البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

November / 2 / 2020  |  1436قوة التعريف في عملية الإقناع والاستجابة لدى الشعوب

زينب عقيل مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير
قوة التعريف في عملية الإقناع والاستجابة لدى الشعوب

القابلية للاستعمار، هو المصطلح الذي استخدمه مالك بن نبي في كتابه مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي. يتحدّث بن نبي عن مسألة استيراد الأفكار من العالم الغربي ويضعها في إطارين: إما أفكارًا ميّتة، وإما أفكارًا مميتة.

فالأفكار الميتة هي تلك التي ليس لديها جذور في بوتقة الثقافة الأصيلة للعالم الإسلامي. أما الأفكار المميتة، فهي تلك التي خلّفت في عالمها الأصلي جذورها ووفدت إلى عالمنا. ويرى أن الأفكار الميتة بدورها تستدعي الأفكار المميتة.

من جهتنا، نضيف إلى نظرية مالك بن نبي على فكرة الأفكار المميتة، أنها عندما تكون جذورها في عالمها الثقافي الأصلي، فإنّ ثمة من يطعّم هذه الجذور ويعتني بها، حتى تنتج ثمرةً تُستَخدم كطُعم، يتمُّ من خلاله اصطياد الشعوب، وبالتالي يجعلها قابلة للاستعمار.

ما أسماه بن نبي عام 1970 "أفكارًا مميتة"، تسميه النخب اليوم "حرب المصطلحات". لكن اللافت أنّ هذه النخب _وخاصة الإسلامية منها- والتي تقف في الصف الأول في مواجهة الاستعمار، وإن كانت هي نفسها لا تأكل الطعم، إلا أنها تحتفظ به، وتساعد في إطعامه.

يمكن أن نضيف اليوم إلى مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي أننا نعي المشكلة لكننا لا نفعل شيئًا حيالها.

فهل يكفي الوعي بالمشكلة؟ وهل عدم الاكتراث والاستمرار في استخدام مصطلحات العدو هو أمر لا يضعف الجبهة؟

تحت هذا العنوان سنتحدث عن عمليات انتاج هذه "الطعوم" – المصطلحات. وكيف تتم تخبئة التعريفات في الأسماء التي يطلقونها على الأشياء والأحداث والعمليات وحتى الأشخاص.

وكيف ينجح العدو في كسب نصف المعركة عندما نعمد إلى تبني أدبياته. وكيف يتمكن العدو من إقناع الشعوب الضحايا بأن يروا العالم كما يراه، وأن يقيّموا الأحداث كما يقيّمها.

قد لا يبدو للوهلة الأولى أن المصطلحات ومن خلفها التعريفات والتسميات يمكنها أن تنجز كلّ ذلك. الواقع أنه يمكنها. بل تستطيع. خاصة وأن الرأي العام يفضّل أن يصدّق الخطابات السارية والجاهزة على أنها هي الحقيقة، بل هي العدالة. فالناس لا تبحث في الأمور المعقدة غالبًا. صحيحٌ أنه يمكنها اكتشاف الحقيقة، لكن بعد فوات الأوان، أي بعد أخذ الطعم وتأدية السلوك المناسب.

هذه القوة، قوة اللغة التي تنتج هذه المصطلحات، تكمن بقدرتها على تهدئة الرأي العام، أو تثويره، أو إبهاره أو تثبيطه. كل هذه الانفعالات تتحكم بها المصطلحات وتسمياتها وتعريفاتها.

بين المصطلح "المفهوم" والمصطلح "التسمية"

في التعاملات اليومية، تأمل جيدًا، سترى أنّ جميع الناس سفسطائيون بنسب متفاوتة. يطوعون اللغة، الكلمات، والمصطلحات المتداولة بينهم، بحسب حاجاتهم. ومن لا يجد مصطلحًا متداولًا يلبيه، سيطوّع له واحدًا، ويجنّده حتى تنتهي حاجته إليه. الواقع أنه لدى الناس حسّ مشترك لفهم الكلمات التي يتم إطلاقها على التعريفات والعمليات والأفكار في تعاملاتهم اليومية. لكن قلة من الناس سيسألونك مثلًا: "ماذا تقصد بكلمة "الحياد"؟

عندما يتم تحديد مشكلة عامة في المجتمع، ثم يتم مناقشة حلول لها، ومن ثم المجادلة في القيم الاجتماعية المتصلة بالحلول المقترحة لها، ومن ثمّ طرح قوانين تضمن هذه الحلول، وفرض أشخاص يدفعون باتجاه تثبيتها، فتلك هي السياسة، وفقط هؤلاء الأشخاص المعنيين هم من سيتولون مهمة الكشف عن الإشكاليات، وسيعرفون الناس على الأطراف المعنية، ولماذا أخذت هذه الأطراف تلك الوضعيات. والسؤال: هل ستكون عملية التعريف بالمعطيات سوى منحازة إلى ما يخدمهم من توجهات؟

يقف الناس أمام القضايا في الحوارات المجتمعية فيتبنون ما يرونه صائبًا بحسب منطلقاتهم الفكرية وخلفياتهم الثقافية. وبحسب قوة هذه القضايا في العقل الجمعي. وأغلب الناس، لن يدخلوا الحوار المجتمعي حتى يحصل ما يجذب انتباههم، مثل قضايا الفضائح وحوادث العنف والكوارث الطبيعية. فالملاحظ أن الإعلام أكثر ما يُنتِج وأن الناس أكثر ما يستهلكون من أخبار يكون لدى حصول هذه الظواهر. ثم يعودون إلى حياتهم الطبيعية حينما يضعف الخبر وتتغيّر العناوين الرئيسية لنشرات الأخبار. وبعد الهدوء فإنهم سيضيعون في متاهات الحدث، لأنهم لا يعرفون تاريخ المشاكل التي يتناقشونها، ولا يعلمون الحلول التي تم اقتراحها واندثرت قبل عشرين عامًا، ولا المحاولات الفاشلة في السنوات العشر الماضية، لأنها عناوين لم تبدو مؤثرة على يومياتهم بشكل مباشر، ولا يفهمون سبب أن بعض الأشخاص شغوفين بها.

الواقع أن هذا التواصل والتفاعل بين الناس هو الميدان للسياسة، أما ألأدوات، فهي اللغة والكلمات والمصطلحات التي يتم إطلاقها، وطريقة استخدام هذه المصطلحات هي ما يحدد نجاحها. في الحرب العالمية الثانية، واجه تشرشل رئيس الوزراء البريطاني معارضة شرسة من حزب المحافظين ورئيس الوزراء السابق نيفيل تشامبلرين الذي أطاح به تشرشل. وعلى الرغم من شراسة خصومه السياسيين، إلا أنه استطاع إقناعهم بإدخال بريطانيا في الحرب على هتلر، وجعل تشامبلرين يلوّح بمنديله، ويهتف أعضاء مجلس العموم بحماسة هتافات التأييد. يسأل أحدهم وزير الخارجية اللورد هاليفاكس: "ما الذي حصل للتو؟"، فيجيب: " لقد حشد اللغة الإنكليزية وأرسالها إلى الميدان". تشرشل الكاتب الذي فاز بجائزة نوبل للآداب في العام 1953، تصفه صحيفة الغارديان بأنه "صائغ في مملكة الكلمة"، ويقول الكاتب البريطاني بيتر كلارك في كتابه "مهنة السيد تشرشل.. رجل دولة وخطيب وكاتب"، بأن تشرشل قد صنع التاريخ لأنه آمن أنّ "الكلمة هي الشيء الوحيد الذي يبقى للأبد".

إرهاب الغموض

إن العلاقة بين الكلمات والأشياء هي علاقة لا تتقيد بقواعد ولا يلتفت الناس إلى تعليلها. إننا نتداول الكلمات على أنها رموز للأشياء، وهذه الرموز هي التسميات. والتسمية ذاتها لا تتضمّن تبريرًا. كلمة الديموقراطية مثلًا لن توحي بأي معنى لغير الشعب اليوناني الذي عاش قبل آلاف السنين. ليس هناك تعريف واحد لهذا المفهوم الذي يتم تداوله في الفضاء الاجتماعي، فالديموقراطية شيء يتطور ويتغير باستمرار. الجميع متفقون أنها على وجه التقريب "حكم الشعب"، لكنهم لن يقدموا تعريفًا واحًدا بسبب اختلاف آلياتها وإجراءاتها، واختلاف انطباعاتها في وجدان الشعوب.

ربما من الأفضل أن تبقى كلمة "ديموقراطية" غامضة. فالغموض يُدخلها في "فنّ الإمكان"، فيجعلها طيّعة تدور مع مصلحة الجهات كيفما دارت. فالغموض هو استراتيجية ديبلوماسية تمامًا كما هو استراتيجية كتابية في فنّ الصياغة. ذات مرة، صوّر ميشيل فوكو[1] أسلوب داريدا[2] في الكتابة على أنه يمارس "إرهاب الغموض"، ذلك أن نصّ داريدا مكتوب بلغة غامضة جدّا لدرجة أنك لا تستطيع أن تستوعب بالضبط ما هي الفكرة، وبعد ذلك إذا أراد أحدٌ انتقاد النص، يقول له داريدا، "أنت أسأت فهمي.. أنت مغفّل". لأجل ذلك يعتبره فوكو "إرهاب". فالغموض المتعمّد، -وليس الغموض الذي فرضته المعطيات الموضوعية للفكرة-، هدفه إكراه المتلقي على الإذعان، وبثّ المهابة في نفسه، ويُنظر فيه على أنه عمق. إذ ثمة تقليد راسخ يقضي بأن تكون القضايا العليا أو المثالية معقدة وغير مفهومة، وهذه علاقة لا واعية بين الغموض والعمق. إن في النفس البشرية دوافع مختلفة للانصياع والخضوع والتسليم، تضفي جاذبية على الغموض وسحرًا على الإبهام. يستغلها السياسيون فيلجأوا إلى استخدام المصطلحات الغامضة في المناطق الرخوة من خطاباتهم التي لا يريدون للمتلقي أن يصطادها خوفًا من أن يقعوا في أزمات سياسية. فعندما لا يتمكن المتلقي من تثبيت ما يريده القائم بالاتصال، لن يستطيع محاكمته.

إن عدم الوضوح قد يخدم القائم بالاتصال في حال أراد تغييب السياق عن الجمهور، أو أراد إخفاء جزء من الحقيقة، أو تمرير ما لا يمكن قبوله -جماهيريًا- دفعة واحدة.

القضايا بين "التسمية" و"التعريف"

لدى عنونة الكتب، يمكن العودة إلى عنوان الكتاب بعد الانتهاء من قراءة صفحاته لمعرفة إذا ما كان العنوان مناسبًا للمحتوى، أما لدى عنونة القضايا فإن إمكانية قراءة الأحداث كاملة ثم العودة للتحقق يبدو أمرًا معقّدا. في الاتصال السياسي تتم عنونة القضايا بنوعين من المسارد اللفظية، إما مصطلح تسمية أو مصطلح تعريف. في “التسمية" لا تحتاج إلى تبرير لإطلاق هذا الاسم على هذا الشيء أو تلك الفكرة، أما في "التعريف" فإن المصطلح سيتضمن على الأقل أمرًا واحدًا يعبّر عن مضمون القضية[3].

عام 2012 طرح رئيس الجمهورية اللبناني السابق ميشال سليمان (2008-2014) "إعلان بعبدا". وهو وثيقة تحتوي على بنود هي نفسها البنود الموجودة في "مذكرة الحياد الناشط" التي أطلقها البطرك الراعي عام 2020.

"إعلان بعبدا" هو تسمية لمذكرة لا تنطوي على تعريف، أما "الحياد الناشط" فهو تسمية تتضمن تعريفًا تدور حوله بنود المذكرة. وفي الاتصال السياسي بين القائم بالاتصال وبين الجمهور، سيكون عنوان "الحياد الناشط" أكثر فاعلية وتأثيرًا لدى الجمهور. لأن غير المهتمين من الناس لن يبحثوا في محركات البحث ولا عبر شاشات التلفزة عن بنود "إعلان بعبدا" مهما كان تداول العنوان واسعًا. ذلك أن القائم بالاتصال سواء كان وسيلة إعلامية أو سياسي، لن يقول مثلًا: "إعلان بعبدا الذي تدور بنوده حول الحياد". لكن عندما يتم ذكر "لبنان والحياد الناشط"، فإنّ الجماهير ستتلقى رسالة "الحياد" في كل مرة ستذكر فيها المذكرة. 

قوة الخلق والتدمير

قالت العرب إن القتل بالكلمات هو أبشع أنواع القتل. ويقول الباحث الأسترالي بيل أشكروفت[4] وهو أحد أهم رواد الدراسات ما بعد الكولونيالية في العالم: "اللغة قوة، لأن الكلمات تبني الواقع". فاللغة هي من أكبر مصادر القوة قد تفوق في كثير من الأحيان قوة المال، أو قوة السلطة، أو حتى قوة المعرفة. " إنما نحكم العالم بكلماتنا" يقول نابليون بونابرت.

الواقع أن علاقة اللغة بالقوة هي علاقة جدلية. ثمة مفردات يمكن اختيارها دون غيرها لخلق فكرة معينة في أذهان الآخرين، أو لتدمير أخرى.  ولكي تملك المفردات هذه القوة ينبغي أن تتوفر لها الاعتبارات التالية: ماذا تقول؟ لماذا تقول؟ متى تقول؟ أين تقول؟ وكيف تقول؟

لنأخذ مثالًا على ذلك: من أين جاءت كلمة "الفيتو"؟ ليس في ميثاق الأمم المتحدة ذكر لهذه الكلمة على الرغم من أنها الآلية الأكثر إثارة للمشاكل هناك. والأمر المثير والجدير بالذكر أن أول ما استخدمت هذه الآلية في مجلس الأمن كانت في وقت تنفرد فيه روسيا بالأصوات السلبية.

يمكن تمييز ثلاثة أشكال لهذه الآلية: “الأصوات المتوافقة للأعضاء الدائمين"، وعندما يمارسه الروسيون فهو "فيتو"، وعندما يمارسه الأمريكيون فهو " إجماع". ثمة تمييز بين هذه الأشكال الثلاثة لكن بدون اختلاف. فالمرجع هو نفسه، لكن ثمة قوة انفعالية لكل واحدة تختلف على الشكل التالي:

فحين تقول الولايات المتحدة بأن روسيا وضعت فيتو، فإن كل اللوم في التعطيل سيقع على دولة واحدة، أما عندما يكون الكلام بأننا "أخفقنا في تحقيق الإجماع" فإن اللوم يتوزع على الجميع. هذان التعبيران هما أكثر من مصطلحان مختلفان لعملية واحدة. الأول يركّز اللوم، والثاني يوزعه. الأول يقتضي إنهاء العملية، والثاني يشجع على الاستمرار بها. الأول يومئ بالصبر والثاني يشير إلى الحذر. لكن للمفارقة، أنه بعدما مالت القوة عن هيمنة الولايات المتحدة على مجلس الأمن، أُسقِطَت الحكومة الأميركية في أدبياتها ودلالاتها، حيث أصبحت هي المنفردة بالتصويت السلبي والتعطيل، وصارت تجني ثمار مصطلحاتها السياسية[5].

ولنأخذ مثالًا آخر، المنطقة الواقعة بين تلعفر جنوب العراق وبين مندلى جنوبًا، وهي مناطق مختلطة تتعايش فيها مجموعة من القوميات والطوائف: عرب، أكراد، تركمان، مسلمون ومسيحيون. تشكل مساحة هذه المنطقة ربع مساحة العراق. يرى الأكراد أنها منطقة مقطوعة من كردستان وأنها امتداد جغرافي لها، وترى الحكومة العراقية أنها منطقة مختلطة متعايشة تسكنها قوميات هي في النهاية عراقية. تم إيرادها في دستور العراق وبتوصية من بول بريمر على أنها "المناطق المتنازع عليها"، وبريمر هو دبلوماسي أمريكي عينه جورج بوش بعد اجتياحه للعراق عام 2003 رئيسًا للإدارة المدنية للإشراف على إعادة إعمار العراق. ربما لم يخطر ببال اللجنة السياسية التي أدارت كتابة الدستور الجديد للعراق المغزى الحقيقي لهذا المصطلح وما الذي يمكن أن تؤول إليه الأمور بسببه. الواقع أن استخدام مصطلح "المنطقة المتنازع عليها" سيفتح المجال أمام شرعية النزاع. فتعريفها على أنها متنازع عليها سيعترف بأطراف نزاع، ولن تعود الدولة العراقية هي الحاكمة الشرعية الوحيدة المخوّلة سيادتها على المنطقة. فهل كان يعرف من وقّع على الدستور بأنه يتخلى عن جزء من سيادته، وأنه كان من الأجدر تسميتها "المنطقة المختلطة المتعايشة"؟ وبعد ذلك فلتتعامل الدولة العراقية مع هذه القضية بحسب ما تراه مناسبًا، لكن بعد تثبيت الخط الأحمر بأن هذه المناطق عراقية فحسب.

القدرة على الإرغام

الإرغام غير العسكري[6] هو أحد وسائل الولايات المتحدة للضغط على الدول المعادية لها. مجموعة استراتيجيات تعتمدها واشنطن توضع لهذه الغاية يستخدمها الأميركيون ببراعة لتحقيق أهدافهم من دون استخدام القوة العسكرية. منها الحصار البحري على كوبا فيما عرف بـ "أزمة الصواريخ الكوبية" أو "أزمة الكاريبي" عام 1962 ضمن أحداث الحرب الباردة. عندما كشفت طائرة تجسس الأمريكية وجود قواعد صواريخ سوفيتية نووية تحت الإنشاء في كوبا. فكّرت الولايات المتحدة في مهاجمة كوبا عن طريق الجو والبحر وهو عمل لا تحبّذه لأنه سيستدعي حربًا، فاستقر الرأي على الحظر العسكري. فكتب الزعيم السوفياتي خروتشوف في رسالة إلى كنيدي بأن "حظر الملاحة في المياه الدولية أو المجال الجوي يشكل عملاً من أعمال العدوان تدفع البشرية إلى هاوية حرب صواريخ نووية عالمية". وبعد مجموعة من الاتصالات السرية بدأت اقتراحات لحل الأزمة أبقت على الحصار الأميركي على الرغم من إزالة السوفييت لجميع أنظمة الصواريخ ومعدات الدعم. فكيف حصل ذلك؟

في أول خطاب له عن تلك الأزمة، أطلق كينيدي خطابًا أعاد فيه تعريف الحصار على الشكل التالي: "لوقف هذا الحشد العدواني سنحجر وبصرامة على جميع المعدات العسكرية العدائية التي يجري شحنها إلى كوبا. جميع السفن المتجهة إلى موانئ كوبا والقادمة من أي جهة كانت إذا وجد أنها تحتوي على شحنات من أسلحة عدوانية فسنعيدها. هذا الحَجْر سوف يتم توسعته إذا اقتضت الضرورة ليشمل أنواعاً أخرى من البضائع والمنقولات. نحن لا نريد أن نمنع أي ضرورات إنسانية وفي هذا الوقت بالذات كما حاول السوفييت فعله عندما حاصروا برلين عام 1948".

الواقع أن استخدام مصطلح "حجر" بدل "حصار" يأتي في إطار المراوغة السياسية لفرض إرادة الولايات المتحدة مع الإبقاء على مكاسبها والحفاظ على أهدافها. ففي القانون الدولي يعتبر الحصار عملًا عدائيًا بمثابة إعلان الحرب على روسيا، والروسيون ملزمون بشرف الرد بالمثل على هذا العدوان، الأمر الذي يعني إعلان الحرب. وهذا ما لا يريده الأميركيون.   فقرروا استخدام مصطلح "حجر". أشار هذا الاستخدام للروس بأن الأميركيين لا يريدون الحرب. كما أن مصطلح "الحجر" لا يمسّ السيادة الروسية بشيء. أضف إلى ذلك أن كلمة "حجر" تستخدم لدى الأزمات الطبية، والحجر هو تصرّف قانوني. وأخيرًا سيصبح النظر إلى العملية على الشكل التالي: الصواريخ الروسية المزروعة في التراب الكوبي يتماثل مع زرع جرثومة ما ستكون خطيرة على أصحاب الأرض أولًا وعلى جيرانهم ثانيًا. وبتعبير آخر، إن اختيار كلمة "حجر" عملت على تهدئة الكوبيين من جهة، ومن جهة ثانية سجّلت الولايات المتحدة لنفسها أمام الدول الكاريبية بأنها تحميهم من خطر قد يداهمهم، بدلًا من تحذيرهم بأن ثمة مغامرة عسكرية متهورة ستقع قرب شواطئهم.

كيف تُقنع الحكومات الأميركية شعوبها بضرورة الدخول في حروب؟

منذ اعتلائها "عرش القوة العظمى"  في العالم، تمكنت الولايات المتحدة من استخدام قوتها العسكرية كما تشاء من أجل حماية مصالحها الدولية وفرض رغباتها والتخلص من خصومها، إلا أن هذه الحروب لها تكلفة ستنعكس على الشعب الأميركي على الصعيدين المادي والبشري، من حيث عدد الضحايا ومن حيث متطلبات القتال من أسلحة وذخائر ومؤن يمكن أن تخلق خللًا في ميزان المدفوعات وتضر بالاقتصاد. من هنا احتاج جورج بوش الإبن إلى مبرر يقنع فيه الشعب الأميركي ان يدخل في حرب جديدة على الإرهاب. جاءت أحداث 11 سبتمر أيلول من العام 2001 بمثابة تقديم الفتيل الذي على بوش أن يشعله فقط لكي ينفذ رؤيته في السياسة الخارجية.

فما الذي فعله بوش الإبن لتحقيق ذلك؟

وقف بوش أمام البرجين المدمرين في مدينة نيويورك وأراد ان يطلق مصطلحًا على هذا الفعل، هل يسميه "عملًا عدائيًا"، أم يسميه "جريمة". لا فرق بين المصطلحين بالنسبة للضحايا وأهاليهم. لكن عندما سيقف بوش أمام الشعب الأميركي فإن استخدام أي من المصطلحين سيشكل فرقًا مهولًا لناحية استجابتهم للحدث.

الواقع أن "الجريمة" تعالجها الشرطة المحلية، لكن "العمل العدائي" يعالجه الجيش الأميركي. وأن القوانين حول الجرائم على الأرض الأمريكية واضحة، لكن قوانين القتل من قبل الجنود في الحروب على أراضي الغير هي أقل وضوحًا. هذا على صعيد الحسابات القانونية، أما على صعيد الحسابات الاستراتيجية، فإن موقع بوش سيتعزز مع تعريف الأعمال العدائية. لأنه ضمنيًا سينصب نفسه قائدًا لفريق الردّ، وسيجعله مسؤولًا عن التخطيط لطريقة الردّ.

بعد أقل من شهر، أعلن بوش غزو أفغانستان، وبعد أقل من سنتين أعلن الحرب على العراق.

حسم النقاشات واستبعادها

في الخطابات السياسية، ثمة مسائل توضع لها مصطلحات غير واضحة، ويتم التحرك في فن الممكن، ضمن الفسحة الغامضة من المصطلح، ينتج على أثرها حجج تنتهي الى القبول بالواقع بشكل «سحري» وغير منطقي، حتى لأصعب القضايا وأكثرها تعقيداً. وهي الحال مع «عملية السلام» في النظام العالمي الجديد. ولعلّ قضية السلام بين «إسرائيل» وفلسطين من أبرز المصاديق على تشكيل المعنى الغامض بالتسمية وإهمال التعريف. 

ليس ثمة تعريف ومنهج واضح لهذه القضية، ولا لمؤهلات أطراف النزاع الذين وجب دفع عملية السلام بينهم، بل ليس ثمة توضيح إلى أين سيتم دفع العملية. إلى ذلك، تثبت الوقائع أو السياقات الناتجة من عملية «الدفع» التي تحصل اليوم بين العرب وإسرائيل، أنه ليس ثمة رابطة بين الدال «السلام»، بمدلوله الحقيقي أي ما تشير إليه مفردة السلام. وعليه، لا ينبغي في تأويل هذه العبارة «خلط علاقتها بما تعبّرعنه» كما يقول ميشال فوكو.

إنّ غياب السياق عن المكان الذي سيتم الدفع إليه، سيؤدي إلى خلق سياقات تتقلّب فيها القضية إلى ما لا نهاية، بل إلى أن يتم تحقيق هدف واضعي المصطلح. ذلك أنّ إبقاء السياق غامضاً يؤدي إلى خيارات مفتوحة، يمسي معها المجتمع الدولي قادراً على تغيير اتجاهاته من دون الحاجة الى تغيير كلماته. إنها «استراتيجية عدم الوضوح» في الخطابات السياسية، إنه الدهاء السياسي الذي يبرع فيه الأميركيون.

وعليه، سنحاول في هذا المثال تحديد العلاقات التي تميز العبارة في خصوصيتها، والتي تفترضها المصطلحات والقضية ضمنياً وتجعلان من "دفع" السلام شرطاً سابقاً. وكيف يتم فرزها من قيم الأهداف النبيلة، لتحقيق أهداف الاستعمار والاستيطان.

"دفع عملية السلام"

يتضح من العبارة أن المطلوب هو "الدفع". علاقات الغياب في التحليل تشير إلى أن هناك عائقاً معيّناً ينبغي الدفع لتخطيه، وليس التوقف عنده؛ فالهدف هو التحرك باستمرار من دون توقف، للوصول إلى الغاية النبيلة وهي "عملية السلام". وبالتالي، لا توقُّف ولا حتى لمعرفة العوائق ودراستها.

ولدراية منظومة الأوليات التي أنتجت "عملية السلام"، سنبدأ منذ ولادة المصطلح في سياقه التاريخي الى الحاضر:

يقول الباحث الأميركي وليام كواندت في كتابه "عملية السلام": "بدأ استخدام تعبير عملية السلام في وقت ما في منتصف السبعينيات لوصف الجهود التي قادتها الولايات المتحدة من أجل إحلال سلام متفاوض عليه بين إسرائيل وجيرانها. ومن حينها درج استخدام التعبير وأصبح مرادفاً للمقاربة التدريجية لحل أكثر صراعات العالم صعوبة. في الأعوام التي تلت عام 1967، انتقل تركيز واشنطن من طرح مُكوِّنات السلام إلى العملية التي يمكن أن توصلنا إليه... لقد قدَّمت الولاياتُ المتحدة الاتجاهَ والآلية".

ليس ثمة نص صريح يكشف عن الاتجاه والآلية اللذين أشار كواندت إليهما. وإذا ما تتبعنا نجد أن "الاتجاه والآلية" متغيران نسبة إلى بنود الاتفاقيات التي يتم عقدها. ويتضح أنها تكشف عن الكثير من المكاسب للطرف الإسرائيلي. أبرزها الاعتراف به ككيان موازٍ يتمتع بالحقوق نفسها، كما في اتفاقية «كامب ديفيد» الموقعة عام 1979 بين مصر وإسرائيل، إنها تقتضي أن "يقر الطرفان ويحترم كل منهما سيادة الآخر وسلامة أراضيه واستقلاله السياسي".

وقّعت مصر الاتفاقية وانحدر الطرف العربي باتجاه تنازلات جديدة على ظهر البند الذي يتعهد فيه الطرفان "بالامتناع عن التهديد باستخدام القوة". إذ يتكفل مجلس الأمن بمراقبة «التعهد» ومحاسبة المعتدي، وعلى مرّ تاريخ مجلس الأمن، لم يُعرَف أنه تمّت محاسبة إسرائيل، وليس ثمة محاسبة إلا للطرف العربي.

"وادي عربة"، هي الاتفاقية الموقّعة بين الأردن وإسرائيل، وفيها تنازل الأردن عن المياه الجوفية الصافية، بينما صدّرت إسرائيل للأردن مياهاً ملوثة من بحيرة طبريا.

تقول الدعاية الأردنية الرسمية "إننا أجّرنا المنطقة لإسرائيل"، إلا أنّ كلمة تأجير لم ترد في الاتفاقية. وليس ثمة عودة إلى الوراء، ويحقّ لإسرائيل مقاضاة الأردن في حال تحلله من الاتفاقية.
الواقع أن "الآلية" الجوهرية التي تحدّث عنها تعريف كواندت تكمن في العبارة نفسها، وهي "عملية الدفع". وتكمن عظمتها في قدرتها على الإقناع بالواقع. فمن خلال الدفع بدون توقف، يتم التنازل عن العوائق ولو كانت حقوقاً ومطالب مشروعة، وبغض النظر الى أين ستصل في النهاية. عملية الدفع قد تكون في مسار خاطئ، بل يمكن أن تحمل الكثير من الغبن. فالأردن لم يستعد بموجب الاتفاقية منطقة الباقورة أو المنطقة المحاذية لوادي عربة. ومجلس الأمن لم يحرّك ساكناً، ومع ذلك فإن التوقف عن "دفع العملية" مرفوض. بالأحرى لم يعد ممكناً إيقافها، لأنه بمجرّد الموافقة على تشغيلها أصبحت آلية بذاتها ككرة الثلج.

السلام العادل والسلام الدافئ

يمكن القول إن عملية "الدفع" هذه هي ولادة سياقات تتغير بما يخدم المصالح. فتُنتِج مصطلحات تتشكّل انطلاقاً من إعادة تنظيم عناصر تصل الى حد التناقض أحياناً؛ كـ"السلام العادل".

إن السلام «العادل» في تمثيله يشي بوجود سلام "ظالم". وهما على الرغم من تناقضهما ــ أي العدل والظلم ــ وتناقض السلام مع وقوع الظلم أصلاً، يمثلان بعداً واحداً، وهو القبول بالواقع. تصبح الخيارات محصورة بالسلام العادل والسلام الظالم. ويمسي الخطاب على الشكل الآتي: ليكن بمعلومكم أن هناك سلاماً ظالماً بوسعكم تغييره ورفضه، وسلاماً عادلاً إذا قبلتم به ستُكافأون عليه. وبهذا يتم دفع الأطراف المحلية إلى تقديم التنازلات الضرورية لـ"السلام"، من خلال سياسة الجزرة والعصا (أي المكافآت والعقوبات).

وعلى هذا المنوال، يتم ثتبيت الواقع في المصطلحات: كـ«السلام الدافئ» الذي أشار إليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، على هامش القمة الفرنسية لدفع عملية السلام بين فلسطين و"إسرائيل" والتي تمّ تأجيلها عام 2016. وللتصريح على هامش تأجيل القمة بسبب غياب الطرف الإسرائيلي دلالة أيضاً. فلطمأنة الجانبين وللمزيد من التفاؤل بأن "السلام البارد" أي التنافر الذي يشعر به الطرفان سيتحول مع الزمن الى "سلام دافئ". فيقترح السيسي على الإسرائيليين والفلسطينيين "النظر الى اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية من عام 1979 لرؤية نتائج السلام الإيجابية"، ذلك أن "مستوى العداوة بين مصر وإسرائيل الذي كان قائماً قبل تحقيق الاتفاقية لم يكن مختلفاً عن العداوة بين الفلسطينيين والإسرائيليين اليوم".

الى ذلك، أسس قرار الأمم المتحدة 242 عام 1967 مصطلحات مثل "حق إسرائيل في الوجود" وهو في سياقه يغلق على معنى واحد وهو "حق إسرائيل في استعمار فلسطين"، ما يُشرْعِن احتلال فلسطين. ومصطلح "الأرض مقابل السلام" الذي يعني تخلي الفلسطينيين عن 78% من أراضيهم مقابل توقف حروب إسرائيل الاستيطانية ضدهم والتوقف عن المناكفة في 22% الباقية.

السلام الشامل

أثارت حرب 6 أكتوبر التي شنتها دولتا مصر وسوريا على إسرائيل بشكل مفاجئ عام 1973، جهوداً دبلوماسية لم يسبق لها مثيل بهدف التوصل إلى حل للنزاع العربي الإسرائيلي من قبل وزير الخارجية الأميركي الشهير هنري كيسنجر.

أدخل كيسنجر أساليب عدة على ما أصبح يطلق عليه اسم «عملية السلام». كان كيسنجر يشك في أن الصفقات الإجمالية والشاملة قادرة على حل النزاعات، التي ما فتئت قائمة منذ فترة طويلة بسرعة. وبالتالي، فقد حث الأطراف على التركيز على خطوات صغيرة عملية نحو السلام بدل الإصرار على حل جميع المشاكل دفعة واحدة. وأصبح هذا الأسلوب يعرف فيما بعد بدبلوماسية "الخطوة خطوة"، ونجم عن ذلك سياقات جديدة "دفعت" العملية الى ثلاث اتفاقيات: سيناء 1 والجولان 1 في أوائل عام 1974، وسيناء 2 في خريف عام 1975. قدم فيها العرب المزيد من التنازلات مقابل الحصول على ما هو حق لهم.

وعندما تولى جيمي كارتر الرئاسة عام 1977، خلص هو ومستشاروه إلى أن "عملية الدفع خطوة خطوة" قد وصلت إلى نقطة النهاية. وأنه قد حان الوقت لرؤية ما إذا كان من الممكن تحقيق سلام عربي ــ إسرائيلي "شامل". وكان من رأي كارتر دفع الأطراف العربية إلى مواجهة متطلبات السلام، وهي: الاعتراف والسلام اللذان تحتاج إليهما إسرائيل، مقابل الانسحاب من الأراضي التي احتلت عام 1967 والاعتراف بحقوق الفلسطينيين بالحكم.

حلّ الدولتين

بعد تثبيت مصطلح «السلام الشامل» بمتطلباته المشهورة، جهد من جاء بعد كارتر للدفع بها وتخطي العوائق الغائبة بل المغيبة: كحق الشعب الفلسطيني بكامل أرضه، وسياسة إسرائيل الاستعمارية، وقضية اللاجئين الفلسطينيين. حتى قبل بها الطرف الفلسطيني، إذ وافق رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسرعرفات «على حق «دولة إسرائيل» في العيش في سلام وأمن والوصول إلى حل لكل القضايا الأساسية المتعلقة بالأوضاع الدائمة من خلال المفاوضات»، معترفاً بدولةٍ لإسرائيل تبسط سيادتها على 78% من أراضي فلسطين التاريخية، ضمن اتفاق أوسلو عام 1993.

واليوم، وكأحد تجليات قدرة العبارات والمصطلحات على قلب الآيات، فإن الطرف الفلسطيني هو من يسعى إلى هذا السلام، والإسرائيلي يرفض. ويطالب الفلسطيني بدفع العملية كأنه «ملك» أكثر من «الملك»، وخصوصاً بعد الانتفاضة التي انتهت عام 2003، عندما قدمت ما يسمى اللجنة الرباعية للشرق الأوسط (الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة) خريطة طريق تنص على إقامة دولة فلسطينية بحلول 2005 مقابل إنهاء الانتفاضة وتجميد الاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية. وبات الطرف الفلسطيني يحلم بالاعتراف له بدولة منقوصة السيادة على 22% من أراضيه، ضمن ما سمي «حلّ الدولتين».

دمج إسرائيل في العالم العربي

ومع تولي دونالد ترامب زعامة العالم، بدأت تتكشف معالم السيناريو الأخير عندما صرّح بأن حلّ الدولتين "ليس الخيار الوحيد". والآن، هل بقي ثمّة خيار يحافظ على "حق إسرائيل في الوجود" غير تعايش الشعب الفلسطيني مع إسرائيل؟

هكذا يمكن للخطاب أن يحوّل «عملية السلام» الى أسطورة، كانت ضرورية لقضم المزيد من الأراضي الفلسطينية وتمييع القضية بأقل الأضرار الممكنة، فمجلس الأمن الدولي لم يضغط يوماً على إسرائيل مع كل ما قامت بارتكابه من مجازر بحق الشعبين الفلسطيني واللبناني، وكل تلك التعديات على الدول العربية.

تصريحات ترامب هذه، إضافة الى أعمال العنف في المنطقة، وتفاؤل نتنياهو بالعرب «الجدد القدام» بأن الدول العربية «لم تعد تنظر إلى إسرائيل على أنها عدوّ بل حليفة لهم»، إضافة الى رفضه «حلّ الدولتين».

كل ذلك يأتي في فصول أسطورة عملية السلام. وإذا ما اكتملت الفصول ورفع الستار عن هذه المسرحية المرتجلة، فسيُحكى بعد أجيال قادمة عن الشعب الفلسطيني الذي سكن يوماً فلسطين، تماماً كما يُحكي عن الهنود الحمر.

تحويل المعنى والواقع

"ليس المهم ماذا نقول، بل الذي يسمعه الناس". يقول الإسرائيلي فرانك لونتز أستاذ علم وفن استخدام الكلمات للإقناع، في كتابه "WORDS THAT WORK" أي "الكلمات الفعالة" أو "الكلمات المؤثرة".  يفترض الكاتب أن أفضل الكلمات والرسائل الموجهة، يمكن أن تكون غير فعالة إذا لم تمسّ الخبرات السابقة للمستمع، أو معتقداته أو أفكاره.

الواقع أنّ المسّ بالخبرات السابقة، ليس من الضروري أن يكون صادقًا، بل إنه في أغلب استخداماته ينطوي على التضليل. من خلال حرف المؤشرات عن مسارها الحقيقي وإقحامها في مسارٍ يُراد للرأي العام أن ينصبّ عليه. وليس على القائم بالاتصال إلا استخدام تقنيات التعبير المناسبة. وهو الحال مع التقنيات اللغوية التي يستخدمها الكيان الصهيوني لجعل مشروعه أكثر مقبولية، خاصة فيما يتعلّق بنظرة الغرب إليه. فالإسرائيليون يعرفون جيّدًا أنّ العالم لم يعد ينظر إليهم على أنهم شعب مقهور ومضطهد. وقد ارتفعت بعض الأصوات في الأوساط الأمريكية والجماهير الأوروبية، خاصة المتعلمة والمتقدمة والتي تتمتّع بآرائها الخاصة، على أنهم محتلون ومعتدون. وعليه، يصبح من الأهمية ألا تأتي الرسائل التي ينقلها صنّاع الرأي العام الإسرائيلي بشكل متغطرس وفي نفس الوقت دون أن يقدّموا تنازلات. 

استخدام لغة التعاطف

يرى لونتز نفسُه في وثيقة "القاموس العالمي اللغوي للمشروع الإسرائيلي" والتي وضعها في خدمة "الدعاة الإسرائيليين" عام 2009، أن الخطوة الأولى لكسب الثقة وأصدقاء جدد لصالح "إسرائيل"، هي إظهار الاهتمام بـ "السلام" لكلا الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني. "سيّما فيما يتعلّق بمستقبل أفضل لكل طفل هناك"، ويشير لونتز إلى أنّ وتيرة المحادثات يجب أن تكون حاسمة وتبدأ بالتعاطف مع الجانبين.

كأن يُقال مثلًا: "إنّ إسرائيل ملتزمة بإيجاد مستقبل أفضل للجميع، سواء كانوا إسرائيليين أم فلسطينيين، إنّ إسرائيل ترغب بأن ينتهي الأمل وتزول المعاناة، وهي ملتزمة بالعمل مع الفلسطينيين لإيجاد حلّ سلمي وديبلوماسي، حيث يحظى كلا الطرفان بمستقبل أفضل. فلنعمل كي يصبح الزمن زمن الأمل، وفرصة للشعبين الإسرائيلي والفلسطيني".

في هذا القول، يتحدث الغاصب كأنّه يمتلك الحقّ، ولا يشير بأي طرف على أنه غازٍ ومعتدٍ، خاصة لدى استخدامه لغة الحسم. فهو عندما يقول عبارة "ملتزمة"، فإن الالتزام في مفهومه يحتاج إلى خطوة سابقة وهي المشروعية له، حينها فقط سينطبق عليه الالتزام. فتصبح "إسرائيل" من خلال إعلانها "الالتزام" أمرًا واقعًا لدى المتلقي ليس لديه الخيار إلا أن يتعامل ويتفاعل معه.

وفي قولٍ آخر: "إنّ الظروف الحياتية للفلسطينيين في الضفة الغربية وفي غزة صعبة بشكل لا يُصدّق، إنها كارثية، ونحن نريد تغييرها، إسرائيل تريد تغييرها".

لونتز يفكّر في هذا القول كأنه مؤيّد للفلسطينيين، وهذا النوع من التفكير سيجعل المتعاطفين مع الفلسطينيين ينظرون بعين الرضا إلى الإسرائيليين. فأكثر المدافعين عن إسرائيل فعالية هم المؤيدون للفلسطينيين. لكنّ التأكيد على إرادة التغيير مرتين، لا يلغي أنّ الظروف "الكارثية" التي يعيشها الفلسطينيون سببها الحصار الإسرائيلي، فوجب على الداعي هنا أن يحرف النظر عن هذه المسألة بالتركيز على ما يسمّيه "العنف" و"الهجمات الانتحارية" و"حمامات الدم" التي تسببها المقاومة الفلسطينية. فيضيف إلى قوله:

"لكن لا يمكننا فعل الكثير حتى يتوقف العنف تمامًا وتتوقف الهجمات الانتحارية وحمامات الدم. نحتاج لتعاون الحكومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وليس من أجلنا بل من أجلهم. إنّ الذين يدفعون ثمن كلّ هذا الإرهاب هم ليسوا فقط الإسرائيليون، بل الفلسطينيين أيضًا على حدّ سواء. إذا توقّف الإرهاب فستفتح الحدود من جديد وستستأنف الحياة الطبيعية، أما بحال استمرار هذا الإرهاب فإنّ المأساة ستستمرّ".

يقول لونتز في قاموسه، "كونك مؤيّد للفلسطينيين لا يعني بالضرورة أن تنسى الإرهاب وتسامحه". وهكذا يقف الداعي الإسرائيلي والمؤيد الفلسطيني أمام نفس الصورة المضللة فيقرأها الأخير كما يريد الداعي، من خلال إدخاله في متاهة أولًا، وتقديم المعلومات بأسلوب مؤثّر، يُستخدم فيه استنفار القيم الموجودة في وعي الناس والمفاهيم الحيوية لديه.

استعمال لغة متماثلة

يبدأ التماثل من التاريخ وينسحب على الثقافة والقيم ولا ينتهي بالأعداء. يعرف الدعاة الإسرائيليون أنهم كلّما ركّزوا على التماثل والتشابه بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، زادت إمكانية كسب دعم الأشخاص المحايدين منهم لصالح إسرائيل. من الملاحظ أن الإسرائيليون في لغتهم الدبلوماسية يستخدمون أدبيات الديبلوماسية الأمريكية: "الديموقراطية"، "الحرية"، "الأمن"، "السلام".

يقول مارك ريغيف المتحدث باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: "إن إسرائيل قلقة للغاية إزاء البرنامج النووي الإيراني وذلك لسبب وجيه، فالرئيس الإيراني تحدّث علنًا عن محو إسرائيل عن الخريطة. إن البرنامج النووي الإيراني لا يشكل تهديدًا فقط على إسرائيل، ولكن على المنطقة بأسرها لذلك يتحتم علينا جميعًا أن نفعل ما يجب فعله للحد من انتشار هذه الأسلحة".

إنّ التذكير بالأخطار "الداهمة" تساعد في عملية التأثير، خاصة إذا كان الحديث موجهًا لمن يعتقدون بهذا الخطر، كما أن تشخيص المشكلة على أنها مشكلة مشتركة بين الشعب الأمريكي والأوروبي وحتى العربي، يظهر أن الشعب الإسرائيلي يطالب بحقه في الأمن والديموقراطية مثل غيره من الشعوب، وأن المسؤولية تقع على عاتق الحكومة الإسرائيلية تمامًا كباقي الحكومات لحماية شعبها.

استعمال لغة متماثلة

"لماذا ينبغي على جميع اليهود أن يكونوا خارج أي دولة فلسطينية في المستقبل؟ هناك 1.2 مليون مواطن من عرب إسرائيل سيبقون مواطنين إسرائيليين عندما يتم الاتفاق على حلّ الدولتين، لماذا إذا ينبغي لجميع الشعب اليهودي ترك ما قد يصبح للفلسطينيين؟ ماذا سيقولون عن طابع الدولة في المستقبل؟ الا يجب أن تتحلى الدولة الفلسطينية بالديموقراطية الحقيقية القائمة على احترام جميع الأديان والسماح للمواطنين بالحفاظ على بيوتهم ومجتمعاتهم؟"

الواقع أن هذه الأسئلة لا تكون موجهة لمن يؤمن أن إسرائيل كيان غاصب، بل إنها خاصة بكسب الرأي العام الغربي، خاصة وأن قضية المستوطنات هي من أصعب القضايا التي تواجهها إسرائيل أمام الناشطين ضدّ الاستيطان من الأمريكيين والأوروبيين. وليس أمامهم لتبرير مسألة الاستيطان إلا اللغة وتقنياتها من بلاغة واستفهام وسفسطة وغيرها، خاصة وأنهم يعرفون جيّدًا أن حججهم الدينية لن تلقى آذانًا صاغية لدى الأديان الأخرى أو العلمانيون من الرأي العام. وهكذا ومن عرش اللغة، تصبح الأراضي والممتلكات المحتلة هي أراضٍ وملكيات "متنازع عليها". والجدير ذكره، أن القادة الإسرائيليون يبذلون الجهود لكي يوافق شعبهم على أنها ملكيات "متنازع عليها" وليس ملكيات خاصة بهم. يحصل ذلك فقط من أجل كسب الرأي العام المحايد أو المناهض للكيان الصهيوني.

استخدام العبارات المجدية

ثمة عبارات يمكن استخدامها تضفي طابعًا بل واقعًا معينًا لدى المتلقي. خاصة تلك العبارات التي تعني المشاركة والتعاطف والمساواة. هذه المصطلحات يمكنها أن تضع طرفين اثنين على نفس المستوى، وهذا أمر هام بالنسبة للإسرائيليين. فاستخدام مثلًا عبارة "الاحترام المتبادل" أفضل من استخدام تعبير "التسامح". كما أنّ التشديد على تعابير مثل "التعاون" و"التشارك" و"التسوية"، وتكرارها، سيجعل كلا الطرفين يتمتع بحقوق متساوية، وسيكون له تأثير ثلاثيّ الفعالية.

سيكولوجية زرع المصطلح ودور النخب

علم النفس الجماعي، أو علم نفسية الجماهير، كان أول ما اهتمّ بتلك الجاذبية الساحرة التي يمارسها القادة أو صناع الرأي العام على الجماهير والشعوب. هو علمٌ يشرح جذور تصرفاتنا العمياء والأسباب التي تدفعنا للانخراط في جمهور ما والتحمّس أشدّ الحماسة لمسألة ما. فلا نعي ما فعلناه إلا بعد أن نستفيق من الغيبوبة. وقد يكون أيضًا، في الانجرار في سياق تبني أدبيات وممارسات الاستعمار الذي يسيطر على شعب معيّن، فقاعدة ابن خلدون تقول إنّ المغلوب مولعٌ أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده.  وهو الحال في مسألة تبني المصطلحات وترسّخها في وجدان الرأي العام، ثم الانتباه لخطورتها في واقعنا بعد فوات الأوان.

بيّنا في العناوين السابقة كيف يمكن للمصطلحات أن يكون لها آثار تدميرية على مجتمع معيّن أكثر مما يمكن لحرب عسكرية أن تفعل. وسنحاول في هذا العنوان أن نتتبع الخلل الذي يؤدي إلى هذا النوع من "التسمّم الفكري"، علّنا نلتفت إليه في تحديات سابقة أو لاحقة.

الواقع أن الأحداث الضخمة المأثورة التي تتناقلها كتب التاريخ، ليست إلا الآثار المرئية للمتغيرات اللامرئية التي تصيب عواطف البشر. كما أنّ التغيير العميق الذي يصيب أفكار الشعوب، يصيب آراءهم وتصوراتهم وعقائدهم.

يرى غوستاف لو بون في كتابه سيكولوجية الجماهير، أنّ هناك عاملان أساسيان يشكلان الأساس الجذري للتحولات: الأول تدمير العقائد الدينية والسياسية والاجتماعية التي اشتقت منها عناصر حضارة ما، والآخر هو خلق شروط جديدة كليًا بالنسبة للوجود والفكر.

في مرحلة ليست بعيدة من التاريخ، كانت السياسة التقليدية للدول والمنافسات الجارية بين الحكام، هي التي تشكل العوامل الأساسية لتحريك الأحداث. وغالبًا لم يكن لرأي الجماهير أي قيمة. أما اليوم، فنلاحظ أن التقاليد السياسية التي بدأت مع صعود الديبلوماسية الأمريكية تعمل على التوجهات الفردية للرأي العام من جهة، وعلى العقل الجمعي للجماهير من جهة أخرى. وهكذا بدأت تظهر أهمية الرأي العام كقوة جماهيرية قادرة على تعويم قضية هنا أو تصفية قائد هناك.

يمكن القول إن ولادة قوة الجماهير بدورها قد جاءت بعد مخاضٍ طويل من عصف الأفكار التي زُرعت في النفوس بشكل بطيء. على أن التنظيم يجعل قوتها ضخمة جدًا، والعقائد الجديدة التي نشهد ولادتها أمام أعيننا اليوم سوف تكتسب نفس قوة العقائد القديمة التي لا تقبل أي مناقشة واعتراض، وفي كثير من الأوقات تصبح القوة العمياء للكثرة هي الفلسفة الوحيدة في التاريخ.

معرفة الجماهير

يقول لو بون في طرحه: "في الواقع إن أسياد العالم ومؤسسي الأديان أو الإمبراطوريات ورسل كل العقائد ورجالات الدول العظام، كلهم كانوا علماء نفس عن غير وعي منهم، وكانوا يعرفون روح الجماهير بشكل فطري، وفي الغالب بشكل دقيق وموثوق جدًا، وبما أنهم يعرفونها جيدًا ويعرفون كيف يتعاملون معها، فإنهم قد أصبحوا أسيادها".

يُحكى أن نابليون بونبارت كان ينفذ إلى أعماق نفسية الجماهير الفرنسية، لكنه كان يجهل بشكل كلي نفسية بعض الجماهير التي تنتمي إلى أجناس أو أعراق مختلفة. وهذا الجهل قاده إلى خوض حروب في أسبانيا وروسيا خصوصًا. يقول المحللون إن عدم معرفة نابليون بطبيعة هذين الشعبين أدتا فيما بعد إلى سقوطه.

الأنثروبولوجيا، هو علم دراسة الإنسان طبيعيًا واجتماعيًا وحضاريًا. وظّفه الغرب جيدًا لخدمة أهدافه الاستعمارية، من خلال الرصد الدقيق للقوى والتيارات وحتى الشخصيات، وتشخيص الملائم منها مع الاستراتيجيا. علمٌ راكمه الغرب خبرةً في فرز التيارات المرغوبة، ونوع المعارك والمواجهات التي تُحسن خوضها. وإلا، ما الذي يفسر سيطرة الجزيرة البريطانية على نصف العالم؟ وعلى ماذا تعتمد شبه القارة الأميركية الجديدة للسيطرة على قارات العالم القديم؟

والاستشراق، في ضوء ما كتبه إدوارد سعيد، ولد بفعل الاهتمامات الكبرى التي أولتها أوروبا لبلدان ما وراء البحار. أرّخ العلماء لهذا الاهتمام الغربي بالشرق ببداية حملة نابليون على مصر، ففي حين كان الجيش الغربي يبحث عن الموارد الاقتصادية والسياسية، كان العلماء أو من أُطلق عليهم اسم المستشرقين يبحثون عن الموارد الفكرية والثقافية والعلمية. يرى سعيد أنهم من خلال سعيهم هذا استطاعوا الدخول بين المسلم وتراثه. ويبيّن في كتابه "الاستشراق"، كيف أنّ الإسلام بحضارته وتراثه وعلومه أصبح مفعولًا به في اللغة الاستشراقية. في نفس السياق، يخلص سعيد إلى أنه لا يوجد ما يسمى بـ "الاستشراق الموضوعي" أو الإيجابي، لأن كل ما يُفعل ويقال عن أنه موضوعي له ارتباط بالمصلحة فقط وبالتالي فإن الاستشراق هو إيديولوجيا.

الواقع أن الغرب قد تمكّن من شعوبه ومن الشعوب المستعمرة قديمًا وهذه التي يسيطر عليها حديثًا بفضل المعرفة، وأنّ معاركه اليوم، يكسبها من خلال الأفكار والمصطلحات فقط وليس من خلال الحروب، وإن احتاج تحقيق الأهداف إلى فترة طويلة.

عقلية الجماهير

في تشرين الثاني من العام 2019، أقرّ مجلس الوزراء اللبناني مشروع قانون اقتصادي يقضي بفرض 20 سنت يوميًا على اتصال تطبيق "واتساب"، الأمر الذي يجبر اللبنانيين على دفع فاتورة استخدامهم للتطبيق مرتين، الأولى للإنترنت والثانية للدولة. أشعلت هذه الضريبة تظاهرات كادت تودي بالبلاد إلى المجهول، مع العلم أن اللبنانيين يدفعون ضرائب أكثر ظلمًا، وقيمتها أعلى من هذه الضريبة بكثير. إلا أنّه يتمّ تمريرها بشكل غير مباشر على جيوب المواطنين، وهي أقلّ ثقلًا ووضوحًا من حيث المظهر.

كل الشعوب تدفع الضرائب لدولها، لكن غالبًا ما تكون موزعة على مواد الاستهلاك بمبالغ زهيدة جدًا، وطالما هي كذلك، فإنها لا تزعج عادات المواطنين ولا تخيفها، ولكن عندما يتمّ تبديلها بضريبة تتناسب طردًا مع رواتبهم مثلًا أو موارد أخرى، ثم يُفرِضَ على الجماهير أن تؤديها دفعة واحدة، فإنها ستثير الاحتجاجات الهائجة حتى لو كانت أقل من السابقة بعشرات المرات.  لأن الضرائب المستترة "تحتاج لاكتشافها إلى قدر من الذكاء والفطنة، وهذا ما تعجز عنه الجماهير". يقول غوستاف لو بون.

هذه الحيلة الاقتصادية تنطبق واقعًا على عالم الأفكار، إذ ثمة تعريفات وأسماء للقضايا، تحتاج لاكتشافها إلى قدر من الذكاء والفطنة. ثمة نوعين من الأفكار التي تسيطر على الجمهور: أفكار طارئة وعابرة تتشكل تحت تأثير اللحظة وهي الانطباعات التي يتلقاها الجمهور من العبارات التي يتم استخدامها لدى تحريضه على مسألة ما، (راجع النقطة السابقة: التركيز على مؤشر وصرف النظر عن غيره من خلال اللغة)، والنوع الآخر هو الأفكار المستقرة الثابتة في الوجدان والتي تستمدّ استقرارها من البيئة والوراثة، ومن بينها الأفكار الدينية والأيديولوجية كالديموقراطية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية وغيرها.

يشبّه لو بون الأفكار الأساسية بمياه نهر يجري ببطء، أما الأفكار العابرة فيشبهها بالأمواج الصغيرة المتغيرة دائمًا والمتحركة على السطح. وعلى الرغم من أنها غير ذات أهمية حقيقية فإنها أكثر ظهورًا ووضوحًا من مسار النهر نفسه (أنظر سيكولوجيا الجماهير ص 81).  يمكن القول إن الأفكار الكبرى الأساسية أو ما يطلق عليه السرديات، يمكن أن تهتز مع الزمن، بل يمكن تفخيخها وتفجيرها بفعل الأفكار الطارئة.  وأيا تكن الأفكار التي توحى للجماهير أو تُحرّض عليها، فإنه لا يمكنها أن تصبح مهيمنة إلا بشرط أن تتخذ هيئة بسيطة جدًا. "ليس هناك أي رابط منطقي من النوع القياسي أو المتوالي يربط هذه الأفكار. فيمكنها أن تحلّ الواحدة محلّ الأخرى كزجاجات المصباح السحري التي يسحبها العامل الميكانيكي من العلبة حيث تكون مصفوفة فوق بعضها البعض". يقول غوستاف لو بون، ويعلّق: "هكذا يمكننا أن نجد الأفكار الأكثر تناقضًا تتتابع على الجمهور. وبحسب اللحظات وصدفها فإن الجمهور يتعرّض لتأثير الأفكار المتنوعة والمختزنة في عقله، وبالتالي فهو يرتكب الأعمال الأكثر تناقضًا واختلافًا. فانعدام الروح النقدية لديه لا تسمح له برؤية التناقضات[7]".

الواقع أن أفراد الجمهور الذين يمتلكون شخصية قوية تمكّنهم من مقاومة المحرّض عددهم ضئيل، وبالتالي فإن التيار يجرفهم معه، وكل ما يستطيعونه هو محاولة تحويل الأنظار باتجاه آخر، عن طريق تقديم اقتراح مختلف. وهذا ما يفسّر التفات بعض النخب في مجتمعنا إلى خطورة مصطلحات وتعريفات معيّنة، دون التوقف عن استعمالها لأنها أصبحت سائدة ومتداولة، ولا يسمحون لأنفسهم التعبير خارج مصطلحات التيار. فمثلًا، تجد أن المسلمين الذين تربوا في الجامعات الغربية وحصلوا على شهاداتها العليا، لديهم مخزون ثابت لأفكارهم الدينية والاجتماعية الموروثة، وعلى هذا المخزون الثابت تركّبت طبقة من الأفكار الغربية لا علاقة لها بالأولى، وبحسب اللحظة وصُدفها فإن الطبقة الأولى هي التي تظهر وفي أخرى تظهر الثانية، وكلّ واحدة لها مصطلحاتها وخصوصياتها الخطابية المعروفة. وهكذا نجد أن نفس الأفراد يبرزون بتناقضاتهم الأكثر وضوحًا[8].

دور النخب

من العبارات الشائعة على ألسنة المثقفين وفي كتابات المفكرين والعلماء في ثقافتنا الإسلامية: "إنه لا مشاحّة في الاصطلاح". يتم ترديد هذه العبارة على أنها: "لا حرج على أي باحث أو كاتب أو عالم في أن يستخدم المصطلح، أي مصطلح، وبصرف النظر عن البيئة الحضارية أو الإطار الفكري أو الملابسات المعرفية أو الفلسفية أو العقدية التي ولد ونشأ وشاع فيها، فالمصطلحات والألفاظ ذات الدلالة الاصطلاحية هي ميراث لكل الحضارات، ولجميع ألوان المعرفة، ولكل بنى الإنسان". يقول عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الدكتور محمد عمارة[9]. ويضيف: "لكنها أيضًا تحتاج إلى ضبط لمفهومها، حتى لا يشيع منها الخلط، بل والخداع كما هو حادث لها ومنها الآن لدى العديد من دوائر الفكر التي ترددها، دون ضبط وتحديد لما يوحي به ظاهرها من مضمون". 

وفي مقالته تحت عنوان "الخصوصية الحضارية للمصطلحات"، يضرب عمارة مثلًا عن مصطلح "اليسار"، فمن الناس من يدعو إلى استخدام هذا المصطلح ذي المضمون الغربي ويحاول أسلمته وأسلمة مضمونه عندما يطلق "اليسار الإسلامي".

مصطلح آخر يورده الدكتور أحمد صدقي الدجاني في مقالته تحت عنوان "التحيّز في المصطلح"[10]، هو مصطلح "العالمية"، عندما نقول مثلًا "الأدب العالمي"، أو "المكتبة العالمية"، أو "المشهد الثقافي العالمي. فما هو التحديد الدقيق لمدلول هذا المصطلح، علينا أولًا أن نحدد الأنا والذات، والموقف من الآخر، والدوائر الحضارية، وتفاعل الحضارت. لقد دأب الغرب على احتكار هذا اللفظ بحيث أصبح مصطلح العالمية ينصرف إليه، فكل ما هو غربي إذًا هو عالمي. وكأن العالم مقتصر عليه. وقد وقعت أغلب النخب الرائدة للمشهد الثقافي من أبناء الحضارات الأخرى في محظور القبول بهذا المدلول الخاطئ للمصطلح، فأصبحوا ضحايا تبعية فكرية خطرة.

النموذج المعرفي، أو البراديغم، أو المنطلقات الفكرية، أو التصور والتصديق في علم المنطق، هي الفرضيات الأساسية التي تشكل بوصلة لتوجيه التفكير لدى الأفراد، إنها صورة عقلية لما سيشكل ما يعتبرونه الحقيقة لديهم، ويؤمنون به، على أساسها يتم إبقاء أو استبعاد أو تضخيم أو تسهيل القضايا والأفكار والقيم وضوابط السلوك لديهم. تتشكل هذه الفرضيات – المنطلقات بعدما يتلقى الفرد كمًا هائلًا من الإشارات، تشكّل لديه القناعات من خلال منظومة معرفية لا واعية تحضر من خلال الموروثات، أو واعية تحصل من خلال ما يكتسبه من معلومات.

لنضرب هذا المثل:

ثمة حائط يفصل رفح المصرية عن رفح الفلسطينية. في يوم من الأيام، كانت رفح الفلسطينية في وضع حظر التجول. كل شيء كان شبه ميّت إلا من ثلاث سيارات إسرائيلية مصفحة تسير متجاورة متقاربة. وكان هناك سيارة فارهة تسير بسرعة خاطفة، وتظهر كل ربع ساعة تقريبًا. كان على الحائط صحفي مصري يراقب المشهد فقال لصاحبه: "انظر إلى الإسرائيليين.. إلى سياراتهم المصفحة، تسير الواحدة وراء الأخرى في نظام بالغ، وسيارة الحاكم العسكري لا تتوقف عن التفتيش عليهم بكفاءة عالية". سمعه أحد الجنود المصريين عند بوابة العبور، فضحك على شرح الصحفي وقال: "السيارات المصفحة تسير متجاورة لأن الجنود الإسرائيليين في حالة هلع دائم من الفلسطينيين على الرغم من حظر التجول. أما الحاكم العسكري فيفوقهم هلعًا ويجري بسيارته بهذه السرعة الجنونية الجبانة".

الواقع أن استنتاجات هذا الصحفي نابعة من الانكسار الداخلي لديه، والذي يحوّل كل الوقائع إلى مؤشرات على الهزيمة. هو مؤمن أن "إسرائيل دولة" منظّمة، وأيضًا مرفّهة، وبالتالي لا تُهزم.  أما معرفة الجندي ومعاينته لقدرة الفلسطينيين على بثّ الرعب في صفوف الإسرائيليين، جعل لديه إحساس بالانتصار الداخلي الذي يحوّل نفس الشواهد إلى رمز للعزة والكرامة.

رأينا في هذا الجزء كيف يحاول الغرب أن يفرض مصطلحاته ليلون الحقائق على طريقته. الأمر الذي يحتم على النخب التي تقود المشهد الثقافي، أن تقف أمام كل مصطلح يشيع فاحصة متمحصة، قبل الانجرار إلى فخ استخدامه. وعلينا أن نحدد وننحت مصطلحاتنا نحن، وأن نحيي القديم لتحقيق التواصل الحضاري مع ثقافتنا والتفاعل الصحيح مع هويتنا ثم نعمل على طرحها وتعميمها بعد صياغتها والاتفاق عليها. وأضعف الايمان أن نبدأ بالامتناع عن استعمال مصطلحاتهم في إعلامنا وأن نستخدم مصطلحاتنا.

نعرف أن تعميم مصطلحاتنا ليس بالأمر السهل، لكنّ ذلك لا يعفي أحدًا من واجب المبادرة.

--------------------------------

[1]

[2]

[3]   أنظر الاتصال السياسي، دان هان، ص 56

[4]

[5]  أنظر الاتصال السياسي، دان هان، ص60

[6]  نحت هذا المصطلح من خلال تقرير راند عام 2016 تحت عنوان "القدرة على الإرغام: مواجهة الأعداء بدون حرب"

[7] تدور فكرة لو بون عن نفسية الجمهور، أنه دائمًا أدنى مرتبة من الإنسان المفرد من الناحية العقلية والفكرية، وهو عاجز عن الإرادة الدائمة والتفكير الدائم والمستقر، وأن أكبر خطأ يرتكبه القائد السياسي هو أن يحاول إقناع الجماهير بالوسائل العقلانية الموجهة إلى الأفراد المعزولين، فالجماهير لا تقنع إلا بالصور الإيحائية والشعارات الحماسية والأوامر المفروضة من فوق. ولا تحني رأسها إلا للسلطة القوية وتتقلب بين الفوضى والعبودية إذا كانت السلطة متقلبة. كما يمكن لجمهور معين أن يمتلك فضائل أخلاقية لم يتوصل إليها أعظم الفلاسفة والحكماء، فيقدم التضحيات التي لا يمكن لأعتى قوة أن تقف أمامها. كل ذلك يكون بحسب ثقافة هذا الجمهور وقيادته. أما الفرد المعزول فيمكنه أن يخضع لنفس المحرضات المثيرة كالإنسان المنخرط في الجمهور، ولكن عقله يتدخل ويبيّن له مساوئ الانصياع. لكنه عندما ينخرط في الجمهور، فإن شخصيته الواعية تتلاشى، ويهيمن عليه العقل الجمعي، ويتوجه مع الجميع ضمن نفس الخط بواسطة التحريض وعدوى العواطف والأفكار، فلا يعود الفرد هو نفسه، فإرادته تصبح غير قادرة على أن تقوده.

[8] يضرب لو بون هذا المثل على الهنود.

[9]  أنظر كتاب إشكالية التحيز، مجموعة بحوث عن التحيز من تحرير د عبد الوهاب المسيري.

[10] المرجع السابق.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف