البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الاسلام والتحديات الثقافية المعاصرة المعولة في بعدها الثقافي

الباحث :  السيد محمد حسن الامين , د. رفيق العجم , د. طلال عتريسي
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  8
السنة :  السنة الثانية شتاء 1418 هجـ 1997 م
تاريخ إضافة البحث :  January / 1 / 2015
عدد زيارات البحث :  1705
الاسلام والتحديات الثقافية المعاصرة المعولة في بعدها الثقافي

المنتدون
السيد محمد حسن الامين
د. رفيق العجم
د. طلال عتريسي
عقدت مجلة المنهاج ندوتها المعتادة، يوم الثلاثاء الواقع فيه 16/12/1997، في قاعة المحاضرات في مركز الغدير للدراسات الاسلامية، وبحث المنتدون، قضية «العولمة في بعدها الثقافي»، في اطار موضوع عام هو «الاسلام والتحديات الثقافية المعاصرة» تزمع المجلة ان تخصص له عدة ندوات.

شارك، في الندوة، العلامة السيد محمد حسن الامين، الدكتور رفيق عجم، والدكتور طلال عترسي، وقدمها وادارها الدكتور عبد المجيد زراقط.
بدا الدكتور زراقط الكلام، فقال بعد ان رحب بالمشاركين والحضور: تواجه الاسلام، في هذه المرحلة من التاريخ، تحديات كثيرة يعمل على تجاوزها والافادة منها، وابرزها على المستوى الثقافي تحد ذو اهمية كبرى يعرف الان باسم «العولمة»، او «العالمية» في تسمية سابقة. كونت هذا التحدي واطلقته مجموعة تطورات منها: حلول النظام العالمي الجديد محل الحرب الباردة، ما سهل انتقال الانتاج الثقافي وانتشاره عالميا، وما دفع الى سعي راس هذا النظام الى الهيمنة على العالم، على مختلف المستويات، وبخاصة على المستوى الثقافي وهو موضوع ندوتنا. يساعد على ذلك تطور وسائل البث والانتشار كالقنوات الفضائية والمعلوماتية (الحاسوب) والتواصل (الانترنت) والطباعة والترجمة والنشر وتعلم اللغات الاجنبية، وبخاصة اللغة الانكليزية التي صارت لغة عالمية. هذه التطورات جعلت العالم ساحة ثقافية واحدة، او بتعبير متداول «قرية كونية» يسهل فيها انتشار الانتاج الثقافي وتداوله.
مصطلح «العولمة»، او «العالمية»، جديد، ولكل جديد بهجته المغرية بمعرفته وامتلاكه. وقد تم تداوله، بداية، في مجالات المال والاقتصاد، ويتم الان تداوله في مختلف مجالات الحياة ومنها المجال الثقافي.
تدرك هيئة التحرير، في مجلة «المنهاج»، اهمية معرفة التحديات التي تواجه الثقافة الاسلامية، ومنها ظاهرة العولمة، فتسعى الى امتلاكها من طريق البحث والحوار، وندوتنا هذه هي سعي في هذا المجال.
نحاول، في هذه الندوة، ان نحدد مفهوم «العولمة» بعامة،

(الصفحة – 253)


و-«العولمة الثقافية» بخاصة، وان نعرف ما اذا كان هذا المفهوم قديما ام جديدا، وان نجيب عن اسئلة يثيرها مثل: ما الجديد فيه؟ ماهي امكانات الافادة منه باعتبار الاسلام دينا عالميا. قدم للعالم حضارة اسلامية اغتنت بخصائص الشعوب التي انتظمت في سياق رسالة يمثلها قول اللّه تعالى: (بسم اللّه الرحمن الرحيم، وماارسلناك الا رحمة للعالمين) وقوله:

(وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)؟ ثم ما هي الاخطار التي حملها؟ وكيف تتم مواجهتها؟ هذه الاسئلة واسئلة اخرى يجيب عنها السادة المنتدون، وهم:

سماحة العلامة، المفكر، الاديب، الشاعر، الفقيه السيد محمد حسن الامين، والدكتور رفيق عجم، استاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية وصاحب العديد من المؤلفات والبحوث، والدكتور طلال عتريسي، استاذ في الجامعة اللبنانية ومدير عام مركز البحوث الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، وصاحب العديد من المؤلفات والبحوث. نبدا بكلمة سماحة العلامة السيد محمد حسن الامين فليتفضل:

مواجهة تحديات الذات السيد محمد حسن الامين: بداية، اتقدم من الاخوة في مركز الغدير للدراسات الاسلامية بالشكر لاقامة هذه الندوة، وبهذا العنوان بالذات: «العولمة وتحدياتها او العولمة في بعدها الثقافي».مصطلح العولمة الذي شاءت هذه الندوة ان يكون موضوعا لها، هو من المصطلحات الشائعة الاستعمال كثيرا في السنوات الاخيرة. لكننا لو حاولنا ان نتعدى هذه الصيغة اللغوية للمفهوم،وعدنا الى كلمة اخرى هي كلمة «العالمية» لاكتشفنا ان موضوع العولمة ليس موضوعا جديدا. ولكن مما لا شك فيه ان ثمة طفرة معينة نستطيع ان نحددها بمرحلة اواخر الثمانينات وبداية التسعينات، زمنيا، انتقلت فيها فكرة «العالمية» التي كانت شائعة الاستعمال الى مصطلح «العولمة» بوصفه تعبيرا عن تكثيف جديد لهذا المفهوم ساعدت على انتشاره، او على الاقل ساعدت على التنبيه الى اهميته، متغيرات عالمية ابرزها سقوط الاتحاد السوفياتي من جهة وحرب الخليج من جهة ثانية،

(الصفحة – 254)


وبدا ان العالمية لم تعد كافية للتعبير عنه، فالعولمة تحول العالم، على الصعيدالاقتصادي، الى سوق واحدة. ونلاحظ ان المصطلح مشتق، في الاساس، من اعتبارات اقتصادية.

اما بالنسبة للعولمة والاسلام فيجب ان نلاحظ انه لا ينبغي ان تكون «العولمة» مجالا من مجالات التحدي، فعقيدتنا، نحن المسلمين، تقوم على عالمية الاسلام. فنحن عالميون قبل ان ينشامفهوم «العولمة»، ويفترض ان يكون فتح الافاق والحدود فرصة للاسلام الذي يهدف الى ان يكون دين البشرية جمعاء.

ولكن الاسلام ليس دينا عقيدة فحسب، فهو، ايضا، مجتمع:

تجربة بشرية حاضرة وتاريخ بشري، اضافة الى كونه واقعا تنتمي اليه شعوب كثيرة لكل منها انجازاته الحضارية.

المواجهة ليست، اذا، مع العولمة نفسها بقدر ما هي مواجهة مع الذات تقتضي توفير الشروط التي تسمح لنا بمواجهة واقع قائم، فنحن ندرك سلفا اننا سنواجه مجموعة من التحديات على غير صعيد، ومن وجهة نظرنا، اننا لا نستطيع مواجهة هذه التحديات، على المستويين: القريب والبعيد، الا اذا واجهنا، قبل ذلك، الذات ورؤيتنا من منظور الاسلام نفسه، ما يشكل وسيلتناالثقافية، او العقائدية لمواجهة «العولمة».

العولمة تحثنا على مواجهة ازمة ثقافتنا الاسلامية. وباختصار اقول: ان ابرز مظاهر هذه الازمة، هو نقص الحرية في هذه الثقافة، وهذا النقص له مصدران اولهما، يتعلق بالانظمة الاستبدادية غير الديمقراطية التي لا تتيح الحريات الضرورية اللازمة للتجدد الثقافي والفاعلية الثقافية، وثانيهما ذهنية التحريم الدينية وعدم تحديد المسموح والممنوع. واكاد اقول:

ان هذه الذهنية الغريبة عن طبيعة الاسلام وطبيعة العقيدة الاسلامية تشكل عنصرا استلاب ربما يكون اكثر خطورة مما تمارسه الانظمة السياسية التي تحاصر الحرية، بوصفها رديفا اساسيا لاي تطلع نحوثقافة فاعلة ومتطورة. واكاد اقول: ان الحرية والثقافة هما رديفان لا يفترقان.

لماذا يجب ان نواجه ازمتنا الثقافية؟ ولماذا يجب ان تكون هذه المواجهة مؤهلا لنا لمواجهة تحديات العولمة؟

(الصفحة – 255)


ما اظنه اننا لا يمكن ان نكون جزءا فاعلا من هذا العالم ما لم نحاول ان نستخرج اهم ما تختزنه ذاتنا الثقافية واصفاه، وهذا امر لا يمكن ان نجترحه من دون ان نخوض معركة حرية حقيقية مع السلطة الحاكمة وانظمتها التي تعمل على ان لا يكون للثقافة سلطة على الاطلاق وعلى ان يكون للسلطة ثقافة سائدة. السلطة تريد دائما ان تكون ثقافتها هي السائدة والمهيمنة.

وانني ازعم، وعلى مستوى ذهنية التحريم، ان الاسلام هو تارة عقيدة ونصوص هي الملزمة بالنسبة للمسلم، وهو تارة اخرى مجموعة تفسيرات لهذه النصوص. المستوى الاول هو عقيدة ثابتة، اما المستوى الثاني فهو اجتهاد بشري. ما ازعمه هو ان هذا الاجتهاد البشري استطاع ان يتخذ لنفسه، في كثير من الاحيان، القداسة نفسها التي يملكها النص الديني. بهذا المعنى، فان الفكر الاسلامي ما لم يعمل على اختراق هذا الحاجز الذي يقوم بين واقعنا المعاصر وبين النص الاول، على ان يكون هذا الاختراق حيويا يستطيع ان يستنبط من النص الاول اجتهادا له ملامحنا وتطلعاتنا، فانه ليس بالامكان القول انه لدينا، نحن المسلمين الان، ثقافة اسلامية معاصرة بالمعنى الحقيقي للكلمة.

واذا اردنا ان نخوض تحديات العولمة، بما فيها التحدي الثقافي، فابسط الشروط التي تطلب من المتحدي ان يمتلك ثقافة ذات طابع اصيل وان يكون هو مسهما في انتاجها، وليست ثقافة موروثة عن الاجداد مهما كانت هذه الثقافة الموروثة، هامة ورفيعة ونبيلة لاننا مدعوون لان ننتج ثقافة خاصة تعتبر الاسلام مصدرها، ولا تكتفي بذلك، بل لابد من ان تعتبر ان مصدرهاالاخر هو العصر وتحدياته. بهذا المعنى، فان تحديات «العولمة»، في جوهرها، هي تحديات الذات قبل ان تكون تحديات العالم الاخر. هل نجرؤ على مواجهة تحديات الذات؟ هذا هوالسؤال الذي تطرحه العولمة. وعلينا ان نعمل على الاجابة عنه، وبذلك نبدا المضي في الطريق الموصل الى النجاح في مواجهة تحديات العصر الحديث، فنكون فيه حاضرين فاعلين.

ثم تحدث د. رفيق العجم:

(الصفحة – 256)


الاجتماع العالمي والمجتمعات العربية والاسلامية بين العولمة والخصوصية درجت، في الاونة الاخيرة، عملية استعمال لكلمتي العولمة والخصوصية. وفي لقائنا هذا لابد من ان نصطلح على هذه الالفاظ، في دلالتها اللغوية، وفي دلالتها على جملة من المفاهيم والابعاد النظرية من جهة والمحسوسة المدركة من الوقائع من جهة اخرى. ولعل هذا الاصطلاح يمهد لمزيد من القاءالضوء على واقع الاجتماع العالمي الراهن ومن ضمنه حال المجتمعات العربية والاسلامية.

ان وزن «فوعل»، في العربية، من خصوصيته الدلالة على التعمل في الشيء. اي التكلف في فعل، ويدل ايضا على الشيء يقوم بوظيفة آلية وان لم يكن آليا. وهذا الامر ينطبق على وضع العلم الذي تعمل بالتفنين (التكنولوجيا) واصبح هو بعينه يقوم آليا في فرض نفسه على الانتظام والاجتماع العالميين، ما املى عالما مادته العلم يتعمل تلقائيا وآليا مظهرا انساقه ونظامه وعملياته وسلوكاته.

ومن خلال هذا البعد يصح ايراد لفظة عولمة (بزيادة التاء على وزن فوعل: عولم)، مع اخذ مدلولها في الاكثر، على انها عملية يقوم بها المهيمين الاول في العالم، وهذا ليس دقيقا او متطابقا،اذ لابد من التفريق بين الاستعمار والهيمنة التي سادت في القرنين الاخيرين وبين العولمة الحالية.

كما ان لوزن فعول (خصوص، خصوصية) في العربية، خصوصية الدلالة على المتكثر تكثرا غير منفصل، او الموحد من الاشياء الكثيرة، فاصبحت الكثرة من الخواص والخاصيات غيرمنفصلة تدل على ما يميز ويخص ويفصل المجتمعات او الاشياء.

فاستخدمت كلمة خصوصية، اي النسبة الى الخصوص، دلالة على الميزات الثقافية وربما الحضارية التي تميز مجتمعا ماعن سواه. ولهذا الاعتبار اوردنا خصوصية المجتمعات العربية والاسلامية. فالمجتمعات العربية لها خصوصية والمجتمعات الاسلامية لها خصوصية. ولعل ذلك يتمثل في مجموعة الوقائع والظواهر التالية:

مجموعة القيم والمعتقدات والنظر الى الكون والحياة والاجتماع.

(الصفحة – 257)


اللغة وما تمليه من بنيان يعبر عن ذهنية وعن موروث قابع فينا.

جملة من العادات والتقاليد.

مجموعة من السلوكات والتوجهات ومعطيات من الحوافز والدوافع.

اشكال خاصة من الاجتماع تتمظهر في الاسرة وجماعة المحلة والاجتماع السياسي. تلحقها اشكال الحياة وازياؤها.

انماط للتربية داخل الاسرة وضمن فهم عملية التعليم. ولا عجب ان لحظنا ان العولمة دخلت المجتمعات العربية والاسلامية والمجتمعات العالمية كافة من غير استثناء، ولا سيما بعد انهيار الانظمة الشيوعية وانفراط عقد تمايزها. فما هي مظاهرالعولمة الرئيسية كما تبدو لنا؟ تتمثل العولمة في الظواهر التالية:

1- توزع الناتج العملي والاقتصادي على اساس وحدة كوكب الارض، وتقسيم العمل ضمن افق عالمي بعيدا عن الحصر في الافق القومي او القاري.

2- نمو حركة المواصلات نموا كميا كبيرا ونوعيا مذهلا، ما قصر المسافات وسهل حركة البشر ضمنها. وجعل التنقل التجاري والصناعي والثقافي سهلا وفي وجيز من الزمن، يماثل التنقل في البلد الواحد او الدولة الواحدة.

ولحقت ذلك سهولة قوية في نقل الاموال والارصدة، وتسريع الاتصالات بين الافراد والقرارات البشرية المتعلقة بادارة الانتاج.
3- هيمنة اللغة الانكليزية بوصفها لغة تخاطب وتبادل ونتاج كشفي على التعاملات الثقافية والاقتصادية، نظرا لسلطة الناطقين بها على اكثرية الانتاج والتكنولوجيا، ولما يسرته المجتمعات الناطقة بها من مؤسسات كشفية وعلمية، غزرت عبرها معاني العلوم والكشوف باللغة الانكليزية.

4- البحوث العلمية التي ادت الى وضع في تكنولوجيا الاتصالات يختلف تماما عما سبقه، ويسمح بتلقي المعلومات ونقلها الى الاخر بيسر وسرعة واختصار للمسافات والازمان:الحاسوب، الانترنيت،

(الصفحة – 258)


الفاكس التلفزيون والمحطات الفضائية وما شابه.

5- نظام سياسي يعتمد الديمقراطية والحرية في الشقين: السياسة والاجتماع. ففي السياسة حدثت حركة تمثيل ناجحة افرزت باستمرار ممثلين للناس يماثلون اختياراتهم الحقيقية الى حد ما، ويقاربون سير الافراد في الترقي واعتماد الافضل والاصلح. وفي الشق الاجتماعي حدث توافق دائم بين مكتشفات العلم المستخدمة في ترقي الانسان وسيطرته على الطبيعة وسعادته في الدنيا وبين تحفيز الاكتشاف وايجاد المؤسسات الراعية له واختيار الاكفا والاستفادة من طاقات كل الشعب.

6- مهدت الميزة السابقة، عبر العقود الخمسة الاخيرة، لتمايز اوروبا واميركا ومن ثم لتفوقهما التدريجي، الذي حسم كليا لصالح الدولة الاولى الراعية في العالم وهي الولايات المتحدة مع خاصياتها في نمط الحياة السياسية والاجتماعية، وسعة امكانياتها التي تشبه امكانيات القارة في الطاقة البشرية والطبيعية، وساعد على ذلك انفراط عقد المجموعة الشيوعية وانهيارها.

7- ادت رعائية الولايات المتحدة الى فرض تدريجي لانماطها وانساقها في عملية العولمة. فنقلت، او اوجبت، روحية البراغماتية، بوصفها نظرة الى المعاش والى القيم. وفرضت نسقايحتذى للاجتماع البشري سمته طريقة في انتظام المجموعات الانسانية والعرقية واللغوية والشعوب في نظام جامع، به ما يجمع وفيه ما يسمح بالتمايز لبعض الخصوصيات:

المكسيسكي،العربي، المسلم، البورتوريكي، الصيني، الهندي الخ... يعيش في بعض خصائصه ويلتقي بجوامع مع الاخر في امريكيته، النظام العام، اللغة، الضرائب الحقوق والواجبات، الهوية والدفاع الخ...

8- املت السمة السابقة وفرضت نسقا مشوها خارج المجتمع الاميركي لا يماثل الوضع الداخلي. فاضحت البراغماتية، بوصفها سمة عملية اجرائية تعتمد النتيجة: العملية او النظرية،المتاقلمة والناجحة والفاعلة، اضحت سمة تعتمد النفعية العملانية والغلبة الوحشية في سوق طبعه نفوذ راس المال وغلبة الاقوى

(الصفحة – 259)


وفرض النظام العالمي لمن يملك التكنولوجيا ولصالحه. وتوزيع العمل والانتاج والمعرفة بما يضمن سيطرة الراس او المركز الاول على الاطراف.

وقد ادى كل هذا الى توقف السير نحو الحرية السياسية في مجتمعات الاطراف، والى عدم اعتماد الاكفا والاصلح في اختيار النخب ونمو المؤسسات نموا طبيعيا وتلقائيا، واكتساب العلم اكتسابا تدريجيا آليا وانتقاله وتواصله تواصلا طبيعيا على المستوى الانساني. فظهر الاحتكار والجذب الى المركز والمنع المعرفي والاحباط والقسرية في الادخال الى النسق الفارض المحتذى باشكاله الحضارية: معاش، تفنين، فن ازياء، لغة، تواصل، معارف، علوم سوق الخ..

ما يمكن قوله، استنادا الى الوصف السابق، ان هذه الظواهر حدثت في «بنينة» الوضع العالمي الجديد فسمي ذلك عولمة. حيث كان الفعل شبه تلقائي، ساعدت عليه عمليات نحو العلم وتفنيناته، وآزرته القوى التي امتلكت هذا العلم وتفنيناته داخل شعوب معينة وتبعا لمسلك في انظمها شقته فنجح واقعيا. وورثته عن تراكمات دور استعماري ودورة في حضارات العالم محددة المعالم والاوضاع والظروف.

كل هذا يغاير عملية الاستعمار التي تركزت على اساس تمايز الخصوصيات القومية، ومحاولة الحاق وتذويب ارادية لخواص المستعمر امام المستعمر بفرض الانظمة والامن والسياسة واللغة والقيم فرضا قسريا، كان من الطبيعي ان يجد ردة فعله بحركات التحرير والحركات الوطنية والقومية وعدم الانحياز وغيرها.. بينما يختلف الوضع الحالي اذ اخذت المجتمعات كلها تتشكل على المستوى الكوكبي -كوكب الارض- في بنيان له السمات التي تقدمت. وبعمل تلقائي الى حد ما فرضته التكنولوجيا والقوى العارفة والمالكة لها.

ومن ثم اذا انتقلنا الى السمات الرئيسية لما اصطلح عليه بالخصوصية العربية والاسلامية مقابلة ومقارنة لوجدنا الاتي:

1- في توزع الناتج العملي والاقتصادي عالميا تشارك فعليا دولة

(الصفحة – 260)


عربية واحدة تقريبا وبعض الدول الاسلامية التي لا تتجاوز الخمس في عملية التصنيع والتجارة على اساس عالمي،وكاطراف نسبتها ضعيفة جدا امام الشرق الاقصى واوروبا والهند، وما زالت بقية الدول تعتمد المادة الخادم والانتاج الحرفي الضيق والمحلي.

2- تفتقد الدول العربية والاسلامية لشبكة مواصلات عصرية فيما بينها واحيانا ضمن القطر الواحد، ومحدودية في حركة تنقل الاموال نظرا لطبيعة الانظمة المالية والسياسية باعتمادها السوق المغلق والموجه والرقابة على الطريقة الشيوعية. وكل ذلك يجعل هذه المجتمعات هامشية في مسار الحركة الاقتصادية العالمية.

3- الضعف العلمي الشديد للغات الخاصة بالشعوب الاسلامية:

العربية الفارسية، التركية، اللغات الهندية الخ.. والمقصود بذلك عدم مشاركة هذه اللغات بالعملية العلمية والتكنولوجية.فقدان الترجمة السليمة البناءة، عدم البحث العلمي والاختراع بهذه اللغات.

4- مشاركة ضعيفة وخجولة في نظام الاتصالات الجديد، واقتصار ذلك على نخب وفئات محدودة. وتوسع في المشاركة الاستهلاكية للتلفزيون الذي قلما يحدث نقلة معرفية، اذ ان برامج المحطات العالمية التي تبث العلم نسبتها ضعيفة وان بثته فيبث باللغات الاجنبية التي لا تفهمها العامة وانصاف الخاصة.

5- انظمة سياسية مختلفة عن تطبيقات الديمقراطية والحرية كليا. وغربة تامة عن عمليات الاكتشاف والابداع، وان حدثا فان نظام القيم والتحفيز المعتمد لا يقوم على اساس الاكفاوالاصلح، بل على اساس الانتماء السياسي والعشائري والفئوي. وكل هذا بعيد عن سر لعبة النجاح التي حصلت في الغرب وادت الى مزيد من الكشف العلمي المذهل، والى وضع من الاستقرار المجتمعي.

6- افرزت رعائية الدولة الاولى عالميا، وتبعا لسيرورة تاريخية معينة في الشعوب العربية والاسلامية، وضعا له توجهات عدة، تتمثل في ما ياتي: ا- في احتضان دولة غاصبة افرزت حروباوصراعا واحباطا اثر في العملية

(الصفحة – 261)


الانتاجية والاجتماعية والمعرفية للشعوب العربية والاسلامية ولا يزال. ب- في رقابة مباشرة وتحديد لكل تطور تلقائي في اكتساب العلم والتكنولوجيا. ج-في ديمومة قوى حاسمة مما ابعد الفرز والتجدد وتحقق الديمقراطية ومنع دفع القوى الافعل وقوى التغيير والاصلاح نحو قيادة المجتمعات.

ان كل ما تقدم وسبق لا يعدو كونه مشاهدة عامة والتقاط بعض الرسوم والسمات العامة ووصفها.

ويبقى السؤال المهم: كيف واجهت الشعوب العربية والاسلامية في العقدين الاخيرين، او كيف تفاعلت مع ما يحدث تباعا من بنينة لهذه العولمة وما يلحقها من سياسات وفعل ورد فعل؟
اتجهت الشعوب العربية والاسلامية، بما هي عليه من دول وانظمة، ثلاث وجهات كبرى.

اولا: وجهة الانعتاق من كل تراث واصول وتذويب الخصوصية امام تجربة الغرب بتبنيها انجازاته على غير صعيد: المعرفة واشكال الاجتماع ونمط الانتاج، التركيبات السياسية واحيانا الى حد ما تبديل اللغة او الحرف. وذلك عبر توجيهات لنخب او فئات من غير ان يطال التغيير كل البنية المجتمعية والافراد كافة. فكانت تجربة هجينة غريبة لم تنجح، بل بقيت طرفا ضعيفا في العولمة ولم يطل التغيير المعرفي البشر، وبالتالي عجزت شعوب هذه التجربة عن المشاركة الفعلية في العملية الانتاجية والاجتماعية العالمية واغتربت عن جذورها، فكان نموها نموا غيرطبيعي.

ثانيا: وجهة العودة الحادة الى التراث ونقله للحاضر معرفيا واجتماعيا اي وضع (ايديولوجيا) فكروية فوقية فارضة، وتمثل الحياة والعادات والازياء الموروثة. والقيام احيانا بالاخذ بنتائج العلم والتكنولوجيا من غير تمثل للمعارف التي انتجت هذا العلم وتلك التكنولوجيا وما لحقها من حياة وعادات وازياء ورسوم تترابط مع طبيعة الانتاج والعلم. وبالوقت عينه بقي العلم بعيدا عن الانصهار والتزاوج مع اللغات المحلية فابتعدت مفاهيمه

(الصفحة – 262)


عن اذهان العامة والشعوب. ومن الطبيعي ان تعتمد هذه الوجهة انظمة الملكية وما شابهها. وكان من نتيجة ذلك بقاء حال الانفصام بين الخصوصية والعالمية بين القديم والحديث. ومن الطبيعي عندها عدم انبناء الحضارة بناء متماسكا. اذ لم تستطع الخصوصية ان تدخل دخولا فعالا مع العولمة وشريكا اصيلا او بناء في بناءات.

ثالثا: وجهة الجمع بين توجهات التحضر الغربي والخصوصية المحلية، وهي تجربة الحكومات العسكرية وشبه العسكرية، وما اطلق عليه في العالم العربي الدولة القومية. لكن هذه التجربة بقيت محدودة لم تستطع النفاذ والدخول في عولمة بطرف قوي مشارك. بل على العكس فشلت في انجاز الكثير من الاهداف وبقي المجتمع منفصما بين تيار تغريبي وتيار سلفي. ولعل المسقط الرئيسي في ذلك عدم اعتماد الحرية والديمقراطية التي هي انجاز في الاجتماع الانساني وليس حصرا او خاصا في الغرب، نجد ارهاصاته في المدن القديمة وفي الشورى الاسلامية وفي قيم الكنيسة الداخلية في التراتبية وغير ذلك.

وقبل الدخول في الحلول، او افتراضات الحلول الايجابية، لابد من الاقرار بمرارة ان الحضارة الاسلامية بمنجزاتها، على صعيد العلم، كانت رائدة في حقبتها ولم تعد تفي بمتطلبات الحاضر.

فكل التجاء اليها حاضرا هو ابتعاد عن المشاركة في انجازات الحاضر لبناء المستقبل. كما لابد من الاعتراف بان العولمة وسماتها وتوجهاتها تفرض نفسها بنيويا على صعيد الكوكب برمته.

لذا كيف يمكن حل هذا الاشكال المتمثل بهضم الحاضر والفعل فيه، انبناء على خصوصية عربية واسلامية تخص هذه المجتمعات: تميزها من جهة وتجعلها مشاركة مشاركة فاعلة وليست مهمشة من جهة اخرى.

وتتمثل هذه المقترحات التي تطال البنية العميقة لمجتمعاتنا بجملة الاقتراحات التالية:

1- القيام بعملية تمثل واسعة لكل انجازات العلم، وهو علم انساني، ولكل المناهج والانظمة المعرفية البحثية التي ادت اليه. بمعنى عدم اخذ النتيجة التكنولوجية بعيدا عن الاخذ بالعلوم والمناهج والعقلية التي ادت الى هذه التكنولوجيا.

الايمان بالكشف المستمر بالترقي والتغير بالتجريب، والاشتغال بالوقائع من غير مساس بالايمان والتوحيد. اعتماد انظمة تحفيز للاكفا والافضل بعيدا عن

(الصفحة – 263)


كل هوى قبلي وعشائري وطائفي باعتماد مفهوم تساوي افراد الامة تساويا مطلقا.

2- احياء اللغات المحلية احياء واسعا بالقيام بعملية نقل المعاني العلمية كلها وطبعها بطبع هذه اللغات. ثم دفع البحث والكشف والكتابة بهذه اللغات عبر توجيه خاص وعام على مستوى كل هيئات المجتمع، ما يتطلب ايجاد مؤسسات علمية متفاعلة مع الخارج وفاعلة مع الافراد في الداخل بمثابة المحول. وهذا يقتضي تفعيل معاجم اللغات على مستوى جماعي وتوحيدالاصطلاح وفهم كنه المدلولات العلمية الوافدة وعمقها. ثم الدفع باتجاه الكشف في هذه اللغات والكتابة بها. كما يطلب تحويل كل المعاني العلمية الى اللغات المحلية لتصل هذه المفاهيم الحديثة لكل الافراد مما يحدث حركة نقل معرفي وتطبيع للاذهان بعلوم الحاضر. وفي الوقت عينه يكون العلم قد انطبع بخواصنا المحلية. اذ ان اللغة من اهم خصوصيات ذهنية الشعوب.وبهذا الامر نحافظ على تميزنا ضمن العالمية العصرية.

3- حركة نقدية بحثية لقراءة التراث واعادة قراءة النص الديني وتفسيره بعقلية الحاضر، ما يجعل الاسلام ساريا في كل العصور.

وهو المقصود بمطلقيته. ان المشكلة ليست بالاسلام بل بالمسلمين الذين يفهمون الاسلام والنص المقدس كما فهمه السلف. والمطلوب الاستئناس بمنجزات السلف واعادة القراءة والفهم على ضوء تطورات علوم التفسير والتاويل وعلوم الاناسة التي تخص الانسانية ولا تخص الغرب فحسب، انها اكتشاف في سلم الترقي، في ضوء فهم م آلات الشريعة ومقاصدها الموجهة لصالح الانسان. من ذلك مسائل القصاص والحدودوالربا ووضع المراة والزواج.

4- اعتماد التجربة وتفاعل النظر مع الواقع. وهذه السمة من اخص خصوصيات الذهنية الاسلامية، وهي سمة التجريب واعتماد رد الفعل العملي والتعامل مع المتعينات. ويمكن الرجوع الى منهج اصول الفقه والبحث فيه عن هذه المنهجية:

منهجية التوافق العملي والبدء بالوقائع.

5- محاولة ايجاد انماط انتاج جديدة تسوق في العولمة ومنتجات

(الصفحة – 260)


متعددة متخصصة تشكل نماذج لخصوصيات مجتمعاتنا الاسلامية، باستلهام فنوننا مع التكنولوجيا، حرفنا مع التكنولوجيا،زراعتنا مع الكيمياء والصيدلة العصريتين.

وامثل على هذه النماذج الخاصة باختصاص اليابان في منتجات معينة ونجاحها وغزوها السوق وبصناعات سويسرا واثرها في السوق الخ..

هذه العمليات تؤدي الى تثبيت مجتمعاتنا في لعبة العولمة وتجعلها اطرافا اقوى وافعل عوضا عن التهميش واللحاق المستلب.

6- تعميق المسالة الديمقراطية في السياسة والاجتماع لتتيح التسريع في عملية التطور واللحاق بالركب العلمي والمشاركة فيه. لان هذه المسالة هي المسؤول الرئيس عن اشراك كل افرادالامة في العطاء، وهي قناة العبور نحو بروز الاصلح والاكفا والاكثر ابداعا في الامة.

7- تعزيز المنظمات الاقليمية والمؤسسات الفاعلة على مستوى الامة الاسلامية لمحاولة هادفة بعيدة، تعمد الى خلق قوى متعددة داخل العولمة بدلا من التفرد بقوة واحدة راعية.

عندها تبرز الخصوصية وتفرض نفسها اكثر فاكثر. على ان هذه التعزيزات الوجودية: المؤتمر او الجامعة الاسلامية وغيرها تحترم تماما التفرد ونظام التباين الصغير في مجتمعاتها ولا تعمد الى اللون الواحد والبعد الواحد، ان النجاح في جعل العناصر تحافظ على ذواتها وتتراكب في وحدة متماسكة. د. زراقط: في تعقيب سريع على ما تفضل به د. عجم يمكن القول:

ذكر د. عجم ان الشعوب العربية والاسلامية، بما هي عليه من دول وانظمة اتجهت ثلاث وجهات كبرى، ثم ذكر ان ما عرفه الغرب من انظمة تعتمد الديمقراطية وتتيح الحرية تجد ارهاصاتها في ما سماه «الشورى الاسلامية»، ونجد من الضروري، في هذا المقام، الاشارة الى امرين: اولهما ان الانظمة العربية ان كانت تتيح الحرية لشعوبها فانها عملت على استعمار الشعوب الاخرى، وتعمل على اعاقة نمو هذه الشعوب لتبقيها مصدر مواد اولية رخيصة من نحو اول

(الصفحة – 265)


وسوقا لصناعاتها من نحو ثان وهذا هو النظام العالمي (العولمة) الذي تعمل على فرضه، وتحارب كل من يقاومه بمختلف الوسائل، وثاني الامرين ذو علاقة باولهما، فقد عرف العالم الاسلامي اتجاها متميزا يرتبط بالاصول الاسلامية، ومنها الشورى، ويصدر عنها في مواجهة تحديات الحاضر، وهو الاتجاه الذي يحاربه الطرف الاقوى في النظام العالمي الجديد ليجعل «العولمة» في خدمة مصالحه. وان تكن الحضارة الاسلامية، على مستوى الانجازات العلمية ،لم تعد تفي بمتطلبات الحاضر، فان الالتجاء لا يكون اليها وانما الى الروحية، او العقلية، التي دفعت الى انجازها، فهي التي تمكننا من الانتاج، اي من الحضور الفاعل القادر على الافادة من العولمة بوصفها وسائل متاحة لكل قادر على استخدامها، فالمهم هو امتلاك القدرة على الحضور والفعل. فالاشكالية هي كيف تمتلك ذاتنا هوية اصيلة، منبثقة من تاريخها وواقعها من نحواول، وفاعلة في الثاني وصانعة للاول، كما كان اجدادها من نحو ثان؟ ثم تحدث د. طلال عتريسي في موضوع «المسلمون وعولمة الثقافة بين الوهم والحقيقة»، فقال:

يتفق معظم الباحثين العرب، وربما غير العرب ايضا، على عدم وضوح مفهوم «العولمة»، وعلى صعوبة الاحاطة به من الناحيتين النظرية والعملية. واذا كان هذا الاتفاق الضمني يدفعهم الى الحذر في تفسير الظاهرة، والى التدقيق والتعميق لانها ما زالت في طور التبلور والتكوين، فان «العولمة» على الرغم من ذلك كله، باتت، منذ سنوات، تشغل المثقفين واهل المال والاقتصادوالحكم، وكذلك المتخصصين في العلوم الانسانية، وقسما من الراي العام.

وبينما يتوحد الراي حول خلفيتها الاقتصادية اساسا، تراه ينقسم الى مؤيد ومعارض حول النتائج التي ستترتب عليها، وحول جوانب الحياة التي ستتاثر بها. خصوصا وان ما يسمى «القرية الكونية» التي هي عالمنا الذي نعيش فيه، تتعرض، من طريق تقنيات الاتصال والشبكات الدولية للمعلومات، الى استقبال الافكار والقيم والمفاهيم التي يراد لها ان

(الصفحة – 266)


تكون، كالاقتصاد، مفاهيم عالمية يتداولها سكان هذه «القرية» لتنظيم حياتهم السياسية والاجتماعية، وحتى العلمية والاخلاقية، على اسس «جديدة» وعالمية، على الرغم من اختلاف قدراتهم ومواهبهم، ودرجات وعيهم وتقدمهم.

ليست العولمة، في نظر الاقتصاديين، حادثا جديدا، على الرغم من كثرة استخدامها وتكرار القول حولها، فهي، وباعتبار الاقتصادات العالمية المفتوحة على بعضها، تعود الى عقود خلت،وقد زادت في سرعة تحققها الثورات المتتالية في الاتصالات الالكترونية والتقدم المستمر في وسائل النقل.

لكن الاهتمام بهذه الظاهرة تعاظم بعد سقوط الاتحاد السوفيتي قبل سنوات، وما حمله هذا السقوط من دلالات رمزية وواقعية لانتصار مفاهيم خصمه السياسية والاقتصادية التي صارعته طوال نصف قرن، اي الليبرالية السياسية واقتصاد السوق، ما شجع بعض الباحثين على اعتبار ما حصل، ليس نهاية الصراع فحسب، بل «ونهاية للتاريخ».

وفي تقدير العولمة وآثارها المحتملة، نظرتان متناقضتان:
اولاهما تدعو الى التعامل معها من دون قلق «لانها يمكن ان تتيح فرص عمل عديدة لذوي المهارات ولمن يملك استعدادا للحركة في الاسواق العالمية. ولانها يمكن ان تساند الدول الفقيرة كي تتخلص من فقرها. كما انها لا تفرض قيودا على استقلال الدولة وسيادتها كما هو شائع» وثانيتهما تعد العولمة «عملية غسل حقيقية للادمغة تجري على مستوى العالم، وتهدف الى ترويج فكرة ان تحرير التبادل التجاري والحرية الكاملة للاسواق، ستؤدي حتما الى ارتفاع عالمي لمستوى الحياة، والى مجتمعات اكثر عدلا للجميع.. وبدلا من ان تؤدي العولمة الى خفض عدم المساواة ضاعفت ذلك بين الامم، وفي داخل كل امة.. كما ستكون الديمقراطية نفسها الضحية الرئيسة للتبادل الحر وللعولمة». اضافة الى هاتين النظريتين المتناقضتين ثمة من يذهب الى القول بان «الراسمالية بوصفها ظاهرة كونية شاملة: اقتصادية، وسياسية، وثقافية، لا تزال

(الصفحة – 267)


تتوسع منذ خمسة قرون في سائر ارجاء المعمورة، وهذه المنظومة وصلت اليوم الى حدودها.. وان معضلة الراسمالية ليست في اخفاقها، وانما في نجاحها، فهي تقتل نفسها بالنجاح..».

اضافة الى هذا الاساس الاقتصادي الواضح «للعولمة»، والى المخارف الاقتصادية والاجتماعية من آثارها السلبية القادمة، ثمة اسئلة تفرض نفسها في عملية التداخل الواضح بين الاقتصادوالاجتماع والسياسة والثقافة والسلوك، كما تعبر عنها «العولمة»، او كما يراد لها ان تكون. ومن تلك الاسئلة على سبيل المثال:

هل ستؤدي «عولمة» الاقتصاد، بالوتيرة المتسارعة التي تسير عليها منذ سنوات، بفضل التقنيات الحديثة والشبكات الدولية للمعلومات، الى عولمة مماثلة في الثقافة بفضل هذه التقنيات نفسها التي بات من الصعب، كما يرى بعضهم «رد قضائها»؟ وهل ستؤدي مثل هذه «العولمة» الى تذويب الهويات الثقافية او دمجها قياسا الى ما فعلته وما ستفعله مع الاقتصادات المحلية قبل دمجها في الاقتصادات الكبرى؟ او ان الامر سيؤدي الى ماهو خلاف ذلك، اي الى تاجيج الهويات الثقافية والقومية والدينية في كثير من بلدان العالم، ومنها البلدان الاسلامية؟ وهل تملك «العولمة» نفسها قوة اخلاقية موازية لسيطرتها الاقتصادية تسمح لها بان تقدم نفسها نموذجا تبشيريا في موضوع القيم يمكن معه ان تدعو الى تغيير اساليب حياة الشعوب كافة وانماط عيشها السياسية والاجتماعية والعائلية؟ واذا كان اغلب الباحثين العرب غير متحمس للعولمة الاقتصادية بسبب الاوضاع الراهنة المعروفة للاقتصادات العربية وللمشاريع العربية المشتركة، فهل هم كذلك، وبالقدر نفسه من التشاؤم، بالنسبة الى «العولمة الثقافية»، ام ان دعوات «الانفتاح» و-«مواكبة العصر»، على ارتباكها اقوى في الموضوع الثقافي منه في الموضوع الاقتصادي؟ ان النقاش حول محتوى الثقافة الغربية وعالميتها، ليس جديدا في المجتمعات العربية والاسلامية، بل

(الصفحة – 268)


يعود الى قرابة قرن من الزمن مع بداية احتكاك المسلمين المباشر بالاوروبيين، ومع تحقق المشاريع الغربية الاستعمارية في البلدان العربية والاسلامية، الا ان عودة الحرارة الى هذا النقاش الذي لم يتوقف اصلا ترتبط بدورها بانهيار الاتحاد السوفيتي الذي اطلق الاسئلة حول «عولمة» الاقتصاد، وحول «المسالة الثقافية» ايضا، لا ببعدها «العولمي» فقط، بل والخصوصي ايضا حتى باتت موازية للاقتصاد والسياسة في هموم واولويات ما بعد الحرب الباردة ومابعد نهاية التجاذب بين المعسكرين السابقين. وقد ذهب بعضهم الى طرح الاسئلة حول مستقبل القرن الحادي والعشرين في ظل تفتت المجتمعات السياسية على قواعد اثنية قومية وحتى دينية «لان من الصعوبة الفائقة حل الصراعات التي تتصل بالهوية، لانها تختلف تماما عن الصراعات الاخرى التقليدية التي تحل بالتوازنات او بتعديل الحدود وبالتفاهم المتبادل. ولان الصراع حول الهوية يمس عمق المجتمعات، حيث النرجسية تمس الفرد والجماعة معا».

كما ان ما حصل من تطورات هائلة على مستوى تقنيات الاتصال والمعلومات دفع بدوره «المسالة الثقافية» الى مقدمة المخاوف والهموم وليس الاهتمام فحسب، لدى كثير من شعوب العالم، نظرا لمقدرة هذه التقنيات التي تمتلكها الدول الكبرى والغنية على «اختراق» الثقافات الاخرى من خلال مادة جذابة تسر العين ويسهل هضمها وابتلاعها.

مؤشرات «خصوصية» الثقافة على الرغم من التداخل المفترض في جوانب «العولمة»، ومن الهيمنة الاحادية لبعدها الاقتصادي، ثمة عناصر ومؤشرات تبلورت في العقد الاخير من هذا القرن، تدل على عدم قبول مثل تلك الهيمنة في الموضوع الثقافي وعلى عدم الرغبة في الانخراط فيه. اما ابرز تلك العوامل فيمكن ايراده كما يلي:

صعود «الاصولية الاسلامية» في كثير من البلدان العربية والاسلامية وما رافق ذلك من تسليط الضوء، في الادبيات الفكرية والسياسية، على المشروع الثقافي لهذه «الاصولية» وعلى تعبيراته المختلفة المتشددة

(الصفحة – 269)


المنغلقة، او العقلانية المجددة.. خصوصا وان «مواجهات» كثيرة حصلت، ذات بعد ثقافي وفكري، بين بعض هذه التيارات الاسلامية وبين كتاب ومفكرين وادباء..

كما ان هذه التيارات نفسها استخدمت شبكات «الانترنت» لنشر الفتوى، والدعاية لنفسها، ولترويج خطابها السياسي والاطلاع على دورياتها والبيانات التي تصدر عنها، او حتى التنسيق في ما بينها سواء اكانت مقيمة في الغرب ام في دولها العربية والاسلامية. وهذا يعني ان التقنيات الحديثة في الاتصال صارت جزءا مما تستخدمه الجماعات الدينية وغير الدينية للتمسك بثقافتهاوهويتها وتوسيع دائرة الدعوة اليها، وليس بالضرورة، كما هو مفترض، للانجذاب الى ثقافة «العولمة».

بعد الدعوات الى «الشرق اوسطية» والى «المؤتمرات الاقتصادية والتنمية» التي تبنتها الولايات المتحدة واسرائيل لانهاء الصراع العربي الاسرائيلي وتحويل الدولة العبرية الى دولة«عادية» مع جوارها العربي والاسلامي من خلال التعاون والتطبيع الاقتصادي والتجاري والتنموي، برزت مقابل ذلك من الجانب العربي الرسمي وغير الرسمي دعوات الى التمسك بالهوية القومية بديلا من «الشرق اوسطية» او من التطبيع، لان كليهما لا يهدف الا الى استبدال هوية المنطقة العربية والاسلامية باخرى جغرافية تضم بلدان الشرق الاوسط بما فيهااسرائيل. وقد تشكلت، في هذا الاطار من الاهتمام بشان الهوية والثقافة، جمعيات وهيئات «لمواجهة الغزو الثقافي الصهيوني» في البلدان العربية.. وعلى الرغم من الشك في امكانية وجودمثل هذه الثقافة الاسرائيلية، ناهيك عن امكانية تهديدها لثقافتنا العربية والاسلامية، الا ان الامر يعبر عن تزايد الاهتمام بالشان الثقافي واعتباره مرجعية يمكن اللجوء اليها في عملية الصراع والمواجهة مع اسرائيل «داخل» عملية السلام وخارجها، بعدما كانت ادبيات «المواجهة» الثقافية لسنوات طويلة لا تتوجه الا نحو غرب شامل غير محدد الاطر او المعالم.

اثارت، قبل سنوات، مؤتمرات الامم المتحدة، في بكين والقاهرة،

(الصفحة – 270)


حول المراة والسكان حفيظة دول عربية واسلامية، فانتقدتها بسبب تعارض بعض ما جاء في بنودها مع التقاليد الدينية والاجتماعية ومع المفاهيم الاسلامية والمسيحية، عن المراة والاسرة والجنس والزواج.. وكانت تلك الانتقادات، بمحتواها الثقافي رالديني، محط لقاء بين دول اسلامية كثيرة فرقتهاالسياسة والمصالح. كما ان الدعوات الى التربية على السلام، والديمقراطية، وحقوق الانسان، والاعتراف بالاخر وقبوله التي طرحتها اليونسكو «كمساهمة من التربية على المستوى الدولي في مواجهة العنف، والصراعات الاثنية، وظواهر الكراهية وعدم التسامح نحو المهاجرين والاقليات» وهي جزء مفترض من نظرة «العولمة» الى العلاقات بين الشعوب والاقوام،اثارت بدورها تحفظات واتهامات في بعض البلدان العربية والاسلامية اذ تم ربطها بالتحولات الدولية بعد الحرب الباردة، ومع المشروع الاميركي -الاسرائيلي للسلام في الشرق الاوسط الذي يدعو الى قبول «الاخر» الاسرائيلي والعيش معه بسلام ومن دون عنف، خصوصا وان مثل هذه الدعوة الى ثقافة «قبول الاخر» وما رافقها من مؤتمرات، ومخيمات تدريب، وما بثه الاعلام حولها وحول «التربية على السلام» انحصر تقريبا في البلدان العربية دون سواها..

صدور دعوات من «المعسكر الغربي» نفسه «تشجع» العودة الى المسالة الثقافية بوصفها خصوصية والتركيز عليها، من خلال اعتبار الاسلام والحضارة الاسلامية تهديدا قادما ومحتملالحضارة الغرب سوف يؤدي بعد ما زال التهديد الشيوعي الى «صدام بين الحضارات» وفقا لاطروحة هانتنغتون الشهيرة.

ومهما كانت الدوافع السياسية، او الاستراتيجية، خلف مقولة الصدام هذه، التي ناقشها الكثيرون وردوا عليها، فان ظهورها والترويج لمثلها، بهذه الوتيرة، وفي هذه المرحلة التاريخية،والظروف الاقليمية والدولية التي يعيش فيها العرب والمسلمون حالة من الدفاع والتراجع فيما يتفرد الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا بالتفوق والهيمنة، عزز لدى الطرف

(الصفحة – 271)


المتهم بالتهديد الهواجس الثقافية، التي اعادت الى التداول، وبقوة، مصطلحات الغزو والهوية بين الباحثين والمفكرين في البلدان العربية والاسلامية.

ادت مشاريع التفرد الاميركي والهيمنة على العالم، الى تصاعد الهاجس الثقافي في بلدان العالم كافة، بما فيها اوروبا نفسها، التي لم تخف قلقها من «امركة» حثيثة متنامية في اللغة والادب والفن والسينما، حتى في الذوق والغذاء والزي تركت آثارا واضحة على الجيل الشاب خصوصا. وقد اضطرت السلطات الفرنسية في محاولتها لمواجهة ذلك الى خطر استخدام المفردات الانكليزية في وسائل الاعلام، او في الاعلانات والمحال التجارية.

فشل معظم مشاريع التحديث في البلدان العربية والاسلامية.

وعجزها عن تقديم النموذج الوطني او القومي الذي ينسجم مع الهوية والانتماء في الاقتصاد والتنمية والاجتماع والتربية والتعليم والثقافة.. وقد ادى ذلك الى ولادة احساس حاد بالغربة تفاقم بمرور الوقت لدى قطاعات واسعة من المجتمع، والى ظهور ما اطلق عليه «ازمة هوية» في هذه المجتمعات تم التعبيرعنها في ما كتبه بعض المثقفين من جهة، وفي الانتماء الواسع من اوساط اجتماعية مختلفة، الى حركات سياسية وثقافية ودينية ترفع شعارات الاصالة والتراث والهوية وتدعو الى العودة اليها.

وربما يفسر ذلك كله جانبا اساسيا من ذهنية التشدد التي تسيطر على بعض حركات الاحتجاج الديني وغير الديني ورغبتها المتسارعة «واللاعقلانية» في ممارسة التغيير، او الدعوة اليه سلما او عنفا.

وربما امكن ان نضيف الى ذلك كله تصاعد الشكوى والتحذير في بلدان الغرب نفسه، وعلى لسان الكثير من فلاسفته والباحثين في اميركا واوروبا، من التراجع المخيف للقيم المعنوية والروحية امام طغيان التملك والمنفعة والاستهلاك في النموذج الحضاري الغربي ووحشيته. وقد ترافقت تلك الشكوى مع التشديد على اهمية تلك القيم في اعادة التوازن المفقود الى هذاالنموذج العالمي. كما يذهب بعض المفكرين الفرنسيين، انطلاقا من الهاجس الثقافي، الى وصف العصر الجديد بعصر

(الصفحة – 272)


الاغتراب، متسائلا «اذا لم تكن الثقافة في اوروبا مهددة بالموت لان الحرب الجديدة للاعلام المتعدد يمكن ان تؤدي الى هزيمة خطيرة لاوروبا في المواجهة مع الولايات المتحدة، كتلك التي تلقتها في ميادين السينما والتلفزيون، والتي ساهمت في الاستعمار الثقافي الحالي..«.

على الرغم من مؤشرات تنامي الاحساس بالهوية الثقافية والدعوة الى التمسك بها في عصر «العولمة»، التي ذكرنا بعضها، ثمة لابد من الاشارة الى امرين اثنين:

1- الاقرار بالطابع العالمي لبعض التجارب التي فرضت نفسها طوال نصف قرن، كالديمقراطية التي برهنت على فوائد سياسية واجتماعية وبشرية، وكاساليب العيش والتنقل وحتى الازياء التي باتت شبه موحدة في انحاء العالم كافة.

2- ان الحديث عن الانسان والموارد البشرية وثقافة المجتمعات يفترض مقاربات اكثر عمقا وتعقيدا من الجوانب الاقتصادية او السياسية. فالثقافة بالمنظور الكلي «هي الجواب الذي تقدمه الجماعات البشرية لمشكلة وجودها الاجتماعي... وهي ليست مجرد ترف او استمتاع جمالي، وانما هي مجمل الحلول التي يوجدها الانسان للمشاكل المطروحة عليه من قبل محيطه... وبهذا المعنى يصبح الاقتصاد نفسه جزءا لا يتجزا من الثقافة».

ان البعد الثقافي الذي يتحرك، بوصفه مفهوما وآليات وانساق في حقل واسع من التفاعلات السياسية والاجتماعية والدينية وسواها، يصعب اختزاله او النظر اليه من زاوية واحدة او من بعدواحد. ولهذا السبب ينبغي ان نعيد طرح السؤال حول «ازمة الثقافة» في البلدان العربية في عصر «العولمة»، استنادا الى محاولة تحديد ماهية العلاقة بين «ثقافتنا» وثقافة العالم الذي هوالغرب حاليا. وبمعنى آخر هل ثقافة «العولمة» ليست سوى غزو، كما يردد بعض الباحثين، يمارسه الغرب بما يملك من تقنيات وقوة ونفوذ على شعوب العالم لتدمير بنى الدفاع والمناعة عندها؟ وهل يتجه هذا «الغزو» من بلدان الشمال الغنية الى بلدان الجنوب الفقيرة والمتعبة؟ ام هي «الموجات الثقافية» ذات الاتجاه

(الصفحة – 273)


الوحيد التي تصدر عن بلدان الحركة في الشمال لكي تغرق كوكب الارض باسره»؟ واذا لم يكن الامر غزوا، كما يفضل البعض القول، فما الذي يحصل على الجبهة الثقافية في هذا العالم، اذا كان بمقدورنا اصلا ان نفصل بين جبهات الثقافة والسياسة والامن والاقتصاد والاعلام والاتصال؟ ان الثقافة، بوصفها الجواب الذي تقدمه الجماعات البشرية لمشكلة وجودها الاجتماعي، والحلول التي يوجدها الانسان للمشاكل المطروحة عليه من قبل محيطه، تغط ي حقلا واسعايصعب تحديده نظرا لاتساع ميادينها والموضوعات التي تهتم بها، ونظرا الى تنوع العناصر التي تشكلها، والى استمرار آثارها من حقبة الى اخرى، ناهيك عن حالات الضعف او القوة التي تمر بها. وفي الوقت الذي يعتبر فيه بعض الباحثين الثقافة والحضارة صنوين، يراها آخرون جزءا من الحضارة في مرحلة من تاريخ تطور شعب من الشعوب او من تاريخ اسهامه في العطاءالانساني. كما يمكن بسبب هذا الاتساع في الحقل الذي تغطيه الثقافة ان نربط بينها وبين علوم الانسان، وبين الفنون، والادب، والشعر، والموسيقى، لتمييزها من العلوم الاخرى الطبية اوالعسكرية او الفيزيائية. ويمكن ان ترد الثقافة ايضا الى معناها اللغوي، او القرآني، او الانتروبولوجي، او السوسيولوجي، او حتى التاريخي..

ان الثقافة، اذا شئنا الا نعود الى تعريفات اكاديمية لا حصر لها، هي هذا الكل الذي يعبر عن العناصر الاساسية للشخصية الفردية والاجتماعية والتي تتكون، كما نعتقد، من مثلث العلاقات الذي يتفاعل، ويلخص النظرة الى اللّه (العقيدة والدين)، والى الاخر (الكون والطبيعة والمجتمع)، والى الذات (الرغبات والغرائز). اي انها التجربة التي تلخص، استنادا الى هذا المثلث،الجوانب الابداعية، والاجتماعية، والسلوكية، والعبادية، والتي تسمح بتراكمها على مر السنين بالتمييز بين مجتمع وآخر، وبين ثقافة وثقافة. فهل مثل هذه الثقافة هي التي تتعرض لتهديد«العولمة» في مجتمعاتنا العربية والاسلامية؟

(الصفحة – 274)


اتجاهات ازاء «عولمة» الثقافة برزت، في اوساط الباحثين والمفكرين في البلدان العربية والاسلامية في مواجهة «عولمة» الثقافة اليوم، اتجاهات عدة، يمكن تقسيمها، كما حصل في بداية الاحتكاك مع الثقافة الغربية في مطلع القرن، الى ثلاثة اتجاهات رئيسية دب الضعف والوهن في بعضها، وسرت القوة والطاقة في بعضها الاخر.

فقد راى بعض الباحثين، في اتجاه اول، ان تمثل الغرب وثقافته تمثلا تاما هو السبيل الذي لابد منه في العالم العربي والاسلامي للحاق بركب التطور. بينما رفض آخرون، في اتجاه ثان،الغرب جملة وتفصيلا، داعين الى التشبث بقيم الدين والتراث، اما الاتجاه الثالث فهو الذي بحث ولا يزال عن كيفية التوفيق بين الارث الديني بقيمه الاخلاقية والروحية والانسانية، وبين التقدم العلمي والثقافي الذي احرزه الغرب اليوم على باقي العالم. كما برزت، في داخل كل تيار، مذاهب ورؤى «متشددة» واخرى «معتدلة» في النظرة الى الغرب والى الدين والتراث، وتتنوع بين من يدعو الى الرفض الكلي ومن يدعو الى الذوبان الكلي. علما بان هاتين الدعوتين للرفض الكلي او للذوبان التام باتتا اليوم اكثر انحسارا من اي وقت مضى.

ومن بين الباحثين العرب من يرفض مقولة الخصوصية الثقافية او الدعوة اليها في مواجهة «العولمة»، اذ لا خصوصية خارج العالمية. ومن غير الممكن ان نتحدث عن تبعية او استقلال مادمنا نقيم على ارض الغرب على الصعيد الحضاري والمدني.

ونحن مدينون لهذا الغرب باسباب معاشنا ومظاهر عمراننا.

والتطور الذي تشهده مجتمعاتنا لم يكن ليحصل لولا التوسع الغربي ولولا احتكاكنا بالغرب الحديث.. وان مصطلح «الغزو» عديم الفائدة في تفسير العلاقة بين الثقافات والافكار.. وان مقولة الغزو.. دليل قصور عقلي وخواء فكري..

والمشكلة اننا نفكربطريقة تقليدية وبعقلية تراثية نصوصية. اما الهوية، بالنسبة الى اصحاب هذا الراي، فليست سوى انغلاق، وربما كانت المحافظة بما هي الانغلاق هي

(الصفحة – 275)
المسؤولة عما نعانيه من كوارث وتصدعات».
هذه الدعوة لربط التطور بالتوسع الغربي، في مجتمعاتنا، يقابلها على الضفة الاخرى رفض لكل «الدعوات المشبوهة» لعصرنة الدين «لانها صيحات المرجفين، الذين يبدون حرصهم على الدين وهم في حقيقة امرهم يريدون تدميره.. اما الرد المطلوب على دعوات مماثلة فلا يكون الا بتعظيم النص..

وهذه المنهجية الجديدة القديمة في فهم الدين، هي منهج السلف الصالح..».

تتعارض هاتان الدعوتان المتقابلتان على ضفتي الثقافة، مع الاتجاه السائد لدى معظم الباحثين العرب والمسلمين، الذي يقر بضرورة الانفتاح على الغرب. وقد تختلف تيارات الدعوة الى هذا الانفتاح على الغرب والتعرف اليه في الحجم والمحتوى، لكنها جميعا لا توصد الباب امام رياحه. بل تنزع الى المزيد من الشروحات او الاسانيد التاريخية او العلمية او حتى الفقهية التي تشرع مثل هذا الانفتاح في عصر بات الانغلاق فيه مستحيلا. هكذا نرى دعوات الى هذا الانفتاح استنادا الى الدين، او الى التراث العربي، او الى التفريق بين وجهي الغرب السياسي والحضاري..

امام غلبة الغرب وسطوته، ونظرا لاستحالة العزلة الثقافية والمعرفية، ومع التداخل بين السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي والتكنولوجي، نحتاج اليوم، عربا ومسلمين الى تحديدالمرتكزات الاساسية لمحتوى علاقة الغرب بنا، مهما كانت التسمية او الدعوة الى تلك العلاقة ومدلولاتها: الاختراق، او التبادل، او الغزو... لان المشكلة ليست في انخراطنا في عصر العلم والثقافة، فقد بات مثل هذا الامر بديهيا، وهو يتنامى باستمرار، وتلجا اليه قطاعات واسعة من المجتمع لاغراض اقتصادية وتربوية وسياسية واخلاقية، وحتى غير اخلاقية ايضا.

ان المشكلة تكمن في محتوى ما يزيد نقله بوساطة هذه التقنيات، وفي علاقة هذا المحتوى ببنية اجتماعنا العربي الاسلامي، اي بهويتنا الثقافية.

ان الدعوة الى مواجهة «العولمة الثقافية» ومخاطرها المحتملة على

(الصفحة – 276)


الثقافة او على الهوية العربية لا يمكن ان تبقى في اطار عموميات تجديد الثقافة العربية او تجديد التراث.. او غير ذلك مما يتكرر في الادبيات العربية حول ضرورة العودة الى الذات والانفتاح على العالم في وقت واحد. ان الامر بات يشبه «الاسلام هو الحل» الذي تردده بعض الحركات الاسلامية من دون ان تقول كيف واين يبدا هذا الحل، وباي تفاصيل واساليب ومناهج ورؤى ثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية..

ان عجز العرب والمسلمين عن تعطيل سطوة الاعلام او عن منافسته، وعدم قدرتهم على مثل هذه المواجهة المفتوحة من اقصى العالم الى اقصاه، ينبغي الا يمنعنا من التاكيد على ان الاستقلال الثقافي هو اساس البناء الذي يحفظ الهوية التي تنشدها الشعوب وتتمسك بها الاقوام قديما وحديثا، حتى بعد «سقوط الايديولوجيات». وفي الوقت الذي تعمل فيه «الدول الكبرى» على الهيمنة والتسلط، وعلى تشكيل الراي وبث «المعرفة» وتغيير السلوك، من الافضل ان نؤكد على حماية الحلقة المركزية، او ما نسميه «نظام المناعة» في الحماية والتماسك وفي مشاريع المواجهة او مشاريع الانفتاح.

اما مرتكزات هذا النظام فهي التعليم والاسرة. واذا استعرضنا ما حصل في البلدان العربية منذ قرن الى اليوم لوجدنا ان التعليم والاسرة كانا على الدوام هدفا لذلك الاختراق باشكال واساليب شتى. فعبر الاول يتم تهميش الثقافة والولاء والانتماء، وفي الاسرة يتم تفكيك القيم والروابط وكذلك تبديل الادوار التي نظمها الدين عموماوالاسلام خصوصا. وعن هذا التبديل والتفكيك للادوار والقيم تنتج كل الصور «العالمية» للمراة وللجنس والعنف، وحتى لتشريع الشذوذ والانحراف.. ومن غير الممكن ان نبقى في اطارالانتقاد لتلك الصور او الاعتراض على بثها من دون ان نستحضر المناعة التي تشكلها الروابط الاسرية والقيم الدينية في ذلك.

ان اختراق هذه البنى الدفاعية، كما يحصل في عالم اليوم، هو الاكثر خطورة. لا لان الاختراقات الاخرى الفكرية، او السياسية، او الاقتصادية ليست بذي بال. بل لان اختراق النواة يفسدالدوائر كلها.. وهو اختراق

(الصفحة – 277)


يزداد خطورة، كما هو معلوم، مع تقنيات العصر الحديث لانه يتسلل عبر التحريض الدائم للرغبة وعبر تكرار الصورة والمفهوم، ليتحول تدريجا الى مالوف نحبه ونعتاد عليه، والى افكار نحملها وسلوك نمارسه.

وفي اي حال من المواجهة، او حتى في اي علاقة متكافئة او ندية، ثمة قوى او عناصر استراتيجية ينبغي حشدها، او على الاقل حمايتها والمحافظة عليها. ونعتقد ان نظام المناعة بمرتكزيه التعليمي والاسري اساسا، اذ لا شك في ان لهذا النظام مرتكزات اخرى، هو تلك القوة الاستراتيجية التي يمكن ان تشكل قاعدة لهوية ليست وهما ولنهضة ثقافية وانسانية ينشدهاالكثيرون في المجتمعات العربية والاسلامية.

اننا ندعو الى الجمع بين «الحداثة» و «التقليد». اي ان يكون التعليم مرتبطا بالهوية القومية ومنفتحا على تطورات العصر وعلومه. مستخدما احدث وسائله وتقنياته، بينما تبقى الاسرة«تقليدية» في القيم والضوابط والاخلاقيات الدينية التي حافظت عليها..

اما بعد ذلك، فلا ضير في ما يردنا من الغرب.

(الصفحة – 278)

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف