البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

September / 21 / 2020  |  1984الوصل المضطرب بين العقل والأخلاق مقاربة نقدية لرؤية ديفيد هيوم

حسين علي شيدان شيد المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية شتاء 2020 م / 1441 هـ
الوصل المضطرب بين العقل والأخلاق مقاربة نقدية لرؤية ديفيد هيوم

أعار ديفيد هيوم أهميَّة بالغة لمسألة تأثير العقل على الأخلاق، حيث قيَّد نطاق تأثيره إلى حدٍّ كبيرٍ من منطلق اعتقاده بأنَّ العواطف هي صاحبة الحظِّ الأوفر في هذا المضمار.

لكنَّ هيوم لم يلتزم بهذا الرأي طوال مسيرته الفكريَّة بل تبنَّى أحياناً وجهات نظر لا تتناغم معه.  ثم خلص إلى وجهة نظر تفيد بأنَّ العقل عبارة عن قابليَّة الإنسان على الاستدلال والاستنتاج الَّلذين هما على نوعين: برهانيٍّ يوضح لنا واقع الارتباط بين التصوُّرات، وعلِّيٍّ – تجريبيٍّ أو ظنِّيٍّ - تتَّضح لنا على أساسه القضايا الواقعيَّة والسلاسل العلِّيَّة لشتَّى الوقائع والأحداث.

الهدف من هذه المقالة كما يوضح الباحث حسين علي شيدان شيد هو بيان طبيعة الارتباط بين العقل والأخلاق من وجهة نظر في إطارٍ تحليليٍّ نقديّْ.

المحرِّر


تُعتَبر مكانة العقل في الأخلاق من أهمِّ المسائل برأي ديفيد هيوم، وكانت أوَّل موضوع ساقَهُ للبحث والتحليل في كتاب «مبحث في الأخلاق»[2]، ومحور البحث دار حول ما إذا كان العقل[3] هو المرتَكَز الأساسيَّ للأخلاق، أم هي العواطف، كما استهلَّ الجزء الثالث من كتاب «رسالة في الطبيعة البشريَّة»[4]وعنوانُهُ «بحث في مبادئ الأخلاق» بفصل تحت عنوان «الاختلاف في المبادئ الأخلاقيَّة ليس عقليَّ المنشأ». مع الإشارة أيضًا إلى أنَّه سخَّر جلّ جهوده طوال مسيرته الفكريَّة لتحليل هذا الموضوع وتسليط الضوء على النقاشات المحتدمة حوله بين مختلف المفكِّرين، والرأي الذي تبنَّاه في هذا المضمار تجلَّى في الكثير من المواضيع الأخرى التي تطرَّق إلى بيان تفاصيلها، بل أثَّر على مختلف آرائه ونظريَّاته.

 في هذه المقالة سنشير إلى وجهة نظر هيوم إزاء مختلف جوانب الموضوع المذكور بشكلٍ مقتضبٍ ونوضح معالمه الأساسيَّة بمقدار ما يتيح لنا المجال، لكن قبل ذلك نرى من الضروري بيان مُرادِه من «العقل» ضمن هذه النظريَّة.

في باكورة العصر الجديد للفلسفة الغربيَّة شاعت مصطلحات في الأوساط الفلسفيَّة بصفتها قابليَّات إبستيمولوجيَّة أساسيَّة، وهي عبارة عمّا يلي: الإدراك، الفكر، الحكم، الخيال، الذاكرة، الحواسّْ.[5]

القابليَّات الثلاث الأولى (الإدراك والفكر والحكم) اعتُبرت الأفضل من غيرها لكونها تفي بدورٍ عمليٍّ مشهودٍ، وبيان ذلك كما يلي: الإدراك يتمحور حول مسألة نشأة المفاهيم، والحكم يدور حول معرفة طبيعة الارتباط والنسبة بين المفاهيم ومعرفة واقع شتَّى القضايا، والعقل يتكفَّل بمسألة استنتاج حكم من حكم آخر، أي أنَّ وظيفته هي الاستدلال.[6]

تجدر الإشارة هنا إلى وجود اختلاف بين بعض المفكِّرين حول وظائف هذه القابليَّات، ومنهم من لم يستخدمها في دراساته وبحوثه مُطلَقاً، وأمَّا ديفيد هيوم فقد استخدم مصطلحَيْ العقل والإدراك في موارد عدَّة باعتبارهما يدلَّان على معنى واحد؛[7] وهو، فضلاً عن ذلك، لم يلتزم في بحوثه بالمعنى الذي كان شائعاً في عهده، حيث لم يستعمل مصطلح «العقل» بالمعنى ذاته فيها قاطبةً، بل نلمس من كلامه غموضاً على هذا الصعيد،[8] فتارةً قيَّد دلالته بالقابليَّة التي لها التقدُّم على التصوُّرات حينما تطرَّق إلى الحديث عن الاستدلال البرهانيِّ[9] أو الانتزاعيِّ الذي يتمحور حول طبيعة العلاقة بين التصوُّرات؛ والعقل حسب هذه الوظيفة لا يُطلَق على تلك القابليَّة التي تتكفَّل بالاستدلال الظنِّيِّ[10] الذي هو في الواقع استدلال تجريبيٌّ أو علِّيّْ؛ وتارةً أخرى استخدمه بنحوٍ يجعله شاملاً للاستدلال الظنِّيِّ أيضاً.[11]

فضلًا عن ذلك، اعتبر هيوم العقل في بعض الأحيان دالَّاً على كلا النشاطين الفكريَّين - الاستدلالين البرهانيِّ والظنِّيِّ - أي أطلقه على عمليَّة كشف صدق القضايا أو كذبها؛[12] وفي الكثير من الحالات أراد منه ذات النشاطين المذكورين وليس ما يترتَّب عليهما؛ وفي بعض كتاباته نلاحظه يطرح موضوع البحث بشكلٍ يوحي بوجود اختلاف بين العقل والتجربة[13] رغم عدم تبنِّيه هذه الفكرة في معظم آثاره،[14]وهذا الاختلاف ظاهري برأيه في بعض الموارد؛[15] ومن جملة آرائه المطروحة في هذا السياق أنَّ العقل عبارة عن غريزة مذهلة كامنة في أنفسنا لكن لا يمكننا فهم كُنهِها، حيث يسوقُنا نحو سلسلة من التصوُّرات التي تمتاز بطابع معيَّن؛[16]وهذا المدلول في الواقع يعني الانتقال من الإدراك النفسي إلى نمطٍ إدراكيٍّ آخر.

إذن، يمكن القول أنَّ هيوم يعتقد بوجود اختلاف دلاليٍّ بين مفهومَيْ العقل والاستدلال[17] باعتبار أنَّهما يشيران إلى معنيين مستقلَّين على أقلِّ تقدير، وحسب أحد المعاني يدلَّان على نمطٍ من النشاط الفكريِّ والتأمُّليِّ الانتزاعيِّ ينشأ ضمن مقارنة إدراكيَّة واختياريَّة بين التصوُّرات التي تكتنف ذهن الإنسان، وطبق التعبير الذي ساقَهُ هذا الفيلسوف فهما يتمحوران حول المداليل والنسب الفلسفيَّة؛ فهو حينما يتحدَّث عن الجانب المختصِّ بالتفكير والتأمُّل الذهنيِّ[18] الكامن في طبيعة الإنسان يقصد ذلك الجانب الحسَّاس[19] الكامن في باطنه،[20] وفي هذه الحالة لا يعتبر العقيدة[21] حصيلةً لمصدر التفكير أو العقل، بل هي نشاط لقوة التصوُّر برأيه. وحسب المعنى الآخر الذي تبنَّاه، فهما - العقل والاستدلال - يشملان ذلك النمط من الانتقال غير التأمُّليِّ، بل الانتقال الذي يحدث تلقائيَّاً على صعيد المفاهيم والنسب الطبيعيَّة، حيث عزا هذا الأمر إلى الغريزة[22] أو العادة[23] في بعض آثاره.[24] وعلى الرغم من كلِّ هذا التنوُّع الدلاليِّ والغموض في معاني العقل ضمن شتَّى مدوَّناته ونظريَّاته، إلَّا أنَّ مُراده بهذا الخصوص واضح إلى حدٍّ ما في مجال المباحث الأخلاقيَّة لكونه استخدم مفهوم العقل كجهة مقابلة للعواطف أو ما يسمَّى بالانفعالات النفسيَّة[25] لدى الإنسان، وكما هو معلوم فالمساحة التي يشغلها العقل في مضمار هذه المباحث هي المساحة ذاتها التي يشغلها على الصعيد الإبستيمولوجيِّ باعتباره القابليَّة الإنسانيَّة التي تتمحور حول الحكم بصدق القضايا أو بطلانها وحول كشف الحقيقة وتمييزها عن الخطأ بعد تشخيصه؛ لذا يمكن القول أنَّ هيوم في هذه الموارد لم يجعل العقل في مقابل التجربة، أي ليس بمعنى الفكر المحض والاستدلال على ما تقدَّم،[26] بل بمعنى أوسع نطاقاً يُراد منه قابليَّة الإنسان على اكتساب جميع أنواع المعرفة سواءً عن طريق الفكر المحض أم عن طريق التجربة والاستدلال العلِّيِّ، وأحياناً نستشفُّ من كلامه أنَّه يعتبر المعرفة المتحصِّلة بواسطة الحواسِّ توحي بإدراكات غير استنتاجيَّة، وهذه الميزة تندرج ضمن ما ذكر أخيراً.[27] استناداً إلى ما ذكر فقد جعل في هذه المباحث نوعين من التعابير والمصطلحات في مقابل بعضهما البعض، فهو من ناحية تحدَّث بأسلوب متناسق بنحوٍ ما عن بعض المفاهيم مثل العقل والإدراك والفكر والقدرة على إصدار الأحكام والتأمُّل في شتَّى القضايا والعقل المحض والقابليَّات الفكريَّة والمعرفة والاحتجاج والاستدلال والحجِّيَّة والاستنباط والصدق والكذب،[28] وما شاكل ذلك؛ ومن ناحية أخرى تحدَّث بأسلوب متناسق أيضاً عن مفاهيم أخرى مثل العواطف والذوق والقلب والحسِّ والشعور والانفعال والعاطفة والرغبة والنزعة والشعور الباطني والجبلة، وحتَّى الأخلاق والجمال والقبح،[29] وما شاكل ذلك.

خلاصة الكلام أنَّ العقل من وجهة نظر هيوم عبارة عن قابليَّة الإنسان على الاستدلال والاستنتاج الَّلذين هما على نوعين: برهانيٍّ يوضح لنا واقع الارتباط بين التصوُّرات، وعلِّيٍّ – تجريبيٍّ أو ظنِّيٍّ - تتَّضح لنا على أساسه القضايا الواقعيَّة والسلاسل العلِّيَّة لشتَّى الوقائع والأحداث.

كيف يؤثِّر العقل بالأخلاق؟

في ما يلي نتطرَّق إلى بيان مدى تأثير العقل على مختلف جوانب الأخلاق:

أوّلاً: طبيعة التصوُّر في الأحكام الأخلاقيَّة:

في بادئ الأمر نسلِّط الضوء على التصوُّرات التي تقابل التصديقات والأحكام، لذا حينما نأخذ بعين الاعتبار القضايا والأحكام الأخلاقيَّة بصفتها مسائل عمليَّة كالقضايا الثلاث التالية (الكرم فضيلة، السرقة قبيحة، سقراط كان فاضلاً)، فلا بدَّ لنا من الإذعان إلى أنَّ موضوعها إمَّا أن يكون وصفيَّاً نفسانيَّاً مثل الكرم والشجاعة والحسد،[30] أو فعلاً خارجيَّاً مثل الصدق ومعرفة الحقِّ والسرقة،[31] أو فرديَّاً مختصَّاً بشخصٍ بالتحديد مثل سقراط وبقراط وجنكيز خان. والواقع أنَّ محمول هذه القضايا هو الآخر عبارة عن مفاهيم معيَّنة على غرار الفضيلة والرذيلة والحسن والقبح والصواب والخطأ والفعل الذي يستحقّ الإطراء أو التوبيخ، وما شاكل ذلك.

وهناك مسائل جديرة بالذكر في هذا المضمار هي كالتالي:

1) ما يستحقُّ الذكر بالنسبة إلى رأي ديفيد هيوم بخصوص مواضيع القضايا الأخلاقيَّة، هو احتمال تأثُّره ببعض المفكِّرين من أمثال شافتسبري وفرنسيس هاتشيسون، حيث اكتفى بتسليط الضوء على الأوصاف النفسانيَّة للإنسان فقط والتي يقصد منها الميزات الشخصيَّة والأخلاقيَّة والدوافع والأوصاف الروحيَّة الثابتة؛ كما تطرَّق إلى الأفعال باعتبارها من دون غيرها المؤشِّر الوحيد على ما يجول في باطن الإنسان؛ وإذا تتبَّعنا بحوثه سنلاحظ فيها أنَّه حتَّى وإن جعل الفرد أحياناً موضوعاً للمبادئ الأخلاقيَّة - كما هو ملحوظ في الأمثلة التي ذكرها - إلَّا أنَّه اعتبره ينتهج سلوكاً كهذا من منطلق خصاله النفسانيَّة الراسخة في ذاته.

إذن، هيوم اعتبر الخصائص النفسانيَّة للإنسان موضوعاً حقيقيَّاً للقضايا الأخلاقيَّة، وقد جرى على هذا المنوال بشكلٍ ملحوظٍ، فهذه الخصائص برأيه عبارة عن فضائل ورذائل، حيث قسَّمها ضمن أربعة أنواع ثمَّ تناولها بالبحث والتحليل بنحوٍ مفصَّلٍ، لكنَّه مع ذلك ساق ثلاثة أنواع منها ضمن المواضيع التي سلَّط الضوء عليها.

المسألة الأخرى الجديرة بالذكر في هذا المضمار هي أنَّ ديفيد هيوم لم يذكر أيَّ شيء عن كيفيَّة معرفة هذه الأنواع - المواضيع - الثلاثة، لكن نستشفُّ من بعض كلامه اعتقاده بكونها قضايا واقعيَّة،[32] لذا فموضوع القضايا الأخلاقيَّة على هذا الأساس من شأنه أن يندرج ضمن نطاق العقل والتجربة، أي أنَّ إدراكنا لهذه المواضيع الثلاثة يتحقَّق عن طريق الاستدلال العقليِّ، وهو ما أشار إليه بصريح العبارة وكلامه في هذا السياق واضح على أقلِّ تقدير في مجال الخصائص والسجايا النفسانيَّة للإنسان من منطلق اعتقاده بعدم امتلاكنا أيَّة معرفة مباشرة بتلك الخصائص الذاتيَّة والنوايا التي تكتنف ذواتنا حينما نبادر إلى القيام بكلِّ فعل أخلاقيٍّ، بل ندركها على ضوء تلك السلوكيَّات الخارجيَّة، أي عن طريق الاستدلال العلِّيِّ؛ وهذا هو السبب الذي دعاه إلى أن يعتبر السلوكيَّات الظاهريَّة - الأفعال التي يقوم بها الإنسان في عالم الخارج - بكونها تندرج ضمن الآثار والخصائص النفسانيَّة. وأمّا بالنسبة إلى فهم النوعين الآخرين - الموضوعين الآخرين - اللذين هما السلوكيَّات الظاهريَّة والشخصيَّات الإنسانيَّة، فقد أكَّد على ضرورة الُّلجوء فقط إلى الحواسِّ الخارجيَّة على انفراد أو بانضمامها إلى الاستدلال العقليّْ.

نلفت هنا إلى أنَّ موضوع بحثنا لا يشمل بيان ذلك الجانب من منظومة التصوُّر[33] الذي تنضوي تحته هذه المواضيع الثلاثة، إذ من المهم بمكانٍ طبعاً توضيح أنَّ كلّ تصوُّر بسيط ناشئ من انطباع بسيط ومناظر له أو أنّه ناشئ من مصدر آخر، لكن لا يتَّسع المجال هنا   لتسليط الضوء عليه بالبحث والتحليل.

2) رغم أنَّ هيوم لم يُعِر أهميَّةً تُذكر للقضايا الأخلاقيَّة ولم يوضح أيَّ نوعٍ من التصوُّرات هي وكيف تتحصَّل لدى الإنسان، لكنَّه أعار أهميَّةً بالغةً لمحمولاتها، وفي هذا المضمار بذل جهوداً حثيثةً لإثبات كيفيَّة نشوء بعض التصوُّرات من قبيل الحُسن والقبح والفضيلة والرذيلة.

ولتلخيص رأيه في هذا المجال وذكر مثيل له، نقول: بعض المفاهيم من هذه الناحية مثل الفضيلة والرذيلة تتشابه بدقَّة مع مفهوم العلِّيَّة أو النسبة الارتباطيَّة الضروريَّة، وفي مجال العلِّيَّة تطرَّق إلى بيان المنشأ الأساسيِّ لتصوُّر الضرورة العلِّيَّة، ووجهة نظره هنا طُرحت على ضوء ما ت

تقتضيه التجربة وحسب اعتقاده بضرورة الالتزام بنظريَّة التصوُّرات، ولـمَّا توصَّل إلى نتيجة فحواها أنَّ الانطباع الحسِّيِّ هو المنشأ الذي كان يبحث عنه والذي يعني عدم امتلاك الإنسان حسَّاً يُعينه على معرفة طبيعة الارتباط الضروريِّ بين العلَّة والمعلول؛ أكَّد على ضرورة وجود انطباع تأمّلي وذاتي يكون منشئاً له، وهذا الانطباع عبارة عن تلك النزعة التي تعيِّن الوجهة الخاصَّة لقابليَّاتنا الذهنيَّة التصوُّريَّة وهو يعني أيضاً وجوب مرور هذه النزعة من بوابة الانطباع العلِّيِّ إلى تصوُّر المعلول الذي يتَّسم بطابع أكثر قوَّة جرَّاء تكرُّر مشاهدة العلَّة والمعلول إلى جانب بعضهما. وعندما ينشأ تصوُّر العلِّية من هذا الانطباع التأمُّلي - الشعور بالإلزام أو النزعة الذهنيَّة التصوُّريَّة - فهذا يعني حدوث تصوُّر هو نسخة شبيهة للشعور بالإلزام أو بالنزعة التي تكتنفنا نحو القيام بشيءٍ ما.[34]

من المؤكّد أنّ هيوم بعدما استند في مباحثه إلى قابليَّة التصوُّر أو العادة أو الغريزة، أناط الاعتقاد بالعلِّية إلى طبيعة الإنسان، ثمّ شيئاً فشيئاً اقترب من تلك الرؤية الطبيعيَّة الكامنة في فكره الفلسفيِّ؛ وعلى هذا الأساس عزا نشأة تصوُّر الفضائل والرذائل وما شاكلها إلى مصدر آخر غير العقل والحواسّ، لذا فكلُّ سلوك يتَّسم بأنَّه فضيلة أو رذيلة حينما نأخذه بعين الاعتبار ونسلِّط الضوء عليه من نواحٍ عدَّة، ففي هذه الحالة لا يمكننا إدراك حقيقة كونه حسَناً أو قبيحاً، ما يعني أنَّ تصوُّر الفضائل لا يمكن أن ينشأ من انطباع حسِّيٍّ؛ لذا لا يتسنَّى لنا هذا الإدراك إلا إذا أدركنا حقيقة ذاواتنا واكتنفنا ذلك الشعور الجميل والمستحسن إزاء تلك لأفعال والأوصاف التي نقصدها، وهذا الشعور في الحقيقة عبارة عن لذَّة  فريدة من نوعها كامنة في أنفسنا، ومن ثمَّ يمكن وصف تصوُّر الفضيلة بكونه نسخة مشابهة لهذا الشعور الرائع الذي تستسيغه أنفسنا، أي أنَّه في الواقع شعور بالفضيلة،[35] وهذا الشعور الفريد كما هو واضح يندرج ضمن الانطباعات التأمُّلية التي توصف بكونها ثانويَّة.

ثانياً: التأثير التحريكيُّ (التحفيزيّْ):

الجانب الآخر من الأخلاق والذي تقتضي الضرورة تقييم طبيعة ارتباطه بالعقل، يتمثَّل في مدى تأثير العقل على سلوك الإنسان عندما يبادر إلى القيام بفعل أخلاقيِّ، وهذا الأمر يمكن بيانه على ضوء الإجابة عن السؤال التالي: ما هو مدى التأثير التحريكيِّ - الدافعيِّ - للعقل، أو ما هو تأثيره السيكولوجيِّ في مجال الأخلاق؟ ويمكن تقرير السؤال كما يلي: ما هو نصيب العقل من تحفيز سلوكيَّات الإنسان الأخلاقيَّة؟

عقلنا برأي ديفيد هيوم لا يتَّسم بخصائص تحريكيَّة ودافعيَّة لكون هذه الخصائص ذات ارتباط بانفعالاتنا وعواطفنا ومشاعرنا، فهو عاجز عن تحريكنا للقيام بفعل ما أو التخلِّي عن أحد السلوكيَّات؛[36]وهذا يعني أنَّه غير قادر على تحبيب بعض القضايا أو جعلها بغيضةً بالنسبة إلينا لمجرَّد اطّلاعنا عليها وإدراكنا لها بواسطته، بل غاية ما يسهم به هو تعريفنا بها فحسب ولا دور له في نزعتنا الباطنيَّة إزاءها.

تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ العواطف حتَّى وإن لعبت دوراً بارزاً في تحفيز الإنسان على القيام بفعلٍ ما، أو الإعراض عنه لكون العقل لا شأن له في هذا الصعيد، لكن لا شكَّ في تأثيره هنا، وهذا التأثير طبعاً مجرَّد مقدِّمة بداعي أنَّ دور العقل في هذا المضمار فرعيٌّ وليس أصليَّاً، فالعواطف هي الأصليَّة، لذا يُعتبر من حيث مساهمته مجرَّد وسيلة لا غير، إذ من خلال قابليَّته لاستكشاف حقائق الأمور يتسنَّى له غرس الرغبة أو الضغينة في كيان الإنسان حتَّى وإن لم يكونا موجودَين لديه قبل ذلك، ومن ثمَّ يُرغمه على القيام بفعل ما أو الإعراض عنه. كذلك من خلال قدرة الإنسان على معرفة الآثار التي تتمخَّض عن سلوكيَّاته وأفعاله وكلِّ ما يترتَّب عليها بفضل قابليَّاته العقليَّة، فهو يساعده على تغيير نهجه في الحياة من خلال تغيُّر رغباته وانفعالاته النفسانيَّة أو زوالها بالكامل، وبهذا المنوال يعينه على تغيير نمط سيرته العمليَّة في شتَّى مجالات الحياة[37].

بناءً على ما ذُكر، يمكن القول أنَّ العقل قادر على احتواء أفعال الإنسان على ضوء منحه معلومات تسوق رغباته ونزعاته نحو وجهة أخرى غير التي يسلكها، كذلك له القدرة على تعريفه بتلك الوسائل التي تساعده على تحقيق أهدافه التي يرنو إلى تحقيقها من شتَّى رغباته وانفعالاته؛ وخلاصة الكلام أنَّه يفي بدور ملحوظ ووظيفة أساسيَّة على صعيد تحريك الإنسان نحو تصرُّف معيَّن ينتهي إلى سلوك أخلاقيٍّ، فهذا التصرُّف يدعوه إلى أداء الفعل الأخلاقيِّ أو تركه، وذلك عن طريق تقديمه دعماً فكريَّاً للعواطف.

ثالثاً: المبادئ الإبستيمولوجيَّة

ثالث خصوصيَّة نسلِّط الضوء عليها ضمن بيان طبيعة ارتباط الأخلاق بالعقل، هي التأثير الإبستيمولوجيِّ العقليِّ عليها، وذلك في سياق الإجابة عن السؤال التالي: ما هو نصيب العقل في مجال معرفة المبادئ الأخلاقيَّة وإدراك حقيقتها؟

ديفيد هيوم في هذا الصعيد أناط الحظَّ الأوفر بالعواطف، وقيَّد العقل إلى أقصى حدٍّ بحيث اعتبره قاصراً عن معرفة الحكم الأخلاقيّْ، ومن جملة ما تبنَّاه هنا أنَّ الأحكام الأخلاقيَّة ليس من شأنها أن تتَّصف بالصدق أو الكذب، أمَّا العقل فلا دور له سوى معرفة صدق

القضايا أو كذبها،[38] ما يعني أنَّ هذه الأحكام خارجة عن نطاق المعرفة العقليَّة، لذا يستحيل على العقل تشخيص الحسن والقبح والفضائل والرذائل عن طريق الاستنتاج والاستدلال.

فحوى هذا الكلام أنَّ الإنسان غير قادر على تحصيل الأحكام الأخلاقيَّة اعتماداً على قابليَّاته العقليَّة ما تقدَّم منها وما تأخَّر، كذلك لا يُعدُّ النهج العقليُّ ناجعاً ومعتمَداً في مجال رفضها أو قبولها؛ لكنَّه تبنَّى النهج الفكريَّ الذي أشرنا إليه سابقاً حينما اعتبر القابليَّات العقليَّة لا تخلو عن تأثير في هذا المضمار، فهو يعتقد بوجود تناسق واشتراك عمليٍّ بنحوٍ ما بين العقل والعواطف في جميع الأحكام الأخلاقيَّة، إلَّا أنَّ نصيب العقل في هذا المضمار مجرَّد تأثير فرعيٍّ بصفته وسيلةً لا غير، وبيان ذلك كما يلي: العقل يدرك أنَّه مكلَّف بتوفير المقدِّمات الَّلازمة لسلوك الإنسان ومنحه الإدراكات والمعلومات التي تُعينه على الولوج في مضمار النشاطات العمليَّة،كما يقدِّم العون العواطف كي تفي بدور على صعيد إصدار الأحكام حول مختلف القضايا، إذ ما لم يمتلك الإنسان معرفة بمختلف الأوضاع والظروف فهو غير مخوَّل بإصدار أيِّ حكم أخلاقيّْ، ناهيك بأنَّ المواضيع الهامَّة التي تبقى ضمن هالة من الغموض أو الشكِّ لا يمكن البتُّ بها وينبغي تعليق جميع القرارات وعدم تفعيل العواطف والمشاعر الأخلاقيَّة إلى حين إصدار الحكم النهائيِّ من قبل العقل الذي يتصدَّى للفكر، ويستكشف الحقائق، وذلك طبعاً لأجل عدم الوقوع في المحظور، والتمكُّن من جمع معلومات كافية حول جميع جوانب الموضوع؛ وبعد ذلك يأتي دور العواطف لكي تشخِّص طبيعة الحكم الأخلاقيِّ الذي كان مجهولاً.[39]

وضمن بحوثه التي دوَّنها على صعيد موضوعنا، أشار هيوم إلى الآثار والنتائج المفيدة لأفعال الإنسان وخصاله والدور الذي يفيه العقل في هذا المضمار، وبما أنَّ مبدأ الفائدة - المصلحة - يُعتبر واحداً من مرتكزَين أساسيَّين لحسن الخلق،[40] فمن الواضح بمكان أنَّ العقل في هذا الصعيد يفي بدور هامٍّ لا يقلُّ شأناً عن أهميَّة العواطف، وهذا الأمر يصدُق بشكلٍ عمليٍّ وملحوظٍ على بعض المبادئ الأخلاقيَّة ولا سيَّما العدل الذي يُعتبر واحداً من أكثر المبادئ الأخلاقيَّة تعقيداً، وهنا يتجلَّى دورُه الحيويُّ وضرورة تدخُّله بوضوح؛[41] ورغم كلِّ ذلك يبقى نصيبه فرعيَّاً باعتباره مجرَّد وسيلة لا غير.

ذكرنا أنَّ العواطف ذات الحظِّ الأوفر في مجال معرفة الأحكام الأخلاقيَّة من منطلق رأي ديفيد هيوم الذي أكَّد على ذلك في مختلف دراساته وبحوثه، ورغم أنَّه في الفترة الَّلاحقة لتأليف كتابه الذي أشرنا إليه في بداية المقالة، بدأ تدريجيَّاً يتبنَّى أفكاراً قوامها محوريَّة العقل على صعيد القضايا الأخلاقيَّة إلى جانب إصراره على رأيه السابق، لكنَّ المسألة الجديرة بالذكر في هذا الصعيد أنَّ الآراء التي أكَّد فيها على أهميَّة

الأُسُس والمبادئ الأخلاقيَّة العامَّة وكيفيَّة تحصيلها، لا تتناغم بنحوٍ ما مع رأيه الذي تبنَّاه بشكلٍ رسميٍّ حول الموضوع، وفي معظم الأحيان تتعارض معه على نحو التضادِّ، لذا لا نبالغ لو قلنا إنَّه يترتّب عليها الإقرار بنصيب أوفر بكثير وأهمِّ من ذلك النصيب الذي أناطه للعقل.

على الرغم من أنَّ هيوم أكَّد على الدور الفريد للعواطف في مجال الأحكام الأخلاقيَّة والتي تعني التلاحم بالبرِّ والإحسان والرغبة في عمل الخير، لكنَّه حينما سعى لطرح المبادئ والمعايير الأخلاقيَّة العامَّة، وتصحيح الرؤية التي كانت سائدة آنذاك، وترسيخ التلاحم الذاتيِّ بين شتَّى أعضاء المجتمع، قلَّل من هذا الدور وكأنَّ العواطف ليس لها حظٌّ وافر كما أشار آنفاً، حيث اعتبر الانفعالات الباطنيَّة التي تكتنف الإنسان ومختلف مشاعره تجاه الفضائل أو الرذائل في شتَّى المجالات ليست على حدٍّ سواء؛ مثلاً عادةً ما يشعر كلُّ إنسان بحماسة وتكتنفه مودَّة إزاء من يُسدي خدمات جليلة لبلده، وهذا الشعور طبعاً أسمى وأكثر مودَّة ممَّا يشعر به إزاء شخص يقدَّم خدمات لبلد آخر أو أنَّه قدَّم خدمةً لنا منذ زمن بعيد بحيث يصعب تذكُّرها بسهولة، كذلك يتضاءل هذا الشعور إزاء تلك الحالات التي لا تعمُّنا منها سوى فوائد محدودة من إرادة الخير والإنسانيَّة أو أنَّها لا تمتُّ لنا إلَّا بصلة محدودة، إذ في هذا المضمار لا ننال فوائد كثيرة، وعادةً ما يتضاءل شعورنا بالتعاضد مع أقراننا في المجتمع، في حين أنَّنا من الممكن أن نعترف بكون كليهما فضيلة وينضويان في مجال البرِّ والإحسان حتَّى وإن كانت عواطفنا هنا غير متكافئة، أي أنَّ تلاحمنا وعواطفنا في مختلف الأحوال والظروف عرضة للتغيير والتحوُّل على الرغم من ثبوت حكمنا الأخلاقيِّ وعدم تغيُّره؛ بينما ديفيد هيوم يعتقد بعدم إمكانيَّة الاعتماد على هذا الأمر لاستنتاج أنَّ تقييمنا لشتَّى الأوصاف والأفعال والفضائل والرذائل ليس ناشئاً من تلاحمنا الفكريِّ وتعاضدنا وعواطفنا، بل إنَّ منشأه هو العقل الذي يُعدُّ المرتَكَز الأساسيَّ لقدرتنا على إصدار الأحكام بمختلف أنماطها، وهذه التغييرات والتعارُضات تساهم في تصحيح عواطفنا وإدراكاتنا الباطنيَّة مثلما تصون حواسُّنا من الوقوع في خطأ؛ مثلاً إذا تضاعفت المسافة التي تفصلنا عن أحد الأشياء بحيث تجعله أكثر بُعداً عنَّا، فالصورة التي ترتسم في أعيُننا له تبلغ درجة النصف، لكنَّنا مع ذلك نتصوَّر أنَّها في كلتا الحالتين بحجم واحد، إذ نحن على علم بأنَّنا إذا اقتربنا منه فسوف تنشأ لدينا صورة أكبر له، كذلك نعلم بأنَّ هذا الشيء ليس هو السبب في كلِّ هذه الاختلافات، بل السبب يعود إلى المسافة الفاصلة بيننا وبينه من حيث القرب والبعد؛ فإذا لم يتمّ هذا التصحيح لوجهتنا على صعيد الأمور التي نلمسها والظواهر[42] التي تتجلَّى لنا في مختلف مجالات الحياة - ولا فرق هنا في ما إذا كان هذا الإدراك باطنيَّاً أو خارجيَّاً - ففي هذه الحالة نصبح عاجزين عن التفكير أو حتَّى الحديث بخصوص أحد المواضيع بنحوٍ ثابتٍ ومنظَّمٍ، لأنَّ الظروف غير الثابتة تسفر عن حدوث تنوُّع متواصل لا يتوقَّف مطلَقاً، ومن ثمَّ تقتضي الضرورة طرح آراء عديدة واتِّخاذ مواقف مختلفة.

حريٌّ القول أنَّ تعاضُدنا مع أقراننا البشر عادةً ما يكون أقلَّ مستوى من رغبتنا في تلك الأمور التي تخصُّ شؤوننا الذاتيَّة، كما أنَّنا نتعاضد عاطفيَّاً ونفسيَّاً مع المقرَّبين لنا أكثر من تعاضُدنا مع غيرهم، ومن هذا المنطلق حينما نتطرَّق إلى بيان الأحكام الأخلاقيَّة وذِكر الأوصاف الأخلاقيَّة للآخرين، غالباً ما نتجاهل هذه الاختلافات بحيث نجعل عواطفنا ومشاعرنا ذات طابع عامٍّ وشموليٍّ وذات صيغة أكثر اجتماعيَّةً، وبالتالي نُضفي إلى عواطفنا المتباينة التي تكتنفنا حول شتَّى القضايا ثباتاً واتِّساقاً موحَّداً؛ وفي غير هذه الحالة يصبح الحوار الأخلاقي بعيد المنال ويمسي الفكر الأخلاقي مستحيل من أساسه فنعجز عن إقامة علاقات ثابتة ومنظّمة مع الآخرين.

إذن، تبادل العواطف والأفكار مع أقراننا البشر يضطرُّنا لأن نصوغ معياراً كلِّياً ثابتاً نتمكَّن على ضوئه من المبادرة إلى استحسان أو تقبيح أو رفض أو تأييد مختلف السلوكيَّات التي تبدُر منَّا، وهذا الأمر طبعاً من وظائف العقل أو التأمُّل أو قوَّة الحكم؛ وعلى الرغم من أنَّ الإنسان يرفض هذه المعايير الكلِّية ومن ثمَّ لا تتبلور كلُّ رغبة وضغينة لديه على أساس تلك الاختلافات الانتزاعيَّة الكلِّية الخاصَّة بالفضائل والرذائل، إلَّا أنَّ هذه المعايير والاختلافات الأخلاقيَّة ذات تأثير ملحوظ لا يمكن غضُّ النظر عنه بتاتاً، وعلى أقلِّ تقدير فهي تساهم في تمهيد الأرضيَّة الَّلازمة لإجراء حوار مع الآخرين ومعرفة وجهات نظرهم، لذا تتبلور فائدتها بشكلٍ أساسيٍّ في الأوساط الفكريَّة والمنابر ومختلف المراكز التعليميَّة بما فيها المدارس.[43]

استناداً إلى ما ذُكر، يحظى العقل في منظومة هيوم الفكريَّة بمنزلة أعلى وأكثر أهميَّة على صعيد ظهور الأحكام الأخلاقيَّة وتبلوُرها لدى الإنسان، إذ على أساس ما استنتجنا من آرائه، إضافةً إلى أنَّ العقل بحاجة إلى أن يمنح الإنسان تلك المعلومات التي تحتاج إليها عواطفُه كي تكون قادرة على التمييز بين القضايا الأخلاقيَّة، فهو ذو تأثير بنيويٍّ في ترسيخ الأحكام الأخلاقيَّة وصياغة معايير ثابتة كلِّية لا يطرأ عليها أدنى تغيير؛ لكن يرِدُ عليه الإشكال التالي: حسب هذا الرأي لا يمكننا اعتبار الأحكام الأخلاقيَّة  ثمرة مباشرة أو انطباعًا مباشرًا للعواطف أو التلاحُم بين الناس.[44]

 لا شكَّ في أنَّ المعايير والأحكام الأخلاقيَّة هي في الواقع ناتجة من تناسق عواطف الإنسان مع أحكام العقل، ما يعني أنَّها أُسُس ومناهج عملية تيسِّر الحياة المشتركة، وتُفسح المجال للحوار ضمن حياة فكريَّة ذات طابع اجتماعيّْ، وإلَّا فالعواطف المحضة والانفعالات التي تكتنف نفس الإنسان لا تمنحنا سوى أحكام متباينة ومتنوِّعة لا ثبوت لها؛ وفي هذا السياق، نلفت إلى أنَّه كلَّما ارتقت الإنسانيَّة وبلغت درجات أعلى، وكلَّما تزايدت النزعة إلى الخير والإحسان لدى البشر، وترسَّخ ارتباطهم بتلك القضايا التي لها تأثير في شتَّى مجالات حياتهم، ففي هذه الحالة، يُسلَّط الضوء بشكلٍ أساسيٍّ على الحالة أو السلوك الَّلذين يُعتبران أكثر شيوعاً في سيرتهم، وحتَّى بعد أن تُسخَّر المعايير الكلِّية في خدمة التعقُّل والتأمُّل إلَّا أنَّ العواطف لا تخضع لها، بل تسلك نهجها الخاصِّ في منأى عن أحكام العقل ويتمُّ اتِّخاذ القرار وفق ما تُمليه على الإنسان، لذا حتَّى لو اعتبرنا الأحكام الاخلاقيَّة انعكاساً للعواطف، فهي في الحقيقة تحكي عن تلك المشاعر الكامنة في نفس الإنسان (أي كما ينبغي أن تكون)، ولا تحكي عن العواطف الموجودة بالفعل (أي كما هي موجودة على أرض الواقع).

الملاحظة الأخرى الجديرة بالذكر في هذا المجال هي أنَّ هيوم قارن بين مسألة تصحيح أو تشذيب العواطف الباطنيَّة (العواطف الأخلاقيَّة) مع تصحيح أو تشذيب العواطف الخارجيَّة، ثمَّ استنتج أنَّهما متشابهان، في حين أنَّ هذه المقارنة كما يبدو تُعتبر ضرباً ممَّا يوصف في علم المنطق بأنَّه قياس مع الفارق، لأنَّنا، حسب تعبيره، نبادر إلى تصحيح عواطفنا الخارجيَّة من منطلق اعتقادنا بوجود شيء في عالم الخارج يُعيننا على تصحيح مختلف القضايا المرتبطة بالحواسِّ على ضوء ثبوته ووحدته، ومن ثمَّ نُضيف إليها ثبوتاً ووحدةً أيضاً؛ لكنَّ هذا الأمر غير ممكن بالنسبة إلى العواطف الأخلاقيَّة على أساس ما تبنَّاه هيوم إزاءها، حيث يعتقد بعدم إمكانيَّة استنتاج مبادئ الحُسن والقُبح والفضائل والرذائل من عالم الواقع لكونها قضايا منبثقة بشكلٍ حصريٍّ من ذات الإنسان، وناشئة من شعوره الإيجابيِّ والسلبيِّ، أي من رغباته وعدمها، لذا فالسؤال الَّذي يطرح نفسه في هذا المضمار: ما هي البنية الارتكازيَّة التي يمكن أن نعتمد عليها لتصحيح مختلف المبادئ التي يجب العمل على أساسها؟ من الواضح أنَّ هيوم إذا أراد الإجابة عن هذا السؤال لا يمكنه التمسُّك بمسألة وحدة الانفعالات الأخلاقيَّة وثُبوتها لدى جميع الناس، لأنَّ المحور الارتكازيَّ في بحثه وتحليله هنا هو بيان تنوُّع هذه الانفعالات واختلافها والاستدلال على السبيل الأمثل لتصحيحها أو تشذيبها؛ كما أنَّ الشأن الذي يُوكله إلى العقل في هذا الصعيد أعلى درجةً من كونه عاملاً مساعداً ومصدراً تمهيديَّاً أو وسيلةً معتمَدة تُعين الإنسان على تحقيق مبتغاه، حيث لم يعتبره مجرَّد مصدر معلوماتيٍّ وعنصر يمكن الُّلجوء إليه لتمهيد الأرضيَّة المناسبة للعواطف كي ترِدَ مضمار العمل، وتساهم في إصدار الحكم الأخلاقيِّ، بل بعد أن تفي العواطف بدورها من دون أن تتمكَّن من وضع معيار ثابت وكلِّيٍّ للقضايا الأخلاقيَّة، يأتي الدور للعقل كي يطرح مبادئه ويبادر إلى تصحيح العواطف أو تشذيبها، ثمَّ يصوغ معياراً كلِّياً للفضائل والرذائل.

نستشفُّ من هذا الكلام أنَّ هيوم إمَّا أن يكون قد تبنَّى رأياً لا يتناغم مع رؤيته المعهودة في مختلف آثاره ونظريَّاته والتي تتقوَّم على كون العقل مجرَّد «خادم» في هذا المضمار، أو أنَّه أعاد النظر برأيه وتبنَّى رؤيةً أخرى؛ وعلى أيِّ حال فهو أناط بالعقل حظّاً وافراً في مجال صياغة الأحكام الأخلاقيَّة.

إذن، الرؤية الرسميَّة التي تبنَّاها هذا الفيلسوف الغربيُّ فحواها أنَّ العقل من الناحية الإبستيمولوجيَّة مجرَّد «خادم» للعواطف على صعيد تشخيص الأحكام الأخلاقيَّة، لذا إن أردنا تقييم هذه الرؤية على أساس مبادئ الحُسن والقُبح العقليَّين وغير العقليَّين، فالنتيجة المتحصِّلة هنا فحواها أنَّه لا يعتقد بالحُسن والقُبح العقليَّين المراد منهما قدرة العقل على إدراك المحاسن والقبائح والفضائل والرذائل، كذلك - من الأولى أنَّه - لا يعتقد بالحُسن والقُبح الشرعيَّين المراد منهما معرفة المحاسن والقبائح والفضائل والرذائل عن طريق التعاليم الدينيَّة؛ بل نستشفُّ من مجمل آرائه ونظريَّاته أنَّه يعتقد بالحُسن والقُبح العاطفيَّين - إن صحَّ التعبير - بمعنى أنَّ المحاسن والقبائح والفضائل والرذائل تتبلور فقط في رحاب العواطف والمعرفة وليس عن طريق العقل أو النقل، ناهيك بأنَّنا لو سلَّطنا الضوء على الموضوع في رحاب الحُسن والقُبح الذاتيَّين وغير الذاتيَّين، نستنتج عدم اعتقاده بالحُسن والقُبح الذاتيَّين،[45] لأنَّه لا يعتبر المحاسن والقبائح والفضائل والرذائل -  والمبادئ الأخلاقيَّة كافَّة - واقعيَّةً، ولا يرى أنَّ سلوكيَّات الإنسان بجميع أشكالها تتَّسم بالحُسن والقُبح، بل كلُّ حُسن وقُبح إنَّما هو من صياغة عواطفه ومنبثق من مشاعره الذاتيَّة التي تستسيغ بعض الأمور الطبيعيَّة بحيث تساهم في صنع شيءٍ جديدٍ.[46]المقصود من هذا الكلام أنَّ المحاسن والقبائح والفضائل والرذائل بجميع أنواعها لا تتَّسم بهذه الميزات ذاتيَّاً بحيث تستقرُّ بهذا الشكل في طبيعة الأشياء والأفعال على نحو الثبوت والدوام، بل ترتكز على العواطف بشكلٍ حصريٍّ، لذا لو افترضنا تجرُّد النفس الإنسانيَّة عن العاطفة ففي هذه الحالة لا موضوعيَّة لكلِّ حُسن وقُبح وفضيلة ورذيلة، بل لا موضوعيَّة أيضاً للصواب والخطأ؛ وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ هيوم لا يعتقد بالحُسن والقُبح الشرعيَّين المقصود منهما اتِّسام الأشياء والسلوكيَّات بهاتين الميزتين على أساس التعاليم الدينيَّة باعتبار أنَّ الشريعة هي التي تقرُّ للإنسان ما هو حسن وتنهاه عمَّا هو قبيح، حيث سعى في هذا المضمار لتجريد الأخلاق من كلِّ ميزة دينيَّة باعتبارها شأناً متقوِّماً بذاته ولا دخل لأيِّ حكم شرعيٍّ فيه، لذا يمكن القول أنَّه يعتقد بالحُسن والقُبح العاطفيَّين فقط من منطلق تصوُّره أنَّ العواطف هي التي تجعل الحسن حسناً والقبيح قبيحاً، ومن ثمَّ فالأشياء والسلوكيَّات لا تتَّسم بذاتها بهاتين الميزتين، كما لا دخل للدين والأحكام والتعاليم الشرعيَّة في هذا الأمر، بل حتَّى الاتِّفاق الجماعيَّ والأعراف الاجتماعيَّة لا دخل لها في ذلك.

إذن، الحُسن والقُبح برأيه ليسا ثمرة للتعاليم الدينيَّة بشتَّى أنماطها، وليسا نتيجةً للاتِّفاق الجماعيِّ أو العقد الاجتماعيِّ، كما أنَّهما ليسا من ذاتيَّات الأشياء والسلوكيَّات؛ وإنَّما هما مصنوعان من عواطف الإنسان.

رابعاً: دور العقل في البحوث الماوراء أخلاقيَّة:

الموضوع الآخر الجدير بالشرح والتحليل على صعيد الدور الأخلاقيِّ للعقل في منظومة ديفيد هيوم الفكريَّة، هو نتائج الدراسات والبحوث التي دوَّنها هو وأمثاله في هذا المجال بغضِّ النظر عن رأيه بدور العقل في معرفة الأُسُس والمبادئ الأخلاقيَّة أو مدى تأثيره في تحفيز الإنسان على انتهاج سلوكيَّات أخلاقيَّة؛ لذا حينما نتساءل عن رأيه ونهجه المتَّبع في الدراسات والبحوث الخاصَّة بالمرتكزات الأخلاقيَّة سواءً لناحية تأثير العقل أم عدم تأثيره في هذا المضمار، نقول: بما أنَّ هيوم اعتبر الموضوع المذكور منوطاً بالواقع، فهو على هذا الأساس يعتقد بضرورة الاعتماد على التجربة العمليَّة والمشاهدة العينيَّة لكون المنهج الذي اتَّبعه بالنسبة إلى البحث والتحليل في مجال علم طبيعة الإنسان يتقوَّم من أساسه على أسلوب الاستنتاجات المختبريَّة، لذا فهو يعتبر هذا الأسلوب عقليَّاً، ومن ثمَّ لا بدَّ من تسرِيَته في الدراسات والبحوث الأخلاقيَّة باعتبارها جزءاً من علم طبيعة الإنسان.

إذن، العقل يفي بدور أساسيٍّ في الدراسات والبحوث المشار إليها والتي وصفها بأنَّها بحوث في مجال المبادئ الأخلاقيَّة، لكنَّ هذا الدور منوط بإحدى وظائف العقل فحسب، وهي الاستدلال الظنِّي أو العلِّي، ما يعني أنَّ وظيفته الأخرى المتمثِّلة بالبرهنة والاستدلال الانتزاعيِّ لا شأن لها بذلك لكونها تقتصر على بعض العلوم الخاصَّة مثل الرياضيَّات. من المهمِّ الإشارة هنا إلى أنَّ النتائج التي يتمُّ التوصُّل إليها في الدراسات الأخلاقيَّة على ضوء تطبيق الأسلوب التجريبيِّ - والمباحث المختصَّة بطبيعة الإنسان بشكل عامّْ - لا تقلُّ شأناً عن سائر العلوم البشريَّة من حيث بلوغها درجة اليقين، وإيجادها الطمأنينة لدى الباحث بما توصَّل إليه في دراساته. لكن هل يتناغم هذا الأمر مع المبادئ الفلسفيَّة التي تبنَّاها هيوم؟ هل يمكن اعتبار بناء قصر عظيم مثلًا من جملة المبادئ الأخلاقيَّة وأصولها الكامنة في الطبيعة الإنسانيَّة بحيث أنَّ الفضائل والرذائل بأسرها مصونةً من كلِّ طارئ خارجيٍّ يطالها وكلِّ شكٍّ يكتنفها؟ أي هل يمكن الاعتماد على نظريَّة هيوم في هذا الصعيد عبر الاعتقاد بكون الاستدلال العلِّيِّ الذي يفوق حواسَّ الإنسان وقابليَّته الفكريَّة مصدراً وحيداً لمعرفته بهذه المبادئ؟ من جملة ما قاله في هذا الصدد: إنَّ عادتنا وغريزتنا هما المرتَكَز الأساسيَّ في هذا الاستدلال، وبما أنَّ هذه الغريزة هي على غرار سائر الغرائز الكامنة في أنفسنا لذا لا يُستبعد أن تكون خاطئة.[47] وهنا يُطرح السؤال: ترى لو تمسَّك هيوم بمواقفه الفكريَّة السابقة، أليس من الممكن في هذه الحالة التشكيك بكلِّ ما ذكره بالنسبة إلى الأخلاق وسائر العلوم بحيث ينتقض كلُّ رأيٍ له وفق ما ذكر أعلاه؟ وهذا المضمون أكَّد عليه بنفسه حينما قال: كلُّ كتاب لا يتضمَّن استدلالاً مبرهَناً أو علِّيَّاً أدرجوا مضمونه في العادة والغريزة.[48]بناءً على ما ذكر، إمَّا أن تكون المنظومة الفلسفيَّة لهذا المفكِّر الغربيِّ متزعزعة وغير منسجمة من حيث مبادئها وتعاليمها، أو أن نقول بأنَّه تأثَّر في هذه المباحث بالإنجازات الفيزيائيَّة التي حقَّقها إسحاق نيوتن وغيره بحيث سعى فيها لتفنيد الآراء والمعتقدات التي تبنَّاها أسلافُه من أصحاب النزعة العقليَّة لكونه غفل عن أنَّه بنفسه تبنَّى أصولاً فكريَّةً ومبادئ ترِدُ عليها ذات الإشكالات التي أوردها عليهم؛ أو ربَّما هناك إجابة مضمرة في منظومته الفكريَّة فحواها أنَّنا بغضِّ النظر عن مدى رسوخ قابليَّاتنا المعرفيَّة والعقليَّة، فإذا اعتمدنا على عقولنا وقابليَّاتنا الإدراكيَّة سوف نتوصَّل إلى تلك النتائج، أو على أقلِّ تقدير سنحصل على إجابة تعمُّ كلَّ هذه الاحتمالات. هذا الموضوع في الحقيقة ما زال مطروحاً على طاولة البحث والتحليل بين مختلف الباحثين الذين يتطرَّقون إلى بيان معالم مدرسة هيوم الفكريَّة.

خامساً: هيوم والعقل العمليّْ:

هل يعتقد ديفيد هيوم بالعقل العمليّْ؟ سؤالٌ الإجابة عنه منوطة بالمقصود من هذا العقل، فإذا كان مجرَّد قابليَّة الإنسان على القيام باستدلال واستنتاج عقليٍّ أو بأيِّ نشاط عقليٍّ له ارتباط على نحوٍ ما بأفعاله وسلوكيَّاته، ففي هذه الحالة يمكن ادِّعاء أنَّ هذا الفيلسوف يعتقد بالعقل العمليِّ، لأنَّه حتَّى وإن كان معتقداً بكون العقل ليس ذا تأثير مباشر على أفعال الإنسان وسلوكيَّاته لكنَّه يقرُّ بقدرته غير المباشرة على إرشاده إلى تلك القضايا الحقيقيَّة التي تُسفر عن تبلوُر رغباته وانفعالاته وصياغتها على نحو الفعليَّة؛ ومع ذلك فهو لم ينط به قدرةً في مجال الأخلاق، ما يعني اعتقاده بكون العقل العمليِّ مجرَّد وسيلة[49] لا أكثر، لذلك تبنَّى هذه الوظيفة العقليَّة لكنَّه لم يُشر إلى مصطلح «العقل العمليِّ» بالتصريح، بل أشار إلى مفهوم العقل الاستدلاليِّ الذي يمنح الإنسان معلومات في مجالات معيَّنة باعتباره وسيلةً مسخَّرة في خدمة عواطفه ومشاعره لا غير.

الحقيقة أنَّ ما أكَّد عليه هيوم هو مجرَّد جانب من الوظائف التي تترتَّب على نشاطات العقل النظريِّ في مجال سلوك الإنسان وأفعاله، لكن إذا اعتبرنا العقل العمليَّ بكونه قابليَّة معرفيَّة تستكشف القضايا العمليَّة والسلوكيَّات الَّلائقة وغير الَّلائقة، وبما في ذلك معرفة حُسن الأفعال وقُبحها، أي تلك الأحكام الأخلاقيَّة التي سواء أكانت تمثِّل القدرة على معرفة الأحكام الأخلاقيَّة الكلِّية في مجال إدراكات الإنسان وكذلك معرفة الأحكام الجزئيَّة،[50] أم كانت تمثِّل محض القدرة على معرفة الأحكام الجزئيَّة،[51] أو سواء اعتقدنا بأنَّ الدافع والرغبة أو عدم الرغبة والبغض هي أمور لا تكتنف ذهن الإنسان إلَّا بعد أن يدرك عقله الأحكام الأخلاقيَّة؛ فما يدركه في ذاته إزاء القيام بأحد الأفعال أو تركها هو في الواقع حصيلة لهذا العقل[52] - أي العقل العمليَّ - كذلك الأمر سواء إذا اعتقدنا بأنَّ الرغبة وعدمها ناشئة من قابليَّة أخرى مثل القدرة الشوقيَّة والنزوعيَّة التي تعدُّ خادمةً للقدرة العقليَّة.[53] في جميع الأحوال، فالحصيلة النهائيَّة هي أنَّ هيوم لا يعتقد بالعقل العمليِّ، حيث نستشفُّ من شرحه وتحليله لمفهوم العقل، ونستنتج من جملة الوظائف التي أناطها به، أنَّه لا يرى وجود عقل كهذا لكون الأحكام الأخلاقيَّة برأيه خارجة عن نطاق الصدق والكذب المختصِّ بالعقل فحسب؛ لذا لا يمكن ادِّعاء اعتقاده بتلك القابليَّة الإدراكيَّة والمعرفيَّة التي تستكشف الأحكام الأخلاقيَّة وتعيِّن نطاقها، ومن ثمَّ لا مَحِيص من القول بأنَّه أناط وظائف العقل العمليَّ - التي يُرادُ منها تشخيص الأحكام الأخلاقيَّة - بالعواطف والمشاعر - أي الانفعالات الباطنيَّة التي تكتنف الإنسان - وهذا يعني أنَّ هذا العقل ليس سوى محرِّك أو دافع عمليِّ لا يحظى بأيِّ جانب إدراكيِّ بحيث أنَّ النفس هي التي تقوم بذلك الفعل اعتماداً عليه فتتصرَّف إثر ذلك بالقوى البدنيَّة؛[54] وفي هذه الحالة أيضاً نتوصَّل إلى نتيجة فحواها عدم اعتقاده بالعقل العمليّْ.[55]

الجدير بالذكر هنا أنَّ هيوم عزا الرغبة والبغض إلى عاطفة الإنسان ومشاعره، ولم يعزوها إلى العقل، حيث يعتبر العقل مختلفاً بالكامل عن الدافع. وفي هذا السياق أكَّد على أنَّ الرغبة المنبثقة من الدافع لا يمكن أن تنشأ من العقل بتاتاً، ومن هذا المنطلق رفض كلَّ تأثير إبستيمولوجيٍّ للعقل في مجال الأحكام الأخلاقيَّة، فهذه الرؤية تُعدُّ مرتَكَزاً أساسيَّاً في إنكاره تأثير العقل على الأحكام والمبادئ الأخلاقيَّة.

نتيجة البحث

نستنتج من جملة ما ذُكر أنَّ ديفيد هيوم ابتدأ منظومته الفكريَّة على صعيد الأخلاق - بل منظومته الفكريَّة بأسرها - بتضييق نطاق العقل قدر المستطاع، لكن كلَّما تعمَّقنا في تفاصيل دراساته وبحوثه الَّلاحقة نجده قد نأى بنفسه عن انطلاقته الأولى هذه من خلال اعتماده على أُسُس عقليَّة ضمن مجمل أفكاره التي تبنَّاها حول مختلف القضايا، فقد اتَّخذ العقل مرتَكَزاً أساسيَّاً لطرح آراء ونظريَّات أكَّد على أنَّ مضمونها من حيث درجة اليقين يضاهي ما توصَّلت إليه سائر العلوم البشريَّة إن لم يكن أعلى درجة منها.

أمَّا بالنسبة إلى منظومته الفكريَّة الأخلاقيَّة بالتحديد، فعلى الرغم من تأكيده على الدور الأساسيِّ للعواطف في مجال المبادئ والأحكام الأخلاقيَّة، إلَّا أنَّه انحرف عن هذه الرؤية في بعض مباحثه بعدما  اضطُرَّ إلى أن يُنيط بالعقل دورًا عمليًّا على الصعيد الأخلاقي، وهذا الدور في الواقع إن لم يكن بالمستوى الذي أناط العواطف به، فهو ليس أدنى منه بكلِّ تأكيد.

لقد أغلق هذا الفيلسوف الغربيُّ الباب أمام العقل على الصعيد الأخلاقيِّ بعدما فنَّد كلَّ تأثير له على الأحكام والمبادئ الأخلاقيَّة، لكنَّه بعد ذلك حاد عن رؤيته هذه بشكلٍ غير معلنٍ، ولربَّما كان حيادُه عنها عن غير وعي، حيث جعل العقل مؤثِّراً على صعيد ما ذكر بعدما  انتشله من البؤرة التي طمسه فيها، ومن دون أن يذكر بصريح العبارة، فقد أثبت أنَّنا ما لم نتمسَّك بأحكام العقل فسوف لا يتسنَّى لنا امتلاك أيِّ نظام أخلاقيّْ.

------------------------------------


[1]*ـ أستاذ مساعد في فرع الفلسفة بمركز بحوث الحوزة والجامعة ـ إيران.

ـ  هذه المقالة نُشرت في مجلَّة “فلسفة ودين”(I S C) - (السنة الأولى) 2004م / العدد 1 / الصفحات 117 إلى 136

ـ ترجمة: أسعد مندي الكعبي، إشراف المركز الإسلاميِّ للدراسات الاستراتيجيَّة.

[2]- Hume David, An enquiry concerning the principles of morals, in: Hume, 1989.

[3]- reason

[4]- Hume David, A Treatise of human nature, Selby - Bigge and Nidditch (des), Oxford University Press, 1978.

[5]- understanding , intellect , judgment , imagination , memory , senses.

[6]- reasoning.

[7]- Owen, David Hume`s reason, Oxford University Press, 1999, p. 1.

[8]- Norton David Fate, David Hume: Common - Sense moralist, Skeptical Metaphysician, New Jersey: Princeton  University, 1982, p. 96.

[9]- demonstrative.

[10]- probable

[11]- Hume David, Enquiries concerning human understanding and concerning the principles of moral, Selby - Bigge an Naidditch (des), Oxford University Press, 1989, p. 25

[12]- Hume David, A Treatise of human nature, Selby - Bigge and Nidditch (des), Oxford University Press, 1978, p. 458

[13]- experience

[14]- Hume David, Enquiries concerning human understanding and concerning the principles of moral, Selby - Bigge an Naidditch (des), Oxford University Press, 1989, p. 28

[15]- Ibid, p. 43 - 44

[16]- Hume David, A Treatise of human nature, Selby - Bigge and Nidditch (des), Oxford University Press, 1978, p. 179

[17]- reasoning

[18]- cogitative

[19]- sensitive

[20]- Hume David, A Treatise of human nature, Selby - Bigge and Nidditch (des), Oxford University Press, 1978, p.183

[21]- belief

[22]- instinct

[23]- habit or custom

[24]- Biro John, Hume`s new science of the mind, in: Norton - 1998, p. 59 - 60

[25]- passions

[26]- a priori

[27]- Hume David, Enquiries concerning human understanding and concerning the principles of moral, Selby - Bigge an Naidditch (des), Oxford University Press, 1989, p. 287

[28]- thought , reflection , pure reason , intellectual facilities , knowledge , argumentation , argument , induction , truth and falsehood

[29]- taste , heart , sense , feeling , passion , emotion , affection or desire , tendency , internal sense , propensity or aversion , moral sense , beauty and deformity.

[30]- أي الأفعال التي تختصُّ بجوانح الإنسان.

[31]- أي الأفعال التي تختصُّ بجوارح الإنسان.

[32]- Hume David, Enquiries concerning human understanding and concerning the principles of moral, Selby - Bigge an Naidditch (des), Oxford University Press, 1989, p. 289

[33]- ديفيد هيوم اعتبر كلَّ ما يرتبط بالنفس إدراكًا، وفي هذا السياق صنَّف الإدراكات - الـمُدركات - حسب درجة تأثيرها وقوَّتها إلى صنفين هما الانطباعات والتصوُّرات.

الانطباعات برأيه عبارة عن إدراكات تتلقَّاها النفس الإنسانيَّة إمَّا عن طريق الحواسّ أو من خلال الانفعالات والعواطف.

وأمَّا التصوُّرات فقد اعتبرها إدراكات ضعيفة أقلَّ قوَّةً من الانطباعات وتنشأ منها، لذا فهي بمثابة متلقَّيات ضعيفة منها، أي أنّ َكلَّ تصوُّر ليس سوى شيء يتمُّ تلقِّيه بصفته انطاعاً ضعيفاً.

أضف إلى ذلك أنَّ كلَّ انطباع وتصوُّر إمَّا أن يكون بسيطاً أو مركَّباً، والتصوُّرات المركَّبة بدورها تصنَّف ضمن ثلاثة أقسام هي الجواهر والحالات والارتباطات أو النسب.

[34]- Hume David, Enquiries concerning human understanding and concerning the principles of moral, Selby - Bigge an Naidditch (des), Oxford University Press, 1989, p. 75

[35]- Hume David, A Treatise of human nature, Selby - Bigge and Nidditch (des), Oxford University Press, 1978, p. 468 - 469.

[36]- Ibid, p. 457.

[37]- Ibid, p. 414.

[38]- Hume David, Enquiries concerning human understanding and concerning the principles of moral, Selby - Bigge an Naidditch (des), Oxford University Press, 1989, p. 294.

[39]- Ibid, p. 290.

[40]- ثاني مبدأ أخلاقيٍّ هو حُسن الخُلق - الفضيلة - ومعناه الأمر المرغوب الذي يغرس البهجة في ذات الإنسان، وديفيد هيوم بدوره اعتبر السلوك الإنسانيَّ متَّصفاً بالفضيلة حينما يستبطن نفعاً لفاعله أو للآخرين.

[41]- Hume David, Enquiries concerning human understanding and concerning the principles of moral, Selby - Bigge an Naidditch (des), Oxford University Press, 1989, p. 285 - 286.

[42]- appearances

[43]- Hume David, A Treatise of human nature, Selby - Bigge and Nidditch (des), Oxford University Press, 1978, p. 603

راجع أيضاً:

Hume David, Enquiries concerning human understanding and concerning the principles of moral, Selby - Bigge an Naidditch (des), Oxford University Press, 1989, p. 227 - 229.

[44]- Stroud Barry, Hume, London and New York, Routledge, 1977, p. 191.

[45]- هذا الكلام يرِدُ حينما يكون المقصود من الحُسن والقُبح الذاتيَّين ما ذُكر في النصِّ، وإلَّا إن اعتبرنا الذاتيَّ بمعنى غير الشرعيِّ، فمن الواضح هنا لا بدَّ لنا من القول أنَّ هيوم يعتقد بالحُسن والقُبح الذاتيَّين.

[46]- Hume David, Enquiries concerning human understanding and concerning the principles of moral, Selby - Bigge an Naidditch (des), Oxford University Press, 1989, p. 294.

[47]- Ibid, p. 159.

[48]- Ibid, p. 165.

[49]- instrumentalism

[50]- الجدير بالذكر هنا أنَّ الفارابي تبنَّى هذا الرأي.

[51]- هذا ما يبدو من كلام ابن سينا في بعض مدوَّناته.

[52]- هذا الرأي ينسب إلى إيمانوئيل كانط.

[53]- بعض الفلاسفة المسلمين يعتقدون بهذا الرأي، حيث يعتبرون الشوق مستقلَّاً عن الحكم والإدراك العقليَّين.

[54]- هذا الرأي طرحه الباحث بهمنيار لدى تعريفه العقل العمليَّ في كتاب “التحصيل”.

راجع: بهمنيار بن المرزبان، التحصيل، تصحيح وتعليق مرتضى مطهَّري، إيران، طهران، منشورات جامعة طهران، 1970م، ص 789 كذلك طرحه الغزالي حول الموضوع ذاته في كتاب “مقاصد الفلاسفة”.

راجع: محمَّد بن محمَّد الغزالي، مقاصد الفلاسفة، تحقيق الدكتور سليمان دنيا، مصر، القاهرة، منشورات دار المعارف، 1961م، ص 359.

[55]- المقصود من هذا الكلام أنَّ ديفيد هيوم كان يعتقد بقابليَّة كهذه، لكنَّه لم يذكرها في مباحثه تحت عنوان “العقل”.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف