البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

June / 30 / 2015  |  2406(الفوضى الخلاقة) اصلاح على الطريقة الامريكية

حيدر محمد الكعبي المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية حزيران 2015
(الفوضى الخلاقة) اصلاح على الطريقة الامريكية

بعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 التي تمخضت عن ضرب برجي التجارة العالمي وبناية البنتاغون الامريكية، اعلنت حكومة الولايات المتحدة عن عزمها على محاربة الارهاب اينما كان لحماية أمنها القومي وانقاذ شعوب العالم من سطوة الجماعات الارهابية.

وعلى ضوء ذلك، شنت امريكا حملة عسكرية للإطاحة بنظام طالبان في افغانستان في العام 2001، وبعد النجاح النسبي الذي حققته في هذه الحملة، شعرت الحكومة الامريكية بأن لديها التبريرات والدعم الكافيين لإزالة مصادر الخطر على "أمن واستقرار العالم" في منطقة الشرق الأوسط، وأصبح واضحاً منذ أواخر عام 2001 أن الإدارة الأمريكية مصممة على الإطاحة بحكومة صدام حسين في العراق[1] .

ولعلمها بان العراق هدف كبير وصعب، كان عليها ان تجد مبررات كافية أمام الرأي العام يخولها لغزوه، لذا فقد لعبت بشدة على ورقة امتلاك اسلحة الدمار الشامل لدى الحكومة العراقية، فضلا عن الاعلان عن رغبتها بنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط وتغيير أنظمة الحكم الدكتاتورية فيها، وقد أكد الرئيس "بوش الابن" مرارا قبل حملته العسكرية لغزو العراق ان الهدف من الحملة هو حماية الشعب العراقي وجلب السلام له وازاحة النظام الدكتاتوري عن كاهله[2] .

وبعد سقوط حكومة صدام وتبين عدم امتلاكها أسلحة دمار شامل، ومع انفلات الوضع الامني في العراق وفشل الادارة الامريكية في تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي فيه، باتت ادارة "بوش الابن" في حرج شديد أمام الرأي العام الامريكي والعالمي، مما اضطرها الى تبرير الفوضى التي نتجت عن غزوها للعراق بأنها فوضى مقصودة، واستدعت لذلك نظرية سياسية كانت اصولها مركونة في رفوف النظريات السياسية والاجتماعية لعقود من الزمن.

ففي ذروة الاضطرابات التي كان يعانيها العراق في العام 2005، أدلت وزيرة الخارجية الامريكية "كونداليزا رايس" بحديث صحفي لجريدة "واشنطن بوست" أعربت فيه عن نية الولايات المتحدة نشر الديمقراطية في العالم العربي وتشكيل "الشرق الأوسط الجديد" عبر نظرية (الفوضى الخلاقة).

وبسبب الاحداث المأساوية التي مرت بها المنطقة فيما بعد، رأى بعض المحللين بأن التبرير هو في الحقيقة منهج عمل حقيقي أعد قبل غزو العراق بسنين، ونظر اليه آخرون على انه مؤامرة قديمة تستمد جذورها منذ القرن الرابع عشر، وغاب عن ذهن الجميع ان (الفوضى الخلاقة) يمكن ان تكون مجرد التفاف على واقع متفجر حاولت الحكومة الامريكية في عهد "بوش الابن" تخلية ساحتها من جريرته واستثماره لصالحها.

ولكن ذلك لا يمنع – من وجهة نظر اخرى- ان يكون للفوضى الخلاقة وجوه غير معلنة، كـ(الادارة بالأزمات) أو (الحرب بالوكالة) اللتان تنطبقان بشدة على مرحلتين مهمّين من تاريخ العلاقة الامريكية بالشرق الاوسط، وهما مرحلتي "بوش الابن" و"باراك اوباما".

مفهوم نظرية (الفوضى) وتاريخها:

(لعل أبسط تعريف للفوضى الخلاقة هو: أنها "حالة سياسية أو إنسانية يتوقع أن تكون مريحة بعد مرحلة فوضى مُتعمّدة الأحداث".

ويذكر أن هذا المصطلح وجد في أدبيات الماسونية القديمة، حيث ورد في أكثر من مرجع كما أشار إليه الباحث الأمريكي "دان براون" وينسب إلى الأب "ديف فليمنج" بكنيسة المجتمع المسيحي بمدينة "بتيسبرج" ببنسلفانيا قوله: إن الإنجيل يؤكد لنا أن الكون خلق من فوضى، وأن الرب قد اختار الفوضى ليخلق منها الكون، وعلى الرغم من عدم معرفتنا لكيفية هذا الأمر إلا أننا متيقنون أن الفوضى كانت خطوة مهمة في عملية الخلق...

وفي كتابه عن "الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية" يقول عالم الاقتصاد "شامبيتر": ليس القديم بالرأسمالية هو الذي يفرز الجديد، بل إن إزاحته التامة هي التي تقوم بذلك، معتبرا المنافسة الهدامة تدميراً يساهم في خلق ثورة داخل البنية الاقتصادية عبر التقويض المستمر للعناصر الشائخة والخلق المستمر للعناصر الجديدة.

ويعد “مايكل ليدين” العضو البارز في معهد “أمريكا انتربرايز” أول من صاغ مفهوم “الفوضى الخلاقة” أو “الفوضى البناءة” أو “التدمير البناء” في معناه السياسي الحالي وهو ما عبر عنه في مشروع (التغيير الكامل في الشرق الأوسط) الذي أعد عام2003م . ارتكز المشروع على منظومة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشاملة لكل دول المنطقة وفقا لاستراتيجية جديدة تقوم على أساس الهدم ثم إعادة البناء)[3] .

وعلى ضوء التعريفات السابقة نجد انه لا يوجد معنى تطبيقي مستقل لما يسمى بـ(الفوضى الخلاقة)، فما ادعاه الاب "ديف فليمنج" من ان الرب خلق الكون من الفوضى لا يستند الى معرفة كيفية ذلك كما يصرح بنفسه، وما قاله عالم الاقتصاد "شامبيتر" لا يعطي معنى الفوضى الخلاقة، وانما يعني استبدال النظام الفاسد بنظام افضل، ولا يقتضي بالضرورة ان تلعب الفوضى دورا في عملية الاستبدال هذه.

وعلى صعيد ذي صلة (يرى البعض أن الفوضى الخلاقة ترتكز على أيديولوجيا أمريكية نابعة من مدرستين رئيستين:

الأولى: صاغها "فرانسيس فوكوياما" بعنوان "نهاية التاريخ"، ويقسم فيها العالم ما بين عالم تاريخي غارق في الاضطرابات والحروب، وهو العالم الذي لم يلتحق بالنموذج الديمقراطي الأميركي، وعالم آخر ما بعد التاريخي وهو الديمقراطي الليبرالي وفق الطريقة الأمريكية. ويرى أن عوامل القومية والدين والبنية الاجتماعية أهم معوقات الديمقراطية.

وصاغ المدرسة الثانية "صمويل هنتنجتون" في مؤلفه "صراع الحضارات"، معتبراً أن مصدر النزاعات والانقسامات في العالم سيكون حضاريًّا وثقافيًّا، وذهب إلى أن الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك في المستقبل.

ورغم تناقض المدرستين، إلا أنهما تتفقان على ضرورة بناء نظام عالمي جديد تقوده الولايات المتحدة، إضافة إلى معاداة الحضارة الإسلامية باعتبارها نقيضًا ثقافيًّا وقِيَميًّا للحضارة الغربية)[4] .

وواضح انه ليس في الأيدولوجيتين ما يرتبط بشكل مباشر بنظرية (الفوضى الخلاقة)، فهما مجرد توصيف لحركة التاريخ وتنبؤ بواقع سياسي وحضاري يمر به العالم، ولا يتضمنان شرط الفوضى الخلاقة بمعناها المستحدث.

وعلى السياق ذاته فقد (طور "توماس بارنيت" - أحد أهم المحاضرين في وزارة الدفاع الأمريكية - نظرية "الفوضى الخلاقة" فقسَّم العالم إلى: من هم في القلب أو المركز "أمريكا وحلفاؤها" وصنف دول العالم الأخرى تحت مسمى دول "الفجوة" أو "الثقب" حيث شبهها بثقب الأوزون الذي لم يكن ظاهرا قبل أحداث 11 سبتمبر.

يذهب "بارنيت" إلى أن دول الثقب هذه هي الدول المصابة بالحكم الاستبدادي والأمراض والفقر المنتشر والقتل الجماعي والروتيني والنزاعات المزمنة، وهذه الدول تصبح بمثابة مزارع لتفريخ الجيل القادم من الإرهابيين.

وبالتالي فإن على دول القلب العمل على انكماش الثقب من داخله، فالعلاقات الدبلوماسية مع دول الشرق الأوسط لم تعد مجدية، ذلك أن الأنظمة العربية بعد سقوط العراق لم تعد تهدد أمن أمريكا، وأن التهديدات الحقيقية تكمن وتتسع داخل الدول ذاتها بفعل العلاقة غير السوية بين الحكام والمحكومين.

ويخلص "بارنيت" إلى أن تلك الفوضى البنَّاءة ستصل إلى الدرجة التي يصبح فيها من الضروري تدخل قوة خارجية للسيطرة على الوضع وإعادة بنائه من الداخل، على نحو يعجِّل من انكماش الثقوب وليس مجرد احتوائها من الخارج، منتهيًا بتخويل الولايات المتحدة القيام بالتدخل بقوله: "ونحن الدولة الوحيدة التي يمكنها ذلك")[5] .

وهذا الذي ذكره "بارنيت" لا يطابق نظرية (الفوضى الخلاقة) التي اعلنت عن اتباعها وزيرة الخارجية "كونداليزا رايس" ابان احتلال امريكا للعراق، وانما يطرح منهجا جديدا لهذه النظرية في مرحلة ما بعد غزو العراق كما يصرح هو بذلك.

نظرية على قياس المصالح الامريكية

(يعتقد أصحاب وأنصار الفوضى الخلاقة بأن خلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار سوف يؤدي حتماً إلى بناء نظام سياسي جديد يوفر الأمن والازدهار والحرية، وهو ما يشبه العلاج بالصدمة الكهربائية لعودة الحياة من جديد، غير أن ثمة أهدافاً متوارية تهدف الولايات المتحدة إلى تحقيقها بتلك الفوضى تكمن في تحقيق واستمرار التفوق الامريكي العالمي والسيطرة على مناطق اقليمية حيوية كمنطقة الشرق الاوسط والتحكم بأعظم مصدر للطاقة وهو النفط) [6] .

من جانبه يقول الكاتب د. أحمد إبراهيم خضر: (سلّم صناع السياسة الخارجية الأمريكية بأن التغيير في دول الثقب لم يعد في حد ذاته كافيًا، وبالتالي فإن مفهوم السيادة والشأن الداخلي لم يعد شأنًا داخليًّا بالنسبة لأمريكا طالما ارتبط بالأمن القومي الأمريكي، المرتبط أساسًا بتأمين أقدام أمريكا على حقول النفط العربية وحفظ مصالحها، وبذلك فإن الأوضاع الداخلية لبلدان الثقب تحتاج إلى تحول شامل، لن يحدث إلا عبر التدمير الخلاق، الذي سينتهي بإزالة الأنقاض ورفع الأشلاء، ثم تصميم نظام سياسي جديد ومختلف لا يراوغ ولا يشترط ولا يهدد مصالح أمريكا الاقتصادية).

ويضيف الدكتور خضر: (اعتبر "ساتلوف" [7] أن الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط تقاس على مسطرة المصالح الأمريكية، وكان قد قدم ورقة توحي للإدارة الأمريكية، بتشجيع حالة الغليان وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، طالما أن خلاف الحكام مع المعارضة في دول المنطقة سيحدث نوعًا من الهدوء والطمأنينة على الساحة الأمريكية، ويؤمِّن أهدافها الحيوية في بلدان الشرق الأوسط).

واخيرا يؤكد الدكتور خضر على انه (لم تنسَ الولايات المتحدة أن صواريخ صدام أقضّت مضاجع تل أبيب ذات يوم، وما إن فرغت من حربها المعلنة على الإرهاب في أفغانستان، حتى توجهت نحو العراق دفاعًا عن حقوق الإنسان والحد من أسلحة الدمار الشامل، وبعد سقوط بغداد في إبريل 2003 احتج العراقيون على صمت الإدارة الأمريكية عن عمليات النهب والسلب والحرق والتخريب في العراق، فعلق السيد "رامسفيلد" وزير الدفاع الأمريكي على تلك العمليات قائلاً: "إنها إيجابية وخلاَّقة وواعدة بعراق جديد"...

وحول أحداث عدم الاستقرار في بعض البلدان العربية صرحت "رايس" أيضًا لصحيفة "الواشنطن بوست" بالقول: "إن الفوضى التي تفرزها عملية التحول الديمقراطي في البداية، هي من نوع الفوضى الخلاَّقة التي قد تنتج في النهاية وضعاً أفضل مما تعيشه المنطقة حاليًا"، ولاشك أن الكيان الصهيوني في الأساس هو المستهدف بذلك الوضع الأفضل الذي قصدته رايس، بينما لن يجنِ العرب أكثر من ويلات الفوضى)[8] .

(من جهته يقول الدكتور عمار علي حسن رئيس مركز دراسات وبحوث الشرق الأوسط إن نظرية الفوضى الخلاقة أثبتت فشلها في الشرق الأوسط، لكنها لن تنتهي لأنها ليست بجديدة علينا، فهي امتداد لسياسة فرق تسد، نظرية الاستعمار البريطاني، أي أن القوى الغربية تتعامل بها مع المنطقة العربية منطقة الشرق الأوسط ككل منذ القدم، ولم تنته، لكنها تتقدم وتتراجع طبقا لأفكار النظم السياسية المختلفة)[9] .

من كل ذلك يتبين ان نظرية (الفوضى الخلاقة) وامثالها يمكن ان تكون مجرد غطاء لتمرير خطط مختلفة تنتهجها الولايات المتحدة من اجل تأمين مصالحها في احد اكثر المناطق اهمية بالنسبة لها من الناحية الاقتصادية والسياسية والايدلوجية.

نظرية التناقض الفكري والاخلاقي:

(عندما تحولت الحرب في العراق إلى ما يشبه الفوضى وغابت مقولات النموذج العراقي في الديمقراطية، طرح بعض المنظرين في اليمين المحافظ نظرية "الفوضى البناءة"، ومع أنه لا يوجد في مفاهيم النظم والمصطلحات الدولية ما يسمى بـ"الفوضى البناءة" إلا أن المفهوم نفسه يتناقض بعضه مع البعض، فلا يوجد في التجربة الإنسانية ما يجمع الفوضى مع البناء الإيجابي للحياة الإنسانية بشكل من الأشكال، فعبارة "الفوضى البناءة" مفهوم ملتبس يبرز كيفية الهروب من الأزمات القائمة بالحديث عن مصطلحات لا تمتّ للواقع بأي صلة)[10].

لذا فليس من المستبعد – كما اشرنا سابقا- أن تكون (الفوضى الخلاقة) مجرد عنوان اعلامي لتلافي الصدمة التي مُنيت بها الادارة الامريكية نتيجة لتورطها بحرب مباشرة في العراق، وبعد ان استقبل العالم هذا التبرير المُعلن، بات من السهل على الولايات المتحدة ان تنسحب من المنطقة وان تلقي عن كاهلها تبعة المشاكل التي سببتها او التي ستسببها في الشرق الاوسط، باعتبار انها تعمل ذلك لمصلحة شعوب المنطقة وفق اجندة معدّة سلفا.

فعلى الرغم من ان اسم (الفوضى الخلاقة) يوحي بالتناقض والافتقاد للأساس الفكري الصحيح، الا ان الاعلام الامريكي قد تمكن من خداع الباحثين والمفكرين والرأي العام بتماسكه ومنهجيته، فلم يعد كثيرون يناقشون في اصل النظرية وانما في تطبيق الاحداث الجارية على مفرداتها، غير ملتفتين الى ان الاعلان عن النظرية هي قصة درامية تخدم منهجا تحتاجه السياسة الامريكية لمدة معينة، ويمكن ان تغفله في أي وقت بحسب الظروف التي تمر بها المنطقة.

والغريب ان تعلن الادارة الامريكية عن اتخاذها من نظرية (الفوضى الخلاقة) كمنهج عمل على الرغم من انها تنطوي على جريمة لا ترتضيها الاعراف والمواثيق الدولية، لانها تخول دولة اجنبية الحق في اختلاق فوضى مقصودة في بلد ما، وتعرّض شعبه الى كارثة انسانية تشمل انعدام الاستقرار وانهيار اقتصادي وفقدان الامن الاجتماعي والتعليمي والصحي، على أمل ان تسعى الثلة الناجية من هذا الشعب الى تغيير واقعها الاليم.

وعليه فان رفع شعار (الفوضى الخلاقة) لا يستبعد أن يكون سوى اعلان عن السيء لإخفاء الاسوء المتمثل بالإخفاقات الكارثية التي مُنيت بها ادارة الرئيس"بوش الابن" بسبب تورطه في العراق الى درجة ادت الى أن تنتهي حياته الرئاسية بفشل ذريع[11] .

(الإدارة بالأزمات) و(الحرب بالوكالة):

من وجهة نظر أخرى، يرى بعض الباحثين أن مفهوم الفوضى الخلاقة الذي اعلنت عنه الادارة الامريكية هو (اقرب إلى مفهوم "الإدارة بالأزمات" في المجال الاستراتيجي مع اختلاف الآليات والوسائل، والإدارة بالأزمات هي علم وفن صناعة الازمة وافتعالها وإدارتها بنجاح لغرض مصالح محددة ويترتب على هذا النوع الازمات تفكيك للمنظومة المعنية او المستهدفة مما يسهل الولوج الى مكوناته الاساسية الامر الذى يؤدى الى انهيار كلى للنظام، واعادة تشكله بطريقة تعكس تلك المصالح)[12].

وهذا المعنى يمكن ان يكون صحيحا في تفسير المنهج الذي وضعته الادارة الامريكية في حسبانها قبل غزو العراق، ويؤكد ذلك ما عمدت اليه القوات الامريكية من تقويض لعدد من مؤسسات الدولة العراقية واعادة تشكيلها مع انه لم يكن هنالك فائدة تعود على الشعب العراقي من هذا التقويض.

ولكن الفارق في اتباع مفهوم (الادارة بالأزمات) هو ان الادارة الامريكية في عهد "بوش الابن" لم تكن تنوي ان يتحول العراق الى دوّامة كبيرة تجر السياسية الامريكية نحو المجهول، وبخاصة ان الجيش الامريكي كان يباشر عملية احلال النظام بنفسه، وان الساسة الامريكان كانوا يحاولون اعادة صياغة العملية السياسية بأنفسهم، وما تعيين "بول بريمر" رئيسا للإدارة المدنية في تلك المرحلة إلا دليل يؤكد سعي الادارة الامريكية آنذاك الى انهاء الأزمة بأسرع وقت[13] .

في حين ان مفهوم (الفوضى الخلاقة) يقتضي أن تدفع امريكا بالعراق باتجاه فوضى عارمة ومن ثم تقف هي على الحياد لكي تترك الشعب العراقي يعاني من مآسٍ مستمرة تدفعه لأن يسعى الى تلمس طريق النجاة من الواقع المأساوي الذي يعيشه بالطرق التي تراها الولايات المتحدة مناسبة.

إننا لو قارنا تعاطي السياسة الامريكية تجاه الوضع في العراق بين عهدي "بوش الابن" و"باراك اوباما"، لوجدنا ان سياسة الاخير كانت اقرب لمعطيات هذه النظرية، في حين ان "بوش" كان يسعى لتطبيق نظرية (الادارة بالأزمات) في الواقع.

ذلك ان ادارة "اوباما" كانت تراقب من بعيد استشراء الفساد في مفاصل الدولة العراقية وتكريس الكراهية المذهبية بين طوائف الشعب بدعم من جهات اقليمية، ولم تحرك امريكا لذلك ساكنا حتى انتهى الحال الى ان يعاني العراق من فوضى حقيقية بسقوط مدينة الموصل على يد عصابة (داعش)، ومن ثم لم تسعَ امريكا بشكل جاد لإنقاذ العراق من ازمته هذه، وبذلك فان هذا الموقف هو التطبيق الاقرب لنظرية (الفوضى الخلاقة) التي كان "بوش" قد اعلن عنها في وقته.

هذا مع الاخذ بنظر الاعتبار ان عهد الرئيس "اوباما" قد شهد اندلاع ما يسمى بثورات "الربيع العربي" الذي شمل العديد من البلدان كمصر وتونس وليبيا، والتي يعزى حدوثها الى تطبيق نظرية (الفوضى الخلاقة) في نظر كثير من المحللين.

وعلى الرغم من ذلك فان تطبيق ادارة "اوباما" لنظرية (الفوضى الخلاقة) ليس تاما ايضا، فحيث ان مفهوم (الفوضى الخلاقة) مفهوم ملتبس – كما اشرنا الى ذلك سابقا- فان الفوضى الخلاقة الخاصة بـ"اوباما" هي أقرب الى مفهوم (الحرب بالوكالة) التي اتبعتها السياسة الامريكية في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، وبخاصة في موقفها تجاه العراق وسوريا والبحرين ولبنان واليمن، ذلك ان هذه الدول لها علاقة وطيدة بالجمهورية الاسلامية الايرانية التي تقود محور المقاومة ضد الهيمنة الصهيونية في بلدان العالم الاسلامي، وكان هدف امريكا القضاء على هذا المحور من دون ان تباشر ذلك بنفسها.

وبالمحصلة فان النتائج المترتبة على الفوضى التي خلفتها سياسة "اوباما" في العراق لم تكن تناغم المصالح الامريكية على الاطلاق، فغالبية الشعب العراقي بمواجهته لفوضى التكريس الطائفي وانتشار الفساد وغزو "داعش" جعلته يؤسس لقوة عسكرية اسمها "الحشد الشعبي"، ولا ريب ان مثل هذه القوة سوف تدخل العراق في صميم محور المقاومة للصهيونية العالمية في منطقة الشرق الاوسط عاجلا أم آجلا.

اضف الى ذلك فان من الواضح لدى المنصف بأن احداث مصيرية مثل ثورة الشعب في البحرين ونهضة الحوثيين في اليمن واصطفاف حزب الله الى جانب سورية في حربها ضد الارهاب لم تكن قائمة على اساس (الفوضى الخلاقة) التي تتبجح الادارة الامريكية بتطبيقها في الشرق الاوسط، بل هي احداث تفصح عن مواجهة حتمية بين معسكرين تمثلت اولى تجلياتها بصورة (الحرب بالوكالة).

[1] ينظر: الموسوعة الحرة(ويكبيديا) تحت عنوان (غزو العراق).

[2] كلمة متلفزه لبوش الابن نشرتها قناة الجزيرة، ونسخة منه منشورة على الرابط الاتي https://www.youtube.com/watch?v=RU0IUmD6wSY.

[3] مقال نشره موقع الحوار المتمدن تحت عنوان (الفوضى الخلاقه وزرعها المتنامي في داخل الدول العربية) نشر بتاريخ 14/9/2011.

[4] مقال نشره موقع الالوكة تحت عنوان(المسلمون بين فكي الماسونية ونظرية الفوضى الخلاقة) للدكتور أحمد إبراهيم خضر، نشر بتاريخ 18/2/2012.

[5] مقال نشره موقع الالوكة تحت عنوان(المسلمون بين فكي الماسونية ونظرية الفوضى الخلاقة) للدكتور أحمد إبراهيم خضر، نشر بتاريخ 18/2/2012

[6] بحث نشره موقع ضياء للمؤتمرات والدراسات تحت عنوان(سياسة الفوضى الخلاقة الامريكية: الأصول الفكرية والأبعاد الدولية والإقليمية) للباحث اياد هلال حسين الكناني.

[7] "روبرت ساتلوف" المدير التنفيذي لمؤسسة "واشنطن لسياسات الشرق الأوسط" ذات الميول الصهيونية ويعد أحد أقطاب نظرية الفوضى الخلاقة.

[8] مقال (المسلمون بين فكي الماسونية ونظرية الفوضى الخلاقة) – مصدر سابق.

[9] مقال (نظرية اليمين الأمريكي لفتفتة الأرض العربية توارت بأفول حقبة بوش) نشره موقع صحيفة اليوم الالكترونية بتاريخ 25/10/2009.

[10] مقال نشره موقع بوابة الشرق تحت عنوان (هل نجني الآن نظرية اليمين الأمريكي في الفوضى الخلاقة) للباحث عبد الله بن علي العليان تشر بتاريخ 14/6/2014.

[11] في مسح سنوي تجريه مؤسسة زوجبي الدولية حول اعظم الرؤساء الامريكيين جاء بوش الابن في المرتبة الاخيرة بصفته أكثر رئيس أمريكي فشلا بحصوله على 30 بالمائة من أصوات المشاركين في استطلاع الرأي من الامريكيين، مما جعله أسوأ من نيكسون الذي حصل على 23 بالمائة في نفس التصنيف(ينظر صحيفة اليوم الالكترونية على الرابط الاتي: (www.alyaum.com/article/2457262.

[12] سياسة الفوضى الخلاقة الامريكية: الأصول الفكرية والأبعاد الدولية والإقليمية) – مصدر سابق

[13] قبل تعيينه رئيسا للادارة المدنية في العراق كان "بريمر" يرأس شركة استشارية للأزمات تابعة لشركة مارش وماكلينان، وهي شركة تقدم خدمات للشركات لمساعدتها على التعامل مع (أو التعافي) من أي أزمة قد تواجهها مثل الكوارث الطبيعية واستعادة منتجاتها من الأسواق والعنف في مكان العمل والإرهاب (ينظر: الموسوعة الحرة تحت عنوان (بول بريمر)).

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف