البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

February / 7 / 2021  |  1815المصطلح الفلسفي العربي ومعضلة النقل نقد نظرية التأثيل عند طه عبد الرحمن

علي زين العابدين حرب المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية ربيع 2020 م / 1441 هـ
المصطلح الفلسفي العربي ومعضلة النقل نقد نظرية التأثيل عند طه عبد الرحمن

تتموضع مشكلة المصطلح في المحل الأكثر استدعاء للإشكال في افتتاح المعرفة ونظرياتها، وتتضاعف حدة هذه المشكلة متى دخلت المفاهيم والمصطلحات حقل التداول المشترك بين فضاءات معرفية وحضارية متباينة كتلك التي تشهدها الحضارتين المتناظرتين الغربية والإسلامية.

هذه الدراسة تضيء على هذه المشكلة من خلال ما قدّمه الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن في هذا الخصوص حول ما يسميه بـ "نظرية التأثيل" أو تأصيل المصطلح عبر تعيين التخوم بين المصطلح الفلسفي العربي والمصطلح اليوناني، كما يناقش الكاتب أطروحة عبد الرحمن ويبيّن جملة من المؤاخذات النقدية على خلاصاتها ونتائجها.

المحرر


تتناول هذه المقالةُ مشكلة المصطلح الفلسفي وتداوله في الفضاء العربي الإسلامي، من خلال نموذجٍ نظري عند عبد الرحمن هو التأثيل والمصطلح الفلسفي. نموذجٌ اهتممنا بدراسته عرضاً ونقداً. فالمصطلح اليوناني المترجَم إلى العربية قديماً، وبصورة «قلقة» وغير «تداولية»، ولا «أصيلة» ولا «مأصولة»، أدّى إلى قلقٍ في التفكير، وإلى انحرافٍ في القول والعبارة الفلسفيين أو «سوء التفلسف» بكلمة. وبعضُ الترجمة عن الفكر الغربي اليوم تؤدّي إلى عواقب شبيهة؛ لأنّه لا يصحّح ولا يؤثّل أيضاً. ولا شك في أنّ دراسة هذه المشكلة في النصوص الفلسفية الوسيطة ومرآتيّتها للحضارة المزامنة، تصلح نتائجهما للتسرية إلى النصوص الحديثة ومرآتيّتها للواقع الراهن. بذلك يكون التمحيص في مشكلة الإسلام والغرب، والتراث والحداثة، في بؤرة اللبنة الأولى ـ أي بؤرة المصطلح ـ أمراً شديد الخطر والأهمية، وسيَّالاً في الامتداد الفلسفي للقول والعبارة والنظرية والمشروع.

كيف تبدّت مشكلة الإسلام والغرب في نظرية المصطلح والمفهوم الفلسفيين عند عبد الرحمن؟. سؤالٌ يستدعي بادئ الأمر النظرَ في تبرير تسليط هذه المشكلة على نظرية المصطلح والمفهوم الفلسفيَين تحديداً.

لم تأتِ عناية طه عبد الرحمن بالمصطلح الفلسفي عبثيةً، وإنّما انطلقت من دواعٍ ذاتية وموضوعية. فتخصّصه وأستاذيّته في المنطق الحديث وفلسفة اللغة، لا بد أنْ يحثّاه على وضع أو استعمال المصطلحات الجميلة الجليلة، التي فيها من الجمال بقَدر ما فيها من النسق والعمق. غير أنّ ما يهمّ هو الدواعي الموضوعية، النابعة من واقع الممارسة الفلسفيّة: واقع القلق في التعبير، المؤدّي إلى قلقٍ في التفكير. قلَقان أغرقا هذه الممارسة في التقليد ومجانبة الإبداع.

لا ينكر طه عبد الرحمن التمايز النظري والمنهجي بين المصطلح الفلسفي أو الفلسفة عموماً، وبين الترجمة والنقل. حيث يوجد «لكل منهما شروطه المعرفية وضوابطه العملية»[1]. فلقد وُجد الفكر الفلسفي اليوناني، ولم تكن ترجمةٌ مباشرة سابقة عليه... غير أنّ هذا التمايز في النظر والمنهج، لا يلبث أنْ لا يتمايز في ظل الممارسة الفلسفيّة العربية، قديمها وحديثها. حيث لم تنفك الفلسفة العربية عن الترجمة عن أصول يونانية وسريانية وغيرهما. فقد ظلت «الترجمة الوسيلةَ الأنجع التي يُتوصّل بها إلى أغراض الفلسفة، وكأنّ الفلسفة هي الثمرة الأنفع التي تتولّد من أعمال الترجمة»[2].

الترجمة وولادة المفهوم القلق في الفلسفة

أ- لن يبقى قلق الفلسفة المترجمة في حدود التلازم وعدم الانفكاك، بل سيؤدّي طوال قرون عدة سبباً لتبعية الفلسفة العربية للترجمة على عدة صعد: الألفاظ والصيغ والمضامين. «فكل فكرٍ وراءه الترجمة، لا يمكن إلا أنْ يكون تابعاً لها بوجه من الوجوه، إما صورة، أو مضموناً...، بعضاً أو كلاً «[3]. ومع مرور الوقت، باتت هذه التبعية اتباعيةً، لم تحفظ معها الفلسفةُ العربية خصوصيتَها التواصلية وتمايزها اللساني. «فالعبارة الفلسفيّة، كانت دائماً عبارة ركيكة وقلقة...والعبارة إذا لم تستقم لا يستقيم الفكرُ معها»[4]. وقد نشأ القلق والركاكة من تقليد بناء العبارة اليونانية أو السريانية. مثلاً يقول الفارابي: الإنسان موجود عادل. وهذا التركيب الثلاثي هو من خصائص العبارة اليونانية. وأما العبارة العربية، فتقوم على تركيب ثنائي هو المُسند والمُسند إليه[5]. وينبغي أن تكون الصياغة الصحيحة لعبارة الفارابي، هي: الإنسان عادل. لكن هذه الركاكة لم تنشأ من البناء العسير للعبارة الفلسفيّة فحسب، بل كذلك من الإغراب في تخيّر المصطلحات الفلسفيّة المقابلة للمنقول.

لقد اتسمت لغة الفلسفة العربية بطابع القلق هذا في الطور الابتدائي للترجمة.. ما أدّى إلى أنْ يلحق القلق نفسه  بالفكر والنظر. يقول عبد الرحمن:» إنّ ما لحق الترجمات الابتدائية من وجوه التعثر المختلفة... لا محالة أنْ تنعكس آثاره في ممارسة العربي للنمط الجديد من النظر...» [6]. ويرى عبد الرحمن أنّ قلق التعبير والتفكير عند مترجمي الفلسفة جاء مركَّباً، ولم يكن بسيطاً، كما هو شائع. بمعنى أنّ أوائل المترجمين عن الفلسفة اليونانية، لم يخلّوا بقواعد التعبير العربية فحسب، بل أخلّوا كذلك بقواعد اليونانية. «فلا واحد منهم كان عربياً.. ولا كان يونانياً، ولا كان مختصاً في الفلسفة اليونانية»[7]. لذلك يصف عبد الرحمن هذه الترجمة بـ»النّقل المستهتر»، ويصف الممارسة الفلسفيّة المستندة إليها بـ»سوء التفلسف».

ب- هل رفع فلاسفة العرب قلق الترجمة؟: لقد أتى عهد الاستصلاح في الترجمات، حين سعى بعض الفلاسفة  للتسهيل وتنقيح «النقول الواسعة، حيث إنّهم قاموا بإصلاحها، على قدر الإمكان، مع بعض مقتضيات مجال التداول الإسلامي العربي... اللغوية منها والعقَدية والمعرفية»[8]. وقد اشتغل أغلب مفكّري الإسلام ـ كما يذهب عبد الرحمن ـ برفع هذا القلق. إلا أنّ ابن رشد يأتي في الرّيادة؛ لأنّه جعل رفع القلق «غايةً  قصر عليها حياته»، و«دخل في تجديد شرح مؤلّفات أرسطو، انطلاقاً من مبدأ رفع قلق عبارتها في النقول العربية»[9]. وهنا يضعنا عبد الرحمن في شيء من الحيرة والتردّد، حيث يذكر لاحقاً أنّ الاستصلاح  لم يتمكّن من «تخفيف ضرر الانقطاع عن المجال التداولي الذي جلبته الترجمة الابتدائية... فقد انتشر بين متفلسفة الإسلام تقليدُ هذا المنقول الفكري...»[10]. وإذا كان أغلب مفكّري الإسلام، قد اشتغلوا برفع القلق العباري، ومن بعده الفكري، وفق قواعد التداول العربي، فكيف يصِفُهم عبد الرحمن لاحقاً بـ»المقلّدة» للمنقول الفكري؟! كما تنتابنا هذه الحيرة مرةً أخرى، حينما يعتبر أنّ فلاسفة الإسلام اقتصروا على إصلاح صيغ الألفاظ وتراكيب العبارات الفلسفيّة، حيث ظنوا أنّ القلق» مجرّد اضطراب في صورة العبارة، صيغة أو تركيباً، فظن بعضهم أنّ تقويم هذه الصورة اللفظية كافٍ لإزالة هذا الاضطراب... لكنّ الأمر أكبر من يأتي عليه مثل هذا التقويم»[11]. بينما يذكر قبل سطور أنهم أصلحوا العبارة وفق اللغة والعقيدة والمعرفة.

أمر واحد قد يفسّر لنا هذا التناقض، هو أنّ حملة عبد الرحمن الكبيرة على متفلسفة العرب واتهامهم بالتقليد والقصور عن رفع قلق العبارة الفلسفيّة، جاءت في مشروعه اللاحق حول «القول الفلسفي». وهي حملة كفيلة بتسويغ العكوف الجديد على مشروع القول الفلسفي: مفهوماً وتعريفاً ونصاً. وتبرير الاشتغال به «استشكالاً واستدلالاً». ومهما يكن من أمر، فالمطلوب هو الوقوف على سبب هذا القلق وعلّته.

ج- اعتبر الفارابي وابن سينا أنّ السبب هو ضيق اللغة العربية عن استيعاب المعاني الفلسفيّة الوافدة. ويرى ابن حزم وآخرون أنّ السبب هو الشحُّ بالعلم والضنّ به من قبل المترجمين، وتقصيرهم عن تبليغه وفق قواعد مجال التداول[12]. وكل هذا باطل برأي عبد الرحمن. فالحقُّ عنده أنّ المترجمين وفلاسفة العرب وضعوا تصوّراً فاسداً لعلاقتين جوهريتين في اختيار الألفاظ الفلسفيّة: علاقة اللفظ بالمعنى، وعلاقة الفلسفة بهذا المعنى. ظنّ هؤلاء أنّ «الألفاظ مهما تعدّدت وتنوعت ألسنتها فالمعنى واحد، بحيث يُستبدَل بعضُها مكان بعض»[13].  لأنّ المعنى عندهم عقليٌ كليٌ، ولا يقترن بألفاظ لغة مخصوصة[14].  و«ظنّوا أيضاً أنّ المعنى الفلسفي الواحد موحَّدٌ، بحيث يأخذ به أمم كثيرة... من غير تفاوت»[15]. فلا ضير أنْ تتوارد عليه ألفاظ مصطلحة متعددة ومتفاوتة في مدلولاتها اللغوية[16].

د- آفة الترجمة.. التهويل: لقد أدّى قلق المفهوم الفلسفي المُترجَم إلى جموده وتعطّله على مدى قرون طوال. لكنّ الآفة الأبرز التي يسبّبها القلق، والتي يفصّل فيها عبد الرحمن، هي آفة التهويل. وفي هذا السياق يعرِّف عبد الرحمن التهويل في الترجمة بأنّه «المبالغة في المعنى الناتجة عن إيراد الألفاظ الفلسفيّة في صيغٍ اصطلاحية غريبة تؤدّي إلى التعثر في تحصيل الأغراض الفلسفيّة «[17].

ومن ألوان التهويل التي حفلت بها الترجمات، ولاسيما الأولى منها: غرابة الأسماء الفلسفيّة، وغرابة المصطلحات المقابلة للمصطلحات اليونانية. فمن قبيل الأولى، - كما يقول - تضمّنُ النقول الفلسفيّة لألفاظ فلسفية بصيغتها اليونانية الأصلية، نحو ديالكتيكي (الجدل)، وسيلوجسموس (القياس)...[18]. ووجه غرابة هذه الألفاظ هو حفظ صورتها الصوتية الأصلية. وأما وجه التهويل فيها أنها تُوهِمُ بوجود «معانٍ جليلة فيها يستعصي أداؤها على الصيغ العربية»[19]. ولا ينفع في رفع هذه الغرابة، ومن ثَمّ إزالة التهويل عنها ـ العلمُ بمعاني هذه الألفاظ، ولا بأصولها اللغوية؛ لأنّ عبد الرحمن يصرُّ على أنها تدوم على الإحالة إلى أصلها اللغوي الأجنبي.  كما أنّها تضر بتماسك النص العربي واتصاله، باعتبارها أجزاء من لسان آخر، و«لا اتصال إلا بين أجزاء اللسان الواحد»[20].

وفي الحقيقة، فإنّ إصرار عبد الرحمن وإلحاحه على رفض الألفاظ الفلسفيّة المعرّبة، فيه نوعٌ من التعنت غير المقنع، ولاسيما عند قوله «لا اتصال إلا بين أجزاء اللسان الواحد». فاللغة العربية مكتنزة بألفاظ دخيلة، صيغت وفق القياس الصرفي العربي. وحتى في القرآن الكريم نجد الألفاظ الرومية والعبرية والحبشية، وغيرها مما اتصل بسائر كلمات القرآن العربية، فشكلت جميعاً نسقاً بديعاً ونظماً بليغاً.

وأما غرابة المقابلات للمصطلحات الفلسفيّة، فتشمل: اختراع مصطلحات على أوزان نادرة الاستعمال، والتوسيع الدلالي البعيد، واستبدال ألفاظ غير مألوفة مكان ألفاظ مألوفة.

 فالمصطلحات المخترعة ذات الأوزان نادرة الاستعمال، جاءت وفق وزان، «لا يجوز استعماله في اللسان العربي، مثل الأفعال والحروف التي أُنزلت منزلة الأسماء، إذ صار يدخل عليها ما يدخل على هذه الأدوات، كأن يُقال: في يفعل وينفعل، أو في معاً...فإنّ أغالب هذه الصيغ من الضرب النادر»[21].

ومن قبيل ذلك الصفات المنسوبة إلى الظروف والحروف، مثل: اللمّي والإنّي. وألفاظ الصفات المنسوبة بزيادة الألف والنون، نحو الرحماني والجسماني. ومنها أيضاً صيغ المصادر الصناعية المشتقة من أسماء وأفعال جامدة، مثل: الأيسيّة والليسيّة[22].

يعترف عبد الرحمن أنّ صوغ هذه الألفاظ «قد تجيزه قواعد اللغة»، لكنّ ندرتها تجعل منها ألفاظاً خاصة غير شائعة، لا يستطيع العامي وضعها ولا استثمارها. ورغم أنّه ينتقد النسبة إلى الحروف والظروف، فإنّه وقع فيما انتقده في الكتاب نفسه، الذي سجّل فيه الانتقاد. فنراه استعمل ألفاظاً، من قبيل: التحتية والفوقية[23]. ومن جهةٍ أخرى، فإنّ أخذَه على مستعملي وواضعي ألفاظ الصفات المنسوبة بزيادة «الألف والنون»، مثل: الروحاني والجسماني، معتبراً أنّه لا يجوز استعماله في اللسان العربي ـ إنّ أخذه عليهم، يتهافت حينما يفوته أنّ مثل هذه الألفاظ قد وردت في القرآن الكريم، نحو: «ربّانيون» [24]. وأما التوسيع الدلالي البعيد، فيقوم على الإضافة إلى معنى اللفظة، معنًى استعمالياً جديداً. «ومعلوم أنّ جلّ المصطلحات الفلسفيّة العربية، قد وقع وضعها بطريق التوسيع»[25]. وأما منشأ التهويل في التوسيع فيعود إلى ضعفِ الصلة بين المعنى الجديد والمعنى المضاف إليه، أي الأصلي. حيث إنّ المناسبة بين المعنيين «تبلغ في المصطلح الفلسفي درجةً من البعد لا تبلغها في غيره»[26]. فتعسّر الألفاظ على الفهم، وتنفر منها القلوب. ولم يقدّم لنا عبد الرحمن سبب ضعف الصلة والمناسبة بين المعنيين. ونعتقد أنه ناشئ من أنّ المعاني الأصلية هي معانٍ محسوسة ترجع إلى عالم المادة. وأما معاني الفلسفة فهي عموماً معانٍ عقلية، مجرَّدة تنتهي إلى عالم نفس الأمر.

لكنّ هذا السبب يأباه عبد الرحمن، لذلك اجتنب ذكرَه. كنا أشرنا حول قلق العبارة الفلسفيّة أنّه أخذ على فلاسفة العرب تأكيدهم على تجرّد المعاني الفلسفيّة. وهذا اعتبارٌ يراه عبد الرحمن تقليدياً خاطئاً. فالتجريد غير حاصل على نحو مطلق، «فإنْ أمكن تجريد المفهوم الفلسفي من الأفراد المندرجة تحته، فلا يمكن تجريده من البنية اللفظية الخاصة.. ولا حتّى من قرينة الاستعمال...»[27].

وأما استبدال الألفاظ غير المألوفة بأخرى مألوفة، فيقوم على التخلّي عن ألفاظٍ راسخة، منسجمة مع قواعد التداول العربية، ولاسيما العقَدية منها أو المعرفية. واللجوء إلى أخرى غير منسجمة، أو على الأقل لا تحوز على قدر تلك من الانسجام. من ذلك ما عبَّروه عن الخالق ـ تعالى ـ بأسماء: «الصانع»، و«السبب الأول»، و«المبدأ الأول»[28].

هولُ هذه الآفات التهويلية التي أدّت إليها الترجمة، وسِمَة القلق في عبارتها، وتقصير الفلاسفة أو قصورهم عن رفع هذا القلق، فضلاً عن التلازم التبعي الاتباعي بين الفلسفة وبين الترجمة ـ هذه الأمور جميعاً شكّلت أوّل دواعي عبد الرحمن للعناية بالمصطلح الفلسفي.

فما هو ثاني دواعيه للعناية به؟.

2 - الإبداع ووضع المفاهيم:

همّ الإبداع مبثوثٌ في جُلّ مؤلّفات طه عبد الرحمن، إنْ لم يكن جميعها. حتّى لقد شكّل هذا الهمّ إحدى مزايا مشروعه الفكري. فهو يمتاز بمحاولة الإعراض عن التقليد والتبعية والاتّباع. سواء كان التقليد سلفياً أم حداثيّاً، دون فرق[29]. غير أنّ الإبداع في رؤيته، لا يعني مجرّد ترك التقليد، بل هو مفهوم أساس وشرط في روح الحداثة[30]. وهو يقوم على مفهومين تابعين، هما: «الجمال» و«الابتكار». الجمال في البناء الاستدلالي وفي سبك العبارة، وبالدرجة الأهم في صنع المفهوم الفلسفي. وكذلك بالنسبة للصنو الآخر؛ الابتكار في الوسائل والآليات والمضامين، وفي وضع الألفاظ الفلسفيّة واستثمارها.

وما يهمّنا هو المفهوم الفلسفي، الذي دعا عبد الرحمن إلى الإبداع فيه ابتكاراً وجمالاً، من خلال التوسّل بقواعد اللغة والعقيدة والمعرفة، في المجال التداولي العربي. أي من خلال «التأثيل». ما يؤدّي إلى «التمكّن من المفاهيم، أو قل: الملَكة المفهومية، التي بها وحدها قوام الإبداع في مجال المفاهيم الفلسفيّة»[31]، بعيداً عن المفهوم المترجم، الذي خلا من همّ الإبداع، وانقطع عن أسباب التداول؛ بل كان أحياناً محض استنساخٍ بحروف عربية، فارغة[32].

فالمفهوم المترجَم يبقى حاملاً لآثارٍ من أصله الأجنبي، ويبقى مرتبطاً بالحقول المفهومية لهذا الأصل. بحيث يحتاج مستثمرُ هذا المفهوم إلى استحضار هذه الحقول وتلك الآثار، ما يضعفه عن الإبداع حين استعماله (المفهوم)[33].

يبدو أنّ ربط عبد الرحمن بين الإبداع الفلسفي وبين المفهوم الفلسفي، جاء تأثراً بـ «جيل دولوز» و«مارتن هايدغر»، اللذين اشتغلا بالمفهوم الفلسفي. وربما كان تأثّره بالأول أكثر. فقد قام «دولوز» بتأثيل مفاهيمه بالاستمداد من معانيها اللغوية الأصلية وبتوظيف التقابل القائم بينها[34]. وقد بلغ الأمر بـ «دولوز» إلى حدّ جعل مهمة الفلسفة ـ أصلاً ـ وضعَ المفاهيم وطلبَها[35].

وتلك تجربةٌ سيستفيد منها فيلسوفنا إلى حدٍّ كبير في نظريّته حول التأثيل اللغوي.

غير أنّ مهمة وضع المفاهيم وطلبها، هي أمرٌ يرفض عبد الرحمن قصر دور الفلسفة عليها. فأين التدليل الحجاجي والبرهاني؟ وأين التعريف الفلسفي؟ وأين العبارة والنَّص الفلسفيَيْن؟. جميعُ هذه مهامٌ أساسية من مهام الفلسفة، تقوم على الربط بين المفاهيم الفلسفيّة استشكالاً واستدلالاً. ربّما بهذه التساؤلات يمكننا تفسير موقفه الرافض، المتلبّس بالتأثّر بمنهجية التأثيل اللغوي الدولوزي. لذلك يقول عبد الرحمن: «ولئن سلّمنا بما صار يُقال ويُعتقد من أنّ الفلسفة هي طلب المفاهيم، وإن لم يكن هذا قولُنا ومعتقدنا»[36].

لكنْ كيف هو السبيل الحقيقي للإبداع في المفهوم الفلسفي، بعد رفع القلق عنه؟.

سيجيب عبد الرحمن: ذلك هو التأثيل.

فما هو التأثيل؟، وما هي مكوناته؟، وما هي طرقه وأصنافه؟. أسئلة منهجية، ستشكّل إجاباتها عمارة لنظريّته في المصطلح.

ثانياً: التأثيل (أو بناءات المصطلح)

تعريف التأثيل:

يساوي طه عبد الرحمن بين المفهوم وبين المعنى، حيث عرّف المفهوم بأنه معنى[37]. وعرّفه في موضعٍ آخر بأنه «اسم معنى» [38]. لذلك قلنا إنّه يساوي بينهما.  يبقى أنّ الفرق بينهما لِحَاظيٌ ليس أكثر. بمعنى أنّ المعنى ملحوظ من جهةِ قصد المتكلّم إليه. وأما المفهوم فملحوظ من جهةِ فهم المستمع له[39].

وطالما أنّ المفهوم معنى، مدلول باللفظ، فإنّه لا ينفهم أبداً من «غير اقترانٍ بالصورة اللفظية في لسانٍ مخصوص»[40].  كما أنّ هذا المفهوم لا انفكاك له عن اللاَّفظ له، واضعاً كان أو مستعملاً، واصلاً كان أو موصولاً. أي لا انفهام من غير انتساب للمجال التداولي [41]. وكلما كان اللفظ صريحاً وحقيقياً، دالاً على معنى قائمٍ في الوجود ذهنياً أو خارجياً، وأمكن الحكم عليه بالصدق والكذب، كان القول عبارياً[42]، أو اصطلاحياً[43]. وكلما كان اللفظ دالاً على أحوال وجدانية، أو على معنى مجازي أو مشتبه أو مضمر، كان القول إشارياً[44].

وهنا يأتي دور مفهوم التأثيل، لِيُلِمّ بجميع المكونات السابقة. فتأثيل المفهوم الفلسفي يعني «تزويد الجانب الاصطلاحي منه بجانبٍ إشاري يربطه بالمجال التداولي للفيلسوف، واضعاً أو مستثمراً له»[45].

ويرى عبد الرحمن أنّ مفهوماً آخر هو مفهوم «التأصيل»، قد يفيد فائدة مفهوم التأثيل؛ لكنّ كثرة استعماله «تسبّبت في دخول الابتذال عليه». ومهما يكن من أمر، فإنّ المعنى اللغوي للفظِ تأثيل هو تأصيل».

ولا يدّعي عبد الرحمن أنّه أوّل من وضع هذا الاصطلاح، بل هو استعمله في معنى يخصّه، فيكون بمثابة وضعٍ جديد. يقول: «يجوز أنْ يكون لفظ التأثيل قد استُعمل في المجال اللغوي قبلنا، إلا أنّه لا يحضرنا الآن في أيّ مصدر، ولا متى تقدّم لنا أنْ اطلعنا عليه. وعلى أي حال، فإنّنا نستعمله هنا وبمعنى يخصّنا»[46].

ولنا تعليق على هذا الموقف من شقّين، أحدهما حول تحديد هوية واضع مصطلح التأثيل، والآخر حول معناه الأصلي، الذي بدّله عبد الرحمن. فلقد قرأنا للعلامة الشيخ صبحي الصالح في كتابه «دراسات في فقه اللغة»، أنّ مصطلح التأثيل يعود للأستاذ «عبد الحق فاضل» في مقال له حمل عنوان: «لمحات من التأثيل اللغوي»[47]، وأما المعنى الأصلي للتأثيل، فقد عرّفه الصالح بأنه «علم أصول الألفاظ». ولفظه مشتق من الأثل بمعنى الأصل. ويقابله في الفرنسية «Etymologie».[48]

دور العبارة والإشارة في التأثيل:

أشرنا في تعريف التأثيل أنه يُلِمّ بجانبَي العبارة والإشارة في المفهوم الفلسفي. لكنّنا ألمحنا إلى معناهما سريعاً. وسنفصّل هاهنا في العبارة والإشارة، موضحين دورهما في التأثيل.

تعريف العبارة ومبادؤها: حدّ العبارة أنّها «القول الذي تبيّن بنيته الظاهرة المعنى الذي أُريد منه»[49]. وإذا طبّقنا هذا الحد على المفهوم الفلسفي، كان الجانب العباري بالنسبة له هو القول الدال على المدلول الاصطلاحي، والدال على الجانب الشمولي، «الذي يمكن أنْ تشترك فيه جموع المتفلسفة، على اختلاف أقوامهم وتباين ألسنتهم». بهذا لا يكون فرق بين الواضع والمستعمِل بين الملقي والمتلقي، أياً كانت الأمة، وأياً كانت اللغة[50]. ولما كانت بنية القول العباري معبّرةً ظاهرةً دون إغماض، فإنها تتأسّس على مبادئ ثلاثة، هي: الحقيقة، الإحكام والتصريح.

مبدأ الحقيقة: «إنّ الألفاظ التي تدخل في تركيب العبارة تكون مستعملة في ما وُضعت له من المعاني في الأصل وضعاً مطابقاً لما عليه الأشياء في الخارج أو في الذهن»[51]. بذلك يتضمّن هذا المبدأ عنصرين:الاصطلاح (إطلاق اللفظ على المعنى)، والمطابقة ذهنياً أو خارجياً.

مبدأ الإحكام: «إنّ العبارة تفيد في استعمالاتها المختلفة... معنًى مشتركاً بينها جميعاً بالسوية»[52].

مبدأ التصريح: «إنّ العبارة تبْسط كلّ واحد من الألفاظ والتراكيب الضرورية لإفادة المقصود منها»[53]؛ بصورة جلية لا خفاء فيها، وبصورة كافية لا تأويل فيها ولا تقدير.

تعريف الإشارة ومبادؤها: يعرّف طه عبد الرحمن الإشارةَ بأنها «القول الذي تبيّن بنيته غير الظاهرة، أو قل بنيته المقدَّرة المعنى الذي أريد منه»[54]. إذاً، هي قول غيرُ ظاهرٍ في معناه، ومضمرٌ له. لكنّ هذا الإضمار، يعلم حقيقتَه أهلُ هذا القول، المنتسبون إلى مجالٍ تداولي متميّز عن غيره لغةً وعقيدةً ومعرفةً.

لذا تختلف الإشارة «باختلاف الثقافات، فما يكون إشارة في إحداها، قد لا يكون كذلك في غيرها»[55]. فتمسي الإشارة بذلك خاصةً غير قابلة للنقل والانتقال، ولا للإفهام والانفهام، أي على عكس العبارة تماماً.

وإذا كانت العبارة قولاً ظاهراً في معناه. مبادؤه الحقيقة والإحكام والتصريح. فإنّ مبادئ الإشارة تجري على العكس بالضرورة؛ لأنّها قولٌ غير ظاهرٍ في معناه.  ومبادئ الإشارة، هي: المجاز(في مقابل مبدأ الحقيقة)، والاشتباه (في مقابل مبدأ الإحكام)، والإضمار(في مقابل مبدأ التصريح).

مبدأ المجاز: هو«أنْ تكون الألفاظ التي تدخل في تركيب الإشارة مستعمَلة في غير ما وُضعت له في الأصل من المعاني»[56].

يؤكّد هذا المبدأ على عنصرين: الاستعمال التداولي، والازدواج الدلالي. الاستعمال هو حاجة الإشارة إلى قرينة مقالية أو مقامية، تنبّه المتكلم إلى المراد. والازدواج هو وجود معنيين: ظاهر غير مراد، ومراد غير ظاهر[57]. ويمكن التعليق هنا، أنّ الاستعمال ليس عنصراً تداولياً محضاً، وإنما هو تداولي مع وجود القرينة المقامية والسياقية. وحينما يَرِد الاستعمال مع قرينة مقالية، أي لفظية، يصبح الاستعمال دلالياً فقط.  ولم نكن لنورِدَ هذا التعليق، لولا رأيٌ أسّسه لنا طه عبد الرحمن نفسه، حينما ميّز بين الدلالة والتداول، معتبراً أنّه يوجد بُعدان: بعدٌ دلالي وبعدٌ تداولي. الدلالي يتوقّف على العبارة، والتداولي يتوقّف على «ما هو خارج العبارة من مقامات وسياقات الكلام»[58].

مبدأ الاشتباه: إنّ معاني القول الإشاري تختلف باختلاف سياقات استعمالاتها، بل تحتمل التردّد، ولا يتعيّن أحدها إلا بواسطةٍ غير إشارية.

مبدأ الإضمار: تقتصد الإشارة من القول ما أمكن تأويله وتقديره في سياق الكلام ومقامه[59].

يظهر من مبدأ الإضمار وجود دورٍ إحاليٍّ إلى المعارف المشتركة بين الملقي والمتلقّي. وهو أمرٌ لن يتحقّق، إلا إذا كانت تجمعهما روابط لغوية وعقدية ومعرفية. لكن كيف يمكن للعبارة والإشارة، وهما متضادتان، أنْ تلعبا معاً، جنباً إلى جنب، دوراً في تأثيل المفهوم الفلسفي؟.

العبارة والإشارة وتأثيل المفهوم الفلسفي: بين العبارة والإشارة تناقضٌ، كما اتضح من حدهما ومبادئهما. «حتّى إنّ ما ثبت للأولى انتفى عن الثانية، والعكس بالعكس»[60]. لكنّهما على تناقضهما تتواجدان معاً بنوع من الوجود. فواضع المدلول الاصطلاحي لمفهوم ما، أي واضع الجانب العباري فيه، يتعسّر عليه، بل يتعذّر ذكر جميع العناصر التي تدخل فيه. وهنا يكمن دور الجانب الإشاري، الذي يُضمِر من خلال اللفظ ما تعذّر ذكرُه في العبارة.

ومجرى هذه العملية من إضمار وإشارة إلى عناصر غير مذكورة، هو ما يعنيه عبد الرحمن بـ«تأثيل المفهوم»؛ أي «تزويد الجانب الاصطلاحي منه بالمضمرات، التي تربطه بالمجال التداولي...»[61].

إذاً، الإشارة نقلٌ لآثار مشتركة أصلية بين الملقي والمتلقي، «ينقلها الفيلسوف إلى المفهوم من وعي، أو... غير وعي»، ليجتمع بذلك الضدان، بل النقيضان: العبارة والإشارة، أو فقل: الشمولية والخصوصية !.

ووجه التأثيل هنا، هو أنّ تلك المُضمَرات التداولية «تنزل منزلة الأصول التي ينبني عليها المجال التداولي للفيلسوف». وهذا هو التأصيل، الذي شاء عبد الرحمن أنْ يصطلح عليه بالتأثيل[62].

ومتى كان المفهوم الفلسفي فاقداً لهذه الأصول، كانت عبارته قلقة؛ لأنها غير مزودة بالإشارات المُضمَرة. قلقُ عبارةِ المفهوم، يُطلق عليه صاحب التأثيل مصطلح «الاجتثاث». وهو مصطلح جديدٌ أيضاً[63].

فضلاً عن الأصول التداولية، فإنّ عبد الرحمن يولج في المفهوم الفلسفي، في جانبه الإشاري تحديداً، الزمانَ الماضي لهذه الأصول. «إذ لا يُضمَر إلا ما مضى الإخبار به وسبق العلم به»[64]. فالمفهوم مسكونٌ بخبرات الأمة وتأملاتها، وفهمها المتراكب عبر الأزمنة. كلّ هذا مُضمَرٌ تصلنا به الإشارة.

ويوظّف عبد الرحمن هذه الزمانية الإشارية في التمسّك بمفاهيم التراث، فيقول: «لاحظتَ المرة تلو المرة أنّ المدلولات الاصطلاحية لمفاهيمنا فيها المأخوذ من التراث... كنا واثقين بأنّ المفهوم الفلسفي، الذي لا توجد فيه بضعةٌ من تاريخنا»، لا يمكن أنْ يبدع أو يثمر[65]

يتبيّن من التصوير المتقدّم أنّ المفهوم الفلسفي ليس كلاماً عبارياً خالصاً، ولا كلاماً إشارياً خالصاً، وإنّما جامعاً بين العبارة والإشارة. وهذا التوازن بين العبارة والإشارة، هو الذي يميّز المفهوم الفلسفي عن سواه من المفاهيم. فالمفهوم العلمي يحفظ العبارة ويصرف الإشارة. والقول الأدبي يحفظ الإشارة ويصرف العبارة. وأما الفلسفي فيحفظ كلاً منهما، كما تبيّن[66]. ومن جهةٍ أخرى، فإنّ الإشارة المحفوظة في القول الفلسفي والأدبي، تختلف في كلّ منهما. فهي في الأدبي تكتّم وسكوت على ما ينبغي الإفصاح عنه. بينما هي في الفلسفي تستّر بالعبارة تستّرَ الباطن خلف الظاهر. هنا تكون الإشارة بمنزلة السند للعبارة. أمّا العبارة فتستند إلى الإشارة وتستمد منها[67]. بذلك يكون المفهوم الفلسفي وسطاً بين المفهومَين: العلمي والأدبي.

لكنّ فيلسوف الإشارة والإضمار سيتراجع وفي الكتاب نفسه!، عن هذه المكانة الوسطية المتفردة للمفهوم الفلسفي!. فلقد اعتبر لاحقاً أنه ليس للمفهوم الفلسفي مكانة ومرتبة على سُلّم العلوم والآداب. وإنّما هو موجود بحضور متفاوت في مفاهيم العلوم والآداب جميعاً. «فمكانته ليس الوجود في رتبة بعينها، وإنما هو الوجود في المراتب كلها، من غير استثناء.. وهو في القول العلمي كما في القول الأدبي»[68].

ولا يبثّ عبد الرحمن روحَ المفهوم الفلسفي في الوجود العلمي والأدبي فحسب، بل يسريها إلى السلوك أيضاً. فهي «تظهر في النثر المرسل والشعر، وفي الخبر والإنشاء، في الأقوال المكتوبة والمنطوقة، وفي الأفعال حركات وسكنات...»[69].

لن نتوقّف عند هذا التراجع الملفت، وإنّما عند قلقٍ منطقي تعاني منه فذلكة دور العبارة والإشارة في التأثيل، كما عرضها طه عبد الرحمن. فالمفهوم الفلسفي غالباً ما يكون منفهماً من لفظٍ واحد، هو اسم له ومصطلح. فإذا كانت العبارة لفظاً ظاهراً في المراد (أي حقيقة)، وإذا كانت الإشارة لفظاً غير ظاهر في المراد (أي مجاز)؛ فكيف يمكن أنْ يؤدي اسم المفهوم ولفظه ـ وهو واحد ـ بكلَي العبئين الظاهر وغير الظاهر؛ العبارة والإشارة؟!. هذا أمر غير ممكن من جهتين:

وقوع التناقض: استعمال اللفظ الواحد في آنٍ واحد في معنى مراد ظاهر، ومعنى مراد غير ظاهر، أي في الحقيقة والمجاز، هو تناقضٌ واضح. ووقوعه مخالفة لقانون عدم التناقض، أحد قوانين الفكر الأساسية.

الاستحالة: إنّ اللفظ المستعمل في معنًى ما، هو بمثابة المرآة له. ويكون فانياً فيه، كما تفنى المرآة نفسياً، حينما نغفل عنها أثناء تحديقنا في الصورة المنعكسة منها. إنّ استعمال اللفظ في معنيين مستحيل؛لأنّه إفناء له مرتين في آن واحد، وهو غير معقول[70].

بهذا يبدو تصوير عبد الرحمن وفذلكته لوجود العبارة والإشارة في المفهوم الفلسفي غير متماسكٍ منطقياً.

وكما تراجع الفيلسوف المؤثِّل عن المكانة الوسطية للمفهوم الفلسفي، فإنّه يتراجع هنا عن تصوّره للإشارة، بأنها قول له معنى غير ظاهر. يَعتبر عبد الرحمن في كتابه «العمل الديني وتجديد العقل» أنّ الإشارة هي المعنى، فتساوي بذلك «المفهوم»؛ لأنه بدوره هو المعنى. ولا يبقى بذلك موضع للعبارة في بنية المفهوم. يقول: «الإشارة تعبير عما يُسمّى بـ«المعنى» «[71]. ومن جهةٍ أخرى، إذا كانت الإشارة هي المعنى، فكيف تكون في الوقت نفسه قولاً أو لفظاً دالاً على معنى. وفي حقيقة الأمر، لا يُعتبر ما تقدّم تراجعاً، وإنّما هو الموقف الأصلي والأساس. وذلك إذا ما راعينا التسلسل التاريخي لصدور مؤلّفات عبد الرحمن. فكتاب «تجديد العقل» صدر عام 1989م، بينما صدر كتاب «المفهوم والتأثيل» عام 1999م. بذلك يكون موقف لفظية الإشارة هو الموقف الجديد، ومعنوية الإشارة هو الموقف الذي تراجع عنه.

ومهما يكن من أمر، ومع التسليم بسلامة تصوير الإشارة في بنية المفهوم الفلسفي. فإنّ هذه الإشارة لا تزوّدُ العبارة بمُضمَرات من نوع واحد، وإنّما من نوعين متباينين: المضمون والبنية، الدلالة والاستدلال[72].

فتارة يتمّ تأصيل الإمكانات المضمونية الفلسفيّة للمفهوم الفلسفي، وأخرى يتم تأصيل الإمكانات الاستدلالية المنطقية لهذا المفهوم. ومن ثمّ سوف نجد نوعين من التأثيل: التأثيل المضموني والتأثيل البنيوي. نوعان يشكّلان طريقتين في بناء المصطلحات؛ بناء المضمون وبناء البنية.

 التأثيل المضموني: (اللغوي، الاستعمالي والنقلي)

يرى عبد الرحمن أنّه يمكن للفيلسوف أنْ يستفيد من جملة عناصر دلالية في وضع المصطلحات: المعنى اللغوي الأصلي، القرائن الاستعمالية والمقامية، والدلالة الحسية السابقة على الدلالة العقلية. ويكون لكلّ عنصرٍ من هذه العناصر صنفُ تأثيلٍ يناسبه. هذه الأصناف، هي: التأثيل اللغوي، والتأثيل الاستعمالي والتأثيل النقلي.

التأثيل اللغوي:

إنّ الدلالة اللغوية الأصلية والأولى، التي وُضع لها اللفظ، غير منفكّة عن اللفظ؛ «ولا سبيل له [أي الفيلسوف] إلى صرف هذه الدلالة، حتّى لو فرضنا أنّه أراد ذلك». بل يجد الفيلسوف من هذه العناصر «كلَّ السمات المعنوية القريبة والبعيدة، التي يمكن أنْ يبني عليها العناصر الاصطلاحية في مفهومه»[73].

وقد تفطّن العلماء إلى أهمية الدلالة اللغوية السابقة في بناء المعرفة، ووضعوا للاشتغال بها تسمية خاصة، هي «إيتيمولوجيا» (Etymologie). ويمكن تعريف هذا الفرع من المعرفة بكونه «العلم الذي ينظر في أصول المعاني وأزمانها وأطوارها... أو تاريخها»[74].

وكان علماء العرب واعين لدور «المعنى اللغوي»، فكانوا ينبّهون إليه ويحدّدون وجوه المناسبة بينه وبين معناه الاصطلاحي، أو يقدّرون قواعد تضبط العلاقة بينهما. من قبيل: أصالة المعنى الاصطلاحي في فهم الخطاب الخاص، وصيرورة المعنى الاصطلاحي حقيقةً، والمعنى اللغوي مجازاً.

ووجه إشارية المعنى اللغوي تكمن فيما تقدّم، وهو صيرورته مجازاً بالنسبة إلى المعنى الاصطلاحي، الذي أصبح حقيقةً جديدة عند واضعيه ومستعمليه. وأما عند عبد الرحمن، فإنّ الأصل في «إشاريته... ليس هو الوضع المجازي الذي ينتقل إليه، وإنما الوضع الإضماري الذي يصير إليه، كأنّما الفيلسوف يحذفه عن قصد»[75].

ويعتبر عبد الرحمن أنّ الفلاسفة هم أشدُّ أهل المعرفة حرصاً على الاستناد إلى المعنى اللغوي، إيجاباً أو سلباً، اجتهاداً أو تقليداً. فالفيلسوف المقلِّد يرجع إلى الأصل اللغوي المنقول منه، دون مراعاة الأصل اللغوي المنقول إليه. بينما يرجع المجتهد إلى الأصل في اللسانين، مقارناً، واصلاً ومكمّلاً. وفي حالَي التقليد والاجتهاد، يستند الفيلسوف إلى الأصل اللغوي. وفي المقابل، نجد فيلسوفاً مقلّداً يصرف المعنى اللغوي دون تبرير، فيما يبرّر المجتهد هذا الصرف[76].

غير أنّ فكرة الاجتهاد في الاستناد إلى المعنى اللغوي هي صورية بحتة. إذ برأي عبد الرحمن، كان الفلاسفة في واقع ممارستهم مُقَلِّدين، إيجاباً أو سلباً. وقد ساق عبد الرحمن على ذلك مثَلَ المدلول اللغوي للفظ «فلسفة»، الذي جاء مركّباً تركيباً مزجياً معرّباً، ناقلاً معه المعنى اللغوي اليوناني: محبة الحكمة[77].

وفي الحقيقة، يجب التوقّف عند مِفْصلين ركّزهما عبد الرحمن: إشاريّة المعنى اللغوي، ووقوع الفلاسفة في التقليد. ويجب التوقّف أيضاً عند موقف «لويس ماسينيون» من التأثيل اللغوي للمفهوم الفلسفي.

ليس كلّ معنى لغوي، حينما يُستعار أو يُستعار منه إلى المعنى الاصطلاحي، يكون إشارة بالضرورة. فثمة معانٍ اصطلاحية تطابق المعاني اللغوية، ولا تزيد عليها بشيء على مستوى الدلالة، فتبقى عبارية من ثمّة.

وإذا كانت المعاني الاصطلاحية عبارية، فهل تصبح حينما تطابق المعاني اللغوية إشارية؟!.

وثمة أمثلة كثيرة على مطابقة المعنى الاصطلاحي واللغوي، منها: «الفيض»، «المعرفة»، «الوجود»، «النظر»... يمكن أن نصطلح لذلك بـ»التكريس»؛ أي تكريس الدلالة الأصلية.

والملفت أنّ عبد الرحمن نفسه يؤكّد على حقيقة التكريس، ومن ثمّ على عدم إشارية المعنى اللغوي بالضرورة دائماً. وذلك حين يقول:»من متداول الألفاظ ما ينتقل إلى هذا المجال المعرفي أو ذاك، ويُستخدم فيه استخدام مفاهيمه الخاصة، من غير أنْ يُوضع له مدلول زائد عن مدلوله»[78].

ومن جهةٍ أخرى، فإنّ ما عرَضه عبد الرحمن حول التأثيل اللغوي للمفهوم الفلسفي، لم يكن مبتَكَراً من «غير مثال سابق». فقد سبقه إلى ذلك «لويس ماسينيون»، الذي بذل جهداً رائداً في معالجة مسألة المصطلح الفلسفي العربي.

كان ماسينيون يشير تكراراً إلى أهمية المعنى اللغوي في وضع المصطلحات. وقال في إحدى محاضراته: «لإنشاء المصطلحات الفلسفيّة، لا بد من استعمال القواميس الخاصة بمفردات اللغة»[79].

وقال في محاضرة أخرى:»يتطلّب عمل قاموس المصطلحات الفلسفيّة:الأصل اللغوي(العربي)، الأصل اليوناني، الترجمة اللاتينية من العربية، رسائل الحدود عند فلاسفة العرب، المعنى الحالي ومراجعة المترادفات»[80].

وأما وقوع الفلاسفة في التقليد الإيجابي والسلبي، فنتيجةٌ يرفضها ماسينيون، الذي يرى أنّ المتصوفة سعوا للإبداع في المصطلحات؛ «لأجل فهم المعاني بدقة بأنفسهم، لا تقليداً لمن سبقهم»[81].

التأثيل الاستعمالي:

كما اهتمّ التأثيلُ اللغوي بالمعنى اللغوي، فإنّ التأثيل الاستعمالي يهتم بالقرائن الاستعمالية: السياقية والمقامية، التي تؤثِّر في القول حالَ الاستعمال. وكما أنّ الفيلسوف يضمر المعنى اللغوي في المفهوم، كذلك يضمر هذه القرائن فيه[82].

ووجه دخول هذه القرائن في إشارة الإضمار، أنّها ترجع إلى مجال لغوي تداولي مخصوص. وقد يضمرها الفيلسوف، اتّكالاً على تداولها، لكنّها على إضمارها تنفع في قيامها مقام الأشباه والنظائر في عملية المقايسة بين السابق وبين اللاحق، بين القديم وبين الجديد، من خلال التسرية والتعميم من الشبيه إلى الشبيه، ومن النظير إلى النظير.

يعطي عبد الرحمن مثالاً يقرّب فكرة التأثيل بواسطة سابق الاستعمالات. يقوم هذا المثال على الاستعمالات الواردة في سياقات ومقامات مختلفة لمفهوم «العدم»، الذي يعني لغةً «الفقر». هذه الاستعمالات: فقر، قفر، موت، زلزال، ظلام، خمود... فهو يستخرج من «الفقر» معنى «التجرد من كلّ ملك»، فيجعل «العدم» تجرداً من الوجود، مُنْزِلاً الوجود منزلة المُلْك. ويأخذ من «القفر»، معنى الخلاء والفراغ، فيصف العدم بأنه «الخلاء أو الفراغ من كلّ شيء موجود»[83].

يظهر بذلك أنّ توظيف هذه الاستعمالات، يجاوز بكثير المعنى اللغوي، الذي يقتصر على مدلول «الفقر» فقط. ويخلص عبد الرحمن قائلاً: «كلّ ذلك يدلّ على أنّ الاستعمالات السياقية والمقامية، التي يرد بها المفهوم تفيد أيّما فائدة في توسيع أفقه الاستشكالي»[84]. يمكن القول هنا أنّ عبد الرحمن ربّما وقع في خطأ «كثرة التوسيع». وهو أمر خطّأ به مراراً مفكرين آخرين في نظرياتهم ومواقفهم.

تنشأ كثرة التوسيع عند عبد الرحمن من عدم اعتماده بصورة مباشرة على استعمالات مفهوم «العدم» السياقية والمقامية. وإنّما كان يرجع إلى المعنى اللغوي لكلّ استعمال، فيلحقه بمفهوم العدم؛ بمعنى أنّه لجأ إلى معنى المستعمَل، لا المستعمَل نفسه. ولم يكن المستعمَل سوى واسطة عبور ومجاوزة. وهذا توسيعٌ كثير، وتقريبٌ للمختلفات، وتضييعٌ للتمايزات بين المفردات.

ومن جهةٍ أخرى، عندما يقوم عبد الرحمن بتسرية المعاني اللغوية البعيدة إلى المفهوم، ألا يكون عمله نوعاً من التأثيل اللغوي وليس الاستعمالي؟!. حيث كان المعنى المستعمل مجرّد واسطة إلى المعنى اللغوي الموضوع.

التأثيل النقلي:

يٌقصد بالتأثيل النقلي وضعُ الفيلسوف لمفاهيمه الفلسفيّة واستعمالها، بناءً على «الدلالات والاستعمالات الحسية، ناقلاً لها من دائرة المحسوس إلى دائرة المعقول»[85]. أي أنّ تأثيل المفهوم الفلسفي، وهو من طبيعة عقلية، قد يتمّ بالمحسوس. وهذا على خلاف التأثيلين الماضيَين، حيث كان التأثيل تأثيلاً للمعقول بالمعقول.

ويعتبر عبد الرحمن أنّ عدداً كبيراً من مفاهيم الفلسفة مؤثّلٌ حسياً، بدءاً من أمهات المفاهيم كالنظر والتأمّل، مروراً بأسماء النظريات الفلسفيّة الكبرى كالمادية والمثالية. وهذا الاستناد إلى الحسّي موجودٌ في اللسان العربي وغير العربي على السواء[86]. وفي الحقيقة، لا يسْلَمُ هذا الصنف التأثيلي ـ كما سابقاه ـ من المؤاخذة. فوصْفُه بأنّه تأثيل بالمحسوس، وتمييزه عن التأثيلين المضمونيَيْن الآخرَين باعتبار أنهما تأثيلٌ بالمعقول ـ هذا الوصف التمييزي غير دقيق إلى حدّ بعيد. فالمعاني اللغوية والاستعمالية أو بعضها، التي اعتُمدت في التأثيلين هي ذات طبيعة حسية أيضاً، مثل: القفر، الزلزال.... كما أنّ قيد العقلي، لم يُؤخذ أساساً في حدهما ومبادئهما.

وإذا قيل بأنّها محضُ معانٍ، والمعاني موجودة في الذهن، لا في عالم الحس، فإنّنا مع موافقتنا على ذلك، إلا أنّ هذا لا يجعل منها معقولة بالضرورة، بل منتزعة من عالم الحس والمادة. وقد سبق لفيلسوفنا أنْ أقرّ ـ بما لا نقرّ به شخصياًـ بأنّ المعاني تحمل صفة الوجود الذي تشير إليه، وتُنتزَع منه[87].

ثُمَّ إنّ عبد الرحمن سيتراجع هنا، كما تراجع من قبل؛ ليذهب إلى استقلال اللغة عن الوجود؛ لأنّها ذات طبيعة رمزية، ولا يمكن أنْ نطلب منها «الخروج عن وصفها الرمزي والصوري؛ لتنقل إلينا الأشياء ذاتها... هذه الحقيقة تدعو إلى القول بمبدأ استقلال مستوى اللغة عن مستوى الوجود»[88].

هذه هي الأصناف الثلاثة، التي تؤثّل مضمون المفهوم، وتمدُّه بأسباب لغوية واستعمالية وحسية،؛ لكي يتمكّن ويتأصّل.

لكنْ إذا ألممنا بالمؤاخذات المتعدّدة، التي سقناها في سياق كلّ صنف تأثيلي مضموني، فإنّ نوع التأثيل المضموني سيواجه خللاً منطقياً منهجياً. فبناءً على هذه المؤاخذات، ستصبح الأصناف الثلاثة غير متمايزة فيما بينها، بل ستتداخل. وقد ذكر علماء المنطق، أنه لا بد أنْ تتمايز الأقسام وأن لا تلتقي أبداً، حتّى تصحّ القسمة منطقياً. لكنْ ما هو وجه التداخل وعدم التمايز بين أصناف التأثيل المضموني؟

قلنا بأن التأثيل الاستعمالي هو تأثيل لغوي، ولو بصورة غير مباشرة. وإن التأثيلين اللغوي والاستعمالي، يؤثّلان في الحقيقة المعقولَ بالمحسوس (بعد اعتبار المعاني اللغوية والاستعمالية منتزعة من عالم الحس)، بينما يُفترض أنْ تكون هذه وظيفة التأثيل النقلي فقط؛ فيتداخل الاستعمالي باللغوي، وهما معاً يتداخلان بالنقلي!.

التأثيل البنيوي: (الاشتقاقي والتقابلي والاحتقالي)

كما استفاد التأثيل اللغوي من عناصر دلالية، فإنّ عناصر أخرى من طبيعة مباينة؛ استدلالية، سوف يستند إليها الفيلسوف في التأثيل البنيوي. «مقتضى التأثيل البنيوي التوسّل بالمضمَرات البنيوية في تأصيل الإمكانات الاستدلالية للمفاهيم... هذا التأصيل... يحصل منه النماء الاستدلالي للمفهوم... بناءً على إدماجه في علاقات تمتد جذورها في التداول الذي يختص بالفيلسوف»[89].

وهذا النوع من التأثيل موجود في الممارسة المفهومية الفلسفيّة، حيث يُلاحَظ أنّ الفيلسوف يحرص على إيجاد علائق تمكّنه من الانتقال بين المفاهيم، تعميماً لحكم، أو قياساً له، أو غير ذلك...

ويتم هذا الانتقال بالتشقيق، الذي له طرق ثلاث: الاشتقاق، المقابلة، والاحتقال[90]. وكل طريقة تؤدي إلى صنف متميز من التأثيل البنيوي الاستدلالي: التأثيل الاشتقاقي، التأثيل التقابلي والتأثيل الاحتقالي.

التأثيل الاشتقاقي:

التأثيل الاشتقاقي للمفهوم الفلسفي هو «الاستناد في بيان مدلوله الاصطلاحي إلى المُضمَرات اللازمة في صيغته الصرفية». فتتحقق له صفة التداول والتواصل اللغويين، وتنمو قوته الاستدلالية، بتشقيق المفاهيم بعضها من بعض[91]. وتتبانى المعاني، محاولةً الإجابة عن أسئلة مثارة. وتتولد أدلةٌ يُحتاج إليها... كلّ هذا يزيد في توسيع المصطلح استشكالياً واستدلالياً.

يعتمد الاشتقاق في التداول اللغوي العربي على نظام الأوزان. و«الوزن هو إعادة تشكيل للجذر اللغوي بواسطة التفريق والتحريك»؛ أي تفريق الحروف الأصلية بحروف صرفية، وإدخال الحركات الأربع على الحروف؛ «فيكون الوزن وحدة دلالية مستقلة لها مفهوم مستقل، صالحة لتوليد المفاهيم»![92].

هذا على خلاف غير اللسان العربي، الذي يعتمد الاشتقاق فيه على نظام الزيادات في صدر الجذر اللغوي، أو عجزه أو وسطه. فلا تكون الزيادة مستقلة، ومن ثمّ لا تصوغ مفهوماً بالضرورة، وإنّما تعين على صوغه.

والدلالة الاشتقاقية في اللسان العربي على قسمين:

دلالة الصيغة على نفسها. نحو: صيغة «الاستفعال»، الدالة على طلب الفعل.

دلالة الصيغة المتضايفة على لوازمها. نحو: صيغة «ناطق» الدالة على «المنطوق».

وهذه المدلولات الاشتقاقية «تنزل منزلة المعاني العقلية الكلية، التي لا تفارق عملية التفكير والتعبير»...؛ لأنها مستنبطة من مواد اللغة والمعرفة[93]. ويمكن النقدُ هنا في نقاطٍ  ثلاثة: الدلالة الاستقلالية للوزن الصرفي. مدى الرِّيَادة في التنبيه إلى الاشتقاق في غير اللسان العربي. السلامة المنطقية للتأثيل الاشتقاقي.

الأوزان الصرفية.. لا معنى استقلالي فيها: ذكر عبد الرحمن أنّ الوزن «وحدة دلالية مستقلة... (صالحة) لتوليد المفاهيم». ورغم موافقتنا على صلاحية الأوزان لتوليد المفاهيم، فإنّنا لا نوافق على استقلاليتها كوحدة دلالية. فقد بُحث هذا الأمر في جملة المباحث الفلسفيّة العقلية المبثوثة في علم أصول الفقه، تحت عنوان «المعنى الحرفي والمعنى الاسمي». ويقصدون بالمعنى الاسمي معاني الأسماء العامة والخاصة، والتي لها دلالة استقلالية، حتّى لو لم ترِدْ في جملة.. ويقصدون بالمعنى الحرفي ما كان موضوعاً (أي بالوضع) للربط بين معاني الأسماء. ومثال المعنى الحرفي: معاني الحروف والظروف وهيئات الكلمات (الأوزان)... فهذه الأمور موضوعة للربط بين المعاني الاسمية، ولا دلالة لها خارج الجمل والتراكيب. إنّ غايتها هي الدلالة الربطيّة بين معانٍ اسمية لها الاستقلال وحدها[94].

وتنشأ الملاحظة على عبد الرحمن من إصراره على استقلالية الوزن، أي المعنى الحرفي، كشرط في توليد المفاهيم. يقول: «الاستقلال شرط في المفاهيم». ونحن نرى أنّه لزوم ما لا يلزم، وتقييدٌ دون عائد ولا طائل. فإذا كان المعنى الحرفي ربطيّاً، لم يعد مستقلاً، ومن ثمّ غير صالح لتوليد المفاهيم، بناءً على أطروحة عبد الرحمن. لكنْ في الحقيقة، لا تتنافى الربطيّة مع توليد المفاهيم؛ لأنّنا إجمالاً بصدد اعتبار. ومثل ما يقول علماء أصول الفقه: «الاعتبار سهل المؤونة». بل يمكن القول أننا نحتاج إلى إثبات عدم استقلالية الأوزان ـ أي إلى العكس ـ للحفاظ على الانتقالات بين المفاهيم. فلو كانت كلّ المفاهيم ذات دلالة استقلالية، لَمَا وُجِدَ رابط ولا ربط عقليان بينها. فلا بد أنْ يكون أحدها أو بعضها موضوعاً للربط بين المفاهيم الأخرى. وتكون مفهوميّته هي عين الربطيّة.

الاشتقاق في غير اللسان العربي: ذهب عبد الرحمن إلى أنّ أحداً لم يلحظ قبله وجود فرق اشتقاقي بين اللسان العربي وغيره، حيث يقوم الأول على الاشتقاق الصرفي، فيما يقوم الثاني على نظام الزيادات.

- السلامة المنطقية في التأثيل الاشتقاقي: «أشار عبد الرحمن إلى أنّ هذا التأثيل يزيد في توسيع نطاق المصطلح الاستشكالي والاستدلالي». وهذا برأينا يؤدّي إلى تداخل التأثيل البنيوي بالمضموني، ومن ثمّ عدم تمايز القسمين؛ لأنّ المضموني هو المعنيّ بالاستشكال فقط. ولا بدّ أنْ تتمايز الأقسام، حتّى تصحّ القسمةُ منطقيّاً.

 التأثيل التقابلي:

التأثيل التقابلي للمفهوم الفلسفي هوالاستناد في بيان مدلوله الاصطلاحي إلى المُضمَرات غير المباشرة اللازمة عن توسط نظائره»؛ الوفاقية والطباقية، الأمثال والأضداد. ويقوم هذا التوسّط بالوصل بأصول التداول اللغوي والمعرفي. وينمّي هذا التوسّط جانبَ الاستدلال من خلال الانتقال من المفهوم إلى شبهه، أو منه إلى ضده. والإشارة الإضمارية هنا غير مباشرة؛ لأنّ المتقابلَين يتوسط أحدهما بالآخر[95].

ويُعَدُّ  التقابل من أبلغ طرق التشقيق في الفلسفة، «فكلامُ كلِّ فيلسوف يدور على عدد من المفاهيم المتقابلة... حتّى يكاد يكون الجانب الأصيل والمميّز في مذهبه يُقاس بما تضمّنه من تقابلات في مفاهيمه، إنْ لم يكن مرده ـ مرد مذهبه ـ إلى هذه التقابلات عينها...»[96]. لكن من لازم القول في هذا المقام، أنّ اعتبار التقابل الوفاقي استنتاجاً مباشراً، والتقابل الطباقي استنتاجاً غير مباشر ـ هذا الاعتبار يخالف ما حدّده عبد الرحمن في تعريف التأثيل التقابلي بأنه الاستناد إلى «المُضمَرات غير المباشرة». والصحيح أنْ يتم التقييد بعبارة: المباشرة وغير المباشرة. ولم نكن لنتوقف عند هذا الأمر، سوى أنّ عبد الرحمن في مقام التحديد الدقيق لهذا الصنف من التأثيل.

 التأثيل الاحتقالي هو تزويد المفهوم الفلسفي «بحقلٍ مفهومي يضرب نطاقاً على مفاهيم مخصوصة ينتج بعضها من بعض»، بعلاقة السؤال الإضمارية. فالسؤال هو الأصل الذي تتولّد بواسطته كلّ ممارسة فلسفية، وبواسطته يتشقّق المفهوم إلى مفاهيم متنوعة.

من أنواع هذه الأسئلة: «ما وجود كذا؟، وما طبيعته؟، وما موضوعه؟، وما عناصره؟، وما صنفه؟، وما أقسامه؟، وما مرتبته؟، وما الغاية منه؟، وما الوسيلة إليه؟، وما سببه؟، وما أثره؟، وما لواحقه؟،... وما أدلته؟ وما الاعتراضات عليه؟»[97].

هذه الأسئلة مضمَرة؛ لأنّ الفيلسوف يستحضرها في عقله، ولا يصرّح بها، ويجيلها في ذهنه، ولا يفصح إلا عن نواتجها: حقول المفاهيم الفلسفيّة. ورغم أنّه لا يصرّح بهذه الأسئلة، إلا أنّ المفاهيم الفلسفيّة تستند إليها؛ لأنها مسبَّبة عنها.

بذلك نكون قد عرضنا نوعَي التأثيل: المضموني والبنيوي. وفصّلنا أصناف المضموني: اللغوي، الاستعمالي والنقلي. وأصناف البنيوي: الاشتقاقي، التقابلي والاحتقالي.

على أنّ أصناف التأثيلين ليست محصورة أبداً بهذه الستة. حيث يرى عبد الرحمن أنّ كلّ ما جاز إسهامه في تأصيل المضمون الدلالي للمفهوم الفلسفي، كان تأثيلاً مضمونياً. وكل ما جاز إسهامه في نماء الصورة العلاقية للمفهوم الفلسفي وتوسعتها، كان تأثيلاً بنيوياً [98].

ثالثاً: تكوين المصطلح الفلسفي المنقول

لا تخلو أية عملية تعامل مع المصطلح الفلسفي من مواضعة واختراع. لكنّها تارة تكون تأسيسية صيغةً ومضموناً، وأخرى تكون منقولة.

وعندما تكون منقولة أو مترجمة، فهذا لا يعني إباحة الترسُّل، والوقوف عند حدود التعامل اللفظي، أو تمرير المضمون دون قيود.

وقد يفيد عنوان «التأثيل» كثيراً في التعاطي مع المفهوم المنقول. لكنّ تأثيل هذا المفهوم، يأتي في مرحلة لاحقة. فيحتاج أوَّلَ الأمر، إلى عملية تصحيحية وفق مجالات التداول العربي، ولاسيما على المستوى المعرفي والعقَدي.

 إنّ وضع المصطلح لمعنى منقول، عملية تخضع في مشروع طه عبد الرحمن لمحددات وشروط، نجمعها تحت عنوان: «تكوين المصطلح الفلسفي المنقول».

التصحيح التداولي: لا تقريب بغير تصحيح:

التقريب هو «جعل المنقول مأصولاً»، ووصله بأصلٍ من أصول التراث، أو وصله بالمعارف الأصلية[99]. ويُعَدُّ مفهوم التراث الدعامة الأساس، التي تستند إليها نظرية طه عبد الرحمن التكاملية في التراث. وأما التداول، فهو «وصفٌ لكل ما كان مظهراً من مظاهر التواصل والتفاعل بين صانعي التراث من عامة الناس وخاصتهم»[100]. وأما التصحيح، فهو وظيفة التقريب الأصلية، تقويماً للمفهوم المنقول وتسهيلاً لعبارته وتهويناً لمضمونه[101].

هذا بيان المراد الإجمالي من المفاهيم: التقريب والتداول والتصحيح.  لكنْ حتّى يكون التقريب التداولي تصحيحياً، لا بد من التفصيل في أوصاف المفاهيم المنقولة الصالحة للوصل، وفي أسباب التداول والتفاعل في مفاهيم دون مفاهيم أخرى، وفي آليات التصحيح وطرقه.

 أوصاف المفاهيم المنقولة الصالحة للوصل: لا تتعلّق عملية التقريب، فضلاً عن التصحيح بأيّ مفهوم اتُّفق، بل لا بد أنْ تتوافر في هذا المفهوم أوصاف محدَّدة تجعله قابلاً للوصل. من هذه الأوصاف:

النموذجية في التنوّع: أنْ تكون المفاهيم متنوعة بين مختلف جوانب سعي الإنسان؛ بين «الموضوع والمنهج، بين العلم والعمل، بين الاستدلال والسلوك، بين اليقين والظن».

النموذجية في التفاعل: أنْ تكون المفاهيم «متمازجة» مع مفاهيم العلوم الأخرى.

النموذجية في الاستمرار: أنْ تكون المفاهيم قابلةً للتقريب المستمر والتنقيح المتواصل، «كما لو كانت عملية رفع المنقول إلى مرتبة المأصول لا نهاية لها»[102].

أسباب التواصل في مفاهيم معينة: التواصل والتفاعل بين صانعي المفاهيم من عامةٍ أو خاصة، ناتجان عن أسباب ثلاث: لغوية وعقدية ومعرفية.

الأسباب اللغوية: «اللغة من أدوات تبليغ المقاصد والتأثير في المخاطب». وبقدر ما تكون لغة المفهوم مألوفة وموصولة بلغة التداول، يكون التبليغ أفضل والتأثير أكبر[103].

الأسباب العقَدية: تتّسم هذه الأسباب بطابعٍ ملحّ، أكثر من الأسباب اللغوية؛ لأنها ترتبط بالصبغة الدينية. وقد انطلقت حركة نقل المفاهيم أساساً من حاجةٍ في نفس المفكرين، تبتغي تفسير النص الديني، وتأويل متشابهه.

الأسباب المعرفية (أو العقلية): إذا كانت اللغة تمثّل وسيلةَ تداولٍ وتواصل، والعقيدة داعياً إلى النّقل، فإنّ المعرفة تمثل المادة المنقولة. هذه المادة هي «جملة مضامين دلالية وطرق استدلالية، تتوسّع بها المدارك العقلية...»[104].  وتقوم هذه الطُّرق وتلك المضامين بالربط بين المفاهيم، وبتوليدها بعضها من بعض، أو بمقابلتها بعضها ببعض. 

آليات التصحيح وطرقه: مرّ أنّ التصحيح التداولي هو نوع من التقويم والتسهيل والتهوين، يعمل على المجالات نفسها، التي شكّلت أسباباً للتداول. أي يعمل على العقيدة واللغة والمعرفة.  يتعلّق التقويم بالعقيدة، فيعمل على تنقية مضمون المفهوم المنقول، وإزالة أية تعارضات بينه وبين النص الديني[105].

أمّا التسهيل، فيتعلق بلغة المفهوم، فيزيل الاعوجاج منها، فلا «يستخدم... من الألفاظ إلا ما كان صرفه أو اشتقاقه جارياً على المقاييس اللفظية المعتادة... ولا يورد من المعاني إلا ما ناسب موضعه ولم ينْبُ عن لفظه، ولا يأتي بغير المألوف منها، إلا بعد أنْ يكون قد مهّد له تمهيداً...»[106]. كما لا بدَّ في التسهيل من الاقتصار على ما يوافق حاجة المخاطب، مع مراعاة مقتضيات الحال. وإذا ما تم هذا الأمر، كان المفهوم مألوفاً موصولاً، ما يورث الإنسانَ العادي القدرةَ على التفلسف. وأما تهوين مضمون المفهوم، فيقوم على إزالة الغموض منه. 

عموماً، فإنّ كلاً من التقويم والتسهيل والتهوين، يتّبع في عمله التقريبي قواعد تناسب طبيعة مجاله. فيكون لدينا قواعد لغوية تسهيلية، وقواعد معرفية تهوينية، وقواعد عقدية تقويمية.

ومهما يكن من أمر، فإنّ التصحيح التداولي، وباتباع قواعد المجال التداولي، يعتمد آليات أساسية، هي: الإضافة والحذف، الإبدال والقلب، التفريق والمقابلة.

الإضافة: تكميل المفهوم المنقول بوجوه وعناصر تجعله متوافقاً مع مجالات اللغة والعقيدة والمعرفة، أي مجالات التداول المنقول إليه.

الحذف: تخلية المنقول عما يتعارض مع مجالات التداول.

الإبدال: إبدال العناصر المُعارِضة بأخرى موافقة ومناسبة.

القلب: تغيير أوضاع المفهوم المنقول تقديماً وتأخيراً، حتّى يناسب مجالات التداول، ولاسيما اللغوية. وتبرز الحاجة إلى هذه الآلية في المفاهيم، التي تتألف من لفظين أو أكثر.

التفريق: التمييز في المفهوم المنقول بين مدلولين كانا متحدين، أحدهما موافق لمجال التداول فيُحفَظُ، والآخر مخالف لمجال التداول فيُصرَف.

المقابلة: الإتيان بالمعاني والألفاظ المقابلة للمفهوم المنقول: الموافِقة والمخالِفة. فالموافِقة تسري إليها أوصاف المنقول. والمخالِفة تسري إليها نقائض هذه الأوصاف[107]. تفيد المقابلة في توسيع استثمار المفاهيم، وتُسهم في عملية التفكير المنتج، أي الرابط بين المفاهيم. إذاً،  إن تقريب المفهوم المنقول عمليةٌ  تصحيحية متنوعة، تعتمد آليات محدّدة. وتتّبع قواعد تداولية لغوية وعقدية ومعرفية، فما هي هذه القواعد؟.

التداول الأصلي: لا تصحيح بغير قواعد المجال التداولي الأصلي

يمكن تعريف قواعد التداول تعريفاً جامعاً بأنّها «المبادئ الأولى التي تتفرّع منها المظاهر الثقافية والحضارية الأصلية، والتي تُمتحن بها قيمة المظاهر الثقافية والحضارية المنقولة»[108].

والمفهوم الفلسفي المنقول هو مظهر ثقافي حضاري، يجب أنْ تُمتحن قيمته بمعيار هذه المبادئ الأولية. وقد توصّل عبد الرحمن إلى هذه القواعد من خلال منهجية الاستقراء، ثمّ صنّفها إلى أصول ثلاثة (هي أسباب التداول): العقيدة، اللغة والمعرفة.

وكل أصلٍ من هذه الأصول، يتوزّع إلى قواعد ـ أصناف. لكل صنفٍ قيمةٌ بحسب درجة وظيفته في عملية التقريب التصحيحي. كما أنّ تعطّل جميع وظائف الأصل الواحد يؤدي إلى نوعٍ من الآفات.

قواعد الأصل العقَدي: (الاختيار، الائتمار والاعتبار)

قاعدة الاختيار: «سلِّم بأن العقيدة التي لا تنبني على أصول الشرع الإسلامي، قوةً وعملاً، كائنة ما كانت، لا تُعَدُّ عقيدة مقبولة...»[109]. ووظيفة هذه القاعدة إنهاضية، وقيمتها تفضيلية.

قاعدة الائتمار: «سلّم بأن الله سبحانه وتعالى واحد مستحق للتقديس والتنزيه والعبادة، دون سواه، متّبعاً تعاليم الرسالة، التي بُعث بها النبي الخاتم...»[110]. ووظيفة هذه القاعدة إنتاجية، لذا فإنّ قيمتها كبرى على قدر وظيفتها. وقد سمّى عبد الرحمن هذه القيمة بـ«الإنتاجية».

قاعدة الاعتبار: «سلّم بأن كلّ ما سوى الله، لا يكون إلا بمشيئته، ولا يُحفظ إلا بمنّته، معتبراً مقاصده في أحكامه، ومعتبراً بحكمته في مخلوقاته»[111]. إنّ وظيفة هذه القاعدة توجيهية، لذا فإنّ قيمتها لا تعدو أنْ تكون تكميلية.

وفي حقيقية الأمر، فإنّ بيان عبد الرحمن لقواعد الأصل العقَدي، لا يخلو من مؤاخذات إجمالية وتفصيلية.

أمّا إجمالاً، فإنّ إدارج الأصل العقَدي في آلية تكوين المصطلح الفلسفي يضيّع الهوية الفلسفيّة العقلية الشمولية لهذا المفهوم، ويجعله حاملاً لبصمة كلامية ونقلية إسلامية فقط. كما لاحظنا التأثّر الكبير عند عبد الرحمن بابن تيمية، من خلال تكرار الاقتباس الحرفي عنه. ومن خلال تقليده في صوغ قاعدتَي الائتمار والاعتبار.

وقد جاء ابن تيمية مرجعاً يتيماً في حاشية توثيق الأصل العقَدي، فضلاً عن أنّه شخصية علمية سلفية، قد لا يؤدّي الاستشهاد بأقوالها إلى تسليم الآخرين واقتناعهم بصورة كافية وافية. وينسحب هذا الأمر على سائر قواعد الأصول، حيث شكّل ابن تيمية مرجعاً وحيداً فيها.

وأما تفصيلاً، فلا يبدو اختيار تسمية قاعدة الاختيار موفَّقَاً نظراً إلى المسمى، ولاسيما إذا كانت مُدرجة ضمن الأصل العقَدي. حيث إنّ مصطلح الاختيار، هو من جملة المصطلحات الكلامية، التي انبنت عليها مسألةٌ إنسانيةٌ جوهرية، تدور حول فعل الإنسان بين التسيير والتخيير. والتي كثُر الكلام حولها بين فِرَق الكلام. بذلك ربّما لن يكون ممكناً نقل هذا المصطلح إلى وضعٍ جديد، أراد عبد الرحمن توظيفه سريعاً، ودون تأسيسٍ استعمالي كافٍ.

وقد وقع بذلك عبد الرحمن في آفة التضمين المبعِّدة. وهي آفة ذكرها في الصفات المضادة للتقريب التداولي، ممثّلاً لها بأنها اللجوء «إلى ألفاظ خاصة بالمجال العقَدي، فيحملها على وجوه غير وجوهها الأصلية».

وبخصوص قاعدة الائتمار، فإنّها في المحصّلة تتشابه مع قاعدة الاختيار. والخلاف بينهما هو في الإجمال والتفصيل فقط. فالتقديس والعبادة واتباع الرسالة، هي تفصيلٌ وتوسيعٌ في «أصول الشرع الإسلامي». بذلك تسري إلى قاعدة الائتمار وظيفةُ قاعدة الاختيار، فتكون إنهاضية لا إنتاجية. وإذا أمست كذلك لا تبقى أيّة قاعدة عقدية تقوم بوظيفة الإنتاج. وها هنا يكمن مقتلها.

قواعد الأصل اللغوي: (الإعجاز،الإنجاز والإيجاز)

قاعدة الإعجاز: «سلّم بأن اللسان العربي استُعمل في القرآن الكريم بوجوه من التأليف وطرقٍ في الخطاب، يعجز الناطقون عن الإتيان بمثلها عجزاً دائماً»[112]. وهذه القاعدة إنهاضية تفضيلية.

قاعدة الإنجاز: «لا تنشئ من الكلام إلا ما كان موافقاً لأساليب العرب في التعبير، وجارياً على عاداتهم في التبليغ»[113]. وهذه القاعدة إنتاجية تأصيلية.

قاعدة الإيجاز: «لتسلك مسالك الاختصار في العبارة عن مقاصدك، مؤدياً هذه المقاصد على الوجه الذي يسهل به وصلها بالمعارف المشتركة، ويعمل على استثمار هذه المعارف أقصى ما يكون الاستثمار»[114]. وهذه القاعدة توجيهية تكميلية.

وقد ذكر عبد الرحمن في سياق آخر قاعدتين تداوليتين بصورةٍ عرَضية. ونرى أنهما لُغويتان، وأن مكانهما المناسب في المقام. الأولى «تقضي بأن يظهر في الدليل ما هو مجهول، ويُضمَر ما هو معلوم». والثانية «تُوجب بأن يفصّل الكلام أو يُختصر بحسب مقتضيات الحال»[115].

ويمكن القول في شأن قاعدة الإعجاز اللغوية، إنّها رغم تصنيفها كقاعدة تفضيلية إنهاضية، بمعنى أنّها تُفضِّلُ العربية على سائر اللغات، فإنّ لسانها جاء تعجيزياً غيرَ إنهاضي أبداً. وذلك في حال طبقناها على آلية تكوين المصطلح الفلسفي. فالعجز الدائم عن الإتيان بمثل لغة القرآن، وإن كان صحيحاً بحد ذاته، لكنّه لا يصلح مُنْطَلَقاً لتصويب صناعة المفهوم الفلسفي.

يقول عبد الرحمن: «إنّ اللسان العربي استعمل في القرآن الكريم بوجوه من التأليف وطرق في الخطاب، يعجز الناطقون عن الإتيان بمثلها عجزاً دائماً».

وفي شأن قاعدة الإيجاز، فإنّها ـ كما يرى عبد الرحمن ـ توجيهية. إلا أنّه لم يلتزم بها إلى حدٍ ملحوظ جداً. حيث نرى تطويلاً وترسّلاً بالغين في مؤلفاته.

قواعد الأصل المعرفي (الاتساع، الانتفاع والاتباع):

قاعدة الاتساع: «سلّم بأنّ المعرفة الإسلامية حازت اتساع العقل بطلبها النفع في العلم والصلاح في العمل، ولا نفع في العلم ما لم يقترن بالعمل...»[116]. وهذه القاعدة إنهاضية تفضيلية.

قاعدة الانتفاع: «لتكن في توسّلك بالعقل النظري، طلباً للعلم بالأسباب الظاهرة للكون، منتفعاً بتسديد العقل العملي»[117]. وهذه القاعدة إنتاجية تأصيلية.

قاعدة الاتّباع: «لتكن في توسّلك بالعقل الوضعي، طلباً للعلم بالغايات الخفية للكون، متبعاً إشارات العقل الشرعي»[118]. وهذه القاعدة توجيهية تكميلية.

ولنا أنْ نقول بأن الأصل المعرفي هو أصل عقلي في الحقيقة، كما يظهر من صياغة عبد الرحمن لقواعده، حيث تتأسّس على مفاهيم العقل: العقل النظري، العقل العملي، العقل الوضعي والعقل الشرعي. وهو نفسه يعتبره كذلك أيضاً[119]. وإذا كان الأمر كذلك، فينبغي أنْ تكون قواعد الأصل العقَدي بمثابة مبادئ أولى مُساعِدَة على صناعة المفهوم الفلسفي بصورة أكثر فعالية وإنتاجية. وذلك على وزان مبادئ التفكير في المنطق الأرسطي: مبدأ عدم التناقض، ومبدأ الثالث المرفوع، ومبدأ الماهية. فقد اقتصرت القواعد التداولية على حث العاقل المقرِّب على العمل واتباع الشرع، وهي توجيهات عامة جداً، لا يتبدّى أثرها واضحاً في صناعة المفهوم الفلسفي وتكوينه.

كما أنّ هذه القواعد غير متمايزة ولا مستقلة، وبعضها يرجع إلى بعضٍ، بطريقة أو بأخرى. فـ«الاتساع» يجعل العقل شاملاً للعلم والعمل، و«الانتفاع» يدعو إلى تسديد العقل العلمي النظري بالعقل العملي. و«الاتباع» يدعو إلى اتّباع العقل الوضعي للعقل الشرعي. بينما العقل الشرعي هو عقل عملي في حقيقة الأمر؛ لأنه ينظر في أفعال المكلفين وأعمالهم.

بذلك تكون جميع القواعد دائرةً في فلك العلم والعمل، ولا مائز مهم بينها ليجعلها ثلاثاً، وليس قاعدة واحدة.

وقد قدّم لنا فيلسوف التقريب تطبيقاً للتقريب التصحيحي ـ وفق قواعد الأصول الثلاثة ـ بَيْن مفهوم «التيوس» في المجال التداولي اليوناني، وبين مفهوم «الإله» في المجال التداولي الإسلامي.

إنّ القائل بالتقريب يرى أنه من الضروري الاشتغال بالوصل بين معنى «التيوس»، ومعنى «الإله»، باعتبار انتمائهما إلى مجالين مختلفين. والانتماء التداولي يجعل كلاً منهما مقترناً بثلاث قيم مختلفة. هي: التفضيل والتأصيل والتكميل. وهما مقترنان كذلك بثلاثة أصول متمايزة، هي: العقيدة، واللغة والمعرفة. يحتاج التقريب إلى الوصل بهذه الأصول واحداً بعد واحدٍ في المجالين، والوصل بهذه القيم واحدة بعد واحدةٍ في المجالين أيضاً.

مثلاً، القيمة التأصيلية العقَدية لمفهوم «التيوس» عند اليونان هي المبدأ الأول في مراتب الوجود. بينما هذه القيمة لمفهوم «الإله» عند المسلمين هي أنه المستحق للعبادة دون سواه. وفرق بين القيمتين: الأولى تجعل الإله مقصداً نظرياً فكرانياً، والأخرى تجعله مقصداً عملانياً. والقيمة التأصيلية اللغوية عند اليونان هي أنه يدلّ على «السيّار». في حين أنّ هذه القيمة عند الإسلام هي «المعبود». وفرقٌ بين القيمتين. فالأولى تربط  بين معانٍ دخلت في تحديد الألوهية بالمعنى الفلسفي، وهي الحركة والفلك والكواكب.. بينما المعبود يربط بين معنى الطاعة والخضوع والعمل.

 وكذلك القيمة التأصيلية المعرفية لـ«تيوس»، هي أنه هو «الصانع». بينما هذه القيمة في الإله هي أنه «الخالق». وفرق شاسعٌ بينهما: فالصانع يصنع من شيء، بينما الخالق يخلق من لا شيء[120].

وفي الواقع، إذا كان المثال المتقدّم تطبيقاً نموذجياً للتقريب التصحيحي، ستمسي عملية تكوين المصطلح الفلسفي المنقول ـ أو تخيّره ـ عمليةً مركّبةً صعبةً ومطوّلة إلى حدٍ كبير. وتتطلب إلماماً أو إتقاناً واسعَين بالغَين باللغة المنقول منها وإليها، وبالمضمون الفكري المنقول.

ومن جهةٍ أخرى، فإنّ عرض هذا المثال جاء أكثر قرباً إلى مادةٍ في موسوعة فلسفية، تريد تبيين دلالات مصطلحٍ ما، واستعمالاته المختلفة، ومقارنته بمفاهيم أخرى.. ولم يوحِ هذا العرض بأنه نموذج لتقريب مفهومٍ فلسفيٍ منقول.

كما أنّنا لم نعلم المحصّلة، التي انتهى إليها من هذه المقارنة، وما هو المصطلح الفلسفي المُختار، طالما أنّ المفهومين يفترقان عقيدةً ولغةً ومعرفة، ويتباينان قيمةً ووظيفة.

اليقين التداولي: لا قواعد تداولية بغير يقين

يتوسّل التقريب بقيمة القيم دون سواها، أي باليقين التداولي. فحتى تكون نتيجة التقريب يقينية، ينبغي أنْ تكون جميع مفاصل هذه العملية يقينية كذلك. يقول: «لا تقريب بغير تحقّق بالمجال الأصلي، وبغير تيقّن من العناصر التي يشتمل عليها؛ مضامين ووظائف»[121].

ويؤدّي الإخلال بشرط اليقين التداولي إلى ما يسمّيه عبد الرحمن بـ «التقريب القلق»، الذي وقع فيه ـ كما يرى ـ «مفكّرو الإسلام وبعض علمائه».

وعكسُ ذلك يؤدّي إلى «الاستيقان»؛ لأنّ عملية التقريب السليم للمفاهيم الفلسفيّة، «تحمل المخاطب على التصديق... ولا يعرض له الشك... إلا بدليل يصرفه عن يقينه»[122].

بذلك يتبيّن أنّ تكوين المصطلح الفلسفي المنقول عند طه عبد الرحمن، هو عملية تسعى إلى أن تكون تقريبية تصحيحية تداولية يقينية.

رابعاً: تقييم النظرية

 كنا قد سقنا عدداً كبيراً من التعليقات النقدية أثناء عرض النظرية. غير أنّها جاءت تفصيلية تقف عند حدود خاصة.  ولم ترقَ هذه التعليقات إلى مستوى جامع يفحص عن منطق النظرية ومُنْطَلَقِها ولازمها، وعن ثباتها العام، وعن مدى كمالها وتضمّنها لعناصر كافية، وأخيراً عن مدى تأصيليتها.

وإذا تبيّن وجودُ خللٍ في النظرية، فهل سيؤدّي هذا إلى خللٍ في المصطلحات، التي وضعها أو استثمرها باعتبارها نواتج عن النظرية؟ 

الوقوع في التناقض:

 أخلّ عبد الرحمن بمبدأ عدم التناقض في تصويره وفذلكته لدور العبارة والإشارة في التأثيل. فبناءً على لفظيّة الإشارة، وأنها «قول تبيّن بنيته غير الظاهرة... المعنى الذي أُريد منه»[123]. وبناء على أنّ العبارة أيضاً، «قول تبين بنيته الظاهرة المعنى الذي أريد منه»[124]. بناء على ذلك يجتمع قولان أو لفظان في المفهوم الفلسفي المؤثّل، مع أنه لفظ واحد، كما هو المفترض. وقد أشرنا إلى هذا الأمر سابقاً في عنوان «العبارة والإشارة وتأثيل المفهوم الفلسفي». وقلنا بأنه مخالفة واضحة لقانون عدم التناقض، أحد قوانين الفكر الأساسية.

هذا الأمر يجعل نظرية التأثيل أمام محنة منطقية، تدفعها إلى إعادة صياغة التأثيل وتصويره، بما لا يتنافى وقانون عدم التناقض.

لكنْ لعبد الرحمن موقف من قانون عدم التناقض وسائر قوانين الفكر الأساسية (الثالث المرفوع والهوية). يتجاوز هذا الموقف حدود هذه القوانين المتّسقة إلى رحاب مجانبة الاتساق، وفقاً لشكل من أشكال المنطق، هو «المنطق المجانب (أو الصارف) للاتساق، الذي يقوم على الالتزام بالقواعد المرسومة في عملية الاستنتاج»[125].

ومهما كانت صورة هذه القواعد: مخالفةً لقوانين الفكر أو موافقة لها، فإنّ الأساس هو البناء عليها والالتزام بها من بداية الاستدلال وحتى بلوغ النتائج. يقول عبد الرحمن: «من المسلّم به أنّ التناقض حقيقة قائمة في تجاربنا مع الأشياء، لِمَا تبلغه من التعقيد. وقد عَمِلت على التبصير بها ووصفها وتنظيرها زمرةٌ من أهل النظر»[126].

لذلك، يمكن لنا أنْ نتصوّر عبد الرحمن مدافعاً عن اجتماع قولَي العبارة والإشارة في مفهوم واحد. وهذا يدفعنا إلى الارتقاء بالنقد إلى محاولة إثبات مبدأ عدم التناقض كقانونٍ لا يمكن صرفه عن أية عملية تفكير.

وفي حقيقة الأمر، تبدو محاولة زعزعة هذا القانون قديمةً ـ جديدة. فلقد اعتَبرت المادية الديالكتيكية أنّ قانون عدم التناقض ليس قانوناً مطلقاً للتفكير، وإنما هو قانون لإحدى طرق التفكير. وثمة طريقة أخرى للتفكير تلتزم بالتناقض.

وترى المادية أنّ ما يسمى بقانون عدم التناقض هو قانون أرسطي، أثّر في الفكر الفلسفي طويلاً.  وقد أُبطل مع هيجل، الذي رأى أنّ التناقض والتضاد يحكمان الكون والطبيعة في صيرورة مطلقة. وكلّ ما هو واقعي وكوني هو فكري وبالعكس. فيكون التناقض حاكماً على التفكير أيضاً، بناءً على الملازمة الهيجلية بين الواقع العياني والفكري [127]. وبالتالي، يجب حلُّ التناقض على مستوى الوجود، حتّى يمكن سراية هذا الحل إلى الفكر، إذا أردنا مجاراة منطق الموقف الهيجلي.

قبل هيجل، واجهت الفلسفة اليونانية مشكلة الحركة في الوجود. فقال هيرقليطس  بالحركة والتغير الأزليين (وليس الصيرورة)، بحسب ما تُرينا الحواس[128]. وقال برمنيدس بالثبات بحسب مقتضى العقل؛ لأنّ الحركة هي الانتقال من الوجود إلى اللاوجود وبالعكس. لكنّ اللاوجود لا وجود له، فكيف ننتقل منه أو إليه؟! [129].

أمّا أفلاطون، فحاول حلّ المشكلة، بافتراض عالمين: عالم المادة، وهو عالم التغير والحركة. وعالم الصور أو المُثُل، وهو عالم الثبات[130]. لكن نجد من بين مؤرخي الفلسفة اليونانية مَن يقول أنه ليس للمثل وجوداً مفارقاً في عالمٍ ثانٍ. بل وجودها قائمٌ في عقل الإنسان، أو في عقل الإله. لكن هذا يُضاد كونها ـ برأي أفلاطون ـ أزلية أبدية. فكونها في عقل الإنسان أو في عقل الإله، سيؤدي إلى مخلوقيّتها لهذين العقلين. وهو خُلف كونها أزلية أبدية[131]. غير أنّه على التقديرين: وجودها في عالم المثل، أو وجودها في الذهن؛ فإنّ هذا الوجود يكون ثابتاً مفارقاً للمادة وللحس.

وأخيراً، اعتبر أرسطو أنّ كلّ حركة تفترض ثباتاً وتغيّراً، فاستعان بفكرة القوة والفعل، والصورة والمادة؛ لكي يصوّر هذه الحركة، المنطلقة من ثبات ما هو بالقوة وما هو صورة[132].

وفي الحقيقة، إنّ كلّ هذه المحاولات تنطلق من أنّ الحركة والثبات هما من أعراض الوجود. فإما أنْ يكون الوجود متحرّكاً باستمرار، وإما أنْ يكون ثابتاً باستمرار، ولا يمكن أنْ يكون متحرّكاً وثابتاً في الآن نفسه.

غير أنّ الفيلسوف الإيراني صدر الدين الشيرازي، أو «ملا صدرا»، حاول أنْ يحلَّ مشكلة الحركة على ضوء فكرة مبتكرة هي «الحركة الجوهرية». فقال بأن الحركة ليست عرضاً من أعراض الموجود المادي، بل هي عين جوهره وجزءٌ عيني من طبيعته. طبيعة الموجود المادي هي الحركة، وطبيعة الموجود ما وراء المادة هي الثبات. الحركة والثبات هما رتبتان للوجود، وطبيعتان له. لكن في رتبة الطبيعة تكون الحركة، وفي رتبة ما بعد الطبيعة يكون الثبات[133].

بذلك لا مجال للصيرورة في عالم الطبيعة، التي تقوم على الجمع بين الوجود والعدم، وبين إثبات الشيء وسلبه. وإنما الحل المنطقي هو الحركة الوجودية (الجوهرية) المستمرة. ومتى توقفت هذه الحركة، فإنّ المادة تتجرَّد. فليس ثمّة صيرورة متقلبة بين الحركة والثبات، وإنما حركة عيانية مستمرة لا تثبت.

فإذا حُلَّت هذه المشكلة على مستوى الوجود، بناء على نظرية الشيرازي، لن يكون ثمّة تناقضٌ متاح في الفكر. وإنما سيسود الفكرَ قانونُ عدم التناقض.

ومن جهةٍ أخرى، جهة الفكر لا الوجود، فإنّ أصل امتناع التناقض هو أصل أصيل لحصول الجزم واليقين في المعرفة العلمية. ولولاه، «لتعذّر التصديق اليقيني بأي موضوع من المواضيع، ولو كان مدعوماً بمئات الآلاف من البراهين... و(لولاه) سوف ينهار أساس جميع القوانين العلمية»[134]. وذلك لأنّ قوانين العلم تعني إجرائياً التمسّك بأحد الطرفين: الصحة أو الخطأ، المطابقة أو عدم المطابقة، ولا يمكن التمسّك بهما معاً في عرض واحد.

فهل يرتضي عبد الرحمن أنْ تُوصف نظريته بالصحة والخطأ في آن واحد، بالدقة والاشتباه في سياق واحد؟!. وهو عند عرضه لنظريته في التأثيل، ألا يسعى إلى صرفنا عن المقابل، وهو الاجتثاث؟ هل يوافق على اجتماع التأثيل والاجتثاث معاً في المفهوم الفلسفي الواحد؟!.

بذلك يجب تعديل نظرية التأثيل، ولاسيما دور الإشارة فيها. وربما يكون المُنْطَلَق من صبْغ الإشارة صبغةً معنوية بحتة، تنطلق من لفظ العبارة؛ فتؤثّل المعنى، وتَصِلُه بمجالات التداول الأصلي.

 تداخل الأقسام ولزوم الدَّور:

إذا كان الوقوع في التناقض أمراً، قد تبيحه بعض أنواع المنطق الحديث، فإنّ خللَيْن منطقيين جديدَين لن يبيحهما أيُّ منطق. هما خلل تداخل الأقسام وخلل لزوم الدور.

فلقد قام عبد الرحمن بتقسيمٍ نوعيٍّ للتأثيل إلى: مضموني وبنيوي. ثمّ قسّم كلّ نوع إلى أصناف. غير أنّه حين عرض هذه الأقسام الصنْفية والنوعية، لم يجعلها مستقلة عن بعضها تمام الاستقلال، ولا متمايزة تمايزاً واضحاً. وقد أشرنا إلى هذا الأمر في نوعَي التأثيل وأصنافهما.

وفي حقيقة الأمر، إنّ أقسام التأثيل صنفاً أو نوعاً، إذا لم تتمايز ولم يستقل بعضها عن بعض، فإنها ستتداخل بالضرورة. ويختفي بذلك الحدُّ المفهومي المميِّز لكل قسم، فتحتاج معه نظرية التأثيل إلى تعديلٍ أساسي، لتستطيع التقسيم إلى: تأثيل المضمون وتأثيل البنية.

ورغم أنّ المضمون والبنية هما قسيمان ثنائيان، ومنطقيان في نفس الأمر، فإنّ فذلكة تأثيل المضمون، أو تأثيل البنية، هي التي تحتاج إلى تعديلٍ تحديداً. وقد نصّت على شرطية «عدم تداخل الأقسام» أو الأنواع أو الأصناف في القسمة المنطقية، جملةٌ من كتب المنطق.

وبعبارة أخرى توضيحية: إنّ المفهوم هو نتاج التأثيل المضموني والبنيوي، ومتأخرٌ عنهما ومتوقف عليهما. لكنّ عبد الرحمن يجعله سابقاً عليهما، ويجعلهما متوقفان عليه. ما يؤدي إلى توقف كلّ منهما على الآخر، بحسب الفرض والواقع. وتجدر الإشارة إلى أنّ عبد الرحمن، عرّف الدور تعريفاً منطقياً، معتبراً أنه «توقُّف كلّ من الشيئين أحدهما على الآخر»[135]. وقد تمسّك أيضاً بمشكلة لزوم الدور في نقد جملةٍ من المواقف. فتكون مؤاخذتنا عليه ملزمةً له.

وفي حقيقة الأمر، يمكن حلّ هذه العقدة بعَذر عبد الرحمن عذراً نابعاً من رَحِم نظريته؛ حيث إنّه كان مأخوذاً بإشكالية الفلسفة والترجمة. وهي تُعتبر في رأينا إحدى الأواليات المحركة لمشروعه الفلسفي. فهو يقلق من قلق المفهوم الفلسفي المنقول، ويسعى إلى تقريبه وتصحيحه ووصله بأصول التداول. ربّما هذا ما جعله يعرّف التأثيل اشتباهاً بأنه تأصيل لمفهوم قائم قبلاً. بينما في الحقيقة، قد يكون التأثيل تعاطياً مع مفهوم قائمٍ، وقد يكون أيضاً إقامة لمفهوم جديد واختراعاً له.

ومع هذا، حينما يتعاطى مع المفهوم القائم، فإنه يعيد خلقه من جديد، بعد تخليصه من آثار القلق والتهويل.

بذلك يكون التقريب التداولي للمفهوم المنقول، مقدمة ضرورية وعلاجية، قبل تأثيل مضمونه وتأثيل بنيته. ولاسيما إذا كان التقريب على المستوى العقَدي والمعرفي.

اضطراب مكوّنات النظرية:

صوّرنا في مشكلة التناقض الخللَ المنطقي المترتب على لفظية الإشارة. وأشرنا إلى بروز موقف آخر لعبد الرحمن من طبيعة الإشارة، هو موقف المعنوية. وبين المعنوية واللفظية، يُمسي السعيُ إلى تحديد طبيعة الإشارة ـ رغم أنّنا نعلم بخفائها وغموضها وتسترها ـ مردياً لفيلسوفنا إلى حال واضحة من التردّد. 

الأمر الذي يُدخل نظرية التأثيل في ارتباكٍ عام؛ لأنها تقوم على ركْنَي العبارة والإشارة. بل هي أكثر ما تتّكئ على مسند الإشارة ـ ذات الطبيعة القلقة هنا، حتّى يتمايز المفهوم الفلسفي عن المفهوم العلمي في إشاريّته المضمرة.

وإذا كانت لفظية الإشارة ستؤدّي إلى الإخلال بقانون عدم التناقض، فإنّ معنويتها في المقابل ستؤدي إلى خلل معرفي في النظرية. حينما تكون الإشارة هي المعنى، أي معنى المصطلح الفلسفي، ستساوي المفهوم الفلسفي مساواة مطبقة عليه. ولا يبقى أي حيّز لمدلول العبارة. ويضحي لفظ العبارة قولاً منتزع المعنى ومجرداً عنه.

وربما يتّصل هذا التردّد بتردّد آخر، بَدَر من طه عبد الرحمن. وذلك حينما بحث في منزلة القول الفلسفي من بين سائر أقوال العلوم والآداب، من حيث دور العبارة والإشارة فيها.

ذهب تارة إلى أنّها منزلة وسطى بين العلم والأدب، لا عبارية صرفة ولا إشارية صرفة. وإنّما من هذه وتلك. وذهب تارة أخرى، إلى أنّ القول الفلسفي لا ينزل أية منزلة، بل هو موجودٌ في الأقوال جميعاً؛ لأنّ كلاً منها يحمل أثراً وروحاً من الفلسفة الطبيعية (غير الصناعية).

وكلٌ من المذهبين غير سالمٍ. فالمنزلة الوسطى تعتمد على تصوّر طبيعة الإشارة، وقد مرّ أنها طبيعة قلقة. والمنزلة العابرة للمنازل والمبثوثة فيها جميعاً، تُضفي على عبارية القول الفلسفي وإشاريّته طابعاً من التجريد والكليانية، بحيث توجَدان (العبارة والإشارة) وجوداً تشكيكياً في كلّ العلوم والآداب؛ كما ينطبق الكلي على كثيرٍ من أفراده، ومع هذا يبقى متجرّداً عنها.

وليس التجريد برأينا أمراً مرفوضاً. وإنّما هو كذلك عند عبد الرحمن فقط. حيث يقف منه موقفاً رافضاً، وينقضّ عليه وينقضه أنّى استشعر وجوده في القول الفلسفي. فنراه أعاد الصلة بين معاني الفلسفة ـ وهي مجرّدة ومنقطعة بحسب الممارسة الفلسفيّة ـ وبين الواقع، واقع التداول والاستعمال، والمتداولين والمستعملين.

وفي التجريد نفسه نجد بعضاً من التردد أيضاً. ففي الوقت، الذي يربط فيه بين المعاني الفلسفيّة وبين الواقع التداولي والاستعمالي، يعترف ضمناً بوقوع التجريد.

وتوضيح هذا الاعتراف المضمّن، أنّ التأثيل النقلي عنده يقوم على تأصيل المعقول بالمحسوس؛ ما يقود بالضرورة إلى حقيقةِ تجرّد المعاني الفلسفيّة بطبيعتها، حتّى يُحتاج إلى وصلها بالمحسوس. وإنّ ربطَ المعاني العقلية بالمحسوس، هو لأجل أنْ تكتسب من عيانيّته عيانية، ستسكن في المعنى وتثقله إلى واقعها. وإذا لم تؤثَّل بالمحسوس، فيمكن تأثيلها بالمعقول أيضاً، أي تأثيل المجرّد بالمجرّد. وذلك في التأثيل اللغوي والتأثيل الاستعمالي؛ باعتبارهما تأثيلين عقليين، كما يصفهما عبد الرحمن بدوره.

ونلمح هذا الاضطراب كذلك، حين نقَدْنا أصناف التأثيل المضموني. حيث رأينا أنّ التأثيل الاستعمالي يرجع إلى اللغوي بوجه من الوجوه. وأن هذين الاثنين يرجعان بوجهٍ وجيه إلى التأثيل النقلي.

وثمة اضطراب آخر كذلك، لكنّه من النوع الحاصل عند متلقي النظرية لا عند مُلقيها. حيث يستعمل عبد الرحمن عدداً من المصطلحات القديمة، بعد اختراع دلالات جديدة لها.  ومنشأ الاضطراب عند المتلقي، يكمن في كون هذه المصطلحات شائعة وسارية على دلالات قديمة، رسّختها الممارسة الفلسفيّة واللغوية المتجذّرة إلى قرون بعيدة؛ فتجعلها آبية عاصية عن الانصراف في ذهن المتلقي إلى دلالات جديدة ومخترعة.

ومن قبيل هذه المصطلحات: الاختيار(مصطلح كلامي)، والإبدال(مصطلح صرفي) والقلْب (مصطلح فقهي لغوي)، والتجريد(مصطلح فلسفي). ومع ذلك، ليس هذا الاضطراب بعزيز في تاريخ النظريات الفلسفيّة عموماً.

نقص النظرية:

تحتاج نظرية التأثيل إلى متابعة واستكمال نواقص تركها عبد الرحمن، ولم يطرق حدودها!. رغم أنّه أشار إلى بعض هذه النواقص. فبينما يذكر أنّ العناصر الدلالية المكوِّنة لمدلول اللفظ، هي العنصر العباري، والعنصر الإشاري، والعنصر الاقتضائي والعنصر الالتزامي.

وقد فصّل في العنصرين الأولين إلى حدّ كبيرٍ. لكنّه أغفل توظيف العنصرين الأخيرين: الاقتضائي والالتزامي، وأغضى عن علاقتهما بنظريته التأثيلية، مكتفياً بمحض الإشارة إلى حدّ كلّ منهما. حيث يرى عبد الرحمن، أنّ العنصر الاقتضائي هو دلالة اللفظ على قيود وشروط تحدّد وجوهَ تركيبه مع غيره من الألفاظ. وأما الالتزامي، فهو دلالة اللفظ على لوازم منفكة أو غير منفكة، تتولّد من اللفظ في سياق ارتباطه بغيره من الألفاظ، بناءً على قرائن مقالية أو مقامية[136].

 وإنّما نفترض وجود علاقة لهما بالتأثيل؛ لأنّهما عنصران دلاليان مكوّنان لمعنى اللفظ، أي المفهوم. وهل المعنى إلا المفهوم الفلسفي؟. سوف يجيب عبد الرحمن بالإيجاب، كما أجاب مراراً.

وفي مقامٍ آخر، يضيف عبد الرحمن تشقيقاً مختلفاً للمدلول، يسميه المدلول التجرّبي. ويعني به المدلول المستعمل في نطاق التجربة المحسوسة[137]. حال هذا المدلول مثل حال العنصرين الدلاليين، في عدم وجود مرتكز له في نظرية التأثيل. ومهما يكن من أمر، فإنّنا نرى أنّ المدلول التجرّبي هو أقرب إلى التأثيل المضموني الاستعمالي أو النقلي، باعتبارهما تأثيلاً بالمحسوس. كما أنّ العنصرين الدلاليين يشبهان التأثيل البنيوي، لأنه تأثيل علاقي ارتباطي مثلهما.

نجد نقصاً كذلك في التأثيل البنيوي الاشتقاقي، حيث لم يبيّن وجوه الاشتقاق النافعة فيه. وإنما يكتفي بإثبات صلاحية هذا الصنف التأثيلي.

ومن الأمور الجليلة التي أشار إليها عبد الرحمن في عددٍ من مؤلّفاته، وطبّقها في تكوين مصطلحاته: مبدأ الانعكاس. غير أنّه أنقصَ هذا المبدأ من نظرية التأثيل.

يقوم هذا المبدأ على أنّه «لكل معنى مراتب في نفسه ومراتب في غيره»[138]. وتتولّد مصطلحات جديدة تبعاً لمراتب المعنى المتكشّفة فيه. وكذلك تتولّد مصطلحات أخرى تبعاً لمرتبة المعنى بالنسبة لغيره.

وأكثر العلوم التي استثمرت هذا المبدأ، علم التصوف. حيث إنّه (أي هذا المبدأ) «لم يبلغ في مجالٍ معرفي  من قوة التداول ما بلغه  في مجال المعرفة الروحية «[139].

لكنّ عبد الرحمن  الذي تنبّه في وقتٍ مبكرٍ إلى هذا المبدأ وفي واحدٍ من مؤلّفاته الأولى؛ «العمل الديني وتجديد العقل» (1989م) [140] ـ يستثمر هذا المبدأ بذكاءٍ شديدٍ في توليد مصطلحاته الفلسفيّة. ومع ذلك، فهو لا يشير إليه أبداً في نظرية تأثيل المصطلح الفلسفي!.

وعلى أية حال، فإنّ طرق توليد المصطلح بعد تكشّف رتبة المعنى في نفسه، أو بعد تكشّف رتبة المعنى بالقياس إلى غيره، هي كالآتي:

رتب المعنى في نفسه:

إضافة المعنى إلى نفسه: فناء الفناء، معنى المعنى

إضافة المعنى إلى معنى يبيّن درجته: علم اليقين، حق اليقين وعين اليقين

الربط بواسطة حرف جر: الإخلاص في الإخلاص[141].

رتب المعنى في غيره: وهي طرق تقوم على التماثل والتقابل والتدرّج.

تطابق الصيغة مع تباين المضمون والمادة: القبض والبسط

تطابق الصيغة مع تدرج المضمون وتباين المادة: الشريعة، الطريقة والحقيقة

تباين الصيغة والمضمون مع تطابق المادة: التوجه، المواجهة

تباين الصيغة وتطابق المادة مع تدرّج المضمون: العبادة، العبودية والعبودة. وكذلك    الوجد، الوجدان والوجود[142].

 بين التأصيلية المبدعة والأصولية المقلّدة:

يُكثر عبد الرحمن من وصلِ مسائل بحثه الفلسفي بأصول التراث. ويسميها أيضاً بأصول المجال التداولي. وتُمثّل هذه الأصول مرجعية استنادية بالنسبة إليه، فلا تصح الممارسة الفلسفيّة دونها، ولاسيما إذا كانت تتعامل مع مفهوم فلسفي منقول.

وقد أشرنا في «شروط تكوين المصطلح الفلسفي المنقول» إلى أنّ قواعد هذه الأصول، وفي مجالاتها اللغوية والعقَدية والمعرفية، ترجع إلى أحد مفكري الإسلام، المعروف بابن تيمية. وكان عبد الرحمن يحيل إليه بدقة في إحالاته التوثيقية.

لقد أراد عبد الرحمن من خلال عملية التأصيل هذه، أنْ يسلك بالممارسة التأثيلية والتقريبية مسارَ الإبداع. فإذا به عن غير قصدٍ يدخلها في أتون أصولية علمية، مقلّدة لابن تيمية.

بين التأصيلية والأصولية تقاطبٌ. فأولاهما قُصدت غير أنّها لم تقع. والثانية وقعت دون أنْ تُقصد. ولقد ابتغى عبد الرحمن أنْ يرفع عن لغة الفلسفة قلقَها وأن يجعلها لغةً إبداعية، فدعا إلى ربط المفهوم الفلسفي المنقول بأصول التداول العربية. وكان ينبغي أنْ يجتهد في تحديدها وتأسيسها، أو تبرير الاستناد عليها، بعد استقرائها لدى كلّ مفكري العرب. بدل أنْ يستنسخها عن ابن تيمية خاصةً.

لقد كان عبد الرحمن في أصولّيته المضمرة فيلسوفاً خبرياً، خائفاً من تجاوز التراث، بعيداً عن كينونةٍ مستقلةٍ ومتموضعة. وذلك رغم موقفه في التقويم التكاملي للتراث، القائم على استكشاف آلياته دون مضامينه. فإذا به يردّد مضامين ابن تيمية، بل ويكرّر عباراته في أصول التقريب التداولي.

لذلك يرى علي حرب في كتابه النقدي «الماهية والعلاقة»، أنه قد «أفضى تأصيل المفهوم إلى محو الأصالة، فالتأصيل يعمل بمنطق المماهاة ويؤول إلى الإدانة والإقصاء»[143]، لدلالات المنقول.

وإذا كان الإبداع ضمن مشروع عبد الرحمن هو الاختراع والابتكار على غير مثالٍ سابق. فأين يكمن الإبداع في مفهومٍ موصولٍ بأصول مقلّدة؟!. وكذلك، ألا يكون حصر أصول التداول بمرجعية ابن تيمية شكلاً صارخاً من التقليد؟.

يقتضي الإبداع المغايرة، بحسب علي حرب. فبرأيه «الإبداع هو خرق المجال الأصلي، وإعادة إنتاجه، وجعله يغاير ذاته مغايرةً ما»[144].

وقد يلتقي عبد الرحمن مع حرب في مؤدّى المغايرة؛ لأنّ المفهوم المبدع لا بد أنْ يغاير المفاهيم التي  نُقِل عنها. غير أنّ عبد الرحمن يحقق هذه المغايرة، من خلال تعرية المفهوم عن قوته الفلسفيّة التعبيرية والفكرية، ثمّ تزويده بشحنة مأصولة تراثية.

يتم الإبداع الحقيقي، بحسب حرب، من خلال قراءة التراث قراءة معاصرة، لا تقوم على استعادته، بل على الاشتغال عليه وتحويله وتدويره. حتّى يتّصل بالراهن والمعاصر بعلاقة حيّة مبدعة[145].

ربّما لن نذهب مذهب حرب بتمامه، فقد نحتاج أحياناً إلى قراءة العصر بعيون التراث. كما قد نحتاج إلى قراءة التراث بعيون العصر. خياران متعاقبان يؤديان كلاهما إلى الإبداع، مع توفر عنصر المصلحة والمنفعة في أيّ منهما.

ومهما يكن من أمر، ورغم وقوع نظرية التصحيح والتأثيل في التناقض والدور وتداخل الأقسام والنقص والاضطراب والتقليد، فإنّ هذا لن يسري بالضرورة إلى المصطلحات. فكثيرٌ مما قلناه يطال تصوير الأفكار وفذلكتها، وينقدها حال كونها مركّبة ومبنية، أكثر مما ينقدها في حقيقتها وحال كونها «مشتقة» مفردة منفصلة.

 ونستطيع القول: ينتج المصطلح إلى حدّ كبير من أصناف التأثيل والتصحيح لا من مجموعها. ينتج من هذا الصنف التأثيلي أو ذاك، ومن هذه القاعدة التقريبية أو تلك. فليس بالضرورة سراية شيءٍ من آفات النظرية إلى أفراد مصطلحات طه عبد الرحمن. وإثبات ذلك موكول لمقامٍ آخر.

المصادر والمراجع:

برترند رسل: «حكمة الغرب»، تر. فؤاد زكريا، لا.ط، الكويت، المجلس الوطني للثقافة، 2009م.

جيل دولوز: ما هي الفلسفة؟، تر. مطاع صفدي، ط1، بيروت، مركز الإنماء القومي، 1997.

الدكتور علي حرب: الماهية والعلاقة، ط1 بيروت، المركز الثقافي العربي، 1998م.

الدكتور مهدي فضل الله: مدخل إلى علم المنطق، ط4، بيروت، در الطليعة، 1990م.

السيد محمد باقر الصدر: دروس في علم الأصول، لا.ط، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1989م،الحلقة الثانية والحلقة الثالثة.

الشيخ محمد رضا المظفر: المنطق، لا. ط.، بيروت، دار التعارف، 1995.

الشيخ مرتضى مطهري: «مدخل إلى العلوم الإسلامية»، تر. حسن الهاشمي، ط3، إيران، دار الكتاب الإسلامي، 2006.

العلامة الطباطبائي: «أسس الفلسفة والمذهب الواقعي»، تعليق الشيخ مرتضى مطهري، ط2، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1988م.

قناة الجزيرة: «طه عبد الرحمن، مفكر عربي»، مقابلات حوارية نشرها موقع قناة الجزيرة الإلكتروني. (www.aljazzera.net)، مُجري المقابلات مالك التريكي، تاريخ مراجعة الموقع الإلكتروني للقناة في 21/2/2009.

لويس ماسينيون: محاضرات في تاريخ الاصطلاحات الفلسفيّة العربية: «اللغة العربية في العالم»، تر. زينب محمود الخضيري، لا ط، القاهرة، المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية، 1983م

المحقق الطوسي: تجريد المنطق، ط1، بيروت، مؤسسة الأعلمي،1988م.

هيجل: موسوعة العلوم الفلسفيّة، تر. إمام عبد الفتاح إمام، لا.ط، بيروت، مكتبة مدبولي، لا تا

طه عبد الرحمن:

تجديد المنهج في تقويم التراث، ط2، بيروت،المركز الثقافي العربي، لا. تا

 حِوَارات من أجل المستقبل، ضمن سلسلة قضايا إسلامية معاصرة، ط1، بيروت، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، 2003 م.

العمل الديني وتجديد العقل، ط3، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2000م.

الفلسفة والترجمة، ط1، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1999 م.

المفهوم والتأثيل، ط1، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2000 م.

----------------------------------

[1] عبد الرحمن، طه: الفلسفة والترجمة، ط1، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1999 م، ص59.

[2] الموضع نفسه.

[3] م.ن،ص209.

[4]- قناة الجزيرة: «طه عبد الرحمن،مفكر عربي»، مقابلات حوارية  نشرها موقع قناة الجزيرة الإلكتروني (www.aljazzera.net)، مُجري المقابلات مالك التريكي، تاريخ مراجعة الموقع الإلكتروني للقناة في 21/2/2009م، الحلقة الثانية، تاريخ الحلقة 22/5/2006.

[5]- ر.م.ن.

[6]- ر.عبد الرحمن،الفلسفة والترجمة،م.س،ص85.

[7]- عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، ط2، بيروت،المركز الثقافي العربي، لا. تا، ص 300-301.

[8]- المؤلف نفسه، الفلسفة والترجمة، م.س، ص85.

[9]- المؤلف نفسه، تجديد المنهج، م.س، ص 277 وحاشيتها.

[10]-  المؤلف نفسه، الفلسفة والترجمة، م.س، ص89.

[11]- المؤلف نفسه، المفهوم والتأثيل، ط1، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2000 م، ص164.

[12]- المؤلف نفسه، تجديد المنهج، م.س، ص277؛ المفهوم والتأثيل، م.س، ص 343.

[13]- المؤلف نفسه، المفهوم والتأثيل، م.س، ص164.

[14]- ر.م.ن، ص،231.

[15]- م.ن، ص164.

[16]- م.ن، ص 231-232.

[17]- المؤلف نفسه، الفلسفة والترجمة، م.س، ص 327.

[18]- م.ن، ص338.

[19]- م.ن، ص 339

[20]- م.ن، ص339 - 340.

[21]- م.ن، ص340.

[22]- الموضع نفسه

[23]- ر.م.ن، ص12.

[24]- وَرَدت في سورة آل عمران، آية 79. (كونوا ربانيين بما كنتم تعلّمون الكتاب، وبما كنتم تدرسون) و"ربّاني منسوب إلى الرب، زيد عليه الألف والنون للدلالة على التفخيم". (تفسير الميزان، ج3، ص 276).

[25]- عبد الرحمن، الفلسفة والترجمة، م.س، ص 342.

[26]- الموضع نفسه

[27]- م.ن، ص 343.

[28]- المؤلف نفسه، المفهوم والتأثيل، م.س، ص 120.

[29]- ر. قناة الجزيرة، م.س، الحلقة الأولى، تاريخ الحلقة 15-5-2006.

[30]- ر.م.ن، الحلقة السادسة، تاريخ الحلقة 19-6-2006.

[31]- عبد الرحمن، المفهوم والتأثيل، م.س، ص161.

[32]- ر. قناة الجزيرة، م.س، الحلقة الخامسة، لا. تا.

[33]- عبد الرحمن، حِوَارات من أجل المستقبل، ، ضمن سلسلة قضايا إسلامية معاصرة، ط1،

بيروت، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، 2003 م، ص56.

[34]- ر.المؤلف نفسه، المفهوم والتأثيل، م.س،ص 375.

[35] - ر. دولوز، جيل: ما هي الفلسفة؟، تر. مطاع صفدي، ط1، بيروت، مركز الإنماء القومي، 1997م، ص28،30.

[36]- م.ن، ص146.

[37]- ر.المفهوم والتأثيل، م.س، ص126.

[38]- المؤلف نفسه، الفلسفة والترجمة، م.س، ص 154.

[39]- ر.المؤلف نفسه، المفهوم والتأثيل،م.س.

[40]- م.ن، ص185.

[41]- الموضع نفسه

[42]- ر.م.ن، ص71،76.

[43]- ر.م.ن، ص121، 130 

[44]- ر.م.ن، ص 75، 76.

[45]- م.ن، ص129.

[46]- م.ن، حاشية ص 14.

[47]- راجع: عبد الحق فاضل- لمحات من التأثيل اللغوي- مجلة «اللسان العربي»- العدد الرابع – ص 14.

[48]- مرجع  نفسه، ص 348.

[49]- ر.عبد الرحمن، المفهوم والتأثيل، م.س، ص71.

[50]- ر.م.ن، ص 127.

[51]- م.ن، ص68.

[52]- م.ن، ص69.

[53]- م.ن، ص70.

[54]- م.ن، ص 73.

[55]- م.ن، ص 104.

[56]- م.ن، ص 73.

[57]- ر. الموضع نفسه.

[58]- م.ن، ص37.

[59]- ر.م.ن، ص 73،74، 75.

[60]- م.ن، ص32.

[61]- م.ن، ص130-131.

[62]- ر.م.ن، ص 128.

[63]- ر.م.ن، ص 161، 162،164.

[64]- م.ن.ص 15.

[65]- ر.م.ن، ص16.

[66]- ر.م.ن، ص 61،62.

[67]- ر.الموضع نفسه

[68]- م.ن، ص98.

[69]- م.ن، ص100.

[70]- ر. الصدر، محمد باقر: دروس في علم الأصول، لا.ط، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1989م،الحلقة الثانية، ص 276 - 277.

[71]- عبد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل، ط3، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2000م، ص 202- 203.

[72]- ر.المؤلف نفسه، المفهوم والتأثيل، م.س، ص 134.

[73]- الموضع نفسه

[74]- م.ن، ص 135.

[75]- الموضع نفسه

[76]- ر. الموضع نفسه

[77]- ر.م.ن، ص 136-137.

[78]- م.ن، ص 196.

[79]- محاضرات في تاريخ الاصطلاحات الفلسفيّة العربية: «اللغة العربية في العالم»،  تر. زينب محمود الخضيري،لا ط، القاهرة، المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية، 1983م، المحاضرة الأولى،ص 4.

[80]- مرجع  نفسه، المحاضرة التاسعة، ص 9.

[81]- ر.مرجع  نفسه، المحاضرة الثانية والمحاضرة الحادية الثلاثون، ص 12.

[82]- ر.عبد الرحمن، المفهوم والتأثيل، م.س، ص 138.

[83]- ر.م.ن، ص.ص 138-140.

[84]- م.ن، ص 140.

[85]- م.ن، ص141.

[86]- ر.م.ن، ص 142- 143.

[87]- ر.م.ن، ص 98.

[88]- المؤلف نفسه، العمل الديني وتجديد العقل، م.س، ص 26.

[89]- المؤلف نفسه، المفهوم والتأثيل، م.س، ص 144.

[90]- م.ن، ص145.

[91]- ر.م.ن، ص 145،147.

[92]- ر.م.ن، ص 145،146.

[93]- ر.م.ن، ص 146،147.

[94]- ر. الصدر، م.س، الحلقة الثالثة، ص.ص 60- 64.

[95]- ر.عبد الرحمن، المفهوم والتأثيل، م.س، ص149-150.

[96]- م.ن، ص150، 192.

[97]- الموضع نفسه.

[98]- ر.م.ن، ص 189.

[99] عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، م.س، ص237،243.

[100] م.ن، ص 244.

[101] ر.م.ن، ص298.

[102] ر.م.ن، ص.ص 238-242.

[103] ر.م.ن، ص245.

[104] م.ن، ص 246.

[105] ر.م.ن، ص 298.

[106] م.ن، ص284.

[107] ر.م.ن،ص 290-291.

[108] م.ن، ص 250.

[109] م.ن، ص255؛ نقلاً عن ابن تيمية: الرد على المنطقيين، ص447.

[110] م.ن، ص255.

[111] الموضع نفسه

[112] م.ن، ص 255؛ نقلاً عن ابن تيمية، الرد على المنطقيين،م.س، ص178.

[113] م.ن.

[114] م.ن

[115] م.ن، ص313.

[116] م.ن، ص256، نقلاً عن ابن تيمية: مجموع الفتاوى، مج 9، ص286-287.

[117] الموضع نفسه.

[118] الموضع نفسه.

[119] ر.م.ن، ص 246.

[120] ر.عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، م.س، ص 276.

[121] م.ن، ص281، 286، 299.

[122] ر.م.ن، ص 285.

[123] المؤلف نفسه، المفهوم والتأثيل، م.س، ص 73.

[124] م.ن، ص71.

[125] المؤلف نفسه، حِوَارات من أجل المستقبل، م.س، ص60.

[126] المؤلف نفسه، «في أصول الحوار وتجديد علم الكلام»، ط2، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2000م، ص52.

[127] ر.هيجل: موسوعة العلوم الفلسفيّة، تر. إمام عبد الفتاح إمام، لا.ط، بيروت، مكتبة مدبولي، ص119،135،136،248،249.

[128] رسل، برترند: «حكمة الغرب»، تر. فؤاد زكريا، لا.ط، الكويت، المجلس الوطني للثقافة، 2009م، ص48-49.

[129] ر.مرجع  نفسه، ص54-55.

[130] ر.حرب، حسين (الدكتور): أفلاطون، ط1، بيروت، دار الفكر اللبناني، 1990م، ص.ص51-55.

[131]  ر.بدوي، موسوعة الفلسفة، مرجع سابق، ج1، ص163-164.

[132] ر.بدوي، أرسطو، مرجع سابق، ص55،117،127،128،142،143.

[133] ر.مطهري، مرتضى: «مدخل إلى العلوم الإسلامية»، تر.حسن الهاشمي، ط3، إيران، دار الكتاب الإسلامي، 2006م، ص

88،89، 146-149.

[134] الطباطبائي، محمد حسين: «أسس الفلسفة والمذهب الواقعي»، تعليق الشيخ مرتضى مطهري، ط2، بيروت، دار التعارف

للمطبوعات، 1988م، ج2، ص 147-148.

[135] عبد الرحمن، الفلسفة والترجمة، م.س، ص 179؛ ر.الطوسي، نصير الدين: تجريد المنطق، ط1، بيروت، مؤسسة الأعلمي،1988م، ص48.

[136] ر. عبد الرحمن، المفهوم والتأثيل، م.س، ص76.

[137] ر. المؤلف نفسه، تجديد المنهج، م.س، ص244.

[138] المؤلف نفسه، الفلسفة والترجمة، م.س، ص235.

[139] ر.م.ن.

[140] ر.المؤلف نفسه، العمل الديني وتجديد العقل، ص162.

[141]- ر. م.ن؛ الفلسفة والترجمة، م.س، ص235

[142]- ر. م.ن.

[143]- حرب، علي: الماهية والعلاقة، ط1 بيروت، المركز الثقافي العربي، 1998م، ص154.

[144]- مرجع نفسه، ص155.

[145]- الموضع نفسه.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف