّ جُبل عليه، لذا بات من أهدافه الأُولی تأسيس الاجتماعات والبحث عنها (26). قال تعالی: {يَا أَيُّهَا }
________________________________________
(24) المصدر السابق 21: 220ـ221.
(25) المصدر السابق 16: 218ـ 219.
(26) راجع: مرتضي مطهري، جامعة وتاريخ (المجتمع والتاريخ): 21، ط.15، نشر صدرا ـ طهران 1372 ? . شمسي؛ ومحمد حسين الطباطبائي، ترجمة تفسير الميزان 4: 144 ـ 145، ترجمة: محمد باقرالموسوي الهمداني، مكتب النشر الإسلامي ـ قم 1363 ?.ش. .

[الصفحة - 21]


{النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا } (سورة الحجرات: 13)، وجاء في آية أُخری: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا } (سورة الزخرف:32).
يرى العلّامة الطباطبائيّ أنّ خيار الاجتماع بجميع أشكاله.. وعلی الرغم من تصدّره حياة البشر علی مرّ التاريخ ... لكن الحقيقة الأُخری أنّ هذا الترجيح لم يأت علی حساب الحياة الفرديّة أو بداعي تفضيل المصلحة، لكنّها الظاهرة المُتنامية تبعاً لإدراك فوائدها، فتناسب تطور أحوال البشر مع الظاهرة الاجتماعيّة تناسباً طرديّاً.. ويذكّرنا القرآن، أيضاً، بأنّ أول عهود الإنسان بتأسيس الاجتماع والبحث عن المصالح والمحافظة عليها جاء بإرسال أول رسول بين الناس لهدايتهم، {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ } (سورة يونس: 19)، كما قال عزّ من قائل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ } (سورة البقرة: 213).
إذن، تدلنا الآيتان علی أنّ الإنسان كان في أقدم عصوره أُمّةً واحدةً وبسيطة لا اختلاف فيها، ثم نشأ الاختلاف بدافع غريزة التسلّط والاستحواذ علی الثروة، حتّی وصلت الأُمور للنزاع، هنا بعث الله الرسل ليضعوا فيصلا لها بواسطة الكتب والرسالات السماويّة؛ لتعود الوحدة الاجتماعيّة مرةً أُخری بالاستعانة بالقوانين المشرّعة من قبل الباري تعالی (27).
وفي السياق ذاته نقرأ في القرآن ما يُثبت موقف القرآن من ذلك بالنصِّ الصريح: {وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ } (سورة الأنفال: 7ـ 8).
ولا تزال هذه الرسالات تتوالی حتّی تحقيق النصر الإلهيّ علی أيدي الرسل وفرض سلطة المُصلحين علی شتّی بقاع العالم: {كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } (سورة المجادلة:21)، {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ }
________________________________________
(27) ترجمة تفسير الميزان 4: 146 ـ 147.

[الصفحة - 22]


{يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } (سورة الأنبياء: 105).
لقد انبثقت نظريّة المجتمع المثاليّ ـ المذكور في القرآن ـ من صميم الفطرة الإنسانيّة، فالإنسان مُكرّم من قبل خالقه ومفضّل علی كثيرٍ من مخلوقاته (28)، وهو المخلوق في أحسن تقويمٍ (29)، بفطرةٍ إلهيّة (30)،
وروحٍ نُفخت فيه (31)، ثم ألهمها فجورها وتقواها (32)، ثم استأمنه ربّه علی تحمّل المسؤوليّة وحمل الأمانة التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال (33)، بعد كلّ هذه المقدّمات بقيت النتيجة منوطةٌ بوجود الإنسان ودوره في الحياة، فقد أفلح من زكّی نفسه، وخاب من دسّاها (34)، وليس للإنسان المُنطبِع بخواصّ المادّة، فيسفك الدماء ويفسد في الأرض، إلاّ أن يسير وفق فطرته (35)، فيحقِّق بذلك ـ علاوة علی السعادة الفرديّة ـ سعادة الآخرين من خلال نشر التوحيد وتحقيق أهدافه السامية بإقامة الصلاة وبثِّ مفاهيم العدالة الإلهيّة وفي ذلك يكسب رضوان الله (36). إنّ عباد الرحمن هم من يسعی في تشييد الطبيعة والحياة دون أن يكونوا عبيداً لها.
وتُشير تعاليم الأنبياء إلی أنّ الذي سيكون بإمكانه إقامة المجتمع المثاليّ هو ذلك الشخص الذي تربّی تحت إشراف العقل العمليّ المُستفاد من تعاليم الوحي، الأمر الذي كان أغلب فلاسفة الغرب يتهرّبون من الخوض فيه، فالإنسان ـ وحسب الإمام الخميني ـ ليس حيواناً، الإنسان هو ذلك الموجود الذي بإمكانه نيل أعلی المقامات بتحقيق سعادته، كما بإمكانه أن ينزل إلی الحضيض عندما ينحرف عن الصراط المستقيم. ولمَّا رأی الأنبياء انحطاط المجتمع الفكريّ والأخلاقيّ والعمليّ جاؤوا برسالاتٍ من الباري ـ عزّ وجلّ ـ من أجل خلاص الإنسان ونجاته. فلو كان الإنسان حيواناً كسائر الحيوانات المدبِّرة لحياتها بنفسها، لما بُعث الأنبياء، وما كانت الحاجة في ذلك إطلاقاً، باعتبار أنّ الإنسان المادي سيكون باستطاعته إدراك ذاته. لكن حكمة بعث الأنبياء تكمن في دورهم الإرشادي والكشف عن السُبل الكفيلة بإيصال الإنسان للعلم الذي عجز عن درك حدوده. لقد جاء الرسل من أجل الرفعة بالإنسان نحو مقامٍ أعلی ومنزلةٍ إنسانيّة أسمی (37).
________________________________________
(28) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ... (سورة الإسراء:70)
(29) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (التين: 4).
(30) فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا (سورة الروم:30) ، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (سورة الشمس،7)
(31) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ... (سورة السجدة:9).
(32) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا... (سورة البقرة: 31)، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (سورة الشمس:8).
(33) إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ (سورة الأحزاب:72).
(34) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (سورة الشمس:9ـ 10).
(35) ...قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء... (سورة البقرة:30).
(36) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ... (سورة آل عمران: 162)، وانظر قولـه تعالي:الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (سورة الحج: 41)، وانظر أيضاً قوله تعالي: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا... (سورة الفتح: 29).
(37) راجع: صحيفة الإمام الخميني 7: 532.

[الصفحة - 23]


لم تكن الغاية من الإسلام وغيره من الديانات في نشر الظلم بين بني البشر، وتحويل حياتهم الی ممارسات حيوانيّة، أو أن يعالج مشكلة الظلم فينشر العدل وحسب، فأهداف الإسلام لا تنحصر في ذلك فقط، فالإسلام يطمح إلی تنشئة الإنسان العادل والناشر للعدالة، وصاحب فضائل أخلاقيّة، ومعارف إلهيّة، وعندما ينتقل من عالمٍ إلی آخر يرد عليه بهيئة إنسان. أمّا أُولئك الذين يهتمّون بهذا الجانب الدنيويّ ولا يُعيدون بالاً للعالم الآخر فإنَّهم علی نقصٍ دائم في الحياتين (38).
فليس الوعي أن يتوصَّل الإنسان بعد كلّ هذه القرون إلی نفي ما سواه وحصر الوجود بذاته فقط، بل كان عليه إدراك الأشياء منذ أن أنعم الله عليه بالنفس الإنسانيّة فألهمها فجورها وتقواها. وليس عليه في تحقيق سعادته إلاّ أن يزكَّيها ليتسنّی لـه أن يكون مرآة عاكسةً للأنوار الإلهيّة، ويصونها من الخطايا والشوائب.
وإنجازات هذا النموذج من الإنسان لن تقتصر ـ بالطبع ـ علی الوعي والعمل والعلم والإيمان وحسب، بل تتعدَّاها إلی الرغبة في الإصلاح ومحاربة عوامل الجهل في المجتمع، أي دعوة الآخرين للّحاق به في تحقيق مصاديق العلم والإيمان وتزكية النفس. وفي هذا تكمن الغاية التي بُعث من أجلها نبيّنا (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وسائر الأنبياء. فهو الواجب المُلقی علی عاتق الإنسان كي يتَّصل بتعاليم الوحي، أو ـ في أقلِّ تقدير ـ يُدرك أهدافه. وفي كلا الأمرين كمالٌ محقَّقٌ لـه إن حظينا به. لقد كانت المعرفة هي أهمّ أهداف التعاليم الربانيّة، وهي المعرفة بالخالق وحقيقته(39).
لبنات المجتمع المثالي
بما أنّ المجتمع الذي وعد القرآن بإقامته يمثّل أرقی مستويات الوعي الإنسانيّ ومصاديق الفطرة الإنسانيّة، لذا كان من الضرورة أن تتناسب مفاهيمه مع نوعيّة تلك الفطرة ودرجتها. وعليه، من المُفترض أن يجمع أفراُد المجتمع بين عنصرين هما العلم والإيمان، أو الوعي والتقوی.
وليس هذا العلم علم الحسابات الماديّة، بل علمٌ حقيقيّ نابعٌ من شعاع الإلهام الربانيّ؛ ليحلَّ في كلّ وجدان نزيهٍ وفطرةٍ سليمة، فهو علم بصبغة إلهيّة.
________________________________________
(38) المصدر السابق 3: 225ـ 226.
(39) المصدر السابق 19: 225ـ 226.

[الصفحة - 24]


يؤكِّد القرآن الكريم ومن خلال أُولی آياته علی ضرورة طلب العلم والمعرفة، فأوصی بالقراءة، وهي القراءة التي تصبّ في مصلحة العلم والإنسان، لذا قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } ، وليست هي قراءة مطلقة وعلمٌ مشاع، فذاك ليس من الأهداف المنشودة، لا سيّما إذا كان علماً يُحارب قيم الإنسان ويَنقضها ويقضي علی كرامته. فغرض العلم الحقيقيّ هو العـلم الهادف إلی خـدمة البشريّة باسم ربّهأا، أي انطلاقاً من مصدر الربوبيّة الحقّة (40).
ولا نعني بالتقوی هنا عامل الخوف والانفعال الكاذب، بل هي بمعنی الالتزام الواعي بمقرَّرات وحـدود كلّ شيء، فالعـدل أقرب السبـل لتحقيـق التقوی: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } (سورة المائدة: 8)، من ذلك يُفهم ضرورة تطبيق مفهوم التقوی بين أفراد المجتمع في المجالات كافّة.
وستكون التقوی المُصاحبة لما يلزمها من معرفةٍ معياراً في تعيين مستويات الأفراد ومكانتهم: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ } (سورة الحجرات: 13)، وكما قال قائدنا الخامنئيّ: إنّ الله تعالی لا ينظر لطبقات الناس ومكانتهم الاجتماعيّة أو مناصبهم، فهذا ملاك منتفٍ عنده، وملاك الإسلام هو التقوی وحسب، فكلَّما كان الإنسان أكثر تقویً كان أكرم عند الله من غيره. وشعب التقوی هو شعب الفضيلة وهو الشعب الأكرم عند الله. وتلك قاعدة عامّة لا استثناء فيها (41).
نمطيّة المجتمع المثالي
إنّ ما وعد به القرآن من مجتمع للصالحين (42)، هو ذلك الذي يكون أفراده موحّدِين، فيُقيمون علی أساس التوحيد علاقاتهم ببارئهم وذواتهم والطبيعة والآخرين من أبناء جلدتهم:
1 ـ علاقة الإنسان بالله
يتمتّع أفراد المجتمع المثاليّ بإيمانٍ صادق بحقيقة الله الواحدة (43)، وأنّه ـ عزّ وجلّ ـ المبدأ والمُنتهی لكلّ شيء (44)، وهو خالقُ كلّ شيء (45)، وأنّه العالم بكلّ شيء؛
________________________________________
(40) المصدر السابق 13: 448.
(41) المصدر السابق 6: 314.
(42) راجع: سورة الأنبياء: 105؛ و النور: 55.
(43)سورة راجع: الإخلاص: 1.
(44) راجع: سورة البقرة: 156؛ آل عمران: 109؛ فصلت: 21.
(45)سورة راجع: الأنعام: 14 و101؛ يوسف: 101؛ فاطر: 1؛ يس: 22.

[الصفحة - 25]


لأنّه موجود في كلّ مكان (46)، وهو القادر علی كلّ شيء (47)وبيده ملكوت السماوات والأرض(48).
كما أنّهم يؤمنون بأنّه هو الرحمن الرحيم (49)، باسط الرزق (50)، وهو الذي يهدي من يشاء(51)، وهو الذي يريد بهم خيراً وليس بظلام للعبيد (52). فكلّ أوامره تهدف إلی تحقيق سعادة الإنسان.
أمّا نِعَم الخالق التالية لنعمة الإيجاد، فهي جميع مقدّمات الهداية وأسباب التكامل، فأرسل الأنبياء لهداية البشر، وأنزل الكتب السماويّة من أجل إرشاد الإنسان إلی معدن العظمة ومنحه القابليّة علی إدراك الأنوار الربانيّة. كما أنّه وهبه العقل والإدراك، وفضّلهُ علی سائر المخلوقات.
كذلك يُدرك بأنّ الله حكيم (53)، ولم يخلق الكون عبثاً (54)، وإنّما لغاية وهدف معلوم، وليس هو إلاّ العبادة وطلب رضوان الله (55).
لذا سيسعی ذلك الإنسان إلی الابتعاد عن مظاهر الكفر والفسوق (56)، وأن لا ينصاع لمكر الشيطان (57)، كي يقيم علاقته بخالقه علی أفضل نحوٍ مُمكن بالتماس مختلف السبل، ابتداء بالدعاء والتضرّع (58)للباري، وإقامة الشعائر الدينيّة (59)وصولاً إلی التضحية بالنفس في سبيل الله (60).
والخلاصة، أنّ ذلك هـو الإنسان الذي آمـن وعمل صالحـاً (61)، وبذلك شكر الله علی نعـمة الهـداية إلی سـواء السبيل (62)؛ لأنـّه يريد أن يكـون كمـا هي فطـرة الله له (63).
أمّا إذا ضلّ الإنسان طريقه في الوصول لمعرفة خالقه وأُصول دينه، والغاية من خلقه، وطريق فطرته وسعادته، فإنّه سيبقی يسير في الاتِّجاه المعاكس، فيعوّل علی أوهامه، حينئذ سيفتقد الراحة والاستقرار. فإنّ من يجهل حقيقة نفسه ويجهل خالقه سيری في نفسه موجوداً مستقلاً له القدرة علی تحقيق سعادته بما يمتلكه من قدرات ماديّة محدودة. وهذا النمط من التفكير سيجعل الإنسان قابعاً في متاهة يملؤها الرعب
________________________________________
(46) راجع: سورة البقرة: 115؛ الحج: 70 و76؛ فصلت: 54.
(47) راجع: سورة البقرة: 148؛ آل عمران: 26؛ المائدة: 120؛ التحريم: 8.
(48) راجع: سورة المؤمنون: 88؛ يس: 83؛ الزخرف: 85.
(49) راجع: سورة الفاتحة: 1، 3.
(50) راجع: سورة المائدة: 114؛ هود: 6؛ العنكبوت: 60؛ الذاريات: 58.
(51) راجع: سورة يونس: 9و25؛ إبراهيم: 12؛ الحج: 54؛ الزمر: 18.
(52) راجع: سورة آل عمران: 182؛ النساء: 40؛ الانفال: 51.
(53) راجع: سورة البقرة: 32 و260؛ آل عمران: 6؛ النساء: 17؛ الأنعام: 18.
(54) راجع: سورة آل عمران: 191؛ الأنبياء: 16؛ الدخان: 38.
(55)سورة راجع: الحجر: 85؛ الأحقاف: 3؛ الذاريات: 56.
(56)سورة راجع: الحجرات: 7.
(57)سورة راجع: فاطر: 5.
(58) راجع: سورة الاعراف: 180؛ مريم: 48؛ الأنبياء: 90.
(59) راجع: سورة المائدة: 35؛ الحج: 32.
(60) راجع: سورة البقرة: 207؛ التوبة: 111.
(61) راجع: سورة البقرة: 25؛ الأنعام: 48.
(62) راجع: سورة الإنسان: 3.
(63) راجع: سورة البقرة: 138.

[الصفحة - 26]


والخوف من المجهول من جهةٍ، والتمنّي من جهةٍ أُخری. فخوفه نابعٌ من خشية فقدان ثروته الحاليّة، ومكانته ومنصبه الذي يتمتّع به بالفعل. إذن، فهو يقاسي حياةً مريرة مليئة بالاضطراب.
2 ـ علاقة الإنسان مع نفسه
يبقی الإنسان في المجتمع المثاليّ علی بصيرةٍ بأسباب تكامله المنوطة بمدی معرفته ووصوله إلی خالقه، وهو علی علمٍ بأنّ كلّ ما لديه من سمع وبصر وأعضاء هي بمثابة أمانةٍ استودعها الله عنده كي يوظِّفها بما يرضيه، وأنّ جميع تلك الأعضاء والإمكانات ستكون شاهدة ومسؤولة عن كلّ شيء، يوم القيامة (64). من هنا، سيبذل قصاری جهوده في تزكية نفسه وإيصالها إلی برّ السعادة الأبدية (65)، ويجنّبها الدسائس والخطيئة.
3 ـ علاقة الإنسان بالكون
سيكون إنسان المجتمع المثاليّ علی بيّنة بنعمةِ الله البالغة في خلق السماوات والأرض وتسخيرهما في خدمته (66)، وأنّه خليفة الله في الأرض (67)، كما أنّ عليه استعمارها وتطويرها (68). إذن، يقع علی عاتق هذا الخليفة الأمين الإصلاح في الأرض ومحاربة الفساد وإحقاق الحقّ (69)، ومن خلال ملاك العدالة سيوفِّي كلّ شيء استحقاقه. كما أنّه يعلم علم اليقين بأنّ هذه الدنيا متاعها قليل زائل (70)كزوال زهرة الحياة الدنيا (71)، فلن تغرّه بمفاتنها (72)، فليست هذه الحياة إلاّ مقدِّمةً لحياة الآخرة، لذا فهو يسعی إلی تحقيق حياةٍ طيّبة في شتّى المجالات (73).
أمّا أُولئك الذين اقتصرت مآربهم علی أُمور الدنيا، فينسون ذكر الله، ويُبيحون لأنفسهم صنع أيّ شيء من المحرَّمات بُغية تحصيل ملذَّاتهم، فيسوّغون السرقة والربا واستباحة أموال الآخرين وقتلهم، الأمر الذي سيسلب أمان المجتمع فتعمّ الفوضی فيه.
إنّ من لم يدرك معنی الحياة علی حقيقتها ستنضوي أهدافه تحت مقولاتها الزائلة، كما أنّه سيتّخذ من الدِّين وسيلةً في تجنّب المخاطر المحدِقة به وحسب، دون
________________________________________
(64) راجع: سورة الإسراء: 36.
(65) راجع: سورة الشمس: 9.
(66) راجع: سورة البقرة: 29.
(67) راجع: سورة البقرة: 30.
(68) راجع: سورة هود: 61.
(69) راجع: سورة الاعراف: 85 و142.
(70) راجع: سورة النساء: 77؛ التوبة: 38.
(71)سورة راجع: طه: 131.
(72) راجع: سورة لقمان: 33؛ فاطر: 5.
(73) راجع: سورة النحل: 97.

[الصفحة - 27]


أن يلتزم بتعاليمه وأوامره، فلن يطبع قادة المجتمع التوحيديّ، الأمر الذي قد يصل به إلی الوقوف إلی جانب الأعداء ظنّاً منه في نيل العزّة والرفعة تحت لوائهم.
إنّ هذا النمط من الأفراد سيكون ذا سلوك ازدواجيّ طالما ظلّ منتمياً بالزيف إلی مجتمع التوحيد.
نعم، علينا أن لا نتجاهل في هذا السياق إيجابيّة الحياة، وكما يقول عارفنا: إنّ حُجُب الظلمات لتستحوذ علی بصيرة الإنسان إذا ما غرق في ملذات الدنيا. وإنّها تستحيل إلی حُجُب نورٍ لو أنّه اتّخذ الدنيا وسيلةً للوصول إلی الحقّ والآخرة. فإنّ كمال الانقطاع حاصلٌ في تبدد حُجُب الظلمات والنور معاً، كي نرد معدن العظمة الإلهية. وليس حبُّ الدنيا إلاّ مصدراً للشقاء والهلاك وعاملاً في الذنب والخطيئة، وهو الحبُّ الناتج عن حبّ الأنا والذات.
لكنّ عالم الملك ليس مذموماً في جميع الأحوال، بل هو مظهر للحق والربوبيّة، ومهبط للوحي، ومسجد وبيت للأنبياء والأولياء(عليهم ‏السلام)، كما أنّه معبد الصالحين والأتقياء، فإن كان تعلّقنا وحبّنا للدنيا نابعاً من حبِّ عبادة الله والتقرّب إليه بوصفها وسيلة لنيل ذلك، فهو مقبول وموجب للكمال أيضاً. لكنّه سيكون مذموماً لو اتَّصل بحب الأنا، وكان منشأ للرذيلة والخطيئة، فإنّ شغف القلب بغير صاحبه نفي لـه. إنّ جميع المعاصي والجرائم تصدر عن الاستغراق في حبِّ الذات؛ أي حبِّ الدنيا والمنصب وسائر زخارفها.
إنّ ما يحجبنا من حُجُب الظلمات والنور عن معشوقنا الفطري لهي ظُلمات فوق ظلمات مُطبَقة، ونحن لا نزال في عتمة الحُجُب المظلمة قابعين ولم ندرك حُجُب النور، أمّا من يردد:
«هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتی تخرق أبصار القلوب حُجُب النور فتصل إلی معدن العظمة»، فقد جازَ مرحلة الحُجُب المُظلمة.
لقد سقط الشيطان في غاية العتمة عندما عصی أمر ربه، وبقوله: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ } (سور الأعراف: 12؛ وسورة ص: 76)، فهذا استغراق لحبِّ الأنا
________________________________________

[الصفحة - 28]


والذات الشريرة، ولهذا طُرد من ساحة الجلالة. وكذلك نحن البشر قد نكون شياطين مطرودين من رحمة الله إن أوغلنا في حبِّ الأنا والشهوات، فهذا هو أعتی الأصنام وما أصعب كسره!» (74).
إنّ ما يضمن نجاة الإنسان وتحقيق سعادته هو التورّع عن بهارج الدنيا الزائلة، والمواظبة علی ذكر الله (75).
4 ـ علاقة الإنسان بالآخرين
لا بّد أن يتحقق إيمانٌ في قرارة نفس الإنسان بأنّ تطوّر وتنمية قابليّات المجتمع المثالي تبقی منوطةً بالتآلف والحياة الجماعيّة بين أفراده، والاستفادة من ذلك علی مختلف الأصعدة بما يوفّر من أجواء صحيّة ومستقرّة. وفي مثل هذه الأجواء يتمتّع سائر الأفراد بفرصٍ متساوية لإظهار قابليّاتهم وتطويرها في ظلِّ عيشٍ كريمٍ وحياةٍ سعيدة يسودها التعاون المُتبادل، أي إنّهم أُمّة واحدة.
الأُسس التي تحكم العلاقات الاجتماعية
أـ قانون المساواة ونفي التمييز
يتّبع أفراد المجتمع المثاليّ قانوناً واحداً هو قانون الله، القانون المبنيّ علی أساس العدالة الإلهيّة. فالكلّ خاضع له دون أدنی تمييز بين الأفراد والجماعات. ومع أنّ النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) كان عربيّاً، إلاّ أنَّنا نسمعه يردِّد: «ألا لا فضل لعربيّ علی عجميّ، ولا لعجميّ علی عربيّ.... إلاّ بالتقوی..» (76).
إذن، لا حكم إلاّ بحكم الله، فالرسول مطبِّق للأحكام الإلهيّة، وكذلك الإمام، وكذلك الدولة الإسلاميّة. ففي الإسلام يتساوی الجميع إزاء القانون، فحتّی الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) ـ علی علوّ شأنه ـ لا امتياز لـه أمام القانون العام، ولا بّد من تطبيق أحكام القرآن والإسلام علی عامّة الناس دون تفضيلٍ بينهم، وإنّما الشرف والفضل متأتٍّ من العمل بالقانون، وهو قانون التقوی (77).
________________________________________
(74) راجع: صحيفه إمام 16: 213ـ 214.
(75) المصدر السابق18: 510ـ 511.
(76) الطباطبائي ، تفسير الميزان 18 :234؛ مسند أحمد بن حنبل 5: 411، ط. دار صادر ـ بيروت.
(77) المصدر السابق9: 425ـ426؛ و10: 291ـ 292.

[الصفحة - 29]


ب ـ وشائج الأُخوّة
إنّ في تطبيق مبدأ المساواة تحققاً للأُلفة والعلاقات الأخويّة بين أفراد المجتمع (78)، وهذا يعني شيوع السجايا الطيّبة كالإنفاق والإيثار (79)، والتعاون علی البرِّ والتقوی (80)، كلّ ذلك يوفّر أجواء صميميّة وعلاقات سليمة علی الأصعدة العائليّة والاقتصاديّة والثقافيّة والسياسيّة. فهنا علاقات الإنسان مبتنيَة علی أساس العدالة (81)والإحسان (82)، وهو الذي سيسعی بحثيثِ الخطی في الحفاظ علی المجتمع وصيانته من الانحراف بجميع الإمكانات عملاً بواجبه الرقابيّ علی المجتمع (83).
5 ـ العلاقات السياسيّة ونمطيّة الحكم
لا بدّ للاعتقاد بالتوحيد أن يُلقي بظلاله علی العلاقات والممارسات السياسيّة، حيث قال عزّ وجلّ:{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى } (سورة سبأ: 46). إذن، فالمعيار في أوّل الطريق هو القيام لله والتقرّب إليه في الأعمال الفرديّة والأنشطة الاجتماعيّة.
فلا عزلة المتصوّفة دليلٌ علی الاتِّصال بالله، ولا النزول للسّاحة وتأسيس القانون والدولة دليل علی الابتعاد عن الله، فالملاك في نوعيّة الدافع نحو العمل، فقد يكون هناك زاهدٌ متعبِّدٌ أغواه الشيطان فأوغل في حبِّ الأنا والغرور بالنفس وتحقير ما سواها من عبيد الله الآخرين بما يُعدُّ شركاً خفيّاً، حتّی ابتعد بذلك عن رضا الله. بينما قد نری قائداً سياسيّاً جاء بدافع الرضا الإلهيّ فاقترب إلی معدن العظمة، أمثال الأنبياء كداود وسليمان، وأعلی منهم رتبة نبيّنا الأكرم (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، وخليفته بالحقّ عليّ بن أبي طالب (عليه ‏السلام)، أو الإمام المهدي ـ أرواحنا لمقدَمه الفداء ـ في عصر حكومته العالميّة. إذن، فالحكم بين العرفان والنكران هو الدافع والنيّة، فكلَّما كان الدافع أقرب لنور الفطرة ومتجاوزاً للحُجُب حتّی النورانيّة منها، فهو أكثر التصاقاً بمبدأ النور، بينما قد يكون التعلّق بالعرض ضرباً من الكفر (84).
يسلّم الأفراد في المجتمع المثالي بحاكميّة الله المطلقة (85)، وهم يتَّبعون أولياءه (86)ابتغاء مرضاته (87)، ويجاهدون للدفاع عن الدولة الحقّة (88)، وهم لا يوادّون من حادّ الله
________________________________________
(78) راجع: سورة الحجرات:10.
(79) راجع: سورة البقرة:3؛ آل عمران: 17 و92 و134؛ الحج:35؛ الحشر:9.
(80) راجع: سورة المائدة:2.
(81) راجع: سورة المائدة: 8.
(82) راجع: سورة البقرة: 195؛ يونس: 26.
(83) راجع: سورة آل عمران: 104و 110؛ التوبة: 71؛ الحج:41.
(84) صحيفة الإمام الخميني 18: 512.
(85) راجع: سورة آل عمران: 26؛ الملك:1.
(86) راجع: سورة آل عمران:31؛ النور:54.
(87) راجع: سورة النساء:13 و80؛ الأنفال: 1؛ التوبة:71؛ الأحزاب:71.
(88) راجع: سورة البقرة:218؛ النساء:95؛ الأعراف: 157؛ الأنفال: 72، التوبة:88؛ الحجرات:15.

[الصفحة - 30]


ورسوله (89)، بل يقاتلونهم حتّی لا تكونَ فتنةٌ ويكون الدِّين لله فقط (90).
كما لا بدّ لقيادة المجتمع المثاليّ أن تنضوي تحت مفهوم التوحيد، إذ يجب أن يكون قائد المجتمع أميناً صالحاً (91)، لا يظلم أحداً حقّه (92)، هدفه القضاء علی مظاهر الشرك، ونشر معارف التوحيد في المجتمع (93).
ولا بدّ لهذا النوع من القادة أن يكون أهلاً لتزعّم منصب الولاية (94)، وهو ذلك الشخص الأكرم بين أفراد المجتمع، فالرسول كان أكرم الناس؛ لأنّه أتقاهم، وكذا الإمام عليّ (عليه ‏السلام) (95).
ثمّة عاملان في تحقيق النصر:
الأوّل:الإيمان الراسخ.
والثاني:وحدة الكلمة.
فمدخليّة الإيمان تنبع من كون الإنسان موجوداً معنويّاً، وليس ماديّاً بحتاً، كما تصوّره البعض حيواناً كسائر الحيوانات الأُخر، بل للإنسان روح مقدّسةٌ ومجرَّدة بإمكانها أن تكون النفس الطاهرة والزكيّة والسعيدة لو أفنت أوقاتها في خدمة الإسلام، وهي حينئذ سعيدةٌ في كلّ الأحوال، في الفرج والضيق، والربح والخسارة، كما أنّها تسعد بالموت أيضاً، فموت الإنسان الصالح بداية لحياته الإنسانيّة، فهذه الحياة موطن الحيوانيّة، وهي حياة محدودة الأبعاد. أمّا الحياة المطلقة فهي بالعالم اللامحدود. فمن يعمل وفق قوانين القرآن، ويزكّي نفسه، فلن يخشی شيئاً آخر بعد ذلك، وموته من أسهل الأُمور، ولهذا يقول الإمام عليّ (عليه ‏السلام) أنّه يأنس بالموت كأُنس الطفل بمحالب أُمّه؛ ذلك لأنّه أدرك معنی الحياة الحقيقيّة، وما سيعقبها في العالم الآخر، فأدرك معنی الموت علی حقيقته. ووفقاً لهذه المدرسة يكون الشهداء أحياءٌ عند ربِّهم يرزقون، فالشهادة لحظة خاطفةٌ جزاؤها السعادة الأبديّة (96).
شموليّة المجتمع المثاليّ
يذهب بعض مفكِّري الإسلام إلی إمكانيّة تحقّق المجتمع المثاليّ وتوحيده في شتّی أنحاء العالم، حتّی وإن سلّمنا بانتفاء روح جماعيّة مستقلّة عن الأفراد؛ لأنّ
________________________________________
(89) راجع: سورة المجادلة:22.
(90) راجع: سورة البقرة: 193؛ المائدة: 54؛ الأنفال:39؛ التوبة:73، التحريم:9.
(91) راجع: سورة الأعراف:68؛ الأنبياء:105؛ الشعراء:178 و179؛ فصلت:33؛ التحريم:4.
(92) راجع: سورة البقرة: 124.
(93) راجع: سورة طه: 33ـ 34.
(94) راجع: سورة المائدة: 55و 56؛ الأنفال: 72؛ الأحزاب:6؛ الأنبياء: 73.
(95) صحيفة الإمام الخميني 6: 314.
(96) المصدر السابق: 310 ـ311.

[الصفحة - 31]


الإنسان يبقی ماهيّة واحدة ومشتركة بين سائر الأفراد... وليس ثمّة تناقض بين الخصائص الفرديّة عند الإنسان والقوانين البايولوجيّة أو السايكلوجيّة والاجتماعيّة المُشتركة بين عامّة الناس... فبإمكان نقاط الاشتراك هذه أن تكون نواةً لتأسيس نظام قيميّ موحد بينهم (97).
فعلی الرغم من وجود صفاتٍ خاصّة لبعض المجتمعات، تبقی هناك إمكانيّة في توحيد الإيديولوجيا الاجتماعيّة بين سائر المجتمعات، إذ إنّ الاختلاف الحاصل بين تلك المجتمعات نابعٌ من مؤثِّرات فرديّة (98). وبهذا لا القول بمجيء مجتمع موحّد يكون أمراً مستحيلاً، ولا السعي وراء خلق تلك الفرصة عملاً عبثيّاً (99).
ولو أنّ المجتمعات اختلفت في حقيقتها لاختلفت تبعاً لذلك المّميزات والقابليّات، ولاستحالت فكرة الإيديولوجيا الموحَّدة (100).
وعليه، ستصعب المقارنة بين الثقافات والأنظمة القيميّة وصقلها في قالبٍ واحدٍ يقدّم لنا المجتمع المثاليّ العالميّ (101).
وقد نصّت جملة من الآيات القرآنية علی وجود تشابهٍ بين المجتمعات في أنظمتها وقوانينها نظير الآيات القائلة بتوالي بعض الأديان علی أكثر من أُمّة: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا... } (سورة الشوری:13).
فلو كان هناك تعدّد في ماهيّة مجتمعٍ عن آخر، لتعدّدت أيضاً سبل تحقيق الكمالات بينها، ولتباينت تبعاً لذلك الديانات في جوهرها (102).
كما هنالك آيات دعتنا للنظر في أعمال الأُمم السابقة والاتِّعاظ بها: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ } (سورة الأنعام:11)، ومعلوم أنّ الاتعاظ بعمل المجتمعات السابقة وتطبيق وقائعها لن يكون أمراً مُمكنا لو كانت تلك الأحداث وقائع تاريخيّة مختصّة بزمنها ومجتمعها وحسب (103).
________________________________________
(97) محمد تقي مصباح اليزدي، جامعة وتاريخ أز ديدگاه قرآن (المجتمع والتاريخ من وجهة نظر القرآن): 147 و148، ط.الثانية، مركز الطباعة والنشر في مؤسسة الإعلام الإسلامي 1372?.ش.
(98) الشهيد مطهري، المجتمع والتاريخ: 51 ـ 52، مصدر سابق.
(99) المجتمع والتاريخ من وجهة نظر القرآن، مصدر سابق: 149.
(100) المجتمع والتاريخ، مصدر سابق: 52.
(101) راجع: المجتمع والتاريخ من وجهة نظر القرآن ، مصدر سابق: 146 ـ 147.
(102) المجتمع والتاريخ، مصدر سابق: 55.
(103) المجتمع والتاريخ من وجهة نظر القرآن، مصدر سابق: 150.

[الصفحة - 32]


من أجل مجتمع مثاليّ
لا بدّ ونحن في صدد التفكير في إنشاء المدينة الفاضلة أن نصغي لكلام الله في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (سورة آل عمران:200) (104). «حيث إنّ المسؤولية تثبت علی عاتق الإنسان بعد تحقّق الإيمان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } فتنشأ الصعاب والابتلاءات، فيأتي دور الصبر في تحمّلها، فالصبر {اصْبِرُواْ } هو عمل إيمانيّ بأوامر الله ورسوله.
وعلينا أن نؤسِّس من هذا الصبر الفرديّ صبراً جماعيّاً {وَصَابِرُواْ } يعزّز القدرات ويقوّي العزائم. كما أنّ قولـه: {وَرَابِطُواْ } هو دعوة إلی تدعيم العلاقات الاجتماعيّة، والمرابطة علی الأوامر العباديّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة من أجل بناء مجتمعٍ توحيديّ واحدٍ مُفعمٍ بالتعاون والتآخي وتأسيس مختلف العلاقات، نظير العلاقة بالله وخلقه والكون، أو العلاقة في رصّ الصفوف في العبادة والجهاد، وكذلك العلاقة مع الإمام والقائد، كما ورد في بعض الروايات.
فعلی العلاقات الوطيدة المُستحكمة يؤسَّس المجتمع المُتماسك في مكوّناته، وهي تلك العلاقة الموزَّعة بين ماديّة وتشريعيّة حسب النظرة الإسلاميّة. فليس الدين إلاّ علاقة مقامة بين الفرد والخالق والخلق والكون، وأنّ اللادين هو انقطاع عن ذلك كلّه.
كما أنّ تلك النقاط الثلاث تدوم وتستحكم علی أساس التقوی: {وَاتَّقُواْ اللّهَ } ، فالتقوی هي الرقيب المُحافظ علی تلك العلاقات، حتّی تجتمع تلك العوامل لتكون المرشد إلی سبيل الرشاد والفلاح، والخلاص من مطبّات الدنيا العصيبة {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } » (105).
يجدر بنا في هذا المقام التنبه إلی « أنّ معنی المرابطة هنا أعمّ من المصابرة؛ حيث إنّ المصابرة عبارة عن استمراريّة قدرة أفراد المجتمع علی المقاومة في قبال الشدائد والصعاب، بينما يتجاوز معنی المرابطة هذا إلی مقاومة جميع أنواع المعاناة
________________________________________
(104) راجع: سيد محمود الطالقاني، پرتوي أز قرآن (قبس من القرآن)5: 448، الشركة العامة للنشر ـ طهران 1358 ـ 1366 ?.ش.
(105) المصدر السابق5: 464.

[الصفحة - 33]


الأُخری، وعلی شتّی الأصعدة ومختلف مجالات الحياة الدينيّة، سواء في حالة الشدّة أو في حالة الرخاء؛ حيث إنّ هدف المرابطة هو تحقيق سعادة المجتمع الحقيقيّة في الدنيا والآخرة. وكأنّ صبري وصبرك أو علمي وعلمك وأيّ فضيلة كانت، ليس بإمكانها تحقيق السعادة المنشودة بمفردها، وإن حقّقت جانباً منها» (106).
* * *
________________________________________
(106) ترجمة تفسير الميزان 4: 144.

[الصفحة - 34]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف