البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

سوسيولوجيا المعرفة، العلاقة الجدلية بين المجتمع والمعرفة «قراءة في آراء أعلام الإسلام»

الباحث :  مهدي صفار دستكيردي
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  58
السنة :  السنة الخامسة عشر صيف 1431هجـ 2010 م
تاريخ إضافة البحث :  June / 13 / 2015
عدد زيارات البحث :  2470

سوسيولوجيا المعرفة، العلاقة الجدلية بين المجتمع والمعرفة
«قراءة في آراء أعلام الإسلام»

مهدي صفار دستكيردي (*)

مقدّمة
تمتدُّ سابقة بحوث المعرفة مع امتداد تاريخ الفلسفة الطويل، وقد شغَلَت مسألة المعرفة الذهن البشريّ بما تتضمّن من تفاصيل نشأتها وطرق تحصيلها وقيمتها الواقعيّة؛ الأمر الذي أدّى إلى ظهور نظريَّات ومدارس متعدِّدة على هذا الصعيد. ويُعدُّ علم المعرفة فرعاً من الفلسفة وهو المسؤول عن هذه البحوث كلّها. أمّا في القرون المتأخِّرة فقد فتح علماء الاجتماع باباً على دراسة المعرفة إلى جانب سائر الأبحاث الاجتماعيَّة وهذا كان من تداعيات تبلور علم الاجتماع كعلمٍ مستقلٍّ بنفسه. وكانت النظريَّة السائدة ـ قبل هذا الوقت ـ هي استقلال الذهن عن العين الخارجيّة؛ أي إنّ لتحقق إدراك الإنسان ومعرفته أصولاً وقواعد خاصة به، ولا دور ـ في هذا المضمار ـ لما هو خارج الذهن لا سيَّما العوامل الاجتماعيّة في التأثير على مضمون المعرفة أو شكلها.
ويمكن نسبة هذا التطوّر في الرؤية عند الغرب إلى القرن السابع عشر، ولعلَّ الانطلاقة الأولى كانت في مطلع هذا القرن في كتابات (فرانسس بيكن) (1) في
________________________________________
(*) باحث من إيران، ترجمة محمد عبد الرزاق.
(1)F. Bacon

[الصفحة - 260]


مجال تأثّر الذهن بالعوامل الطبيعيّة ـ كالجنس والسنِّ والصحَّة والجمال أو القبح (العوامل الداخليّة) ـ وأيضاً تأثير أمور أخرى من قبيل نظام الحكم والأرستقراطيّة، والرفاهيّة والثروة والمعوِّقات (العوامل الخارجيّة)، وهو ما مهّد الطريق أمام ظهور فرعٍ مستقلٍّ في علم الاجتماع أعني سوسيولوجيا المعرفة أو علم اجتماع المعرفة (2). وهي اختصاص علميّ مستقلّ تمَّ استكمال قواعده بعد حوالي قرنين على يد (ماكس شيلر) (3) و(ايلفرد ويبر) (4) و(كارل منهيم) (5)فانتشر في الأوساط وذاع صيته (6) وقد عُرِّف علم اجتماع المعرفة بأنَّه فرع من علم الاجتماع يدرس العلاقة بين الفكر والمجتمع (7). وعلى الرغم من اشتمال التعريف على تأثير الفكر على المجتمع وبالعكس إلا أنّ ما شغل الباحثين هو رصد تأثيرات المجتمع على مسير الفكر والمعرفة.
علم الاجتماع وعلماء الإسلام
على الصعيد الإسلاميّ فإنَّ من العلماء من اهتمَّ ـ قديماً ـ بالموضوعات المتعلِّقة بالمجتمع فأبدى آراءه في الظواهر الاجتماعيّة، نعم إذا استثنينا القلَّة من الأعلام أمثال ابن خلدون وأبي ريحان البيروني لن نجد أحداً تطرّق لموضوع المجتمع منفرداً في دراسة مستقلة أو كتَب بحثاً في الظواهر الاجتماعية ونظّر فيها؛ لكن بشكل عام يمكن التوصّل إلى آراء علماء الإسلام في الاجتماعيّات من خلال تصفِّح كتاباتهم الفلسفيَّة والكلاميَّة وكذلك في مواضيع الأخلاق والعرفان؛ للوقوف على وجهات النَّظر ومعرفة انطباعاتهم حول موضوعات علم الاجتماع ومنها نمطية العلاقة بين المجتمع والمعرفة، على أنَّ كشف تداعيات هكذا أجواء حاكمة بحاجة إلى دراسة موسَّعة على صعيد علم اجتماع المعرفة والعلم.
أمَّا بالنسبة لما نحن بصدده فعلى الرغم من تعدِّد وجهات النَّظر المختلفة بين آراء العلماء المسلمين إلا أنَّه ثمَّة نقطة اشتراك وهي وحدتهم في الاتِّجاه
________________________________________
(2) Encyclopedia of social Coaser, Lewis A.; Knawledyc, sociology of International sciences; vol.7 and 8; p. 429.
(3) M. scheler.
(4) Alfred weber.
(5) K. Mannheim.
(6) Stark, wennwe; The Sociology of knowledge; P.104.
(7) Encyclopedia of Social; Coser Lewis, A; knowledge, Sociology of International vol 7 and 8; P.428.

[الصفحة - 261]


الوجوديّ (8) ـ في مقابل الغائيّ (9) ـ ، حيث المعرفة (مقولة وجودية)، و(غائيتها مستمدَّة من معرفة الوجود ومصدر المعرفة والإنسان ذاته) وتتأثَّر بعض الجوانب بطبيعة المعرفة من قبيل «تعريف المعرفة، وتحديد واقعها الاجتماعيّ، أو تأثيرها الاجتماعيّ، وأيضاً صدقها وكينونته». على أنَّ تصنيف الاتِّجاهات هذا لا يتجاوز كونه تصوريَّاً؛ إذ لم يتجسَّد أحدها بالنحو المطلوب على أرض الواقع؛ وإنَّما كان من باب التغليب وترجيح بعض العناصر في آراء مفكِّرٍ ما على غيره(10).
تجدر الإشارة إلى أنَّ غرض هذه الدِّراسة واضح من عنوانها، فهي ليست بصدد تحليل واستقراء عام لأفكَّار المسلمين في هذا المجال؛ لأنَّ هذا يستلزم تتبّعاً شاملاً ومعمَّقاً لجميع دراسات علماء الإسلام؛ الأمر الذي لا ينسجم مع حجم المقال من جهة، ولا مع بضاعة الكاتب من جهةٍ أخرى، وإنّما الهدف هو استعراض بعض النقاط ذات الصلة كلُبنةٍ في المشروع ودعوة للبحث والاستكشاف.
وقبل الولوج في صلب الموضوع ننوِّه إلى أنَّ مرادنا من المعرفة هنا لا يَقتصر على طبيعة حصولها أو شكل معطياتها، وإنَّما يشمل المصطلح واقع التوجّهات والدّوافع والغرائز والرَّغبات(11).
للوهلة الأولى يُمكن تقسيم العلماء المعنيين بالبحث إلى فريقين:
الأوَّل: أولئك الذين طرقوا هذا الباب من خلال المدخل الفلسفيّ ـ الفطريّ أو العمليّ ـ، والثاني: أولئك الذين انطلقوا من نظرة اجتماعيَّة صِرْفَةٍ فطغى على أبحاثهم طابع التحليل الاجتماعيّ على الرغم من إمكانيَّة أن يكون الموضوع فلسفيَّاً بذاته.
أولاً: الاتِّجاه الفلسفيّ
هنا نضع مائزاً بين الفلاسفة المتقدِّمين والمتأخِّرين منهم؛ لأنَّ القدماء لم
________________________________________
(8) Ontological approach.
(9) Teleological approach.
(10) Tacakol, M; Sociology of knowledge; p.2.
(11) cf. Ibid, p.50.

[الصفحة - 262]


يتناولوا الموضوع مستقلاً في دراسات منفردة، بل لا بدَّ من استنباط آرائهم من مختلف كتاباتهم الفلسفيّة، في حين رجَّح بعض المتأخِّرين إفراد بحوث مستقلَّة للموضوع تأثّراً بالنظريَّات الجديدة في الغرب.
1 ـ الفلاسفة القدماء
الفارابي (258ـ 339هـ ، 870 ـ950 م) وتعدّد المعرفة
تناول الفارابي في كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) طبقات المجتمع فصنَّفها اعتماداً على نوع المعتقدات والاتِّجاهات السائدة في كلِّ مجتمع؛ أي إمكانيَّة وجود مجتمعات متعدِّدة بالذهن أو الخارج، ومعنى هذا إمكانيَّة وجود أنواع متعدِّدة للمعرفة بمفهومها العام. إذ يَعتقد أنَّ تقسيمات المجتمع لا تقتصر على المدينة الفاضلة وغير الفاضلة ـ من جاهلة وفاسقة ومبتذلة وضالّة (12) ـ وإنّما للمدينة الفاضلة تقسيمات أيضاً تتباين فيما بينها على الرغم من حفاظها على القاسم المشترك بينها. وعليه تدلّنا إمكانيّة تحقّق المدن الفاضلة على قول الفارابي على إمكانيَّة تحقّق صور مختلفة للمعرفة ـ ممَّا هو حاضر في المدينة الفاضلة ـ وقد أحصى في كتابه (13) طائفة من المعتقدَات المشتركة بين أهل المدينة الفاضلة ويؤمن بها الجميع، فكان من أبرزها معرفة المبدأ والمعاد، ومعرفة ماهيَّة الظواهر الطبيعية وحِكْمَتها، ومعرفة الإنسان ونفسه، ومن هو الرئيس الأوَّل للمدينة ومن هم الأجدر بخلافته، وما هو الوحي وما هو مفهوم السعادة... وليست السعادة عند الفارابي ـ التي لا تُنال إلا في المدينة الفاضلة ـ إلا أمراً واحداً، وكذلك حقائق العالم التي لا بدَّ في نيل السعادة من العلم بها والعمل بمقتضياتها هي أيضاً ذات وجودٍ واحدٍ على أرض الواقع ولا مجال للتعدديَّة فيها، لكن في الوقت نفسه وعلى الرغم من هذه الوحدة هناك سُبل وأشكال متعدِّدة في مقام بيان هذه المعتقدات ـ ذات الطابع الدِّيني في الغالب ـ
________________________________________
(12) الفارابي، محمد بن محمد؛ آراء أهل المدينة الفاضلة؛ ص 131.
(13) المصدر السابق، ص 146 ـ 148.

[الصفحة - 263]


وشرحها للناس؛ وبعبارةٍ أُخرى يتأثَّر شكل وقالب هذا المضمون بعاملين: أحدهما مستوى القدرة المعرفيّة لدى الناس بوصفهم مخاطَبين، والآخر الثقافة العامّة للمخاطَبين، أمَّا بالنسبة للعامل الأوّل فمعلوم أنّه ليس للجميع القدرة على فهم المعلومة بالبرهان، وإنَّ غالبيَّة الناس ـ كما يعبِّر الفارابي ـ تستقبل معلوماتها بواسطة التمثيل وتقديم الأمثلة القريبة من أفهامهم؛ وعليه فلكلِّ خطابٍ قالب خاص يتناسب ونوع المخاطَب فحال الحكماء وأصحاب البراهين مختلف لا محالة عن سائر الناس.
أمَّا فيما يخص العامل الآخر فيقول الفارابي: «وتحاكى هذه الأشياء )المعارف المذكورة( لكل أمة ولأهل كل مدينة بالمثالات التي عندهم الأعرف فالأعرف، وربما اختلف عند الأمم أما أكثره وأما بعضه، فتحاكي هذه لكل أمة بغير الأمور التي تحاكي بها الأمة الأخرى؛ فلذلك يمكن أن يكون أمم فاضلة ومدن فاضلة تختلف (14) ملتهم، فهم كلهم يؤمّون سعادة واحـدة بعينها ومقـاصد واحدة بأعيانه» (15),
ابن سينا (370ـ 428هـ، 980 ـ 1037م) ودور المجتمع في تلقّي العلوم
ينطلق ابن سينا ـ كالفارابيّ وغيره من فلاسفة الإسلام ـ في رؤيته المعرفيَّة من منطلق ذي نزعة عقليّة أيضاً؛ إذ يرى أنَّ الذهن مستقلّ عن العين الخارجيّة، وأنَّ مضمون المدرَكات والتصديقات تابع له، فلا يَذكر عوامل خارجة عن الذهن كالعوامل الاجتماعيَّة مثلاً؛ لكن يُفهم من كلامه في كتابه (تدابير المنازل) في مبحث التربية والتعليم وجود دور للعوامل الثقافيَّة في ظهور وتطوّر العلوم أو تقهقرها. ويرى ابن سينا أنَّ بعض العلوم تكون سهلة على قومٍ ومستعصية على آخرين؛ ولذا لا بدَّ من الأخذ بنظر الاعتبار العادات والفوارق القوميَّة في تعليم العلوم (16).
________________________________________
(14) مراد الفارابي هنا هو اختلاف التعاليم ظاهراً واتحادها في الجوهر؛ كما هو الحال مع الأديان السماوية المتعددة من ناحية ومثقفة المبدأ من أخرى.
(15) المصدر السابق، ص 147 ـ 148.
(16) ابن سينا، محمد بن الحسين، تدابير المنازل، ص 40.

[الصفحة - 264]


على الرغم من أنَّ هذا الكلام جاء في معرض مبحث التربية والتعليم لكنَّه نابعٌ من وجهة نظر ابن سينا في باب التعلَّم والتصوّر والتصديق لدى البشر؛ وعليه فهو ينضوي تحت دائرة المعرفة ولا سيَّما على صعيد العلم الذي ينصُّ بنفسه عليه. وتتمايز الأقوام فيما بينها في العادات والتقاليد والاهتمامات والعقائد والعلوم والفنون وكذلك الوسائل المتَّبعة في تأمين احتياجاتهم، أي إنَّها تتمايز في ثقافتها الماديَّة والمعنويَّة. وبعبارةٍ أُخرى إنّ لمفهوم (القوم) بُعداً اجتماعياً يفوق المفردات العرقيَّة والنفسيَّة لدى الأفراد. إنَّ هذه العوامل الثقافيَّة هي السبب وراء مزاولة قومٍ من الناس لبعض الأمور والمفاهيم الخاصَّة، ولذا ستكون العلوم المنسجِمَة مع تلك العوامل أكثر حظوةً بالشيوع بين أفراد ذلك المجتمع؛ لأنَّ تصوَّر مفاهيمها الأوليَّة سيكون أكثر سهولة لديهم، أمَّا العلوم التي ليست على هذه الشاكلة فهي لا وجود لها في تلك الثقافة أو أنَّها محدودة فيها؛ وهذا ما يفسِّر لنا حضور وتقدَّم بعض العلوم في بعض البلدان، واندثارها في بلدانٍ أُخرى. وهذا الرأي شبيه بما طرحه الغزالي في باب نشأة العلوم وتبلورها.
علماً أنَّ هذا الكلام لا يقتصر على مجال العلم فقط، ويمكن تطبيقه على مطلق المعارف ومنها الدينيَّة؛ بمعنى إنَّ قبول ورواج بعض المعتقدَات الدينيَّة لدى قومٍ ما مترتَّب على انسجامها مع ثقافتهم الداخليَّة؛ من قبيل ما يُمكن أن يعلَّل تطوَّر نظريَّة الإمامة في الوسط الشيعيّ في مناطق إيران واليمن وأنَّه متأثِّرٌ ـ إلى حدٍ ما ـ بتاريخ الملوك في هذه المناطق وما كان يُقال من اتِّصالهم الرباني وحكومة الله على أيدي الملوك، فهذا النوع من التفكير المسبَق والخلفيَّة المعرفيَّة في ثقافة القوم هو الذي ساعد في تقبَّلهم الأفكار المشابهة. ويُمكن استنتاج هذه النظريَّة من بيانات ابن سينا بصورة أكثر وضوحاً ممَّا كان عليه كلام الفارابي الآنف. كما إنَّ ابن رشد كان قد تناول جانباً من الموضوع أيضاً.
________________________________________

[الصفحة - 265]


ابن رشد (520ـ 595هـ ،1126 ـ 1198) وطبقات المجتمع المعرفيَّة
يُستنتج من مؤلَّفات ابن رشد أنَّ رأيه قريبٌ من رأي الفارابيّ على أنَّ بيانه أكثر دلالة وإفصاحاً من الفارابيّ. وفي كتابه (فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتِّصال) تناول ابن رشد ـ في معرض حديثه عن مسألة الظاهر والباطن وضرورة العمل بالتأويل في فهم النصِّ الدِّيني ـ خصائص المعرفة الدينيَّة وعلاقتها بالمجتمع، فهو يرى أنَّ السبب في وجود (الظاهر والباطن) في الشرع عائد لاختلاف الطبائع البشريَّة وتباين مستويَاتهم في التصديق (17). ولهذا راح يقسِّم طبقات الناس من حيث فهم المعنى الدِّيني إلى ثلاث هي: الحكماء والمتكلِّمون والعامَّة (18). فالحكماء هم أصحاب البرهنة والمتكلِّمون هم أهل الجدل والمناقشة، أمَّا العوام فهم أهل الخطابة؛ ومن هنا جاءت الأدلَّة على ثلاثة أقسام هي: البرهان (19)، والجدل والخطابة، إذ يُستَعمل كلُّ واحدٍ منها للإقناع بحسب حال المخاطَبين وعقولهم، وقد ورد ذكر الثلاثة في القرآن الكريم، قال تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (الأنعام، 125).
يُشير ابن رشد بعد حديثه عن اختلاف الطِّباع الإنسانيَّة ودورها في فهم الحقائق والسُّبل الكفيلة بإحراز التصديق إلى أنَّ غرض الشارع هو إفهام الجميع ومنه يُستنتَج أيضاً ضرورة أن يوظِّف الشارع جميع أساليب الإفهام والتصديق: «لمَّا كان مقصود الشرع تعليم العلم الحقّ والعمل الحقّ وكان التعليم صنفين: تصوَّراً وتصديقاً، وكانت طرق التصديق الموجودة للناس ثلاثاً: البرهانيَّة، والجدليَّة والخطابيَّة، وطرق التصوِّر اثنين: إمَّا الشيء نفسه، وإمَّا مثاله، وكان الناس كلُّهم ليس في طباعهم أن يَقبلوا البراهين ولا الأقاويل الجدليَّة فضلاً عن البرهانيَّة؛ مع ما في تعلّم الأقاويل البرهانيَّة من العسر... وكان الشرع إنَّما مقصوده تعليم الجميع
________________________________________
(17) الخراساني، شرف الدين، دائرة المعارف الإسلامية الكبرى، ج3، ص 581؛ ابن رشد، محمد بن أحمد؛ فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، ص 34.
(18) الحلبي علي أصغر، تاريخ فلسفة در إيران وجهان إسلامي، ص 552؛ ابن رشد، مصدر سابق، ص 38.
(19) قيل في تعريف البرهان: قياس مركب من قضايا يقينية ونتيجته لا بد أن تكون يقينية أيضاً. وقيل: هو جدل صناعي يمكن الإنسان من الاستدلال على المسلمات أو رفضها، أو أنه يمتنع عن نقضها الوضعي المؤيد لها. وهناك نوعان من الخطابة الصناعية في جدل السائل عن المسلمات والمجيب على المشهورات ـ أعم من المشهورات المطلقة أو المعينة لدى مجموعة ما ـ وهي عبارة عن العلم الذي من خلاله يتم إقناع العوام بأمر ما. (راجع: المظفر، المنطق، ترجمة منوجهر مانعي دره بيدي، منشورات حكمة، ط1، شوال 1404، ص 351، 378، 379، 415).

[الصفحة - 266]


وجب أن يكون الشرع يشتمل على جميع أنحاء طرق التصديق وأنحاء طرق التصوَّر» (20).
تأسيساً عليه يعتقد ابن رشد أنَّ المعرفة الدينيَّة تبقى تتأثَّر بعاملين هما قوَّة الإدراك والثقافة السائدة بين الناس، ويُمكن قراءة هذا التأثير على مستويين أو مرحلتين: الأولى على صعيد مرحلة الإنزال وإبلاغ المعارف الدينيَّة، والثانية مرحلة التحقَّق واجتماعيَّة المعرفة. أمَّا في مرحلة الإنزال والإبلاغ فإنَّ طريقة البيان وأنماط الاستدلال تأتي متناسبة مع فهم الجميع؛ ولن يضيِّع الشارع في سياق تعليم الجميع حقَّ أهل البرهنة، إلا أنَّه يُراعي هنا حال الأغلبيَّة وهم أهل الخطابة. وكما يعبِّر ابن رشد: فالدِّين تعبير رمزيّ عن الحقائق الفلسفيَّة. إنَّ ما يدركه الفلاسفة من معارف عقليَّة وحقائق فلسفيَّة كان قد وصفها الباري في كتابه العزيز لعامَّة الناس في صوَر رمزيَّة من ملذَّات المأكل والمشرب والحور العين والغلمان وغيرها من اللذائذ (21).
بينما تكون المرحلة الثانية محطَّة فهم واستيعاب المعارف المبلَّغة وهنا يكون الدِّين المتحقِّق عبارة عن مفاهيم العرف العام وما يناسب المستوى المعرفيّ في المجتمع؛ الأمر الذي سيُعيد المعرفة الدينيَّة إلى أحضان المختصِّين وأهل الخبرة؛ من هنا فرَّق ابن رشد بين العلم الإلهيّ الأصيل المنزَّه عن الشوائب وبين ما يعدُّه الناس ديناً أو يلقَّن إليهم ولذا كان يُنادي: أنا لا أقول إنَّ ما تدْعونَه العلم الإلهي باطل؛ لكنَّني أقول: إنَّ علمي علم بشريّ (22).
علاوةً على ذلك يرى ابن رشد أنَّ الفلسفة أيضاً تتأثَّر ـ بطريقٍ غير مباشر ـ بتلك العوامل؛ فلو أنَّ الفلاسفة أماطوا السِّتَار عن الظواهر وكشفوا بواطنها للعوَّام سيُمحق دينهم: «ومتَّى صرَّح بشيء من هذه التأويلات لمن هو من غير أهلها ـ وبخاصَّة التأويلات البرهانيَّة لبُعدها عن المعارف المشترَكة ـ أفضى ذلك بالمصرَّح له والمصرِّح إلى الكفر» (23).
________________________________________
(20) الخراساني، شرف الدين ابن رشد، دائرة المعارف الإسلامية الكبرى، ج3، ص 582؛ ابن رشد محمد بن أحمد، فصل المقال...، ص 50.
(21) الحلبي علي أصغر، تاريخ فلسفة در تاريخ ابراني وجهان إسلامي، ص 553؛ ابن رشد، فصل المقال..، ص 45.
(22) كوربن، هنري، تاريخ فلسفة إسلامي، ص 330.
(23) ابن رشد، فصل المقال..، ص 52.

[الصفحة - 267]


بناءً عليه يقول ابن رشد بوجود دور فعَّال للمعارف المشتركة، وإنَّ الفلسفة عنده رهينة بما يُطرح فيها من مواضيع وما يقدم من إفهام.
نصير الدِّين الطوسيّ (597- 657 هـ ،1201- 1258م) ومبدأ الخير أو الشرّ
وهو من رجالات السياسة والفلسفة، وردت جلُّ نظريَّاته الاجتماعيَّة في كتابه (الأخلاق الناصريَّة)، كان يتحدَّث بلغة الحكمة العمليَّة، وتأثَّر كثيراً بأفكار الفارابيّ، فتَبِعَه في تصنيف طبقات المجتمع، فأشار في البدء ـ بشكل عام ـ إلى منشأ تعدّد واختلاف طبقات المجتمع، فرأى أنَّ تكوّن المجتمع ناتج عن أفعال البشر الإراديَّة وما يتبعها من دوافع متباينة (الخير والشر)؛ فالمدينة الفاضلة تنشأ من خلال اجتماع دوافع الخير لدى الأفراد حين تتوفَّر الشروط اللازمة من قبيل فهم السعادة بشكل صحيح وتحديد ما يُناسب للوصول إليها، أمَّا المدينة غير الفاضلة فتأتي نتيجةً لتراكم النوايا الشريرة كالبحث عن اللذة والمال والجاه والسيطرة على الآخرين. يقول في هذا الصدد: «ونظراً لوجود الخير والشرِّ في أفعال الإنسان الإراديَّة، تقسَّم المجتمعات على قسمين: أحدهما ما يَنتج من مصدر الخيرات، والآخر ما يَصدر من أهلِّ الشرِّ، أمَّا الأوَّل فيُدعَى مجتمع المدينة الفاضلة وأمَّا الثاني فهو المدينة غير الفاضلة، وليس للفاضلة أكثر من وجود لأنَّ الحقَّ لا يَقبل الكثرة كما إنَّ سبيل الخير واحد لا أكثر، أمَّا غير الفاضلة فهي على ثلاثة أنواع...».
في الواقع يرى كلٌّ من الطوسي والفارابيّ أنَّ معالم تأثير عنصر المعرفة على تكوّن أشكال المجتمع ومقاطعه واضحة وجليَّة للعيان؛ وذلك لأنَّ تقسيماتها المجتمع جاء وفق رؤى الانثربولوجيا والوجودية على واقع أفراد كلِّ مدينة، فلو أنَّ لأبناء المدينة رؤية سليمة ومعرفة سديدة عن ماهيَّة الإنسان والكون بالإضافة إلى تحديد مسار كمالي متناسب ومنسجم فإنَّهم سينالون مرادهم في تحقيق
________________________________________

[الصفحة - 268]


مجتمع المدينة الفاضلة؛ وهكذا الحال بالنسبة لمجتمعات المدن غير الفاضلة. وهذا القياس منطبقٌ أيضاً في تأثير المعرفة المشترَكة في المجتمع على نظام الدولة؛ فقد تنبَّه الطوسي ـ تبعاً للفارابيّ ـ لهذا الموضوع وأشار خلال سرد صفات كلِّ نوعٍ من المجتمعات إلى أنَّ رئيس المدينة هو الشخص الذي يعمل على تلبية المطالب العامَّة (24).
يبدو أنَّ الطوسي في موضوع علاقة المعرفة المشترَكة بنظام الدولة يذهب إلى القول بالعلاقة المزدوجة فلم ينسَ ما يتركه الساسة من تأثيرات على شعوبهم ومجتمعاتهم على صعيد الأخلاق والرغبات ولذا كتب يقول: «ويبقى الشعب في كلا الحالتين )سواء كانت سياسة الحكم فاضلة أم غير فاضلة( يسير على نهج قادته، ولهذا قيل إنَّ الناس على دين ملوكهم، وإنَّ الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم، وقد قال أحد الملوك: نحن الزمان» (25).
يُشير الطوسيّ في مقدّمة كتابه إلى تأثّر العلاقات الحقوقيّة وعلم الفقه في المجتمعات البشريَّة بالتحوّلات الجارية فيها، وهي إشارة منه إلى تجسيد الحكمة العمليّة في هذا الموضوع، فهو يرى أنَّ منشأ ذلك هو ماهيَّة تلك العلاقات التوافقيَّة وهي ـ بشكل عام ـ على ثلاثة أقسام: «أحدها ما يتعلَّق بكلِّ شخص وذاته كالعبادات وأحكامها، والثاني ما يتعلَّق بمشتركات الناس في المجتمع الواحد كالتزاوج والمعاملات الأخرى، أمَّا الثالث فهو ما يتعلَّق بأصحاب المدن والأقاليم من قبيل ترسيم الحدود والسياسات، وهذا ما يُدعَى بعلم الفقه، وبما أنَّ مبدأ هذا النوع من الأعمال لا يقف عند حدِّ الطبع ويتعدَّاه للوضع فإنَّها قابلة للتغيَّر والتحوَّل تبعاً لتبدِّل الأحوال وتعاقب الزمن والرجال وتجدّد الملل والأقوام...» (26) .
من هنا لم يدرج الطوسي هذه الموارد ـ على الرغم من كونها نوعاً من الإدراكات العمليَّة والاعتباريَّة ـ من أقسام الحكمة العمليَّة؛ لأنَّ الحكمة تَدرس القضايا الكليَّة التي لا تتغيَّر بتغيّر الزمان والملل، وتبقى صادقةً دائماً.
________________________________________
(24) المصدر السابق، ص 289 ـ 298.
(25) المصدر السابق، ص 301.
(26) المصدر السابق، ص 40 ـ 41.

[الصفحة - 269]


2 ـ الفلاسفة المتأخِّرون
تناول فلاسفتنا المعاصرون مسألة الإدراكات العملية والاعتباريَّة وعلاقتها بالاجتماعيَّات على نطاق واسع، أمثال السيّد الطباطبائي (1321ـ 1402)، والشهيد المطهري (1298هـ.ش ـ 1358هـ.ش)، والشهيد السيّد محمد باقر الصدر، ونظراً لقرابة رؤى هؤلاء الثلاثة فضلنا تناول آرائهم في عرض واحد.
تقسَّم الإدراكات العقليَّة بلحاظ عام إلى حقيقيَّة واعتباريَّة تبعاً لتقسيم العقل إلى نظريّ وعمليّ، أمَّا الإدراكات الحقيقيَّة فهي تتعلَّق بالأصول والبحث عن الواقع، في حين تصبُّ الإدراكات الاعتباريَّة أو العمليَّة في صالح تلبية احتياجات الإنسان العمليَّة في حياته والعملىّ على تنظيم الحياة الفرديَّة والاجتماعيَّة وإشباع الرغبات الذاتيَّة. ورأي هؤلاء الفلاسفة هو أنَّ الإدراكات الحقيقيَّة مستقلَّة تماماً عن العوامل الاجتماعيَّة، فتركَّز قوام بحثهم على الإدراكات الاعتباريَّة وهي إدراكات تتأثَّر بالعواطف والرغبات والاحتياجات ومقتضيات الحياة والبيئة الإنسانيَّة، والأهمُّ من ذلك إنَّها تمثِّل وسيلةً في إشباع رغبات الإنسان، وليس لها أيُّ ارتباط بالواقع والحقائق المحتومة. وقد قسَّموا هذه الإدراكات إلى نوعين هما ما قبل الاجتماع وما بعده، فأمَّا الإدراكات ما قبل الاجتماع فهي إدراكات عامَّة وثوابت لا تقبَل التغيير؛ أي إنَّها عبارة عن أُسسٍ عامَّة حاضرة في حياة كلِّ إنسان دون استثناء وضمن أيِّ اجتماع كان؛ من قبيل أصل الواجب والحسن والقبح والاستخدام والاجتماع والمنفعة، نعم تتقولَب هذه الأصول حسب المجتمع وظروفه فتعدّد صورها وخير مثالٍ على ذلك موضوع الحسن والقبح: «فالإنسان لا يترك التفكير بالحسن والقبح أبداً، لكنه قد يتأثَّر بعنصر الزمن والتطوّر الحاصل فيُعد الحسن قبيحاً والقبيح حسناً؛ وذلك لاستحالة انطباق حياة الأمس على متطلَّبات حياة اليوم» (27).
________________________________________
(27) الطباطبائي، محمد حسين، أصول فلسفة وروش رئاليسم، ج2، ص 332.

[الصفحة - 270]


أمَّا إدراكات ما بعد الاجتماع فهي الإدراكات التي يتأثَّر جوهرها وقالبها بالعوامل الاجتماعيَّة من قبيل اللغة، الملكيَّة، علاقة الرئيس والمرؤوس والعلاقات المتساوية الطرفين؛ إنَّ جميع المفاهيم والأفكار السياسيَّة تابعة لماهيَّة ونمط مصدر قرار السلطة، كما يدخل تحت مسمَّى الإدراكات الاعتباريَّة أيضاً أساليب الإدارة في المجتمع ومؤسَّساته، ونوع العلاقات القانونيّة والاقتصاديّة والعلوم المرتبطة بهذه الاختصاصات المعرفيّة وكذلك مجالات الفنّ والأدب.
ذكرنا إنَّ كلا هذين القسمين من الإدراك يتأثَّر ـ بشكل من الأشكال ـ بالعناصر الاجتماعيَّة والتي هي عبارة عن الآتي:
أ ـ اختلاف أماكن العيش من حيث المناخ والجغرافيَّة.
ب ـ الاختلاف في نوع العمل ومحيطه.
ج ـ توارث الأفكار وعامل التلقين والعادات السائدة، وكذلك عامل التربية، وبشكل عام زحمة الأفكار في ذهن الإنسان (28).
يقول الشهيد مطهري في شرح الآية (108) من سورة الأنعام : { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } :
«تدلُّ هذه الآية على أنَّ لكلِّ أمَّة إحساساً ومعايير وطريقة تفكير خاصَّة بها؛ فلكلِّ أمَّة فهم وإدراك خاص، ومعايير خاصَّة تنطلق من خلالها في تحديد المصير ـ وذلك على صعيد ما يتعلَّق بالإدراكات العمليَّة في أقلِّ تقدير ـ كما إنَّ لكل أمَّة مزاجاً وذوقاً خاصاً بها، فما أكثر الأعمال القبيحة عند أمَّة وجميلة عند أخرى؛ فالجوّ الاجتماعيّ هو الذي يحدِّد نوع الإدراك لدى الأفراد»(29).
وهذا عينه رأي الشهيد الصدر في باب تقسيم الإدراكات إلى حقيقيَّة واعتباريَّة مشيراً في السياق ذاته إلى علم الفرد بالتغييرات الطارئة على هذه الإدراكات والحرية التي يمتلكها في هذا المجال، ونافياً مدخليَّة العوامل الاجتماعيَّة المحيطة من جهةٍ أُخرى (30).
________________________________________
(28) المصدر السابق، ص 312 ـ 342.
(29) مطهري مرتضى، مجموعة الآثار الكاملة، ج2، جامعة وتاريخ، ص 340.
(30) الصدر، محمد باقر، فلسفتنا، ص.؟

[الصفحة - 271]


ثانياً: الاتِّجاه الاجتماعيّ
أبو حامد محمَّد الغزالي (450- 505هـ ، 1058-1111م)، المعرفة ومتطلبَّات الإنسان
تحدَّث الغزاليّ ـ في كتاب ذمِّ الدنيا من إحياء العلوم ـ مفصَّلاً عن الحياة الاجتماعيَّة ومنشأها وعوامل تقسيم العمل الاجتماعيّ وظهور الحِرَف والصناعات المتنوِّعة مذكِّراً في هذا الصدد بدور نمط العيش في التأثير على المنظومة الفكريَّة في المجتمع. فهو يرى أنَّ احتياجات الإنسان الأساسيَّة ـ الغذاء، المسكن، الملبس ـ هي التي تحثّه على السعي في تحصيلها الأمر الذي يَنتج عنه خمس حِرَف هي الزراعة والرعي والصيد والبناء والنسيج وهي أساس لجميع الحِرَف والصناعات الأخرى، وإنَّ توفير وسائل وآلات هذه الحِرَف يستلزم وجود حِرَف أُخرى للتصنيع. من جانبٍ آخر تتسبَّب الحياة الاجتماعيَّة المنبعثة عن الحاجة في البقاء والتناسل والتعاون من أجل توفير الاحتياجات الأساسيَّة في بروز الصِّراعات والتنازع من أجل المنافع الفرديَّة؛ وهنا تبرز الحاجة إلى الفقه والفقهاء للفصل في المنازعات؛ ولهذا يصف الغزالي علم الفقه بأنَّه علم الدنيا الناتج عن المتطلَّبَات الدنيويَّة، وأنّ الفقهاء هم علماء الدنيا. ثمّ على صعيد حفظ الأمن وصدّ الأشرار والمجرمين ورعاية العاطلين عن العمل والعاجزين عنه تبرز الحاجة إلى من هم ليسوا في القطاع الإنتاجيّ ويؤمِّن عيشهم الآخرون؛ وهذا ما يفسِّر ضرورة جباية الضرائب وتعيين الجُباة. كذلك لا بدّ وبغرض توحيد أداء المؤسسات من إيجاد مؤسَّسةٍ عليا تخلق الانسجام بين المؤسَّسات الأخرى وهي الدولة. بناءً عليه يُمكن القول إنَّ توفير بعض المتطلَّبات المعيشيّة والاجتماعيَّة هي التي تفرض ضرورة وجود دوائر من قبيل القضاء ومسح الأراضي (ترسيم الأراضي والمراتع) والمحاسبة، وكذلك بروز علوم من قبيل الفقه والرياضيات وغيرها. من هنا يُمكن أن نستنتج رؤية الغزالي في افتراض قالب اجتماعي لتكوّن العلوم؛ بمعنى أنَّه يقول
________________________________________

[الصفحة - 272]


بتأثير المتطلَّبات الاجتماعيَّة ووضع الإنسان المعيشيّ حتّى على شكل الرياضيّات ومستوى تطوّرها. علاوة على ذلك فإنَّ لانشغال الناس بمختلف الحِرَف تأثيراً على واقع معتقداتهم لا سيما الباطلة منها التي تَشيع بين أرباب بعض الحِرَف، فضرب الغزالي مثال ذلك في الفلاحين الذين يَقضون كلَّ وقتهم في العمل على توفير احتياجاتهم الأوليَّة، حتّى يؤمنوا في داخلهم بأنّ الحياة ليست سوى الاجتهاد في طلب العيش وتجديد القوى للاستمرار في الحياة (31).
ابن خلدون(732- 808 هـ ،1332- 1406م) (32) ، المعرفة وأيديولوجيا المجتمع
قدَّم ابن خلدون ـ السابق لعلماء الغرب في نظريَّات علم الاجتماع ـ نظريَّات هامَّة في مجال سوسيولوجيا المعرفة، ففي العصر الذي انتهى بالنهضة وظهور الأفكار في تجسيد المعرفة على أرض الواقع «كان ابن خلدون أبرز من تناول المسألة، حيث اعتمد التجربة والمنهج العلميّ موليَاً اهتمامه ـ في موضوعة الحضارة ـ بالعوامل الجغرافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة أيضاً.
إنَّ المفهوم المحوريّ عند ابن خلدون ـ أي العصبيّة ـ بمعنى الترابط والشعور الجماعيّ والوعي الجماعيّ ـ هو قضيَّة اجتماعيَّة منظَّمة، ففي تكتّل اجتماعيّ كالقبيلة ثمّة ترابط قويّ هدفه إمكانيّة التغلّب على صعاب الحياة، ولا يحتلّ الرئيس مكانةً خاصّةً تفصله عن الآخرين. لكن هذه المنظومة لا تدوم إلى الأبد؛ فحين تتبدَّل الحياة إلى استقرار المدن يتحوَّل الرئيس بعد أن كان فرداً عادياً إلى ملك مميَّز ومنعزل يتفوَّق ويسيطر على سائر المكوّنات، إلى جانب ذلك تضعف شخصيّة الأفراد فتبحث عن نعومة العيش بعد أن كانت الشجاعة سِمَتها السابقة؛ الأمر الذي يؤدِّي إلى انهيار الترابط واللحمة فيكون المجتمع حينها عرضةً للهزيمة من قِبَل القوى الأخرى... وهذا يعني أنَّ المدينة تحمل في صميمها بوادر الانحطاط والزوال بنحو من الديالكتيكيَّة، وكان فيغو في القرن الثامن عشر وروسو
________________________________________
(31) الغزالي، أبو حامد، إحياء العلوم، ج3، كتاب ذم الدنيا، ص 212 ـ 217.
(32) اعتمدنا هنا على مقال غير منشور للسيد حسين كجوئيان.

[الصفحة - 273]


أقوى المنظِّمين لرؤيـة ابن خلدون الحتميَّة في مجـال ظهور وانحطاط المجتمعات» (33).
كذلك شدَّد ابن خلدون على عنصر الدّين كأيديولوجيا لها تأثيرها على المجتمع؛ بحيث إنَّه يرى المعتقَد الديني المشتقّ من النبوّة أو دعوة الحق بشكل عام هو العامل وراء تأسيس الحكومات التي تهيمن على السلطة وتكوّن بلداناً عظمى (34)، ويذهب في تفسير هذا التأثير إلى الإشارة لدور الدين في بثِّ روح الاتِّحاد من خلال تأثيره النفسيِّ على الأفراد أي القضاء على الطمع وحبِّ الزعامة وخلق روح الانقياد وبالنتيجة إيجاد مراتب المجتمع.
يبدو من عبارات ابن خلدون في المقدِّمة (35) أنّه لا توجد أي علاقة قائمة بين المعرفة بمفهومها الخاص والعوامل الخارجيّة الاجتماعيّة، وأنَّ المعرفة هي سِمَة وجوديَّة في الإنسان تنشأ وفقاً لقواعدها الخاصّة. لكنه حين وصل إلى الحديث عن العلوم ـ كالتاريخ والتفسير والفقه والكلام والأصول والتصوّف ـ في المجتمعات الإسلاميّة وبيان سابقتها التاريخيّة أشار ضمناً إلى دور العوامل الاجتماعيّة في التأثير على مضمون ومصير تلك العلوم ـ وكلّها غير عقلية ـ من صحّة أو بطلان، فعلى سبيل المثال تطرّق ابن خلدون في علم الفقه إلى اختلاف المدارس الفقهيّة من حيث المنهج والمحصّلة فأشار إلى مدخليّة قرب أهل الحجاز من مهبط الوحي في ترجيح رواية الحديث والعمل به، ولهذا هم يقتدون بالصحابة إذا فقدوا الدليل في حكمٍ ما متجنِّبين الاجتهادات الشخصيّة، في حين إنّ ابتعاد أهل العراق عن ديار الوحي دعاهم إلى اعتماد الاجتهاد والقياس في المسائل المستحدثة بعد عصر الوحي، ومعلوم أنّ هذا الاختلاف المنهجي سيؤدِّي إلى تباين في النتائج الفقهيَّة (36).
وذكر أيضا عند تحليله لسبب وقوع الخطأ في التفاسير التي شكّلت النواة الأولى: «إنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنّما غلبت عليهم البداوة
________________________________________
(33) Tovakol, M; Sociology of knowledge; P. 54 55.
(34) ابن خلدون، المقدمة، ص 197.
(35) المصدر السابق، ص 445.
(36) المصدر السابق، ص 564 ـ 565.

[الصفحة - 274]


والأميّة، فإذا تشوَّقوا إلى معرفة شيء ممَّا تتشوّق إليه النفوس البشريّة في أسباب المكوِّنات وبدء الخلقة وأسرار الوجود فإنَّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم.. وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامّة من أهل الكتاب ومعظمهم من حِمْيَر فلمَّا أسلموا بقوا على ما كان عندهم، إلا أنّهم بَعُدَ صيتهم وعظمت أقدارهم لما كانوا عليه من المقامات في الدّين والملة فتلقيَّت بالقبول من يومئذ» (37).
أضف إلى هذا كله إنّ لابن خلدون آراءً أيضاً في علم اجتماع العلم بيّن فيها العلاقة بين مستويات التنمية والبناء وواقع العلوم، وهو ـ بشكل عام ـ يربط بشكل مباشر بين ازدهار العلوم وميزان التنمية والتقدّم العمراني؛ لأنّ العلم عبارة عن معرفةٍ منظَّمةٍ لها موضوعها وسُبُلها في التعليم والتعلّم. إنَّ عمليَّة إلغاء التشتَّت بين مجموعة من القضايا المتفرِّقة وتحويلها إلى علم بحاجة إلى البحث وتناقل وجمع المعطيَات المتناثرة؛ أي ما يُطلِق عليه ابن خلدون صنعة التعليم (38). التي من مكوِّناتها الحلقات العلميّة والعلماء والأساليب العلميَّة المتعدِّدة في البحث والتحقيق وكذلك النظام العلميّ، كما إنَّ الصناعات مرتبطة بالنماء والتطوير العمراني وهي تتحقَّق على مستوى معيَّن من العمران والبناء (39).
________________________________________
(37) المصدر السابق، ص 554 ـ 555.
(38) المصدر السابق، ص 543.
(39) المصدر السابق، ص 502.

[الصفحة - 275]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف