البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

حريّة الاعتقاد بين النصّ القرآني وأقوال المفسّرين

الباحث :  عبير عقيل
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  56
السنة :  السنة الرابعة عشر شتاء 1431هجـ 2010 م
تاريخ إضافة البحث :  June / 9 / 2015
عدد زيارات البحث :  1992

حريّة الاعتقاد بين النصّ القرآني وأقوال المفسّرين

عبير عقيل (*)

تمهيد
من المسائل المهمَّة التي شغَلت المفسِّرين والأصوليين قديماً وجديداً مسألة النسخ. وهي من الموضوعات المهمّة التي يُبحث عنها في علوم القرآن وعلم التفسير، وذلك نظراً لما للاعتقاد بالنسخ سلباً أو إيجاباً من تأثيرٍ على آراء الفقهاء والمفسّرين.
والنسخ في الاصطلاح هو : «رفع أمرٍ ثابتٍ في الشريعة المقدَّسة بارتفاع أمَده وزمانه، سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفيَّة أم الوضعيّة، وسواء أكان من المناصب الإلهيَّة أم من غيرها من الأمور التي ترجع إلى الله تعالى بما أنَّه شارع» (1) .
وما يهمُّنا هنا هو ملاحظة شروط النسخ. وذلك من خلال ملاحظة الآراء التي تبنّاها علماء الإسلام في هذا المجال، ويُمكننا تلخيص هذه الشروط الأساسيَّة والرئيسيَّة في تحقّق النسخ بالتالي:
1ـ وجود دليلٍ معتبَرٍ على ثبوت الحكم المنسوخ، وإبطاله بالدليل الجديد.
2ـ كما يُعتبر في المنسوخ أن يكون دليلا شرعيّاً فكذلك الحال في الناسخ.
________________________________________
(*) باحثة جامعية، من لبنان.
(1) الخوئي، السيد أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، ص 288.

[الصفحة - 26]


3ـ لا بدَّ وأن يتأخَّر الدليل الناسخ عن الدليل المنسوخ.
4ـ أن لا يكون الحكم المنسوخ مؤقَّتاً بزمانٍ خاص.
5ـ لا بدَّ من وحدة الموضوع في الناسخ والمنسوخ، وأن لا يكون بينهما تنافياً بلحاظ الحكم بشكل عام (2) .
ويتبنّى السيَّد الخوئي هذه الشروط، ولكنّه يُضيف إليها شرطين آخرين هما:
الشرط الأوّل: أن يَقع النسخ على حكمٍ يكون ظاهراً في الدوام بمقتضى إطلاقه، وأمَّا الحكم المؤقَّت أو الحكم المؤبَّد بالنصِّ، فإنَّه لا يَقبل النسخ إطلاقاً؛ لأنَّ الدليل الذي يُبيّن زمان اعتبار الحكم وانتهاء أمده هو عرفاً من القرائن المبيّنة للمراد، وانتهاء أمَد مثل هذا الحكم لا يكون نسخاً على الإطلاق (3) .
الشرط الثاني: أن يكون الحكم ثابتاً في القرآن الكريم، فيُنسخ بآيةٍ أُخرى ناظرةٍ إلى الآية المنسوخة ومبيِّنةٍ لحكمها.
إذاً شروط النسخ سبعة، وبعض هذه الشروط له أهميّة خاصّة في بحثنا هذا ـ كما سوف يتبيّن لاحقاً ـ ولكننا قبل الدخول في دعوى النسخ في قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } (البقرة، 256)، لا بدَّ لنا من التعرَّض لمفاد هذه الآية.
أ ـ مفاد آية نفي الإكراه في الدين
قال تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ }
والإكراه في اللغة (4) والاصطلاح (5) هو الإلجاء إلى القيام بعمل على وجه الإجبار. والمراد من الإكراه في الآية مقابل الطوع والطواعية، وليس المراد منه ما يقابل الرضا، لقوله تعالى : { طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } (التوبة، 52).
سبب النزول
تعرَّضت التفاسير لأسباب مختلفة لنزول الآية الكريمة من ذلك:
1ـ ابن اسحاق وابن جرير عن ابن عباس أنّه قال: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له: (أبو الحصين)، كان له ابنان تنصّرا
________________________________________
(2) كربلائي بازدكي، علي، نسخ أز نكاه تحقيق، فصلية بيّنات، السنة الثامنة، العدد 29، ص 76، وزين العابدين السيد سلام، ظاهرة النسخ في القرآن، الشروط، الأهداف، الدروس، مجلة رسالة القرآن، 1372، العدد 12، ص 17 و 18.
(3) الخوئي، السيّد أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، ص 288.
(4) الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين، ج1، ص251.
(5) القونوي، قاسم بن أمير علي، أنيس الفقهاء في تعريفات الألفاظ المتداولة بين الفقهاء، ج1 ، ص 99، وراجع أيضاً، الجعفري اللنكرودي، محمَّد جعفر، ترمينولوجي حقوق، ص 73، انتشارات بنيادان، 1363.

[الصفحة - 27]


وكان هو مسلما. فقال للنبي (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم): ألا أستكرههما فإنَّهما قد أبيا إلا النصرانيّة ؟ فنزلت الآية (6) .
2ـ عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنَّ هذه الآية نزلت في بعض الأنصار الذين كانوا من اليهود فأكرههم آباؤهم على الإسلام (7) .
3ـ كانت المرأة من الأنصار لا يَعيش لها ولد فتحلِف لئن عاش لها ولد لتهوِّدنَّه، فلما أُجليت بنو النضير إذا فيهم ناس من أبناء الأنصار ، فقالت الأنصار : يا رسول الله أبناؤنا ! فأنزل الله : (لا إكراه في الدِّين) (8) .
4ـ عن مجاهد: إنَّ الآية نزلت في رجلٍ من الأنصار كان له عبد أسود يُقال له صبيح أراد إكراهه على الإسلام (9) .
5ـ نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يُقال له الحصيني كان له ابنان نصرانيان وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألا أستكرههما فإنَّهما قد أبيا إلا النصرانيَّة فأنزل الله فيه لا إكراه في الدين (10) .
6ـ عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال : كانت النضير أرضعت رجالا من الأوس ، فلما أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بإجلائهم ، قال أبناؤهم من الأوس: لنذهبَّن معهم ولندينَّن دينهم، فمنعهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام ، ففيهم نزلت هذه الآية لا إكراه في الدِّين(11) .
كما وردت أسبابٌ أُخرى لنزول هذه الآية في التفاسير والروايات، ونقتصر على ما ذكرناه حذرا من الإطالة. ولكن ما تجدر الإشارة إليه هنا هو أنَّ كافَّة أسباب النزول هذه تتَّفِق على حريَّة الاعتقاد ونفي الإكراه في الدِّين.
ب ـ رأي المفسّرين في تفسير الآية
تعدَّدت آراء المفسّرين في تحديد المراد من هذه الآية، ولعلَّ مجموع آرائهم يصل إلى ثلاثة وعشرين رأياً في هذا المجال، ونقتصر هنا على الإشارة إلى الآراء التي لها ارتباط ببحثنا:
________________________________________
(6) الطبري، ، محمد بن جرير، جامع البيان في تفسير القرآن: 3 : 10؛ ابن ابي حاتم، تفسير القرآن العظيم: 2 : 493.
(7) الطبري، ، محمد بن جرير، جامع البيان في تفسير القرآن: 3 : 10.
(8) الجصاص، أحمد بن علي، أحكام القرآن: 2: 169.
(9) ابوالفتوح رازى ، حسين بن على ؛ روض الجنان و روح الجنان فى تفسيرالقرآن‏ ؛ 3/413 ؛ ابن جوزى ، عبدالرحمن بن على؛ زاد المسير فى علم التفسير؛ 1/ 230 .
(10) ابن كثير ، اسماعيل بن عمرو ؛ تفسير القرآن العظيم ؛ 1 / 522 .
(11) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن: 2: 347.

[الصفحة - 28]


1ـ إنَّ هذه الآية تتعلَّق بالأشخاص الذين نزلت فيهم الآية، أي ما كان بسبب النذر أو الرضاع ونحو ذلك، ممَّن لم يُسلم، ومنع النبيّ (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) أقاربهم من إجبارهم على الإسلام(12) .
2ـ عن الحسن وقتادة إنَّ هذه الآية نزلت في أهل الكتاب فهي خاصَّة بمن له البقاء على دينه على أن يدفع الجزية (13) .
3ـ عن السدّي وابن زيد إنَّ هذه الآية منسوخة بآيات القتال نحو : {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}و (التوبة، 5)، {فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (محمد، 4) وهو من الأقوال التي ذكرها الشيخ الطوسيّ في تفسيره (14) .
4ـ المراد أنَّه لا إكراه في الدّين ولا إجبار، بل العبد مخيّر في ذلك؛ لأنَّ الدّين هو في حقيقته عبارة عن التصديق القلبيّ بالمعتقَدات. وأمَّا ما يتحقَّق الإكراه عليه من النُطق بالشهادتين فهذا ليس هو الدِّين الحقيقيّ. كما هو الحال فيما لو أُجبِرَ أحدٌ على الكفر، فإنَّه لا يُصبح كافر (15) .
5ـ ذكر بعض المفسِّرين: إنّ المراد من هذه الآية أنَّه لا يكون دين الله بالإجبار والإكراه، بل بالتمكين والاختيار، ليتحقَّق بذلك الابتلاء ويكون معنى للامتحان (16) .
6ـ إنَّ هذه الآية نزلت في أسرى أهل الكتاب، فإنّهم لا يُجبَرون على الإسلام إذا بلغوا، ولكن لو كانوا مجوساً (صغاراً كانوا أم كبارا) أو كانوا من عبَدة الأصنام فإنِّهم يُجبرون على ذلك، وذلك لعدم حِلِّ ذبائحهم، وعدم جواز الاستمتاع بنسائهم. ولذا تختصُّ آية نفي الإكراه بغير الموردين الأخيرين، فإنَّ الإكراه في الأخيرين يَصحُّ (17) .
7ـ المراد من الدِّين في هذه الآية العقيدة والمذهب، ويرى (زيد بن أسلم) أنَّ هذه الآية مكيَّة وهي من آيات المُوادعة المنسوخة بآية السيف (18) .
8ـ يذكر (الملا محسن الفيض الكاشاني) أنَّ المراد من هذه الآية لا إكراه
________________________________________
(12) الطبري، محمد بن جيرير، جامع البيان: 3 : 12.
(13) المصدر نفسه.
(14) الطوسي، محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، 2 : 311.
(15) م . ن .
(16) زمخشرى ، محمود ؛ الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل‏؛ 1 / 303 و فخرالدين رازى ، محمد بن عمر ؛ محمد بن عمر؛ مفاتيح الغيب ؛ 7 / 15 و راوندى، قطب الدين سعيد بن هبة الله ؛ فقه القرآن فى شرح آيات الأحكام ، 1 / 345 . كاشانى ، محمد بن مرتضى ؛ تفسير المعين ، 1/127 .
(17) قرطبی ، محمد بن احمد ؛ الجامع لاحکام القرآن ؛ 3 / 281 .
(18) الثعالبي، عبد الرحمن بن محمد، جواهر الحسان في تفسير القرآن: 1 : 504.

[الصفحة - 29]


في التشيّع (19) . فهو إخبار في معنى النهي من دون تخصيص. وهذا الرأي منه يَعتمد على الرواية التي رواها عن ابن أبي يعفور (20) من أنَّ الدّين هو بمعنى التشيّع، ولذا يقوم بتأويل الآية بتمامها في ولاية الأئمَّة من أهل البيت(عليهم ‏السلام). إذاً النهي هو نفيٌ إخباريٌ بمعنى النهي ولا تخصيص للآية أو نسخ (21) .
9ـ يذكر صاحب تفسير فتح القدير إنّ هذه الآية تشمل أهل الكتاب؛ وذلك لأنَّ: «أهل الكتاب لا يُكرهون على الإسلام إذا اختاروا البقاء على دينهم وأدّوا الجزية. وأمَّا أهل الحرب فالآية وإن كانت تعمّهم؛ لأنَّ النكرة في سياق النفي وتعريف الدّين يُفيدان ذلك، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لكن قد خُصَّ هذا العموم بما ورد من آياتٍ في إكراه أهل الحرب من الكفَّار على الإسلام» (22) .
10ـ إنَّ هذه الآية نزلت بعد آيات الجهاد، ومن غير المعلوم نزولها قبل آيات الجهاد. وحيث كانت الاعتقادات القلبيّة ممَّا لا تقبل الإكراه، فهي لا تقبل نفي الإكراه أيضاً، ولذا فإنَّ ظاهر قوله في الدِّين وعدم استخدام على الدِّين، هو نفس الدِّين ومجموع أصول العقيدة والأحكام حيث نَفت الآية الإكراه فيها، وهي منصرفةٌ عن آيات وأحكام الجهاد. فإنَّ الهدف الصريح من آيات الجهاد أيضاً رفع الإكراه على العقيـدة المخـالفة والفتنة والظلم، وإقامة الحـقِّ والعـدل، لا الإكراه على قبـول العقيدة: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة، 193)، كما يشهد التاريخ على أنّه في بداية الدعوة إلى الإسلام كان المشركون يُكرهون الناس على الدين (23) .
11ـ إنَّ نفي الإكراه في الدّين هنا هو بمعنى النهي، أي المراد نفي أسباب ووسائل الإكراه في الإسلام. ومن البعيد أن تكون هذه الآية قد نَزَلت قبل آيات القتال، وذلك لأنَّ الظاهر أنَّها نزلت بعد فتح مكَّة ـ بحسب الظاهر ـ وتحرّر مُدن العرب. ولهذه العلَّة نُسخ الحكم بقتال الكفَّار على قبول الإسلام، واكتفي بدخول الكفّار تحت سلطة الإسلام، والذين عُرفوا بأهل الذمّة. ويَعتقد صاحب (التحرير
________________________________________
(19) فيض کاشانی ، ملا محسن ؛ تفسیر اصفی، 1/ 121 .
(20) الفيض کاشانی ، ملا محسن ؛ تفسير صافی ، 1 / 284 .
(21) الفيض کاشانی ، ملا محسن ؛ تفسير اصفی، 1/ 121 .
(22) الشوكانى ، محمد بن على ؛ فتح القدير ، 1 / 316 .
(23) الطالقانی ، محمود ، پرتوى از قران ؛ 2 / 205 .

[الصفحة - 30]


والتنوير) أنَّ هذه الآية الشريفة هي التي نَسخت آيات الجهاد الابتدائيّ، وحديث الرسول: «أُمرت أن أُقاتل الناس حتَّى يقولوا لا إله إلا الله»، فحريَّة العقيدة في الإسلام أمرٌ ثابت (24) .
12ـ إنَّ الدّين وهو سلسلة من المعارف العلميّة التي تتَّبِعها أُخرى عمليَّة يجمعها أنَّها اعتقادات، والاعتقاد والإيمان من الأمور القلبيَّة التي لا يُحكّم فيها الإكراه والإجبار، فإنَّ الإكراه إنَّما يؤثِّر في الأعمال الظاهريَّة والأفعال والحركات البدنيَّة الماديَّة، وأمَّا الاعتقاد القلبيّ فله عللٌ وأسباب أُخرى قلبيَّة من سنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المُحال أن يُنتِجَ الجهل علماً، أو تولِّد المقدِّمات غير العلميَّة تصديقاً علمياً، فقوله: لا إكراه في الدِّين، إن كان قضيَّة إخباريَّةً حاكيةً عن حال التكوين أنتجَ حُكماً دينيَّاً بنفي الإكراه على الدِّين والاعتقاد، وإن كان حكماً إنشائيّاً تشريعيّاً كما يَشهد به ما عقَّبه تعالى من قوله: قد تبيَّن الرشد من الغيّ، كان نهياً عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرهاً، وهو نهي متكٍ على حقيقة تكوينيّة، وهي التي مرَّ بيانها أنَّ الإكراه إنَّما يَعمل ويؤثِّر في مرحلة الأفعال البدنيَّة دون الاعتقادات القلبيّة (25) .
13ـ إنَّ هذه الآية هي من أوضح الأدلَّة على بطلان مدّعى من يقول بأنَّ الدّين قد انتشر بالسيف، وذلك لأنَّ المسلمين قبل الهجرة لم يمتلكوا القدرة على مواجهة الكفار أو إكراههم، كما أنَّهم بعد أن أصبحوا أعزَّاء وأقوياء في المدينة، فإنِّهم لم يُكرهوا أحداً على قبول الإسلام، كما هو الحال لدى المذاهب الأخرى. وهذه الآية نزلت في أوائل السنة الرابعة للهجرة، أي عندما كان المسلمون في أوج عزّتهم وقوّتهم (26) .
مناقشة الأقوال
لا بدَّ لنا من تسجيل بعض الملاحظات على آراء بعض المفسّرين، وهي الآراء التي لا تخلو من نظر:
________________________________________
(24) ابن عاشور، محمد بن طاهر؛ التحرير والتنوير؛ 2 / 501 499 .
(25) الطباطبائی ، محمد حسين ؛ الميزان فی تفسير القرآن ، 2 / 524 .
(26) الزحيلی ، وهبه ؛ التفسير المنير فى العقيدة والشريعة والمنهج‏ ، 3 / 22 .

[الصفحة - 31]


1ـ آراء المتقدّمين: نُشير إلى رأيين من بين آراء المتقدّمين:
ألف ـ القول بأنَّ آية نفي الإكراه منسوخةٌ بآيات القتال. فهذا الرأي بعيدٌ عن الحقيقة وهو ما سوف نتعرَّض له بالتفصيل لاحقا.
ب ـ القول بأنّ هذه الآية محكَمة؛ ولكنَّها تختصُّ بأهل الكتاب. فأهل الكتاب لا يُكرهون ولا يُجبرون على الإسلام متى أدّوا الجزية، ولكن غيرهم يُجبر. وهذا هو الرأي السائد لدى غالب المفسّرين المتقدِّمين من أهل السنّة، وقد نقل (الطبري) هذا القول عن (الحسن) و(قتادة) و(الضحَّاك)، واختاره أيضاً. وهذا الرأي يَعتمد على ملاحظة سبب النزول، ومن المعلوم أنَّ سبب النزول لا يُمكن أن يكون مخصِّصا. مضافاً إلى القاعدة التفسيريَّة التي تقول: إنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
2ـ آراء المتأخّرين: يتبنّى غالب المفسّرين في المرحلة المتأخِّرة ـ وإن اختلفوا في بعض التفاصيل الجزئيَّة ـ بأنَّ الإسلام لا يُقبل بالإكراه والإجبار على العقيدة، وأنَّه لا نسخ في هذه الآية. وأمَّا نزول الأمر بالجهاد والقتال فهو لأهداف دفاعيَّة، ولرفع الظلم، ونُصرة المستضعفين، ورفع الإكراه الحاصل في الأديان الأُخرى. ولكن الإشكال يَرِد على رأي (ابن عاشور) بخصوصه من بين آراء المتأخّرين، فإنّ (ابن عاشور) وكما لاحظنا ذلك يذكر صريحاً بأنَّ آية نفي الإكراه في الدِّين قد نَسَخَت آيات القتال. ولا شكَّ في أنَّ هذا الرأي يُلفت النظر ولم يلتزم به أحدٌ غيره؛ ولكن بالإمكان تسجيل ملاحظتين عليه:
ألف ـ إنَّ القول بالنسخ إنّما يَصحّ طبقاً لقواعد علم الأصول، متى كان الجمع بين الأدلَّة مستحيلا، ولكن الجمع هنا ممكن.
ب ـ إنَّ التاريخ يشهد على أنَّ النبي الأكرم (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) قد جاهد الكفّار والمشركين، وقد سجَّلت سيرة النبي (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) له ذلك، كما وردت بذلك آيات الجهاد. فالنسخ الذي يتبنَّاه (ابن عاشور) بعيدٌ عن الحقيقة.
________________________________________

[الصفحة - 32]


وما نتوصَّل إليه في هذا المجال هو أنَّ الجمع لمَّا كان ممكناً بين آية نفي الإكراه من جهةٍ، وآيات القتال من جهةٍ أُخرى، فلا نسخ هنا، ويُمكننا العمل بالآيات جميعاً متى ما تحقَّق موضوعها الخاص بها. وكمثالٍ على ذلك، متى كان الموضوع يرتبط بالأفراد فنتمسَّك بآية لا إكراه في الدّين، ونعمل بمفادها، ولا يُكره أحدٌ على قبول الإسلام. وأمَّا متى كان الإسلام أو الحقّ أو المستضعفون في معرَض الخطر، فلا بدَّ من العمل بآيات القتال والجهاد لرفع الخطر. وقد أشار لذلك (سيّد قطب) في تفسيره (في ظلال القرآن) (27) ، وذكَرَ أنَّ موضوع آية نفي الإكراه هو الأشخاص والأفراد، وأمَّا موضوع آيات القتال فهو عبارة عن الموانع الماديَّة والمعنويَّة التي تُعيق الناس عن التعرِّف على الدّين واتِّباعه.
البحث في دعوى نسخ الآية
لا يخفى على أحد أنّ القرآن ـ سواء أكان مكيَّاً أو مدنيَّاً ـ يحوي الكثير من آيات الدّعوة والحوار، والبرهان والاستدلال، المحبَّة والحرص، وبيان الحقائق وتقديم الأدلّة، إبطال الشبهات وردّ الأباطيل وتبيين آيات الله الأنفسيَّة والآفاقيّة؛ لأنَّ القرآن كتاب هداية وبيان: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } (الإسراء، 9)، ولذا يَصفه الله عزَّ وجـلّ بأنّه نور، قال تعالى: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً } (النساء، 174).
كما أنّ لغة القرآن مع منكريه تعتمد لغة المحبَّة والحرص، وتأمر بالصبر وتحمّل أذيتهم، وأنّ الله عزَّ وجل أوكل أمرهم إلى يوم القيامة ليحكم بينهم. ويدعو القرآن أتباعه للعفو والصفح، والصلح معهم، وعدم الإعراض عمّن لا يدخل في الإسلام، ولو اضطر لقتالهم (لدفع الظلم والدِّفاع عن الدّين والأرواح والأعراض والدّفاع عن المستضعفين) فلا بدَّ من الالتزام بآداب القتال والحرب، أي لا تَبدأ بقتالِ إلا من يُقاتلها، فلا تقتل صغيراً ولا امرأةً ولا شيخاً كبيراً، ولا تقطع شجرة، ولا تُفسد في الأرض، بل تسعى لإصلاح الخلق.
________________________________________
(27) سيد قطب، في ظلال القرآن: 1 :295.

[الصفحة - 33]


وعلى الرغم من وجود هذه التعاليم القرآنيَّة الواضحة والتي تُشير إليها مئات الآيات، ويدّعي بعض المفسّرين أنَّ هذه الآيات لم يَعد لها معنىً وإنَّ وجودها في القرآن يتلخَّص بوجودها الحسيّ. فيعتقَد هؤلاء بأنَّ تلاوة هذه الآيات ما زال قائماً، ولكنَّ أحكامها منسوخة. والمُلفت للنظر أنَّهم يَرون أنَّ هذه الآيات ـ بحسب اعتقادهم ـ نُسخت بآيةٍ أو بجزءٍ من آية (28) . وهذا الناسخ هو آية السيف.
ولذا لو استخدمنا في الاستدلال قوله تعالى: (لا إكراه في الدين ) قالوا إنّها منسوخة بآية السيف.
ولو تمسّكنا بقوله تعالى: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ } (النحل، 125) لقالوا إنَّها منسوخة بآية السيف.
وهذا هو الحال أيضاً في 114 آية ـ طبقاً لما يراه بعضهم كالغرناطي (29) ـ أو في 124 آية ـ طبقاً لرأي بعض آخر (30) ـ والتي تدلُّ على التسامح، اللين، الصلح، العفو، عدم الإكراه وغير ذلك، وبعبارةٍ أُخرى، فإنَّ 114 آية أو 124 آية نُسخت بآية السيف.
ولذا يصرِّح (الغرناطي) في كتابه (التسهيل لعلوم التنزيل) بالمثال المتقدّم وأنَّ 114 آية، موزَّعة على 54 سورة، تمتاز باللغة المذكورة أعلاه، يقول:
«ونقدِّم هنا ما جاء من نسخ مسالمة الكفّار والعفو عنهم والإعراض والصبر على أذاهم بالأمر بقتالهم ليُغني ذلك عن تكراره في مواضعه، فإنّه وقع منه في القرآن مائة آية وأربع عشرة آية من أربع وخمسين آية ففي البقرة: (وقولوا للناس حسناً)، (ولنا أعمالنا)، (ولا تعتدوا )، أي لا تبدءوا بالقتال، (ولا تقاتلوهم)، (قل قتال)، (لا إكراه)، وفي آل عمران: (فإنّما عليك البلاغ)، (منهم تقاة)، وفي النساء: (فأعرض عنهم) ـ في موضعين ـ، (فما أرسلناك عليهم حفيظا)، (لا تكلّف إلا نفسك)، (إلا الذين يَصِلون)، وفي المائدة: (عليك البلاغ)، (عليكم أنفسكم)، وفي الأنعام: (لست عليكم بوكيل)، (ثمّ ذرهم)، (عليكم بحفيظ)، (وأعرض)، (عليهم
________________________________________
(28) ابن العربي ، محمد بن عبد الله ؛ أحكام القرآن؛ 3 / 300 .
(29) الكلبي ، القاسم بن احمد ؛ التسهيل لعلوم التنزيل ؛ 1 / 11 .
(30) ابن الجوزي ، عبد الرحمن ؛ نواسخ القرآن / 173. والسيوطي ، عبد الرحمن ؛ الاتقان في علوم القرآن ؛ 2 / 64 نقلاً عن ابن عربي .

[الصفحة - 34]


حفيظا)، (ولا تسبوا) ـ في موضعين ـ ، (يا قوم اعملوا) (قل انظروا)، (لست منهم في شيء)، وفي الأعراف: (فأعرض)، (وأملي لهم)، وفي الأنفال: (وإن استنصروكم) ـ يعني المجاهدين ـ ، وفي التوبة: (فاستقيموا لهم)، وفي يونس: (فانتظروا)، (فقل لي عملي)، (وإما نرينَّك)، (ولا يحزنك قولهم)، ـ لما يقتضي من الإمهال ـ ، (أفأنت تُكره)، (فمن اهتدى)، ـ لأنّ معناه الإمهال ـ ، (واصبر)، وفي هود: (إنَّما أنت نذير)ـ أي تنذر ولا تجبر ـ ، (اعملوا على مكانتكم)، (انتظروا)، وفي الرعد: (عليك البلاغ)، وفي النحل: (إلا البلاغ)، (عليك البلاغ)، (وجادلهم)، (واصبر)، وفي الإسراء: (ربكم أعلم بكم)، وفي مريم: «فأنذرهم»، (فليمدد)، (ولا تعجل)، وفي طه: (قل كلٌ متربّص)، وفي الحجّ: (وإن جادلوك)، وفي المؤمنين: (فذرهم)،
(ادفع)، وفي النور: (فإن تولّوا)، (وما على الرسول إلا البلاغ)، وفي النمل: (فمن اهتدى)، وفي القصص: (لنا أعمالنا)، وفي العنكبوت: (أنا نذير) ـ لما يقتضي من عدم الإجبارـ ، وفي الروم: (فاصبر)، وفي لقمان: (ومن كفر)، وفي السجدة: (فانظروا)، وفي الأحزاب: (ودع أذاهم)، وفي سبأ: (قل لا تسألون)، وفي فاطر: (إن أنت إلا نذير)، وفي يس: (فلا يحزنك)، وفي الصافات: «فقول» و«قول» وما يليهما، وفي ص: (اصبر)، (أنا نذير)، وفي الزمر: (إن الله يحكم بينهم) ـ لما فيه من الإمهال ـ ، (فاعبدوا ما شئتم)، (يا قوم اعملوا)، (فمن اهتدى)، (أنت تحكم) ـ لأنّ فيه تفويضاًـ وفي المؤمن: (فاصبر) ـ في موضعين ـ وفي السجدة: (ادفع)، وفي الشورى: (وما أنت عليهم بوكيل)، (ولنا أعمالنا)، (فإن أعرضوا)، وفي الزخرف: (فذرهم)، (واصفح)، وفي الدخان: (فارتقب)، وفي الجاثية: (يغفروا)، وفي الأحقاف: (فاصبر)، وفي القتال: (فإمّا منّا)، وفي ق: (فاصبر)، (وما أنت)، وفي الذاريات: " فقول " وفي الطور: (قل تربصوا)، (واصبر)،
(فذرهم)، وفي النجم: (فأعرض)، وفي القمر " فقول "، وفي ن: (فاصبر)، (سنستدرجهم)، وفي المعارج: (فاصبر)، (فذرهم)، وفي المزمّل: (واهجرهم)، (وذرني)، وفي المدثّر: (ذرني)، وفي الإنسان: (فاصبر)، وفي الطارق: (فمهّل الكافرين)، وفي الغاشية: (لست عليهم
________________________________________

[الصفحة - 35]


بمصيطر)، وفي الكافرين: (لكم دينكم)، نسخ ذلك كله: (اقتلوا المشركين) و(كتب عليكم القتال)(31) .
فما يُلفت النظر هنا هو أنَّ (الغرناطي) عدَّ آية نفي الإكراه في الدّين، من ضمن الآيات المنسوخة أعلاه، ولكنَّه يُشير في موضعٍ آخر من كتابه (التسهيل لعلوم التنزيل) إلى ضعف هذا القول فيذكر التالي: «ثمَّ نُسخت بالقتال، وهذا ضعيف لأنَّها مدنيّة وإنّما آية المسالمة وترك القتال بمكّة» (32) .
بعد أن أشرنا إلى هذا الإفراط من قبل بعض العلماء في تحديد الآيات المنسوخة، نعود إلى آية نفي الإكراه في الدين لنبحث حول مسألة عدم نسخ هذه الآية، بل الذي أدّى إلى عدّها من الآيات المنسوخة رأيٌ مفرطٌ بعيد عن أصول البحث تبنّاه بعض المتشدِّدين. والبحث المنهجيّ في الآيات سوف يُظهر لنا أنَّ الكثير من الآيات التي ادّعى بعض المتشدِّدين نسخها لم يقع عليها النسخ، وذلك من خلال اعتماد البيان الصحيح للآيات.
إنَّ مراجعة كتب تفاسير القرآن الكريم تبيّن أنَّ للمفسّرين فيما يرجع إلى آية نفي الإكراه في الدّين رأيين. فجماعةٌ التزموا بأنَّ هذه الآية منسوخة بآيات القتال، كالجصّاص (33) ، ابن حزم (34) ، الكياهراسي (35) ، ابن عبد السلام السلمي (36) والبيضاوي (37) . وجماعة التزموا بعدم نسخ الآية وبقائها على حالها، كابن جرير الطبري (38) ، ابن عربي (39) ، الشوكاني (40) ، المظهري (41) ، صاحب إرشاد الأذهان (42) ، السيد طالقاني (43) ، العلامة الطباطبائي (44) ، الدورزة (45) ، المراغي (46) والشيخ ناصر مكارم الشيرازي (47) .
إنَّ الرأي الصحيح والذي يَظهر بشيء من البحث والتأمّل هو أنَّ الآية ليست بمنسوخةٍ، وذلك للأسباب التالية:
1ـ إنَّ هذه الآية ليست بصدد تحديد موقفٍ شرعيّ من الكفّار حتَّى يقع التعارض بينها وبين آيات القتال. والذي يَبدو لنا هو أنَّ من التزم بالنسخ قد التزم
________________________________________
(31) الكلبي ، القاسم بن احمد ؛ التسهيل لعلوم التنزيل ؛ 1 / 11 .
(32) المصدر نفسه: 1: 9.
(33) الجصاص ، احمد بن علي الرازي ؛ احكام القرآن ؛ 2 / 168 .
(34) الاندلسي ، ابن حزم ؛ الناسخ و المنسوخ / 30 .
(35) كياهراسي ، علي بن محمد ؛ احكام القرآن ؛ 1 / 223
(36) السلمي ، عز الدين بن عبد العزيز ؛ تفسير العز بن عبد السلام ؛ 1 / 237 و 238 .
(37) البيضاوى ، عبدالله بن عمر ؛ أنوار التنزيل و أسرار التأويل‏؛1 / 155 .
(38) ـ الطبري ، محمد بن جرير ؛ جامع البيان عن تأويل آي القرآن ؛ 3 / 25 .
(39) ابن العربي ، محمد بن عبد الله ؛ أحكام القرآن ؛ 1 / 233
(40) الشوكانى ، محمد بن على‏ ؛ فتح القدير ؛ 1 / 316 و 317 .
(41) المظهرى ، محمد ثناءالله‏ ؛ التفسير المظهرى‏ ؛ 1 / 363 .
(42) السبزوارى نجفى ، محمد بن حبيب الله‏ ؛ ارشاد الاذهان في تفسير القرآن ؛ 1 / 47 .
(43) الطالقانى ، سيد محمود ؛ پرتوى از قرآن‏ ؛ 2 / 206 و 207 .
(44) - الطباطبائي ، محمد حسين ؛ الميزان في تفسير القرآن ؛ 2 / 343 و 344 .
(45) دروزة ، محمد عزت ؛ التفسير الحديث ؛ 6 / 472 .
(46) المراغى ، احمد بن مصطفى ؛ تفسير المراغى ؛ 3 / 16 .
(47) الشيرازي ، ناصر مكارم ؛ تفسير نمونه ؛ 2 / 283 .

[الصفحة - 36]


بوجود تناقضٍ بين آية نفي الإكراه في الدِّين وبين آية السيف. مع أنَّنا لا نجد تعارضاً ولا تناقضاً بين الطائفتين من الآيات. ومؤدّى هذا انتفاء الشرط الخامس من شروط تحقّق النسخ؛ لأنَّ الأمر بالقتال ليس لداعي الإكراه على الدّين، بل لأجل دفع الظلم والفساد. مضافاً إلى أنَّ التاريخ يَشهد على أنَّ الإكراه في الدِّين كان من قِبَل المشركين في مكَّة.
2ـ إنَّ السبب المذكور في شأن نزول الآية (قصَّة المرأة الأنصاريّة) وهو أشهر ما ورد في شأن النزول، والمنقول عن ابن عباس، يدلُّ على عدم نسخ الآية. وقد نقل شأن النزول هذا كل من ابو داود، النسائي، ابن جرير، ابن منذر، ابن أبي حاتم، ابن حبان، ابن مردويه، والبيهقي في السنن، وضيا في المختارة عن ابن عباس (48) . وإن ذُكرت وجوهٌ أٌخرى لهذه القصّة، ولكن مؤدَّى جميعها يرجع إلى ما ذكره ابن عباس مع شيءٍ من التفاصيل.
3ـ إنَّ نفي الإكراه في الدِّين في هذه الآية هو بمثابة حكم، ولهذا الحكم علَّة، وعلَّة الحكم هي قوله:{قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ} ، وما لم تُنسخ العلَّة فإنَّ الحكم لا يُنسخ، إي إنَّ الشرط الثاني من شروط النسخ منتفٍ. إذا علّة الحكم وهي تبيَّن الرشد من الغيّ غير منسوخٍ بآيات القتال. ويرى صاحب تفسير الميزان أنَّ الآية المبحوث عنها أي آية نفي الإكراه في الدِّين، لم يَقع عليها النسخ بآيات الجهاد والقتال، وأنَّ القائلين بالنسخ أخطأوا في ذلك ثمَّ يُبيّن علَّة ذلك فيقول:
«ومن الشواهد على أنَّ الآية غير منسوخةٍ التعليل الذي فيها أعني قوله : قد تبيّن الرشد من الغيّ، فإنَّ الناسخ ما لم يَنسخ علَّة الحكم لم يَنسخ نفس الحكم، فإنَّ الحكم باقٍ ببقاء سببه، ومعلوم أنَّ تبيَّن الرشد من الغيّ في أمر الإسلام أمرٌ غير قابلٍ للارتفاع بمثل آية السيف، فإنَّ قوله : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم مثلا ، أو قوله : وقاتلوا في سبيل الله الآية لا يؤثِّران في ظهور حقيَّة الدِّين شيئاً حتَّى يَنسخا حكماً معلولا لهذ».
________________________________________
(48) الطباطبائي ، محمد حسين ؛ الميزان في تفسير القرآن ؛ 2 /343 و344 .

[الصفحة - 37]


4ـ إنَّ موضوع آيات القتال يَختلف عن موضوع آية نفي الإكراه في الدِّين، فالشرط الخامس من شروط النسخ منتفٍ، ولذا لا يُمكن القبول بوقوع النسخ في الآية.
5ـ لم يعدّ السدوسي (49) والنحاس (50) آية نفي الإكراه من الآيات المنسوخة.
6ـ لم يذكر الزرقاني (51) أنَّ الآية هي من الآيات المنسوخة بحسب ما يرى عند بيانه للآيات التي اشتهر كونها منسوخة. ولذا يصرِّح في كتابه (مناهل العرفان) بأنَّ عدد الآيات التي اشتهر أنَّها منسوخة هي 20 آية وأنَّ من عدّ المنسوخ أكثر من هذا فقد أخطأ بل أفرط في تحديد الآيات المنسوخة.
7ـ لم يُدرج السيوطي (52) آية نفي الإكراه في الدّين ضمن الآيات المنسوخة، ويرى هو أيضاً أنَّ الآيات المنسوخة تبلغ العشرين، وأنَّ من الخطأ الاعتقاد بوجود النسخ في غير هذه الموارد.
8ـ يرى آية الله الخوئي أنَّ الآية المذكورة هي من المحكَمات التي لم تُنسخ، كما أنَّ عمومها لم ينله التخصيص، مع العلم أنَّه لا يرى وقوع النسخ في القرآن إلا في آيةٍ واحدةٍ (53) .
9ـ إنَّ التاريخ يشهد على أنَّ النبي الأكرم (صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) قد أُجبر على الهجرة من مكَّة بسبب أذى المشركين له ولأصحابه. كما أنَّه لم يكن بحاجة إلى الإكراه في المدينة؛ لأنَّ الإسلام كان عزيزا، وهذه الآية نزلت في السنة الرابعة للهجرة (54) .
10ـ من الشواهد على عدم النسخ في الآية اختلاف العلماء في تحديد الناسخ:
أـ لم يحدِّد بعض القائلين بالنسخ آيةً محدَّدةً من سورة البراءة كناسخٍ لهذه الآية، بل قالوا إنَّها نُسخت بسورة البراءة (55) .
ب ـ ذهب جماعة (56) إلى أنَّ الناسخ لها هو قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}(التوبة، 73).
________________________________________
(49) السدوسي ، قتادة بن دعامة ؛ الناسخ و المنسوخ / 38 32 .
(50) النحاس ، أحمد بن محمد بن إسماعيل ؛ الناسخ والمنسوخ / 259 .
(51) الزرقاني ، محمد عبد العظيم ؛ مناهل العرفان في علوم القرآن ؛ 2/183.
(52) السيوطي ، عبد الرحمن ؛ الاتقان في علوم القرآن ؛ 2 / 62 .
(53) الخوئي ، السيد ابو القاسم ؛ البيان في تفسير القرآن / 309- 307 .
(54) الزحيلى ، وهبة بن مصطفى ؛ التفسير المنير فى العقيدة و الشريعة و المنهج‏ ؛ 3 / 21و22 .
(55) ابن الجوزي ، عبد الرحمن ؛ نواسخ القرآن / 93 .
(56) ابن الجوزي ، عبد الرحمن ؛ نواسخ القرآن / 94 .

[الصفحة - 38]


ج ـ ذهب جماعةٌ إلى أنّ الناسخ لها هو قوله تعالى: { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } (التوبة، 5) (57) ، وأطلقوا على هذه الآيـة تسمية آية السيف (58) .
دـ ذهب جماعة إلى أنَّ هذه الآية منسوخة (59) بآيات الأمر بالقتال كما في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } و { فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ } .
هـ وذهب بعضهم إلى أنَّ الناسخ لآية نفي الإكراه هو آية السيف، ولكنَّه لم يحدِّد ما هي آية السيف وهذا الرأي هو أشهر الآراء.
إنَّ ما نصل إليه من خلال ملاحظة ما تقدّم هو :
أولا، إنَّه لم يتمّ تحديد الآية الناسخة.
ثانياً، حيث كان أشهر الآراء أنَّ الناسخ لهذه الآية هي آية السيف، فإنَّنا نواجه هنا ملاحظة هو أنَّ أياً من الآيات المذكورة أعلاه بعنوان كونها ناسخة ليست هي آية السيف، وآية السيف كما هو المشهور هو قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة، 29) أو قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (التوبة، 36). وهذه الملاحظة تُضعّف القول بالنسخ.
ونتيجة هذا كله هو أنَّ هذه الآية الشريفة ليست منسوخةً، وأنَّ هذا الدِّين الحنيف إنَّما انتشر عن طريق البرهان والإقناع والحجّة، كما ثبت في تاريخ الإسلام أنَّ أحداً لم يُجبَر أو يُكره على قبول الإسلام وإنَّما كان الناس يَدخلون في دين الله أفواجاً بحريَّة وقناعةٍ وطواعيَةٍ واختيار.
________________________________________
(57) الاندلسي ، ابن حزم ؛ الناسخ و المنسوخ / 30 .
(58) الاندلسي ، ابن حزم ؛ الناسخ و المنسوخ / 30 .
(59) الطوسي ، محمد بن حسن ؛ التبيان في تفسير القرآن ؛ 2 / 311 .

[الصفحة - 39]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف