البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

حقوق الإنسان في الإسلام‏ من التأصيل إلى التقنين

الباحث :  محمد دكيرالاستاذ محمد
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  11
السنة :  السنة الثالثة خريف 1419 هجـ 1998 م
تاريخ إضافة البحث :  January / 22 / 2015
عدد زيارات البحث :  2543
حقوق الإنسان في الإسلام‏ من التأصيل إلى التقنين
الأستاذ محمد دكير (*)
انتشار الوعي الحقوقي في العالم‏
تعدّ قضيَّة حقوق الإنسان من أهمِّ القضايا التي احتلّت الصدارة والاهتمام العالمي والمحلِّي. وذلك مباشرة بعد انتهاء الحرب العالميَّة الثَّانية، حيث ظهرت الحاجة للسِّلم العالمي، وضرورة خلق توازن دولي، إضافة إلى سعي عدد من الشّعوب لتحقيق استقلالها، وشروعها في بناء الدولة الوطنية، هذه الدولة التي واجهتها عدة مشاكل وعقبات مهمة، كان على رأسها الاختيارات السياسية والاقتصادية والأيديولوجية التي تبيَّن أن لها علاقة مباشرة بموضوع حقوق الإنسان.
هذه الاختيارات كان لها وقع مزدوج داخل العالم الإسلامي، فهي إلى جانب إسهامها في إحداث تغييرات جذرية في جميع البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية التقليدية، أحدثت تطوُّراً ملموساً في مجال الحقوق الإنسانية. إلا أنَّها، في المقابل، فجَّرت مجموعة من الإشكاليات التي عولجت، وتمت مناقشتها بشكل واسع تحت عناوين مختلفة مثل: الأصالة والمعاصرة، الخصوصيَّة والعالميَّة، الهويَّة والغزو الثقافي، وغيرها من العناوين التي تدلُّ على فداحة التحدِّيات التي تعرض لها العالم الإسلامي، بعدما فقد السَّيطرة على حدوده السياسية والثقافيَّة بالخصوص.
لقد وُضع الإسلام في قفص الاتهام، مباشرة بعد الهزائم الحضاريَّة التي توالت على العالم الإسلامي، واعتُبر المسؤول الأوَّل عن تخلُّف المسلمين. وطالبت فئات داخل العالم الإسلامي، منبهرة بالحضارة الغربية، بإبعاد الإسلام عن جميع مناحي الحياة، لأنَّه يشكل، من منظورها، عائقاً أمام التطوُّر المطلوب. وقد
________________________________________
(*)کاتب من المغرب.

[الصفحة - 188]


وجدت هذه المطالبات من يدعمها على المستوى الفكري والأيديولوجي، إذ نجد أن مجموعة كبيرة من الكتابات التي أنجزت داخل مراكز البحث في الجامعات الغربية وخارجها، انصبت في إثارة الشبهات وتفجير القضايا الفكرية الحساسة، للتدليل على أن الإسلام يعدّ من أهم الأسباب في تخلُّف الأمة الإسلامية. وأن عدداً من تشريعاته ونظمه القانونية التقليدية المتوارثة، تسهم بشكل واضح في تكريس هذا التخلف عن ركب الحضارة.
كانت ردود الفعل مختلفة ومتعدِّدة، بعد تحقيق التحرُّر السياسي وانطلاق عملية تجديد شاملة لجميع البنى، مواكبة في أحد جوانبها المهمة، عملية الدفاع عن الإسلام ونظمه التشريعية في مجالات الاقتصاد والسياسية والإجتماع، وتبرئته من الخلل الذي أصاب العقل المسلم الذي توقَّف عن الفعل الحضاري.
ومع التطوّر الذي عرفه مجال حقوق الإنسان، على المستوى العالمي، خلال العقود الخمسة الماضية، أضيف إلى التحديات السابقة تحدٍّ جديد، جعل الفكر الإسلامي الذي انشغل طويلاً بالدِّفاع عن النظم الإسلامية، يتوجه بسرعة نحو الإسهام بمعالجة قضايا حقوق الإنسان، لإبراز إسهام الإسلام في هذا المجال كذلك. وصولاً إلى تأكيد تفوُّق التشريع الحقوقي الإسلامي، وموافقة هذا التشريع ورؤاه الفكرية لحقوق الإنسان الشاملة.
لذلك فقد عرفت السنوات العشرون الأخيرة حركة نشطة في مجال التأليف الإسلامي في محاولة لتأصيل الحقوق الإنسانية. والكشف عن إسهام الإسلام في هذا المجال الذي حظي باهتمام كبير في الآونة الأخيرة.
وجاءت سرعة الاستجابة، من طرف الفكر الإسلامي، رد فعل مباشراً للتحدِّي الذي طرحته المواثيق والإعلانات العالمية من جهة، وتصاعد وتيرة الاهتمام بحقوق الإنسان في العالم من جهة أخرى.
أهمُّ التطوُّرات العالميَّة في مجال حقوق الإنسان‏
الاهتمام بمجال حقوق الإنسان ليس وليد الآونة التي تلت الحرب العالمية الثانية، كما لا يمكن أن نرجعه إلى «حقبة زمنية معينة أو مترتبة عن أيديولوجية
________________________________________

[الصفحة - 189]


واحدة، ومحددة، وإنما هي {الحقوق‏} نتاج تراكمات تاريخية متتالية ومتعاقبة» (1) ، وما خلَّفته العقائد الدينية من مبادى تبجل الإنسان وتعلي من قيمته وتنبذ العسف والظلم» (2) .
إلاَّ أن الاهتمام الغربي المعاصر، بهذا المجال، على مستوى التنظير والممارسة، وصولاً إلى تقنينه في مواثيق وإعلانات عالمية، جعل هذا الاهتمام يأخذ بعداً عالمياً لم يسبق له مثيل من قبل، وكان من نتائجه المهمَّة، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر عن منظمة الأمم المتحدة سنة 1948م.
إن التطوُّر الذي عرفه مجال الحقوق الإنسانية، على المستوى النظري بالخصوص، يرجع بالأساس إلى التطوُّر السياسي الذي عرفته أوروبا، ومحاولة عدد من المفكرين والفلاسفة، الوقوف في وجه الاستبداد السياسي للدولة والكنيسة، من دون إغفال الموروث اليوناني والروماني الذي شكَّل الخلفية الفكرية لهؤلاء المفكرين، وهم يضعون المباحث السياسية ويطوِّرونها. لقد شهدت أوروبا آنذاك صراعات دامية وطويلة من أجل: «إسقاط بعض المفاهيم السياسية التي تؤسس للاستبداد السياسي والديني، وتنكر على الإنسان الفرد كيانه وحقوقه» (3) . كفكرة الحق الإلهي التي كانت الكنيسة تروِّج لها، أو فكرة العناية الإلهية التي قامت عليها الشرعية السياسية للملوك والأباطرة.
من هنا بدأ الفكر الأوروبي، بعد صراع سياسي واجتماعي طويل ومضن، يصل إلى بعض النتائج، وكان من أهمِّها فصل الدين عن السياسة، ومحاولة وجود بدائل وأفكار تؤسِّس لعلاقة جديدة بين الدولة والمجتمع، على أساس ديني أو غيبي، ولكن على أسس واضحة وموضوعية، وذلك ليس لتحجيم الاستبداد السياسي فحسب، ولكن لتحرير الإنسان من قوة الدولة وسيطرتها المجحفة والمنتهكة لحقوقه الذاتية والواقعية. ويمكن الحديث هنا عن ثلاث نظريات طوَّرت المجال السياسي الغربي ودفعت به إلى الأمام، ما كان له التأثير الكبير، ليس على مجال حقوق الإنسان بشكل عام فحسب. ولكن على الواقع السياسي الغربي المعاصر الذي شكلت هذه النظريَّات خلفيته الفلسفيَّة والفكريَّة.
________________________________________
(1)الدكتور أحمد بلحاج السندك، حقوق الإنسان، رهانات وتحدِّيات، الرَّباط، شركة بابل للطباعة، 1996، ص 8
(2)أمينة البقالي، حركة حقوق الإنسان: من أجل أنسنة العمل السياسي، مجلة الوحدة، العدد 63/64، السنة السادسة، 89/1990، ص 75.
(3)المحامي حسين ضناوي، وعي حقوق الإنسان: جذور التطور والحماية، جريدة النهار البيروتية، بتاريخ 17/12/1990م، ص 2.

[الصفحة - 190]


النظرية الأولى: فكرة القانون الطبيعي التي عرفها اليونان، وكانت تعني عندهم «وجود قانون ثابت لا يتغير مستمدُّ من الطبيعة بكشف العقل عن روح المساواة والعدل الكامنة في النفس» (4)ثم انتقلت الفكرة إلى الرومان، لكنها ستعرف تطوراً على مستوى المضمون. وذلك عبر إضفاء طابع اللائكية عليها، مع فقهاء القرن السابع عشر الميلادي.
النظرية الثانية: العقد الاجتماعي، وهي كما صاغها لوك (ت 1704م) وروسو (ت 1770م)، تقوم على مناهضة الحكم المطلق، في محاولة لترسيخ أسس الحكم الديمقراطي، وذلك باعتبارهما العقد الاجتماعي عقداً تبادلياً، يرتب حقوقاً وواجبات إزاء المحكومين والحاكمين‏ (5) . وقد أسهمت هذه النظرية في تطور المذهب الفردي، بإقرار وجود حريات وحقوق طبيعية سابقة على المجتمع المنظم، يجب على السلطة عدم الاعتداء عليها. كما أسهمت في وضع الضمانات الدستورية والسياسية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وعموماً فقد جاءت الثورة الفرنسية معتمدة على مبادى المذهب الفردي الحر. فأصدرت وثيقة إعلان حقوق الإنسان والمواطن سنة 1789م، متضمِّنة النص على الحرية والمساواة والملكية وحق الأمن وحق مقاومة الظلم‏ (6) .
النظرية الثالثة: جاء منتسكيو، صاحب كتاب «روح القوانين»، ليعلن أن تحقيق العدل، داخل أي نظام سياسي، رهين بفصل السُّلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية.
ومع هذه التجارب، وما واكبها من بحوث ودراسات فكرية، اهتمت بميدان الحريات العامة وحقوق الإنسان، تبلورت الرؤية الخاصة لدى الغرب (الرأسمالي) في مجال حقوق الإنسان.
استفاد المذهب الليبرالي (الرأسمالي) من الانتقادات التي وجَّهها له المذهب الاشتراكي الذي بدأ يتبلور تنظيراً وممارسة، ما دفع به نحو التَّطوُّر والتَّوسع ليشمل ميادين جديدة، ظهرت أهميَّتها مع التطور الصناعي، كالحقوق الاقتصادية والاجتماعية المتعددة للطبقات العاملة، ما أضاف أبعاداً جديدة لمفاهيم حقوق
________________________________________
(4)عمر ممدوح مصطفى، القانون الروماني، القاهرة، ط3، 1959م، ص‏16.
(5)الدكتور محمد خريف، حقوق الإنسان بالمغرب، منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، الرباط، مطبعة المعارف الجديدة، 1994م، ص 14.
(6)أحمد البخاري وأمينة جبران، الحريات العامة وحقوق الإنسان، مراكش، وليلي للطباعة والنشر، ط1، 1996م.، ص 69.

[الصفحة - 191]


الإنسان، وأعاد النظر في بعض الحقوق من حيث الأولويَّة والأهمية. وأدخل حقوقاً جديدة لم تكن معتبرة من قبل. وبالتالي فالتطور الفكري والسياسي الذي عرفته أوروبا، بشطريها الرأسمالي والاشتراكي، إضافة إلى التجربة السياسية الأمريكية، قد نجم عنه تراكم هائل على مستوى التجربة والتنظير في مجال حقوق الإنسان. دفع به ـ أي هذا التراكم ـ ليفرض نفسه على المستوى العالمي، لتصبح المطالبة بحقوق الإنسان والدعوة إلى احترامها دعوة عالمية، تتبناها المؤسسات الدولية والوطنية وتسعى لاحترامها وفرضها (7) .
أمام هذا التراكم، نجد أن مجال حقوق الإنسان قد عرف تطوُّراً لا مثيل له من قبل، وأن الوعي أصبح ذا بعد عالمي، يؤثر في جميع المشاريع والتشريعات والاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تقوم بها الدول في العالم ككل. وهذا مما وسّع مجال التحدي أمام الفكر الإسلامي، الذي وجد نفسه مضطرّاً للدخول في معالجات وسجالات متعددة المناحي والأوجه، سنطلع على بعض ملامحها بعد قليل.
أمَّا في العالم الإسلامي، وعلاوة على أصالة الحقوق الإنسانية في الإسلام، فهذه الحقوق محلّ إجماع عدد لا بأس به من المفكِّرين المسلمين والعرب، كما أن الدعوة للاهتمام بالحقوق الإنسانية كانت قد واكبت عمليات التحرر السياسي، حيث كان شعار الدفاع عن الحقوق الإنسانية، من أهم الشعارات التي رفعتها الحركات التحررية في وجه الاستعمار. وبعيد الاستقلال، عرفت هذه المطالب نوعاً من التوسُّع، وفجَّرت مشاكل وقضايا جديدة. يقول المحامي حسين ضناوى: «أصبحت قضية حقوق الإنسان داخلية وطنية تهدف لضمان عدم استبداد الحكام، وقيام أنظمة ديمقراطية ذات شرعية حقيقية» (8) إلا أن الاهتمام بحقوق الإنسان في العالم الإسلامي، سواء على المستوى التنظيري أم على مستوى الممارسة، لم تتضح معالمه إلا خلال العقدين الأخيرين، وذلك مع انتشار موجة التأليف والتأصيل وتوسعها في هذا الميدان من جهة، وظهور منظمات وهيئات محلية تختص بالدفاع عن حقوق الإنسان من جهة أخرى. إضافة إلى تطور التشريعات القانونية المعمول بها. وحجم الضغوط الدولية التي كان من آثارها مصادقة عدد كبير من الدول
________________________________________
(7)مثل منظمة العفو الدولية التي لديها الآن ما يزيد عن (700 ألف) عضو مشترك في نحو (150) بلداً في جميع أنحاء العالم، وما يزيد على (4200) مجموعة محلية في (63) بلداً، إضافة إلى عدد كبير من المنظمات الوطنية التي تهتم بالدفاع عن حقوق الإنسان وفضح الانتهاكات المختلفة.
(8)جريدة النهار البيروتية، م.س.، ص 90.

[الصفحة - 192]


الإسلامية على بعض المواثيق الحقوقية الدولية، وإدخال بنودها ضمن التشريعات والقوانين المحلية المعتبرة عند التطبيق‏ (9) .
لكن ما يلاحظ، وخصوصاً بالنسبة للعالم العربي، أن الاهتمام بهذا الميدان، وما أنتج، من مواثيق محلية، ومنظمات حقوقية (10) ، جاء من طرف بعض الشخصيات العلمية والأكاديمية، من حقوقيين ومفكرين. ولم يكن للدولة أو الأجهزة الرسمية أي نشاط فعال في هذا المجال، باستثناء الاهتمام المتواضع الذي أبدته جامعة الدول العربية، والذي أثمر إنشاء اللجنة الدائمة لحقوق الإنسان.
لكن، ومهما قيل عن تردِّي الوضع الحقوقي في العالمين العربي والإسلامي، فإنَّ تطوراً إيجابياً يمكن تلمسه في صدور عدة بيانات حقوقية عربية وإسلامية، ومطالبة أصحابها بإدخالها ضمن التشريعات المحلية والنظم القانونية المعتبرة، وانتشار عدد كبير من المنظمات الحقوقية داخل العالم الإسلامي، وقد أخذت على عاتقها تطوير مجال الحقوق الإنسانية، بنشر الوعي الحقوقي، إلى جانب الكشف والتنديد بالخروقات التي تقع من طرف السلطات الحاكمة، أو غيرها من الجهات التي تملك وسائل القوة والقهر.
هذه التطوُّرات، على المستويين العالمي والمحلي التي عرضنا لها باقتضاب، شكلت الخلفية الموضوعية، لانطلاق عملية التأصيل الإسلامي للحقوق الإنسانية، وتأثرت بإشكالاته التي يفجرها بين الحين والآخر.
ملاحظة لا يفوتنا ذكرها هنا، وتتعلق بالصحوة الإسلامية الشاملة التي اجتاحت العالم الإسلامي، منذ بداية هذا القرن، وصولاً إلى تشكل ملامحها الأساسية خلال العقدين الأخيرين. لأنها أسهمت إسهاماً فعلياً في تدعيم عملية التأصيل الحقوقي، وسرّعت بتكاملها، لأن هذه الصحوة كانت قد عالجت عدداً من المواضيع في إطار دفاعها عن الإسلام والتَّبشير به، وتأكيد أفضليته من دون أن يكون العنوان الذي عولجت تحته هذه المواضيع حقوقياً. لكن توجه الفكر الإسلامي نحو التأصيل في مجال الحقوق، بخاصة، جعله يستفيد مما أنجز في مجالات فكرية إسلامية مختلفة.
________________________________________
(9)اعترضت عدد من الدول الإسلامية على بعض البنود الواردة في الإعلانات التي طلب منها المصادقة عليها، واعتبرتها مسوّغاً كافياً لعدم التصديق على هذه الإعلانات العالمية.
(10)ظهرت في العالم العربي مجموعة من المنظمات الحقوقية، وقد صدر مؤخراً كتاب عن المعهد العربي لحقوق الإنسان في تونس يعدّ أهم دليل لمعرفة هذه المنظمات وعناوينها.

[الصفحة - 193]


إن قضية حقوق الإنسان مركَّبة ومتعددة الأبعاد والمداخلات، باختلاف جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والدينية. ومن ثم يمكن أن تدخل ضمن دائرة اهتمام العديد من فروع المعرفة وتخصصاتها (11) .
لذلك فقد وجدالفكر الإسلامي نفسه، وهو يقوم بالتأصيل، يعرض للمذهب الإسلامي المتكامل في جميع مناحي الفعل الإنساني. لهذا كانت الصحوة الإسلامية التي سبقت هذا الاهتمام المتميز بهذا الحقل، رافداً مهمّاً ساعد، كما قلنا، في عملية التكامل السريع والشامل، وأنضج مبكراً عملية التنظير في هذا المجال. وصولاً إلى تقنين هذه الحقوق في مواثيق وإعلانات إسلامية، صدرت تباعاً خلال السنوات العشرين الماضية. وعليه لا بدَّ من اعتبار الصحوة الإسلامية واقعاً موضوعياً داخلياً، أسهم إلى جانب التطور العالمي في بلورة المنظومة الحقوقية الإسلامية، التي سنعرض لأهم ملامحها بعد قليل.
التأصيل الإسلامي لحقوق الإنسان: الملامح والمميِّزات‏
قلنا، سابقاً، إن قضية حقوق الإنسان قضية مركَّبة ومتعدِّدة الأبعاد، لذلك فقد وجد الفكر الإسلامي نفسه، وهو يقوم بعملية التأصيل لحقوق الإنسان، يعرض النظم الإسلامية في جميع المجالات. وهذه العملية فتحت عينيه على قضايا متعدِّدة، وجعلته يتعرض لتحدِّيات ذاتية جديدة. لأنه اصطدم أثناء، معالجة بعض القضايا الخاصة، بتجربة تاريخية طويلة، تعرض فيها تطبيق الإسلام، لمجموعة من الإخفاقات، إلى جانب بعض النجاحات بطبيعة الحال.
وقد شكّلت هذه التجربة وموروثها الفكري، زخماً ساعد من جهة المفكر الإسلامي على الإحاطة بأبعاد التشريع الإسلامي عند التطبيق أو التنظير. لكنه وقف، من جهة أخرى، عائقاً أمام الفصل في عدد من القضايا، التي تبيِّن أن التجربة التاريخية فيها كانت بعيدة جداً عن مقاصد الإسلام وشريعته، بالرغم من ترسانة التبريرات التي أوجدها العقل الاجتهادي الذي عايش هذه التجربة. لذلك يمكننا أن نؤكِّد على أن عملية التأصيل كانت تسير إلى جانب إعادة النّظر في عدد من الوقائع التاريخية، بالتحليل والدفاع عن اجتهاد معين تارة، باعتباره يمثل وجهة
________________________________________
(11)حسين توفيق إبراهيم، حقوق الإنسان في الكتب والرسائل الجامعية وبعض الدوريات العربية، مجلة منبرالحوار، عدد 9، السنة 3، ص 73.

[الصفحة - 194]


نظر الإسلام الحقيقية التي طبقها المسلمون، أو بالنقد والرفض تارة أخرى. وفي مرات عدة ساد الاختلاف وبقيت مجموعة من المواضيع معلَّقة تنتظر الحسم.
لكن ظهرت بعض الكتابات التي انتهجت الموضوعية العلمية، لتؤكد على أن الانتقادات التي وجِّهت للإسلام، كان يجب في حقيقة الأمر أن توجه للتطبيقات الخاطئة التي وقعت، وإلى بعض الاجتهادات التي تأثرت بالظروف التاريخية الموضوعية. لذلك لافبد من التفريق هنا بين مبادى النظام الإسلامي التي لا يشك أحد في أن مقاصدها تهدف إلى تحقيق واقع أفضل للإنسان في بعديه المادي والروحي، وبين وقائع التاريخ المحسوبة على الإسلام.
هذه الحقيقة التي أفصح عنها الفكر الحقوقي الإسلامي كانت مهمة جداً، لأنّها ساعدت على تعميق المراجعة الشاملة التي يقوم بها الفكر الإسلامي، وهو يجدد نفسه، لمواكبة التطورات الحضارية، وينفض عنه غبار التقليد وتجارب الماضي السلبية.
نجد، مثلاً، أن البحث في الحقوق السياسية في الإسلام، يدفع بهذا الفكر إلى محاولة الكشف عن النظام السياسي في الإسلام بعيداً عن التجربة التاريخية، ومناقشة إشكالاته، كالحديث عن الشورى ومقارنتها بالديمقراطية الغربية، والتأكيد على أن نظام الشورى الإسلامي يضمن حقوق المشاركة السياسية للإنسان المسلم. إضافة إلى الحديث عن حجم الحريات السياسية وطبيعة علاقة الحاكم بالمحكومين، وحقوق المعارضة وإنشاء الأحزاب. وكما قلنا، سابقاً، أدت معالجة هذه القضايا إلى إعادة النظر في عدد من الاجتهادات والتطبيقات التاريخية، انتهت إلى رفض الاستبداد السياسي، وتفنيد مسوِّغاته الفكرية، وقطع صلته بمبادى دينية تلبست بلباس القداسة، واتخذها أعداء الإسلام مطية للطعن فيه وفي تشريعاته.
الحقوق الاقتصادية كان لها نصيب مهم في عملية التأصيل، لأنها ستكشف بدورها عن نظام الإسلام الاقتصادي، عند البحث في الحقوق الاقتصادية التي يقدمها الإسلام للإنسان فرداً وجماعة، وتشريعاته الاقتصادية التي تكفل الرخاء والرفاه للمجتمع المسلم. لكن التأصيل، في مجال الحقوق الاقتصادية، عانى من
________________________________________

[الصفحة - 195]


تحديات جمة لأن المذهب الاقتصادي في الإسلام غير متكامل من حيث التنظير والتفصيل، وملامحه تعاني من الغموض. مع قلة البحوث الاقتصادية المنجزة في الماضي، وتطور المجال الاقتصادي المعاصر وتعقيده وتفرعاته الكثيرة، التي جعلت المفكر الإسلامي يشعر بنوع من التخبُّط، لأنه لم يجد بين يديه سوى الأصول العامة، وبعض الأحكام الجزئية في قضايا اقتصادية متفرِّقة. لذلك كان عليه أن يفتح باب الاجتهاد على مصراعيه لعلاج نواقص هذا الموضوع بالذات. خصوصاً إذا علمنا أن المذاهب الاقتصادية التي تم استيرادها من الغرب، وطُبِّقت في العالم الإسلامي، كان لها وقع سي‏ء على الهوية الدينية، لأن هذه المذاهب حملت معها خلفيات عقائدية ومظاهر، على نقيض تام مع دين التوحيد، بل مناقضة لكل دين. لذلك فالتحدي في هذا المجال كان كبيراً.
إلى جانب البحث في الحقوق السياسية والاقتصادية، كان هناك اهتمام متميِّز وخاص بحقوق المرأة، تشهد على ذلك كثرة الكتابات والدراسات التي أنجزت في هذا الموضوع، سواء الكتابات العامة التي تحدَّثت عن موضوع المرأة في الإسلام، وامتنعت بالرد على الشبهات والانتقادات التي يروِّج لها الغزو الفكري الغربي، وتجد بعض الآذان الصاغية لها داخل العالم الإسلامي، أم الكتابات المتخصصة في مجال الحقوق كما نصت عليها الكتابات الحقوقية الغربية، ومن ضمنها المواثيق والإعلانات الحقوقية العالمية. وموضوع المرأة في الإسلام، كان قد اكتسب صبغة ذات حساسية خاصة قبل التوجه الحقوقي، خلال العقود الأخيرة، لأن وضع المرأة بشكل عام كان من بين القضايا التي احتدم حولها النقاش مبكراً، مع وصول الجحافل الأولى للاستعمار الغربي وسيطرتها العسكرية على العالم الإسلامي. وبقي هذا الجدل محتدماً، وفي تصاعد مستمر، بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية، لأن الغزو الثقافي عبر وسائط الاعلام والتعليم، ما فتى يركِّز على هذا الموضوع ويثيره بين الحين والآخر. لذلك فقد وجدت المرأة المسلمة نفسها تتقاذفها التيارات والايديولوجيات المختلفة، بين منتصر لما تدعو له الحضارة الغربية من قيم وحقوق تخص المرأة، وبين قيم الإسلام التي امتزجت مع تقاليد المجتمعات الإسلامية وأعرافها. وقد استطاعت عملية التأصيل لحقوق المرأة أن تميط اللثام عن عدد من
________________________________________

[الصفحة - 196]


المغالطات الأيديولوجية، ووضعت في بعض جوانبها المتميزة، حداً بين ما يريده الإسلام من المرأة وما قدمه لها من حقوق، وبين الواقع التاريخي، أو وضع المرأة المسلمة الحالي، الذي يحكمه التخلُّف وعدم الانسجام بين النظرة الإسلامية الحقوقية والواقع المَعِيْش. لكن يمكن أن يقال إن عملية التأصيل في مجال حقوق المرأة قد بلغت شأواً من التقدم، تم فيه الاعتراف والانتباه لعدد كبير من الحقوق التي كانت، إلى عهد قريب، خارجة عن موضوع البحث أو المعالجة، بل كان النسيان والتجاهل يلفها ويلغيها من الوجود الواقعي. وبدأ الكلام عن حقوق تثير حساسية كبيرة داخل المجتمعات العربية والإسلامية، وهكذا بدأ الحديث عن الحقوق السياسية للمرأة وحقها في الولاية مثلاً؟
لكن لا بدَّ هنا من الإشارة إلى أن الفكر الإسلامي ما زال يتعامل مع الموروث الروائي المتعلِّق بالمرأة، بنوع من الحذر، وقلة الجرأة لمعالجته، لأنه مما لا شك فيه أن عدداً كبيراً من الأعراف والتقاليد قد استحالت عبر الوضع والكذب إلى أحاديث نبوية، كما أن التفسيرات التقليدية لكثير من الأحاديث، يجب إعادة النظر فيها، إذا أردنا فعلاً أن نكشف عن الوضع الحقوقي للمرأة كما جاء به الإسلام. وهذان الأمران: التردُّد والتخبُّط كثيراً ما يظهران في الكتابات العامة أو المختصَّة بحقوق المرأة في الإسلام.
وتفرَّع مجال التأصيل كثيراً، باعتباره استجابة للتحدِّيات الحضارية المعاصرة التي كان من أهم إنجازاتها الإعلانات والمواثيق العالمية والإقليمية والوطنية، والمطالبة بالعمل على وضعها موضع التنفيذ والتطبيق، لذلك نجد أن مواضيع كثيرة قد نوقشت وتم علاجها سواء بشكل مفصَّل وكبير، أم بدراسات محدودة. ومن العناوين التي عولجت وكثر حولها التأليف نذكر: الحقوق الاجتماعية والاعلامية، الحريات العامة، الدستورية، الزوجية، العائلية، الأقارب، العمال، حقوق الجنين، الآباء، المتّهم، الطفل، الأقليّات إضافة إلى عناوين أخرى تعالج مواضيع جديدة، طرحها التطور العالمي في هذا المجال.
ومما لاحظناه، عند إنجازنا لببليوغرافيا خاصة بموضوع حقوق الإنسان‏ (12) في الإسلام، أن الكتابات عن حقوق المرأة تأتي على رأس القائمة من حيث كثرتها
________________________________________
(12)انظر: مجلة الكلمة، عدد 20، 1998م.

[الصفحة - 197]


وتفرعها، وهذا يؤكد حجم التحدي كما ذكرنا سابقاً، ثم تأتي الكتابات عن الحقوق السياسية، بعدها نجد أن موضوع الأقليات قد أخذ حيزاً كبيراً في مجال التأليف الحقوقي. وهذا يدل كذلك على حجم التحديات التي أثارها الإعلام الغربي حول الأقليات الدينية التي تعيش داخل العالم الإسلامي منذ قرون، وهو يروِّج أنَّ التشريعات الإسلامية تضطهدها وتنتهك جملة من حقوقها. وأمام الهجمات المتكررة لهذا الاعلام، نجد أن الفكر الإسلامي استجاب بشكل إيجابي حينما عالج هذا الموضوع، وخصص له جهوداً محترمة في عملية التأصيل هذه.
هناك مواضيع حقوقية مهمة نلاحظ فيها بعض التقصير؛ إذ إن هذه العملية تعطيها حقها المطلوب، مع وجود موروث روائي لا بأس به يمكن أن يسهل هذه العملية، كموضوع حقوق الطفل، فالدراسات والبحوث قليلة جداً، وهذا يقلِّل من فرص وضع ميثاق حقوقي خاص بالطفل، لأن التراكم التنظيري متواضع جداً. لكننا نلاحظ أن العقل الإسلامي قد تحرر من محظوراته وكوابحه الذاتية والموضوعية، وانفتح على مصراعيه لمناقشة جميع القضايا التي لها علاقة بحقوق الإنسان وبحثها. وإن كنا نسجل نوعاً من السبق الوقائعي والتنظيري للفكر الغربي في هذا المجال، فالعقل المسلم، بشكل عام، يظل منفعلاً وليس فاعلاً في أغلب القضايا التي توصلها له وسائط الاعلام الغربية، فيهرع لمعرفتها والرد عليها سلباً أو إيجاباً. لكننا نثمن سرعة الاستجابة في كثير من الأحيان، وكذلك الكم المعرفي في ميدان الحقوق الذي نجم عنها، لأنه سيشكل الأرضية والقاعدة الفكرية المتينة لانطلاق الأجيال القادمة نحو الإبداع والإنتاج وبلورة النظرية الإسلامية في جميع المجالات.
مميِّزات عمليَّة التأصيل‏
من خلال القراءات المتعدِّدة، للكتابات الإسلامية الحقوقية، تظهر بوضوح بعض المميِّزات والخصائص التي تكاد تشترك فيها مجمل هذه الكتابات والبحوث، ليس في مجال معين، كالاقتصاد أو السياسة، ولكن في أغلب المواضيع المبحوثة. أولى هذه الخصائص، الحديث عن مفهوم الحق في المنظور الإسلامي، وذلك في قبالة الحديث عن الخلفيات الفكرية والفلسفية التي انطلق منها الوعي الحقوقي
________________________________________

[الصفحة - 198]


الغربي، وشكلت الأرضية العقائدية التي تتحكم في تعريفه للحق الإنساني. وقد تحدثنا من قبل عن النظريات الثلاث التي شكلت الخلفية الفلسفية للفكر الحقوقي الغربي.
والحديث عن مفهوم الحق، لما له من أهمية كبرى يحتاج إلى شي‏ء من التفصيل. إن الاختلاف الذي تبرزه بعض الحقوق المنصوص عليها في المواثيق العالمية، إنما يرجع في أساسه إلى النظرة الفلسفية والعقائدية للحق، من حيث مفهومه ومصادره. لذلك فمعالجة الفكر الإسلامي الحقوقي لهذه القضية تعدُّ مهمة وأساسية.
الميزة، أو الخاصية الثانية، تظهر في النقد الذي وجهه الفكر الإسلامي الحقوقي للحقوق الإنسانية في الفكر الغربي بشكل عام، عندما اتجه لنقد المذاهب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الغربية، مستعيناً بطبيعة الحال ببعض المظاهر، حيث الإخفاق في مجال الحقوق أدى إلى كوارث إنسانية، تجاوزت حدود تأمين الاحتياجات الضرورية للإنسان إلى تعريض وجوده الإنساني ككل للخطر، فظواهر الانتحار والتفسُّخ العائلي والتحلل الأخلاقي، وانتشار الإلحاد. هذه الظواهر التي تجتاح الواقع الغربي، تكاد تعصف بالمكتسبات الحقوقية التي تم تحقيقها بعد معاناة طويلة.
طبعاً نحن، هنا، أمام إشكال له جانبه الحقوقي، لكنه قد يتجاوزه، ليتم الحديث عن الحاجة إلى الأديان السماوية، بوصفها بديلاً عن الأيديولوجيات الوضعية. وهذا ما نجد تلميحاً له أثناء معالجة الفكر الإسلامي لقضايا حقوقية جزئية، على اعتبار أن النظر إلى الظاهرة الإنسانية، لا يمكن معالجته بشكل جزئي، لأن النتائج النهائية لأي تطبيق ستفتقر إلى النظرة الكلية للإنسان، في إطار فلسفي عقائدي، لا يهمل المنطلقات، ويتحدث عن الغايات والمقاصد الوجودية الأساسية للإنسان، بشكل واضح ومفصَّل، ما يسهم بشكل فعال في تحقيق ما يصبو له الإنسان من حياة أفضل على الأرض.
وهذه النظرة التكاملية تدفع بنا إلى الحديث عن الخاصية الثالثة، وهي شمولية الحقوق الإنسانية في الفكر الحقوقي الإسلامي، والتي نظر لها من خلال:
________________________________________

[الصفحة - 199]


التشريع الإلهي (الوحي) الذي يعلم يقيناً الاحتياجات الحقيقية للإنسان وحقوقه الأساسية، إضافة إلى نقطة مهمة تتلخَّص في كون التشريع الإلهي يمثل الحقيقة التي لا تتأثر بالمصالح الفردية أو الجماعية أو الفئوية، أو غيرها من التقسيمات التي يطغى تأثيرها في التشريعات الوضعية. وبالتالي فالحديث عن عالمية الحقوق، انطلاقاً من تشريعات وضعية، يعد تسويقاً لأيديولوجيات غرضها الهيمنة لا غير.
هذه المميزات الثلاث، سنعرض لها بنوع من التفصيل، لأنها من القضايا المهمة التي ركَّز عليها الفكر الإسلامي الحقوقي أثناء عملية التأصيل، ولأنها محطات يمكن من خلالها معرفة المدى الذي توصلت إليه هذه العملية.
الحق الإنساني: مصادره ومرتكزاته‏
تؤكد الكتابات الإسلامية، في مجال حقوق الإنسان، أن مجمل الحقوق التي تنتظم في البيانات والإعلانات العالمية. قد عالجها الفقه الإسلامي، وذكرتها الشريعة، لكن ليس ضمن باب معين مختص ب «حقوق الإنسان»، وإنما في عدة أبواب في الفقه متفرّقة، وذلك لاندراج كل حق ضمن موضوع، أو عنوان، فقهي خاص.
وإذا كانت الأسس الشرعية للحقوق وأحكامها التفصيلية موزَّعة على أبواب الفقه، فإن الأساس الذي يوضح الإطار الشرعي لمجموع الحقوق، نجده في مواضع ثلاثة من كتب الأصول هي: مباحث الحق، والحكم التغييري، والحكم الاقتضائي.
فمباحث الحق توضح أساس الحقوق، ومباحث الحكم التخييري توضح أساس الحريات، ومباحث الحكم الاقتضائي توضح الواجبات، وهو ما تنفرد الشريعة بالاهتمام به‏ (13) .
لقد عرف الفقهاء الحق بما يثبت في الشرع سواءاً كان حقاً للَّه على الإنسان، أم حقاً للإنسان على غيره. أما أركانه فهي أربعة: 1 - الشي‏ء الثابت، 2 - من له الحق، 3 - من عليه الحق (أي المكلَّف) فرداً أم جماعة. 4 - مشروعية الحق، أي النص عليه في الشريعة وعدم منعه.
________________________________________
(13)جمال الدين عطية، حقوق الإنسان في الإسلام: النظرية العامة، مقالات المؤتمر الخامس للفكر الإسلامي. طهران ـ إيران. منشورات منظمة الاعلام الإسلامي، 1987م.

[الصفحة - 200]


وهذه الاعتبارات الأصولية للحق، من حيث أركانه ومصاديقه المستنبطة من الشريعة الإسلامية، أعطت لموضوع حقوق الإنسان في الإسلام تميُّزه. كما أبانت عن مرجعية متكاملة ومختلفة في آن عن المرجعية الغربية. كما أظهرت السبق الإسلامي في هذا المجال وشموليته بل تفوُّقه. لأن التفصيل الذي ذكرته المرجعية الإسلامية لا وجود له في غيرها. فحق العبد مثلاً تفرع بشكل دقيق من الحق الخاص إلى العام. وكذا حقوق الجماعة، وحقوق اللَّه التي لا ذكر لها في الإعلانات الحقوقية الغربية.
على أن هذا المفهوم يرتكز أساساً على نظرة الدين المتميزة للوجود الإنساني، في خلقه المتميز، وغائية وجوده. فهو أولاً مخلوق مكرم من طرف خالقه: { ولقد كرَّمنا بني آدم } {الإسراء/70} ، ثانياً، وجد لغاية خصّه اللَّه سبحانه وتعالى بها، وهي الاستخلاف: { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } {البقرة/30} . وبالتالي فقضية الخلق المرتبطة بالتكريم والاستخلاف، تعدّ أرضية أساسية تحدد مفهوم حقوق هذا الكائن المسمّى «الإنسان».
لهذا نجد الفكر الإسلامي يتكلم عن الفطرة الإنسانية، بمعناها السامي والمحدد بما ذكرناه من التكريم والاستخلاف الإلهي. فأي انحرف عن هذه الفطرة سيكون محل اختلاف وإشكال وبالتالي ستتغير النظرة للحق الإنساني. فالشذوذ الجنسي، أو اختيار الانتحار أو الأضرار بالنفس والجسد، كيفما كان نوعه، لا يمكن اعتباره حقاً إنسانياً، كما تراه المرجعية الحقوقية الغربية اليوم. إن مفهوم الفطرة وعلاقتها بالعبودية الإنسانية للَّه تعالى، تجعل من ولاية الإنسان على نفسه محددة بالفطرة أولاً، وبالشريعة الإلهية ثانياً. يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين: «ما تطور إليه مفهوم سلطة أو ولاية الإنسان على جسده، ففي الإسلام هذه السلطة محدودة، وبعض ممارساتها تعتبر محرمة، وبعضها إنما شرع ضمن عقود معينة من قبيل سلطة الممارسة الجنسية بالجسد، سواء كان جسد الأنثى أو جسد الذكر. هذا نموذج، بينما تعتبر الحضارة الغربية سلطة الإنسان على جسده مطلقة... هذه السلطة عندنا محدودة..» (14) .
________________________________________
(14)حوار مع الشيخ محمد مهدي شمس الدين أجراه معه كاتب هذه الدِّراسة. انظر مجلة الكلمة، عدد 5، السنة 1، خريف 1994م، ص 123.

[الصفحة - 201]


إذن لا بد من اعتبار الحيثية الذاتية للإنسان، وعلاقة هذه الحيثية بالفطرة الإنسانية، لأن الإنسان ليس موجوداً مادياً تصوغه الطبيعة ويُشكِّله الواقع الاجتماعي فقط. كما تذهب إليه الفلسفة الغربية ذات الجذور الغارقة في المادية. لذلك لا بد من تصحيح هذه النظرة الخاطئة التي تنبني عليها حقوق وهمية، تضر بالفطرة الإنسانية، وتخالف المفهوم الحقيقي لوجود الإنسان. بل إن هذه المخالفة للفطرة وللشريعة، تؤدي بالإنسان إلى الخروج عن الصفة الإنسانية، وهذا ما تشير إليه الآية القرآنية، { أولئك كالأنعام بل هم أضل } {الأعراف/179} .
إن عملية التأصيل الإسلامي هذه، قد أسفرت عن تحديد مجموعة مفاهيم خاصة بالحق الإنساني، من حيث مصادره ومصاديقه ومرتكزاته وحدوده. فالشريعة متمثلة في الكتاب والسنة، هي مصدر الحقوق. لأن اللَّه سبحانه وتعالى هو الخالق للإنسان، وهو أعرف بما يصلح له وما يضره. فالحقوق التي اعتبرتها الشريعة الحقوق الأصلية والمعتبرة، لأنها تنسجم مع الفطرة الإنسانية أوَّلاً، ومع غاية الوجود الإنساني ثانياً. إن حقوق الإنسان في المنظومة الإسلامية، كما يقول المفكر الإسلامي محمد عمارة، تجاوزت مرتبة الحقوق، إلى اعتبارها «ضرورات» فالمأكل والملبس والأمن، والحاجة للحرية في الفكر والاعتقاد، والتعبير، والعلم والمشاركة في صياغة النظام العام للمجتمع، والمراقبة والمحاسبة لأولياء الأمور.. جميع هذه الأمور هي، في نظر الإسلام، ليست «حقوقاً» للإنسان فحسب، من حقه أن يطلبها ويسعى في سبيل التمسُّك بها، ويحرم منعه عن طلبها، وإنما هي «ضرورات واجبة لهذا الإنسان» (15) .
نقد المذاهب السياسيَّة والاقتصاديَّة الغربيَّة
نقد الديمقراطية
انصبَّ نقد الفكر الحقوقي الإسلامي على قضايا كبرى ومهمة في الفكر الغربي والإعلانات والمواثيق الحقوقية العالمية التي صدرت عنه. ففي المجال السياسي، نجد أن هذا الفكر، ابتداء من الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر سنة 1789م، وإلى الآن، يعد الحريات والحقوق السياسية من أهم الحقوق
________________________________________
(15)محمد عمارة، الإسلام وحقوق الإنسان، ضرورات لا حقوق، سلسلة عالم المعرفة، رقم 89، الكويت، 1985م، ص 15.

[الصفحة - 202]


التي يجب العمل على تحقيقها لأنها «الركيزة الأساسية التي تعبر عن إرادة وضمير الرأي العام»(16) ، وهذا الاعتبار جعل المطالبة بالحريات السياسية في الغرب تتطور لترتبط، في نهاية المطاف، بالعمل على تحقيق النظام الديمقراطي، لأنه يكفل ممارسة هذا الحق بشكل متكامل، كما يدعي ذلك الفكر الغربي المعاصر.
لكن هذا الادعاء سيتعرض لانتقادات مختلفة من طرف الفكر الإسلامي، أولاً: التشكيك في اعتبار النظام الديمقراطي من ركائز المجال الحقوقي وعياً وممارسة، كما يروِّج له كذلك بعض المثقفين العلمانيين داخل العالم الإسلامي. لأن الديمقراطيَّة، بوصفها مشروعاً سياسياً تروِّج له الحضارة الغربية، يسعى للهيمنة والسيطرة السياسية لا غير، وربط دول الأطراف بالمركز الغربي. والاستتباع السياسي يظهر بوضوح من خلال التجارب «السياسية الديمقراطية؟!» التي عرفها العالم الإسلامي.
وقد تطور هذا الرفض والنقد إلى اعتبار الديمقراطية من قبيل الكفر، كما يظهر ذلك في بعض الكتابات الإسلامية «السلفية». وقد رد الشيخ يوسف القرضاوي ـ وهو أحد المفكرين الإسلاميين الذين اهتموا بعملية التأصيل الفقهي لعدد من القضايا المستحدثة ـ على هذا القول الذي حكم على الديمقراطية بالكفر، عندما اعتبر الديمقراطية السياسية تتلخَّص في اختيار الناس من يحكمهم ويسوس أمورهم، بعيداً عن الاستبداد أو الطغيان السياسي. لذلك يتساءل القرضاوي مستنكراً. هل «الديمقراطية ـ في جوهرها الذي ذكرناه ـ تنافي الإسلامي؟ ومن أين هذه المنافاة، وأي دليل من محكمات الكتاب والسنة يدل على هذه الدعوى؟» (17) .
هذا الموقف من الشيخ القرضاوي نجد ما يماثله في عدد كبير من الكتابات الإسلامية التي يمكن أن يقال إنها عالجت الديمقراطية بموضوعية أكبر، لأنها لم تعتبر الخلفيات الفكرية والفلسفية الديمقراطية، وركزت على كونها أداة وآلية، توصل إليها الإنسان المعاصر بعد تراكم التجارب السياسية، عبر قرون طويلة، وعليه يمكن الاستفادة منها بما يتناسب مع الاحتياجات السياسية للعالم الإسلامي.
لكن مع اختلاف المقاربات والمعالجات للديمقراطية، بين الرفض التام والمعالجة الموضوعية، نجد الفكر الحقوقي الإسلامي يتحدث عن الديمقراطية
_______________________________________
(16)كريم يوسف كشاكش، الحرية العامة في الأنظمة السياسية المعاصرة، الاسكندرية، دار المعارف، 1987م، ص 65.
(17)فهمي هويدي، الإسلام والديمقراطية، مجلة المستقبل العربي، عدد 166 (12/1992)، ص 28. نقلاً عن فتاوى معاصرة.

[الصفحة - 203]


بموازاة عرضه للشورى وحديثه المفصل عنها. انطلاقاً من قناعة إيمانية بأن للإسلام نظامه الخاص الذي يرتكز على مجموعة من القواعد والمرتكزات، لا توجد في الديمقراطية. فالشورى أساس نظام الحكم في الإسلام. وعن طريقها يتم تحقيق مشاركة الأمَّة في النشاط السياسي. وهي مبدأ إسلامي أصيل، يجب العمل به داخل النظام السياسي والاجتماعي الإسلامي. وذلك مصداقاً لقوله تعالى: { والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون }{الشورى‏/38} وقوله عز وجل: { وشاورهم في الأمر } . ومن خلال هذه الآيات وغيرها التي تعرضت لموضوع الشورى، تحدث بعض الباحثين عن كون الشورى، تكليفاً شرعياً ملزماً. وهذا الاعتبار هو من بين أهم الاختلافات بين الشورى والديمقراطية التي تحدث عنها الفكر الحقوقي الإسلامي. إضافة إلى اختلافات أخرى قدمت بطريقة نقدية، لكنها أبرزت في المقابل خصوصية الشورى الإسلامية، وحدّدت ملامحها الأساسية نذكر منها:
1 -المرجعية المختلفة لكل منهما، النظام السياسي الإسلامي يرتكز على مبادى حدَّدها الوحي وينطلق منها، وتحكمه مقاصد التشريع الإسلامي، بينما تعتمد الديمقراطية في منطلقاتها على الاجتهادات والتجارب البشرية القابلة للخطأ والصواب.
2 -السيادة ليست للشعب، كما ترى الديمقراطية، وإنما السِّيادة الحقيقية للتشريع الإلهي. أمَّا الحاكم فيقوم بمهمة الإشراف على تطبيق الشريعة. ولا يمكنه أن يتجاوزها لإرضاء مصالح فرد أو فئة اجتماعية أو أهوائه ومصالحه الخاصة.
3 -رفض فصل الدِّين عن الدَّولة، كما هو واقع في الديمقراطيات الغربية، وهذا الفصل يؤثِّر لا محالة في موضوع حقوق الإنسان.
4 -بعض الإشكالات التي تطرحها التعددية الحزبية، خصوصاً إذا اختلفت منطلقاتها وأهدافها الأيديولوجية مع الإسلام.
5 - لا اعتبار لرأي الأغلبية إلا إذا كان منسجماً مع قيم الإسلام وتشريعاته.
6 -عجز الديمقراطية، المطبَّقة في العالم الإسلامي، عن ضمان الحقوق السياسية للإنسان المسلم، إضافة إلى إخفاقها في تحقيق ما ينشده المجتمع من تقدم
________________________________________

[الصفحة - 204]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف