البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

April / 7 / 2022  |  1057كيف أثّرت الفلسفة في معنى الحياة الحديثة؟ معضلة الانفعال بالجزئيّ

نذير بوصبع المركز الاسلامي للدراسان الاستراتيجية ربيع 2021 م / 1442 هـ
كيف أثّرت الفلسفة في معنى الحياة الحديثة؟ معضلة الانفعال بالجزئيّ

تهدف هذه الدراسة إلى الوقوف على بعض مظاهر التحوّل في الفكر الغربيّ وأسسها الفلسفيّة، وأثر هذا التحول معرفيًّا وثقافيًّا وإنسانيًّا على شكل معنى الحياة في الحضارة الغربيّة الحديثة. وقد يكون في العنوان بعض الالتباس، فالذهن ينصرف إلى المعنى في إطاره اللغويّ المحدّد، وليس هذا هو المقصود الأصيل وإن كان مشمولًا بالتحّول، بل المقصود هو حركة الفكر وتوجّهاته العامّة، وتلبّسه بالقوى الانفعاليّة والمزاجيّة، وهما قوّتان متحكّم فيهما، قابلتان للتشكّل والتوجيه نحو أغراض يحدّدهما الصانعون للرغبات والإرادات... والعقل كثيرًا ما ينجرّ وراء الإيحاءات الانفعاليّة والاندفاعات المزاجيّة، متوهّمًا أنّها نتائج منطقيّة لاستدلالات صحيحة، فيتّخذها مبادئ وأحكامًا يبني عليها مقتضياتها. وواضح أنّ نتائج كهذه عرضة لأن تتبدّل بالكيفيّة التي أنشأت بها. إنّ هذا العصر قد ساد فيه التخطيط لكلّ شيء وتراجع التفكير، وتلك هي سمة المدارس الغربيّة المهيمنة والممسكة (بزمام العقول)، وفي مقدّمها البراغماتيّة وتيّارات الفلسفة التحليليّة وبقايا الفلسفة الماركسيّة...

المحرِّر


كثيرًا ما تتوارى الأسس التي انطلقت منها التصوّرات الفلسفيّة أو بُنيت عليها، فيحتار العقل ويتيه وراء أخيلة تمدّه بألوان من الافتراضات التي يغذّي بها تأويلاته. وما أكثر القضايا التي ابتلعها الزمن وطواها في ظلماته وتواريخه الغابرة، فلم يجد الإنسان حيالها إلّا ما أعانه به الخيال المتوّثب والانفعال الخلّاق، فبنى به صروًحا من الافتراضات أضحت من المسلّمات المعرفيّة التي تلقّاها الباحثون والعارفون بكلّ قبول، وبنوا عليها ما بنوا من نتائج.

ويمكن القول إنّ بنيان التأويليّة كما عرّفْتها الفلسفة الغربيّة ينتسب إلى هذه الطائفة من القضايا الكبرى التي نحتتها التجارب والافتراضات التي خانتها أوابد الأسس الصريحة؛ ذلك أنَّ انفصال المسائل عن القضيّة الأمّ يهيل عليها أكوامًا من تراب النسيان ويحدث فيها فراغات تصبح مع الزمن حلقة مفقودة لا يملأها إلّا التأويل القاتم والقائم على الافتراض. وهنا تُفْتَح أبوابُ الخيال لتغذّي الجدل، ليستقرّ الموقف على ما أتاحته قوّة العارضة وجودة الحجاج.

وغيرُ خفيٍّ أنّ التقادم يُضْفي على المواقفِ المتقبَّلةِ حصانة، وكلَّما تَطاوَلَ عليها الزّمنُ رسَخَتْ حتى ظنّها الناس من المسلَّمات بل الفِطْرِيَّات التي وُلِدَتْ مع الإنسان، كما لاحظ الفلاسفة في القرن التاسع عشر ونظروا في يقينيّة القضايا الرياضيّة، ومن أين نشأت؟ وهل هي فطريّة أم تجريبيّة نشأت من الملاحظة الاستقرائية ثم تقادمت حتى ساد ما يشبه الاعتقاد بفطريّتها، مع أنّها ليست كذلك عند الفلاسفة المعاصرين من الوضعيّين؟

الخضوع للوقائع الجزئيّة

لم يَعُدْ صعبًا أن ندرك مصير الفلسفة الخاضع للوقائع الجزئيّة، والمتأثّر بنظريّات العلم في شتّى الميادين، وما يتبع ذلك من تبدّل في المواقف الفلسفيّة نفسها. إنّ التغيّر واللايقين الذي انتاب الفكر في القرنين الأخيرين كان نتيجة مباشرة للهزّات التي تلقّاها، سواء في ذلك المنجزات العلميّة التي تختلف في طبيعتها ووسائلها عن المنجز الفلسفيّ، أم الأحداث ذات الطبيعة المأساويّة من الحروب المدمّرة كالحرب العالميّة الأولى والثانية، والثورات التي نقلت البلدان من مرحلة في الحكم إلى مرحلة أخرى، كالثورة الفرنسيّة والثورة البلشفيّة. كلّ ذلك انعكس على الحياة العامّة وعلى التفكير الفلسفيّ ورسم معالم الأفكار، مثلما كان له أثره الواضح على الآداب والفنون والاقتصاد. وأقرب الحوادث تاريخيًّا الحربان العالميّتان، الأولى والثانية، وما أعقبهما من ظهور للتيّارات الفكريّة والمذاهب الفلسفيّة بأعداد تزيد عمّا شهده مجمل التاريخ الماضي، كأنّ النشاط الفكريّ يتناسب باطّراد مع الأزمة قوّة وضعفًا. فكان من نتائج الحربين انهيار النظام النفسيّ القائم على الرومنسيّة والتفاؤل بالمستقبل الحالم: «وأدّت هذه الأزمة إلى مراجعة النزعة التفاؤليّة الأولى التي اصطلحنا على تسميتها النزعة الفكتوريّة؛ وثانيهما صراع الثلاثين عامًا الذي نطلق عليه الحربين العالميّتين الأولى والثانية، وأدّى إلى طغيان موجة جديدة عارمة من التشاؤم والنقد، لا تزال مؤثّرة فعّالة حتى يومنا هذا، تدفع إلى تعديل ميراث القرن الثامن عشر وهو الحلم الديمقراطيّ.» ([2])

إنّ الأفكار لا تنشأ إلّا ضمن شبكة من الترابطات والمتلازمات الاجتماعيّة والسياسيّة التي تتّصل بالفرد المفكّر، هذا ما يقوله الواقع، وهذا ما أدركه العلماء. يبحث عالم الاجتماع الأمريكيّ راندال كولينز (Randall Collins) في موسوعته علم اجتماع الفلسفة (The sociology of philosophies) أثر الدوافع الاجتماعيّة والنفسيّة والسياسيّة والأزمات والحروب والصراعات في تكوّن الأفكار الفلسفيّة والمذاهب، مركّزًا على ما أسماه الشبكات، وهو وصف دقيق للعناصر المتداخلة إلى حدّ الخفاء وما لها من نتائج على الفكر، واضعًا هيكلًا عامًّا للحقب والمذاهب التي عرفتها الفلسفة، ومن ضمنها الفلسفة الإسلاميّة، حيث تعرّض للفلسفة بالأندلس وعزا الإبداع الذي بلغته إلى الفلسفة اليهوديّة التي وصلت إلى ذروتها الإبداعيّة إبان القرن الثاني عشر الميلاديّ...[3].

ووُجِد من الباحثين في الفلسفة وفي العقل الغربيّ من أظهر أنّ التقلّبات التي عرفها الفكر الفلسفيّ لم تتمّ في أجواء عاديّة، بل اكتنفها قلق وألم، فها هو الفيلسوف الأمريكيّ ريتشارد تارناس (Richard Tarnas) يضع كتابه الشهير (آلام العقل الغربيّ = The passion of the western mind)، متتبّعًا فيه المراحل التي عرفتها الفلسفة الغربيّة، والظروف التي رافقت كلّ مرحلة: «ظاهرة العواقب المتناقضة المترتّبة على التقدّم الفكريّ نفسه، تلك الظاهرة العجيبة كانت بادية منذ بداية الحقبة الحديثة مع قيام كوبرنيك بإنزال الأرض عن عرش مونها مركز الخلق. ففي اللحظة نفسها التي تمكّن فيها الإنسان من تحرير نفسه من وهم مركزيّة الأرض، ذلك الوهم الشاغل لجلّ أجيال البشريّة السابقة، أنشأ لنفسه أيضًا انزياحًا كونيًّا غير مسبوق في أسسه وعمقه. لم يعد الكون متمركزًا على الإنسان، لم يعد موقع الأخير ثابتًا ولا مطلقًا. وكلّ خطوة آتية على طريق الثورة العلميّة مع عاقبتها أضافت أبعادًا جديدة للإنجاز الكوبرنيكيً، موفًرة مزيدًا من الزخم وقوّة الدفع لذلك التحرّر مع العمل في الوقت نفسه على مضاعفة كثافة ذلك الانزياح والضياع»[4].

وتداخلت عناصر وهدّدت بتعارضها الظاهريّ المبادئ الكبرى للعقل، وأوّلها مبدأ عدم التناقص؛ إذ ألقت التعارضات بين الإدراكات بـتأثيرها الغامض على العقل وأرغمته على التشكيك في كلّ شي، حتى تلك المبادئ التي بُني عليها، مرتدّة بذلك إلى السفسطة القديمة. ولم تسلم أيّ مرحلة من تعاقب سريع بين الاستقرار والانتفاضة على العقل نفسه؛ لأنّ النقد كان مؤلمًا، فكانت جميع المراحل منعرجات فكريّة، وتجارب حائرة بين المشّائيّة والأفلاطونيّة والأفلوطينيّة، وإن اختلف التعبير عن تلك المذاهب.

«كما شهد النصف الأوّل من القرن العشرين، وعلى الأخصّ بعد سنة 1914، ثورة في الفكر الأوروبيّ، ربما فاقت أيّ مقارنة، وإلى حدّ ملحوظ، فقد أدرك مدى فداحة هذه الثورة عندما وقعت آنذاك، ولكنّنا الآن أقدر على إدراك أبعادها، أكثر مما فهمت من قبل»[5].

وسمّى الناقد ويندهام لويس هذه الحالة بانتصار العقليّة الزمانيّة، فالعقليّة الزمانيّة ترى كلّ شيء (sub specie temporis) أي كشيء لا يستقرّ أبدًا، يتحرك ويتغيّر. أمّا العقليّة المكانيّة -وتقابل العقليّة الزمانيّة-، فقد أنتجت عالَمًا من الجمادات والمعاني المطلقة التي ستبقى إلى الأبد. وتركّزت العقليّة الزمانيّة على الجانب الديناميّ للحقيقة، التي ترغم الناس على العيش في حالة غشية من أثر الاستغراق في العمل، وتدفعه إلى الإسراع، وتطالبهم بالعمل في سرعات أعظم وأعظم، كما ينادي أنصار المستقبليّة (futurism) ولكن بغير أهداف محدّدة، لأنّ الواقع -تبعًا لهذه النظرة- صيرورة وتاريخ، وتيّار ديالكتيكيّ لا ينتهي، ويرى لويس أنّ المذهب الزمانيّ من نتائج العلم أساسًا، بما لديه من معدّات للبحث، فهو الابن المحتوم للفكر الوضعيّ. ووفقا لهذا المقياس، فإنّ الفكر الجديد قد اعتبر كلمة العدميّة مرادفة لكلمة الوقتيّة[6].

غلبة العلم على الميتافيزيقا

ولم يكن الفكر الفلسفيّ بعيدًا عن معطيات العلوم التجريبيّة والرياضيّة ونتائجها، التي لم تتوقّف عن التطوّر، فكانت الفلسفة الحديثة والمعاصرة على الخصوص لاحقة لهذا التطوّر ومتأثّرة به، حتّى إنّه يمكن القول إنّ الفلسفة المعاصرة هي فلسفة للعلم، معلّلة لنتائجه، متعقّبة له، وغير خفيّ أنًّ آثار الإنجازات العلميّة على الفلسفة -خاصّة في الفلك- قد بدأت في الظهور منذ عصر كوبرنيكوس الذي هدم المنظومة الفلكيّة القديمة، أمّا العصر الراهن فقد توقّفت الفلسفة عن البحث في مسائلها المعهودة لتنكفئ على منجزات العلوم بالتحليل والتعليل.

لقد طَرحت العلوم مشكلاتٍ جديدة فتحت الطريق أمام الفلسفة لتقول فيها رأيها، وكانت آراء الفلاسفة مقيّدة بل تابعة ومؤيّدة لنتائج العلم، بعد أن كان للفلسفة الكلمة الأولى في تقرير الحقائق وإضفاء الشرعيّة عليها.

فـ (رسل) (Russel) مثال على التأثّر بتطوّرات العلم وانعكاسها على فلسفته، وكان قبله ديفيد هيوم في ذلك الوجه العلميّ المتطوّر لعصر التنوير.

فالمعرفة بطبيعتها كما يرى رسل ترتدّ إلى الحوادث (events) -في العالم الفيزيائيّ- والصور الذهنيّة (images) -في العالم العقليّ- وحين يربط الإحساس بينهما نحصل على معرفتنا بالواقع الخارجيّ [7].

كذلك في موقفه من العلّة وارتباطها بالمعلول، حيث خالف الآراء التقليديّة التي ظلّت تسيطر على الفكر الفلسفيّ والمنطقيّ؛ إذ استبعد فكرة الإلزام (compulsion)، المقرونة بنزعة تشبيهيّة (Anthropomorphism)، فحوادث العالم لا تتبع الرغبات التي تجعلها تذهب إلى القول بقوّة ما تلزم المعلول أن يتبع علّته.

ويرى أنّ فكرة الإلزام التي رسخت في العقول تنطبق على الأفعال الإنسانيّة الفيزيائيّة فقط، ومن ثمّ فليس ثمّة ما يجعلنا نفترض ضرورة الانتقال من العلّة إلى المعلول أو العكس؛ لأنّ الانتقال على هذا النحو يخلع على الحوادث الفيزيائيّة صفات ضروريّة وملزمة لا تنطوي عليها، ومن جانب آخر فإنّ الاعتقاد في ضرورة أن يتبع المعلول علّته وفقًا لفكرة الإلزام إنّما يعني أنّ الإنسان اعتاد أن يسقط ذاته على حوادث الطبيعة الفيزيائيّة، وهو ما يطلق عليه رسل النزعة التشبيهيّة التي اعتبرها الإنسان مصدرًا من المصادر الأساسيّة لفكرة الإلزام التي انتقلت من مجال الأفعال الإنسانيّة إلى الحوادث الفيزيائية. ومن هنا فإنه إذا ما جرّدنا القوانين من فكرة القوّة الملزمة، لأصبحت قوانين ترابط (Laws of correlation) معبرة عن ترابط الحوادث في مجموعات[8].

ويظهر هذا التأثّر الكبير واضحًا في الفلسفة الفرنسيّة منذ 1789 إلى وقتنا الراهن، فقد كانت خاضعة للهموم الاجتماعيّة والسياسيّة التي فرضت نفسها على الفلسفة وأكرهتها على النظر فيها. وكان للثورة بالغ الأثر في مصير الفلسفة الفرنسيّة؛ إذ انهار البناء الفلسفيّ القديم إثرها، وأعيد بناء منظومة فلسفيّة جديدة. إن الثورة الفرنسيّة كانت في شكلها هدم وتدمير؛ إذ صاحبها ارتجالٌ في بناء المؤسّسات على أنقاض المؤسّسات المنهارة، ونشرٌ للرعب ونَصبٌ للمشانق والمقصلات، وانتهت إلى التهجير والنهب والأوهام الدينيّة والتصوّرات اللاأخلاقيّة[9].

من جهة أخرى كان القرن التاسع عشر قرن الوضعيّة، وفيه تقدّمت العلوم بخطى عملاقة، وتحدّدت مناهجها وغاياتها، وانهارت التصوّرات القديمة، وأخذت أعمال الفلاسفة الجدد مكانها منذ بداية القرن العشرين، وأسهم التطوّر العلميّ في طرح أسئلة معرفيّة لم تكن مطروحة من قبل.

لخّص مؤرّخ الفلسفة الفرنسيّ أندري كريسون (André Cresson) صلة التطوّر العلميّ بالفلسفة والفكر عمومًا، فقال:

«من هذا الوضع نَجمتْ حربٌ اجتماعيّةٌ تعفّنَتْ وجلبتْ انتباه المفكّرين، حربٌ بين رأس المال الذي أراد أن يعوّض مخاطر الخسارة بأقسام كبيرة وبين العمل الذي يطلب أجورًا هائلة، ويرى أنّها مستغلة استغلالًا وحشيًّا، حرب تسعى إلى تمزيق البلد، وترجمت مع النقابات والإضرابات برجوع ثابت للاحتقان الثوريّ. وبفعل كلّ ما سبق تطوّرت الفلسفة الفرنسيّة خلال القرن التاسع عشر، وعرفت ميلاد المشكلات، والمناهج، والقلق المجهول، ولم تسلم مناهجها من التأثّر بكلّ ذلك.

لقد كان همُّ إعادة البناء هو المهيمنَ خلال النصف الأوّل من القرن (القرن العشرين)».

وغذّت نزعةُ التحرّر والاستقلال عند الإنسان فكرَه بثورة جديدة غير الثورة السياسيّة في صورة قلب النظام، إنّها ثورة العقل والفكر على نفسه، وتحريره، وذلك هو جوهر كلّ ثورة. فسّر فيخته، الفيلسوف المثاليّ الألمانيّ، ثورة كانت والثورة الفرنسيّة على أنّهما الاستقلال السياديّ للإنسان ومنطقه، فمنهجه كما يقول هو أوّل منهج للحرّيّة، وإذا كانت الثورة الفرنسيّة قد حرّرت الإنسان من قيوده المادّيّة، فإنّ منهجه سيحرّره من قيود الشيء في حدّ ذاته، ومن التأثيرات الخارجيّة، وأوّل مبادئه أن يجعل الإنسان حرًّا ذا سيادة[10].

واقعيّة الوجود والتشكيك فيها

أثيرت مشكلة الواقع أو عينيّة الوجود ومدى واقعيّة ما ندرك منذ العصر اليونانيّ، فشكّك السفسطائيّون في الواقع انطلاقًا من شكّهم في المدارك، وبقي مذهبهم يتردّد صداه، ويتّخذ سلاحًا يُشهر عند الحاجة، وعاد في العصر الحديث (الحديثُ) عن هذه المسألة مع فلاسفة مثل باركلي، على ألّا يفهم من هذا أّن باركلي ينكر مادّيّة الواقع، كما قد يُظنّ، بل إنّه ركّز على الكيفيّة التي يدرك بها الواقع أكثر من الواقع نفسه، مُرْجِعًا الكثير من الاختلاف في الأحكام إلى الخلاف في كيفيّة الإدراك، ومن هذا المنطلق لم يعد النظر في الواقع، بل في إدراكه. وهذه المشكلة ليست هيّنة كما قد يبدو الأمر لأوّل وهلـة، بل هي من أكثر المســائل تعقيدًا، كما يعترف راسل:

هل يوجد في العالم معرفة لا يملك عاقل التشكيك فيها؟ إنّه سؤال قد يبدو للوهلة الأولى بسيطًا، لكنّه في الواقع السؤال الأصعب.

ولم يكن الوجود محلَّ مناقشة عند الفلاسفة في عصر سقراط، ولم يكن يخطر ببال أحدهم كما يقول يحي هويدي، أن يتساءل: هل التصوّر موجود فعليًّا واقعيًّا أم لا؟ لأنّ مجرّد هذا التساؤل لم يكن له أيّ معنى عندهم، فالتصوّر موجود وجودًا فعليًّا واقعيًّا، ولا سبيل إلى الشكّ في وجوده أو إنكاره؛ لأنّ في إنكاره إنكارًا للعلم[11].

يقول ابن حزم: «إنّ جميع الأشياء التي أحدثها الأوّل، الذي لا أوّل سواه، وقسّمها الواحد الذي لا واحد على التصحيح حاشاه، واخترعها الخالق الذي لا خالق على الحقيقة إلّا إيّاه، فإنّ مراتبها في وجوه البيان أربعة، لا خامس لها أصلًا ومتى نقص منها جزء واحد اختلّ من البيان بمقدار ذلك النقص. فأوّل ذلك كونُ الأشياء الموجودات حقًّا في أنفسها، فإنّها إذا كانت حقًّا فقد أمكنت استبانتها، وإن لم يكن لها مستبين حينئذ، موجود، فهذه أولى مراتب البيان؛ إذا لم يكن موجودًا فلا سبيل إلى استبانته»[12].

ويمضي في بناء المعالم الوجوديّة للأشياء، وفي مقدّمتها تشكّل المفاهيم وارتباطها باللغة...والوجه الثاني: بيانها عند من استبانها وانتقال أشكالها وصفاتها إلى نفسه، واستقرارها فيها بمادّة العقل الذي فُضِّل به الناطق من النفوس، وتمييزه لها على ما هي عليه، إذْ من لم يَبِنْ له الشيء لم يصحَّ له علمه ولا الإخبار عنه، فهذه المرتبة الإثنيّة من مراتب البيان[13]. ويتابع تدرّج العقل في اتّصاله بالوجود، كاشفًا عن الرتبة اللاحقة، وهي الاستعانة بالكلمات لنقل التصوّرات، أو للتعبير عن الوجود: والوجه الثالث: «إيقاعُ كلماتٍ مؤلَّفات من حروفٍ مقطَّعات، مكَّن الحكيم القادر لها المخارج من الصدر والحلق وأنابيب الرئة والحنك واللسان والشفتين... فتوصل بذلك نفس المتكلم مثل ما قد استبانه واستقرّ فيها إلى نفس المخاطب، وتنقله إليها بصوت مفهوم بقبول الطبع منها للغةٍ اتّفقا عليها، فتستبين بذلك ما قد استبانته نفس المتكلّم، ويستقرّ في نفس المخاطب، مثل ما استقرّ في نفس المتكلّم...»[14].

لكن المدارس التي جاءت بعد أرسطو أخذت في مناقشة وجود التصوّرات العقليّة: هل هي موجودة وجودًا واقعيًّا أم أنها مجرّد تجريدات ذهنيّة؟ فذهب الرواقيّون[15] إلى أنّ هذه التصوّرات ليست إلّا تجريدات خالصة وصوًرا ذاتيّة في النفس؛ لأنّه لا وجود خارج الذهن إلّا للأشياء المحسوسة وللوقائع الفردّية، ولذلك فإنّ الكلّيّ ليس له أيّ وجود واقعيّ؛ لأنّه مجرّد تجريد ذهنيّ[16].

والمعرفة عندهم معرفة حسّيّة أو راجعة إلى الحسّ. والأصل أنّ الشيء يطبع صورته في الحسّ بفعل مباشر، لا بواسطة أشباه كما يقول الأبيقوريّون[17].

والأجناس والأنواع والصور والمثل وغير ذلك من المعاني العامّة، كلّها مجرّد أسماء، وليس لها وجود خارج الذهن[18].

وقد تأثر المنطق الرواقيّ بهذه النزعة الاسميّة فالمقولات عندهم نوعان: حقيقيّة ولا حقيقيّة، والحقيقيّة هي المقولات الجسميّة، أمّا اللاحقيقيّة فهي غير الجسمانيّة. وموضوع القضيّة عندهم جزئيّ دائمًا، سواء أكان مشخّصًا أم غير مشخّص. والمحمول فعل صادر عن الموضوع، أو حدث عارض له، مثل «سقراط يتكلّم» بحيث تترجم القضيّة عن فعل جسم في جسم، أو انفعال جسم بجسم، فإنّ لكلّ شيء في كلّ ظرف صورة واحدة بعينها هي موضوع التصديق. والجزئيّات متميّزة بعضها من بعض في وجودها وتفاصيل تكوينها مهما تشابهت، وإلّا امتنع تمييز شيء من شيء. فالقضية هي العبارة الدالة على صدور فعل من فاعل، وليست وضع نسبة بين معنيين، كما هو الحال عند أفلاطون وأرسطو[19].

وعادت الاسميّة مجدّدًا مع باركلي في الغرب[20]؛ إذ انتقد الرأي بأنّ العقل قادر على التجريد وأنّ ثمّة أفكارًا مجرّدة يستعين بها العقل على التفكير في المسائل الفلسفيّة العويصة التي تتناولها علوم كالميتافيزيقيا والمنطق. هذه الأفكار المجرّدة ليست إلّا مجرّد أوهام وقر في عقول الفلاسفة أنّها حقائق، مع أنّها مصدر الظلام الذي يحيط بالحقيقة، ومن واجبنــا أن نبعدها عن طريقنا لنرى النور: نور الحقيقة[21].

ومصدر هذه الأفكار هو اللغة والألفاظ؛ إذ ظنّ الناس أنّ كلّ لفظٍ لا بدّ أن يشير إلى وجود شيء في الواقع، ولمّا كانت اللغة تشتمل على الألفاظ والمعاني الكلّيّة، فقد استنتج من هذا أنّ هذه الألفاظ أو المعاني الكلّيّة تقابل أشياء واقعيّة وأنّ اللفظ الكلّيّ يشير إلى شيء في الواقع[22].

ولكن باركلي لم يستطع التخلّص من الكلّيّة أو المعاني الكلّيّة؛ إذ يفسّرها بأنّها معنى جزئيّ يؤخذ ليمثّل سائر المعاني الجزئيّة التي من جنسه أو من نوعه، ولكن الجنس أو النوع لا ينشأ من إدراك شيء هو هو، بل من الإحساس بالتشابه[23]، مثال ذلك أنّ المعنى المجرّد للمثلث الذي لا يمثّل نوعًا من أنواع المثلّثات هو معنى متناقض، ولا يستطيع أحد أن يكوّنه، وليس في ذهن الرياضيّ سوى معنى جزئيّ، بيد أنّ هذا المعنى يمكن أن يكون كلّيًّا من حيث دلالته، أي يمثّل أيَّ مثلّث كان، ولولا تشبّع باركلي بالاسميّة لرأى غريبًا أن يكون المعنى الجزئيّ كلّيًّا من حيث دلالته، ولساءل نفسه: أليست هذه عين المعنى المجرّد الكلّيّ؟[24].

وباركلي يقول: الله موجود وهو الذي يهب التصوّرات للذهن، ولكنّه كلام لا يصحّ -كما يقول مطهّري- حتى بالنسبة إلى الله حينئذ؛ لأنّه يقال له: هل عندك تصوّر عن الله أم لا؟ فإن كان عندك تصوّر عن الله، فالكلام الجاري في جميع التصوّرات، من أنّ الواقع هو عكس التصوّرات تمامًا، يجري فيه أيضًا، وإذا قلنا هذا فهذا يعني أنّنا لن نصل إلى القول بوجود شيء، فلو سلبنا الإنسان حضور الماهيّات في الذهن فليس فقط أنّنا لن نستطيع الالتزام بأنّ في الخارج شيئًا موجودًا مخالفًا لما يتصوّره الإنسان، بل سنصل إلى مرحلة السفسطة، حيث لن نستطيع القول بوجود شيء؛ إذ لا طريق يبقى يحقّق الارتباط مع العالم الخارجيّ وينهدم الجسر بين الإنسان والعالم الخارجيّ إلى الأبد[25].

ترى ما الأهمّيّة التي تكتسيها قضيّة كهذه وهي من أحكام الوجود، وأيُّ أثرٍ لها على الصعيد الفلسفيّ والفكريّ واللغويّ؟

فالوجود وما يرتبط به من أحكام هو أساس تُبنى عليه كثير من المسائل والمواقف المعرفيّة،  فالسفسطة تولّدت من تصوّرات ومواقف إزاء الوجود وتعيّنه أو واقعيّته، ولئن توارت السفسطة بعينها من المشهد الفلسفيّ ولم يعد لها أنصار، فإنّها قد أعادت الظهور بأسماء فيها بعض التلطّف أو الخفّة مثل الهرمينوطيقا أو التأويليّة، التي لم تكن –في الغرب– سوى أثر من آثار اللايقين، أو الشكّ المستديم في الوجود وتعيّناته الخارجيّة، فهي بهذا بحثٌ متواصلٌ عن شيء غير موجود؛ لأنّها تقوم على أساس اللايقين، خلافًا للتأويليّة الإسلاميّة التي تقوم على قاعدة من الثبات.

إنّ بناء الأسس الفلسفيّة للفكر والتصوّر صناعة واعية وموقف إراديّ، لا تعوزه المَلاحة والوجاهة التي تمنحه جواز المرور إلى العقل والمجتمع، يساعد في ذلك مقامات الحجاج التي تدور في فلك الخطابة متّخذة من المشهورات مقدّمات لها.

وما نعدُّه مراحل قارّةً لتاريخ الفلسفة هو في طبيعته تجارب فلسفيّة باحثة عن اليقين المعرفيّ، يختلط فيها الرأي بالاعتقاد، وهو ما يمنحها رسوخًا ومتانة، ويضفي عليها سياجًا من الهيبة الفكريّة لدى الجماهير، فالمعرفة ترتبط في ذهن الفلاسفة ارتباطًا وثيقًا بموضوع الاعتقاد (belief)، والمقصود بالاعتقاد في سياق نظريّة المعرفة كلّ فكرة تسيطر على إنسان ما بحيث يهتمّ بها، وقد تدفعه إلى السلوك وفقًا لها، وقد لا يستطيع تفسيرها أو تفسير اعتقاده بها.

وقد اهتمّ كثير من الفلاسفة بوضع نظريّات لتوضيح فكرة الاعتقاد بالمعنى السابق، ولعلّ أبرز النظريّات التقليديّة نظريّتان هما نظريّة هيوم (Hume) ونظريّة ألكسندر بين (A. Bain)، وجاء الفلاسفة من بعدهما ليقبلوا أو يطوّروا.

رأى هيوم أنّ الاعتقاد يبدأ بفكرة طاغية تسيطر على عقل المعتقد بها بحيث يقتنع بها ويدافع عنها، ويكون لديه أسباب وجيهة للاقتناع بها، وطوّر هنري برايس (H. Price) هذه النظريّة، وخلاصة نظريّته أنّ الاعتقاد يتألّف من عنصرين هما التفكير في قضيّة ما (entertain)، وتقريرها والدفاع عنها (assert and adopt)، مثال: افرض أنّ عندي قطّة في منزلي وبحثت عنها فلم أجدها، وفجأة سمعت مواء قطّة في اتجاه غرفة الطعام، وذهبت إلى هذه الغرفة فوجدتها، حينئذ أقول إنّ القطّة موجودة في غرفة الطعام، معتقدًا بصدق ما أقول. أمّا عن عنصر التقرير، فيتألّف من عنصرين، عنصر إراديّ وعنصر انفعاليّ، والمقصود بالعنصر الإراديّ تفضيل قضيّة على أخرى واتخاذ قرار بصدقها، والعنصر الانفعاليّ هو إحساس بالثقة والاقتناع، ويقوم عنصر التقرير على وجود شواهد أي وجود وقائع تزيد من ترجيح القضيّة التي فكّرت فيها على سائر القضايا، وحين تزداد هذه الشواهـد نسمّي الاعتقاد مقبولًا لدى العقـل ونسمّيه غير مقبول إذا غابت هذه الشواهد [26].

أمّا نظرية (بين) في الاعتقاد فخلاصتها أن لا معنى للاعتقاد إلّا بالإشارة إلى فعل أو سلوك، وقيمة هذه الإشارة هي وضع الاعتقاد تحت سيطرة الإرادة، وأنّ الاختلاف بين مجرّد التصوّر أو التخيّل بوجدان قويّ أو بدونه من جهة، والاعتقاد من جهة أخرى والسلوك أو الاستعداد حين تنشأ فرصة مناسبة. والمقصود أنّ معيار الاعتقاد هو القيام بسلوك يتفق والاعتقاد وإلّا لا معنى للاعتقاد[27].

الوجود الواقعيّ للمعنى

الإدراك البشريّ على قسمين: أحدهما التصوّر، والآخر التصديق. وليس للتصوّر بمختلف ألوانه قيمة موضوعيّة؛ لأنّه عبارة عن شيء في مداركنا، وهو لا يبرهن -إذا جُرّد عن كلّ إضافة- على وجود الشيء موضوعيًّا خارج الإدراك، وإنّما الذي يملك خاصّة الكشف الذاتيّ عن الواقع الموضوعيّ هو التصديق أو المعرفة التصديقيّة[28].

ومردُّ المعارف التصديقيّة جميعًا إلى معارفَ أساسيّة ضروريّة، ولا يمكن إثبات ضرورتها بدليل أو البرهنة على صحّتها، وإنّما يشعر العقل بضرورة التسليم بها والاعتقاد بصحّتها، كمبدأ عدم التناقض ومبدأ العلّيّة والمبادئ الرياضيّة الأوّليّة، فهي الأضواء العقليّة الأولى، وعلى هدى تلك الأضواء يجب أن تُقام سائر المعارف والتصديقات، وكلّما كان الفكر أدقّ في تطبيق تلك الأضواء وتسليطها، كان أبعد عن الخطأ. فقيمة المعرفة تتبع مقدار ارتكازها على تلك الأسس ومدى استنباطها منها[29].

ويلحق الطباطبائيّ المنكرين لواقعيّة الوجود بالسفسطائيّين؛ إذ إنّ أولئك قد اعتمدوا الأسس التي اعتمدها السفسطائيّون، فحين يقول بعضهم: «نحن لا نملك أيّ واقع خارج أنفسنا (ذواتنا وأفكارنا)»، فهذا يعني أنّه لا علم لنا بأيّ واقع خارج ذواتنا وأفكارنا.

وخطا بعضُهم خُطواتٍ أوسَعَ، فأنكر كلَّ شيءٍ ما عدا ذاته وفكره، فقال: «أنا لا أعلم بشيء إطلاقًا ما عدا نفسي وفكري»، والجدير بالذكر أنّ حقيقة السفسطة هي إنكار العلم (الإدراك المطابق للواقع)، وكلّ الأدلة المنقولة عن هذه الفئة تدور على هذا المحور وتؤكّد هذا الأمر.

وبذلك وضع السفسطائيّون مشكلة المعرفة وضعًا جديدًا: كانت بحوث الفلسفة عند الأوائل مركزها الطبيعة، فأصبح مركزها عند السفسطائيّين هو الإنسان، ونادى السفسطائيّون بنظريّة في المعرفة إنسانيّة شعبيّة، قالوا: لا شيء موجود هو موجود في ذاته ولذاته، وقال بروتاغوراس: الإنسان مقياس لجميع الأشياء، والحقيقة تدرك مباشرة في الإحساس نفسه وفيما يظهر للإنسان [30].

 و «الإقرار بأصل الواقع ضرورة أزليّة، هو أوّلُ المواضيع الفلسفيّة، حيث إنّ إنكاره يستوجب إثباته. واستدلّ ابن سينا على كونه ضرورة أزليّة: (بأنّه إذا أمكن أن يكون الشجر لا شجر في حالة واحدة، وجب أن يتساوى جميع أشياء العالم مع الشجر في تلك الحالة؛ لأنّ اللاشجر عنوان عامّ يصدق على جميع الأشياء غير الشجر، وهذا يوجب فرض التساوي بين المادّيّ والمجرّد والواجب والممكن والحقّ والباطل، ويتلاشى نظام العالم برمّته»[31]. ومن هنا فإنّ الفلسفة تؤكّد كون السفسطة مبنيّة على أساس (عدم التناقض)؛ لأنّ كلّ المعلومات تعتمد على هذه القضيّة بالتحليل الدقيق، فإذا سلّمنا بها، فإنّنا لا يمكننا حينئذ إنكار أيّ حقيقة، وإذا أنكرناها لم نستطع أن نثبت أيّ حقيقة[32].

الوحدة والكثرة في الوجود

إنّ الوقائع والحقائق ظواهر بالمعنى المعروف عند هيديجر(الظاهراتيّة)، غير أنّ إدراكها لا يفصح بكلّ ما لها من عناصر وجوديّة تعود بها إلى الوراء، حيث الأصول الفلسفيّة، التي ترجع إلى الوجود وأحكامه.

تعدّدت مواقفُ الفلاسفة قديمًا وحديثًا بحسب مداركهم العقليّة، ونظرتهم إلى الوجود، ومن أحكام الوجود الوحدة والكثرة الوجوديّين، وما يتبع ذلك من آراء فلسفيّة ومواقف تتعلّق باللغة والفكر.

لأنّ مشكلة الحقيقة ليست منفصلة عن مشكلة الوجود، فإذا كان الوجود واحدًا فالحقيقة واحدة، وسيكون العالم خاضعًا للعقل، وإذا كان متكثّرًا فالحقيقة متكثّرة مثله، ولن تكون ثمّة حقيقة واحدة تظهر في صورة متعدّدة، بل حقائق منفصلة الواحدة منها عن الأخرى، ولا يمكن ردّها إلى حقيقة واحدة [33]، وحدة الوجود هنا هي غير النظريّات الأخرى المطروحة باسم وحدة الوجود.

والوجود حقيقة واحدة مشكِّكة، كما ذهب الفلاسفة المسلمون، وهذه هي النظريّة التي سار عليها الفلاسفة والعرفاء، وكون الوجود حقيقة مشكّكة معناه أنّه واحد في حقيقته لكنّه ذو مراتب، فمثله مثل النور في تدرّجه من الشدّة والضعف، لكن معناه واحد، فالنور هو هو؛ لأنّ الشدّة والضعف أعراض ليست مقوّمات للحقيقة، قد توجد وتُعدم، لكن الحقيقة باقية، هذا هو الوجود، وخصوصيّة الأشياء الوجوديّة ليست جزءًا مقوّمًا للوجود، فهو بسيط غير مركّب. وهذه المسألة تلتمس أساسها من أصالة الوجود أيضًا. كما أنّ هذه النظريّة تنحدر من واجب الوجوب سبحانه فهو بسيط الحقائق، وهو ينبوع الوجود، ووحدة الوجود فلسفيًّا لا يُراد بها وحدة الموجود، فهما قضيّتان منفصلتان [34]. ولا شبهة في القول إنّ الله موجود والإنسان موجود، لاختلاف المصداق، فالله سبحانه لا يقاس بخلقه في مصداق الوجود، أمّا مفهوم الوجود، فهو واحد، والوجود ليس من قبيل المفاهيم الماهويّة، بل هو مفهوم فلسفيّ، ووحدته، كما يقول محمّد مصباح اليزدي، علامةٌ على وحدة الحيثيّة التي يأخذها العقل بعين الاعتبار فحسب، وتلك هي عبارة عن حيثيّة طرد العدم[35]، أي أنّ الوحدةَ المقصودة هنا مرتبطةٌ بالذهن، لا بالخارج.

والكثرة صفة غلبت التفكير الفلسفيّ في هذا العصر، وغدت مع الصيرورة صنوان يطبعان العقل الحديث والمعاصر. وهي تتعارض تعارضًا مباشرًا مع الإيقانيّة، التي تنزع إليها الفلسفة في مبانيها. فالإيقانيّة تميل إلى الواحديّة (Le monisme) وتتصوّر الوجود واحدًا وذا هويّة في جوهره على الرغم من تعدُّد مظاهره التي تبدو لنا في تنوّعها، أي أنّها تتصوّر الوجودَ على مثال العقل؛ ولذلك فإنّه تقول بهويّة أو على الأقل بوجود صلة دقيقة بين الروابط القائمة بين الأشياء والعلاقات القائمة بين التمثّلات[36].

بطلان نظريّة كثرة الوجود

الوجود مشترك معنويّ أي أنّ لفظ الوجود وضع لمعنى عامّ يحمل على مصاديقه غير المتناهية، وهذا من الأدلّة نظريّة كثرة الوجود.؛ وتبطل فكرة الكثرة الوجوديّة بملاحظة المناط الذي به يحصل الحمل على الموضوع، والمناط هو الذي يوجب صدق الحمل، وبلا مناط يصحّ كلّ مفهوم على كلّ مصداق، فيصحّ مثلًا حمل الحجر على الزجاج، فُيقال الزجاج حجر[37].

وتتّجه الواقعيّة الجديدة إلى القول بتعدّد الوجود، انطلاقًا من النظرة الشيئيّة والمادّيّة التي تنطلق منها. على أنّه لا يُراد بالواقعيّة تلك الواقعيّة العامّيّة أو الساذجة التي تعتقد أنّ الموجودات الواقعيّة هي التي تنقلها المدارك الحسّيّة، فهذا الاعتقاد مهزوز فلسفيًّا وعلميًّا.

ظهرت الواقعيّة الجديدة في إنجلترا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلاديّ على يد جورج مور الذي نشر مقالة بعنوان: «تفنيد المثاليّة»، واستحكمت الواقعيّة الجديدة في الجيل الأوّل من فلاسفتها، مع مورجان (1852- 1936)، ونان (1870 -...)، ورسل (1870- 1970)، وصامويل ألكسندر (1859- 1938)، وبرود (1887-...) وجون ليرد (1887-...). والواقعيّون تجريبيّون، يتّجهون إلى العلوم الطبيعيّة ويرون أنّ المنهج العلميّ هو المنهج الفلسفيّ الحقيقيّ، وهذا الموقف محدّد في التراث التجريبيّ الإنجليزيّ ابتداء من لوك إلى باركلي إلى هيوم، وبالأخص مذهب ريد (Reid) (1710- 1796)، ويتناولون المشكلات في جزئيّاتها لا كلّيّاتها، انسجامًا منهم مع التجريبيّة الحسّيّة، حتى وإن ارتفعت الواقعيّة إلى نوع من التأمّل المنظّم الذي يدنو من البناء الفلسفيّ، إلّا أّنها استخدمت المنهج المجهريّ(الميكروسكوبيّ) الذي يهتمّ بالجزئيّات، في مقابل المنهج الكلّيّ(الماكروسكوبيّ) الذي يهتمّ بالكلّيّات[38].

والقول بالتعدّديّة هو ما يميّز هذا التيّـار الفلسفيّ، ومن يقول بالتعدّديّة (برتراند راسل)، يقول إنّ العالم متكوّنٌ من ذرّات، مستقلّة عن بعضها وترتبط فيما بينها بعلاقات خارجيّة، وهذه العلاقات تأليفات حرّة تحسم بينها التجربة، فيؤخذ بالعلاقات المطابقة للتجربة ويغفل ما عداها. والعالم الخارجيّ متكثّر، وأصوله أو مبادئه ذرات هي أحداث، والمركّبات تتألّف من هذه الأصول، ولكن للمركّب خواصه وفعله، فلا يمكن تصوّره كأنّه مجرّد مجموع[39].

وتشكّك راسل في أن تكون هناك معرفة مباشرة للأنا، متّفِقًا مع ديفيد هيوم الذي كان يرى أنّ النفس البشريّة ما هي إلّا حزمة من الأفكار، وأعلن راسل أنّه يوافق على هذا التصوّر[40].

إنّ التفكير الذي ينتهج طريقة ويتبنّى خطًّا فلسفيًّا معلَنًا كثيرًا ما يحتلّ المركز في دائرة التأثير، إذا تعاصر وتعاضد مع منجزات العلم التي تتلاقى معه في الأسس؛ والفكر الفلسفيّ المعاصر اتّجه في عمومه إلى التجريبيّة المادّيّة، وإلى التعدّديّة، كما أنّ النزوع إلى الكلّيّة تراجع؛ لانعدام الجدوى، تاركًا مكانه للمعالجة الجزئيّة التي هي من طبيعة العلم لا الفلسفة، يؤيّد هذا أنّ أصحاب هذا الاتّجاه اشتغلوا بالعلوم التجريبيّة والطبيعيّة.

ارتبطت الفلسفات المعاصرة التي أصبحت مهيمنة على المساحات الكبرى من التفكير والاهتمام ارتباطًا وثيقًا بحركة العلوم، واختلط في بعض المسائل النفسيُّ بالفلسفيّ، خاصّة في نظريّة المعرفة، نتيجة الثورات العلميّة المتعدّدة، كما أنّ حركة المعنى في اللغة لم تَسْلَم من الانعكاسات المباشرة التي طرأت على المواقف الفلسفيّة، ورأينا كيف برزت مدرسة أكسفورد كنتيجة لهذا التحوّل (ولا أسمّيه تطوّرًا)، حيث تولّت عن المذهب التصوّريّ، والقبلّيّات العقليّة، ورأت أنّ المعاني يولِّدها الاستعمال، جاعلة هذه العبارة شعارًا لمذهبها (meaning is use= le sens c’est l’emploi)[41]، وعليه فإنّ الحديث عن معنى كلمة هو الحديث عن كيفيّة استعمالها، وعن تحديد أفعال الكلام أو اللغة التي يمكن أن تتحقّق. والقول إنّ هذا الشيء جيّد يعني أنّي أنصح به. وترى أنّ خطأ الفلسفة التقليديّة أنّها أعطت الكلمات وظائف لا تمنحها إيّاها اللغة العاديّة أو اليوميّة[42].

يتّجه الفيلسوف ليبنتز إلى القول بالكثرة الروحيّة، انطلاقًا من فكرة المونادا، وهي أبسط جوهر يدخل في المركّبات، وبساطته تعني أنّه بدون أجزاء [43]، وهذه المونادات لا حصر لها وعلى طوائف، منها: المونادات الناطقة والمونادات الشاعرة والمونادات العارية عن الشعور وكلّ طائفة منها تتميّز بصفات وخواص، كما ذهب إلى أنّ الله هو الموناد الأعظم الذي خلق العالم والوجود، وهو القادر على إفنائه أو إبادته أيضًا[44].

تعذُّر الوصول إلى المعنى

لقد هيمن على العقل الغربيّ تعذّر الوصول إلى المعنى الحقيقيّ أو تحديدًا الإرادة المحقّقة للمعنى، حتى اعتقد أنّ بنية اللغة والكلام بنية استعاريّة، ومن هنا يصبح اللجوء إلى التأويل حتميّة لا فكاك عنها من أجل الفهم، ومع غياب الآليّات وطغيان الفلسفات يصبح الفهم بل الاقتراب من المعنى مستحيلًا «ليست هنـاك حقـائق، هنـاك فقط تأويــلات» على حدِّ تعبير نيتشه[45].

وتَـعدّى التصوّرُ الاستعاريّ مجالَ اللغـة والبيان إلى كلّ المجالات وفي مقدّمتها الفكر. هكذا تنسج الحقائق من الرغبة متجاوزة الواقع أوّلًا، وملقية بأعبائها على أكتاف التصميم الذاتّي: «انتبهنا إلى أنّ الاستعارة حاضرة في كلّ مجالات حياتنا اليوميّة، إنّها ليست مقتصرة على اللغة، بل توجد في تفكيرنا وفي الأعمال التي نقوم بها أيضًا، إنّ النسق العاديّ الذي يسيّر تفكيرنا وسلوكنا له طبيعة استعاريّة بالأساس.» [46]

واعتماد الآليّة في التصوّر والتصرّف يخفي أسسهما الحقيقيّة، ويدعو إلى افتراض انعدام هذه الأسس، والنتيجة هي الافتراض وفتح الباب أمام الاستعارات، هذا هو البناء الاستدلاليّ الذي يسند الفرضيّة السابقة، وهو مكوّن من مقدّمة وتالية ونتيجة، جميعها عناصر غير مثبتة ومتهالكة برهانيًّا. «إنّ نسقنا التصوّريّ ليس من الأشياء التي نعيشها بشكل عاديّ. إنّنا في جلّ التفاصيل التي نسلكها في حياتنا اليوميّة نفكّر ونتحرّك بطريقة أقلّ أو أكثر آليّة، وذلك تبعًا لمسارات سلوكيّة ليس من السهل القبض عليها، وتشكّل اللغة إحدى الطرق الموصلة إلى اكتشافها. وبما أنّ التواصل مؤسّس على النسق التصوريّ نفسه الذي نستعمله في تفكيرنا وفي أنشطتنا، فإنّ اللغة تعدّ مصدرًا مهمًّا للبرهنة على الكيفيّة التي يشتغل بها هذا النّسق» [47]

هذه إحدى الأسباب التي أوقعت المعنى في طريق التبدّل والتردّد، وأخضعته لسلسلة لا تنتهي من التأويلات، قد تكون مختلفة في شكلها، لكنّها تعود إلى الأساس نفسه، فلم يعد يوثَق في الأسس العامّة للتصوّرات بحكم انتمائها إلى منطق الكينونة الذي نسفه المنطق الجديد، منطق الصيرورة، وقد كان لمنطق الثبات أو الكينونة أنصار لعلّ أشهرهم بارمنيدس، الذي أنكر الحركة والتغير، وكان بذلك ممهدًا للمذهب الذرّيّ أو مذهب الجوهر الفرد. [48]

لقد أدخل الإنسان نهائيّا ضمن نطاق المجرى الكونيّ، فهو جزء من أجزاء الطبيعة المترابطة، وهو مقيّد بقوانينها وخاضع لقواها [49]، وبعد أن كان الإنسان يعرف بأنّه حيوان عاقل، أصبح مع التطوّريّة الداروينيّة حيوانًا اكتسب عقلًا أو تعقّل.

وكان أوغيست كونت في فلسفته الوضعيّة (positive philosophy) أوّل مفكّر يذهب إلى أنّ علم المجتمع يجب أن يقيم أسسه بوضوح على علم الحياة، وقال إنّه لا بدّ لكلّ علم أن يتطوّر بشكل محدّد، حتى يدرك القمّة في المرحلة الوضعيّة وفي علم موحَّد له قوانين ثابتة في النموّ [50]، الخطوة الكبيرة الجديدة التي اتخذت في النقد الحديث هي إحلال منزلة الصيرورة محل مقولة الكينونة، وحلول النسبيّ محلّ المطلق والحركة محلّ السكون[51].

والكينونة لا تدلّ على مجرّد الإجابات الجديدة المتغيّرة على أسئلة دائمة قد يسلّم بها، ولا تدلّ أيضًا حتّى على الثورات الكبرى في الأفكار، إنّها تشير بدلًا من ذلك إلى أسلوب في التفكير الذي يتأمّل كلّ شيء، الطبيعة والإنسان والمجتمع والتاريخ والله ذاته ([52]Sub species temporis)، لا كأشياء تتغيّر فحسب، ولكنّها تتطوّر دون توقّف إلى أشياء جديدة ومختلفة؛ فهي لا تعتقد بوجود ثوابت ومطلقات وأفكار أبديّة؛ ومن الناحية التاريخيّة، فإنّ ماهيّتها كما لاحظ جون ديوي في أعقاب تأثير الداروينيّة على الفلسفة تعتمد على تحوّل في الاهتمام من الثابت إلى المتغيّر [53].

ولم يكن المعتقد التقليديّ يسلّم بأيّ فكرة تقول بالارتقاء من خلال الزمان. وقد اعتقد أرسطو أنّ العالم مخلوق على الحال التي هو فيها منذ الأزل، وأن لا بداية له، ولا ريب أنّ هذا الاعتقاد الأرسطويّ يتناقض شكلًا وموضوًعا مع نظريّة النشوء والارتقاء، ولا يعني هذا أنّه لم يسبق أبدًا لأيٍّ من المفكّرين أن أوحى بمثل هذه النظريّة، فمن بين الأغارقة الذين كانوا يدقّقون في كلّ فكرة أناكسيماندر وأمبيدوكليس، اللذين أوحيا بنظريّة النشوء والارتقاء، لولا أنّ نظريّة أرسطو طغت على آرائهما[54].

ولكن دارون بنظريته التطوّريّة قلَبَ التّفكيرَ الغربيّ، بعد أن انتقلت التطوّريّة من عالم الأحياء إلى عالم الأفكار مع هربرت سبنسر، وأصبحت تطوّريّة اجتماعيّة ذات فلسفة ورؤية للحياة بأكملها، تخللت السياسة والاجتماع، والأخلاق، وأقامت عليها دول سلوكها وسياساتها في وقتنا الحاضر.

يقول جون ديوي: «... والمعاني التي سادت فلسفة الطبيعة والمعرفة لمدى ألفي سنة، أي التصوّرات التي أصبحت من المقوّمات المألوفة للعقل قد استندت على الزعم بتفوّق الثابت والنهائيّ، كما استندت إلى التغيّر والأصل كعلامات للنقص، والابتعاد عن الحقيقة. وعندما وضع كتاب (أصل الأنواع) يديه على السفينة المقدّسة للثبات المطلق، وعندما نظر إلى الصور التي اعتبرت كأنماط للثبات والكمال، كأشياء تظهر ثم تختفي، فإن هذا الكتاب قد قدم أسلوبا في التفكير كان من المتوقّع في نهاية المطاف أن يحدِث تحوّلًا في منطق المعرفة وفي تناول الأخلاق والسياسة والدين بالتبعيّة»[55].

إنّ هذا الإحساس بالصيرورة في صميمه هو ما أصبحنا نعنيه بالحداثة أو بالعقل الحديث، هذا الإحساس لم يبدأ مع داروين، بل إنّ بذوره ترتدّ إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر[56].

ومع هذا فقد ظلّ ثمّة كثير من «الكينونة» في الفكر الغربيّ حتى في القرن الثامن عشر وبعده، فحتّى الإصلاح الدينّي الذي اندفع في كلّ الجهات خلال عصر الثورات كثيرًا ما وضع مسلّمات لصورة جديدة من الكينونة، وزعم أنّها أكثر كمالًا من المسلّمات القديمة، ولكن على عهد رينان تحوّل المدّ، وبدأ العالم الذي سبق أن ظهر بمظهر العالم الثابت نوعًا -على أقلّ تقدير من ناحية غاياته القصوى وإطاراته الأبديّة- يظهر بمظهر العالم الديناميّ الذي لا يتوقّف عن الحركة[57].

قال توماس هكسلي: «أهمّ صفة للكون هي عدم ثباته»[58]، وكان هكسلي لسان حال جيل كامل في هذا الموضوع. والآن لقد أخصبت النظريّة التاريخيّة التطوّريّة، كلّ فرع من فروع الفكر، بما في ذلك اللاهوت والأخلاق والفلسفة الاجتماعيّة، وبلغت ذروتها في نظرة نسبيّة متطرّفة تجرّأت على الهجوم حتّى على الحصون الداخليّة للنفس، كما حدث في فلسفة هنري برغسون. وعلى الرغم من أنّ برغسون قد خلط بين الكينونة والصيرورة بطريقته الخاصّة، إلّا أنّه يعدّ أفضل نموذج لفيلسوف الصيرورة. والاحساس المسيطر بالتغيّر الدائم ألهم برغسون فكرة الديمومة: «بداية لقد اكتشفت أنّي أنتقل من حالة إلى حالة، هذا يعني أنّني أتغيّر بلا توقّف، غير أنّ هذا القول لا يكفي، فالتغيّر أكثر جذريّة مما نميل إلى الافتراض؛ لأنّني أتحدث عن كلّ حالة من حالاتي، فإنّها تبدو كأنّها كتلة ثابتة، وأنّها تمثّل كلًّا منفصلًا...والحقيقة أنّنا نتغيّر بلا توقّف، وهذه الحالة ذاتها ما هي إلّا تغيّر أيضًا» [59].

إنّ هذا الاتجاه الكامل من الكينونة إلى الصيرورة، والذي ازدادت سرعته في القرنين التاسع عشر والقرن العشرين، لا يمكن تصوّرُه بغير الصدمات الكبيرة في العصور الحديثة كالثورة الفرنسيّة والثورة الصناعيّة والثورة التكنولوجيّة في الناحيتين الآليّة والكهربائيّة، التي أحدثت تراخيًا في النسيج الاجتماعيّ التقليديّ لأوروبا القديمة[60].

وعمَّق الاتجاه التطوّريّ [61] في الأخلاق فكرةَ الانتقال من الكينونة إلى الصّيرورة، فوجدنا فلاسفة مثل الفيلسوف الإنكليزيّ هربرت سبنسر [62]-ممن استدعوا التطوّريّة الداروينيّة- يرون أن لا وجود لما هو فطريّ إطلاقًا، فلا وجود للحقائق الأخلاقيّة في النفس، بل التجربة هي التي تكفّلَت بها، على أنّ هذه التجربة ليست هي تجربة الفرد، بل تجارب المجتمعات على مر الأجيال:

كما عرفت هذه الفلسفة، أي الانتقال من الكينونة إلى الصيرورة تجسيدًا لها في الداروينيّة الجديدة، وهي اتجاه أسّسه عالم الأحياء الألمانيّ فايسمان (1834-1914)، وكذا في الداروينيّة الاجتماعيّة[63].

لقد لقيت الداروينيّة الاجتماعيّة مؤيدين كثيرين وأعطاها الفيلسوف نيتشه قالبًا مثاليًّا وطبّقها علماء الحياة أمثال جالتون (Galton) وكارل بيرسون (Karl Pearson) على صراع الأجناس العرقيّة، مستنتجين برنامجًا عمليًّا للسلالات القوميّة، وكانت تشكّل قبل عام 1814 إحدى المعاقل الرئيسة للدفاع العلميّ عن الحرب والروح الحربيّة[64].

وتعود هذه الفلسفة (فلسفة التغيّر المستمر) إلى جذور قديمة تصل إلى الفيلسوف هيراقليطس الذي عاش قبل سقراط، إذ عاش في الأولمبياد السادس والعشرين الذي يوافق تقريبا 504-500ق.م. ومن شذرات كلامه في هذا الاتجاه: «كلّ شيء ينساب ولا شيء يسكن، كلّ شيء يتغيّر ولا شيء يدوم على الثبات، حتى الأضداد يتحوّل بعضها إلى بعض، وإنّك لا تستطيع النزول مرّتين إلى النهر نفسه؛ لأنّ مياهًا جديدة تنساب فيه باستمرار. إنّ الأشياء تجد راحتها في التغيّر»[65]، الوجود غير قابل للانفصال عن هذه الحركة المتواصلة، فالجعّة تفسد إذا لم تُخضّ من جديد، والمرء لا يستريح إلّا إذا تغيّر، والزمن يغيّر مواضع الأشياء[66].

والتغيّر يكون من الضدّ إلى الضدّ مثل الانتقال بين البارد والحار، والجافّ والرطب، وليس السُّكونُ والحركة هما حقيقةَ الأشياء، بل التنوّعُ والاختلاف والتعارض؛ إذْ إنّ الصيرورة إنّما تكون بين حدَّين متضادَّين، والمتضادّان يتحوّل أحدهما إلى الآخر، حتى إنّ كلَّ شيءٍ يتعلّق بتعارضهما، ومن خلال الصراع يؤكّد كلّ شيء طبيعته الحقيقيّة[67].

 ومذهبه كما هو واضح ينطوي على جرثومـة فلسفــة هيجل، التي تبـدأ بالتأليف بين الأضداد[68]، وهو الجانب الأبرز الذي يستحقّ أن يقف عنده الباحث لفلسفة هيراقليطس كما يرى كوبلستون في موسوعته تاريخ الفلسفة «إنّ مساهمة هيراقليطس الأصيلة في الفلسفة توجد في مكان آخر، إنّها تكمن في تصوّره للوحدة في التنوّع، والاختلاف في الوحدة، لقد كانت الأضداد في فلسفة أنكسمندر، يعتدي بعضها على بعض، ثم تنال عقابها على ما ارتكبته من ظلم، وينظر إلى الحرب ما بين الأضداد على أنّها ضرب من الفوضى، وعلى أنّها شيء ينبغي ألّا يكون، شيء يفسد نقاء الواحد. لم يأخذ هيرقليطس بهذه الوجهة من النظر، فصراع الأضداد عنده أبعد جدًّا من أن يكون وصمة لوحدة الواحد، بل هو جوهريّ لوحدة الواحد. والواقع أنّ الواحد لا يوجد إلّا في توتّر الأضداد، ذلك التوتّر الذي هو أساسيّ وجوهريّ لوحدة الواحد»[69].

ويتفق أفلاطون وأرسطو على أن هرقليطس ذهب إلى أنه «لا شيء قط موجود، وكل شيء في حالة الصيرورة». ومبدأه الفلسفيّ على خطّ متعارض مع مبدأ المدرسة الإيليّة، القائل إنّ الوجود هو وحده موجود، وأنّ الصيرورة ليست موجودة، فكلّ تغيّر وكلّ صيرورة مجرّدُ وهْم، أمّا عند هيرقليطس فالأمر بالعكس فالصيرورة وحدها موجود،ة والوجود والثابت والذاتيّة ليست إلّا أوهامًا[70].

وهذه الصيرورة اتخذت أشكالًا فلسفيّة أخرى غير الفكرة التي اعتقدها هيراقليطس، ففي الفكر اليهوديّ المعاصر ينظر إلى الحضارة اليونانيّة على أنّها حضارة مكانيّة، وهي حضارة رؤية، والصورة أساسيّة فيها؛ لذا فهي تحترم الأيقونات بكلّ ما تتّسم به من تحدّد وثبات ووضوح، وينظر إليها على أنّها أفلاطونيّة تحترم الثبات وتقيم نظرتها إلى العالم على ثنائيّة أساسيّة: عالم المثل المجرّدة الثابتة المتجاوزة لعالم الحركة، مقابل عالم المادّة المتغيّر المحسوس، وهي ثنائيّة المعقول والمحسوس، والمسيحيّة استمرار للتقاليد اليونانيّة في الإدراك والثنائيّة، فهي متمركزة على اللوغوس (الكلمة) التي تتجاوز عالم المحسوس وتشكّل نقطة ثبات في العالم النسبيّ المتغيّر، وتعطي للأشياء معناها، ويضبط الصيرورة، فلا تجمح أو تتيه. وتقف اليهوديّة من منظور دعاة ما بعد الحداثة على النقيض من هذا، فالحضارة العبريّة ليست حضارة مكانيّة وإنّما حضارة زمانيّة، فالارتباط بالمكان مستحيل بالنسبة إلى اليهوديّ، فهو بلا مكان، وظرفه الوحيد هو الزمان الذي يتجوّل فيه، واليهوديّة تعبير عن رفض لحظة التجسد والثبات، أفلاطونيّة كانت أو مسيحيّة، واليهوديّ يرحل من مكان إلى آخر دون حلم بالعودة، أي دون حنين إلى المعنى الحقيقيّ والحقيقة والبنية الميتافيزيقيّة الثابتة التي تمنح الاطمئنان، لكلّ هذا يصبح الانقطاع المستمرّ جوهر حياته والاقتلاع سمتها، ولا يحاول تجاوز عالم الصيرورة، وتصبح الصيرورة هي البداية والنهاية، وتصبح التعدّديّة اللغويّة أمرًا مقبولًا فتفسد اللغة[71].

ويلاحظ برتراند رسل أنّ البحث عن شيء يتّصف بالدوام هو من أعمق الغرائز التي تؤدّي بالإنسان إلى الفلسفة، ولا شكّ أنّه مشتقّ من حبّ الإنسان لداره ورغبته في مأوى يسكن إليه من الخطر؛ لذا نرى هذا الميل على أشدّه عند أولئك الذين هم أكثر من سواهم تعرّضًا للكوارث، والدين ينشد هذا الدوام في صورتين: الله والخلود، فليس في الله تغيُّر، ولا ظلّ فيه للتحوّل [72].

إنّ الفلسفة الغربيّة، والعقل الغربيّ قد عرفا انعطافات كانت وراء إعطائه الملامح البارزة في التفكير. والعقل هنا ليس العقل الأوّليّ، بل العقل المستفاد الذي يترجمه الفكر ويرتبط بالسلوك والعمل. وتأتي عمليّة الفهم نتيجة مباشرة لهذا العقل أو اللون من التفكير، مع إمدادات ومؤثّرات من عوامل أخرى أتعبت العقل الغربيّ وحيّرته، وفرضت عليه سطوتها وسلطانها، فكانت اللغة أحد البوابات التي طلعت منها موجات تلك المؤثّرات.

إنّ عصرنا الراهن مطبوعٌ بالحركة والتغيّر المستمرّ، ولم يعد العقل بمأمن من هذا التغيّر الذي أصبح قانونًا يكاد يعصف بالأسس العقليّة التي تُبنى عليها الاستدلالات، وعلى ضوئها يُكتشف المجهول. «ففي إطار الثابت والدائم يوجد الواقع الحقيقيّ، ولقد تأسّست الميتافيزيقا دومًا على مفهوم الكائن والجوهر، لكنّ الفكر المعاصر سار في اتجاه مناقض لذلك، فالمذاهب المعاصرة مهما كانت أصالتها، فهي مذاهب تطوّريّة، ومذاهب متحرّكة ومتغيّرة، وفي هذا الطريق تبحث عن مقاييس للقيم»[73].

لَمْ يَعُد التفكير الفلسفيّ الغربيّ مستقلًّا عن التاريخ والمتغيّرات الاجتماعيّة التي تتنافى في جوهرها مع البناء الفلسفيّ الكلّيّ والثابت، وأصبح مطبوعًا بالطابع المؤقّت، ومتّسمًا بالسِّمة الحجاجيّة ذات الأبعاد التداوليّة، والسمات المتغيّرة، والحجج المغالطيّة التي تخيّل على العقل أحيانًا؛ إذ إنّ البناء الحجاجيّ مقيَّدٌ بأهدافٍ طارئةٍ مرتبطة بما يُقَدِّم الطرف المُحاجِج، فيأتي البناء محدَّدًا زمانًا ومكانًا وموضوعًا واصطلاحًا.

واستحكام الإيديولوجيا يحوِّلها إلى فلسفة يدافع عنها أصحابها، ونسق من الآراء، والأفكار: «السياسيّة والقانونيّة والأخلاقيّة والجماليّة والدينيّة والفلسفيّة»[74].

أصبح للتكنولوجيا سلطة ترعاها متمثّلة في الدّول القويّة، أغلبها ذو ماض استعماريّ، وحاضر استغلاليّ هيمنيّ، وتطلّعات للتفرّد بالحياة. وأصبح للتكنولوجيا لغتها المعتمدة التي ينبغي تعلمها قبل استعمال ما تقدّمه هذه التكنولوجيا، فمن المسلَّم اليوم أنّ المصطلح هو مفتاح هذا العالم الجديد الذي يسمى تكنولوجيا، والمصطلح يحظى بالرعاية الحصريّة من مؤسّسات مخوّلة بإنتاجه وإقراره للتداول، «إنّ التكنولوجيا التي اقترنت منذ نشأتها بالتقنين هي إيديولوجيا، وتأكيد أنصارها على أنّها ليست كذلك يكسبها قوّة غريبة، فكثيرون يتعلّقون بها وكأنّها حبل النجاة الأخير، والخلاص الوحي، الأمل النهائي لوضع حدّ لكلّ الإيديولوجيّات التي سادت وتسود الإنسانيّة، وكانت الينبوع الدائم للخصومات، والهوّة السحيقة التي تُدفن في جوفها كلّ ضحايا الحروب، والمقبرة التي ترقد فيها جماهير الأبرياء، فالتكنولوجيا بدل أن تكون نهاية الإيديولوجيّات كما يقال، هي نفسها إيديولوجيا، إنّها تصبح أكثر فأكثر لا إيديولوجيّة طبقة معيّنة في مجتمع معيّن بل إيديولوجيّة الإنسانيّة بأسرها، فكلّ شيء يحدث كما لو أنّ إعطاء الثقافة والحضارة الطابع العالميّ الكلّيّ لا يتمّ إلّا مرورّا بها.

كان أفلاطون قد جعل الواحد فوق التعدّد، وكان هيجل قد نادى بالمفهوم الذي يتغيّر مع التقدّم، ويتحوّل إلى حقيقة تاريخيّة، فوحدة العالم إنّما تتحقّق خلال عمليّة تحوّل تاريخيّ مستمرّ. بعد أن كانت الذات موجودّا مجرّدًا عال على الزمان، مرتفعًا فوق مستوى المجتمع، وأصبحت «روح الشعب» هي مثل العناصر التاريخيّة المختلفة للشعور.

وحلَّت اليوم مع التسارع التكنولوجيّ صورةُ الإنسان الذي يستهلك أكثرَ فأكثر محل فكرة الخير الأفلاطونيّة ومفهوم الروح الهيجليّ، فإذا كانت الميتافيزيقا الكلاسيكيّة التقليديّة تتوجّه بأنظارها نحو السماء بحثًا عن معنى للتجربة الإنسانيّة، فإنّ التكنولوجيا قد حلّت مكانها ونادت بالعودة إلى الأرض للاهتمام بزيادة إنتاج هذه الأخيرة»[75].

إنها إيديولجيّة التكنولوجيا المبنيّة على ثلاثة مبادئ، كما يرى الفيلسوف الألمانيّ المعاصر يورجين هابرمس، وهي:

أ- كلّ شيء قابل للاستهلاك، وبالتالي فإنّ كلّ شيء هو إنتاج والإنتاج يطغى أكثر فأكثر على ميادين الحياة، فالميادين الخاصّة جدًّا والحميمة تسقط أكثر فأكثر تحت مقولة الإنتاج.

ب- ليس الإنسان بكائن لا متناهٍ لا يمكن الحدّ به كلّيّة، بل هو في نظر التكنولوجيا مجموعة لا متناهية من الرغبات المتجسّمة، وبالتالي يمكننا أن نخلق له رغبات مصطنعة إلى ما لا نهاية. كان أبيقور يميّز بين الحاجات الطبيعيّة والضروريّة والحاجات الطبيعيّة غير الضروريّة والحاجات التي ليست طبيعيّة ولا ضروريّة، في حين أنّ الإيديولوجيّات التقنية لا تكترث لهذا التمييز، فليس يهمّها إن كانت الرغبات طبيعيّة ضروريّة، بل كلّ همّها أن توجد رغبات جديدة.

ج- إنّ المبدأ الأخير للإيديولوجيا التقنية يمكن أن يختصر كالتالي: كلّما ازداد استهلاك الإنسان، زادت سعادته. استهلك واصمُت، يبدو أنّ هذا ما تقوله لنا التكنولوجيا الحديثة. ليس من غاية أخرى للحياة سوى زيادة القوّة الشرائيّة أي كمّيّة الاستهلاك إلى درجة نستطيع أن نقول فيها بأنّ عدل النموّ الاقتصاديّ أصبح المقياس الوحيد للحضارة، والعنصر الوحيد المجسِّم للتقدّم، ومن هنا يمكننا أن نفهم لماذا أصبح هاجس السياسيّين الأوّل؟!.

وغيّرت الإيديولوجيا الراهنة، الإيديولجيّة التكنولجيّة، كما يسمّيها جورج زيناتي، الأبعاد الخالدة لمفهوم السعادة، بميتافيزيقيا ساذجة تقوم على فكرة الإشباع الكفيل بتحقيق إنّيّة الإنسان، وكينونته، وقد كان الفلاسفة من قبل لا يأبهون بإشباع الرغبات؛ لأنّها كإناء بلا قعر، وأنّ الرضى الحقيقيّ يكون بالحكمة والمعرفة. هذه التكنولوجيا الحديثة، كإيديولوجيا، أن تقيم كلّ شيء على الرغبة اللامحدودة بعطشها الدائم للاستهلاك أكثر ولو بقليل[76].

إنّ الفلسفة الغربيّة أو بالأحرى العقل الغربيّ –الذي لم يتجاوز الوجود إلى واجب الوجود- ظلّ باحثًا غير مستقرّ على نقطة أو مبدأ يقينيّ، فاتّسم تفكيره بالثوريّة الجامحة التي لا ترضى بشيء على صعيد الأفكار والأشياء سواء بسواء، وما ترتّب على هذه الإنتاجيّة -ولا أسمّيها إبداعيّة- أن تكاثرت الأسماء، أو المصطلحات، وغزت المدارس والمحافل، وفرضت على المغلوبين علميًّا وفكريًّا وتكنولوجيًّا. والحقّ أنّ الغالب تكنولوجيًّا غالبٌ في جميع المجالات، والواقع والوقائع تشهد بذلك، فأين هي الفلسفة الشرقيّة؟! وأين حضورها، وأين العرفان الشرقيّ وأين الحكميّة الشرقيّة؟! لقد داستها التكنولوجيا وأيديولوجيّتها وتوابعها من مصطلحات ومذاهب ومدارس ولم تبقِ لها على أثر.

لم تكن الثورة الكوبرنيكيّة مجرّد انقلاب (باراديغميّ) أنموذجيّ أصليّ خاصّ في الفلك والكوزمولوجيا الحديثة، أطلقه كوبرنيك، ورسّخه كبلر وغاليليو وأنجزه نيوتن، «بل كانت بمعنى أوسع بكثير وأهمّ بما لا يُقاس. فحين أدرك كوبرنيك أنّ الأرض ليست المركز الثابت المطلق للكون، وحين أدرك - وهذا ليس أقلّ أهمّيّة - أنّ من الممكن تفسير حركة السماوات من منطلق حركة الراصد، إنّما بادر إلى طرح ما يمكن عدُّه رؤيةَ العقلِ الحديث المحوريّة.  من الممكن النظر إلى التحوّل الكوبرنيكيّ في المنظور صورة مجازيّة أساسيّة لمجمل النظرة العالميّة الحديثة: فالتفكيك العميق للفهم الساذج، والإقرار النقديّ بأنّ الوضع الظاهر للعالم الموضوعيّ محدَّد على نحو لا واعٍ بوضع الذات، والتحرّر اللاحق من الرحم الكونيّ القديم والوسيطيّ، والإزاحة الجذريّة للكائن البشريّ إلى موقع نسبيّ وهامشيّ في كون فسيح ولا شخصيّ(موضوعيّ)، والتحرّر اللاحق من الانبهار بالعالم الطبيعيّ، وبهذا المعنى الواسع جدًّا –كما لو كانت حدثًا وقع لا في الفلك والعلوم وحسب، بل في الفلسفة والدين، كما في النفس البشريّة الجماعيّة –يمكن عدُّ الثورة الكوبرنيكيّة الانقلابَ التاريخيّ الانعطافيّ للعصر الحديث. لقد كانت حدثًا أساسيًّا، أصليًّا، حدثًا مُدمِّرًا ومؤسِّسًا لهذا العالم»[77].  

إنّ التحوّلات التي حصلت على الصعيد العلميّ نقلت العقل الغربيّ المهيمن إلى مسارات ومسالك تفكيريّة أخرى، بحثا عن نقطة ارتكاز وموقع مركزيّ يعيد للإنسان (الغربيّ) إحساسه الغامر بالهيمنة المطلقة كما نادى بها نيتشه وفلاسفة الوجوديّة وحتّى البراغماتيّون، وإنْ بطرقٍ مُعَدَّلَةٍ «فالدنيا معرّضة للزوال في يوم من الأيام، ولكن الكون قد يكون أزليًّا طبقًا لمفاهيم العلم، والإنسان بخروجه من الأرض (إلى الفضاء)، أقدمَ على الخطوة الأولى في طريق استقلاله عن مصير الأرض. لقد اجتازوا حدًّا والحدّ هنا شبيه بالحدّ الذي عبرته الحيوانات منذ آلاف السنين، حينما هجرت البحار لتجازف بالحياة على اليابسة»[78].

هذا التحوّل الذي غيّر وجهة الإنسان عقلًا وانفعالًا: أّما عقلًا، فلم يعد الإنسان يملك زمام المبادرة إلى التأمّل الخلّاق، والانعتاق من الواقع الذي غالبًا ما يفرض منطقه التقليديّ القائم على الاتباع والمجاملات..، تاركًا قواه الأصيلة تؤدّي أدوارًا وظيفيّة حسب الطلب المفروض..، وأمّا انفعالًا: فقد توطّدَ بداخل الإنسان النمط الآليّ للحوادث الإنسانيّة، فلم يعد يفرّق بين انهيار صخرة من جبل وبين موت عزيز، هذا التحوّل أنشأ فلسفة جديدة وشاملة، بما فيها من لغة ومواقف، تصل إلى شنِّ الحروب.

وقد رصد عالم النفس الأميركيّ إيريك فروم هذا التحوّل الضارب في أعماق الحياة الغربيّة، يقول في هذا الصدد: «مجتمع مُـمَكْننٌ تمام المكننة، خاضع للإنتاج في أعلى درجاته وإلى الاستهلاك وموجَّهٌ بالنواظم الآليّة. والإنسان في هذا السياق الاجتماعيّ آخذٌ في التحوّل الآن، إلى دولاب في الآلة الكبرى، يُغَذَّى ويُسَلَّى جيِّدًا، لكنّه مع ذلك سلبيّ ومن الناحية الانفعاليّة لا حياة فيه، وبانتصار هذا المجتمع الجديد سوف تختفي الفردانيّة والحياة الخاصّة؛ وسوف تتقولب المشاعر بإزاء الغير وفقًا للتكيّف السيكولوجيّ ولوسائل أخرى، أو أيضًا، بعقاقير تلبس كذلك نوعًا جديدًا من التجربة الاستبطانيّة. وكما بيَّن برزيزنسكي:(في مجتمع التقنية الإلكترونيّة) يميل المرء إلى التجانس مع ملايين المواطنين المتغايرين بسهولة تحت تأثير سلطان شخصيّات قويّة وجذّابة تستخدم بفعاليّة آخر ما وصلت إليه تقنية المواصلات لتحكم الانفعالات وتشرف على العقل»[79].

ويطرح إيريك فروم السؤال عن السبب الذي أوصل الإنسانيّة إلى هذه الحال، ثُمّ يجيب: «كيف حدث ذلك؟ كيف غدا الإنسان وهو في الذروة نفسها من انتصاره على الطبيعة، السجين لابتكاره الخاصّ، وكيف تعرَّض لخطر تدمير نفسه بنفسه؟ إنّ الإنسان في بحثه عن الحقيقة العلميّة، قد نظّم من المعارف ما كان في وسعه استخدامه من أجل السيطرة على الطبيعة. إنّه حصل على نجاحات هائلة، لكنّه بإصراره على التقنية وعلى الاستهلاك المادّيّ وحدهما فقَدَ الاحتكاك بنفسه هو وبالحياة، ولمّا لم يعد حريصًا إلّا على التقنية وعلى القيم المادّيّة فقَدَ، ليس الإيمانَ بالدين والقيم الإنسانيّة فحسب، بل والقدرة كذلك على الإحساس بالانفعالات العميقة وبالفرح وبالحزن اللذين يرافقانها، وأصبحت الآلة التي بناها من القوّة بحيث ولَّدَتْ برنامجه الخاصّ وهي التي تحدّد، الآن، فكر الإنسان بنفســه»[80].

بقي أن نسأل عن الإيديولوجيا في الوقت الراهن، وهل دخلنا عصر نهايتها، كما تساءل أحدهم من قبل؟ حين استعرضت الأيديولوجيا مفهوما وممارسة خلصت إلى أنها سعتْ ونجحت في ربط التفكير بالواقع، وبالغرضية السلوكية، التي تُخضِع التفكيرَ لمنطقها، أمّا ربطها بالماركسيّة، فليس حاسمًا بالكلّيّة في تحديد مصيرها، سوى على نطاق الدولة، أو نطاق الشعار المعلن أو الراية المرفوعة، وما عدا ذلك فإنّ ارتباطها بالعمل والسلوك أعطاها من القوّة الفكرة والرسوخ ما يجعل الحديث عن تلاشيها ضربًا من الأماني.

المصادر والمراجع

1.   التقريب لحد المنطق، ضمن رسائل ابن حزم، الجزء الرابع، المجلد الثاني، تحقيق إحسان عباس، ط2، 2007، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.

2.   راندل كولينز: علم اجتماع الفلسفات، ج2، ترجمة فريق جسور للترجمة، مراجعة خليفة الميساوي، ط 1، 2019، جسور للترجمة والنشر، بيروت.

3.   زكريا إبراهيم: مشكلة الفلسفة. جورج زيناتي: رحلات في الفلسفة الغربية. ط1، 1413هـ-1993م، دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت.

4.   فرانكلين ل. باومر: الفكر الأوربي الحديث، ج4، ترجمة أحمد حمدي محمود، ط 1989، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.

5.   التطورية مقاربة تقوم على اتخاذ التصورات والأدوات البيولوجية أسساً لتحليل الطواهر المعرفية، والجمالية أو الثقافية.

6.   الفكر الأوربي الحديث، 1/35، والإحالة على "أثر داروين في الفلسفة لديوي".

7.   الموسوعة الفلسفية، وضعها لجنة من العلماء الأكاديميين السوفييت، بإشراف روزنتال ويودين، ترجمة سمير كرم، مراجعة صادق جلال العظم، وجورج طرابيشي، ط 9، 2011، دار الطليعة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.

8.   عثمان أمين: الفلسفة الرواقية، طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، سنة 1945، القاهرة

9.   إيريك فروم: ثورة الأمل،، ترجمة ذوقان قرقوط، ط1، 1973، دار الآداب، بيروت.

10. إيميل برهييه، تاريخ الفلسفة، 1/76. ترجمة جورج طرابيشي، ط3، 2016، دار الطليعة، بيروت.

11. برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربية، الكتاب الأول، الفلسفة القديمة، ترجمة زكي نجيب محود، مراجعة أحمد أمين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012، القاهرة.

12. بوشنسكي: الفلسفة المعاصرة في أوروبا.

13. بول جانيه، جبريل سياي (Paul Janet et Gabriel Seailles): مشكلات ما بعد الطبيعة، ترجمة يحي هويدي، مراجعة محمد مصطفى حلمي، تقديم الطبعة محمد مدين، ط1، 2015، المركز القومي للترجمة، القاهرة.

14. جورج زيناتي: رحلات في الفلسفة الغربية.

15. جورج لايكوف ومارك لونسون، الاستعارات التي نحيا بها، ترجمة عبد المجيد جحفة، ط1، 1996، دار توبقال، المغرب.

16. جون هارمان راندل: تكوين العقل الحديث، ج2، ترجمة جورج طعمه، مراجعة برهان دجاني، تقديم محمد حسين هيكل، ط2013، المركز القومي للترجمة، القاهرة.

17. روجيه غارودي: كيف صنعنا القرن العشرين،، ترجمة ليلى حافظ، ط 2، 1420هـ-2001م، دار الشروق، القاهرة.

18. (رونالد سترومبرج، تاريخ الفكر الأوربي الحديث، 1601-1977. ترجمة أحمد الشيباني، ط3، 14115هـ-1994م، دار القارئ العربي، القاهرة، مصر، وجدة، المملكة السعودية.

19. ريتشارد تارناس: آلام العقل الغربي، فهم الأفكار التي قامت بصياغة نظرتنا إلى العالم، ترجمة فاضل جتكر، الطبعة العربية الأولى، 1413هـ-2010م، منشورات كلمة، أبو ظبي، والعبيكان، السعودية.

20. شرح بداية الحكمة للطباطبائي، محمد مهدي مؤمن، 1/50. مرتضى مطهري، دروس فلسفية في شرح المنظومة، ج1

21. عادل مصطفى، فهم الفهم، مدخل إلى الهرمنيوطيقيا، نظرية التأويل من أفلاطون إلى غادامير، رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2007.

22. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية(الموجزة)، ج 2، ط 4، 2008، دار الشروق، القاهرة.

23. عثمان أمين: الفلسفة الرواقية، طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1945، القاهرة.

24. علي عبد المعطي محمد: مقدمات في الفلسفة، ط 1405هـ -1985م، دار النهضة العربية، بيروت.

25. فرانكلين ل. باومر، الفكر الأوربي الحديث، الجزء الأول، القرن السابع عشر، ترجمة أحمد حمدي محمود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1978.

26. فريدريك كوبلستون، تاريخ الفلسفة، المجلد الأول، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، ط1، 2002، المشروع القومي للترجمة، القاهرة.

27. فيكتور فركس: الإنسان التقني، تعريب إميل خليل بيدس، دار الآفاق الجدية، بيروت (د.ت).

28. كرين برينتون: تشكيل العقل الحديث، ترجمة شوقي جلال، ط الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة(د.ت).

29. ليبنتز: المونادولوجيا، ترجمة ألبير نصري نادر، اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية، 1956، بيروت

30. ماهر عبد القادر محمد علي: مشكلات الفلسفة، دار النهضة العربية، بيروت-لبنان، 1405هـ-1985.

31. محمد باقر الصدر، فلسفتنا،  ط3، دار التعارف، بيروت، 1430هـ-2009.

32. محمد جمال الكيلاني، الفلسفة اليونانية أصولها ومصادرها، الجزء الأول من المرحلة الأسطورية وحتى أفلاطون، مراجعة وتصدير د محمد فتحي عبد الله، ط1، 2008، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الاسكندرية، مصر. وقد أحال على ولتر ستيس: تاريخ الفلسفة اليونانية.

33. محمد حسين الطباطبائي: أسس الفلسفة والمذهب الواقعي، ج1-تعريب محمد عبد المنعم الخاقاني، تعليق الأستاذ الشهيد مرتضى مطهري، ط 2، 1408هـ-1988م، دار التعارف للمطبوعات، بيروت.

34. محمد خاقاني: بينات، ط1، 1420هـ-1999م، دار الهادي، بيروت.

35. محمد علي أبو ريان، هيراقليطس فيلسوف التغير وأثره في الفكر الفلسفي، ط1، 2016، دار الوفا لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، مصر. وموسوعة الفلسفة، عبد الرحمان بدوي، ج2.

36. محمد مصباح اليزدي: المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، ج1، ط 1418هـ-1998م، دار التعارف للمطبوعات، بيروت.

37. محمود فهمي زيدان: نظرية المعرفة عند مفكري الإسلام وفلاسفة الغرب المعاصرين، ط1، 1989، دار النهضة العربية، بيروت.

38. مرتضى مطهري: دروس فلسفية في شرح المنظومة، ج1، هامش، ترجمة مالك مصطفى وهبي، ط1، 1422هـ-2002م، دار الهادي، بيروت.

39. الفكر الأوربي الحديث، 1/ 35، والإحالة على "أثر داروين في الفلسفة لديوي =The influence of Darwin on philosophy".

40. هنري برغسون، التطور الخالق، ترجمة. محمد محمود قاسم، مراجعة نجيب بلدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984.

41. ول ديورانت: قصة الحضارة، ج7، الناشر: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم - دار الجيل للطبع والنشر والتوزيع.

42. ولتر ستيس، تاريخ الفلسفة اليونانية، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، ط 1984، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة.

43. يحي هويدي: باركلي، ط 2، 2017، دار المعارف، القاهرة. وعثمان أمين: الفلسفة الرواقية، طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة.

44. يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة، ط4، 1966، دار المعارف، القاهرة.

لائحة المصادر بالأجنبيّة

1-  Dictionnaire encyclopédique de la science du langage.

2-  André Cresson: La philosophie française, Presse Universitaire de France, 3e édition; 1955.

3-  D. Parodi: en quête d'une philosophie. 2e édition; 1949, Presse Universitaire de France, Paris.

------------------------


[1]*ـ  باحث في الفكر المعاصر وأستاذ بكلّيّة اللغة العربيّة وآدابها -جامعة الجزائر 2- جمهوريّة الجزائر.

[2]- كرين برينتون: تشكيل العقل الحديث، ص 251، ترجمة شوقي جلال، ط الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة(د.ت.).

[3]- راندل كولينز: علم اجتماع الفلسفات، ج 2، 714، ترجمة فريق جسور للترجمة، مراجعة خليفة الميساوي، ط 1، 2019، جسور للترجمة والنشر، بيروت.

[4]- ريتشارد تارناس: آلام العقل الغربيّ، فهم الأفكار التي قامت بصياغة نظرتنا إلى العالم، ص387، ترجمة فاضل جتكر، الطبعة العربية الأولى، 1413هـ-2010م، منشورات كلمة، أبو ظبي، والعبيكان، السعودية.

[5]- فرانكلين ل. باومر: الفكر الأوروبيّ الحديث، ج4، ص6، ترجمة أحمد حمدي محمود، ط 1989، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة.

[6]- نفسه، ج4، ص7.

[7]- ماهر عبد القادر محمّد علي: مشكلات الفلسفة، ص44.

[8]- نفسه.

[9]- André Cresson: La philosophie française, p59, Presse Universitaire de France, 3e édition ; 1955.

[10]- روجيه غارودي: كيف صنعنا القرن العشرين، ص 91، ترجمة ليلى حافظ، ط 2، 1420هـ-2001م، دار الشروق، القاهرة.

[11]- يحي هويدي: باركلي، ص21، ط 2، 2017، دار المعارف، القاهرة.

[12]- التقريب لحد المنطق، ضمن رسائل ابن حزم، الجزء الرابع، ص 95، المجلّد الثاني، تحقيق إحسان عباس، ط2، 2007، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت.

[13]- نفسه، الجزء الرابع، ص95، المجلد الثاني.

[14]- نفسه، الجزء الرابع، ص96، المجلد الثاني.

[15]- انظر: عثمان أمين: الفلسفة الرواقيّة، طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، سنة 1945، القاهرة.

[16]- يحي هويدي: باركلي، ص21، ط 2، 2017، دار المعارف، القاهرة. وعثمان أمين: الفلسفة الرواقيّة، ص 70، طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة.

[17]- يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية، ص251. مكتبة النهضة المصريّة، القاهرة. (د.ت.)

[18]- يحي هويدي: باركلي، ص21، ط 2، 2017، دار المعارف، القاهرة.

[19]- يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانيّة، ص251.

[20]- ومع ابن حزم عند علماء المسلمين.

[21]- يحي هويدي: باركلي، ص22.

[22]- نفسه ص22.

[23]- يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة، ص165. ط4، 1966، دار المعارف، القاهرة.

[24]- نفسه، ص 166

[25]- مرتضى مطهّري: دروس فلسفيّة في شرح المنظومة، ج1، ص 155، هامش، ترجمة: مالك مصطفى وهبي، ط1، 1422هـ-2002م، دار الهادي، بيروت.

[26]- محمود فهمي زيدان: نظريّة المعرفة عند مفكّري الإسلام وفلاسفة الغرب المعاصرين، ص 14-15، ط1، 1989، دار النهضة العربيّة، بيروت.

[27]- نفسه، ص 15.

[28]- محمد باقر الصدر، فلسفتنا، ص205، ط3، 1430هـ-2009، دار التعارف، بيروت.

[29]- نفسه، ص205.

[30]- عثمان أمين: الفلسفة الرواقية، ص 67، طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1945، القاهرة.

[31]- محمد خاقاني: بينات، ص59، ط1، 1420هـ-1999م، دار الهادي، بيروت.

[32]- محمّد حسين الطباطبائيّ: أسس الفلسفة والمذهب الواقعيّ، ج1ص80-81. تعريب محمّد عبد المنعم الخاقانيّ، تعليق الأستاذ الشهيد مرتضى مطهّري، ط 2، 1408هـ-1988م، دار التعارف للمطبوعات، بيروت.

[33]- بول جانيه، جبريل سياي (Paul Janet et Gabriel Seailles): مشكلات ما بعد الطبيعة، ص235، ترجمة يحي هويدي، مراجعة محمد مصطفى حلمي، تقديم الطبعة محمّد مدين، ط1، 2015، المركز القوميّ للترجمة، القاهرة.

[34]- شرح بداية الحكمة للطباطبائيّ، محمّد مهدي مؤمن، 1/50. مرتضى مطهّري، دروس فلسفيّة في شرح المنظومة، ج1ص133.

[35]- محمّد مصباح اليزدي: المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، ج1، ص 273، ط 1418هـ-1998م، دار التعارف للمطبوعات، بيروت.

[36]- بول جانييه، جابريل سياي: مشكلات ما بعد الطبيعة، ص236.

[37]- مرتضى مطهّري: دروس فلسفيّة في شرح المنظومة، ج1ص143.

[38]- بوشنسكي: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، ص 83.

[39]- يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة، ص 431، وبوشنسكي: الفلسفة المعاصرة في أوروبا، ص 87.

[40]- بوشنسكي: الفلسفة المعاصرة في أوربا، ص 90.

[41]-Dictionnaire encyclopédique de la science du langage, p 126.

[42]-Ibid.p.126.

[43]- ليبنتز: المونادولوجيا، ص 27، ترجمة ألبير نصري نادر، اللجنة الدوليّة لترجمة الروائع الإنسانيّة، 1956، بيروت

[44]- علي عبد المعطي محمد: مقدّمات في الفلسفة، ص 24، ط 1405هـ-1985م، دار النهضة العربيّة، بيروت.

[45]- عادل مصطفى، فهم الفهم، مدخل إلى الهرمنيوطيقيا، نظرية التأويل من أفلاطون إلى غادامير، ص9.

[46]- جورج لايكوف ومارك لونسون، الاستعارات التي نحيا بها، ص 21، ترجمة: عبد المجيد جحفة، ط1، 1996، دار توبقال، المغرب.

[47]- نفسه، ص 21.

[48]- ول ديورانت: قصة الحضارة، ج7، ص200.

[49]- جون هارمان راندل: تكوين العقل الحديث، ج2/ ص161، ترجمة: جورج طعمه، مراجعة برهان دجاني، تقديم محمّد حسنين هيكل، ط2013، المركز القوميّ للترجمة، القاهرة.

[50]- جون هارمان راندل: تكوين العقل الحديث، ج2/ص172.

[51]- فرانكلين ل. باومر، الفكر الأوروبيّ الحديث، الجزء الأوّل، القرن السابع عشر، ص34، ترجمة: أحمد حمدي محمود، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1978.

[52]- نفسه، الجزء الأول، القرن السابع عشر، ج 1 ص34.

[53]- فرانكلين ل. باومر، الفكر الأوروبيّ الحديث، الجزء الأوّل، القرن السابع عشر، ج1، ص34.

[54]- رونالد سترومبرج، تاريخ الفكر الأوربي الحديث، 1601-1977، ص410، ترجمة أحمد الشيباني، ط3، 14115هـ-1994م، دار القارئ العربيّ، القاهرة، مصر، وجدة، المملكة السعوديّة.

[55]- نقلا عن: الفكر الأوروبي الحديث، 1/35، والإحالة على "أثر داروين في الفلسفة لديوي

=The influence of Darwin on philosophy".

[56]- الفكر الأوربي الحديث، 1/35، والإحالة على "أثر داروين في الفلسفة لديوي".

[57]- نفسه، 1/35.

[58]- نفسه.1/35.

[59]- هنري برغسون، التطوّر الخالق، ص 12، ترجمة: محمد محمود قاسم، مراجعة نجيب بلدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984.

[60]- الفكر الأوروبي الحديث، 1/36.

[61]- التطوّرية مقاربة تقوم على اتخاذ التصوّرات والأدوات البيولوجيّة أسسًا لتحليل الطواهر المعرفيّة، والجماليّة أو الثقافيّة.

=Grand dictionnaire de la philosophie, Larousse, p 397.

[62]- وضع هربرت سبنسر H. Spencer في عام 1858، العام السابق على نشر كتاب دارون «أصل الأنواع» خطة لمذهب يقوم على قانون التطوّر، أو كما عبر عنه قانون التقدم. وهو واحد من المفكّرين البريطانيّين القلائل الذين حاولوا بناء مذهب فلسفيّ شامل. كما أنّه واحد من الفلاسفة البريطانيّين الذين اكتسبوا شهرة عالميّة واسعة أثناء حياتهم، بتمسّكه بفكرة كانت منتشرة من قبل، وأعطاها دارون أساس تجريبيًّا في مجال محدّد، فأعادها سبنسر إلى الفكرة الأساسيّة لرؤية إجماليّة عن العالم والحياة البشريّة والسلوك، وهي فكرة تفاؤليّة ظهرت لتبرّر إيمان القرن التاسع عشر بالتقدّم البشريّ، وجعلت سبنسر واحدًا من (أنبياء) العصر العظام. =فريدريك كوبلستون، تاريخ الفلسفة، المجلّد الثامن، ص179، ترجمة محود سيّد أحمد، مراجعة إمام عبد الفتاح إمام، ط1، 2009، المركز القوميّ للترجمة، القاهرة.

[63]- الموسوعة الفلسفيّة، وضعها لجنة من العلماء الأكاديميّين السوفييت، بإشراف روزنتال ويودين، ص 192. ترجمة سمير كرم، مراجعة صادق جلال العظم، وجورج طرابيشي، ط 9، 2011، دار الطليعة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.

[64]- جون هارمان راندل: تكوين العقل الحديث، ج2/ص174، ترجمة جورج طعمه، مراجعة برهان دجاني، تقديم محمّد حسنين هيكل، ط2013، المركز القوميّ للترجمة، القاهرة

[65]- محمّد علي أبو ريان، هيراقليطس فيلسوف التغيّر وأثره في الفكر الفلسفيّ، ص23، ط1، 2016، دار الوفا لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندريّة، مصر. وموسوعة الفلسفة، عبد الرحمان بدوي، ج2، ص626.

[66]- إيميل برهييه، تاريخ الفلسفة، 1/76. ترجمة جورج طرابيشي، ط3، 2016، دار الطليعة، بيروت.

[67]- محمّد جمال الكيلاني، الفلسفة اليونانيّة أصولها ومصادرها، الجزء الأول من المرحلة الأسطوريّة وحتّى أفلاطون، ص157، مراجعة وتصدير د. محمّد فتحي عبد الله، ط1، 2008، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندريّة، مصر. وقد أحال على ولتر ستيس: تاريخ الفلسفة اليونانيّة.

[68]- برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربيّة، الكتاب الأوّل، الفلسفة القديمة، ص91. ترجمة: زكي نجيب محمود، مراجعة أحمد أمين، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 2012، القاهرة.

[69]- فريدريك كوبلستون، تاريخ الفلسفة، المجلد الأوّل، ص78، ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام، ط1، 2002، المشروع القوميّ للترجمة، القاهرة.

[70]- ولتر ستيس، تاريخ الفلسفة اليونانيّة، ص 70، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، ط 1984، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة.

[71]- عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهوديّة والصهيونيّة(الموجزة)، ج 2، 168، ط 4، 2008، دار الشروق، القاهرة.

[72]- برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربيّة، الكتاب الأوّل، الفلسفة القديمة، ص93.

[73]- D. Parodi: en quête d’une philosophie, p 109. 2e édition; 1949, Presse Universitaire de France, Paris.

[74]- الموسوعة الفلسفيّة، وضع لجنة من العلماء والأكاديميين السوفياتيين، ص 68.

[75]- زكريا إبراهيم: مشكلة الفلسفة، ص 190.جورج زيناتي: رحلات في الفلسفة الغربيّة، ص 75-76.ط1، 1413هـ-1993م، دار المنتخب العربيّ للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت.

[76]- جورج زيناتي: رحلات في الفلسفة الغربيّة، ص 78.

[77]- ريتشارد تارناس: آلام العقل الغربيّ، ص 493-494.

[78]- فيكتور فركس: الإنسان التقنيّ، ص 9، تعريب إميل خليل بيدس، دار الآفاق الجديدة، بيروت (د.ت.)

[79]- إيريك فروم: ثورة الأمل، ص 11، ترجمة ذوقان قرقوط، ط1، 1973، دار الآداب، بيروت.

[80]- نفسه، ص 12.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف