البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

June / 27 / 2020  |  2798بلاد شنقيط والمستشرقون

د. بوها محمد عبد الله سيدي المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية شتاء 2020 م / 1441 هـ
بلاد شنقيط والمستشرقون

 مقدمة 

بدأت فرنسا في إرسال البعثات الاستكشافية إلى بلاد شنقيط بغية اكتشاف شعبها ومعرفة طبيعة مواردها، ومن ضمن هذه البعثات، مستشرقون عملوا على  دراسة تاريخ البلاد منذ البدايات الأولى لدخول الإسلام مرورًا بأطوار تشكّل دولة المرابطين والهجرات العربية إلى الصحراء، وصولًا إلى الأدوار التي اضطلعت بها المحْظرة الشنقيطية في الحفاظ على هوية البلاد وتحصين المجتمع ضد أي وافدٍ فكريٍّ لا ينطلق من الهوية الدينية للبلد (المذهب المالكي، العقيدة الأشعرية، التصوف السني). وقد تطرق المستشرقون للأدوار التي لعبتها المحْظرة  في غرب إفريقيا من نشرٍ للثقافة العربية و الإسلام، حيث تفطن المستشرق موليين (Mollien) وهو في طريقه لرصد مناطق حوض النهر إلى هؤلاء العلماء الشناقطة الذين نشطوا  في تلك الربوع، وبعث بذلك تقريرًا إلى الإدارة الفرنسية.

وقد أولى المستشرق (بول ديبيِي Paul Dubié) أهميةً كبيرةً للثقافة الشنقيطية والمحْظرة بشكلٍ خاصٍّ في دراسةٍ أعدها حول الإسلام في السنغال[1].

كما جاء الصحفي  (غاستون دوني Gaston Donnet[2]) عابرًا للصحراء، مصممًا العزم على معرفة الظروف التي تأسست فيها دولة المرابطين هناك، والأهداف التي دفعت هذه الأخيرة إلى غزو إسبانيا (كما يقول)٬ وقد ركز كتابه: «رحلةٌ عبر الصحراء» على الجوانب الثقافية والمكانة التي يتمتع بها علماء شنقيط والظروف القاسية التي يدرس فيها الأطفال[3].

أما المستشرق (إتيان ريشي Etienne Richet) فقد تركز عمله على دراسة المجتمع الموريتاني بشكلٍ عامٍّ مخصصًا فصلًا تامًّا للحياة الثقافية والدينية في البلاد والحضور الصوفي، كما  ركز على دراسة الجوانب السياسية والاقتصادية للبلاد، وأبدى إعجابه بما يمتلكه هذا المجتمع الصحراوي من ثقافةٍ عاليةٍ، وفي  الوقت نفسه يظهر الانطباع السلبي لديه عندما يقول: إن تعليم المحظرة لا يرقى بأن يكون عقيدةً أو فكرًا، أما زميله (فرانسيس دو شاسه Francis de chassey) فقد اهتم بمسألة الحفظ عند أهل الصحراء، وحيث إن جل معارفهم محفوظاتٌ. ويضيف آخر هو المستشرق (بوْل بَينلَفى) في مذكراته: التعليم عند أهل شنقيط ميزةٌ مشرفةٌ يفتخر بها الشباب على أقرانهم الذين لم يحالفهم الحظ في التفرغ له... إلخ.

وبالإضافة إلى كتابات المستشرقين هناك التقارير التي كتبها الضباط أمثال: «مَاج» و«جَانْ كَي» و»فَيْنصَان» والتي شملت كافة جوانب حياة المجتمع، السياسية والاقتصادية والاجتماعية... إلخ. لم يقتصر الاهتمام بهذا المجتمع على  المستشرقين الذين زاروا البلاد بل هناك من انشغل بجمع المعلومات والكتابة عنه مع أنه لم يزر شنقيط ومن هؤلاء القس «بول بوالا» الذي  كان يعمل لصالح الإدارة الاستعمارية الفرنسية في السنغال، وقد أولى عنايةً بالغةً للمجتمع الشنقيطي فجمع معلوماتٍ عن رجال الدين وربط علاقاتٍ ببعض شخصيات المجتمع وأظهر لهم إعجابه بالمعارف الشنقيطية لدرجة أن صارت تصله بعض مؤلفات هؤلاء العلماء، ومن بين المؤلفات التي خلف لنا: مخطوطٌ شنقيطيٌّ نادرٌ بعنوان: «أَمْرُوك الحرف» وهو تأليفٌ متنوعٌ، يتطرق لجوانبَ عديدةٍ من الحياة الثقافية للبلاد، حيث تناول ترجماتٍ لأعلام المنطقة وبعض القصص الشعبية، هذا فضلًا عن ترجمة أسماء الحيوانات والأشياء من الحسانية إلى العربية وكذلك ترجمة المفردات الشائعة في اللهجة الحسانية إلى العربية.

وقد استعانت الإدارة الاستعمارية بمجموعةٍ ثالثةٍ تمثلت في المترجمين كان من بينهم المترجم الجزائري إسماعيل أحمد الذي ترجم عدة مراسلاتٍ جمع بعضها في كتابه «سجلات موريتانيا» يستعرض فيه مراسلات الكوماندوا الفرنسي أمير أترارة والشيخ سيدي محمد بن الشيخ أحمد بن سليمان كما تناول فصولًا عن حياة  ناصر الدين وبعض الوثائق عن أنساب البيظاَن. كما انتدبت الإدارة الفرنسية المترجم السنغالي دودوسك (ولد ابن المقداد) الذي  درس في المحاظِر الشنقيطية حتى تضلع في اللغة العربية والعلوم الشرعية ووصل مستوًى من التمكن باللهجة الحسانية أهّله لقرض الشعر بها، وقد سخر معرفته هذه في خدمة الاستعمار يترجم ويعد التقارير حسب الطلب.

وهكذا، فإن المستشرقين الذين زاروا البلاد وخلفوا كتابات حول هذا المنكب هم في الأساس من المدرسة الفرنسية، على الرغم من وجود بعض الكتابات القليلة من غير الفرنسيين  خلال القرن الثامن عشر، وقد حاولنا من خلال هذا المقال تسليط الضوء على  مدى تأثير هذه الفكر الاستشراقي على هذا المجتمع.

وسنركز من خلال هذه المقالة على بداية دخول البعثات الاستشراقية  للبلاد، والاهتمام الذي أولاه المستشرقون للتراث الثقافي والديني للمجتمع، وتتمحور في   ثلاث محاور هي:

أولًا: الاهتمام بالثقافة الشنقيطية.

ثانيًا:المحْظرة في كتابات المستشرقين.

ثالثًا: جوانب من المقاومة الثقافية.

ثم خاتمة تستعرض بعض الخلاصات والاستنتاجات من الدراسة.

أولًا: الاهتمام بالثقافة الشنقيطية:

اعتنى المستشرقون بتراث المجتمع الشنقيطي، خدمةً للمشروع الفكري الذي تسعى الإدارة الفرنسية أن تؤسس له في موريتانيا وفي مستعمراتها بشكلٍ عامٍّ، تمثل ذلك في اهتمامهم بالمصادر الثقافية للبلد، دينيةً كانت أم اجتماعيةً وسياسيةً... إلخ، وفي هذا المسعى عملوا على ترجمة مؤلفاتٍ شنقيطيةٍ كثيرةٍ، حصلوا عليها أو ألفت بطلب منهم، مستغلين في ذلك  علاقاتهم ببعض مشايخ و شعراء وكتّاب البلد، حيث «قام قادة الاستعمار بترغيب بعض المؤلفين في العمل على بعض المواضيع الخاصة والتي تخدم في ظاهرها حركة البلاد ثقافيًّا فيما تخفي الهدف الرئيس منها وهو التعرف على تاريخ وأحوال البلاد من لدن المستعمر[4]». كما دفعت الإدارة الاستعمارية بشخصياتٍ مهمةٍ بغية تعلم الثقافة الشنقيطية عن قربٍ، حيث  أصر البارون روجى  [5]على ضرورة إرسال (ريني كايي) إلى بلاد البيظاَن[6] لتعلم العربية والتقاليد المحلية معتبرًا ذلك شرطًا لا غنى عنه للقيام بالرحلة المتوقعة إلى تنبكتو[7]».

وعلى الرغم من مقاطعة المجتمع الشديدة للوافد الأجنبي، فقد وجدوا من يتجاوب معهم في طلباتهم المتعلقة بالتأليف  عن الهوية والتراث الشنقيطي، مقابل بعض الهبات التي تقدمها لهم الإدارة الاستعمارية، أو تحت ضغط الخوف من مضايقتهم، في تحركاتهم، يقول أحد الباحثين:

«ذلك أنهم طلبوا من رجال العلم  الموريتانيين الكتابة عن مواضيعَ تاريخيةٍ واجتماعيةٍ وهو ما لقي صدًى طيبًا عند هؤلاء العلماء، ومنهم: باب ابن الشيخ سيديا وابن حبت الغلاوي الذي ألف  كتابًا عن أنساب القبائل الموريتانيين وولد أحمد يوره، ومحمد فال بن بابا الذي أكمل كتاب ولد الشيخ سيديا[8]».

ومن ذلك  أيضًا رسالة كوماندو حاكم أترارزة إلى الشيخ سيدي محمد بن الشيخ أحمد بن سليمان[9] يطلب منه نسخةً من كتاب الأنساب لـ محمد اليدالي أو لغيره ممن ألف في الأنساب[10]، فرد عليه أنه لم يؤلف في أنساب قبائل المنطقة، بل ألف كتابه المسمى بالحلة السيراء في أنساب العرب، وذكره بأنه سبق وأن أرسل إليه نسخةً منه[11]، مع نسخةٍ من كتاب والده الشيخ أحمد بن سليمان الذي ألف كتابًا في أنساب بعض قبائل البلاد، ومن هذه القبائل: ادابلحسن والسماسيد... إلخ. وأخبره كذلك أنه سيرسل إليه كتابا عن علماء تشمشة[12] ودورهم في المجتمع وهو بعنوان «كرامات أولياء تشمشة» لـ محمد اليدالي المؤلف الذي سأل عنه الكومادو[13].

ويقول الشيخ سيدي بابا في مقدمة مؤلفه، تاريخ إمارتي (إدوْعيش) و(مشْظوف): «... وبعد احتلال الدولة الفرنساوية في أواخر العشر الثاني وأوائل العشر الثالث من القرن الرابع عشر، طلب مني بعض أكابرهم الفرنسيين(الكتابة في ذلك، لما لهم بالمعارف، واستخراج الفوائد من أحوال السالف والخالف، فاعتذرت...[14]».

والواقع أن الحالة السائدة كانت رفض أي نوعٍ من أنواع التعاون مع المستعمر سواءً كان هذا التعاون ثقافيًّا أو سياسيًّا عسكريًّا أو استخباراتيًّا. ومن أمثلة ذلك  موقف العلامة البشير بن أَمْبارْيكي:

«... فالشاعر والعلامة البشير بن أمباريكي، الذي هادن المستعمر تلبيةً لرغبة شيخه الشيخ سعد بوه بن الشيخ محمد فاضل رفض تولي أي منصب تحت الراية الفرنسية، ولذلك يقول ردًّا على أصدقائه الذين حاولوا إقناعه بتولي القضاء آنذاك[15]».

حتى قال: يارب من أراد لي إمارة... عند النصارى ثَقلن أوزاره، واجعله في الدنيا فقيرًا فاسقًا... لا يلقى بعد الموت شيئًا لائقًا.

من جهةٍ أخرى توالت التقارير والكتب والترجمات عن هذا المجتمع، ونذكر على سبيل المثال ترجمة بول مارتي (Paul Marty) لكتاب أخبار الأحبار بأخبار الآبار، فضلًا عن كتبه عن الإسلام في موريتانيا وفي دول غرب إفريقيا[16]. كما عملت الإدارة الفرنسية على قطع الصلات بين هذا البلد ومحيطه العربي والإفريقي فعملت على فرض القيود على قوافل الحج وحظرت استيراد المصاحف[17]....

حتى صار الحاج الشنقيطي يستأذن من الإدارة الاستعمارية الفرنسية، ليحصل على ترخيصٍ للخروج إلى الديار المقدسة، فها هو العلامة محمد الأمين الشنقيطي يتوجه إلى سينلوي بالسنغال ليحصل على إذنٍ بمغادرة البلاد للحج، حيث لقي هناك المستشرق لريش (Leriche) الذي أولاه عنايةً كبيرةً، وحاول اكتسابه لصالح الإدارة الفرنسية من خلال هديةٍ قدمها له، تمثلت في عشرة آلاف فرنكٍ فرنسيٍّ إفريقيٍّ، كما أرسل إلى الحاكم الفرنسي في ولاية لعصابة (بيرو  Bereau) يستأذنه في إمكانية تحمل الدولة الفرنسية تكاليف حجه، لكن الرد جاء بالرفض، نظرًا لما أفاد به عُرَفاء الاستعمار في المنطقة، عن مواقف الرجل المعادية للفرنسيين[18].

وهكذا فإن الإدارة الاستعمارية، استعانت ببعض الكتّاب، في تدخل خطير على  الهوية الثقافية للمجتمع، حتى ألفت بعض الكتب تحت طلبٍ من الإدارة الاستعمارية، وهو ما يدل على بالغ الاهتمام الذي أعطاه هؤلاء  المستشرقون للبلاد الموريتانية. ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إننا سنجدهم يؤلفون في اللغات والآداب الخاصة بهذا المجتمع، ومن ذلك الكتاب «منهج العربية المنطوقة في السينغال  الذي أمر الحاكم الفرنسي فدرب بطبعه، سنة 1893، لـ (ماري برنار Marie Bernard). وفي 1909 أضاف له (آلبير رينيي Albert Reynier) دراسةً للهجة البيظاَن[19]».

وكذلك العمل الذي أعده الإداري الفرنسي(فرانسيس نيكولاس Francis Nicolas)   لمنطقة ما وراء البحار، تحت عنوان اللهجة البربرية الموريتانية[20] .

كل هذه الجهود بذلت لتحقيق الأهداف الاستشراقية في هذا المجتمع بالتأثير على ثقافته وقيمه والتمييز بين أعراقه، ومحاولة طمس هويته. يقول الوالي العام لغرب إفريقيا في رسالة بعث بها إلى وزير المستعمرات سنة 1902، «لقد وجدنا أمامنا شعبًا يملك ماضيًا مليئًا بالأمجاد والفتوح ما تزال عالقةً بأذهانه كما وجدنا مؤسساتٍ اجتماعيةً لا نستطيع تجاهلها نظرًا لعلاقات التضامن الوثيق التي تسود بينها (...) ومن الخطأ أن نقارنهم بالشعوب السوداء ذات التقاليد الأضعف والشعور الوطني الخافت[21]...». 

ثانيا: المحْظرة في كتابات المستشرقين:

تباينت آراء المستشرقين حول مؤسسة المحْظرة، فبينما رآها البعض بعين الإعجاب، وانبهر بما تقدمه من معارفَ جمةٍ، في فضاءٍ شبهِ معزولٍ عن المدن والقرى، وما أعطي أهلها من حماسٍ وحبٍ لطلب العلم، على الرغم من قسوة الطبيعة الصحراوية، مستدركين الدور الكبير الذي تلعبه المحْظرة في المجتمع الشنقيطي، من تربية النشء وتقويم المجتمع على مبادئ الدين الإسلامي الحنيف، فيحفظ الصغار القرآن الكريم، في سنٍ مبكرٍ، ويتدرجون بين المتون الأخرى (الفقه واللغة... إلخ).

 أما أصحاب الاتجاه الآخر فنظروا إلى المحْظرة بعين الازدراء واعتبر أن كل المعارف التي تقدّمها، لا تعدو كونها محفوظاتٍ تلقّن للصبيان حتى يلقنوها للأجيال اللاحقة، دون أن تكون هناك قيمةٌ مضافةٌ تنعكس على حياة الناس، ورأوا في طريقة التدريس المحظري مشقةً وخطورةً على ذاكرة الأطفال[22]. وهناك من أصحاب هذا الاتجاه، من بالغ حتى اعتبر المحْظرة عديمة الفائدة، والمواد المدرسة بها لا تحمل فكرًا وخاليةً من معاني العقيدة الإسلامية، وبعبارةٍ أدقَّ تفتقد إلى الرسالية ولا تحمل مشروعًا، حسب ما رأى أصحاب هذا الاتجاه الأخير. واستغربوا من الأعداد الكبيرة للطلاب التي تأتي من كل حدبٍ وصوبٍ في ظروفٍ قاسيةٍ، يقطع الطلاب فيها المسافات الطوال، وزاد حيرتهم هذا الحماس الشديد والمجهود المضاعف المبذول من طرف الطلاب في سبيل تحصيل العلم، تحت خيمةٍ لا تقيهم برد الشتاء ولا تكف عنهم حرّ الصيف. وأيضا دور شيخ المحْظرة الذي يسخّر وقته ويبذل كل الجهد لتعليم وتكوين علماء أفذاذ.

كما تابع المستشرقون مراحل تشكّل التاريخ الثقافي للبلاد والنتائج التي حققتها المحْظرة الشنقيطية  خارج الفضاء الشنقيطي في المشرق والمغرب وفي غرب إفريقيا من خلال سفراء المحْظرة الذين ذاع صيتهم في كل هذه الأقطار.

أما المستشرق (إتيان ريشي Etienne Richet)، فقد تابع بدايات دخول الطالب للمحظرة والظروف العامة فيها، يقول: إن الطالب منذ دخوله للمحظرة وحتى يحفظ الجزء أو الجزئين لا يدفع أي مقابلٍ ماديٍّ، وإذا حفظ الجزئين، يقدم هديةً لشيخه، تقدر بثلاث مائة أفرانك، وفي نهاية دراسته يختبره الشيخ وإذا نجح في الاختبار يكتب له إجازةً من عنده مع سندٍ[23].

ويضيف (پول بنليفي Paul Painlevé) أن الدراسة في المحْظرة، هي ميزةٌ مشرفةٌ يفتخر بها الشبان ويعيرون قرناءهم الذين لم يكن لهم الحظ في ولوجها، ويصف حالة تدافع الطلاب للتسجيل في المحْظرة ويتنقلون مع شيخهم أينما حل وارتحل. كما «عبر بول بنليفي» عن تقديره  المكانة التي يحظى بها الشيخ في هذا المجتمع  قائلًا: فطلاب المحْظرة يفدون من كل حدبٍ وصوبٍ إلى خيمة معلم المحْظرة، ويحظى هذا الشيخ بتقدير الأهالي والطلاب ويبقى فضله قائمًا على الطلاب حتى بعد انتهاء الدراسة، يتجسد ذاك في هدايا تقدم له، عرفانًا له بالجميل[24].

كما لم يغب عن المستشرقين أن التأثير في هذا المجتمع قد لا يأتي بسهولةٍ، لكن المبدأ الذي عملوا على أساسه هو أنهم كلما تقدموا شوطًا في معرفة مؤسسات المجتمع، كلما قلصوا المسافة بينهم وبين المجتمع من جهةٍ، واقتربوا شوطًا من مكان التأثير، يقول المستشرق  (پول مارتيPaul Marty) مستشار الإدارة الفرنسية للشؤون الإسلامية لمنطقة إفريقيا الغربية: إن المحْظرة هي المؤسسة المسؤولة عن تصدير القضاة والأئمة والفقهاء، وتسند لفئة زوايا أهل العلم، وبالتالي يجب على الإدارة الاستعمارية أن تحيطها بعنايتها[25].

 الأدوار التي اضطلعت بها المحْظرة:

أدرك بول أن المحْظرة، تقف عقبةً أمام المخطط الاستعماري في المنطقة حيث يقول: أساتذة المحاظِر هم علماء وأساتذة جامعيون يقدمون دروسهم تحت الخيام من أمثلة هؤلاء العلامة محمد بن محمد سالم المجلسي[26] وقد تطرق (پول مارتي) لمكانة هذا الرجل وعلمه وعدد من مؤلفاته، الريان في تفسير القرآن وغيره[27]...».

فالمحْظرة حاربت التنصير في غرب إفريقيا، بدءًا من دولة الجوار السنغال، وذلك بشهادة (بول مارتي) عند ما وقف على الدور الذي تقوم به في الضفة السنغالية خلال القرن 19م، وما لقيته من إقبالٍ كبيرٍ لفت انتباه المبشرين[28]. في وقت كان المنصرون المسيحيون بدوا يستقرون في نفس الضفة[29].     

ينضاف إلى ذلك  شهادةٌ أخرى من  الرحالة (موليين  Mollien)،  تطلعنا على المناطق التي وصلتها المحْظرة وحاربت فيها التنصير. فقد كان التجار الشناقطة يتنقلون بمحاظرهم حيثما حلوا وارتحلوا دون أن تمنعهم المهن التي يمارسونها، فنشروا الإسلام في أصقاعٍ لم تكن لتصلها في تلك الفترة، وأنقذوها من خطر التبشير المحدق، فنافسوا  المبشرين المسيحيين في غرب إفريقيا. فها هو (موليين Mollien) متضايقٌ من هذه المسألة إذ يقول بأن المبشرين المسيحيين في رأس الرجاء الصالح لن يصلوا إلى مناطق وسط إفريقيا إلا بعد أن يكون الإسلام وصلها عن طريق العلماء الشناقطة[30].

التقليل من دور المحْظرة:

أشاد إتيان ريشي (Etienne Richet) بعلم أهل الصحراء والنشاط الحماسي الذي يمتلك طلاب هذه الجامعة، متناسيًا حالتهم الصعبة وقسوة المناخ  التي لم تمنعهم من تحصيل العلم في براري الصحراء[31]. كما قال بذلك مارتي، عندما تحدث عن موسوعية علماء شنقيط، والفترات الطويلة التي يمضونها في تحصيل العلم. من جانبٍ آخرَ يطلعنا على رقمٍ مهمٍّ لعدد الطلاب في إحدى المحاظِر، حيث يقول بأسلوب المتعجب، تضم إحدى المحاظِر 38 طالبًا، وهو ما يعني اهتمام الأهالي بهذه المؤسسة والتعامل معها، قصد إنجاح مشروعها[32]. في حين رأى بعض المستشرقين أن المحظرة لا تستحق ما أحيطت من اهتمام من طرف الإداريين الفرنسيين ومن هؤلاء (فرانسيس دو شاسّي Francis de chassey)، إذ يقول: «إن التعليم القرآني بوصفه تعليم شعائر وألفاظٍ، لا معنى له لدى الأطفال، وبوصفه تمرين حفظٍ، فهو لا يرقى إلى مستوى تمرين للفكر، فكيف به والحال هذه أن يصل إلى أفهام الأطفال؟ قد ينوم في أحسن الأحوال نشاطه الناشئ ويجعله ينحرف عن المجهود الفكري في المقابل، تلك هي نهاية الحرية الجميلة التي تمتلكها، هذه المدرسة المفتوحة في العراء وبداية سطوة نظامٍ متعجرفٍ بقدر ما هو قاسٍ يوشك أن يفقد فيه الطفل عفويته وتوازنه[33]».

ويضيف أنّ هذا التعليم لا يرقى إلى أن يرسّخ عقيدة أو يكون فكرًا، ولا أن ينور لرواده الطريق بل على العكس من ذلك فهو خطرً على الأطفال وقد يتسبب في إفساد عقولهم: «لا يمارس المعلم أي تأثيرٍ أخلاقيٍّ إنما يكتفي بشحن الذاكرة، ولا يولي أي اهتمامٍ لتعليمهم العقيدة الإسلامية التي يجهلها جهلًا عميقًا. إنه تاجر لغة عربية وكأي تاجر فإنه من  النادر أن تجد لديه أفكارًا سياسية دقيقة على الأقل أفكارُا معبرًا عنها بشكل صريح[34]».

وهكذا شكلت الآراء الداعية إلى خطر المحظرة والمقللة من قيمتها موقفًا حازمًا يحد من عملها والأدوار التي تلعبها، وهو اعترافٌ ضمنيٌّ بالدور الكبير الذي تلعبه المحْظرة في الحفاظ على الهوية الإسلامية في المنطقة حيث وضعت الإدارة الفرنسية عدة خططٍ لهذا الأمر، بناءً على ما وصل إلى الحاكم العام للمنطقة، من تقاريرَ تفيد بخطورة النشاط التربوي الذي تلعبه المحْظرة، على المشروع الفرنسي في غرب إفريقيا. فأمر الحاكم بإنشاء مدرسة لمعلمي القرآن يتلقون تعويضاتٍ ماليةٍ ويكونون تحت تأثيرٍ من الإدارة الفرنسية، ومن أجل محاربة المحاظِر التي تنشأ في كل مكانٍ خارج رقابة وتوجيه الإدارة، ويطلعنا (فرانسيس دو شاسّي Francis de chassey) على هذه الإرهاصات قائلا: «... طلب (الحاكم العام) من مدير التعليم في تونس أن يكتب له ما يجري به العمل هناك ومن السيد دي فلكور De Felcourt، في القنصلية في  القاهرة طالبًا معرفة سياسة الإنجليز في هذه المسألة. كما بعث الحاكم المساعد كلوزل Clozel، إلى الجزائر سنة 1906، وقد عاد إليه بتقريرٍ عن المدارس والتعليم الفرنسي والإسلامي في هذه المستعمرة[35]». وعلى هذا الأساس شكلت الإدارة الاستعمارية من بين المستشرقين لجانًا لإحصاء المحاظِر في البلاد الموريتانية، تقوم بجمع معلوماتٍ عامةٍ عن الشيخ (المنطقة التي ينحدر منها، والمشايخ الذين أخذ عنهم والطريقة التي يتبعها، وموقفه من الإدارة الفرنسية)، وكذلك عن المحْظرة (عدد طلابها والكتب التي تدرّس فيها...)، ومن أمثلة ذلك الوثيقة التي قدمها «كوستاف أودانGustave Audan»، عن المحاظِر في كيدي ماغة، حيث كان مفوضًا في إفريقيا الغربية الفرنسية (A .O.F)، أحصى  خلالها: مائة وستا وستين إمامًا ومعلمًّا، وقدم تفاصيلَ موسعةً عن كل شيخ محظرةٍ على حدةٍ[36].

وقد دخل كافة المستشرقين ومن يعمل لصالحهم في جمع المعلومات وضبط التقارير حسب أوامر الإدارة الفرنسية، ولا يقل دور المستشرقين الذين أبدو إعجابهم بالمحْظرة، عن غيرهم ممن نعتوها بأوصافٍ سلبيةٍ، فمن خلال تقارير الجميع، خرجت الإدارة الاستعمارية بمجموعةٍ من المقترحات كان أولها محاولة الاحتواء، فأعطت عنايةً خاصةً للمحاظر وشكّلت  برامجَ لذلك، إذ أصبحت تمنح رخصًا، لمن تأمنه على مشروعها، كما أن هذه الرخص قابلةٌ للسحب إذا لم يستوفِ المعلم الشروط المفروضة على المحْظرة، ويلزم الطفل كي يسمح له بالذهاب إلى المحْظرة، بإمضاء ساعتين يوميًّا في المدرسة الفرنسية، أو بالحصول على شهادةٍ مدرسيةٍ قبل دخول المحْظرة القرآنية أو دعم من معلم المحْظرة يخصص ساعتين يوميًّا لتدريس الفرنسية في المحظرة، والهدف من ذلك حسب (فرانسيس دو شاسّي Francis de chassey) هو إدماج الأطفال وإطلاع السكان المحليين على لغتنا مع احترام معتقداتهم[37].

ومع كل هذه البرامج المفروضة على المحظرة وطلابها ظل الإقبال على المدرسة الفرنسية بين ضعيفٍ وشبه ضعيفٍ، وهو ما يظهر من خلال تقريرٍ للضابط «ج. روس J.Ross»،  حيث يقول: «إن إقبال أبناء  البيظاَن ظل معدومًا في السنوات الأولى، وإقبال أبناء الزنوج موجودً لكنه ضعيفً، لم يتجاوز خلال عامي 1905 و1906، الأربعة والعشرين طالبًا، بعد أن كانوا سبعة طلابٍ، رغم توفير منحٍ دراسيةٍ لكل من يلتحق بهذه المدرسة[38]...».

وبهذا فإن الإدارة الفرنسية لم تحقق هدفها التربوي كما كان مخططًا له، ذلك أن أغلب الطلاب لا يدخل المدرسة إلا بعد أن يقطع أشواطًا في التعليم المحظري أو يزاوج بينهما، وهو ما انصاعت له الإدارة الفرنسية، عندما علمت أن المحْظرة يحيطها الشناقطة بشيءٍ من الهيبة والقداسة. ويرجع (فرانسيس دو شاسّي Francis de chassey) أن هذا الفشل مرده قلة الحكمة، والأولى أن تفرض التعاليم الدينية المسيحية بشكلٍ علنيٍّ مع الثقافة الفرنسية، وإلغائه ما دام لا يحقق ما تصبو إليه الإدارة، فيقول: «مبدأ المدرسة) أي المدرسة الفرنسية(، ممتازٌ ولكن تطبيقه ينبغي أن يكون حكيمًا، في هذه الحال يكون العمل بالتميز اللاهوتي أو لا يكون أبدًا[39]».

ومن جهةٍ أخرى حاربت الإدارة الفرنسية الوجود المحظري خارج الفضاء الشنقيطي بقوةٍ فبعد أن وجه (بول مارتي) اللوم للإداريين الفرنسيين على تجاهلهم نشاط الشيخ محفوظ[40] الدعوي  في بلاد ديولا الوثنية، حتى صارت له علاقةٌ طيبةٌ بزعماء تلك البلاد[41]، فسرعان ما تم تضييق الخناق على كافة تحركات العلماء الشناقطة في السودان الإفريقي. و جاءت الأوامر من الإدارة الاستعمارية باعتقال الشيخ محمد هادي[42] الذي كان  مستقرًّ في غينيا في قرية سانديا يعلم الناس الإسلام سنة 1912[43]. كما رحلت السلطات الفرنسية الشريف سيدي محمد حيدرة[44] من بلاد ديولا الوثنيين لكونه جاء لنشر الإسلام بها[45].

وخلاصة القول أن المستشرقين وقفوا على التعليم المحظري من جميع جوانبه، سواءً أتعلق الأمر بالمناهج التربوية المتبعة والكتب المقررة في التدريس، أم بالمكانة التي يحظى بها في هذا المجتمع، والدور الذي لعبه علماء المحْظرة في تحصين المجتمع الشنقيطي ونشر الإسلام في غرب إفريقيا، ومحاربتهم للتنصير، كما كانت مصدر قلقٍ لهم، فجاء الدافع للتعرف عليها عن قربٍ قصد كبح عطائها وطمس إشعاعها العلمي والثقافي.

ثالثًا: جوانب من المقاومة الثقافية (معارضة المدرسة الفرنسية)

شكلت محاربة المدرسة (Ecole) عنوانًا عريضًا في شعر المقاومة الشنقيطية وذلك لعدة عوامل منها:

1ـ المدرسة وافدٌ أجنبيٌّ، يقدم تعاليم الثقافة النصرانية، بتصوير شعوب الحضارة الغربية على أنهم أسياد العالم وشعوب العالم الأخرىعلى أنهم أتباع لهم، هذا فضلًا عن محاربة الإسلام، وذاك لما عاشه علماء المسلمين من سجنٍ واضطهادٍ ونفيٍ وإبعادٍ في دول الجوار.

 2 ـ لم يخفَ على العلماء أن التنصير أصبح على الأبواب بعد أن وصل المنصرون (وبحمايةٍ من الإدارة الاستعمارية) من الجوار المباشر للبلاد، خاصةً بعد ما شاهدوه من استعمارٍ وقهرٍ واستعبادٍ للسكان وفرضٍ للثقافة الفرنسية والتبعية للقوة الاستعمارية.

3ـ شكّل افتتاح المدرسة في هذه البلاد أمرًا بالغ الأهمية بالنسبة للإدارة الفرنسية، لما كانت تخطط له من محاصرة المحْظرة، التي رأت فيها مصدر إمداد الرحلات الدعوية لنشر الإسلام في غرب إفريقيا، حيث اعتقلت بعض العلماء الشناقطة وطردتهم من تلك المناطق التي كانوا قد استقروا بها يعلمون الناس ويساهمون في نشر الثقافة العربية هناك. وهو ما تولدت عنه هبّةٌ شعبيةٌ واسعةٌ ضد افتتاح هذه المدارس منذ مطلع القرن العشرين وكانت الوسيلة الأنجع لإيصال رسائلهم هي الشعر، فنظموا الفتاوى، والنصائح التي تحذر من تسليم الصغار للنصارى، وأنّ من يفعل ذلك يكون مفرّطًا في أبنائه. كما بينوا أن المدرسة الفرنسية وسيلةٌ لمحاربة الدين وطمس الهوية الإسلامية، وقد جاءت الفتاوى بهذا الصدد من أعلامٍ كبارٍ ومن مختلف مناطق البلاد.

وفي دراسةٍ أعدها العالم اللغوي (كومِّنْس Cummins) حول تأثير اللغة الأجنبية على اللغة الأم خلص إلى مسألتين اثنتين مفادهما أن اللغة الأم ينبغي أن تحظى بالاهتمام الأكبر خاصةً في سن الطفولة، وهما كالتالي:

1ـ أن على المتعلم (التلميذ) أن يصل درجةً معينةً من إتقان اللغة الأم قبل أن تقدم له اللغة الوافدة، وبعد أن يصل (عتبة إتقان اللغة الأم) قد تقدّم له دروسٌ في اللغة الأجنبية، لكن يجب أن تبقى اللغة الأم حاضرةً حتى لا تبدأ في التناقص التدريجي ـ عنده ـ حتى تختفي. وفي حالة إقصاء اللغة الأم سيؤدي ذلك إلى ما يسمى بالثنائية اللغوية المتناقصة (Subtractive bilingualism).

2 ـ أن إتقان اللغة الأم يساعد على إتقان اللغة الثانية وتطور المهارات اللغوية في الأخيرة. وهو ما عرف بـ «نظرية التبادل التطوري» (Developmental Interdependence Hypothesis)[46].

 وتنبه هذه الدراسة إلى الخطر الكبير الذي قد تسببه اللغة الثانية على اللغة الأم. وهو ما يعني أن التعليم الوافد من أهدافه ربط شعوب هذه المستعمرات بأسيادهم المستعمرين فكريًّا وثقافيًّا، والمدخل إلى ذلك هو تعليمهم ثقافة هذا الوافد وتبشيرهم بمعتقداته “... فإن غزو هذه المدارس التثقيفي القومي هو تمهيدٌ للغزو الديني، فهي معقل التبشير بالديانات والنِّحَل[47]...” .

وقد تراءى لبعض المستشرقين أن المدرسة الفرنسية لم تلعب الدور المنوط بها، فها هو المستشرق دي شايي  يقيّم دور المدرسة في مناطق الزنوج من هذه البلاد حيث يقول: «في بلاد الزنوج لا يوجد أيٌّ من هذه الشروط ولا يتوفر أي واحدٍ من هذه الأهداف فتبدو المدرسة وكأنها دورةٌ تعليميةٌ تنشأ وتصان ويصرف عليها من قبلنا ثم تخرج رجال دينٍ معادين في الغالب ومرتابين دائمًا[48]».

وقد استفتى الشاعر محمد بن محمد المصطفى العلماء في نازلة المدارس الاستعمارية:

مِلحَ البلاد ما جواب سائِلِ *** عن حكم أمر في البلاد نازل

تسليمنا أولادَنَا الصغَارَا *** طوعًا إلى مدارس النصارى

 

كما أجابه محمد الأمين بن محمد مولود بن أحمد فال

جاز تعلمُ خطــوطِ الكـفره *** لبـالغٍ من المِلاحِ المهره

ومنــعوا إسلام نجله الأبِ  *** لكـــافرٍ يبعثه في المكتبِ

افإثمه بعدُ إذا تنصر *** على الذي أعطاهُ، فيها اشتهرا

ذكر ذا العلامة الشوشاوي[49] *** بحرُ المعارف الخِضَم الراوي

 

 ورد عليه  أيضًا العلامة عبد الله بن داداه ضمنيًا بقوله:

الصمت دون ما يخــاف جنه

وقال في إضـاءة الدجنه:

الحق لا يخــفى على ذي عين *** والله أرجـو عصمة لديني

كما جاء النهي عن تسليم الأطفال للمدارس، والتذكير بعواقب ذلك من الويل والثبور في الآخرة والعار والدنية في الدنيا.

ويحذر أحمدو بن فتى الذين يرتادون مدارس النصارى:

بناة مدارس الفاني عدُوي  *** لِدُوا للموت وابنوا للخراب

فأبنيةُ الحطام إذا أقيمت *** كأبنية العناكب والذباب

 يقول أحمد بن محمذن بن المنى:

فلا تجعل صبيك في «لكول» *** لتأمن لهيب لظى الأَكُول

وكن عنها إذا نشرت ذووها *** ليدخلها  الدعاية ذا نكول

ولا تَقُل العُدُولُ الشمّ فيها *** وفيها الشم أبناء العُدُول

فليست عصمة الرحمن إلا  *** لمن حاز النبوة كالرسول  

 

يقول محمد حبيب الله بن مياه:

ألا أيها الإخوانُ إن المدارسا *** بعهد جديدٍ كان أو كان دارسا

مكيدةُ أهل الكُفرِ للدين بالدنا *** غَزَوهُ بها غزوًا قد أعيا الفَوَارِسا

وعمت ببلواها ديانتَنا التي *** نحُج بها ذا الكُفرِ رُومًا وفارسا

ألم تنظروا هل هي مِن حرث دينكم *** للأخرى فلا تألوا عليها منافسا

وهل هي للدنيا بمحض معيشة *** تُضَررُ بالأخرى تجر الطنافسا

ففروا ففروا  فالتقى خير زادكم  *** إذا ما نبذتم في سواه الوساوسا

 

و يضيف قائلًا:

وتقتل أَفهامَ الصغارِ عن التقى *** إلى أن يصيروا وافدين الكنائسا

بفلسفةٍ أو شِيعَةٍ أوشيُوعَةٍ *** تلائم من للكفر كان مُجانسا

وخيرُ الوَرى عما يلائمهم نهى *** طِباعاً فِعَالاً صورةً و ملابسا

 

ويقول الشيخ محمدو حامد بن آلا:

والدينُ مبقاه أن تأتي الصغارُ بهِ *** وحيث لاَ فإذَن لم يبق من دينِ

والناسُ إن أفسدوا دين الصغارِ رضوا *** بالمحو للدين من كل الدواوينِ

وليس يرضى بمحو الدين غير عَمٍ *** عن نهج الإيمان والإسلام مفتونِ

خاتمة:

وقد خلصنا من خلال هذه الدراسة إلى جملةٍ من الاستنتاجات نلخصها في النقاط التالية:

. أن بعض المستشرقين قد تناول الكتابة عن هذا المجتمع بشيءٍ من الموضوعية حيث خرج بخلاصة مفادها أنه مجتمع  بدوي عالم، يمتاز بالكرم رغم صعوبة الحياة في الصحراء. كما يذكر للحركة الاستشراقية أنها حفظت العديد من مخطوطات التراث الإسلامي، من بينها مخطوطاتٌ شنقيطيةٌ كانت على وشك الضياع وهي اليوم محفوظةٌ في الأرشيف الفرنسي.

. أن الأوروبيين أدركوا أهمية هذه البلاد (شنقيط) وبخاصةٍ الفرنسيين الذين كانت لهم اليد الطولى في احتلالها، وقد انطلق أغلبهم (المستشرقين) في تصوره من مبدأٍ مفاده أن جل ما يكنه الشناقطة لهم من عداءٍ مُتأتٍّ من تعاليم الإسلام، الذي هو مصدر كل أوجاع وعذابات إفريقيا، كما يزعمون، والواقع أن ذلك يعود لوجود موروثٍ تاريخيٍّ في الوعي الذاتي للشخصية الغربية ينظر إلى المسلمين كأعداء في صراعٍ حضاريٍّ وتاريخيٍّ.

. أن نخبة المستشرقين التي زارت البلاد قد اطلعت على العديد من الترجمات أثناء عملهم في الجزائر وتأتي في مقدمة هذه الترجمات ترجمة معاني القرآن والسنة النبوية وترجمات الفقه المالكي و بخاصةٍ جوانب المعاملات التي ركز عليها المستشرقون كثيرا، وكذلك عادات المجتمعات الصحراوية إلى غير ذلك.

. أن كتابات المستشرقين ركزت على تاريخ المنطقة، فأرّخوا لدخول المرابطين إلى إسبانيا، وكتبوا عن فكر ناصر الدين وحركته الإصلاحية، والظروف التي ظهر فيها. كما ترجموا مؤلفاتٍ عن أنساب البيظاَن ومشايخهم، وعن حركة انتجاعهم.

. أن من أبرز تجليات الإيديولوجيا الاستشراقية في هذه الكتابات، ما ظهر من تقديم المعلومات التامة عن المجتمع سواءً أتعلق الأمر بالثقافة أم بالدين  أم بالسياسية، والتقليل من قيمة المعارف الشنقيطية، والقول بأنها لا تحمل فكرًا أو عقيدةً.

. تكرار الصورة السلبية نفسها عن هذا  الشعب، كالقول بهمجيته وأنه يفتقد المبادئ الأساسية للحضارة العالمة، وهي الانطباعات نفسها التي تتردد في جل كتاباتهم.

. أن المستشرقين ربطوا علاقاتٍ مع بعض المشايخ، حتى أصبحت هناك مراسلاتٌ ثابتةٌ بينهم وبين الإدارة الاستعمارية في سينلوي بالسنغال يستعينون بهم في تقديم المعلومات والتدخل وقت الضرورة.

. خدمت الحركة الاستشراقية الإدارة الفرنسية في تحقيق احتلال البلاد والسيطرة على أسواقها، وربط مستعمراتهم في الجنوب بمستعمراتهم في الشمال. كما تولى المستشرقون مسؤوليات وزارات التربية والتعليم في المستعمرات، و أشرفوا على وضع المناهج التربوية بها.

.  حوصرت البلاد ثقافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا فمنعت الرحلات التجارية الشنقيطية المتجهة إلى السودان الغربي، فقطعت من ارتباطاتها التاريخية وصِلاتها العلمية والروحية... إلخ.

. أدرك المستشرقون ما تشكّله المحْظرة من تحدٍّ بالنسبة لهم في الداخل الموريتاني والجوار الإفريقي، وصعوبة  اختراق هذا المجتمع البدوي العالم، الذي يصعب ترويضه على الأفكار الأجنبية وإخضاعه لسلطةٍ قارةٍ.

وهنا نقول أنه كان بالإمكان توظيف الاستشراق بشكلٍ إيجابيٍّ كأداةٍ للتقارب الحضاري والتعايش السلمي وهو ما لم تتطلع إليه الحكومات الفرنسية المتعاقبة، حيث حاربت الثقافات الوطنية لتفسح المجال أمام ثقافتها ولغتها التي تعتبرها الوسيلة الأفضل لخدمة أهدافها، مخالفةً في ذلك مبادئ الثورة الفرنسية التي تقول بالحرية والعدالة والإخاء، ومخالفةً أيضًا أطروحة الجنرال ديغول القائلة: «هناك ميثاقٌ على امتداد عشرين قرنًا يخلّد عظمة فرنسا ويصون حرية العالم» [50].

 (Il y a un pacte ving fois séculaire entre la grandeur de la France et la liberté du monde)

المصادر والمراجع:

1- شنقيط المنارة والرباط، الخليل النحوي. المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم،  تونس 1987.

2- إمارة ادوعيش ومشظوف، الشيخ سيديا بابا، تح: إزيد بيه بن محمد محمود ط2، نواكشوط، 1994.

3- إخبار الأحبار بأخبار الآبار، أمحمد بن أحمد يورة، ترجمة (بول مارتي Paul Marty) ، دراسة أحمد ولد الحسن، معهد الدراسات الإفريقية الرباط، 1992.

4- مجتمع البيظاَن في القرن التاسع عشر، قراءةٌ في الرحلات الاستكشافية الفرنسية.

5- الطريق إلى تنبكتو عبر موريتانيا، محمدو ولد محمدن أمين، بدون السنة.

6- مجالس مع فضيلة العلامة محمد الأمين الجكني الشنقيطي، أحمد بن محمد الأمين بن أحمد الجكني الشنقيطي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية دولة الكويت، 2007، ط1.

7- موريتانيا وأوربا عبر التاريخ، محمد سعيد ولد همدي، بدون: السنة ودار النشر.

8- الرحلة في صورة الآخر قراءة في نصوص الرحالة الأوربيين تأليف مشترك إشراف: كريم بجيت.

9- موريتانيا من سنة 1900 إلى 1975، (فرانسيس دو شاسّي Francis de chassey)، ترجمة محمد ولد بوعليبة دار جسور للنشر، بتصرف.

10- المقاومة السوننكية للاستعمار في كيدي ماغة، محمد المحبوب ولد محمد المختار ولد بيه، مكتبة القرنين، 2010.

11- السن الأنسب لتدريس اللغات الأجنبية، خالد بن عبد العزيز الدامغ، 2011، الوطن للنشر، السعودية الرياض.

12- المدارس العالمية الأجنبية الاستعمارية، بكر بن عبد الله أبو زيد، دار ابن حزم القاهرة، ط1، 2006.

المجلات:

التأليف الموريتاني في ظل الاستعمار، د. الشيخ سيدي عبدالله، ورقةٌ بحثيةٌ، مجلة الأديب، اتحاد الأدباء الموريتانيين، العدد 10، 2010.

المنظمات الإنسانية واجهة الاستعمار الجديد في موريتانيا، محمد المختار سيدي محمد، مجلة الحكمة،ص: 68، ع: 12، 1999، بغداد. 

 مقال: الإيديولوجيا الاستشراقية في رحلة إدموندو دي أميتشس حول المغرب خالد شاوش، ص: 131، 2013.

المراجع الأجنبية:

Paul Dubié. La vie matérielle des Maures, mémoires de L’Ifa, n°23, Dakar, 1954.

Gaston Donnet, En Sahara à travers le pays des Maures Nomades, Paris, Société Française Edition D’Art.

Etienne Richet, La Mauritanie.

Ismael Hamat, Chronique de la Mauritanie sénégalaise, Nacer Eddine, texte arabe traduction et Notice, P: 1, Ernest Leroux Editeur, Paris, 1911.

Paul Marty, L’émirat des Trarza.

La Mauritanie, préfaces: Paul Painlevé (membre de l’institut, ancien président du conseil), Paris, 1920.

 Paul Marty, Les tribus de la Haute Mauritanie, Comité de l’Afrique française,  Paris, 1915.

Mollien, Voyage dans l’intérieur de l’Afrique.

J. Roos, l’adjoint au commissaire, Territoire civil de la Mauritanie (Rapport d’ensemble), p: 54, Saint-Luis, Imprimerie du gouvernement, 1908.

 Paul Marty, L’islam au Sénégal, T1.

Francis Nicolas, La langue berbère de la Mauritanie, Mémoire de l’institut français d’Afrique noire, n°: 33, IFANـDAKAR, 1953.

--------------------------------


[1]  Paul Dubié, La vie matérielle des Maures mémoires de L’Ifa, n° 23, Dakar, 1954, pp: 113-252, p:119.

[2] Gaston Donnet, En Sahara à travers le pays des Maures Nomades, p: 301, 302, Paris société française Edition D’Art.

[3] الدارجة الموريتانية.

[4]التأليف الموريتاني في ظل الاستعمار، د. الشيخ سيدي عبدالله، ورقة بحثية، مجلة الأديب، اتحاد الأدباء الموريتانيين، العدد 10، 2010.

[5]الوالي الفرنسي على السنغال في تلك الفترة.

[6] بلاد البيظان أو أرض البيظان، هي تسمية من تسميات أطلق على موريتانيا قبل الاستعمار.

[7] الطريق إلى تنبكتو عبر موريتانيا، محمدو ولد محمدن أمين، ص:193.

[8] الموريتاني في ظل الاستعمار، د. الشيخ سيدي عبد الله مجلة إتحاد الأدباء الموريتانيين، ع، 10، 2010.

[9] الشيخ سيدي محمد بن الشيخ أحمد بن سليمان الديماني.

[10]Ismael Hamat, Chronique de la Mauritanie sénégalaise, Nacer Eddine, texte arabe, traduction et Notice, p :1, Ernest Leroux Editeur, Paris, 1911.

[11] Ismael Hamat, :1.

[12] مجموعة قبلية.

[13] Ismael Hamat, p :2.

[14] إمارة ادوعيش ومشظوف، الشيخ سيديا بابا، تح: إزيد بيه بن محمد محمود ط2، نواكشوط، 1994، ص:95.

[15] التأليف في موريتانيا في ظل الاستعمار. ورقة بحثية د. الشيخ سيدي عبد الله مجلة hتحاد الأدباء الموريتانيين، ع، 10، 2010.

[16] إخبار الأحبار بأخبار الآبار، أمحمد بن أحمد يورة، ترجمة (بول مارتي Paul Marty) ، دراسة أحمد ولد الحسن، معهد الدراسات الإفريقية الرباط، 1992. تقع في 124 صفحة.

[17] شنقيط المنارة والرباط، ص: 53ـ56.

[18] مجالس مع فضيلة العلامة محمد الأمين الجكني الشنقيطي، أحمد بن محمد الأمين بن أحمد الجكني الشنقيطي،ص: 30-31، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية دولة الكويت، 2007. ط1.

[19] موريتانيا وأوربا عبر التاريخ،  محمد سعيد ولد همدي ص: 62،61.

[20]  :Francis Nicolas, La langue berbère de la Mauritanie, Mémoire de l’institut français d’Afrique noire n°: 33, IFANـDAKAR, 1953.

[21]  :A.N.M., Série E, dossier N°8, M. Le ministre des colonies en date du 1 decembre 1902.

نقلا عن المنظمات الإنسانية واجهة الاستعمار الجديد في موريتانيا، محمد المختار سيدي محمد، مجلة الحكمة، ص:68، ع: 12، 1999، بغداد. 

[22] يتحدث المستشرق إدموندو دي أميتشس عن الكتّاب القرآني المغربي وتتقارب الأوصاف مع اختلافٍ بسيطٍ في أعداد الطلاب التي هي بالعشرات في المحْظرة: "... الكتّاب القرآني الذي يتكون من حوالي ستة أطفال تحت رقابة المعلم الذي يحمل العصا وعلى أهبة معاقبة أي شرودٍ من جانب تلاميذه... والذين يتناوبون على لوحةٍ واحدةٍ للقراءة..."، الرحلة في صورة الآخر، قراءة في نصوص الرحالة الأوربيين، تأليفٌ مشتركٌ، إشراف: كريم بجيت، مقال: الإيديولوجيا الاستشراقية في رحلة إدموندو دي أميتشس حول المغرب خالد شاوش، ص: 131، 2013

[23] Etienne Richet, La Mauritanie, p: 119.

[24] Etienne Richet, (professeur au collège des sciences sociales, membre du conseil supérieur des colonies), La Mauritanie, préfaces: Paul Painlevé (membre de l’institut, ancien président du conseil), Paris, 1920.

[25] Paul Marty  Les tribus de la Haute Mauritanie, p: 85, comité de l’Afrique française, Paris, 1915 .

[26] محمد بن محمد سالم بن محمد سعيد بن محمد بن عمر بن أبي السيد بن أبي بكر بن علي بن يمغدش بن وديعة الله بن عبد الله بن أحمد بن يفت بن يذر بن إبراهيم الأموي.

[27] Les tribus de la Haute Mauritanie, p: 56, Paul Marty, comité de l’Afrique française, Paris, 1915.

[28] Paul marty, L’émirat  des Trarza,  p 271.

[29] : Paul marty, L’émirat des Trarza, p: 286.

[30] Mollien, Voyage dans l’intérieur de l’Afrique.

نقلًا عن مجتمع البيظاَن في القرن التاسع عشر قراءة في الرحلات الاستكشافية الفرنسية،  سابق، ص: 300.

[31] :La mauritanie, Etienne Richet. p: 119, Paris 1920.

[32] Etudes sur  l’islam au sénégal, p :18.

[33] (فرانسيس دو شاسّي Francis de chassey)، موريتانيا من سنة 1900 إلى 1975، ص: 126، ترجمة محمد ولد بوعليبة، دار جسور للنشر، بتصرف.

[34] (فرانسيس دو شاسّي Francis de chassey)، موريتانيا من سنة 1900 إلى 1975، ص: 127، ترجمة محمد ولد بوعليبة، دار جسور للنشر.

[35] (فرانسيس دو شاسّي Francis de chassey)، موريتانيا من سنة 1900 إلى 1975، ص: 127، ترجمة محمد ولد بوعليبة، دار جسور للنشر.

[36] المقاومة السوننكية، للاستعمار في كيدي ماغة،ص:83،  190. د.محمد المحبوب ولد محمد المختار ولد بيه.مكتبة القرنين،2010.

[37] المصدر السابق، ص: 126.

[38] J. Roos, l’adjoint au commissaire, Territoire civil de la Mauritanie (Rapport d’ensemble), p: 54. Saint-Luis, Imprimerie du gouvernement, 1908.

[39] (فرانسيس دو شاسّي Francis de chassey)، موريتانيا من سنة 1900 إلى 1975، ص: 130، ترجمة محمد ولد بوعليبة، دار جسور للنشر.

[40] أحد العلماء الشناقطة الذين اشتهروا في الغرب الإفريقي تحدث عنه بول مارتي في روايته لأخبار العلماء الشناقطة.

[41] Maul Marty, L’islam au Sénégal, p: 46, T1.

[42] أحد العلماء الشناقطة الذين اشتهروا في الغرب الإفريقي.

[43] ثائق الوطنية ملف  E2/44، النحوي ص: 343.

[44] تلقي تعاليم الدين الإسلامي على يد العلماء الشناقطة.

[45] النحوي 343.

[46] السن الأنسب لتدريس اللغات الأجنبية خالد بن عبد العزيز الدامغ ص: 40 ـ 44. ط:1، 2011، الوطن للنشر، السعودية الرياض.

[47] المدارس العالمية الأجنبية الاستعمارية. ص: 37. بكر إبن عبد الله أبو زيد. دار ابن حزم القاهرة، ط1، 2006.

[48] (فرانسيس دو شاسّي Francis de chassey)، موريتانيا من سنة 1900 إلى 1975، ص: 130، سابق.

[49] الشيخ الإمام الأصولي الفقيه أبو علي حسين بن علي بن طلحة الرجراجي الوصيلي الشوشاوي نسبة إلى إقليم شيشاوة المغربي.

[50] هذه الترجمة اقترحناها لتناسب مقولة ديغول.  

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف