البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الخطاب الدّيني بين سلبيّة الجمود وضرورة التجديد

الباحث :  الدكتور رؤوف أحمد الشّمّري
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  57
السنة :  السنة الخامسة عشر ربيع 1431هجـ 2010 م
تاريخ إضافة البحث :  June / 9 / 2015
عدد زيارات البحث :  3044

الخطاب الدّيني بين سلبيّة الجمود وضرورة التجديد

الدكتور رؤوف أحمد الشّمّري (*)

تمهيد
لكلِّ أمَّةٍ خطاباً معبّراً عن واقعها في شتَّى مناحي الحياة الفكريَّة، وإذا كان الخطاب الدينيّ يشكّل جوهر الخطاب الإنسانيّ بين بني البشر، كان لابدَّ من أن يكون هذا الخطاب رافضاً سلبيَّة الجمود، متفهِّماً في الوقت ذاته ضرورة السعي للتجديد فيه، مع مراعاة الثوابت وعدم المساس بها.
من هنا يتوجَّه هذا البحث نحو تقديم خطابٍ عقائدي متوازنٍ يُنادي بضرورة أن تؤخذَ العقيدة عن يقينٍ واقتناع، لا عن تقليدٍ واتِّباع.
لقد انطلق منظِّرو فكرة الجمود على النصِّ وعدم إعمال العقل في تفسير النصِّ الدينيّ من أيديولوجيَّة ما يُعرَف بـ(السلف) القاضية بأنّ: «الآيات المتشابهة هي من كلام الله تعالى، وعلينا الإيمان بها وعدم التعرّض لمعناها ببحثٍ ولا تأويل، وهذا معنى قول الكثير منهم: إقرؤوها كما جاءت، أي آمنوا بأنَّها من عند الله ولا تتعرّضوا لتأويلها ولا تفسيرها، لجواز أن تكون ابتلاءً فيجب الوقف والإذعان له»(1) .
________________________________________
(*) أستاذ في كلية الفقه، جامعة الكوفة، من العراق.
(1)1 - إبن خلدون، المقدّمة، بيروت، 1906م، ص 413.

[الصفحة - 71]


ومن أبرز ممثِّلي هذا الفريق الإمام مالك بن أنس (ت:179هـ)، فهو حين سُئل عن تفسير قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه، 5) قال: «الاستواء معلوم، والإيمان به واجب، والكيفيَّة مجهولة، والسؤال عنها بدعة(2) »، وهذا إرهاص بالجمود على النصِّ أي الأخذ بالظاهر. كما أنّ الإمام أحمد بن حنبل (ت:241هـ)، يرى أن لا مكان لإعمال العقل أو تخريج الفكر مادامت الأمور واضحة المحجَّة ظاهرة النهج غير معوجَّة، ومن ثمَّ فقد نفر من أهل الكلام ورفض آراءهم وكفّرهم، وأخيراً فإنّ أبا الحسن الأشعريّ (ت: 324هـ) عندما سُئل عن تفسير قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (ص، 75)، أجاب قائلاً: «لله يدان ليستا كالأيدي»(3) !!.
بيد أنّ هناك جملة من مفكِّريهم تنبّهوا إلى ضرورة إعادة صياغة الخطاب القائم على إغفال دَور العقل، ومن أبرزهم الفخر الرازي (ت:606هـ) الذي أشار إلى أنّ تصحيح الأدلَّة النقليَّة موقوف على صحَّة برهان العقل؛ لأنّا لو كذّبنا الأدلَّة العقليَّة ـ كما يقول ـ لأجل تقرير ظواهر النقل لَكُنّا بذلك قد كذّبنا الأصل بالفرع. إنّ مراد الله تعالى من ظاهر الآيات يوافق الأدلَّة العقليَّة... لقد ورد في القرآن ذِكر العين والجنب والأيدي والسّاق الواحدة. فلو أخذنا بالظاهر ـ كما يقول الرازي ـ لزمنا إثبات شخصٍ له وجهٌ واحدٌ وعليه أعينٌ كثيرة وله جنبٌ واحد عليه أيدٍ كثيرةٍ وله ساق واحدة، وليس من عاقل يرضى بأن يصف ربّه بهذا الوصف(4) .
في المقابل هناك فريقٌ آخر يرى ضرورة الأخذ بمنهج التأويل، الهادف إلى إبعاد التصوّرات التي لا تليق بالإلوهيَّة، وكوسيلةٍ للتقريب والتوفيق بين العقائد الدينيَّة التي تثبت بالوحي وبين مقتضيَات العقل.
وأبرز مَن يمثّل هذا الفريق الإماميّة الإثنا عشريّة والمعتزلة ـ على اختلافٍ بينهم في بعض تفاصيله ـ فقد أكَّدوا جميعاً على ضرورة الأخذ بمنهج التأويل في حالاتٍ يعتقدون أنَّه لا مناص منه؛ إمَّا تأكيداً لتنزيه الخالق سبحانه مماّ لا يليق به
________________________________________
(2) - السيوطي، جلال الدِّين، صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام، تحقيق: علي سامي النشار، القاهرة، 1947م، ص23.
(3) - يبدو أنّ أبا الحسن الأشعري في رأيه هذا كان حنبليّاً شديد التعصب فيقول بالإثبات من غير كيفيّة، مؤكِّداً ضرورة ترك التأويل والأخذ بالظاهر، بيد أنّه ترك هذا الموقف ـ فيما بعد ـ وخرج على مذهب البلاكفة، آخذاً بالتأويل، حاملاً حملة شعواء على أولئك الذين (جعلوا الجهل رأس مالهم وثقل عليهم النظر والبحث في الدّين) انظر رسالته المشهورة: رسالة في استحسان الخوض في علم الكلام ص3.
(4) - الرازي، فخر الدّين، أساس التقديس، مطبعة كردستان العلميّة، 1328هـ ، ص99.

[الصفحة - 72]


من الجسميَّة والاحتياج، أو تنزيهاً له سبحانه عن الظلم من خلال تأويل كلِّ آيةٍ يُشعِر ظاهرها بأنّ البارئ سبحانه خالقٌ لأفعال العباد، وفي الأخذ بظاهر تلك الآيات ـ كما هو معلوم ـ تبرير لجرائم حكاّم الجور من ولاة الأمر المزيّفين.
إنَّنا إذا أردنا فتح حوار بَنّاء مع أتباع الدِّيانات الأخرى ـ سماويَّةً كانت أو وضعيَّة ـ لابدَّ لكِلَينا من أن نستند إلى أرضيَّةٍ مشترَكةٍ، ننطلق من خلالها إلى حوار يتّسم بالموضوعيَّة، هذه الأرضيَّة تتمثّل بالعقل الذي يُعدُّ عاملاً حاسماً في الإعلان ـ وبجرأة ـ عن كثيرٍ من القناعات التي تراود ضمير الإنسان الباحث عن الحقيقة، هذا ما تجسَّد في حوار الإمام الصادق (عليه ‏السلام) (استُشهد 148هـ) مع أبي شاكر الدّيصاني الذي سأل الإمام (عليه ‏السلام) بقوله: «يا جعفر دلّني على معبودي»، لينتهي حوارهما ـ بعد كلام طويل ـ إلى إعلان أبي شاكر ـ وبجرأةٍ ـ إسلامه، إذ قال للإمام الصادق (عليه ‏السلام): «مُدَّ يدَك، أشهد ألاّ إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأنك إمـام وحجّة من الله على خَلـقه، وأنا تـائب مما كنتُ فيه»(5) .
سلبيَّة الجمود
قبل أن نتبيّن مسار الخطاب الدينيّ في الفكر الإسلاميّ، لابدّ من الإطِّلاع على مضامين الخطاب الدينيّ في الدِّيانات الأخرى، فالمتتبِّع لمسار الخطاب الدينيّ في الفكر اليهوديّ، يرى أنّ فرقةً منهم ـ القرّاءـ تمسّكوا بحرفيَّة النصوص التي تُوهم بتصوّرات جسمانيّة لله تعالى، فوقعوا بالتشبيه والتجسيم، وفي ذلك يقول (Simon Rawindovics): «رغم الجهود التي بذلها أشياع التأويل ومناهضو التفسير الحرفيّ، فإنّ التشبيه استمرّ بين اليهود كتيّار فكريّ قوي حتَّى كادت (إسرائيل) تعني(المشبّهة)، وصار التشبيه (فكرةً قوميّة) أُلصِقت باليهود من قِبل كثير من الكُتّاب النصارى والمسلمين»(6) .
________________________________________
(5) - الصدووق، محمّد بن علي، التوحيد، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط1، 1427هـ، ص133- 134.
(6) - Simon Rawindovics: Saadays Purification of the idea of god , p. 139 ( An Essay Puplished ed, Edwin. IJ.Rosenthal, Manchester,1943.

[الصفحة - 73]


في المقابل ارتبط منهج التأويل في الفكر الدينيّ اليهوديّ باسم (فايلو الإسكندراني ـ 20ق.م ـ 50م) الذي حاول إبعاد التصوّرات الجسمانيّة التي يُمكن أن يؤدّي إليها التفسير الحرفيّ لبعض نصوص التوراة التي تُضفي على الله تعالى صفاتٍ خبريَّة من يدٍ وساقٍ، ووجهٍ وعينٍ... إلخ، وأكَّدَ على وجوب تفسيرها مجازيّاً وفق قوانين التأويل المجازيّ التي حدَّد هو درجاتها بنفسه، حاملاً في الوقت نفسه حملةً شعواء على أولئك الذين يتمسّكون بالحرفيّة والظاهر في تفسير النصوص واصفاً إيّاهم بضيق الأفق والإدراك(7) .
تجدر الإشارة إلى أنّ عدداً من لاهوتيّي اليهود في العصور الإسلاميّة، قد سار على نهجه، أبرزهم سعدايا الفيّومي (892 ـ 942م) صاحب كتاب الأمانات والإعتقادات، والفيلسوف الأندلسيّ المشهور موسى بن ميمون (1135ـ 1204م) الذي خصَّص جزءً مهمّاً من كتابه (دلالة الحائرين) لمعالجة هذا الموضوع، مؤكِّداً أنّ العامل الرئيسيّ وراء ظهور مشكلة التشبيه هو التمسّك بظاهر الصفات الخبريّة التي تَرِد في التوراة وتفسيرها بالحقيقة دون المجاز(8) . إنّ هذا الخلاف الفكريّ بين الأوساط الفكريَّة في الدِّين اليهوديّ جعلَ كلا الفريقين يتَّجه إلى وضع شروحاتٍ مختلفةٍ للعهد القديم، إلى أن وصلَت العلاقة بينهما إلى تكفير بعضهما الآخر!(9) .
وأمَّا في المسيحية فقد ظهر عدد من كِبَار آباء الكنيسة حاولوا هم أيضاً إبعاد التصوّرات التجسيميّة عن الله، وذلك بإيجاد تأويلات مجازيّة للنصوص التي لا تتَّفق ـ إذا ما فُهمت حرفياً ـ والتصوّر الحقّ للإلوهيّة. ومن هؤلاء الآباء الأوائل للكنيسة: كليمانت الإسكندريّ (150ـ215م) وأوريجون (185 ـ 254م)، والقديس أوغسطين (354 ـ430م) وأخيراً يوحنَّا الدمشقي(700 ـ 754م) الذي أفرد فصلاً كاملاً من كتابه المشهور (حول الدين الأرثودكسي) للتأويلات المجازيَّة للصِّفات الخبريَّة التي تَرِد في الكتاب المقدّس.
________________________________________
(7) - بريهية،أميل، الآراء الدينية والفلسفيّة لفيلون الإسكندراني، طبعة مصطفى البابي الحلبي، ص41.
(8) Maimonides, M. The Guide for the perplexed, p.69, Translated from the original Arabic test , by, M. Friedlander, London, 1904.
(9)- ن،م.

[الصفحة - 74]


وفي مرحلة تاليةٍ بدأت حركة التنوير والإصلاح الدينيّ في الفكر اليهوديّ تنشر بذراتها الأولى في أوروبّا عند مطلع القرن السادس عشر في محاولة لإدخال إصلاحاتٍ وتشريعاتٍ دينيَّة تساعدهم في تحسين صورتهم أمام الأُمم الأوروبيّ ليتعايشوا بسلامٍ مع غيرهم.
واستمدَّ رجال الفكر والتنوير اليهود العزيمة والمثابرة، من حركة الإصلاح الدينيّ المسيحيّ التي قادها مارتن لوثر(10) ـ 1483ـ 1546م ـ في ألمانيا، ومن أثرها في الوسط المسيحي، وما خرجت به من نتائج ومحصّلات ساعدتهم في إصلاح المؤسسة الدينيّة المسيحيّة بقراراتٍ وآليَّاتٍ وجدت لها قبولاً واستجابةً جماهيريّة واسعة.
وكانت انطلاقة حركات الإصلاح الدينيّ اليهوديّ على يد فلاسفة يهود، أمثال: موسى مندلسون(11) ، وسمسون هيرش(12) ، وسلومون شختر(13) وهؤلاء الفلاسفة اليهود أثّروا إجمالاً في الفلسفة الأوروبيّة إبتداءً من القرن السادس عشر، إذ عملوا على إضفاء مسحةٍ عقائديّةٍ واجتماعيّةٍ إنسانيّةٍ على الفكر الدينيّ اليهوديّ، الذي فقَدَ نسَقَه الاجتماعيّ في أوروبّا، وهي محاولة لفكِّ عزلة اليهود الاجتماعيَّة والدينيّة التي طوّقتهم لسنين طويلة.
وركّز رجال الإصلاح على التغيير الدَّاخلي لديانتهم، باعتبارهم الركيزة الأساس التي تُبنى عليها المواقف، وتتَّخذ من خلالها القرارات التي يعتمدها اليهود، فبدأوا بدراسة العهد القديم على أُسسٍ عقليَّة لمسايرة متغيِّرات الوضع الإصلاحيّ الفكريّ والاجتماعيّ، بعد النهضة التي شهِدَتها أوروبَّا فكريَّا وصناعيَّاً، مبتَغين وراء ذلك خَلْق تناسقٍ دينيّ مقبول اجتماعيَّاً من الآخر، ويشترك معه في بناء القِيَم الإنسانيَّة، وإن تعارض مع بعض المحرَّمات الدينيَّة التي نصّ عليها قانونهم اليهودي(14)؛ رغبةً منهم في بناء أرضيَّة مشتركة تجمعهم للتعايش السلمي مع الأوروبيّين، ولغرض تعميق ولائهم للدولة القوميَّة الأوروبيَّة الحديثة، شرعوا
________________________________________
(10)- وهو أشهر الدّاعين إلى إصلاح الكنيسة بطريقٍ سلميّ، كان عالِماً باللاهوت، رفض الفكرة الكنسيّة القائلة بأنّ الذنوب التي أثقَلَته يستطيع الكاهن أن يعفيه منها بصكّ يشتريه!!! صادفَت دعوته في القرن السادس عشر نجاحاً، واعتنقها كثير من المصلحين الذين ساروا في طريقلوثر فأنكروا حقّ الغفران، ووقف فَهم الكتاب المقدس على الكنيسة. تفاصيل ذلك راجع، شلبي، أحمد: مقارنة الأديان ـ المسيحية ـ مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 2/ 255.
(11)- (موسى مندلسون) (1729- 1786) فيلسوف ومفكّر يهودي، يُعتبر رائداً للإسهام اليهوديّ في الفلسفة الأوربيّة والتنوير اليهوديّ، تأثر بالنزعة العقلانيّة عند موسى ميمون وباراء سيبنوزا الفكرية له عدة مؤلفات منها كتاب فايدون، ظ: المسيري ، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: 1/259-260.
(12) - (سمسون هيرش) (1808- 1888) حاخام الماني. صاحب الحاخامية الارثذوكسية طرح شعار (التوراة والمعرفة العلمانية) في محاولة للموائمة بين التعاليم التقليدية الدينية وعلمنة اليهود وهو بهذه المحاولة يحارب مادعت اليه اليهودية الاصلاحية التي رأى في توجهاتها انحلال لليهودية. ظ: المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: 2/146.
(13) (سلومون شختر) (1847- 1915) حاخام روماني صهيوني. عمل استاذاً للدراسات اليهودية في جامعة كمبردج ورئيساً للكلية اللاهوتية اليهودية الامريكية. آمن بأن اليهودية دين وقومية معاً له مؤلفاته عدة منها (بعض نواحي اللاهوت الحاخامي) ومقالات في ثلاث مجلدات نشرت بعنوان (دراسات في اليهودية)، ظ: المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: 2/159.
(14) - المسيري، عبد الوهاب، الموسوعة المختصرة، ج 2، ص149.

[الصفحة - 75]


بحذف التشريعات المتضمِّنة لَعَناتٍ على الأمم الأجنبيَّة، وتغيير مسميَّات ذات مغازٍ دينيَّة محدّدة، منها إطلاقهم على معابدهم اسم ( الهيكل) وهو اسم مختصٌ ببيت العبادة في فلسطين، إذ يمثّل مركزاً روحيّاً لليهود وعاصمةً لِمُلكِهم(15) .
أمّا في الفكر الإسلاميّ فقد تمثّل منهج الجمود على النصِّ بآراء الإمام أحمد بن حنبل (ت:241هـ)، الذي يرى أن لا مكان لإعمال العقل أو تخريج الفكر مادامت الأمور واضحة المحجَّة ظاهرة النهج غير معوجّة ومن ثمَّ فقد نفرَ من أهل الكلام ورفض آراءهم وكفّرهم. إلا أنَّ الغزاليّ (ت:505هـ) نقل عنه الأخذ بالتأويل في ثلاثة مواضع(16) . وأنكر ذلك عليه بعض المتأخِّرين.
وقد أخذ التيّار السلفيّ وعلى رأسهم ابن تيميّة (ت:728هـ) من حيث المنطلق بمنهج الإمام أحمد بن حنبل، إذ انتهوا إلى أنّه ليس للعقل سلطان في تأويل القرآن وتفسيره أو تخريجه إلا بالقدر الذي تؤدّي إليه العبارات وما تضافرت عليه الأخبار. وإذا كان للعقل سلطان بعد ذلك فهو في التصديق والإذعان وبيان تقريب المنقول من المعقول وعدم المنافرة بينهما ، فالعقل يكون شاهداً، ولا يكون حاكماً . ويكون مقرِّراً مؤيِّداً ، ولا يكون ناقضاً أو رافضاً، ويكون موضِّحاً لما اشتمل عليه القرآن مع الأدلّة(17) .
وأنت إذا تأمّلتَ منهج الجمود على النصّ، وجدتَ له خصائص أظهرها:
1ـ الإستغراق الكامل في النصوص، والوقوف بصفةٍ خاصّةٍ عند الأحكام الفرعيَّة التي تُستَخلَص من هذه النصوص، والوقوف ـ فوق ذلك ـ عند ظواهر تلك النصوص، واعتبار ذلك من علامات الإتّباع المحمود، الذي يقابل الابتداع المذموم، والتوقّف عن البحث الطويل في حكمة التكليف ومقاصد التشريع وأولويَّات المطالب الدينيَّة للأفراد والأمّة(18) .
2ـ إساءة الظنِّ بكلِّ مذهبٍ أو رأي أو اجتهادٍ يدعو إلى استخدام العقل
________________________________________
(15) - شلبي، مقارنة الأديان ـ اليهودية ـ ج2، ص 211. الفقرة كاملة نقلاً عن: عبد الرزاق رحيم صلال: الأسس الدينيّة للتعايش الإنساني في الأديان السماوية، أطروحة دكتوراه، جامعة الكوفة، كلية الفقه، 2008م، ص137.
(16) - النصّ الذي أورده الغزّالي: سمعتُ الثقات من أئمة الحنابلة ببغداد يقولون: إنّ أحمد بن حنبل رحمه الله صرّح بتأويل ثلاثة أحاديث فقط، أحدها قوله صلى الله عليه وسلّم: (الحجر الأسوَد يمين الله في الأرض)، والثاني قوله صلى الله عليه وسلّم: (قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن)، والثالث قوله صلى الله عليه وسلّم: (إنّي لَأَجد نفس الرحمن قبل اليمين). أنظر الغزّالي، أبو حامد: فيصل التفرقة بين الإسلام والزّندقة، مطبعة الترقي، مصر، 1319هـ ، ص43.
(17) - أبو زهرة، محمد، المذاهب الإسلاميّة ،ص315، 316.
(18) - أبو المجد، أحمد كمال: تجديد الفكر الإسلامي (إطار جديد، مداخل أساسية) المؤتمر العام الثالث عشر للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 2002م، ص 37- 39 (بتصرف).

[الصفحة - 76]


والتعويل عليه في استنباط الأحكام الفقهيَّة وتقرير الأمور الدينيَّة، واعتبار هذا الاستخدام تهديداً لقدسيَّة الشريعة!! ومَدخلاً لتحكيم الهوى(19) .
3ـ المبالغة في تقديس آراء علماء القرون الأولى من تاريخ الإسلام، فأصحاب هذا المنهج يستندون في مشروعيَّة آرائهم إلى أقوال بعض علماء الإسلام، دون الاستشهاد بالمرويَّات عن أئمَّة أهل البيت(عليهم ‏السلام)!! متناسين أنّ أعلام القرن الأول والثاني والثالث الهجري كانوا من تلامذة أهل بيت النبوّة الذين أَذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً. فمن يجرؤ على إنكار تلمذة عبد الله بن مسعود وابن عباس (ت:69هـ) على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه ‏السلام). وتلمذة سعيد بن المسيّب على الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ت:95هـ)، وتلمذة أبي حنيفة النعمان (ت:150هـ) على الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه ‏السلام)، وهو ـ أبوحنيفة ـ القائل: «لولا السنتان لهلك النعمان»، ويقصد بذلك السنتين اللتين قضاهما على الإمام الصادق في الكوفة.
4ـ المبالغة في رفض كلِّ فكرةٍ وافدةٍ، والحذر الشديد من الأخذ بشيءٍ ممَّا عليه أتبَاع الحضارات الأخرى، والانحصار بذلك في الإسلام التاريخيّ والإسلام الجغرافيّ، اعتقاداً منهم بأنّ غير المسلمين متآمرون أبداً على الإسلام والمسلمين، وأنّ الفكر الإسلامي متميّز ومتفرّد بخصائص ذاتيَّة تنفي عنه مشابهة أيّ حضارةٍ أُخرى وأيّ نظامٍ آخر عرفه الناس قديماً أو يعرفونه حديثاً، وأنّ أيَّ لقاءٍ بين الإسلام وحضارته وبين عقيدةٍ أو حضارةٍ أُخرى لا يُمكن إلاّ أن يكون لقاءً عابراً تعقبه مفارقةٌ كاملةٌ ويحكمه اختلاف أساسيّ(20) !!.
آثار سلبيَّة الجمود
يبدو أنَّ الذي حدَا بالسَّالكين منهج الجمود على النصِّ أو الأخذ بالظاهر، هو أنَّهم لا يُقرِّون الجدل في أمور الدّين ولا يحتملون المناقشة، إذ الدِّين عندهم
________________________________________
(19) - ن،م
(20) - ن،م.

[الصفحة - 77]


مجرّد إيمانٍ قائمٍ على النقل. ولكن ما الحلّ لو توجَّه إلينا أهل الملل والنِحَل الأخرى بأسئلةٍ عقائديّة، وهم لا يعترفون بالقرآن والسنّة؟ وبعبارةٍ أُخرى ما آليَّة ومنهج الخطاب العقائديّ الذي يَهتدي المسلم به في حواره أمام الآخر؟ سواء أكان هذا الآخر يهوديَّاً أو نصرانيَّاً، أو بوذيَّاً؟
إنَّنا إذا ما أغفلنا دور العقل في فهم النصِّ الدينيّ فإنَّنا سنكون في موقفٍ صعبٍ أمام الآخر. نتيجة إهمالنا منهج الحوار الفكريّ واعتدادنا بحوار السيف والسوط، فيكون حال العلم كما قال (الدكتور زكي نجيب محمود): «آفّة العلم أن يجتمع السيف والقلم في آنٍ واحدٍ»(21) . إنَّ هذا الموقف الصعب قد حصل لمبعوث الرشيد إلى ملك السند، يوم طلب هذا الأخير من الرشيد أن يرسل إليه رجلاً على علم بالدِّفاع عن عقيدة الإسلام. فأرسل هارون العبَّاسي إليه محدِّثاً. فلمَّا وصل إلى الهند أكرمه الملك وأتى بعالم سُمّني ليُناظِرَه، فسأله: أخبرني عن معبودك هل هو قادر على كل شيء؟ فأجاب المحدِّث: نعم، فسأله السُمنيّ: أهو قادر على أن يخلق مثله؟ فقال المحدِّث: هذه مسألة من علم الكلام وهو بدعة وأصحابنا ينكرونه، فصرفه الملك، وأرسل إلى هارون العباسيّ كتاباً بالأمر، قائلاً فيه: «إن كان علماء دينكم أمثال مَن بعثتم إلينا فعلى إسلامكم السلام»!! فاستاء هارون العباسيّ وغضب وقال: «أليس لهذا الدِّين من يُناضل عنه، فقال أحد رجال حاشيته: بلى يا أمير المؤمنين. هم الذين نهينهم عن الجدال، والذين أودعتهم السجون. فأطلق هارون العباسي سراحهم لينتشروا في الأرض دفاعا ًعن الإسلام(22) . لا أدري ما رأي أهل الظاهر بهذا الموقف؟!!.
وبهدف استيعاب الدرس ومراجعة الخطاب بجرأةٍ وموضوعيَّةٍ، لابدَّ لنا من أن نشير إلى أبرز تداعيات هذا المنهج وأخطرها، وهي:
1ـ أنّه يؤدِّي إلى انكماش الحضارة الإسلاميّة، ممَّا يعني تراجع مكانة المسلمين في مقام صياغة خطابٍ إسلاميّ متوازن يُقدَّم للحضارات الأخرى.
________________________________________
(21) - زكي نجيب محمود: تجديد الفكر العربيّ.
(22) - ابن المرتضى، أحمد بن يحيى، المنمية والأمل، 1311هـ ، ص31.

[الصفحة - 78]


صحيحٌ أنّ الموضوعيَّة تقتضي منّا الاستماع بعقولٍ مفتوحةٍ وقلوب صافيةٍ إلى كلِّ ما يقوله دعاة الجمود على النصِّ، وإلى ما ينبّهون إليه من محاذير الاندفاع غير المدروس وراء دعوات التجديد. لكنّا في المقابل لابدّ من وضع كلِّ هذه المحاذير في إطارها الصحيح، المتمثِّل في أن يظلَّ التجديد تجديداً في فكر المسلمين وتطويراً له، لا خروجاً من ثوابت الإسلام ولا تحريفاً لأحكامه، وانفلاتاً من مبادئه وقِيَمِه.
2ـ كما أنّ من أبرز تداعيات الجمود على النصِّ المؤدّية إلى الكارثة ـ على حدّ تعبير د. محمد خاتمي ـ ما نراه في مجتمع المتديّنين من إضفاء قَدَاسة الدِّين ومطلقيّته على تصوَّرات الإنسان عن الدّين، مع أنَّها تصوّرات زمانيّة مكانيَّة محدودة ونسبيّة قابلة للخطأ. ثمَّ يعتقد الشخص أو الأشخاص أنّ ما توصّلوا إليه إنَّما هو عين الدِّين والدِّيانة، بل ويخيّل إليهم آنذاك أنّ الشخص الذي يعتقد الإعتقاد هذا لَهو مثال المتديّن الحق، ومن هنا تنجم أكثر حملات التكفير والرمي بالفسوق والفجور، فضلاً عن الصّدام والعِراك.
واللافت للنَّظر أنّ تصوراتهم النسبيَّة والمحدودة إذا عجزت ـ بسببٍ من مرور الوقت والتحوّلات الطارئة على عقل الإنسان وحياته، وعن الإجابة عن تساؤلاتهم ـ فإنَّهم بدلاً من التخلّي عن تصوّرهم المحدود وإزاحـة السِتَار عن كيان الحقيقة والعودة إلى مصادر الدّين الفكريَّة والأخلاقيَّة، للنَّظر فيها بعيونٍ جديـدة لتحصيل تصوّر جديد عن الدِّين أكثـر تكاملاً وأشـدّ فاعليّة، إنَّهم بدلاً من ذلك يحاولون ـ وبأيّ ثمن ـ فرض تصوّرهم الناقص على الواقع، الأمر الذي لا يدوم على المدى البعيد، ولكنَّه يُفضي إلى كارثةٍ على المدى القريب لا محالة(23) .
3ـ ومن بين التداعيات الأخرى للجمود على النصّ في عصرنا الرَّاهن، هو الحيلولة دون تبلور مشروع النهضة الذي رسمه مجموعة من المفكِّرين أو الروَّاد أو المصلحين. فبعد أكثر من مئة عام على تبلور ذلك المشروع، انتهت الأمَّة العربيَّة إلى
________________________________________
(23) - خاتميّ، محمّد، الدّين والتُّراث والحداثة، دار نهضة مصر، ط1، 1999، ص28،34.

[الصفحة - 79]


نتائج مأساويَّة، خيّبت الآمال العريضة والتنبّؤات التي صاغها أولئك الروّاد أو المصلحون، أمثال السيّد جمال الدين الأفغاني وتلميذه الشيخ محمد عبده.
4ـ وأخيراً فإنّ من بين سلبيَّات الجمود على النصِّ هو ارتكاس الحركات الإسلاميَّة الأصوليَّة إلى سلفيَّة رجعيَّةٍ متحجِّرةٍ، عطّلت العقل وحاربت مبدأ الاختلاف والتنوّع، فهي بذلك ألزمَت نفسها بأيديولوجيا شبيهة بأيديولوجيا الاستعمار التي التزمَت بالنظريَّة التطوريَّة، التي تُلغي التنوّع، فضلاً عن أنّ هذه الحركات الأصولية لم تقدّم أيّ مشروع أو آليَّات تدلُّ دلالةً واضحةً على أنَّها ستتجاوز استبداد الملوك والخلفاء.
والواقع أنّ تلك الحركات ـ على حدّ تعبير د. صلاح الجابري ـ تستبطن ديكتاتوريَّة مقيتةٍ لا تختلف عن الديكتاتوريَّات العلمانيَّة سوى بالإسم فقط أو بالشّعار، فهذا استبداد قوميّ أو علمانيّ، وذاك استبداد تحت قناع الخلافة. فكم كان إسم الخلافة في التاريخ الإسلامي عنواناً تُمارَس تحته شتَّى أنواع التعذيب والإكراه ومصادرة الحقوق، فجميع خلفاء الأمَّة ـ من غير أئمة أهل البيت (عليهم ‏السلام)ـ وكذا الملوك يدّعون أنهم على سيرة الرسول الأكرم(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وصحبه!!!! هكذا صودر الإسلام مبكراً من قِبل ملكيَّات وسلطنَات تُمارس الاستبداد والإكراه الجسديّ والنفسيّ. والمؤسف حقَّاً والأكثر خطورة هو أن تحول تلك الحركات الإسلاميَّة ـ والسلفيَّة منها بوجهٍ خاص ـ إلى أيديولوجيا مبرّرة للإرهاب. وبهذا يكون العالم الإسلامي قد مُني بحركةٍ مناقضةٍ لحركة الروَّاد أو المُصلِحين الأوائل أمثال السيد جمال الدين الأفغاني و محمد عبده وغيرهم. فالحركات الراهنة حركات مغيَّبة الوعي، ولا وعي تعرف سوى العنف الجسديّ(24).
ضرورة التجديد
المقصود بالتجديد هو: تجديد النَّظر في الدّين أو تجديد الفهم الدّيني، ذلك الفهم الذي أنتجه العقل الإنسانيّ في علاقته تاريخيّاً مع الدّين: فَهماً وتأويلاً
________________________________________
(24) - الجابري، صلاح، مشاريع نهوض أم مشاريع انتكاس، مجلة فضاءات، العدد 17، 2005م، ليبيا، ص33- 34.

[الصفحة - 80]


وتفسيراً، وليس المقصود تجديد الدّين نفسه: حَذفاً أو إضافة أو تغييراً أو ما شابه(25) .
إذن: القرآن ـ باعتباره مصدر الخطاب الدينيّ الأوّل للمسلمين ـ لم يجرِ تفسيره مرَّةً واحدةً وللأبد، فمقتضى ذلك أنّ على الأجيال المسلمة الأخرى أن لا تأخذ بهذا التفسير مرَّةً واحدةً وإلى الأبد، وإلاّ لم يعد ديناً خالداً!! .إنّ القرآن إذا تمّ استيعابه في مرحلةٍ واحدةٍ استيعاباً كاملاً ـ بناءً على الرأي المتقدِّم ـ فمعنى ذلك أنّ القرآن أصبح موجَّهاً إلى تلك المرحلة، وانتهى تأثيره ولابدّ من البحث عن مصادر أخرى. لكن إذا أدركنا أنّ القرآن موجَّه إلى الإنسان الذي هو مظهر من مظاهر الكون، فإنّا سنكون أمام ثلاثة عناصر هي في حوارٍ دائمٍ وعلاقةٍ جدليّةٍ دائمة: (الكون، القرآن، الإنسان)، فنذهب إلى الكون لنحصل منه على معلومات، ونعود إلى القرآن ونقرأه في ضوء هذه المعلومات، ومن ثمَّ نقرأ القرآن ونأخذ منه المعلومات ونفسّر هذا الكون.
من هنا فإنّ قوله تعالى: { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ } يعني أنّ التأمّل دائم بين هذه المحاور الثلاث، ممَّا يعني أنّ القرآن لا تتوقَّف قراءته عند زمانٍ واحدٍ. وبالتالي عندما نقول بالتحديث ماذا نعني؟ نعني أن نقدّم قراءتنا الخاصَّة أيضاً، أي قراءة عصرنا للقرآن الكريم، وهذا أمر ضروريٌّ جداً، ولا يعني أن نُلغي قراءات العصور السابقة، بل العكس هو الصحيح، أي إنّ التُّراث وقراءة القرآن تراث، وليس القرآن تراثاً، بل قراءته هي تراث، وتفسيره هو تراث؛ فيجب أن نقرأها ـ قراءات العصور السابقة ـ ولكن لا يجب أن نتوقَّف عندها، ومن هنا لابدَّ من تحديث الخطاب الدينيّ، من حيث احتكاك القراءة القرآنيَّة بالعصر، أي يجب أن تكون القراءة متحرِّكةً، مطّردةً، متغيّرةً. وهذا عنصر تمليه الطبيعة الخالدة للقرآن الكريم.
إنّ تحديث الإسلام يعني تحديث الرؤية الإنسانيَّة للإسلام، وليس تحديثاً
________________________________________
(25) - شوربا، زينب إبراهيم، فلسفة الدين والكلام الجديد نحو فهم معاصر للإجتهاد، دار الهادي للطباعة والنشر، 1425هـ، ط1، ص5 (المقدمة).

[الصفحة - 81]


للإسلام نفسه، وهذا ما حصل في التاريخ، فنحن نجد أنّ هناك مراحل في تاريخ المسلمين نشأت فيها اتِّجاهات فكريَّة وعقائديَّة واتِّجاهات كانت تختلف عمَّا سبقها، فلماذا لا يكون لنا نحن ـ ونحن في عصر العولمة والإنترنِت ـ متغيّرات كبرى أو محاولات للقراءة الحيّة للقرآن؟
تجدر الإشارة إلى أنّ هذا النوع من القراءة يُطلق عليها السيَّد الشهيد محمَّد باقر الصدر (استشهد 1980م) بـ (القراءة الموضوعيَّة)(26) ، تلك القراءة التي نذهب فيها إلى القرآن، ونحن نحمل حصيلة من المعلومات والمُعطيَات الجليلة، فنعرضها على القرآن، ثمَّ نرجع إلى هذه المعلومات في ضوء ما عرفنا من القرآن الكريم. وبهذا المعنى لابدّ من هذا التحديث لكي تكون الدّعوة الإسلامية دعوة مستمرة، وليست دعوة قاصرة على ما أنجزه السلف.
إذن، المتأمِّل في كلِّ خطابٍ، إذا سلك منهجاً تقليدياً، يُعمَل به في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، ومع مختلف الشرائح والتوجّهات ـ رغم تغيّر الظروف والأمكنة والجماعات البشريَّة ـ فإنّ هذا الخطاب يُصبح خطاباً بالياً، يتطلَّب ـ بمقتضى الحكمة ـ صقله وإعادة صياغته في إطارٍ يَتناسب مع الزمان والمكان ومختلف الجماعات البشريَّة.
وهذا التجديد عُبَّر عنه بـ (التجديد النهضوي) أي، الحركة الإحيائيَّة، الفاعِلة، المؤثِّرة، في مقابل الجمود والتحجّر في النشاط الإنسانيّ؛ للخروج به إلى الإبداع والخلاقيَّة من خلال الاجتهاد في مناهج العمل والتغيير، وفَهم الواقع وتحوّلاته من أجل إصلاحه وإدارته. ولن يتحقَّق النهوض الإسلاميّ إلاّ بعقليَّة إسلاميَّة، تَفقه أصول الدِّين، وتُحسِن قراءة نصوصه الأوليَّة، وتحمل أعباء التغيير بعزمٍ وإخلاص، وتميل نحو المستقبل بالانفتاح على الواقع وإدراك متغيّراته ومتطلَّباته، إذ ليس بمقدور عقليَّة جامدةٍ ماضويَّةٍ تبتعد عن الواقع الذي تعيش فه أن تحقّق نهوضاً إسلاميَّاً شامل(27) .
________________________________________
(26) - الصدر، محمد باقر: المدرسة القرآنية، ط1، لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر، إيران، 1421هـ ، ص35.
(27) - الكفيشي، عامر، مقوّمات النهوض الإسلامي بين الأصالة والتجديد، دار الهادي، ط1، بيروت، 2006م، ص71ـ 72.

[الصفحة - 82]


إذن، التجديد المنشود ـ على هذا الأساس ـ يكون في المتغيّرات وليس في الثوابت، ومن هنا قام قانون الثوابت والمتغيّرات: الثوابت إطار والمتغيّرات حركة داخله، وهذا يعني وحدة الأصل وتعدّد الصوَر، ولقد كان الفكر الغربيّ إلى ما قبل عصر النهضة يؤمن بالثبَات المطلق الذي قال به أرسطو، ثمّ جاءت نظريّة التطوّر البيولوجيّة التي دعا إليها (دارون)، وانتقلت منها الفلسفة الغربيَّة نقلةً خطيرةً حين أعلن هيجل نظرية التغيّر الطلق، وهذا يعني الانسلاخ من القديم إلى الحديث كليّةً.
أمّا التغيّر في المعرفة الإسلاميَّة فهو يقرِّر أنّ الدنيا لم تتغيّر من حيث الإطار العام، ولكنَّها تغيَّرت من داخل هذا الإطار، لم تتغيَّر العواطف والنَّزَعات والغرائز، ولكن الذي تغيّر هو وجوهها وأساليبها، والصراع بين الحقِّ والباطل وبين الخير والشّر قائم ثابت، ولكن الذي تغيّر هو طريقة الممارسة ووسائل التَّناول والنظر، وكذلك كلُّ شؤون الإنسان وعلاقاته الاجتماعيَّة، ما تزال ثابتة الأطر والأُسس، متغيّرة متجدّدة في أسلوب الحركة. هكذا يجمع الإسلام بين الثبات والتغيّر ثبات السُّنَن الإلهيَّة والإطار العام للكون والحياة والإنسان. وينكشف مفهوم الإسلام الجامع في كلِّ مجالات الفكر في السياسة والاقتصاد وفي القانون وفي التربية وفي الحريَّة والعلوم والإنسانيَّات، نظام ثابت في أُسسه وأُطره وضوابطه ودعائمه، وله منطلق متجدِّد قادر على الحركة، فالأصول ثابتة؛ لأنَّها ربّانية، والتطبيق وضعيّ؛ لأنَّه بشريّ. فالأصول الإسلاميّة الثابتة لا ترتبط بمرحلة معيّنة، ولكن تطبيقاتها هي التي ترتبط بالمراحل التي يُمكن أن يَلتمس المجتهدون أساليب جديدة لها في كلِّ عصرٍ في إطار الأصول الثابتة، وقد جاء الإسلام بنظامه المتكامل الجامع بعد أن وصلَت البشريَّة في تقدير الله تعالى إلى مرحلة الرشد الفكريّ، وعَدَت مراحل البدائية والعبوديّة، فوضعت المجتمع البشريّ على أوَّل طريق الاكتمال، ومن ثمَّ أصبح هذا التشريع صالحاً لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، ومن ثمَّ فإنّ من حقِّ المسلمين في التطبيق التماس صوَرٍ تطبيقيَّة مختلفةٍ باختلاف المجتمعات والأزمنة، وليس هناك
________________________________________

[الصفحة - 83]


تطبيق معيّن يَلتزم به المجتمع الإسلامي كلّه، وإنَّما الالتزام قائم في حدود الأصول الثابتة والإطار العامّ. ولا بأس بالاختلاف في الفروع والتفاصيل، ولكنّ البأس كلَّ البأس في الاختلاف على المبادئ والأصول التي تُستَمد أساساً من مَعينٍ واحد هو القرآن والسنَّة. ومن هنا كان الإسلام في نظامه الربَّاني جامعاً بين ما عجزت عن جمعه الفلسفات والمذاهب الغربيَّة دون أن يَحدث أيُّ تعارضٍ أو صراعٍ أو اضطرابٍ(28) .
من كلِّ ما تقدَّم ننتهي إلى أنّ مشروع التجديد عند كلِّ أمّةٍ لابدَّ من أن تكون له آليّات لتحقيقه، تتَّسم بالإحكام والرصانة، وأن تكون للتجديد ضوابط معيّنة، تكون في صدارتها أن يكون التجديد منتِجاًَ لإضافة معرفيّة أو علميَّة، ترفد الفكر بمعلومات جديدة تُلقي بظِلالها على الواقع الحياتيّ. بحيث يترتَّب عليها أثر عملي. فضلاً عن أن يكون التجديد مستنداً إلى واقعٍ موضوعيّ، بمعنى ألاّ يكون على حساب الدّين نفسه.
هذا فيما يخصُّ مشروع التجديد، أمَّا ما يخص صاحب المشروع، فلابدَّ من أن يكون من المتخصِّصين وروّاد الفن الذي يُعمل به، ومن المتضلِّعين بشؤونه، إذ لا يسمَّى مجدّداً مَن أقحم نفسه في غير اختصاصه، بالإضافة إلى ذلك أن يُثبِتَ مكانته العلميَّة من خلال بحوثه وأعماله وتآليفه، حتَّى يُكتب لمشروعه التجديديّ النَّجاح، وبالتالي يُقبَل منه الرأي والرأي الآخر. وأن يكون المجدِّد موضوعيَّاً، بحيث لا تكون فكرة التجديد لديه نابعة عن ردَّة فعل أو ظروف نفسيّة تحتّم عليه ذلك، لإشباع رغبة أو اتّخاذ المخالفة دَيدَن(29) .
الحريّة الدينيّة وأثرها في صياغة الخطاب الدينيّ
لم يَغِب عن مخيّلة الإنسان حاجته إلى السّلم، فهو مدنيٌ بطبعه، وهو دائماً عضو في مجتمع، الأمر الذي يحتّم على ذلك المجتمع أن يكون منظَّماً تنظيماً يُتيح لكلِّ فردٍ من أفراده أن يُمارس حريَّته، أو أن يحقِّق غايته الأخلاقيَّة، وذلك
________________________________________
(28) - الجندي، أنور، معلّمة الإسلام، دار الصحوة، ط2، القاهرة، 1989م، ج1، ص 449 ـ 455 (بتصرف واختصار).
(29) - تفاصيل ذلك راجع: المنصوري، صلاح عبد الحسين، رسالة ماجستير، كلية الفقه، 2007م، ص 9-11.

[الصفحة - 84]


المجهود لتحقيق تلك الغاية هو الحريَّة في صميمها، ومبادئ التّشريع هي الكفيلة بهذا التّنظيم.
وجاء الإسلام بتعاليمه ليتكفّل تنظيم ممارسة الحريَّات ـ سيّما الدينيّة منها ـ لأتباع جميع الدِّيَانات السماويَّة، إذ حصل اعتراف عقائديّ بربّانيّة التشريعات الدينيّة لهذا الدّين أو ذاك، سواء أكانت متَّفقةً مع ما نؤمن به أو مختلفة، وهذا الاعتراف يُساعد على ديمومة التعايش بين أتباع الدِّيانات السماويَّة.
ومن مصاديق ذلك:
أ ـ أخذ الجزية من اليهوديّ أو النصرانيّ أو المجوسيّ لضمان حمايتهم ورعايتهم، يقول السيَّد الطباطبائي: «وأمّا الجزية فهي عطيَّة ماليَّة مأخوذة منهم مصروفة في حفظ ذمّتهم وحُسن إدارتهم»(30) .
ب ـ من أوجه التقارب بين المسلمين وغيرهم وصيّة المسلم للذّمّي، فقد ذهب بعض الفقهاء إلى جواز الوصيّة(31) ، ودليلهم في ذلك قوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمْ الله عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المُقْسِطِينَ } (الممتحنة، 8). كما أنّ الإمام الرّضا (عليه ‏السلام) أجاز وصيَّة أحد المسلمين لبعض النّصارى(32) .
ولعلّ من أبرز مصاديق التجديد الحريَّة الدينيَّة التي كان يتمتّع بها أهل الكتاب، من خلال انتشار أديرتهم وكنائسهم في بلاد العرب(33) ، وانغماس علماء المسيحيّين في رفد الحضارة والحركة العلميّة العربيّة، وهناك أسماء لامعة لمشاهير النصارى الذين أسهموا في بناء الحضارة العربيّة الإسلاميّة، أمثال (سعيد بن البطريق صاحب كتاب التاريخ، وإسحق بن حنين، وسعيد التستري، وأبي مليح المماتي)(34) ، وهذا الأخير قدّم نموذجاً رائعاً للتَّضامن الأخويّ والتعايش الإنسانيّ بين أهل الأديان عندما وقع غلاء عظيم في مِصرَ في إحدى مراحل التاريخ، فهبّ
________________________________________
(30) - الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج 9 ، ص240.
(31) - البغوي، الحسين بن مسعود: التهذيب في الفقه الشافعي، تحقيق: عادل محمد عبد الموجود، وعلي محمد عوض، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، ج 5 ، ص 72؛ النووي، محيي الدين أبو زكريا، روضة الطالبين، تحقيق عادل عبد الموجود وآخرون، دار الكتب العلمية، بيروت، 1994م، ج5 ، ص 102.
(32) - الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة إلى تحصيل الشريعة، تحقيق: مؤسسة آل البيت(ع)، ط1، بيرت،1993م، باب جواز الوصية من مسلم للذّمّي بمال، ج 19، ص 343.
(33) - قاشا، سهيل، لمحات من تاريخ نصارى العرب، مطبعة شفيق، بغداد، ص76.
(34) - ن،م ص77.

[الصفحة - 85]


المماتي إلى إغداق مالٍ كثير على الفقراء من المسلمين وغيرهم، فأنقذ نفوساً كثيرة من الهلاك(35). يقول الجاحظ (ت 255هـ) في أحوال النّصارى آنذاك: «إنَّهم نافسوا المسلمين في لباسهم وركوبهم وألقابهم، وتسمّوا بالحسن والحسين والعباس والفضل وعلي، واكتنوا بذلك أجمع... فرغب إليهم المسلمون»(36) .
الحوار قيمة مهمّة
عند استقرائنا مفهوم الحوار ـ باعتباره قيمة مهمّة وكأداةٍ ـ يتَّضح لنا أنّ الحوار أداةٌ مناسبة لبناء نموذج جديد من العلاقات الأمميّة؛ كونه يمثّل الخطوة الأولى التي تُشعِرنا بالانتماء والإقرار بما هو مشترك بيننا، ممَّا يَنتج عنه تخفيف حدَّة التوتّر وإرساء أُسس الانسجام والوئام بين شعوب المعمورة، وخاصَّة في البلدان الإسلاميَّة، على أمل أن يَستلهم العالم من توجيهات الإسلام الواهبة للحياة تمهيداً لسبل الإرتقاء نحو حضارةٍ أفضل.
وللحوار ماضٍ عريق عراقة التَّاريخ البشريّ، سواء على صعيد التَّاريخ الفلسفيّ أو في تاريخ الأديان والمذاهب، فالحوار على الصعيد الفلسفيّ ـ الجدل ـ استُخدِمَ لأوَّل مرّةٍ من قِبَل زينون تلميذ بارمنيدس، الذي أنكر وجود الكثرة والتغيّر في عالم الوجود أساساً، وهكذا فقد كان الجدل يمثّل عند زينون وسيلة لنقض آراء الطرف المقابل، وإثبات آرائه عن طريق الخُلف.
كما استخدمه السوفسطائيون في التغلّب في المحاكم القضائيّة واستحصال الأموال من الموكِّلين.
وحينما جاء سقراط عمد إلى استخدامه كأسلوبٍ لنقض التعاريف الجزئيّة والسير باتِّجاه وضع تعريف كليّ لمختلف المسائل، واستخدمه تلميذه أفلاطون مع التنبه إلى الفارق في معناه عند أفلاطون.
وقد نَظَر أرسطو إلى الجدل باعتباره استدلالاً يقوم على أساس المشهورات
________________________________________
(35) - م،ن ص85.
(36) - ن،م ص63

[الصفحة - 86]


والمسلَّمات: أي الآراء المتسالَم عليها، وإثبات قضيَّةٍ ما عن طريق المفروضات.
وفي القرون الوسطى استُخدم الجدل بمعنى المنطق والأساليب المنطقيَّة لإثبات القضايا الفلسفيَّة، أمَّا في الفلسفة الحديثة فقد ذهب هيجل ثمَّ ماركس إلى القول بأنّ الجدل أو (الديالكتيك) هو عبارة عن ظاهرة تتألَّف من ثلاثة مراحل هي: الفكرة والنقيضة والجميعة. وهم يَعتقدون أنّ كلَّ ما هو موجود في العالم هو بمثابة فكرة، وهذه الفكرة تولّد فكرة مناقضة أو نقيضة لها، ومن تفاعل لفكرتين تنشأ فكرة جديدة تؤلِّف بينهما، وهبي ما تسمى بالجميعة، وهكذا عمّموا ما يحصل عادة في المجادلات على العالم كله(37) .
أمَّا الحوار على صعيد الأديان والمذاهب، فقد كان شائعاً بين أتباع الأديان المختلفة منذ القديم، فقد كان الحوار مشهوراً بين اليهود والمشركين، وكذا بين النصارى والمشركين، ليشمل الحوار ـ في مرحلةٍ لاحقةٍ ـ اليهود والنصارى، كما كان بين الحنفاء الموحّدين والمشركين.
أمَّا في مذاهب الأديان الأخرى، فالتاريخ يذكر لنا الجدل بين مذاهب اليهود ـ كالرّبّائين والقرّائين ـ وكذا بين فرق المسيحيّة حول قضيّة التثليث وعلاقة عيسى(عليه ‏السلام) بالله سبحانه(38) .
والمتأمِّل في عمق الفكر الإسلاميّ يرى أنّ جذور الإسلام راسخةٌ في الحوار، فالإسلام منذ انطلاقته الأولى في الجزيرة العربيّة، إنتهج الحوار مع بقيَّة الحضارات المجاورة، سعياً منه لتوعية الناس بحقائق الوجود وتعريفهم بمنهجه التكاملي، والوصول إلى حياةٍ أفضل. فالخطاب الذي طرحه الإسلام للحياة والحضارة، يستند إلى أُسسٍ علميَّة، بعثَت في نفس الإنسان نهج التعقَّل والتدبّر والحوار بشأن أصوله العقائديّة. في المقابل نرى أنّ القرآن قد نعى على الذين سلكوا نهج التقليد في الأصول الفكريّة، مُعلِناً صراحة رفضه لقولهم: { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ } (الزخرف، 23).
________________________________________
(37) - راجع William L.Reese,Dictionary of Philosophy and Religion,p.p 129-130.
(38) - تفاصيل ذلك راجع: أحمد محمود صبحي: فغي عم الكلام، دار النهضة العربية، ط5، بيروت، 1985، ص51 ـ 53.

[الصفحة - 87]


من هنا نُدرك أبعاد تصريح القرآن الكريم المتمثّلة في أنّ فلسفة بعثة الرسول الأكرم(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) هي تبيّن رسالات الله للناس(39) ؛ ليتفكَّروا فيها ويؤمنوا بها عن تدبّر وتفكّر، قال سبحانه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (النحل، 44).
ولا ضير في تضارب الآراء عند الحوار، طالما أنّه يتضمن الحثَّ على تلاقح الأفكار، ويعمل على إزالة الاختلافات والوصول إلى الفكر الصحيح. وفي هذا المقام يقول الإمام علي (عليه ‏السلام): «اضربوا بعض الرأي ببعض يتولَّد منه الصواب»(40) . وقال في توجيهٍ آخر نابع عن تبصّر: «إنّ مَن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخط»(41) .
ولكي يتسنَّى للمتحاورين التوصّل إلى أرضيّةٍ مشترَكةٍ عمادها الفكر الصائب، فإنّه يجب على المتحاورين ـ من وجهة نظر الإسلام ـ أن لا يَبتعدوا في حوارهم عن المعايير العقليَّة والمنطقيَّة، ويتحاورا بأسلوبٍ علمي، ويَستندوا إلى ما تؤمن ضمائرهم بأنّه حقّ، ولا يَخرجوا عن إطار البراهين العقليَّة، ولا يظنّوا بأنّ مجهولاتهم العلميّة معلومة، إضافة إلى عدم الخوض في ما ليس لهم به علم ومعرفة كافية. وإذا روعي هذا الجانب من الأدب، فهو كفيل بإنهاء جميع الاختلافات الناتجة عن خطأ الفكر، وهذا المعنى تشير إليه حكمة الإمام علي(عليه ‏السلام): «لو سكت الجاهل ما اختلف الناس»(42) .
وإذا ما استنطقتَ التاريخ في هذا المقام، أََطلَعَكَ على نصوصٍ عديدةٍ، تقرأ في ثناياها عمق مأساة الفكر الإسلامي في فترة من فتراته ـ نتيجة إسناد الأمر إلى غير أهله ـ مثلما يُطلِعك على محطَّات مشرقةٍ فيه، حاول ولاة الأمر المزيَّفون طمس معالمها ـ المحطَّات المشرقة ـ لدوافعَ سياسيّة!!!
فالتاريخ يُنبِئنا أنَّ بعض أعلام الفكر الإسلاميّ في النصف الأوّل من القرن الثاني الهجريّ قد حاوروا أتباع الدّيانات الأخرى. ومن هؤلاء الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه ‏السلام) الذي حاور الزنادقة والدهريين وأهل الدّيانات الأخرى، وكذا
________________________________________
(39) - وهو المعبَّر عنه عند المتكلمين بعلّة بعثة الأنبياء،أو أنّ النبوّة ضرورة تقتضيها طبيعة الوجود الإنساني. هذه الضرورة تتمثّل في أربعة أمور هي: 1- معرفة الله تعالى 2- التشريع والتقنين 3- التأثير الأخلاقي 4- معرفة أمور الآخرة.
(40) - ميزان الحكمة، ص6833؛ غرر الحكم،2569.
(41) - الكليني، الكافي، ج 8، ص22؛ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 4، ص388،
(42) - الإربلي، كشف الغمّة، ج 3، ص 139؛ المجلسي بحار الأنوار، ج 78، ص81.

[الصفحة - 88]


تلميذه هشام بن الحكم (ت:179هـ). ومعلوم أنَّ منهج الحوار مع هؤلاء يَستدعي طرحاً فكريَّاً يَستند إلى العقل دون النقل.
وعندما نجد من يعترف بدور محدودٍ للعقل إلى حدٍ ما في تفسير النصّ الدينيّ ـ كالباقلانيّ ـ فإنَّنا نتلمّس ثمرة ذلك في اختيار عضد الدولة البويهيّ (ت:372هـ) له ليوفده إلى إمبراطور بيزنطة. هنا في حواره مع البطريرك أمام الإمبراطور قال الباقلاني ـ لينفي صلب المسيح (عليه ‏السلام) ـ : «إنْ كان المسيح قد عَلِمَ مسبَقاً أنَّه سيُصلب ويفعل به اليهود ما فعلوه فإنّه ليس بحكيم؛ لأنَّ الحكمَة تمنع من التعرّض للبلاء. وإن لم يكن يَعلم ذلك فليس بإلهٍ. وحين سأل الإمبراطور عن خبر انشقاق القمر للنبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم): لو كان خبراً صحيحاً فلماذا لم يشتهر ذلك بين المشركين ولم يتناقلوه ولم يُسلِموا عنده. فردَّ الباقلاني: كما لم يشتهر حديث نزول المائدة ولم يتناقله اليهود ولم يؤمنوا عنده»(43) .
ضرورة الخطاب نتاج أساسيّ
إنَّنا بحاجةٍ إلى خطاب يؤكِّد على ضرورة التعامل الإيجابيّ مع الآخر، وتفهّم آرائه وأفكاره عبر دراسة سلوكه النفسيّ والاجتماعي، بعيداً عن الانغلاق الذاتيّ، الذي لا يَحترم السِلْم الإجتماعي، رغم أنّ التباين التكوينيّ بين الأمم والتنوّع الإنساني يَفرض على المجتمع حتميّةً اجتماعيّةً محدَّدة تعبّر بمجملها عن جماليّة الحياة، فالتنوّع المتناسق سِمَته الجماليّة التي تحكمنا بقانونها، قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ } (الروم، 22). ففي الآية إشارةٌ إلى أنّ (الجنس الواحد خُلق من أب وأم، والتفاوت في الجنس دون التفاوت في الجنسين بين الذباب والذئاب. لكن التفاوت بين الناس بالكفر والإيمان كالتفاوت الذي بين الجنسين؛ لأنّ الكافر جماد، إذ هو كالأنعام بل أضل، والمؤمن إنسان في المعنى الذي ينبغي أن يكون
________________________________________
(43) - راجع مقدّمة كتاب التمهيد للباقلاني، تقديم: د. أبو ريدة، محمود الخضري، ص3 ـ 7.

[الصفحة - 89]


فيه التفاوت في الإنسان تفاوت في الحس لا في الجنس، إذ كلّهم من ذكر وأنثى)(44) .
من هنا يتحتّم علينا الانطلاق بلا تردّد، نجدّد الفكر ونُغني الرؤية بكلِّ ما هو جديد، ونطوّر خطابنا الدينيّ كي يَلقى آذاناً صاغية وقلوباً واعية، ونمارس الاجتهاد الفقهيّ بكلِّ ثقةٍ، وبخلاف ذلك فإنَّنا سنبقى حيث نحن!! قانعين بالتبعيّة والتخلف، تمرّ بنا مواكب الأمم والشعوب، تحمل القيادة وتمارس السيادة، ونحن نكتفي بإعلان السخط والرفض والإنكار.
________________________________________
(44) - الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، ج 28، ص 137.

[الصفحة - 90]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف