البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

August / 5 / 2020  |  1382جدل العلاقة بين الذهن والعين نقد العلامة مطهري لأطروحات هيوم

إعداد: علي دجاكام المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية شتاء 2020 م / 1441 هـ
جدل العلاقة بين الذهن والعين نقد العلامة مطهري لأطروحات هيوم

يتَّهم بعض العلماء الغربيِّين ديفيد هيوم بأنَّه أنكر وجود الله، وأنَّ ذلك كان السبب الأساسيَّ في رواج الفكر المادِّي في العصر الحديث ولا سيَّما في العالم الغربيّْ.

هيوم، كما ورد في النقد الذي قدَّمه العلَّامة مرتضى مطهَّري لأطروحاته، لم يكتفِ بإنكار وجود الجوهر النفسانيِّ المستقلّْ، بل أنكر أيضاً وجود الجوهر المادِّي الخارجيِّ، إذ ادَّعى أنَّنا نستنتج من الإحساس والتجربة وجود سلسلةٍ من الأمور المسمَّاة بالأعراض والحالات، أمَّا وجود الجوهر الجسميِّ الذي هو منشأ حالات الضمير والوجدان، فلا تؤيِّده التجربة، ولا يشهد له الحسّْ.

في المقابل، لا يتبنَّى هيوم فكراً مادِّيَّاً بحتاً، فقد انتقد المادِّيين والَّلاهوتيِّين على حدٍّ سواء، لذلك بذل قصارى جهوده لإثبات أنَّ البراهين التي أقامها علماء الَّلاهوت ضعيفةٌ ولا تفي بالغرض، وأما الإيمان فهو أمرٌ نفسانيٌّ محض...

المحرِّر


يعتقد معظم الناس، بمن فيهم أصحاب النزعة المادِّية، بوجود ارتباطٍ مباشرٍ بين الذِّهن والعالم الخارجي، وهذه الوجهة المعرفيَّة تندرج في ضمن مباحث المعقولات الأولى الفلسفيَّة، والثانية - الفلسفيَّة والمنطقيَّة - لذا يقولون إنَّ جميع المعلومات المتحصِّلة في إذهاننا حول العالم المحيط بنا، إنَّما هي من العلم الحصوليِّ الذي يظفر فيه الذِّهن بالمفاهيم والصور الذِّهنيَّة من دون واسطةٍ، ولهذه المفاهيم خصوصيَّةٌ من حيث كونها مرآةً للخارج، إذ يتخيَّل الإنسان للوهلة الأولى أنَّه قد أدرك ما حوله من حقائق مباشرة، ثمَّ يقول في المرحلة الثانية إنَّ هذه المفاهيم التي أتصوَّرها عن الأرض والسماء مثلاً، لها وجودٌ في الخارج، وفي المرحلة الثالثة يقول إنَّ منشأ ظهور التصوُّرات الذِّهنيَّة هو التأثيرات الخارجيَّة.

إنَّ الرؤية الديالكتيكيَّة تَعدُّ الإنسان مجرَّد معلولٍ لمصالحه الماديَّة والاقتصاديَّة، وهذه المصالح هي التي تفرض عليه تطوير وسائل الانتاج، وعليه فكلُّ ما لديه من مشاعر ورغبات وأحكام وقدرات، ليست في الواقع سوى انعكاسٍ للظروف البيئيَّة والطبيعيَّة والاجتماعيَّة التي يعيش في كنفها،لأنَّه مجرَّد مرآةٍ تعكس ما يحيط به، وهو في واقع الحال لا يقدر على القيام بأيَّة حركةٍ مخالفةٍ للأوضاع المحيطة به.

أمَّا بالنسبة إلى المعقولات الثانية، فنجدُ بعض الفلاسفة من أمثال كانط، قد جرَّدوها بالكامل عن المعقولات الأولى، وهذا الأمر أيضاً غير صائبٍ حالُه حال عدِّ المفاهيم الذهنيِّة بأنَّها صورٌ مباشرةٌ للأشياء؛ وفي هذه الحالة لا يبقى علمٌ ولا معرفة.

ومن المفيد القول أنَّ الذِّهن لو أراد القيام بنشاطٍ علميٍّ ومعرفيٍّ، فلا بدَّ له عندئذٍ من انتزاع صور الأشياء  وفق ضوابط ومعايير خاصَّة، وهذا يعني أنَّ هذه الانتزاعات هي تصوُّرٌ غير مباشرٍ لما هو موجود في الخارج؛ أي أَّنها صورٌ ذهنيَّةٌ منتزعَةٌ للصور الخارجيَّة. الصور الأوَّلية حينما تدخل في الذِّهن البشريِّ ينتزع منها معاني أخرى تنطبق بشكلٍ غير مباشرٍ على النوع الموجود في الخارج، لذا لا يمكن أن يكون علمنا بها جهلاً.

في هذا السياق، يعتقد معظم الناس بأنَّ كلَّ ما يتصوُّره الذهن لا بدَّ من أن يكون هناك وجودٌ مباشرٌ بإزائه، ويقولون إنَّ هذا الشيء حتَّى وإن لم يكن موجوداً في عالم الأعيان، لكنَّه في الحقيقة شيءٌ وليس تخيُّلاً عبثيَّاً لا واقع له. إحدى الشبهات التي طرحوها هي: هناك عدد من القضايا التي تكون مواضيعها عدميَّة - أي ليس لها

مصداقٌ خارجيٌّ - إذ نُخبر عنها، مثلاً يُقال: (في يوم الجمعة المقبل سيحدث كذا)، ومن الطبيعيِّ أن  الحادث (كذا) يُعدُّ معدوماً اليوم، لكنَّنا على أيِّ حالٍ قد أخبرنا عنه، وهذا الإخبار يدلُّ على أنَّ هذا العدم (كذا) هو شيءٌ وليس لا شيء، إذ ليس من الممكن الإخبار عن لا شيء. ويضيفون إنَّ الَّلاشيء المطلَق لا يصلح لأن يُخبَر عنه.

على هذا الأساس، رفض هؤلاء قاعدة (المعدوم لا يُخبَر عنه)، وقالوا إنَّ الصحيح هو أن تكون القاعدة كما يأتي: (الَّلاشيء المطلَق لا يُخبَر عنه). وخلاصة كلامهم أنَّ المعدومات التي نخبر عنها لها شيئيَّة حتَّى وإن كانت غير موجودة.

كذا هو الحال بالنسبة إلى سائر الشُّبهات التي طرحوها، إذ نستشفُّ منها أنَّهم لم يدركوا حقيقة القضايا المرتبطة بالاعتبارات الذِّهنيَّة ولم يتمكَّنوا من التمييز بين الأمور الانتزاعيَّة وغير الانتزاعيَّة بشكلٍ صائبٍ  مُتصوَّرين أنَّ كلَّ مفهومٍ يكتنف الذِّهن يجب أن يكون من سنخ المعقولات الأولى، ولا بدَّ من وجود ما بإزائه في الخارج، أي أنَّهم يَعدُّون الذِّهن كالمرآة التي تعكس صورة الشيء الموجود في الخارج[2].

- الاستنباط (حركة الذِّهن الباطنيَّة):

كما أنَّ الذِّهن قادرٌ على صياغة النظريَّات وإعمامها، كذلك فالنشاطات التي يقوم بها على صعيد التصديق لا تقتصر على عمليَّة التنظير هذه، لذا فإنَّ معارف الإنسان ليست محدودةً بصياغةٍ نظريَّةٍ تمَّ تعميمها فحسب. وللذِّهن وظيفةٌ أخرى تتمثَّل في عمليَّةٍ عقليَّةٍ يُطلَق عليها (استنباط)، وهذا الاصطلاح ينطبق إلى حدٍّ ما مع أُطروحة الفيلسوف الغربيِّ برتراند راسل الذي عدَّ النشاط الذِّهنيَّ في هذه الحالة نمطاً من أنماط الحركة الباطنيَّة.

جدير بالذكر أنَّنا حينما نحلِّل معلوماتنا ومعارفنا بشكلٍ صائبٍ نجد كثيراً منها معقولاتٍ أوَّليةً انطبعت في أذهاننا من دون واسطةٍ، لكن لو تأمَّلناها جيَّداً لوجدناها عبارةً عن سلسلة استنباطاتٍ توصَّلنا إليها عبر نشاطاتنا

الذِّهنيَّة[3]. مثلاً، نحن نقبل في بادئ الأمر كون المادَّة من مقوِّمات المعقول الأوَّلي الذي نعلم بوجوده مباشرةً، لكنَّنا إن تعمَّقنا في إدراكنا هذا فسوف لا نجد أيَّ إدراكٍ مباشرٍ للمادَّة في ذهننا؛ فنحن نُدرك لون أحد الأشياء، لكنَّ

هذا الَّلون في الواقع ليس الشيء ذاته،[4] كما ندرك حجمه، إلَّا أنَّ هذا الحجم ليس ذاته؛ إذ من الممكن لهذا الشيء أن يتَّصف بلونٍ وحجمٍ خلافاً لما هو موجود. وكذا هو الحال بالنسبة إلى جميع صفاته المادِّية، كالحرارة والبرودة والنعومة والخشونة والرائحة، وما إلى ذلك من صفاتٍ ملموسةٍ أخرى.

لم يكتفِ ديفيد هيوم بإنكار وجود الجوهر النفسانيِّ المستقلّْ، بل أنكر أيضاً وجود الجوهر المادِّي الخارجيِّ الذي تُعدُّ الأعراض الطبيعيَّة من حالاته، إذ ادَّعى أنَّنا نستنتج من الإحساس والتجربة وجود سلسلةٍ من الأمور المسمَّاة بالأعراض والحالات، أمَّا وجود الجوهر الجسميِّ الذي هو منشأ حالات الضمير والوجدان فلا تؤيِّده التجربة، ولا يشهد له الحسّْ.

هيوم وأتباعه يُعدُّون النفس سلسلةً من التصوُّرات المتعاقبة التي تظهر في الذِّهن، لذلك قال: «لـِمَ يجب عليَّ افتراض وجود جوهرٍ مادِّيٍّ؟!حينما أثق بشعوري، أجد وجود بعض الأعراض لكنَّني لست قادراً على معرفة جوهرٍ يمكن عدُّه مادَّةً لها». إلَّا أنَّ متبنَّياتنا الفكريَّة تفرض علينا عدم موافقته في ذلك، فنحن نؤمن بوجود جواهر الأشياء عن طريق الاستنباط؛ ولكن كيف يتمُّ الاستنباط هنا؟ للإجابة عن هذا السؤال نقول: الاستنباط يبدأ بسلسلةٍ من العلائم والدلالات التي تكتنف ذهن الإنسان وتُعينه على فهم ما لا يمكن إدراكُه بشكلٍ مباشرٍ، وبعد ذلك يقوم الذهن بعمليةٍ دقيقةٍ لاستكشاف حقائق الأمور. إذن، عملية الاستنباط تختلف عن الإعمام، فهي عبارةٌ عن تعمُّقٍ في باطن الذهن لمعرفة حقائق الأُمور التي لا يمكن تحصيلها عن طريق الحسِّ وحده، فالحسُّ مجرَّد علامةٍ تُرشد الذِّهن إلى موضوع الاستنباط بصفته نوراً يهتدي به التائه في البيداء ليلاً.[5]

- قيمة المعرفة الحسِّيَّة:

يعتقد ديفيد هيوم أنَّ الإنسان بإمكانه الاطمئنان لكلِّ ما يدركه الذِّهنُ عن طريق الحواسِّ، فالمعلومات برأيه متحصِّلةٌ من ارتباطه بعالمه الخارجيِّ؛ ومن ثم  فكلُّ ما يكتنفه من مسائل غير محسوسةٍ هي في الحقيقة لا تعدو كونها مجرَّد أوهامٍ تُراوده وتخيُّلاتٍ من صناعته لا غير، لذا فهي عاريةٌ من أيَّة قيمةٍ معرفيَّةٍ.

وقال لو أنَّنا أعَرنا لكلِّ أمرٍ وهميٍّ تتخيَّلُه أنفسنا أهميَّةً، وأضفينا عليه قيمةً، سنقع في محذورٍ لا محالة، وفي نهاية المطاف سوف نصل إلى نفقٍ مظلمٍ لا مخرج منه، ومن ثم لا تبقى أيَّة قيمة لمعارفنا لأنها لا تعيننا على إدراك الحقيقة من بين كلِّ تلك الأوهام الزائفة.

أمَّا اقتراحه لحلِّ هذه المعضلة الفكريَّة، فهو عدم التمييز بين النمطين الَّلذين طرحهما إيمانوئيل كانط، لأنَّهما يتعلَّقان بعالم المادَّة والحواسِّ، في حين أنَّ التصوُّرات متعلِّقةٌ بعالم الذِّهن؛ لذا لا بدَّ من وجود ارتباطٍ بين العلم والمعلوم.

لا ريب في أنَّ الإشكال الذي يُطرح على رأي هيوم هذا، يكمُن في أنَّ الارتباط الذي يدَّعيه غير كافٍ لإثبات المطلوب على وفق متبنَّياته الفكريَّة، فاعتبار أنَّ هذه التصوُّرات على نوعين - منها ما هو موجود في الخارج ومنها من صياغة الذِّهن - يرِدُ عليه أنَّ الذِّهن عاجزٌ عن إبداع شيءٍ من تلقاء نفسه، فما يتصوَّره عبارةٌ عن معقولاتٍ أوَّليةٍ ترتكز عليها المعقولات الثانية؛ وفي هذه الحالة تُحلُّ معضلة المعرفة التي احتار بها هذا الفيلسوف. المعقولات الأولى هي ذات الماهيَّات الموجودة في الخارج، ومن ثمَّ انطبعت في الذِّهن، وقد اتَّصفت بميزاتها الخاصَّة نظراً لأنَّها مكنونةً في وعاء العقل، فهي الأمور الخارجيَّة نفسها لكنَّها تتَّصف بطابعٍ آخر عند حلولها في الذِّهن، ومن ثم  فهي ذات صلةٍ عينيَّةٍ بالعالم المادِّي.

إذن، هناك فرقٌ بين ادِّعاء أنَّ الصورة المحسوسة تلِجُ في الذِّهن من العالم الخارجيِّ فتمتزج مع تلك التصوُّرات التي صاغها الذِّهن من تلقاء نفسه ليركِّب منها أموراً خاصَّةً، وبين عدِّ الذِّهن عاجزاً عن صياغة أيِّ شيءٍ من دون وجود مؤثِّرٍ خارجيٍّ. استناداً إلى أدلَّة الوجود الذِّهنيِّ، فإنَّ ماهيَّات الأشياء بعينها موجودةٌ في الذِّهن، وهناك تكتسب ميزاتٍ معيَّنةً لتصبح (معقولات أولى)، ومن ثمَّ يُطلق عليها (معقولات ثانية)؛ ونتيجة امتزاج هذين الصنفين من المعقولات تنشأ المعرفة لدى الإنسان.

وإذا قلنا إنَّ الذِّهن لا يصوغ أيَّ أمرٍ من تلقاء نفسه، بل إنَّ المعقولات الأولى هي السبب في وجود المعقولات الثانية، فإنَّ مشكلة هيوم المعرفيَّة سوف تُحلُّ أيضاً.

ينبغي القول أنَّ القوَّة المدركة للإِنسان تقوم بنشاطٍ انتزاعيٍّ، وهو الذي يوجد في الذهن البديهيَّات الأَوَّليَّة في المنطق وأغلب المفاهيم العامَّة للفلسفة، وهذه العموميَّة ناشئةٌ من كونها أشمل التصوُّرات التي تنطبع في الذِّهن بحيث لا يمكن أن يوجد ما هو أعمُّ منها،كتصوُّر الوجود والعدم والوحدة والكثرة والوجوب والإِمكان، وما إلى ذلك. هذه المفاهيم العامَّة من حيث الظهور في الذِّهن، تعتبر متأخِّرةً عن المفاهيم الخاصَّة، ولاسيَّما أنَّها متأخِّرةٌ عن المحسوسات الخارجيَّة، وهي من هذه الجهة تكون في الدرجة الثانية – معقولات ثانية –ولكنَّها من الناحية المنطقية تكون بديهيةً أوّليةً،أي إنّها في الدرجة الثانية من الناحية الفلسفية والنفسية، وفي الدرجة الأُولى من الناحية المنطقيَّة.

ونلفت هنا إلى أنَّ هيوم في نظريَّته الطبيعة البشرية ينظر إلى الإنسان من حيث الانفعال لا العقل، ولا يطلق على المدركات العقليَّة مصطلح (أفكار) كما فعل لوك، بل يُطلق عليها (إدراكات)، ويقسِّمها إلى نوعين، انطباعات وأفكار. وهو يميِّز بين المواضيع التي تنطبع في الذِّهن على أساس تمييزه بين الإحساس والخبرة من جهةٍ، والتفكير والاستدلال من جهةٍ أخرى، فبرأيه، كي يتمكَّن العقل من التفكير والاستدلال، يجب أن تتوفَّر له في بادئ انطباعاتٍ تنشأ من الشعور والإدراك الحسِّيّْ.

وهو يميِّز بين الانطباعات والأفكار على النحو الآتي: الفرق بينهما يتمثَّل في درجة القوَّة والفاعليَّة التي تؤثِّر على العقل، وتدخل عن طريقها في التفكير والوعي، فتلك الإدراكات التي تترسَّخ في الذِّهن يمكن أن نسمِّيها انطباعات، ومن خلالها يمتلك الإنسان كلَّ أحاسيسه وانفعالاته وعواطفه بصورتها التي تتجلَّى في نفسه لأوَّل مرَّةٍ؛ وقد وصف هذه الأفكار بأنَّها صور خافتة.

ويضيف هيوم إلى نظريَّته حول العلاقة بين الانطباعات والأفكار توضيحاً هامَّاً جاء فيه:»بما أنَّ الأفكار تُعتبر صوراً للانطباعات، لذا يمكننا أن نكوِّن أفكاراً ثانويَّةً تكون صوراً للأفكار الأوَّليَّة، فالَّلون الأحمر الذي أُفكِّر فيه هو صورةٌ ذهنيَّةٌ لإدراكي الحسِّيِّ لهذا الَّلون، وهذه الصورة الذهنيَّة هي فكرةٌ أوَّليَّةٌ تؤدِّي إلى تكوين فكرةٍ ثانويَّةٍ تصبح في ما بعد صورةً ذهنيَّةً من مستوىً ثانٍ أكثر تجرُّداً عن فكرة الَّلون ذاتها».

وغنيٌّ عن القول أنَّه يذهب إلى اعتبار هذا التمييز بين الفكرة الأوَّلية والفكرة الثانويَّة ليس استثناءً من نظريَّته حول أرجحيَّة الانطباعات على الأفكار، بل هو تأكيدٌ لها، ذلك لأنَّه يثبت إمكانيَّة أن تقوم الفكرة الأوَّليَّة بدور انطباعٍ من مستوىً ثانٍ يؤدِّي إلى ظهور فكرةٍ ثانويَّةٍ. ومعنى هذا أنَّ ما يسمِّيه بالانطباع ينطبق على ما تستقبله الحواسُّ من إدراكاتٍ، وأيضاً على ما يستقبله العقل من أفكارٍ أوَّليةٍ.

ومن جملة اعتراضات هذا الفيلسوف هو تساؤله عن السبب الذي يدعوه للاعتماد على أمرٍ لا يدركه بحواسِّه، إذ قال: «يمكنني أن أثق بحواسِّي لأنَّني لم أخترعها، فقد أدركت بواسطتها شيئاً ثمَّ ارتسمت صورته في مخيّلتي، فيدي عندما تلمس شيئاً ساخناً لا تشعر بالبرودة بتاتاً؛ لذلك أصدِّق شعور يدي الحقيقيِّ ولا أقبل بشيءٍ آخر سواه».

يمكن القول أنَّ كلام هيوم هذا صحيحٌ بنسبة خمسين في المائة، فالجانب الباطل منه هو عدم قبوله لأيِّ شيءٍ آخر خارجٍ عن حواسِّه المادِّيَّة؛ فيا ترى هل أنَّ العلم المادِّيَّ يُثري الذِّهن البشريَّ عن كلِّ تلك العلوم والمعارف الغيبيَّة والماورائيَّة التي لا حدَّ لها ولا حصر؟ وهل أنَّ المعرفة الحقَّة تتحصَّل لدى الإنسان من طريق هذه النافذة المادِّية الضيِّقة؟ ونحن بدورنا نطرح عليه السؤال الآتي: بالنسبة إلى العلوم والمعارف التي تمتلكها وتقرُّ بحتميَّتها وصوابها، وتستدلُّ بها وتناقش الآخرين وتناظرهم على أساسها، هل تستطيع أن تجزم بأنَّك حصلت عليها من هذه النافذة المادِّية ومن حواسِّك الملموسة فحسب؟! إنَّ الذي يُنكر المعارف والحقائق الماورائيَّة لا بدَّ له من أن يُنكر كلَّ حقيقةٍ ثابتةٍ وأصلٍ معتبر وعلَّةٍ قطعيَّة[6].

- برهان النَّظم:

يُعدُّ برهان النَّظم أبسط البراهين التي استُدِلَّ بها لإثبات وجود الله سبحانه وتعالى، لذا فهو أكثرها شيوعاً بين العلماء، اذ استدلَّ به القرآن الكريم عادَّاً الكائنات ونظامها الدقيق الذي يحكمها آياتٍ - علائم - على وجود البارئ جلَّ شأنه.

فحوى هذا البرهان أنَّ النَّظم الموجود في الكون دليلٌ على وجود ناظمٍ له، وقيل بأنَّه يختلف عن سائر البراهين التي طُرحت على هذا الصعيد بما فيها براهين المحرِّك الأوَّل، والوجوب والإمكان، والحدوث والقِدم، والصِّدِّيقين. هذه البراهين تطغى عليها صبغةٌ فلسفيَّةٌ كلاميَّةٌ، أي أَّنها ترتكز على قواعد عقلانيَّة محضة، في حين أنَّ برهان النَّظم يُعدُّ من سنخ البراهين الطبيعيَّة والتجريبيَّة التي تُناظر إلى حدٍّ ما تلك البراهين التي استدلَّ بها التجريبيُّون.

ديفيد هيوم هو أحد الفلاسفة الغربيِّين الذين قدحوا بهذا البرهان الذي يُعدُّ أهمَّ قاعدةٍ يستند إليها أصحاب النزعة الَّلاهوتيَّة لإثبات وجود الله تعالى، ومنذ تلك الآونة زعم بعض العلماء الغربيِّين أنَّه باطلٌ ولا يمكن الاعتماد عليه لإثبات المطلوب الأمر الذي رسَّخ النزعة المادِّية بين الشعوب الغربيَّة، ويمكن القول إنَّ إنكاره هو السبب الأساسيُّ في رواج الفكر المادِّي في العصر الحديث ولا سيَّما في العالم الغربيّْ.

ولقد دوَّن هذا الفيلسوف كُتباً عدَّة، من بينها كتابه الشهير الذي طُبع بعد وفاته (محاورات في الدين الطبيعيِّ) الذي ذكر شبهاته فيه، إذ ساق هذه الشُّبهات على لسان شخصين افتراضيَّين، أحدهما (كلينثس) وهوالذي يدافع عن برهان النَّظم، في مقابل(فيلون) الذي يشكِّك به ويبدي اعتراضاتٍ وشبهاتٍ حوله؛ وعلى هذا الأساس طرح نقاشاً على لسان هاتين الشخصيَّتين.

تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ هيوم لا يتبنَّى فكراً مادِّيَّاً بحتاً، فقد انتقد المادِّيين والَّلاهوتيِّين على حدٍّ سواء، لذلك بذل قصارى جهوده لإثبات أنَّ البراهين التي أقامها علماء الَّلاهوت ضعيفةٌ ولا تفي بالغرض، لأنه يرى الإيمان أمراً نفسانيَّاً. وإذا اعتبرنا برهان النَّظم معياراً عقليَّاً يرِدُ على هذا الاعتقاد أنَّ النَّظم المشهود في الطبيعة إن لم يكن دليلاً كافياً، فهو على أقلِّ تقديرٍ قرينةٌ على وجود علَّةٍ أو عللٍ لنَظم الكون شبيهةٌ بالعقل الإنسانيّْ؛ لذا ليست لدينا وسيلة سوى العقل كركيزةٍ نستند إليها بغية إثبات خصائص هذه العلَّة أو العلل.

يُشار أيضاً إلى أنَّ هيوم قد تبنَّى فلسفة الشكِّ والَّلاأدرية، وسعى بكلِّ ما لديه من قوّةٍ كي يقدح ببرهان النَّظم ويثبت عدم نجاعته في إثبات المدَّعى، فقد قيل إنَّه أفنى حياته في دراسة وتحليل الأدلَّة التي يُعتمد عليها لإثبات وجود

الله عزَّ وجلّْ، لذا نجده انتقد الأدلَّة والبراهين التي استشهد بها علماء الَّلاهوت والفلاسفة، وحاول تفنيدها بشتَّى الوسائل؛ ولربَّما يكون السبب في ذلك رواج برهان النَّظم في تلك الآونة، اذ سخَّر خمسة وعشرين عاماً من حياته تقريباً في هذا الصدد، وكانت ثمرة ذلك كتابه الشهير (محاورات في الدين الطبيعيّْ)[7].

ويُلخِّص هذا الفيلسوف اعتراضه كما يأتي: برهان النَّظم متقوِّمٌ على كون جميع المصنوعات البشريَّة المنتظِمة لاتخلو من صانعٍ ماهرٍ، فالبيت لا يُشيَّد بلا بنَّاء، والسفينة لا تتحرَّك بلا ربَّان؛ لذا، لابدَّ للكون المنتظم من صانعٍ -خالق - نظراً لشبهه بالمصنوعات البشريَّة، وقد انتقد هذا الاستدلال بداعي أَنّه مستندٌ إلى التَّشابه بين الكائنات الطبيعيَّة والمصنوعات البشريَّة، وبطبيعة الحال، فإنَّ هذا التشابه بمجرَّده لايكفي لتسْريِة حكم أَحدهما إلى الآخر بسبب اختلافهما،إذ إِنَّ مصنوعات البشر ذات منشأ صناعيٍّ، في حين أنَّ الكون ذو منشأ طبيّْ، لذا فهما صنفان من سنخين متباينين، فكيف يمكن أَن نثبت لأحدهما حكم الآخر؟ صحيحٌ أنَّنا جرَّبنا مصنوعات البشر فتيقَّنَّا من أنَّها لاتوجد إِلَّا بصنع صانعٍ عاقلٍ، لكننا لم نجرِّب ذلك في الكون، فالكون لم يتكرَّر وجوده حتَّى نقف على كيفيَّة خلقه وإِيجاده، بل واجهناه مرَّةً واحدةً؛ وبهذا لا يمكن أن تثبت لنا العلَّة الموجِدة له  على غرار مصنوعات البشر إِلَّا إِذا جرَّبناه قبل ذلك عشرات المرَّات وشهدنا عمليَّة الخلق والتكوين، كماشاهدنا ذلك وجرَّبناه في المصنوعات البشريَّة؛ فهذه هي الطريقة الوحيدة التي نتمكَّن على أساسها من استنتاج أنَّ الكون ومافيه من نظمٍ لا يمكن أَن يوجد من دون خالقٍ عليمٍ وصانعٍ خبيرٍ.

الاشكال المذكور في الحقيقة ينمّ عن فهمٍ ساذجٍ وسطحيٍّ لبرهان النَّظم، ويدلّ على فقدان الغرب لمدرسةٍ فلسفيةٍ متكاملةٍ تدرك حقيقة هذا البرهان بصورته الصحيحة، إذ لا صلة له بتاتاً بالتشابه والتمثيل والتجربة، وإِنما هو برهانٌ استدلاليٌّ تامٌّ يحكم العقل بصحَّته بعد ملاحظة طبيعة النظام، إذ يدرك عندئذٍ أنَّه قد وجد بفعل فاعلٍ عاقلٍ هو خالقٌ قديرٌ.

- برهان النَّظم من وجهة نظر كلينثس:

لقد طرح هيوم برهان النَّظم على لسان كلينثس كما يأتي: لنُلقِ نظرةً على العالم في جميع مكوِّناته وأجزائه بصغيرها وكبيرها، سنجده عبارةً عن آلةٍ عظيمةٍ مكوَّنةٍ من اجتماع عددٍ غير مُتناهٍ من الآلات الصغيرة، وكلُّ واحدةٍ

من هذه الآلات هي الأخرى مكوَّنةٌ من أجزاء أدقَّ وأصغر، وهلمَّ جرَّاً حتَّى نصل إلى مرحلةٍ يعجز فيها العقل عن إدراك أجزائها.

هذه الآلات المتنوِّعة وأجزاؤها الظريفة قد حُبكت بدقَّةٍ فائقةٍ بحيث تعمل باتِّزانٍ وتناسقٍ مذهلٍ يثير دهشة كلِّ إنسانٍ، لذا لا نجد بدَّاً حينئذٍ من التأمُّل فيها والإمعان بدقَّتها. الطبيعة بكلِّ ما فيها من كائناتٍ وجماداتٍ متَّسقةٌ اتِّساقاً عجيباً في ما بينها ومع غاياتها، وهي شبيهةٌ إلى حدِّ كبيرٍ بتلك الاختراعات والصناعات البشريَّة المتقَنة وكأنَّ هناك ذهناً فكَّر في إيجادها، وهذه الحالة تنطبق على تفكير الإنسان في صناعة متطلّبات حياته.

إذن، الشبه بين الطبيعة المنظومة في جميع أجزائها وبين المصنوعات المرتَّبة التي أبدعتها يد الإنسان، يفسح المجال لنا للمقارنة بين مختلف العلل التي أوجدت الأشياء الطبيعيَّة والصناعيَّة، وعلى هذا الأساس بإمكاننا تشبيه صانع الطبيعة بالروح الإنسانيَّة الخلَّاقة رغم وجود بَوْنٍ شاسعٍ بين النَّظم الطبيعي المذهل والصناعة البشريَّة. فهذا البرهان غير التجريبيِّ يثبت لنا وجود الله من دون ترديدٍ، إذ نثبت أنَّه موجودٌ من خلال تشبيه وجوده بوجود الروح والعقل لدى الإنسان[8].

- برهان النَّظم من وجهة نظر فيلون:

طرح هيوم برهان النَّظم على لسان فيلون كما يأتي: عندما نشاهد بيتاً سوف نجزم بالقطع واليقين بأنَّه بُني بواسطة بنَّاءٍ، فهو معلولٌ لعمليَّة البناء التي جرَّبناها في حياتنا، ولكن ليس لدينا يقينٌ بكون العالم يشبه هذا البيت، لذا لا يمكننا الاستدلال على وجود علَّةٍ له نظير العلَّة التي أوجدت البيت؛ وهذا الاختلاف في الاستنتاج يتَّضح لنا بشكلٍ جليٍّ حينما ندرك أنَّنا نستند في تصوُّرنا هذا إلى الظنِّ والتخمين فحسب.

ربَّما يكون للمادَّة نظمٌ إلى جانب الروح الموجودة فيها، فتصوُّر وجود عددٍ من العناصر المنتظمة مع بعضها البعض بتأثير علَّةٍ باطنيَّةٍ مجهولةٍ، ليس أكثر تعقيداً من تصوُّر صورٍ منتظمةٍ في روحٍ عالميَّةٍ كبرى ترتَّبت مع بعضها البعض بواسطة علَّةٍ باطنيَّةٍ مجهولةٍ. إذن، هل من الممكن ادِّعاء أنَّ العالم المنتظم لا بدَّ من أن يكون ناشئاً من صنع صانعٍ، فنحن لم نجرِّب هذا الأمر في الكون إلَّا مرّةً واحدةً؛ فإذا أردنا إثبات المدَّعى فلا بدَّ من أن نعتمد على

تجربةٍ نتعرَّف من خلالها على مبدأ العالم. بناءً على ما ذُكِر، لا يمكن لأحد ادِّعاء أنَّ المدن المنتظمة والمباني المشيَّدة على الأرض والسفن الجارية في البحار والتي هي من صنع البشر، تشابه صياغة الكون وما فيه من نظمٍ محبوكٍ؛ فهل رأى أحدٌ ذلك كما نرى الأشياء على الأرض؟ فيا أيُّها الإنسان، هل شاهدت تكوين العالم بأُمِّ عينيك؟! وهل أنَّ عمرك طويلٌ بحيث تمكَّنت من خلاله معرفة جميع التطوُّرات والأحداث والظواهر الكونيَّة التي طرأت على العالم وأدَّت إلى نظمه؟! قطعاً أنت لا تملك دليلاً على ذلك، فأنت غير قادرٍ على وصف الله بصفة الكمال وأنت عاجزٌ عن تنزيهه من الوقوع في الخطأ والاشتباه وعدم الانتظام في أفعاله. على أقلِّ تقديرٍ يجب عليك الإقرار بأنَّ ذهنك محدودٌ ولست قادراً على إصدار حكمٍ بكون هذا النظام الشامل فيه خللٌ أو لا، فهل يتمكَّن قرويٌّ أُميٌّ من شرح وتحليل أشعارٍ كنائيَّةٍ عميقة المعنى ويبدي رأيه فيها لدرجة أنَّها تكون عاريةً من كلِّ عيبٍ ونقصٍ؟!

حتّى وإن كان هذا العالم ذا نظمٍ متكاملٍ عارٍ من أيِّ نقصٍ وخللٍ، فهو مع ذلك مجهولٌ وخفيٌّ علينا، ومن ثم  لا يوجد لدينا مسوِّغٌ يحتِّم علينا نسبة تكامله هذا إلى صانعه، فلو تأمَّلنا في صناعة سفينةٍ بحريَّةٍ سوف نتعجَّب من حذاقة صانعها ومهارته، ولكنَّنا لو أُخبرنا أنَّ هذا الصانع هو أحمقٌ لم يبتدع شيئاً من نفسه وإنَّما قلَّد الآخرين الذين أفنوا حياتهم في وضع أُسُسها وحبكة تقنيَّتها؛ فهل عندئذٍ سيبقى شعورك تجاهه على حاله من من دون أن يطرأ عليه تغيير؟! إذن، ربَّما يكون هذا العالم المنظوم مسبوقاً بعوالم أخرى كثيرة تطوَّرت شيئاً فشيئاً لتصل إلى هذه الدرجة من النَّظم والترتيب طوال عصورٍ متمادية. فيا ترى من ذا الذي بإمكانه الحكم على حقيقة هذه الأمور بحيث تكون له القدرة على تشخيص الفرضيَّة الصحيحة من السقيمة؟!

نحن لا نمتلك أيَّ علمٍ في هذا المضمار، ولسنا مخوَّلين بأن ندلو بدلونا هنا لأنَّنا لا نعرف مبدأ العالم، وتجاربنا ضئيلةٌ وضيِّقة النطاق هنا بحيث لا يمكننا الجزم بأيَّة فرضيَّةٍ مطروحةٍ؛ ومع ذلك لا بدَّ من طرح فرضيَّةٍ هنا، لكن على وفق أيِّ قاعدةٍ؟ أَهناك قاعدةٌ أخرى غير تلك التي اعتدنا عليها في المقارنة بين الأشياء لنتعرَّف على أوجه التشابه والاختلاف في ما بينها؟ فهل عقلنا له القابليَّة على معرفة علَّة تكاثُر الحيوان أو تنامي النبات بطريقةٍ أخرى من غير مقارنة ذلك مع الآلة الإنتاجيَّة الميكانيكيَّة؟

من الجدير القول أنَّ الاستدلال التمثيليَّ الذي يعتمد عليه برهان النَّظم يستند إلى افتراض وجود ناظمٍ للكون، لكن حتَّى وإن تمَّ إثبات وجود هذا الناظم وفق هذا البرهان فليس من الممكن إثبات صفاته الحميدة على هذا

الأساس، فتصوُّر وجود إلهٍ رؤوفٍ عادلٍ لا يمكن بتاتاً إثبات صحَّته عن طريق مقارنة آثاره الموجودة في الكون مع أعمال الإنسان. إذن، حتَّى وإن افترضنا أنَّ ذلك الناظم يشبه الإنسان، فما هو الدليل على إثبات صفاته الحميدة؟ فالخالقيَّة شيءٌ والـحُسن شيءٌ آخر؛ ولو أخذنا بعين الاعتبار تلك الكوارث الطبيعيَّة المدمِّرة كالعواصف والبراكين والزلازل وما شاكلها، فهل يمكن ادِّعاء أنَّها من صنع عقلٍ سليمٍ أو شيءٍ يتَّصف بصفاتٍ حميدةٍ فضيلةٍ؟![9]

- خلاصة آراء هيوم حول برهان النَّظم:

يمكن تلخيص آراء الفيلسوف ديفيد هيوم حول برهان النَّظم في النقاط الآتية:

1) برهان النَّظم لا يٌعدُّ برهاناً عقليَّاً محضاً ولا يتقوَّم على البديهيَّات الأوَّلية، فهو برهانٌ تجريبيٌّ تمخَّض عن التجربة الطبيعيَّة، لذا لا بدَّ من أن تتوفَّر فيه الشروط الواجب توفُّرها في البراهين التجريبيَّة.

2) المدَّعى في هذا البرهان هو تشبيه النَّظم الموجود في الكون بالنَّظم الذي يصنعه العقل الإنسانيِّ، فالطبيعة المحبوكة والمتناسقة في مختلف جوانبها تشابه البناء المنتظم الذي يشيِّده الإنسان أو السفينة المتقَنة الصنع والتي تجوب عباب البحار؛ فهذه المصنوعات الناشئة من الفكر والتعقُّل تدلُّ على وجود إنسانٍ صنعها، وكذا هو الحال بالنسبة إلى الكون، فنظمُه ليس اعتباطاً ولا بدَّ من وجود صانعٍ أبدعه.

3) هناك قاعدةٌ عامَّةٌ يُعتمد عليها في البراهين التجريبيَّة فحواها أنَّ أوجُه الشبه بين المعلولات تدلُّ على تشابه العلل الموجِدة لها، ونتيجة هذا الكلام أنَّ المصنوعات البشريَّة المتقَنة تدلُّ على وجود عقلٍ إنسانيٍّ مدبِّرٍ أوجدها، لذا يمكن عدُّها مماثلةً للطبيعة المتقَنة التي يجب أن تكون من صنع صانعٍ مدبِّرٍ.

أمّا النقد الذي طرحه على أوجه الاستدلال في برهان النَّظم، فيمكن بيانه في النقاط الآتية:

 1) لا يوجد تشابهٌ بين المصنوعات البشريَّة والآثار الطبيعيَّة، لذلك لا مجال لادِّعاء أنَّ هذه الآثار قد وجُدت على أساس تفكيرٍ مسبقٍ، ومن ثم  لا يمكن تشبيه العالم ببناءٍ متَّسقٍ أو آلةٍ متكاملة الأجزاء وزعم أنَّه خُلق بتدبير مدبِّرٍ بغية تحقيق هدفٍ معيَّنٍ؛ فأوجُه الشبه هذه ليست تامَّةً ولا تفيد الجزم واليقين، بل هي مجرَّد حدسٍ وتخمين.

2) نحن عن طريق التجربة، أدركنا أنّ الإنجازات البشرية قد تحقّقت نتيجةً للإرادة والعلم، لكنّنا لم نجرّب ذلك على الآثار الطبيعية حتّى نعلم كيف نشأت. فالإنسان منذ خلقته شاهد كثيراً من الإنجازات البشرية المتقنة والصناعات المحبكة على وفق نظمٍ وترتيبٍ وفي مسيرةٍ دامت طويلاً حتّى انتهت إلى ما هي عليه من روعةٍ وإتقانٍ، إلا أنّ تجربته هذه محدودةٌ في نطاق صناعاته وإبداعاته فحسب لأنه لم يجرّب عوالم أخرى غير هذا العالم لكي يستنتج من صنعها أنّ عالمنا أيضاً مصنوعٌ من قبل صانعٍ مدبّرٍ، كما لم يشهد مسيرة النَّظم الموجودة في هذا العالم ولا يدري متى وكيف بدأت؛ لذلك لا يمكنه تشبيه النَّظم الطبيعي بالنَّظم المتحقّق في تشييد المبنى أو السفينة والذي تكامل على مرِّ العصور.

3) الهدف من هذا البرهان هو إثبات وجود إلهٍ ذي حكمةٍ بالغةٍ وقدرةٍ لا متناهيةٍ وكمالٍ مطلقٍ، لكنَّنا حتَّى لو افترضنا أنَّ مبدع الكون وخالقه هو مدبِّرٌ له إرادةٌ وعقلٌ على غرار ما لدى الإنسان من قدراتٍ إدراكيَّةٍ؛ فهذا الادِّعاء لا يكفي لإثبات الصفات الفريدة التي نُسبت إليه من حكمةٍ وقدرةٍ وكمالٍ. وحتّى لو قلنا إنَّ هذا البرهان يثبت وجود الناظم، فلا يمكننا الاستناد إلى تجاربنا الطبيعيَّة وزعم أنَّ عالمنا هو أكمل العوالم وناشئٌ من حكمةٍ ودرايةٍ، فنحن لم نلمس سوى هذا العالم، ولا علم لنا بما سواه من عوالم أخرى، لذا ليس هناك وجهٌ للمقارنة بينها. ويمكن تشبيه هذا الأمر بإنسانٍ أُمّيٍّ لم يطالع في حياته أكثر من كتابٍ أدبيٍّ واحدٍ هو الأروع بين جميع المصادر الأدبيَّة، ثمّ نطلب منه أن يثبت لنا أنَّ هذا الكتاب هو أفضل الكتب المدوَّنة في الأدب.

4) لنفترض أنَّ هذا العالم هو أفضل العوالم بحيث لا يوجد عالمٌ آخر أفضل منه، فهذه الأفضليَّة بطبيعة الحال ليست دليلاً على وجود الصانع الذي هو واجب الوجود ويتَّصف بالكمال المطلَق والغنى بالذات؛ كما أنَّه لا يثبت لنا أنَّ هذا العالم أفضل العوالم، فكيف يمكن افتراض ذلك وهو أوَّل عالمٍ خلقه الخالق من دون تجربةٍ مسبقةٍ ولم يقلِّد في صنعه أحداً؟! فما الذي يثبت لنا أنَّ الصانع قد صنع هذا العالم من دون أن يقلِّد غيره؟ وما الذي يثبت لنا أنَّه حبَكَهُ وصاغَهُ منذ بدايته وفق نظمٍ وترتيبٍ؟ أَلا يمكن القول أنَّ نظمَه قد حدث إثر تكرار التجربة والصنع؟

5) هناك نواقص ومساوئ كثيرة موجودةٌ في هذا العالم، وهذا يتعارض تماماً مع ادِّعاء وجود ناظمٍ حكيمٍ، إذ قال: «في العالم شرٌّ، ولذا لا يمكن بواسطة برهان النَّظم أن ننسب الصفات الأخلاقيَّة إلى الناظم الإلهيّْ»، فكيف نبرِّر الكوارث الطبيعيَّة من أعاصير وزلازل وأمراض مسرية، وغيرها من شرور تؤرِّق البشريَّة جمعاء؟!

- نقد آراء هيوم

ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الانتقادات والآراء التي طرحها ديفيد هيوم ليس من شأنها تفنيد دلالة برهان النَّظم، وفي ما يأتي نثبت سقمها وهشاشتها:  

لقد تصوَّر هيوم أنَّ برهان النَّظم من سنخ البراهين التجريبيَّة، وهذا التصوُّر خاطئٌ لأنَّنا نعتمد على البراهين التجريبيَّة حينما نروم معرفة الصلة بين أمرين محسوسين، بمعنى أنَّ هذه البراهين يمكن الاعتماد عليها لاستكشاف العلاقة بين مكوِّنات الطبيعة وأجزائها وليس من الممكن الاستدلال بها فيما وراء ذلك، أي أنَّها غير ناجعةٍ لمعرفة واقع العلاقة بين أمرٍ طبيعيٍّ وآخر ماوارئيّْ.

ينبغي القول أنّ التجربة مقتصرةٌ على المشاهدات الحسِّيَّة وبإمكاننا تسخيرها كمرتكزٍ للتعرُّف على الظواهر الطبيعيَّة واستكشاف علَّتها أو عللها عن طريق الاختبار والتقصِّي المادِّيّْ؛ والأمثلة في هذا المضمار كثيرةٌ، ومنها عمليَّة تبخير الماء بالحرارة وانجماده بالبرودة، فهذه الحالات بطبيعة الحال لا بدَّ من أن تكون ناشئةً من تأثير مؤثِّرٍ وفعل فاعلٍ، والتجربة أثبتت لنا أنَّنا حين مشاهدة عاملين متواليين فالعقل يحكم بأنَّ أحدهما يُعدُّ علَّةً للآخر. إذن، الشرط المفترض لتحقُّق التجربة هو كون الحالات التي تطرأ على الشيء محسوسةً لنا وبإمكاننا لمسُها بحواسِّنا الظاهريَّة، كالمشاهدة العينيَّة.

بناءً على ما تقدَّم، نتساءل: هل أنَّ الاستدلال بالنَّظم على وجود الناظم هو استنتاجٌ حسِّيٌّ؟ أي هل هو برهانٌ تجريبيٍّ؟ قبل أن نتناول أطراف الحديث عن ماهيَّة برهان النَّظم، لا نجد ضيراً من الاستشهاد بأحد أنماط الاستدلال التي عدَّها هيوم تجريبيَّةً بحتةً وشبَّه وجه الاستنتاج في هذا البرهان بها. مُرادُنا هنا مثاله الذي ذكره حول دلالة المصنوعات البشريَّة على وجود صانعٍ عاقلٍ لها، لذا نطرح عليه السؤال الآتي: هل أنَّ هذا الاستدلال يندرج في ضمن التجارب العقليَّة؟! أَمن الممكن عدُّه برهاناً تجريبيَّاً على غرار تلك البراهين التي نثبت على أساسها العلاقة الموجودة بين مختلف مكوِّنات الطبيعة، كعلاقة الحرارة بتبخير الماء والبرودة بانجماده؟! فهل هذا الاستنتاج يُعدُّ من سنخ البراهين العقليَّة أو التجريبيَّة؟! مثلاً،كيف لنا أن نعلم بأنَّ الحكيم ابن سينا كان فيلسوفاً أو طبيباً؟! وما هي الأدلَّة التي نجزم على أساسها بأنَّ فلاناً من الناس ذكيَّاً وفلاناً غبيَّاً؟! بطبيعة الحال نحن نتابع آثار هؤلاء وتصرُّفاتهم لكي نحكم عليهم، فنحن لم نشاهد ولم نلمس بحواسِّنا (عقل) ابن سينا، ولا (ذكاء) فلان، ولا (غباء) فلان، وإنَّما أدركنا ذلك عن طريق استنتاجاتنا العقليَّة، وهي بكلِّ تأكيدٍ تكفي لإثبات المدَّعى؛ إذ ليس هناك عقلٌ أو فكرٌ مطروحٌ للبحث على طاولة تجاربنا الحسِّيَّة كي نزعم أنَّ التجربة هي التي يجب أن تثبت ما يكتنفه وما يصدر منه، بل التجربة ذاتها أثبتت لنا أنَّ لا أحد قادرٌ على إدراك مكامن العقل والفكر سوى العقل نفسه.

ونتساءل هنا أيضاً: ما هو الدليل على جزمِنا بوجود عقلٍ لدى سائر الناس؟ فلماذا لا ينتابنا الشكُّ في هذا الأمر؟ وما السبب في إجماع البشريَّة على أنَّ المصنوعات البشريَّة تتزايد عظمةً وتقنيَّةً مع ارتفاع مستوى العقل والفكر لدى صانعها؟ وما المسوِّغ لأن نقول إنَّ كلَّ مصنوعٍ يعكس ذوق صانعه؟ أَلَـم يقل ديكارت إنِّ الحيوانات - باستثناء الإنسان -  عبارةٌ عن آلاتٍ عديمة الشعور ولها القابليَّة على ردِّ الفعل تجاه ما يطرأ عليها؟! فكيف يمكننا الحكم على الحيوانات بأنَّها عديمة الشعور والعقل في حين أنَّ بني آدم لهم عقلٌ وشعورٌ؟! فهل هناك برهانٌ تجريبيٌّ يثبت هذه القاعدة العقليَّة؟!

خلاصة القول أنَّ الاستنتاج العقليَّ لدى الإنسان ليس كافياً لإثبات أنَّ ما لديَّ لا بدَّ من أن يكون موجوداً لدى جميع البشر، فهذا الكلام بحسب القواعد المنطقيَّة يسمَّى (تمثيل)، أي عدَّ أحد الأشخاص معياراً لتقييم الآخرين؛ في حين أنَّ المنهج التجريبيَّ يعني إخضاع مجموعةٍ من الناس للتجربة - ويتراوح عددهم بين القلَّة والكثرة حسب موضوع البحث - بغية إثبات أنَّ أحد الأمور الشائعة بين عيِّنة البحث لا يختصُّ بها فحسب، بل هو أمرٌ عامٌّ يسري على جميع أفراد النوع البشريّْ. لذا، فإنَّ معرفة مدى القدرة العقليَّة للإنسان عن طريق ما يخلِّفه من آثارٍ ومصنوعاتٍ هي في الحقيقة ليست من سنخ التمثيل المنطقيِّ، وكذلك ليست من سنخ الاستدلال التجريبيِّ، بل هي برهانٌ عقليٌّ.

لا ريب في أنَّ الإنسان يشعر مباشرةً في باطنه بامتلاك شيءٍ اسمه عقلٌ أو إرادةٌ أو فكرٌ، ويُدرك أنَّ هذه الأمور هي التي تمنحه الإرادة والقدرة على القيام بأفعاله؛ وعلى هذا الأساس فهو حتَّى وإن لم يدرك وجود هذه الأمور لدى الآخرين بشكلٍ مباشرٍ، إلَّا أنَّه يتوصَّل إليها ويجزم بوجودها عن طريق ما يبدر منهم من أفعالٍ وتصرُّفاتٍ، فحينما يمسك بقلمٍ ويجعله على ورقةٍ بيضاء، بإمكانه حينها تصوُّر آلاف الصور والأحرف والكلمات التي قد يخطُّها به، ولو أنَّه كتب جملةً مفيدةً ذات دلالةٍ صحيحةٍ فهذا يعني ضعف احتمال وجود الصدفة على هذا الصعيد وبلوغه أدنى درجة، والبتّ بأنَّه دوَّن ما دوَّن عن قصدٍ وإرادةٍ، إذ كيف يمكن للصدفة أن تجمع تلك الحروف في إطار كلماتٍ، والكلمات في إطار جملةٍ مفيدةٍ لمعنى يصحُّ السكوت عليه؟! لذا فاحتمال الصدفة هنا ضئيلٌ بحيث لا يمكن تصوّره، والعقل السليم بطبيعة الحال يرفض هذا الأمر جملةً وتفصيلاً؛ ومن ثم  يثبت لنا وجود عقلٍ وإرادةٍ لهذا الكاتب الذي دوّن جملته في إطار المعنى المراد.

كما أشرنا آنفاً، فإنَّ المصنوعات البشريَّة التي تدلُّ على وجود عقلٍ بشريٍّ مدبِّرٍ، لا يمكن ادِّعاء أنَّ الاستدلال بها على وجود صانعٍ مدبِّرٍ للكون هو من سنخ التمثيل المنطقيِّ حسب التوضيح الذي ذكرناه - كما لو تيقَّن الإنسان من وجود قلبٍ لدى جميع بني آدم من منطلق امتلاكه قلباً - وهو كذلك ليس من سنخ البراهين التجريبيَّة التي تثبت وجود شيءٍ عن طريق الحسِّ والتجربة؛ بل هو برهانٌ عقليٌّ يشابه البراهين التي يستدلُّ بها العقل على صعيد المسائل التأريخيَّة المتواتِرة.

 يثبت لنا مـمَّا ذُكر أنَّ معارفنا الشخصيَّة وما لدينا من معلوماتٍ حول القدرات العقليَّة لدى سائر الناس، هي ليست  من سنخ البراهين التجريبيَّة؛ لذا من الأولى بمكانٍ عدم عَدُّ برهان النَّظم من سنخ البراهين التجريبيَّة لأنه يرتبط بالكون وبالبارئ جلَّ وعلا.

إنَّ من يدَّعي كون برهان النَّظم يندرج في ضمن البراهين التجريبيَّة هو في الواقع يؤمن بالَّلاهوت التجريبيِّ إن صحَّ القول، إذ يتصوَّر أنَّ القائلين به عَدُّوا آيات الله تعالى سبيلاً لمعرفته عن طريق حسِّهم وتجربتهم؛ وعلى هذا الأساس زعم قدرة الإنسان على معرفة العلوم الَّلاهوتيَّة بالأسلوب نفسه الذي يعتمد عليه علماء الطبيعة لمعرفة ما يكتنفها من قضايا، لدرجة أنَّه همَّش جميع البحوث والمسائل الفلسفيَّة الدقيقة، وجرَّد علم الَّلاهوت من كلِّ استدلالٍ عقليٍّ فلسفيٍّ. لقد غفل هذا المدَّعي عن كون التجربة لا تفيدنا شيئاً سوى معرفة آثار الله تعالى في الكون، وأنَّ معرفة الذات الإلهيَّة المقدَّسة على أساس هذه الآثار هو استدلالٌ عقليٌّ محضٌ.

لقد ظنّ هيوم أنَّ علماء الَّلاهوت يرومون إثبات كون النَّظم الموجود في الطبيعة شبيهًا للنَّظم الموجود في المصنوعات البشريَّة، واعتمدوا على تشابه العلل والمعلولات لاستدلال أنَّ الكون شبيهٌ بآلةٍ ضخمةٍ أو بناءٍ عظيمٍ متناسقٍ ومترامي الأطراف، وأكَّد على أنَّه شبيهٌ بآلةٍ منتظمةٍ أو نباتٍ أو حيوانٍ قبل أن يكون شبيهاً بسفينةٍ أو بناءٍ من صنع العقل البشريّْ.

نردُّ على هذا الكلام بالقول: أنت تدَّعي أنَّ الكون ليس شبيهاً بسفينةٍ أو بناءٍ، وإنَّما يشابه ما فيه من مكوِّناتٍ طبيعيَّةٍ فحسب. فهل يمكن لعاقلٍ تصوُّر أنَّ العالم لا يشبه نفسه؟! أَلا يعدُّ كلُّ نباتٍ وحيوانٍ جزءاً من هذا الكون؟! نؤكِّد لك أنَّ هذا النبات والحيوان هو محور بحثنا، فقد خُلق وحُبك بتناسقٍ واتِّزانٍ مثل اتِّساق واتِّزان الآلة الميكانيكيَّة المتقَنة الصنع، بل هو أكثر تطوُّراً وإتقاناً بأضعافٍ مضاعفةٍ من كلِّ آلةٍ مصنوعةٍ بيد الإنسان؛ وبما أنَّ آيات الصنع في الطبيعة أعظم وأدقُّ من الحبكة الموجودة في الآلات الميكانيكيَّة وسائر الصناعات البشريَّة، لذا نقول إنَّ تمتُّع صانع السفينة بعقلٍ وفكرٍ فذٍّ، فالعالم الذي يتمثَّل بطبيعته المنتظمة لا بدَّ من أن يكون حينئذٍ ناشئاً إثر صنع صانعٍ أعظم وأسمى وأرقى من العقل الإنساني.

يدَّعي هيوم أنَّ ماهيَّة البرهان هي التشبيه بين صناعة ناظم الكون وصناعة الإنسان، لكنَّ هذا الادِّعاء غير صائبٍ جملةً وتفصيلاً، فمن المستحيل بمكانٍ زعم أنَّ نظم خالق الطبيعة (الله) ينطبق بالكامل على نظم المخلوق (الإنسان)؛ فالبارئ العزيز الجليل منزَّهٌ من كلِّ شبيهٍ ونظيرٍ في وجوده وفي أفعاله وخلقته.

الإنسان جزءٌ من الطبيعة، لذا فهو يطوي مراحل في طور التنامي والتكامل، وهو يبذل غاية مساعيه لتفعيل طاقاته وبلوغ درجة الكمال المنشود؛ لذا يمكن اعتبار جميع حركاته تنصبُّ في هذا المضمار، وبما أنَّه ليس خالقاً للطبيعة التي يحيا في كنفها فتحكٌّمه بها إنَّما يكون على أساس إقامة علاقةٍ مصطَنعةٍ - غير طبيعيَّةٍ - بين أجزائها. والواقع أنَّ إنجازات البشريَّة التي تتمثَّل في المباني المتناسقة والمدن المنتظمة، ما هي إلَّا عبارةٌ عن سلسلةٍ من الحركات الطبيعيَّة التي بدرت لأجل غايةٍ للصانع لا للمصنوع، فهو من خلال ارتباطه بها يروم تحقيق هدفٍ معيَّنٍ، لذا يمكن القول أنَّ الصناعة البشريَّة تتقوَّم على الدعامتين الأساسيَّتين الآتيتين:

1) الترابط بين أجزاء المادَّة المصنوعة بشكلٍ صناعيٍّ وليس طبيعيَّاً.

2) هدف الصانع هو المحور الأساسيُّ في هذه الصناعة، أي أنَّ الصانع هو الذي يحقِّق غرضه عبر ما يصنع ليزيح النقص عن نفسه ويفعِّل شخصيَّته.

ومن المؤكَّد أنَّ هذين المبدأين لا يمكن تصوُّرهما على صعيد خلقة البارئ عزَّ وجلّْ، إذ ليس من الممكن أن تكون العلاقة بين أجزاء مخلوقاته غير طبيعيَّةٍ، ولا يمكن أن يكون الهدف الموجود هو هدف الصانع؛ إذ لا بدَّ من أن تكون الصلة بين أجزاء المخلوقات طبيعيَّةً كما هو الحال في المنظومة الشمسيَّة المترابطة وفق نظامٍ طبيعيٍّ محبوكٍ ودقيقٍ يعمُّ جميع الكائنات الحيَّة من نباتاتٍ وحيواناتٍ وبشرٍ. وما أكَّد عليه الحكماء أنَّ جميع أفعال الخالق هي غايات الفعل وليس الفاعل، وهو معنى قولهم إنَّ حكمة الإنسان تعني اختيار أفضل الوسائل لأفضل الغايات، وحكمة البارئ سبحانه هي الأخذ بيد الكائنات لبلوغ غاياتها، إذ قال شاعرهم:

إذْ مُقتَضَى الحٍكمةِ والعِنايةِ * * * إيصالُ كُلِّ مُمْكنٍ لِـغايةٍ

هذا هو معنى قولهم: «العالي لا يلتفت إلى السافل»، وهو معنى قولهم إنَّ ما يترتَّب على خلقة الكائنات بواسطة الذات الكاملة المطلَقة، وجود غايةٍ لها ورسوخ المحبَّة في باطنها، وإنَّ هذه الذات المطلَقة هي غاية الغايات.

لا نبالغ لو قلنا إنَّ قراءة هيوم وسائر الفلاسفة الغربيِّين لبرهان النَّظم هي قراءةٌ ساذجةٌ لا تختلف شيئاً عن الفهم الشائع بين عامَّة الناس من غير العلماء، إذ افترضوا الله تعالى صانعاً كسائر البشر، وعلى هذا الأساس تطرَّقوا إلى البحث عن وجوده بالنفي والإثبات؛ ولكنَّ ثمرة هذا الاستدلال الهشِّ هي في الحقيقة إثبات وجود صانعٍ شبيهٍ للإنسان لا غير!

حريٌّ القول أنَّ نظريَّة هيوم حول برهان النَّظم أثارت جدلاً واسعاً في أوساط الفلسفة الغربيَّة طوال ثلاثة قرونٍ، ومن ثمَّ فالنقاشات والآراء التي تمخَّضت عنها أثبتت ضعف البُنية الفلسفيَّة الغربيَّة على الصعيدين المادِّي والمعنويِّ، كما نستشفُّ منها أنَّ فهم الغربيِّين لبرهان النَّظم لا يتَّصف بأيَّة صبغةٍ فلسفيَّةٍ، ومن ثمَّ  لا يمكن مقارنته بالطرح الفلسفيِّ الإسلاميِّ بتاتاً. حتَّى ولو تسامحنا وقلنا إنَّ فهم الفلاسفة الأوروبيِّين لهذا البرهان أعلى درجةً من فهم عامَّة الناس، فهو مع ذلك لا يتجاوز فهم علماء الكلام من الأشاعرة والمعتزلة الذين هم أدنى درجةً من سائر الحكماء المسلمين. ومن جملة ما قاله: «لنفترض أنَّ هذا البرهان يثبت لنا امتلاك خالق الكون عقلاً كالعقل البشريِّ، ولكنَّه لا يثبت لنا أنَّه إلهٌ كاملٌ وغير متناهٍ».

إنَّ الخطأ الذي ارتكبه هذا الفيلسوف هو اعتقاده بأنَّ الذين يؤمنون بكون الله تعالى كاملاً مطلَقاً وغير متناهٍ، قد استندوا في رأيهم هذا إلى نظريَّته التي تقول بأنَّ برهان النَّظم يُعدُّ من سنخ البراهين التجريبيَّة؛ ولكنَّ الحقيقة على خلاف هذا المدَّعى، فقد أثبتنا آنفاً أنَّ غاية ما نستحصله من هذا البرهان هو إثبات حقيقةٍ عظيمةٍ في عالم ماوراء الطبيعة صاغت الكون وحبكته بهذا النَّظم المذهل بحيث أصبح الكون أثراً بيِّناً لوجودها، ولكنَّ صفات هذه الحقيقة الماورائيَّة من حيث كونها حادثةً أو قديمةً، واحدةً أو أكثر، محدودةً أو غير متناهيةٍ، وما إلى ذلك من ميزاتٍ أخرى؛ هي في الواقع خارجةٌ من النطاق الاستدلاليِّ لهذا البرهان وإنَّما يتمُّ إثباتها بالاعتماد على براهين عقليَّة أخرى.

وقال أيضاً: «لو افترضنا أنَّ عالمنا هو أكمل العوالم التي يمكن تصوُّرها، فهل يمكن لنا الجزم بأنَّ صانعه لم يقلِّد غيره في صنعه؟ لعلَّ هذا النظام المُشاهَد اليوم هو من إفراز الكثير من العوالم التي خضعت للتطوُّر والازدهار شيئاً فشيئاً عبر العصور والأزمنة الغابرة إلى أن أنتجت هذا العالم».

هذا الاعتراض سببه أنَّ الناقد لم يدرك ماهيَّة برهان النَّظم، فقد ظنَّ أنَّ جميع مسائل علم الَّلاهوت يمكن استنتاجها من برهانٍ واحدٍ، لذا عليه أوَّلاً إدراك أنَّ فائدة هذا البرهان هي إثبات كون الطبيعة غير موكَلةٍ إلى نفسها، بل إنَّ الطاقات الموجودة فيها مسخَّرةٌ من قبل قدرةٍ عظمى، فهي مؤثِّرةٌ بفعل فاعلٍ ماورائيٍّ يمتلك سلطةً عليها. هذا المقدار من البرهان يكفي لتحقيق المراد منه، ولكن في ما يخصُّ ميزات القدرة الماورائيَّة وخصائصها الذاتيَّة، فهي مباحثٌ يمكن التطرُّق إليها في رحاب براهين أخرى؛ وهذا الأمر بطبيعة الحال لا يقلِّل من شأن برهان النَّظم، ولا يمسُّ باستدلاله، فهدفه هو الانطلاق بالذِّهن البشريِّ من عالم الطبيعة إلى عالم ماوراء الطبيعة.

إذن، يقال في الردِّ على هذا الانتقاد إنَّنا نروم من البرهان المذكور إثبات أنَّ ناظم هذا العالم هو الذي يمتلك الشعور فقط، وأمَّا صفاته الأخرى فيمكننا البرهَنَة عليها بواسطة طرقٍ واستدلالاتٍ أخرى.

ولو ذهبنا أبعد من ذلك، وتأمَّلنا في ما طرحه هيوم من أنَّ وجود الشرور في العالم يمنعنا من نسبة العلم المطلَق - الَّلامحدود - إلى الناظم، وأنَّ الكوارث الطبيعيَّة بمختلف أشكالها تتنافى مع ادِّعاء أنَّ النَّظم الموجود في الكون من صنع صانعٍ عاقلٍ وحكيمٍ؛ ينبغي لنا القول أنَّ هناك سُبُلاً عديدةً قد ذُكرت لحلِّ هذه المسألة، ومن أراد الاطِّلاع عليها بإمكانه مراجعة كتابنا (العدُّ الإلهيّْ) إذ ذكرنا تفاصيل الموضوعهناك بإسهاب[10].

---------------------------------


[1]*ـ  مفكِّر وباحث في الفلسفة المعاصرة ـ إيران.

ـ ترجمة أسعد مندي الكعبي.

[2] - مرتضى مطهَّري، شرح مبسوط منظومة (بالُّلغة الفارسيَّة)، ج 3، ص 184 - 187.

[3] - المصدر السابق، ص 378.

[4] - المصدر السابق، ص 381.

[5] - مرتضى مطهَّري، شرح مبسوط منظومة (بالُّلغة الفارسيَّة)، ج 3، ص 382.

[6] - مرتضى مطهَّري، شرح مبسوط منظومة (بالُّلغة الفارسيَّة)، ج 3، ص 90.

[7] - ريتشارد بوبكين - أُوروم سترول، كلِّيَّات فلسفه (بالُّلغة الفارسيَّة)، ترجمه إلى الفارسيَّة: جلال مجتبوي، ص 231.

[8] -  ريتشارد بوبكين - أُوروم سترول، كلِّيَّات فلسفه (بالُّلغة الفارسيَّة)، ترجمه إلى الفارسيَّة: جلال مجتبوي، ص 209 - 210.

[9] - المصدر السابق، ص 212 - 224.

[10] - مرتضى مطهَّري، مجموعة آثار (بالُّلغة الفارسيَّة)، ج 1، ص 537 - 551.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف