البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

August / 1 / 2022  |  1200فيلسوف الشبهات تهافت العقلانية الذاتيّة للكوجيتو الديكارتي

محمد عثمان الخشت المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية صيف 2021 م / 1443 هـ
فيلسوف الشبهات تهافت العقلانية الذاتيّة للكوجيتو الديكارتي

تتاخم هذه الدراسة عقلانيّة ديكارت في مجمل الحقول المعرفيّة التي طاولتها منظومته الفلسفيّة. وقد بيَّن الباحث البروفسور محمّد عثمان الخشت عناصر التهافت في المنهج العقلانيّ الديكارتيّ بدءًا من نقض مدّعى الوضوح والتميُّز في فلسفته، إلى إبطال الزعم بأنّ عمارة ديكارت الفلسفيّة محكمة الإتقان والدلالة، وصولًا إلى التناقض البيِّن في شكوكيّته ويقينيّاته بين منطق الطبيعة ومنطق الإيمان الدينيّ وعدم قدرته على التوليف بينهما.

نشير إلى أنّ هذا البحث هو خلاصة مكثّفة للأفكار التي سبق ووردت في دراسة للمؤلف وضعها تحت عنوان: أقنعة ديكارت تتساقط، وفيها يبيّن المعاثر التكوينيّة للعقلانيّة الديكارتيّة وخصوصاً في التأسيسات النظريّة المترتبة على مفهوم "الأنا أُفكّر إذاً أنا موجود".

«المحرِّر»


يزعم رينيه ديكارت René Descartes (1596-1650) أن فلسفته هي فلسفة الوضوح والتميُّز؛ مما يعني أنّها فلسفة واضحة الدلالة ولا تحتمل أكثر من تفسير.. فهل هذا الادعاء حقيقيّ؟ وهل الفلسفة الديكارتيّة محكمة الدلالة؟ أم أنّها على العكس فلسفة تثير الاشتباه، أي تحتوي على نصوص ومواقف فلسفيّة متشابهة؟ وبالتالي هل ثمّة ثنائيّة في فلسفة ديكارت تكشف عن تناقضات في مواقفه؟ هل هي فلسفة عقلانيّة أم لاهوتيّة؟ هل العقلانيّة أمر محسوم فيها أم أنّ العقلانيّة مجرّد قناع أخفى وراءه ديكارت اتجاهاته اللاهوتيّة؟

هذه الأسئلة هي التي يسعى هذا البحث لمحاولة الإجابة عليها.. وقد دفعنا إلى إثارتها أنّ فلسفة ديكارت فلسفة تشتمل على نصوص متشابهة بالمعنى، وأنّ نسقه الفلسفيّ في علاقته بالدِّين هو محل اشتباه في تفسيره. المعروف أنّ ديكارت يُعدّ من بين الفلاسفة الذين أثاروا نوعًا من الجدل في تاريخ الفلسفة، بالرغم من المقولة الشائعة عنه لجهة كونه فيلسوف الوضوح والتميّز والعقلانيّة الخالصة! ولو كانت هذه المقولة صادقة، لما كان ديكارت مثيرًا للجدل حول طبيعة موقفه الفلسفيّ في علاقته بالدين؛ فتعدّد التفسيرات وتباينها لأكبر دليل على أنّ النسق الديكارتيّ غير واضح، وأنّ منهجه يتّسم بالغموض أحيانًا، وعدم الصرامة المنطقيّة في أحيان أخرى، بل أنّ ثمّة ثنائيّة في فلسفة ديكارت، تكشف عن تناقضات في مواقفه، ولعلّ هذه السمة هي التي أدّت إلى أن يكون منبعًا لمدرستين متباينتين في الفلسفة الحديثة، يقول برتراند راسل:

«إنّ في ديكارت ثنائيّة لا تحلّ، بين ما تعلّمه من العلم المعاصر له، وبين النزعة المدرسيّة التي درست له في «لافلش». وقد أدّى به هذا إلى تناقضات ذاتيّة، ولكنها جعلته أكثر غنى بالأفكار المثمرة من أيّ فيلسوف منطقيّ كان يمكن أن يكون. فالاتّساق كان يمكن فقط أن يجعل منه مؤسّس مدرسة جديدة، بينما التناقض جعله منبع مدرستين في الفلسفة مهمّتين، بيد أنّهما متباعدتان»[2]. فالثنائيّة الديكارتيّة هي التي أحدثت إنشقاقًا في الوعي الأوروبيّ، وجعلته «في بدايته أشبه بفم تمساح مفتوح، فكّ إلى أعلى وهو العقلانيّة، وفكّ إلى أسفل وهو التجريبيّة»[3].

وإذا كان أغلب المؤرّخين يعتبرون ديكارت طيلة الأربعة قرون الماضية «أبًا للفلسفة الحديثة»[4]، ويذكر كوتنجهام Cottingham أنّه معروف بهذا عالميًّا[5]، باعتباره مؤسّسًا لنسق فلسفيّ عقلانيّ انطلاقًا من الفكر الخالص ذي الوضوح والتميّز، فقد آن الأوان لتمحيص هذا الادعاء ووضعه على ميزان  البحث؛ فما العقلانيّة الديكارتيّة بأمر تدلّ عليه نصوص ديكارت دلالة قطعيّة الدلالة، وذلك إذا نظرنا إلى فلسفته، وليس إلى بعضها فقط، حيث توجد نصوص تدلّ على اتجاه عقلانيّ، كما توجد نصوص تدلّ على وجود اتجاه لاهوتيّ في تفكيره. وتشير بعض الحلول التي قدّمها لبعض الإشكاليات الفلسفيّة إلى اختيارات لاهوتيّة بحتة[6]، مما يستدعي إعادة النظر في فلسفته عامّة وفكره الدينيّ خاصّة، وذلك انطلاقًا من مفهوم الاشتباه، كما يستدعي التساؤل: هل العقلانيّة مجرّد مظهر أخفى ديكارت وراءه اتجاهاته اللاهوتيّة التي لا تخرج عن كونها عقائد المسيحيّة وقد ارتدت لباس الفكر الخالص ورفعت لواء العقلانيّة الحديثة؟

ربما يكتسب هذا التساؤل مشروعيّة إذا وضعنا في الاعتبار أنّ مبدأ ديكارت الشهير «الأنا أفكّر» لم يكن بالقوّة والرسوخ بحيث يشكِّل مبدأ كافيًا لاستنباط نسق فلسفيّ متكامل تتوالى فيه سلسلة الحقائق؛ إنّه لا يعدو أن يكون -وفق العرض الديكارتيّ له- مبدأ هشًّا يستلزم مساندة؛ ولهذا أدخل ديكارت مبدأ الإله الكامل الصادق لمعالجة جوانب القصور في الكوجيتو. ولم يستطع ديكارت -كما سنبين لاحقًا- أن يُعتق فلسفته من أسْر الرؤية الدينيّة المسيحيّة، سواء على مستوى آليّة النجاة الفلسفيّة في شكّه المنهجيّ، أو على مستوى أركان مذهبه بدءًا من نظرته للوجود وانتهاءً بنظرته إلى العلم الطبيعيّ والرياضيّ، مرورًا بإعلانه لنفسه «كحليف للكنيسة»[7]، وتأكيده مرارًا بأنّ فلسفته تنضوي تحت لواء مكافحة الزندقة ومنافحة الكافرين! يقول ديكارت:

«يكفينا نحن معشر المؤمنين أن نعتقد بطريق الإيمان بأنّ هنالك إلهًا وبأنّ النفس الإنسانيّة لا تفنى بفناء الجسد، فيقيني أنّه لا يبدو في الإمكان أن نقدر على إقناع الكافرين بحقيقة دين من الأديان، بل ربما بفضيلة من الفضائل الأخلاقيّة، إن لم نثبت لهم أوّلًا هذين الأمرين بالعقل الطبيعيّ»[8].

 كما يقول: «... غير أنّ مجمع لتران المنعقد برياسة البابا ليون العاشر، وما قرّره من إدانة هؤلاء [أي الكافرين] ودعوته الفلاسفة المسيحيّين دعوة صريحة إلى الردّ على أقوالهم، واستعمال أقصى ما تملك عقولهم من قوة لإظهار الحقّ، كلّ هذا قد جرّأني على محاولة ذلك في هذا الكتاب»[9].

بل إنّ ديكارت حاول أن يعطي طابعًا نبوئيًّا Prophetic لتجربته الفلسفيّة، عندما تحدّث عن النوبة التي حدثت له ليلًا بجوار المدفئة في شهر نوفمبر 1619 [10]، والتي قال إنّه رأى فيها ثلاثة أحلام أو رؤى انكشف له فيها «كشف عظيم»، وهو عبارة عن «مبادئ علم عجيب»، وقد اعتبر ديكارت دون تردّد أنّ هذه الرؤى «رسالة من روح الحقيقة التي وعدته بأن تفتح له خزائن العلوم جميعًا. وفي الأيام التالية صلى صلاة لله وأخرى للعذراء، ونذر نذرًا أن يحجّ إلى «نتردام دولوريت» أقدم الأماكن المقدّسة وأحبّها لدى الكاثوليك»[11].

وبصرف النظر عن الخلاف الدائر بين الباحثين حول ماهيّة هذا الكشف العظيم: هل هو الكوجيتو، أم قواعد المنهج، أم الهندسة التحليليّة، أم وحدة العلوم، أم غير ذلك؟ فإنّ من الملاحظ هنا ذلك الطابع الدينيّ النبوئيّ الذي يفتتح به ديكارت تجربته الفلسفيّة، وكأنّه يريد «أن يضع دمغة إلهيّة A Divine Stamp للتصديق على مشروعه»[12].

ومن ثمّ يتجدد السؤال: هل العقلانيّة الديكارتيّة مظهريّة أكثر مما هي جوهريّة؟ لا سيّما وأنّ ديكارت يستحضر أطروحات العقيدة المسيحيّة الكاثوليكيّة، فضلًا عن آليّاتها التقليديّة، مثل آليّة مواجهة الشيطان الماكر بمساندة الإله الصادق. وما دام فرض الإله الصادق حاضرًا في التفكير، فإنّ النتيجة معلومة مسبقًا؛ حيث إنّ الإله الصادق سيقدّم للإنسان آليّة النجاة، أو على الأقلّ سيدعم آليّة الإنسان الخاصّة في النجاة، على أنّ هذه الآليّة الخاصّة، أعني الفكر، غير كافية بذاتها، بل بحاجة دومًا لضمان إلهيّ، وهذا الضمان الإلهيّ مسلّم به منذ البدء في إحدى أهمّ لحظات بناء المذهب الديكارتيّ.

ولذا فهل الشكّ الديكارتيّ ما هو إلّا شكّ مصطنع، شكّ افتراضيّ، وليس شكًّا حقيقيّا يعبّر عن حالة واقعيّة؟ لا سيّما وأنّ ديكارت يعلم النتيجة التي سيصل إليها من هذا الشكّ، كما يعلم مسبقًا طرق الخروج منه؛ وهو الأمر الظاهر من سياق منهجه الشكّيّ الذي تتغلغل فيه روح «التأهّب» للوصول إلى اليقين، وروح الإيمان باللّه «المخلّص» الذي يفترضه منذ اللحظة الأولى عندما طرح إمكانيّة وجود إله مخادع كاحتمال من احتمالات الشكّ، ثمّ سارع باستبعاد هذه الإمكانيّة؛ فاللّه كامل وصادق ولا يمكن أن يخدع. وهذه القضية هي التي سينبني عليها المذهب كلّه بعد الانتهاء من الشكّ. ربما يكون شكّ ديكارت أشبه بالعقدة التي يضعها الروائيّ في روايته منتقيًا من الوقائع ما يشاء، ومستبعدًا ما يشاء (الدين المسيحيّ، الأخلاق، النظام السياسيّ)، وهو يعلم مسبقًا كيف سيحلّ العقدة التي اختار مفرداتها في الرواية، أمّا العقدة الحقيقيّة أمام العقل فإنّه لا يتعرّض لها، ولا يطرحها، لا لشيء إلّا لأنّ حلّها مستعصٍ على الاستدلال العقليّ. وإذا ما اضطرته الظروف لمواجهتها؛ فإنّه يسارع بمناقضة كلّ المبادئ التي كان قد أقرّها من قبل لحلّ العقدة المنتقاة، أعنى مناقضة مبادئ المنهج وقواعده.

ولو اتّبع ديكارت منهجه لكان الأمر مختلفًا، فلا شكّ أنّ منهجه عقلانيّ، لكن المشكلة تنشأ عندما يبني نسقه الميتافيزيقيّ، وعندما يضع ملامح موقفه الدينيّ.

ومن ثمّ فإنّ هذا البحث لا يسعى إلى عرض فلسفة ديكارت وشرحها؛ بل يسعى للصعود من الشرح النصِّي إلى محاولة التأويل الفلسفيّ؛ عبر قراءة لا تتعقّب التفاصيل ولا تغرق في الجزئيّات؛ لأنّها محاولة لقراءة النسق في بنائه الداخليّ، قراءة كاشفة مشخّصة للأعراض، تقف عند لحظات المنهج لتتفحّص مدى عقلانيّته، كما تقف عند الفضاء الموجود بين تلك اللحظات أو ورائها، لتقف على المعنى الباطنيّ أكثر مما تقف على المعنى الظاهريّ، ليست قانعة بما هو منطوق به وحده، بل متطلعة إلى استنباط ما هو مسكوت عنه أو ما يعجز عنه نطاق القول بسبب من المراوغة الأيديولوجيّة التي تريد التخفّي تحت ثوب العقلانيّة الحديثة.

ومن ثمّ فهذه ليست قراءة لفلسفة ديكارت في علاقتها بالدين كما قرأها هو ذاته، وكما عرف هو خصائصها وأركانها، بل هي قراءة - قدر الاستطاعة - من سياق مختلف ومن منظور يُنْشِد الوصول إلى ساعة العقل الأخيرة التي تجعل الأيديولوجيّة اللاهوتيّة تواجه نفسها أخيرًا وهي عارية من كلّ أساليبها المراوغة.

من منطق المنهج العقليّ إلى منطق التسليم الإيمانيّ

لعلّ من الأمور التي تسترعي النظر في فلسفة ديكارت، أنّ منطق منهجه يبدو منطقًا عقلانيًّا، على ما يظهر، سواء أكان من القواعد التي يضعها في كتيِّبه «قواعد لتدبير العقل» أم من القواعد الأربعة التي يضعها لمنهجه في كتابه «مقال عن المنهج» (1637)؛ فهي قواعد عقلانيّة. أمّا حين ينظر المرء في موقفه من الوحي المسيحيّ وعقائد الكنيسة وسلطة رجالها، يكتشف أنّ المنطق الذي يحكمه منطق غير عقلانيّ، حيث نجد المفاهيم اللاهوتيّة حاضرة في بنية المذهب وتكوينه، لدرجة ربما يمكن القول معها أنّ هذا الموقف محكوم بالمنطق الّلاهوتيّ أكثر من كونه محكومًا بالمنطق العقلانيّ. ولو طبّقنا منهج ديكارت على مذهبه  لاكتشفنا أنّ مذهبه مليء بالتقريرات اللاهوتيّة. إنّ منهج ديكارت الاستدلاليّ - على حدّ تعبير فونتنيل Fontenelle (1657-1757): «هو أعظم قيمة من فلسفته التي لو طبّقنا عليها القواعد التي علّمنا هو إياها، لوجدنا شطرًا كبيرًا منها أخطاء لا يقين فيها»[13].

وإذا نظرنا في المنهج أوّلًا، نجد أنّ ديكارت طرح منهجه أوّلًا من الناحية التاريخيّة في كتابه «قواعد لتدبير العقل»، ويعرف هذا الكتاب بـ «القواعد  Regulae»، وعنوانه الأصليّ باللاتينيّة –وهي اللغة التي ألّفه ديكارت بها– «Regulae Ad Directionem Ingenii». وهو العمل الرئيس في الفترة المبكرة من حياة ديكارت، وكُتب في العشرينات من القرن السابع عشر بين سنتي 1626- 1628 على الأغلب، لكنّه لم يكتمل ولم يُنشر في حياته، ونُشر لأوّل مرّة سنة 1701، رغم أنّ ترجمة هولنديّة ظهرت له سنة 1684. وكانت خطّته في الأصل أن يُقسّم لثلاثة أقسام، كلّ منها يشتمل على اثني عشرة قاعدة، لكنّ الجزء الأخير فُقد كلّه، والجزء الثاني لم يتمّ، حيث توقّف عند شرح القاعدة الثامنة عشرة، وتوجد عناوين القواعد التاسعة عشرة والعشرين والحادية والعشرين مجملة دون شرح، ولا يوجد بعد ذلك شيء. وتتناول الاثنا عشر قاعدة الأولى تصوّرنا للقضايا البسيطة التي يمكن تحصيلها بشكل يقينيّ، كما تتناول الحدس والاستنباط وهما العمليّتان المعرفيّتان الأساسيّتان اللتان تنتجان المعرفة الواضحة والمتميّزة عند ديكارت. وتتناول الاثنا عشر القاعدة الثانية «المشكلات المفهومة على نحو كامل»، مثل تلك المشكلات القابلة للحلول الدقيقة في الحساب والهندسة[14]. أمّا الاثنا عشر قاعدة الأخيرة، فهي التي كان مقدّرًا لها أن تعالج «المشكلات المفهومة على نحو غير كامل»؛ حيث كان هدفها إظهار أنّ المشكلات الأكثر تعقيدًا للعلم الطبيعيّ يمكن أن تحلّ عن طريق معالجتها وفق المنهج الرياضيّ الكلّيّ. وعلى الرغم من أنّ القواعد تمّ تأليفها في وقت مبكر جدًّا من حياة ديكارت ولم تكتمل، إلّا أنّها مصدر قيّم لرؤى ديكارت في المعرفة والمنهج[15].

أمّا كتابه الثاني «مقال عن المنهج» فيقرّر فيه أنّ ثمة قواعد أربع يجب مراعاتها في كلّ منهج يبحث عن الحقيقة، وتكفي هذه القواعد، إذا ما تمّ اتباعها بدقّة، للوصول إلى اليقين، وتُعرف هذه القواعد على التوالي باسم: البداهة، التحليل، التركيب، الإحصاء والمراجعة.

ويحدِّد ديكارت مضمون هذه القواعد الأربع بقوله:

الأوّل: ألاّ أقبل شيئًا ما على أنّه حقّ، ما لم أعرف يقينًا أنّه كذلك، بمعنى أن أتجنّب بعناية التهوّر والسبق إلى الحكم قبل النظر، وألاَّ أُدْخِل في أحكامي إلّا ما يتمثّل أمام عقلي في جلاء وتميّز، بحيث لا يكون لديّ أيّ مجال لوضعه موضع الشكّ.

الثاني: أن أقسّم كلّ واحدة من الموضوعات التي سأختبرها إلى أجزاء على قدر المستطاع، على قدر ما تدعو الحاجة إلى حلّها على خير الوجوه.

الثالث: أن أسيّر أفكاري بنظام، بادئًا بأبسط الأمور وأسهلها معرفة؛ كي أتدرج قليلًا حتى أصل إلى معرفة أكثرها تركيبًا، بل وأن أفرض ترتيبًا بين الأمور التي لا يسبق بعضها الآخر بالطبع.

والأخير: أن أعمل في كلّ الأحوال من الإحصاءات الكاملة والمراجعات الشاملة ما يجعلني على ثقة من أنّي لم أغفل شيئًا»[16].

وقارئ هذه القواعد الأربع، ومن قبلها القواعد الإحدى والعشرون، يجزم بعقلانيّتها، ومن ثمّ يتوقّع أنّ الفكر الدينيّ سيأتي مشبعًا بالروح العقلانيّة، لكن ما يحدث بالفعل أنّ ديكارت سرعان ما يأتي بقاعدة تتضادّ مع القاعدة الأولى، عندما يعود إلى وجهة نظر القدّيس توما الأكوينيّ Aquinas Thomas (1225-1274) في موقفه من الوحي المسيحيّ Christian Revelation بوصفه مهيمنًا على العقل[17]؛ فعند الأكوينيّ «الحقيقة لا يمكن أن تكون مناقضة للحقيقة؛ مما يلزم عنه أنّه ما من حقيقة من حقائق الإيمان يمكن أن تبطل حقيقة من حقائق العقل، أو بالعكس. ولكن بما أنّ العقل البشريّ هزيل موهن، وبما أنّ عقل أعظم الفلاسفة، إذا قيس إلى عقل ملاك من الملائكة، أخفض بكثير من عقل الفلّاح البسيط إذا قيس إلى عقل ذلك الفيلسوف عينه، يلزم عن ذلك أّنه متى ما بدت لنا حقيقة من حقائق العقل وكأنّها تنقض حقيقة من حقائق الإيمان، فلنا أن نكون على ثقة أنّ حقيقة العقل المزعومة تلك إن هي إلّا خطأ وضلال، وحسبنا أن نتأنّى في النقاش ونتروّى ليستبين لنا كذبها»[18].

أمّا ديكارت فقد صرّح بأنّ حقائق الإيمان المسيحيّ يجب أن تكون أوّل ما نصدق به، دون البحث عن بداهتها ولا عن وضوحها وتميّزها، بل ويجعل هذه القاعدة فوق كلّ مبادئه المنهجيّة الشهيرة؛ فيذهب إلى وجوب أن نتّخذ لنا قاعدة معصومة وهى أنّ ما أوحى الله به هو أوثق بكثير مما عداه[19].

وهذا ما جعل جيلسون يقول عن ديكارت: «وإن كان قد أعلى صوت العقل في أولى قواعد منهجه في المقال… إنّه صرح في «مبادئ الفلسفة» (1644) بأن كلّ ما أوحى به الله أوثق بكثير من كلّ ما عداه، وبهذا شابه القدّيس توما الأكوينيّ ومن جرى مجراه من الفلاسفة الدينيّين في تصوّر العقل مستسلمًا لسلطان الوحي»[20].

إذن رفع ديكارت بعبارات صريحة الوحي فوق العقل، ونظر إلى عقائده والإيمان بها على أنّها «من أفعال الإرادة وليس من عمل الذهن، وبهذا عدَل عن الفلسفة العقليّة إلى لاهوت العصور الوسطى- فيما لاحظت دائرة المعارف البريطانيّة- وأصبح ميدان العقل لا يتجاوز الحقائق الفلسفيّة، أمّا الحقائق الدينيّة التي تهدي إلى الجنّة- فيما يقول في القسم الأوّل من مقاله- فإنّها فوق متناول العقل، وليس من الحكمة أن نسلّمها إلى ضعف استدلالاتنا العقليّة؛ لأّنها نزلت بمدد غير عاديّ من السماء، أي بوحي ينزله الله على من يصطفيه من عباده»[21].

ولا يسأل ديكارت نفسه: ما طبيعة الأدلّة على أنّ هذه العقائد تعبّر فعلًا عن وحي إلهيّ؟ ولا يستدعى أيّ مقياس من مقاييس النقـــد التاريخيّ التي من وظيفتها فحص المنقــول عــن السلــف لبيــان مدى مصداقيّته التاريخيّة، والكشف عن مدى أصالته.

إنّ ديكارت إذ يضع أصول الممارسة العقلانيّة في القاعدة الأولى من قواعد منهجه، فإنّه سرعان ما يضع أصول الممارسة اللاعقلانيّة عندمــا يضع فوق هـذه القاعدة وغيرها من القواعد قاعدة عصمة الوحي المسيحيّ.

ولقد أدّى هذا إلى منافاة منهجه العقلانيّ الذي نادى فيه بطرح الأفكار الصادرة عن السلطات أيًّا كانت وجعل معيار البداهة معيار الحقّ والحقيقة.

فها هو ذا يقبل سلطة الإيمان المسيحيّ؛ ويؤمن بعقائد المسيحيّة على أنّها حقائق لا ريب فيها مع أنّها فوق العقل؛ يقول ديكارت:

«يجب علينا أن نؤمن بكلّ ما أنزله الله، وإن يكن فوق متناول مداركنا»[22]. ويفسّر ذلك بقوله: «إذا أنعم الله علينا بما كشفه لنا أو لغيرنا من أشياء تجاوز طاقة عقولنا في مستواها العاديّ، كأسرار التجسّد والتثليث، لم يستعص علينا الإيمان بها مع أنّنا قد لا نفهمها فهمًا واضحًا؛ ذلك لأنّه لا ينبغي أن يقع لدينا موقع الغرابة أن يكون في طبيعة الله وفي أعماله أشياء كثيرة تجاوز متناول أذهاننا»[23].

وهكذا نجد أنّ ديكارت الفيلسوف الذي ادّعى في منهجه أنّه لن يقبل شيئًا على أنّه حقّ إلّا إذا كان واضحًا ومتميّزًا، يدعو لتكريس اللامعقوليّة والغموض بحجّة أنّه ليس من الغريب أن يكون في طبيعة الله وفي أعماله أشياء كثيرة تجاوز متناول أذهاننا. ولم يسأل نفسه- وهو الفيلسوف الرافع لشعار العقلانيّة- ما طبيعة الدليل على أنّ تلك العقائد تعبّر فعلًا عن حقيقة الله؟ وما الدليل على صدق الوحي في التعبير عن الإرادة الإلهيّة؟

والغريب أنّ ديكارت لا يجعل الفكر الواضح والمتميّز مقياسًا لعقائد التنزيل المسيحيّ، بل يجعل تلك العقائد مقياسًا يقيس به مدى صحّة الفكر أو خطأه في كلّ مسألة سبق للوحي أن تعرّض لها، أمّا الحقائق التي لم يذكرها الوحي، فينبغي التعويل فيها على العقل الناضج، وعدم الأخذ بالموروث، وعدم الركون إلى الثقة بالحواس، فضلًا عن عدم التسليم بصحّة شيء لم يتمّ التحقّق منه[24]. يقول ديكارت:

«إنّنا ينبغي أن نفضّل الأحكام الإلهيّة على استدلالاتنا. ولكن فيما عدا الأشياء المنزلة ينبغي أن لا نعتقد شيئًا لم ندركه إدراكًا واضحًا جدًّا»[25].

ويزيد ديكارت  تأكيده لهيمنة الوحي على العقل فيقول:

«ينبغي قبل كلّ شيء أن نستمسك بقاعدة تعصمنا من الزلل، وهي أنّ ما أنزله الله هو اليقين الذي لا يعدله شيء آخر، فإذا بدا أنّ ومضة من ومضات العقل تشير إلينا بشيء يخالف ذلك وجب أن نخضع حكمنا لما يجئيء من عند الله»[26].

إذن فالحقيقة الدينيّة عند ديكارت فوق الحقيقة العقليّة، وهذه الأخيرة لا قيمة لها إلّا في مجال الحقائق التي لم يتحدّث عنها الوحي، بل إنّ الحقيقة العقليّة عنده ستفقد نصيبها من الحقّ إذا ما تعارضت مع الحقيقة الدينيّة. لا يعبِّر ديكارت هنا عن روح فيلسوف حديث، وإنّما يعود بنا تارة أخرى إلى النزعة اللاهوتيّة  للعصور الوسطى. وربما يجوز القول إنّ فيلسوفًا مثل ابن رشد كان أكثر تعبيرًا عن الروح الحديثة عندما اعتبر العقل هو الأساس، وإذا ما وجد بينه وبين الوحي تعارضًا، فإنّه ينبغي تأويل الوحي بما يجعله متّفقًا مع العقل، على أساس «إخراج اللفظ من الدلالة الحقيقيّة إلى الدلالة المجازيّة، من غير أن يخلّ ذلك بعادة لسان العرب في التجوّز بتسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارِنه أو غير ذلك»[27].

ديكارت يناقض مدَّعاه العقلانيّ

ومن معالم مخالفة ديكارت لمنهجه العقلانيّ الذي ارتضاه كطريق للوصول إلى اليقين أنهّ لا يطبق القاعدة الثانية الخاصّة بالتحليل ولا القاعدة الثالثة الخاصّة بالتركيب والسير من الأبسط إلى الأعقد - أقول لا يطبق هاتين القاعدتين على ما ظنّه الأحكام الإلهيّة المعبَّر عنها في الإنجيل، ولم يسأل نفسه: لماذا يطالبنا الله بأن نؤمن بأشياء تعارض العقل الذي منحنا إيّاه؟ أليس العقل من أعمال الله كما أنّ الوحي من أعمال الله؟ ومن هنا يفرض السؤال الآتي نفسه: هل أعمال الله يعارض بعضها بعضًا؟!

هكذا يرفع ديكارت بعض العقائد غير المفهومة والغامضة فوق التحليل والاستدلال العقليّين، ويتلمّس براهين ومبرّرات تقليديّة لتسويغ التسليم بها. إنّه لا يطبّق عليها شكّه المنهجيّ ولا أيًّا من مبادئ منهجه.

فديكارت يعدُّ نفسَه في معشر المؤمنين بالله وخلود النفس، والوظيفة التي يضعها لنفسه هي إقناع الكافرين بحقائق الإيمان الكبرى عن طريق العقل الطبيعيّ، وكأنّ العقل في خدمة الإيمان المسيحيّ، والفلسفة تعود لممارسة دورها في العصور الوسطى كخادمة للدين المسيحيّ.

 وسبب لجوئه للأدلّة الفلسفيّة هو أنّ الكافرين- على حدّ تعبير ديكارت نفسه- لن يقتنعوا بحقيقة دين من الأديان، بل ربما بفضيلة من الفضائل الأخلاقيّة، إن لم نثبت لهم وجود اللّه وخلود النفس بالعقل الطبيعيّ[28].

ويؤكّد ديكارت أنّ لجوءه للعقل والتفلسف ما هو إلّا وسيلة للبرهنة من أجل إقناع الكافرين بعقائد الإيمان. أمّا هو فيؤمن بها لأنّ هذا هو ما جاءت به الكتب المقدّسة من عند اللّه[29].

وإذ يتطلع ديكارت للبرهنة على وجود اللّه بأدِّلة لا حاجة إلى استنباطها من شيء غير نفوسنا وغير تدبّرنا لعقولنا؛ ليبيّن أنّه يمكن أن نعرف الله معرفة أيسر وأيقن من معرفتنا لأمور الدنيا؛ أقول إنّه إذ يفعل ذلك فإنّما يؤدّي خدمة الشارح وعالم الكلام الذي يؤيّد النصّ الدينيّ بأساليب عقلانيّة؛ حيث يقدّم الكتاب المقدّس هذا المعنى نفسه كما يبدو من أقوال «سِفْر الحكمة» في الإصحاح الثالث عشر؛ إذ وَرَدَ فيه: «إنّ جهلهم لا يغتفر؛ لأنّه إذا كانت عقولهم قد أوغلت إلى هذا الحدّ في معرفة أمور الدنيا، فكيف أمكن أن لا تكون معرفتهم الربّ أيسر؟»[30].

وقد أثبت ديكارت وجود الله بدليل مدرسيّ هو الدليل الأنطولوجيّ «الذي تشكّلَ أوّلًا بواسطة أنسلم Anselm (1033- 1109) في كتابه العظة Proslogion (الفصلان الثاني والثالث)… وقد انتقد الأكوينيّ هذا الدليل، لكنّه اتخذ شكلًا آخر فيما بعد مع ديكارت…»[31] الذي أحياه بعد انتقادات الأكوينيّ، ورغم هذا لا يزال هذا الدليل معبّرًا عن الروح المدرسيّة، تلك الروح التي زعم ديكارت أنّه تجاوزها.

ثمّ إنّ طريقة  ديكارت في إثبات وجود النفس بواسطة الكوجيتو، قد عدّها أنطوان أرنو المعروف بأرنو الكبير Le Grand Arnauld (1612- 1694) مشابهة لطريقة القدّيس أوغسطين، يقول برهييه: «وعندما عرف اللاهوتيّون بكوجيتو ديكارت، لم يفت أرنو أن يلاحظ أنّ القدّيس أوغسطينوس[32]  قال بالشيء نفسه؛ وبالفعل، كان معوله في الإفلات من إسار الريبيّة على هذه الفكرة: « إذا أخطأت، فأنا موجود SI FALLOR ,SUM»؛ وقد برهن أيضًا عن طريق هذه الفكرة، في كتابه (في الثالوث) على أنّ النفس روحيّة ومتمايزة عن الجسم…»[33].

إذن فقد سبق لأوغسطين، حسب أرنو، أن استخدم الفكر كدليل على وجود النفس، ولكن ثمّة خلاف بين المؤرّخين حول مدى أصالة ديكارت في هذه المسألة، وحول حجم التشابه والاختلاف بينهما[34].

وعلى أيّ حال فإنّ كشف أرنو عن أوجه التشابه والاتصال بين ديكارت وبين أوغسطين قد هيّأ الطريق على هذا النحو للديكارتيّة المسيحيّة كما ستقول بها جمعيّة الأوراتوار، وهي جمعيّة كانت تهدف إلى إحباط الإصلاح البروتستانتيّ بإصلاح مضادّ بغرض تجديد الكاثوليكيّة من الداخل، وترفض المسلك الدينويّ الذي تريد البروتستانتيّة أن تدخله في النظام الكهنوتيّ. ويعتبر الكاردينال بيير دى بيرول Pierre De Berulle (1575-1692) مؤسّس جمعيّة الأوراتوار في باريس سنة 1611، وكان قد أسّسها في روما القدّيس فيليب نيري سنة 1564 [35].

وفي هذا السياق إذا نظر المرء إلى فكرة ثنائيّة النفس والبدن وتمايزهما عند ديكارت، يجد أنّها من الأفكار التي ورثها ديكارت عن الفلسفة المدرسيّة أيضًا، وقد عبَّر عنها كذلك بمصطلحات لاتينيّة مدرسيّة[36]. وفضلًا عن ذلك فقد اعتبر التفاعل بين النفس والبدن سرًّا A Mystery؛ ففي خطاب له إلى الأميرة اليزابيث Elizabeth ابنة فريدريك ملك بوهيميا Bohemia المخلوع والتي كانت قد اتخذت هولندا ملاذًا لها، سلّم ديكارت بأنّ هذا التفاعل سرّ[37].

وقد تعرَّض موقفه من علاقة النفس بالبدن لانتقادات كثيرة من الفلاسفة اللاحقين، ولا سيّما الفلاسفة المعاصرين، مثل وايتهد الذي رأى أنّ فصل ديكارت بينهما إنّما هو فصل تعسفيّ غير مبرّر فلسفيًّا؛ إذ لم يقدّم سببًا لرفضه القول بجوهر كلّيّ واحد: مادّيّ أو روحيّ[38]. فقد فشل ديكارت في إيجاد صلة بين النفس والبدن، أو بين المادّة والروح، و «لعلّ هذا التمييز بين هذين الجوهرين قد أدّى بديكارت إلى الفشل الذريع في محاولته حلّ مشكلة اتحاد النفس بالبدن»[39]. ويرى هوايتهد أنّ «الخطأ الرئيس لديكارت هو تصوّر المادّة كـ «فاعليّة فارغة» متجرّدة من الخبرة، وهذا التصوّر يجعل قدرة الجسم على التفاعل مع العقل سرًّا بكلّ ما في الكلمة من معنى»[40].

فهل ديكارت الذي تحدّث عن ثنائيّة بين الجسم والعقل أو البدن والنفس أو بين المادّة والفكر، وعجز عن إيجاد الجسر بينهما، لا يقبل من الأفكار إلّا ما كان واضًحا ومتميّزًا؟! وحتى عندما قال إنّ الغدّة الصنوبريّة هي مكان التفاعل، فإنّه لم يقل لنا كيف يحدث هذا التفاعل، ومن ثمّ بقي جوهر التفاعل سرًّا، ومع ذلك قَبِلَه ديكارت! وهنا يتجدّد السؤال: هل من شأن الفلسفة العقلانيّة.. فلسفة الوضوح والتميّز.. أن تقبل بالأسرار؟

وقبول نظريّة ملغّزة مثل ثنائيّة البدن والنفس مع خفاء عمليّة التفاعل بينهما، لا يجعل من المستغرب على مستوى آخر أن يسلم ديكارت على نحو واضح بسلطة رجال الدين على أحكام الفلسفة؛ إذ يطلب من علماء أصول الدين تصحيح ما وقع فيه من أخطاء؛ فهم منبع الرصانة والمعرفة والأكثر فطانة ونزاهة على حدّ تعبيره.

 وأكثر ما يلفت النظر أنّه في نهاية «مبادئ الفلسفة» 1644(وهو كتاب صُمم إلى حدٍّ ما ليُستخدم ككتاب لاهوتيّ)[41]، يقول:

«إنّ وعيي بضعفي، جعلني لا أصنع آراء جازمة، إلّا وأحيلها لسلطة الكنيسة الكاثوليكّية ولحكم هؤلاء الأكثر حكمة منّي»[42].

وقد أطلَعَ ديكارت على تأمّلاته، في أوّل الأمر، لاهوتيًّا هولنديًا شابًا يدعى كاتيروس. وفي أواخر عام 1640 بعث بها إلى الأب مرسين Mersenne (1588-1648) مع اعتراضات كاتيروس وردوده عليها (الاعتراضات الأولى)، وكان قصده أن يتولَّى مرسين اطلاع اللاهوتيّين على الكتاب «حتى يأخذ -على حدّ تعبيره- رأيهم فيه ويعلم منهم ما يحسن تغييره أو تصحيحه أو إضافته إليه قبل أن ينشره على الجمهور»[43]. ومن المعروف أنّ الأب مرسين كان يدافع عن ديكارت دفاعًا مجيدًا حتى لدرجة جعلت الآخرين يلقّبونه بـ «سفير السيّد ديكارت في باريس»، كما كان مدافعًا عن جاليليو ضد اللاهوتيّين التقليديّين ذوي الميول الأرسطيّة[44].

وعندما نشر ديكارت «مبادئ الفلسفة» بذل وسعه للحصول على مصادقة معلّميه اليسوعيّين القدامى؛ لأنّ موقعهم يؤهّلهم أكثر من سواهم للترويج لفلسفة مباينة لفلسفة أرسطو. ويتّضح من تصريحات ديكارت المتتالية سواء في رسائله أم في كتبه أنّ ميتافيزيقاه تجسّد التزام المسيحيّ باستعمال العقل لمكافحة إنكارات الزنادقة والملاحدة، مما يميط اللثام عن ديكارت وقد انضوى تحت لواء حملة مكافحة الزنادقة والملاحدة، وكأنّه يواصل في ميدان الفكر جهود جده بيير ديكارت في الميدان العسكريّ عندما قاتل في الحروب الدينيّة[45].

وممّا يؤيد هذا المعنى أنّ الكاردينال بيير دى بيرول طلب من ديكارت تدعيم عقائد المسيحيّة ببراهين فلسفيّة في إطار مواجهة الزنادقة والملاحدة، كما شجعه على الاستمرار في كتاباته؛ لأنّه رآها تصبّ في دعم الموقف الدينيّ لجمعيّة الأوراتوار، بل يشير دونالد أ. كرس Donald A. Cress إلى أنّ طريقة حياة ديكارت قبل 1628، قد انتهت وبدأت طريقة جديدة متأثّرة بتشجيع دي بيرول، فغادر فرنسا إلى هولّندا سنة 1628 لكي يتجنَّب الفتنة Glamour -على حدّ تعبير دونالد أ. كرس- والحياة الاجتماعيّة، وطلبًا للاعتزال والهدوء لكي يتمكّن من التفرّغ لكتاباته[46]. ومقصد هذه الكتابات هي تحقيق المهمّة التي أوكلها إليه الكاردينال «دى بيرول» قبل اعتكافه في هولّندا؛ وهي تدعيم عقائد المسيحيّة ببراهين فلسفيّة في إطار مواجهة الزنادقة والملاحدة.

وفي هذا الإطار يحتلّ كتاب «التأمّلات في الفلسفة الأولى، وفيها البرهان على وجود الله وخلود النفس» (أنجزه 1640 ونشره 1641)، مكانه في خط المنافحة العقلانيّة عن أصول العقيدة المسيحيّة[47]. وهكذا أراد ديكارت وهكذا ردَّد تكررًا أنّه يناصر «قضيّة الله»؛ ولا غرابة في ذلك، فهو تلميذ اليسوعيّين الذين قاموا بدور خطير في مقاومة الإصلاح البروتستانتيّ هادفين إلى تجديد الكنيسة الكاثوليكيّة.

 ويدلّ استقراء حياة ديكارت على أنّ الخوف من رجال الكنيسة كان قد سيطر عليه، وقد أشار هنري مور H. More  إلى أنّ طبيعيّاته قد أفسدها خوفه من الكنيسة، وقد خشي أن يتعرّض لما تعرّض جاليليو؛ فقد أثار سجن جاليليو جزعه وفزعه[48]؛ لذا فإنّ ديكارت كان يقدّم نفسه غالبًا كحليف للكنيسة خوفًا من بطش رجال الدين، مثلما يتّضح من إهدائه كتاب التأمّلات إلى «العمداء والعلماء بكلّيّة أصول الدين المقدّسة بباريس»[49].

لكن ليس معنى هذا أنّ الخوف وحده هو المفسّر لموقف ديكارت من رجال الكنيسة، فقد آمن بالدين المسيحيّ منذ طفولته، «وحرص على ترضّي رجال الدين حرصًا عابه عند بعض مؤرّخيه، ومن مظاهر مجاراته للتقاليد الدينيّة أنّه حين اكتشف «قواعد» علم جدير بالإعجاب في 10 نوفمبر سنة 1619، نذر الحجّ إلى أحب مكان عند الكاثوليك، وهو كنيسة العذراء في لوريت بإيطاليا ليقيم الصلاة لله وللعذراء، شكرًا على توفيقه في اكتشافه!»[50].

وفي الرسالة الاستهلاليّة في مقدّمة كتاب «التأمّلات في الفلسفة الأولى» يعتبر نفسه متَّبِعًا مرسوم البابا ليو العاشر الذي يطلب فيه إلى الفلاسفة المسيحيّين أن يستخدموا كلّ قوى العقل لتدعيم الإيمان الحقّ[51].

وإذا كان ديكارت قد تعرّض أحيانًا لاضطهاد من لاهوتيّي هولّندا؛ فذلك لأنّهم كانوا يوحّدون بين حرفيّة المعتقد المدرسيّ وعقائد الكتاب المقدّس، ويخلطون بين أرسطو والكتاب المقدّس. أمّا ديكارت نفسه، فقد كان يرى أنّه لا يوجد تعارض بين فلسفته وبين عقائد الكتاب المقدّس، وكان يعي بأنّ معارضة أولئك اللاهوتيّين له نابع من ذلك الخلط الذي وقعوا فيه بين أرسطو وبين التعاليم المدرسيّة من جهة والكتاب المقدّس من جهة أخرى[52].

يقول ديكارت في خطاب له إلى مرسين في مارس 1641:

«قرّرتُ أن أقاتل بكلّ أسلحتي الناس الذين يخلطون بين أرسطو والكتاب المقدّس ويسيئون استعمال سلطة الكنيسة، أقصد الناس الذين أدانوا جاليليو... أنا واثق من أنّني أستطيع إظهار أنّه لا عقيدة من عقائد فلسفتهم متّفقة مع الإيمان مثل اتفاق نظريّاتي»[53].

قارن أيضًا عبارة أكثر رسميّة في خطابه لـ «دينيّه Dinet» المنشور في الطبعة الثانية للتأمّلات: «بما أنّ الحقيقة الواحدة لا يمكن أن تكون متعارضة مع حقيقة أخرى، سوف يكون من العصيان الخوف من أنّ أيّ حقائق مكتشفة في الفلسفة يمكن أن تكون متعارضة مع حقائق الإيمان. وفي الواقع أنا مُصرّ على أنّه لا يوجد شيء متعلّق بالدين لا يمكن تفسيره بوسائل أفضل من مبادئي التي هي أقدر على ذلك من وسائل أولئك الذين ينالون القبول العام»[54].

ومن الملاحظ، رغم وضوح المحور اللاهوتيّ في تفكير ديكارت، أنّه لم يُضمِّن في بنية نسقه الفلسفيّ أسرارَ الكنيسة السبعة Seven Sacraments [55] ولا أسرارَ التجسّد والتثليث والصَلب، ولكن فلسفته جاءت مبرهنة على العقائد الكبرى: وجود الله ووجود النفس. وربما يكون السبب في ذلك أنّه وجد من المستعصي عقلانيًّا -حتى على المستوى الظاهريّ المتقنِّع- تسويغ وإدراج تلك العقائد النوعيّة المسيحيّة الكاثوليكيّة في بنية نسق فلسفيّ يزعم لنفسه العقلانيّة المنهجيّة.

ومع هذا لم يعترف ديكارت قط بأنّ عقائد المسيحيّة النوعيّة ضدّ العقل، بل كان مقتنعًا أنّها من نعم اللّه علينا التي تجاوز طاقة عقولنا في مستواها العاديّ! يقول ديكارت:

«إذا أنعم اللّه علينا بما كشفه لنا أو لغيرنا من أشياء تجاوز طاقة عقولنا في مستواها العاديّ، كأسرار التجسّد والتثليث، لم يستعص علينا الإيمان بها مع أنّنا قد لا نفهمها فهمًا واضحًا؛ ذلك لأنّه لا ينبغي أن يقع لدينا موقع الغرابة أن يكون في طبيعة اللّه وفي أعماله أشياء كثيرة تجاوز متناول أذهاننا»[56].

وفضلًا عن هذا فإنّه كان يؤكّد دومًا بإصرار أنّه ما من حقيقة فلسفيّة في مذهبه يمكن أن تكون متنافية مع حقيقة العقائد المسيحيّة المنزلة (وتلك هي الفكرة الشائعة عن العلاقة بين الإيمان والعقل في التوماويّة)؛ ولذلك عندما ينتقد أحدُ اللاهوتيّين[57] نظريّتَه في المادّة على أساس أنّها لا تتفق مع العقيدة المسيحيّة النوعيّة الخاصّة بتحوّل الخبز والخمر في القربان إلى جسد المسيح ودمه تحوّلًا حقيقيًّا، نراه قد أسرع يبذل كلّ ما في وسعه ليبرهن على توافق نظريّته مع العقيدة.

الإله والشيطان آليّتان دينيّتان في تفكير ديكارت

يمكن القول إنّ عقيدتَيْ «الإله المخلّص» و «الشيطان المُضلّ» هما ركنان جوهريّان في بنية الدوغما المسيحيّة، مثلما هو الحال في معظم الأديان. وإذا بدأنا التحليل هذه المرة بمفهوم الشيطان نجد أنّ الإيمان المسيحيّ لا يستطيع أن يحقّق اتساقًا داخليًّا في نسق عقائده دون افتراض شيطان ماكر يلعب دورًا رئيسًا منذ بداية التاريخ البشريّ في محاولة إضلال بني الإنسان. يقول الأب كزافييه ليون دوفور اليسوعي: «إنّ الكتاب المقدّس، تارة تحت اسم «الشيطان» (بالعبريّة Satan = المقاوم)، وتارة تحت اسم «إبليس» (باليونانيّة Diabolos = المشتكي زورًا) يشير إلى كائن شخصيّ غير مرئيّ في حدّ ذاته، ولكنّه يظهر بعمله أو بتأثيره: إمّا من خلال نشاط كائنات أخرى (شياطين أو أرواح نجسة)، وإمّا من خلال التجربة. وعلى كلّ، فإنّ الكتاب المقدّس يبدو في هذا الشأن، خلافًا للحال في فترة اليهوديّة المتأخّرة، وفي غالبيّة آداب الشرق القديم، على جانب من الإيجاز الشديد، قاصرًا على إرشادنا عن وجود هذا الكائن وعن حيله، وعلى إرشادنا عن وسائل الحماية منها»[58].

أمّا ديكارت فقد افترض وجود الشيطان باعتباره كائنًا شخصيًّا غيرَ مرئيّ في حدّ ذاته، ولكنّه يظهر بعمله أو بتأثيره، وله القدرة على تضليل حواسنا وخداع إدراكاتنا. يقول J. H. Hick على لسان ديكارت: «ربما للوصول إلى منتهى الشكّ، يوجد شيطان ماكر ذو قدرة كاملة، وهو لا يضلّل حواسنا فقط، بل يتلاعب كذلك بعقولنا»[59].. «وبالنسبة لإمكانيّة وجود شيطان ماكر يمتلك قوّة فوق عقولنا تقوّض كلّ الأدلّة، فإنّ ذلك الشيطان يستطيع (بواسطة التلاعب بذاكرتنا) أن يجعلنا نعتقد أنّ حجة ما صحيحة مع أنّها ليست صحيحة»[60].

لم يستطع ديكارت رافع لواء العقلانيّة في مطلع العصور الحديثة- هكذا يعتبر نفسه وهكذا يعتبره كثيرون- أن يعتق نفسه ويفلت بأفكاره من أسْر الرؤية الكنسيّة، حيث قدّم رؤية فلسفيّة لا يمكنها أن تتواصل وتتّسق في بنيتها المنهجيّة الداخليّة دون افتراض وجود هذا الشيطان الماكر، يقول ديكارت: «سأفترض، لا أنّ الله -وهو أرحم الراحمين وهو المصدر الأعلى للحقيقة- أنّ شيطانًا خبيثًا ذا مكر وبأس شديدين قد استعمل كلّ ما أُوتي من مهارة لإضلالي؛ وسأفترض أنّ السماء والهواء والأرض والألوان والأشكال والأصوات وسائر الأشياء الخارجيّة لا تعدو أن تكون أوهامًا وخيالات قد نصبها ذلك الشيطان فخاخًا لاقتناص سذاجتي في التصديق؛ وسأعد نفسي خلوًّا من اليدين والعينين واللحم والدم، وخلوًّا من الحـواس؛ وأنّ الوهم هو الذي يخيّل لي أنـّي مالك لهذه الأشياء كلّها. وسأصرّ على التشبّث بهذا الخاطر، فإنّ لم أتمكن بهذه الوسيلة من الوصول إلى معرفة أيّ حقيقة، فإنّ في مقدوري على الأقلّ أن أتوقّف عن الحكم؛ ولذلك سأتوخّى تمام الحذر من التسليم بما هو باطل، وسأوطّن ذهني على مواجهة جميع الحيل التي يعمد إليها ذلك المخادع الكبير، حتى لا يستطيع مهما يكن من بأسه ومكره أن يقهرني على شيء أبدًا»[61].

يظهر من هذا النصّ حضور مفهوم الشيطان في بنية التفكير الديكارتيّ، حيث يفترض وجود شيطان ماكر يمتلك قوة فوق عقولنا تقوّض كلّ الأدلّة، وهذا الشيطان يستطيع (بواسطة التلاعب بذاكرتنا) أن يجعلنا نعتقد أنّ حجّة ما صحيحة مع أنّها ليست صحيحة. ويعكس ديكارت بهذا الموقف مكوِّنًا من مكوّنات الإيمان المسيحيّ الذي يؤمن بوجود شيطان ماكر يلعب دورًا رئيسًا في محاولة إضلال بني الإنسان.

لكن كيف يمكن التغلب على الشيطان سواء أكان في المسيحيّة أو في الفلسفة الديكارتيّة؟

على الرغم من أنّ الشيطان في الإيمان المسيحيّ روح رهيب بحيله وشراكه وخداعه ووساوسه، فإنّ من الممكن هزيمته عن طريق الاتحاد  بالمسيح بالإيمان والصلاة التي تساندها دومًا صلاة يسوع. وهكذا فالنجاة الدينيّة لا بدّ لها حتى تتحقّق من الانتصار على الشيطان بالاستنجاد بالله. هذا عن موقف المسيحيّة من آليّة النجاة من كيد الشيطان، فماذا عن موقف ديكارت؟

إنّ في موقف ديكارت الواقع من آليّة الانتصار على الشيطان ما يثير الاشتباه؛ فتارة نجد من النصوص ما يجعله يبدو موقفًا فلسفيًّا أصيلًا، وتارة نجد من النصوص ما يجعله لا يعدو أن يكون موقف المسيحيّة.. كيف؟

من الظاهر أنّ آليّة النجاة الفلسفيّة عند ديكارت تتحدّد في «الفكر»، يقول ديكارت:

 «اقتنعت من قبل بأنّه لا شيء في العالم بموجود على الإطلاق: فلا توجد سماء ولا أرض ولا نفوس ولا أجسام، وإذن فهل اقتنعت بأنّي لست موجودًا كذلك؟ هيهات! فإني لا شكّ أكون موجودًا إن أنا اقتنعت بشيء أو فكّرت في شيء. ولكن هنالك لا أدري أيّ مضلّ شديد البأس شديد المكر يبذل كلّ ما أوتي من مهارة لإضلالي على الدوام. ليس من شكّ إذن في أنّي موجود متى أضلّني. فليضلّني ما شاء فما هو بمستطيع أبدًا أن يجعلني لا شيء، مادام يقع في حسباني أنّي شيء، فينبغي عليّ، وقد روَّيتُ الفكر ودقّقت النظر في جميع الأمور، أن أنتهي إلى نتيجة وأخلص إلى أنّ هذه القضيّة (أنا كائن وأنا موجود) قضيّة صحيحة بالضرورة كلّما انطلقت بها وكلّما تصوَّرتها في ذهني»[62].

وتمثل هذه القضيّة المبدأ الأوّل للفلسفة الذي يبحث عنه ديكارت، ومن ثمّ تمثّل- من وجهة نظره- جوهر نظريّة المعرفة في فلسفته. لكن هل «الفكر» وحده هو سبيل النجاة الكافي بذاته، أم أنّه بحاجة لضمان إلهيّ؛ ومن ثم تصبح النجاة الفلسفيّة ذاتها غير ممكنة إلّا بتحقيق النجاة الدينيّة أوّلًا؟

يستخدم ديكارت في البداية الفكر الواضح كآليّة لا تخدع للاستدلال على وجود اللّه، لكنّه من ناحية أخرى يلوذ بالله الصادق من أجل ضمان مصداقيّة الفكر الواضح ضد ألاعيب الشيطان الماكر، فإذا كان ديكارت يصرّح بأن الفكر يكتشف نفسه في اللحظة التي يقوم فيها الشيطان بممارسة أفعال الخداع والتضليل المختلفة، وكأنّ يقين الفكر «الأنا أفكّر إذن أنا موجود» (Cogito Ergo Sum) (I Am Thinking, Therefore I Exist) حقيقة أولى متّسمة بالوضوح والتميّز؛ حيث إنّ الشيطان يستطيع أن يشكِّك الإنسان في كلّ شيء سوى أنّه موجود[63].. إذا كان الأمر على هذا النحو في البداية، فإنّه يعود في نصوص أخرى ذات طابع عامّ ومطلق وهي من الكثرة بمكان، ليؤكّد على أنّ ثمّة حقيقة حدسيّة أسبق من حقيقة الفكر منطقيًّا؛ لأنّها هي التي تضمن صحّة الفكر نفسه بوضوحه وتميّزه ضدّ عوامل الخداع المختلفة بما فيها الشيطان، أي أنّ الفكر يستلزم أوّلًا ضامنًا له هو «اللّه الصادق» الذي لا يخدع، والذي لا يسمح للشيطان أن يتلاعب بأفكار الإنسان، فهو مصدر الحقائق وهو ضامنُها؛ ومن هنا فهو «المخلّص» الحقيقيّ من براثن الشكّ؛ بما له من أسبقيّة منطقيّة وأنطولوجيّة في عمليّة العبور من الشكّ إلى اليقين؛ إنّه بمثابة الجسر الذي يعبر عليه الفكر تلك الهوّة المحفورة بيــن الجانبين؛ ومن ثمّ فإّن آليّة النجاة الفلسفيّة تظلّ بحاجة دومًا إلى تدعيم من آليّة النجاة الدينيّة، وهذا ما سيتّضح بنصوص ديكارتيّة عند الحديث عن الله عند ديكارت باعتباره الضامن الأعلى للحقيقة.

والَّلافت للنظر أنّ ديكارت في الوقت الذي لا يذكر فيه الشيطان الماكر في كتابيْه المهمّين «مقال عن المنهج» و «مبادئ الفلسفة»، فإنّه يلحّ على إيراده كفرض من الفروض الشكّيّة في كتابه «التأمّلات في الفلسفة الأولى»؛ ولا يكتفي بذكره في سياق دواعي الشكّ، بل يذكره كذلك في سياق البحث عن اليقين، وكأنّه لا أمل من النجاة الفلسفيّة إلّا بالتغّلب عليه؛ مما يدل ّعلى أنّ مفهوم الشيطان رمز الشرّ، والشرّ هنا هو الشكّ حاضر في بنية التفكير الديكارتيّ.

ولولا الضمان الإلهيّ لما استطاع ديكارت مواجهة الشيطان الماكر وعبور نهر الشكّ، ولولا الصدق الإلهيّ لما انتهت حالة الشك الديكارتيّة التي يغذّيها الشيطان؛ «فشكّ ديكارت كان قد أوشك أن يلتهم نفسه لولا أن أدركه ضمان الصدق الإلهيّ»[64].

الإله باعتباره الضامن الأعلى للحقيقة

يوحي الكوجيتو الديكارتيّ الشهير في بعض نصوص ديكارت بأنّ الفكر له الأسبقيّة المنطقيّة في الخروج من غياهب الشكّ إلى نور اليقين[65]، ومما يدلّ على ذلك مثلًا قوله: «مما تأباه عقولنا أن نتصوّر أنّ ما يفكّر لا يكون موجودًا حقًّا حينما يفكّر. وعلى الرغم من أشدّ الافتراضات شططًا، فإنّنا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الاعتقاد بأنّ هذه النتيجة: «أنا أفكر، وإذن فأنا موجود» صحيحة، وبالتالي أنّها أهمّ وأوثق معرفة تعرض لمن يدير أفكاره بترتيب»[66].

وأسبقيّة الفكر عند ديكارت هي الرأي الأكثر شيوعًا  بين كثير من مؤرّخي الفلسفة، لكن ثمّة مَن يقول بوجود دور منطقيّ بين الفكر والوجود الإلهيّ عند ديكارت، وهذا ما قاله معاصروه أنفسهم؛ «فقد اكتشفوا لديه دورًا فاسدًا؛ إذ لا سبيل إلى البرهان على وجود الله إلّا بالاتكال على بداهة الأفكار الواضحة والمتمّيزة؛ ولا سبيل إلى الاتكال على هذه البداهة إلّا إذا قام البرهان على وجود الله»[67]. ويوضح ديف روبنسون وكريس جارات هذا الدور الديكارتيّ بلغة بسيطة فيقولان: «الأمر السيّئ هو أنّ حجّة ديكارت أصبحت الآن سيّئة السمعة لكونها كما يقال: «دور ديكارتيّ». فديكارت يستخدم ما يريد البرهنة عليه كمقدّمة من مقدّماته، فليس في استطاعتك أن تضمن قاعدة «الوضوح والتميّز» من إله يقول الحقيقة إذا كنت تزعم بالفعل أنّه موجود بسبب أنّ لديك فكرة واضحة ومتميّزة عنه في ذهنك. فإذن ديكارت يحتاج إلى الله ليضمن قاعدة الوضوح والتميّز، ويحتاج إلى قاعدة الوضوح والتميّز ليضمن أنّ الله موجود»[68]. هكذا يستخدم بعض الباحثين مفهوم «الدور المنطقيّ» لمحاولة تفسير موقف ديكارت من الفكر والله والذي ينطوي على ثنائيّة تثير الاشتباه.

ويظل هذا الاشتباه حاضرًا في معظم نصوص ديكارت؛ فإذا عدنا إلى «التأمّلات في الفلسفة الأولى» نجد من النصوص الديكارتيّة ذات الصيغة العامّة والمطلقة ما يتضمّن ويستلزم بالضرورة أن يقين الفكر لاحق منطقيًّا ليقين الصدق الإلهيّ؛ فالله هو الضامن لصحّة الفكر نفسها، يقول ديكارت في التأمّل الأول:

«لعل الله لم يشأ إضلالي على هذا النحو؛ لأنّه سبحانه كريم. إنّه إذا كان مما يتنزّه عنه اللّه واسع الكرم والرحمة أن يكون قد خلقني عرضة لضلال مقيم، فيبدو كذلك مما لا يليق بمقامه أن يأذن بوقوعي في الضلال أحيانًا»[69].

ويصرّح ديكارت على نحو واضح لا لبس فيه:

«إنّ اللهَ ـ وهو أرحم الراحمين ـ هو المصدر الأعلى للحقيقة»[70].

وتبلغ درجة اعتماديّة ديكارت الفلسفيّة على الضمان الإلهيّ حدّها الأقصى عندما يرى عدم إمكانيّة الوصول إلى اليقين أبدًا دون معرفة وجود الله وكونه صادقًا، يقول:

«إذا وجدت أنّ هنالك إلهًا فلا بدّ أيضًا من أن أنظر هل من الممكن أن يكون مضِلًّا: فبدون معرفة هاتين الحقيقتين، لا أرى سبيلًا إلى اليقين من شيء أبدًا»[71].

ويزيد الأمر توكيدًا في «مبادئ الفلسفة» بجزمه أنّ الإنسان «لن يصل إلى علم يقينيّ ما لم يعرف خالقه»[72]، و «أن مَنْ جَهِلَ اللّهَ لن يستطيع أن يعرف شيئًا آخر معرفة يقينيّة»[73].

غير أنّ ديكارت في نصوص أخرى يؤكّد أسبقيّة الفكر، مثل قوله «أنا أفكّر إذن أنا موجود»، ويعتبر الكوجيتو حقيقة أولى متّسمة بالوضوح والتميّز؛ حيث إنّ الشيطان يستطيع أن يشكّك الإنسان في كلّ شيء سوى أنّه موجود. ويعتبر الوضوح والتميّز معيارين لا يخطئان لمعرفة الأحكام الصحيحة من الأحكام الباطلة، ويعدّهما علامتين لا يشوبهما الريب على اليقين، يقول J. H. Hick:

«يعتبر ديكارت أنّنا نستطيع القول بدقّة أنّنا نعرف فقط الحقائق الواضحة بذاتها، أو تلك التي يمكن التوصّل إليها بالاستدلالات المنطقيّة من المقدّمات الواضحة بذاتها»[74].

 لكن ما هو أصل الوضوح والتميّز؟

لا يعتبر ديكارت الفكر الخالص أصلًا لهما، بل يعتبرهما نابعين من مصدر إلهيّ، والدليل على ذلك أنّ ديكارت ينتهي في التأمّل الرابع- وعنوانه «في الصواب والخطأ»- إلى نتيجة تنصّ على أنّ «كلّ تصوّر واضح ومتميّز هو شيء بلا ريب؛ ولذلك لا يمكن أن يكون العدم أصلًا له، بل لا بدّ أن يكون اللّه خالقه»[75]. هكذا يخلص ديكارت إلى أنّ الوضوح والتميّز، كعلامتين على الصواب المعرفيّ، من خلق اللّه وبضمانه.

من الجليّ إذن أنّ الضمان الإلهيّ حاضر في اللحظة الأولى من لحظات بناء المنهج الديكارتيّ، أعني لحظة تحديد معيار اليقين المعرفيّ؛ مما يستوجب إعادة النظر في مدى مصداقيّة إعلان ديكارت عن كون الكوجيتو حقيقة معرفيّة أولى راسخة تكتسب شرعيّتها من داخلها؛ ذلك أنّ هذه الحقيقة تفترض حقيقة أسبق منها ذكرها ديكارت في التأمّل الأول في سياق درء الشكّ عندما قال: «مما يتنزّه عنه الله واسع الكرم والرحمة أن يكون قد خلقني عرضة لضلال مقيم»[76]. ومن ثمّ فإنّ «الضمان الإلهيّ» ليس نقطة الارتكاز المحوريّة في مذهب ديكارت فقط، بل كذلك في شكّه المنهجيّ؛ لأنّ الخروج من هذا الشكّ لم يكن بالفكر وحده، فالفكر وحده ليس كافيًا بذاته، بل هو بحاجة دومًا إلى ضمان إلهيّ لصحّته.

والله عند ديكارت ليس ضامنًا فقط لصحّة الفكر في إدراكه لذاته، بل ضامن كذلك لصحّة إدراك الفكر للعالم والأشياء؛ فالفكر وحده غير قادر على عبور الهوّة التي حفرها الشكّ بين العقل وبين الأشياء في العالم، وباللّه الصادق وحده يمكن للفكر أن يعبر هذه الهوّة؛ لأنّ ميل الإنسان الطبيعيّ نحو الاعتقاد بوجود العالم مستفاد من الله الكامل الذي لا يخدع، وليس من الحواس؛ حيث إنّ الإحساسات هي أفكار غامضة مبهمة، والمعرفة اليقينيّة لا بدّ أن تكون واضحة ومتميّزة. أمّا بالنسبة للعالم المادّيّ باعتباره جوهرًا جسميًّا عند ديكارت، فإنّ الفكرة الواضحة المتميّزة التي لديه عن هذا العالم هي فكرة الامتداد في الطول والعرض والعمق؛ لأنّ كلّ ما يمكن نسبته إلى الجسم بعامّة يفترض وجود الامتداد أوّلانيًّا[77]. وهذه الفكرة لا تُعرف مباشرة بالحواس؛ فهي صورة ذهنيّة، وكون هذه الصورة الذهنيّة مطابقة لموجودات حقيقيّة لا وهميّة، فهذا ما لا نعلمه إلّا بفضل الصدق الإلهيّ. يقول ديكارت:

«ولمّا كان الله غير مخادع، فبيِّنٌ جدًّا أنّه لا يرسل إليّ هذه الأفكار بنفسه ومباشرة، ولا بواسطة مخلوق، لا تكون حقيقتها منطوية فيه على جهة الصورة، بل على جهة الشرف فقط: فإنّه لمّا لم يكن منحني أيّ قوّة أعرف بها أنّ ذلك كذلك، بل جعل لي ميلًا شديدًا جدًّا إلى الاعتقاد بأنّها صادرة عن الأشياء الجسمانيّة، فلست أرى كيف يمكن إبراؤه من الخداع إذا كانت هذه الأفكار صادرة في الحقيقة عن شيء آخر أو كانت حادثة عن علل أخرى غير الأشياء الجسمانيّة. وإذن فيجب أن نخلص إلى القول إنّ الأشياء الجسمانيّة موجودة»[78].

ولا يستطيع ديكارت أن يتخلّى عن الضمان الإلهيّ عندما يفرّق بين الأحلام التي تتراءى للإنسان في النوم والتي لا تأتي من مصدر خارجيّ وبين التمثّلات التي تأتي من العالم الخارجيّ أثناء اليقظة؛ فالذي يضمن للإنسان أن الثانية تتطابق مع موضوعات خارجيّة، ليس فقط الإهابة بالحواس والذاكرة والإدراك والاتساق؛ فهذه المعايير وإن كانت ضروريّة إلّا أنّها غير كافية بذاتها؛ إذ الحاجة ماسّة إلى ضمان من الإله الصادق الذي لا يخدع؛ يقول ديكارت:

«ينبغي ألّا أشكّ مطلقًا في حقيقة تلك التمثّلات، إذا أهبت بجميع حواسي وذاكرتي وإدراكي لاختبارها، فلم ينقل إليّ أحدها ما ينافي ما ينقله إليّ سائرها؛ لأنّه يلزم من أنّ الله ليس بمضلّ أنّي لا أكون في ذلك من الضالّين»[79].

والله لا يضمن فقط عند ديكارت عدم ضلال الإنسان في المطابقة بين التمثّلات وبين موضوعات العالم الخارجيّ، بل يضمن كذلك صدق الحقائق الأبديّة التي يقوم عليها العالم؛ يقول ديكارت في خطاب له إلى الأب مرسين:

«أمّا بصدد الحقائق الأبديّة، فإنّي أكرّر القول عنها: إنّها صادقة أو ممكنة لا لسبب إلّا أّنها في علم الله صادقة أو ممكنة. ولا ينبغي أن نقول العكس أي أنّها معلومة له في صدقها، وكأنّ صدقها مستقلّ عنه... ولذلك لا ينبغي القول إنّ الحقائق تبقى صادقة حتى إن لم يكن الله موجودًا؛ هذا لأنّ وجود الله أسبق الحقائق وأقدمها، وهو الحقيقة التي تصدر عنها وحدها سائر الحقائق»[80].

ومن ثمّ ربما يمكن القول إنّ يقين الأنا أفكّر لم يكن بالقوّة والرسوخ بحيث يشكّل مبدأً كافيًا لاستنباط نسق فلسفيّ متكامل تتتابع فيه سلسلة الحقائق؛ إنّه لا يعدو أن يكون -وفق العرض الديكارتيّ له- مبدأً هشًّا يستلزم مساندة؛ ولهذا أدخل ديكارت مبدأ الإله الكامل الصادق لمعالجة جوانب القصور في الكوجيتو، و»انتهى إلى أنّ الله هو المبدأ العقليّ للنسق الاستنباطيّ... وفي هذه المغامرة الاستنباطيّة التي خاضها ديكارت، كان للإله ما يعمله، ومن ثمّ أدرج ضمن مبادئ الميتافيزيقا وموضوعها نظرًا لإسهامه الوظيفيّ في النسق كلّه، ودون الإله، لن يكون لليقين، وللإحاطة الشاملة، وللخصب الاستنباطيّ الذي تتميّز به الميتافيزيقا الديكارتيّة- أيّ وجود»[81].

ومما يُرجّح أنّ مبدأ الكوجيتو الديكارتيّ مبدأ عقيم وغير مثمر، أنّه لا يستطيع أن يقدّم برهانًا على وجود العالم انطلاقًا من الفكر الخالص؛ فالأنا المفكّرة لا تعمل إلّا في زمن متقطّع، أي أنّها لا تعمل باستمرار في زمان متّصل، ومن ثمّ ليس لها ديمومة داخليّة، ومعنى هذا أنّ الذاكرة بحاجة لضمان؛ حيث إنّ الأنا المفكّرة تكتسب يقينها عندما تحدس شيئًا على نحو مباشر في اللحظة نفسها التي تعاين فيها ذلك الشيء، أمّا عندما تنتقل إلى شيء آخر، فإنّها تصبح غير معاينة للشيء السابق، وهنا يعوزها اليقين الكامل به «نظرًا إلى أنّي أتذكر أنّي كثيرًا ما ظننت بأشياء كثيرة أنّها حقيقيّة ويقينيّة. ثمّ تبيّنت بعد ذلك لأسباب أخرى أنّها باطلة على الإطلاق»[82].. ومثال ذلك كما يقول ديكارت أيضًا:

«إنّي حين أنظر في طبيعة المثلّث المستقيم الأضلاع، يتبدّى بوضوح لي- أنا الذي على شيء من الدراية بأصول الهندسة- أنّ زواياه الثلاث مساوية لقائمتين، وأجد من المستحيل، حين أُعمل الفكر في البرهنة على ذلك، أن أعتقد ما يخالفه، ولكن متى صرفت فكري عنه فقد يحتمل جدًّا أن أشكّ في صحّته- مع أنّي لا أفتأ أتذكّر أنّي أدركته إدراكًا واضحًا- إذا لم أعلم بوجود إله؛ لأنّي أستطيع أن أقنع نفسي بأنه قد صار ديدنا لي أن أخطئ بسهولة حتى في الأمور التي أظنّ أنّي أدركها بأوفر قسط من البداهة واليقين»[83].

وعلى هذا فالأنا المفكّرة بحاجة إلى ضمان كافٍ للذاكرة حتى يمكنها أن تستمرّ في بناء حقائق النسق، ويتمثّل هذا الضمان الكافي في «الله الصادق»، يقول ديكارت:

«ولكن بعد أن تبيّنت أنّ الله موجود، تبيّنت في الوقت نفسه أنّ الأشياء جميعًا معتمدة عليه، وأنّه ليس بمخادع، وخلصت من ذلك إلى القول بأنّ كلّ ما أتصوّره بوضوح وتميّز لا بدّ أن يكون صحيحًا»[84].

ثمّ ينصّ ديكارت ـ بعبارات واضحة لا لبس فيها ـ على أنّ أساس اليقين المعرفيّ هو الله الصادق وليس الفكر الخالص، فيقول:

«إذن فقد وضح لي كلّ الوضوح أنّ يقين كلّ علم وحقيقته إنّما يعتمدان على معرفتنا للإله الحقّ، بحيث يصحّ لي أن أقول إنّي قبل أن أعرف الله ما كان بوسعي أن أعرف شيئًا آخر معرفة كاملة. والآن وقد عرفته سبحانه، قد تيسّر لي السبيل إلى اكتساب معرفة كاملة لأشياء كثيرة. ولا تقتصر هذه المعرفة على الأمور المتّصلة بالله والأمور العقليّة الأخرى، بل تتناول أيضًا الأمور المختصّة بالطبيعة الجسمانيّة، من حيث إنّها تصلح موضوعًا لبراهين أصحاب الهندسة الذين لا يعنيهم البحث في وجودها»[85].

ولهـذا فـإنّ البعد الإلهيّ الميتافيزيقيّ سـابـق على الكوجيتو؛ يقول د. يحيى هويدى: «إنّ ديكارت قد وصل إلى حقيقة الوجود وحقيقة الله عن طريق اكتشافه لنظريّتين مهمّتين: نظريّة الحقائق الأبديّة ونظريّة الخلق المستمرّ. وكلتا النظريّتين قد أوصلتا ديكارت إلى الاعتراف بوجود الله، وكلّ هذا قبل أن يكتشف حقيقة الكوجيتو، ولأنّ كلًّا منهما أظهر العالم أمامنا في صورة غير المكتفي بذاته، ومن ثم أصبح وجود إله خالق له من متطلّباته اللازمة الضروريّة، وكلّ هذا قبل اكتشافه لحقيقة الكوجيتو»[86].

الحضور الَّلاهوتيّ في الطبيعيّات والرياضيّات

وصف «اللاهوتيّ Theological» قد يكون نسبــة إلى اللاَّهوت Theology وهو علم الكلام المسيحيّ، وقد يكون نسبة إلى كلّ من يفسّر الظواهر الطبيعيّة باعتبارها من نتاج علّة أو علل مفارقة خارقة، مثلما هو الأمر في الحالة اللاهوتيّة في نظريّة أوجست كونت، وهي الحالة الأوّليّة من تطوّر الفكر البشريّ، فـاللاهوت أو «الدين، تبعًا لكونت، يمثّل المرحلة الأولى فقط من التطوّر العقليّ للإنسانيّة، ثمّ تتبعها مرحلة الميتافيزيقا، ثمّ مرحلة العلم»[87]. وفي مرحلة الدين أو اللاهوت فإنّ الفكر البشريّ «يتمثّل الظواهر بوصفها من نتاج الفعل المباشر والمتواصل لعوامل خارقة، كثيرة نسبيًّا، يُفسّر تدخّلها العشوائيّ كلّ شواذات العالم الظاهرة»[88]؛ وقد درس كونت على التوالي الصور الجوهريّة الثلاث لـ «الحالة اللاهوتيّة» و»العهد اللاهوتيّ والعسكريّ» الذي يقابلها: صنميّة، شرك، توحيد[89].

 وفي هذا السياق نستخدم مصطلح اللاهوتيّ دلالة على تفسير الظواهر الطبيعيّة بردّها إلى علّة مفارقة، لا بتفسيرها في حدود القوانين العلميّة الطبيعيّة، وليس هذا باعتبار أنّ الحالة اللاهوتيّة حالة بشريّة انتهت مثلما هو الحال في نظريّة كونت، بل باعتبار أنّ التفسير اللاهوتيّ قد يحضر في فكر أيّ فيلسوف حتّى ولو كان ينتمي إلى العصر الحديث، وذلك إذا ما أدخل البعد الإلهيّ المفارق في نظريّاته الطبيعيّة والرياضيّة. وربما يكون من البيّن أنّ هذا الاستخدام لمصطلح اللاهوتيّ لا يعني بالضرورة الاتفاق مع كونت فيما انتهى إليه من نتائج، بل المسألة تقف فحسب عند حدود استخدام المصطلح في بعض دلالاته وليس كلّها، وإذا كان كونت يفصل بين التفكير اللاهوتيّ والميتافيزيقيّ والعلميّ، فإنّ استخدام الباحث للمصطلح لا يقول بمثل هذا الفصل الجذريّ؛ لأنّ البعد اللاهوتيّ قد يحضر في التفكير الميتافيزيقيّ وقد يحضر في التفكير العلميّ، وهو ما سنجده ماثلًا في حالة ديكارت؛ ومن ثّم فليس هذا المبحث إسقاطًا لكلّ الحالة اللاهوتيّة التي أشار إليها كونت على طبيعيّات ورياضيّات ديكارت، بل توظيف لبعض دلالاتها في تفسير موقفه العلميّ.

وإذا كان من المعلوم أنّ الألوهيّة هي قلب الميتافيزيقا الديكارتيّة ومحور ارتكازها الأساسيّ؛ فهل يمكن القول بناء على قول ديكارت بسبق الميتافيزيقا للعلم الطبيعيّ أنّ ديكارت يعد - من هذه الزاوية- أكثر لاهوتيّة من فلاسفة العصور الوسطى الذين جعلوا العلم الطبيعيّ سابقًا على الميتافيزيقا؟

فقد جرى العرف السائد في تاريخ الفلسفة على جعل الطبيعيّات سابقة على الميتافيزيقا، اتباعًا للترتيب الذي قام به أندرونيقوس الروديسي Andronicus Of Rhodes لكتب أرسطو حوالي عام 60ق.م، لكن عندما أراد ديكارت أن يؤسّس العلم الكلّيّ القائم على وحدة المعرفة، عكس الوضع؛ إذ جعل الميتافيزيقا هي الأصل ونقطة المبتدأ لسائر العلوم؛ ومن ثمّ وضع الميتافيزيقا قبل الطبيعيّات؛ لأنّها عنده بمثابة المقدّمة التي تجعل قيام العلوم- ومنها الطبيعيّات- ممكنة[90]. و هذا يعني -فيما يعنيه- أنّ ديكارت رفض الاعتراف بالاستقلال التامّ للعلم الطبيعيّ، وأنّ الميتافيزيقا تلعب دورًا أساسيًّا في تكوين الطبيعيّات.

يتأكّد هذا المعنى من خلال النصّ الديكارتيّ في مقدّمة كتابه «مبادئ الفلسفة» الذي يوضح فيه العلاقة بين العلوم في سياق حديثه عن الإنسان الذي يتطلّع إلى الهداية والوصول إلى الحقيقة، فيقول إنّه يجب عليه «أن يبدأ في جدّ بالإقبال على  الفلسفة الحقّة، التي جزؤُها الأوّل هو الميتافيزيقا التي تحتوى على مبادئ المعرفة، ومن بينها تفسير أهمّ صفات الله ولا مادّيّة النفوس وجميع المعاني الواضحة البسيطة المودعة فينا. والثاني هو الفيزيقا، ويبحث فيها على العموم، بعد أن يكون المرء قد وجد المبادئ الحقّة للأشياء المادّيّة، عن ماهيّة الكون كلّه، وعلى الخصوص عن طبيعة هذه الأرض وطبيعة الأجسام التي توجد حولها، مثل الهواء والماء والنار والمغناطيس والمعادن الأخرى. وبعد ذلك يحتاج أيضًا إلى أن يفحص على الخصوص عن طبيعة النبات وطبيعة الحيوان وخصوصًا طبيعة الإنسان لكي يستطيع المرء بعد ذلك أن يجد العلوم الأخرى التي فيها منفعة له. فالفلسفة بأسرها أشبه بشجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الفيزيقا، والفروع  التي تخرج من هذا الجذع هي كلّ العلوم الأخرى التي تنتهي إلى ثلاثة علوم رئيسة هي الطبّ والميكانيكا والأخلاق»[91].

وإذا نظرنا في العلم الطبيعيّ عند ديكارت نجده قد استخلص قوانين المادّة من ميتافيزيقاه، وليس من العالم الخارجيّ المتعيّن؛ حيث كان مسعاه أن يعرف معرفة قبليّة كلّ الأجسام الأرضيّة على اختلاف صورها وماهيّاتها؛ ولذلك فإنّ قوانين الطبيعة عنده مشتقّة من «تصوّر المادة» بالاستدلال العقليّ المحض، وليست مستخلصة من المادّة ذاتها بالتعويل على التجربة.

وممّا يؤكّد حضور البعد اللاهوتيّ في العلم الديكارتيّ أنّ قوانين الطبيعة خاضعة لإرادة اللّه، تلك الإرادة المتّسمة بالثبات المطلق وعدم التغيّر. وانطلاقًا من مفهوم ديكارت عن أنّ «الله ثابت، ومن أنّه لمّا كان يفعل دائمًا بالطريقة نفسها فهو يُحدِث دائمًا النتيجة نفسها»[92]، وكذلك انطلاقًا من أنّ اللّه قد خلق الامتداد والحركة ذات الكمّيّة الثابتة[93]، فـإنّ  الطبيعة تتحرّك وفقًا لقواعد وضعها الله، يقول ديكارت: «سأضع هنا قاعدتين أو ثلاث قواعد رئيسة، يجب الاعتقاد أنّ الله يجعل طبيعة هذا العالم الجديد تفعل تبعًا لها»[94]. وهذه القواعد هي:

القاعدة الأولى:

كلّ شيء يبقى على حاله مادام لم يغيّره شيء[95]، أو كما يقول: «إنّ كلّ جزء من المادّة، بمفرده، يستمرّ دائمًا على الحالة نفسها، مادام التقاؤه بغيره لا يجبره على تغييرها، أي أنّه: إذا كان لهذا الجزء حجم ما، فإنّه لن يصغر إلّا إذا قسمته الأجزاء الأخرى؛ فإذا كان مستديرًا أو مربّعًا، فلن يغيّر أبدًا هذه الهيئة دون أن تجبره الأجزاء الأخرى على ذلك؛ وإذا توقّف في مكان ما، فلن يغادر أبدًا إذا لم تطرده الأجزاء الأخرى منه؛ وإذا بدأ مرّة بالتحرّك فسيستمرّ دائمًا بالقوّة نفسها إلى أن توقفه الأجزاء أو تؤخّره»[96].

القاعدة الثانية: 

حفظ كمّيّة الحركة، وهي كالآتي: «عندما يدفع جسم جسمًا آخر، لا يسعه أن يعطيه أيّ حركة إلّا ويخسر في الوقت نفسه ما يعادلها من حركته الذاتيّة، ولا أن ينتزع منه حركة إلّا ويضاف ما يعادلها إلى حركته الذاتيّة»[97].

القاعدة الثالثة:

الحركة المستقيمة، وهي كالآتي: «عندما يتحرّك جسم ما- فمع أنّ حركته تتمّ في الأغلب في خطٍّ منحنٍ، ومع أنّه من المحال أن تتمّ أيّ حركة لا تكون بطريقة ما دائريّة…، فإنّ كلّ جزء من أجزاء هذا الجسم ينزع دائمًا إلى متابعة حركته في خط مستقيم، وهكذا فإنّ فعل هذه الأجزاء أي الميل لديها للتحرك، يختلف عن حركتها»[98].

ويرى ديكارت أنّ الإله الشخصيّ هو العلّة الأولى للحركة[99]، أي يفسّر الحركة لا بردّها إلى قوانين طبيعيّة وإنّما بردها إلى تصوّر لاهوتيّ ميتافيزيقيّ، مخالفًا بذلك الأسس التي قام عليها العلم الحديث عندما نحَّى التصوّرات اللاهوتيّة جانبًا. وفي الإطار نفسه استنتج ديكارت من مفهوم ثبات الإله وأنّه العلّة الأولى للحركة- أنّ الإله هو الحافظ لكمّيّة الحركة في الكون، وأنّه شرّع للحركة قوانين ثلاثة ثابتة على أساس ثبات الإله خالقها.

ويوضح جيمس كولينز تلك المسألة عند ديكارت فيقول: «صفة الثبات الإلهيّ تعني أنّ الإله غير قابل للتغيّر في وجوده، وأنّه يتصرّف بالطريقة نفسها دائمًا إزاء العالم المخلوق. فلدينا يقين أوّليّ عن بقاء كمّيّة الحركة أو التحرّك Momentum، ولأنّ المحافظة على كمّيّة الحركة تضرب بجذورها في الثبات الإلهيّ نفسه، فإنّ قانون القصور الذاتيّ يثبت استنباطًا بوصفه قانونًا عامًّا للطبيعة أو علّة ثانويّة لجميع الحركات الجزئيّة للأجسام الفعليّة»[100].

  هكذا يعتقد ديكارت أنّ استنباط ثبات قوانين الحركة من ثبات الله ملزم بالضرورة، لكن هذا غير صحيح؛ لأنّه لا توجد علاقة ضروريّة لزوميّة بين الاثنين؛ فـ «هل يمنع ثبات الله من حدوث التغيّر في الطبيعة؟ ومن يدرينا، لعلّ الله أراد بإرادة واحدة أن توجد قوانين معيّنة وقتًا ما، ثم أن تحلّ محلّها قوانين أخرى؟»[101].

ولا يكتفي ديكارت بالقول بدور الله في عمليّة الخلق الأولى، أو بدوره في الإنشاء الأوّل للحركة، بل يضيف لله القيام بالمحافظة عليها وجعلها تستمرّ في الوجود[102]. يقول ديكارت: «الله يحفظ كلّ شيء بفعل مستمرّ، وبالتالي لا يحفظه كما أمكن أن يكون قبل وقت ما، ولكن بالضبط كما هو في الآن عينه الذي يحفظه فيه»[103].

ولقد أدّت هذه الهيمنة للتصوّرات اللاهوتيّة الميتافيزيقيّة على طبيعيّات ديكارت إلى وقوعه في أخطاء، منها ما ذهب إليه ديكارت من القول بخطأ جاليليو في نظريّته عن سقوط الأجسام؛ لأنّه لم يعرف المبادئ الحقّة للطبيعة، يعني المبادئ اللاهوتيّة الميتافيزيقيّة؛ ومنها مبدأ ثبات الإله المطلق[104]. وفي الواقع أنّ الخطأ ليس خطأ جاليلو، وإنّما خطأ ديكارت؛ لأنّه أقحم مبدأً ميتافيزيقيًّا قبليًّا على مسألة طبيعيًّة بحتة.

ومما يثير الاشتباه في فلسفة ديكارت أنّه يؤكّد على مطلقيّة القدرة الإلهيّة في قلب الحقائق، ولا شكّ أنّ هذا يعارض القول بالثبات والضرورة التي يقوم عليها كلّ قانون علميّ. لكن ديكارت يعود ليضفي على القوانين الرياضيّة والطبيعيّة نوعًا من الضرورة التي يضمنها الإله بثبات إرادته وتنزّهها عن التغيّر؛ فإذا كانت قدرته لامتناهية ومطلقة الحرّيّة، فإنّه عندما يخلق العالم وفق قوانين ضروريّة، فإنّه يلتزم بما أوجده من حقائق وقوانين، ولا يشرع لاحقًا في تغييرها. هكذا يكرّس ديكارت الاعتقاد في قدرة الله المطلقة وحرّيّته التامّة، وفي الوقت نفسه يكرّس اليقين العلميّ القائم على ثبات القوانين والحقائق.

ويرتبط بنظريّة ديكارت عن خلق الله للحقائق السرمديّة نظريّة أخرى له، هي نظريّة الخلق المستمرّ التي تقول إنّ فعل الخلق لم يتمّ مرّة واحدة فقط في بدء الوجود، وإنّما هذا الفعل مستمرّ في كلّ آنٍ؛ من خلال حفظ اللّه للمخلوقات؛ يقول ديكارت: «إذا كان في العالم بعض الأجسام أو بعض العقول، أو طبائع أخرى تامّة الكمال، فإنّ وجودها كان واجبًا أن يعتمد على قدرته (أي قدرة اللّه)، بحيث إنّها جميعًا لم تكن لتقدر على أن تقوم بدونه لحظة واحدة»[105]. وفعل الخلق هو نفسه فعل الحفظ، يقول ديكارت: «من اليقينيّ، وهذا رأي متداول بين علماء الدين على العموم، أنّ العمل الذي يحفظه به الآن هو نفس العمل الذي صنعه به»[106].

  ويدلّل ديكارت على الخلق أو الحفـظ المستمرّ من خلال النظر في طبيعة الزمان؛ فالزمان عنده منقسم، ولحظاته مستقلّة عن بعضها؛ ومن ثمّ لا ينتج عن وجود الكائن الآن بالضرورة وجوده في اللحظة التالية ما لم يتدخّل اللّه بحفظ بقاء هذا الكائن. ويورد ديكارت هذا البرهان الزمانيّ في أكثر من كتاب من كتبه، يقول مثلًا في «التأمّلات في الفلسفة الأولى»: «.... إنّ زمان حياتي كلّه يمكن أن ينقسم إلى أجزاء لا نهاية لها، كلّ منها لا يعتمد بأيّ حال على الأجزاء الأخرى، ويترتّب على ذلك كلّه أنّه لا يلزم من أنّي كنت موجودًا في الزمان الماضي القريب أن أكون موجودًا الآن، ما لم توجد في هذه اللحظة علّة توجدني أو «تخلقني مرّة ثانية» إنْ صح هذا القول، أي تحفظ عليّ وجودي. والواقع أنّه من الأمور الواضحة البيّنة للغاية عند كلّ من يمعنون النظر في طبيعة الزمان، أنّ حفظ جوهر ما، في كلّ لحظة من لحظات مدّته، يحتاج إلى عين القدرة وإلى عين الفعل اللازمين لإحداثه أو لخلقه من جديد إذا لم يكن بعد موجودًا»[107]. ويورد هذا الدليل نفسه في «مبادئ الفلسفة» فيقول: «لما كان من طبيعة الزمان أن لا تعتمد أجزاؤه بعضها على بعض ولا يجتمع بعضها مع بعض أبدًا؛ فليس يلزم من وجودنا الآن أن نكون في الزمان الذي يليه، ما لم تكن العلّة نفسها التي أوجدتنا مستمرّة في إيجادنا أي حافظة لبقائنا. ومن الميسور أن نعلم أنّنا لا نملك قوّة تكفل لنا الاستمرار في الوجود أو حفظه علينا لحظة واحدة، وأنّ القادر على إبقائنا وحفظ وجودنا خارج ذاته لا بدّ قادر على حفظ بقائه هو ذاته، وهو خليق أن لا يفتقر إلى من يحفظه ويبقيه، ذلكم هو اللّه»[108].

ويعتبر ديكارت أنّ هذا النظر في طبيعة الزمان دليل يثبت وجود الله، فـ «آجالنا في حياتنا كافية وحدها لإثبات وجود الله»[109]، ويؤكّد أنّه لا يوجد أحد «يساوره الشكّ في حقيقة هذا التدليل إذا ما التفت إلى طبيعة الزمان أو أجل الإنسان في الحياة»[110].

وقد استخدم ديكارت نظريّة الخلق المستمرّ في مجال الفيزياء من أجل أن يميّز بين الحركة المحدّدة هندسيًّا، وبين القوة المحرِّكة، وهى التي يرى ديكارت أنّ مصدرها هو الله، كما استعان بها ديكارت في تقرير رأيه القائل بأنّ «الطبيعة ليست آلهة»، أي أنّ العالم ليس له استقلال ذاتيّ، وليست له حقيقة حقّة. إنّ الطبيعة ممتدة في المكان، وليست لها قوّة ذاتيّة ولا مبادرة، ولا قوام وجوديّ (أنطولوجيّ).

على هذا النحو يتجلّى حضور عقيدة رئيسة من عقائد الكتاب المقدّس في الفلسفة الديكارتيّة؛ فنظريّة ديكارت عن الخلق المستمرّ ما هي إلّا عقيدة سِفْر التكوين عن استمرار الله في الخلق والحفظ، وهى لبّ العقائد المسيحيّة؛ حيث إنّ «قصة الخلق كما وردت في سِفْر التكوين هي أنّ اللّه خلق الكون ولم يتركه لذاته ولشأنه كما يزعم بعض الفلاسفة. إنّ قوّته لا زالت عاملة في الكون خالقة ومسيرة وحافظة»[111].

وهنا يظهر الاتفاق التامّ بين نظريّة ديكارت وعقيدة الكتاب المقدّس، كما يظهر الخلاف الجذريّ بين نظريّة ديكارت ونظريّة أرسطو الذي يتحدّث عن العلّة الأولى، وكأنّه لا اتصال بين الله والخليقة إلّا عـن طـريـق سلسلة من العلل والمعلولات من جهة أنّ الله بالنسبة للكون هو المحرّك الأوّل الذي لا يتحرّك، ولا شأن له بالكون بعد ذلك، لا بالعلم ولا بالعناية والحفظ؛ فالله عند أرسطو ليس سوى فكر وتعقّل؛ وهو لا يعقل ولا يفكّر إلّا في ذاته؛ لأنّها أكمل وأشرف الذوات؛ لذا لا يفكّر في العالم الناقص المتغيّر. إنّه عقل وعاقل ومعقول، ومن ثمّ فإنّ حياته تُوصف بأنّها «تفكير في تفكير»[112].

 كما يناقض ديكارت والكتابُ المقدّسُ من جهة أخرى نظريّةَ القائلين بوحدة الوجود الذين لا يفرّقون بين الله والكون؛ سواء أكانوا قائلين بوحدة الوجود الكونيّة Cosmic  التي تؤكّد العالم وتساوي بين الله والطبيعة، أم كانوا قائلين بوحدة الوجود اللاكونيّة Acosmic التي تنكر العالم وتعتبره وهمًا؛ تأكيدًا على أنّ الموجود الوحيد الحقيقيّ هو الإلهيّ[113]؛ فالله عند ديكارت والكتاب المقدّس ليس هو الكون بمخلوقاته، كما أنّ الخليقة ليست هي اللّه. وقد خلق اللّه العالم عند ديكارت والكتاب المقدّس بمحض حرّيّته لا كما يقول أفلوطين بأنّ الخلق عبارة عن انبثاق من الله يشبه التوالد الذاتيّ، فصدر عنه كضرورة لا محيص عنها «عن غير وعى، عن غير إرادة، ومردّه إلى ضرب من الغزارة، كغزارة الينبوع حينما يطفح، أو كغزارة النور حينما ينتشر؛ فالكائن الحيّ، والينبوع، والنور، لا تخسر شيئًا بانتشارها، بل تحتفظ في ذاتها بالوجود كلّه؛ وهذا ما سُمّيَ، في استعارة باتت مألوفة وإن لم تكن دقيقة كلّ الدقة، بنظريّة الفيض؛ وقد كان الأجدر أن يقال، مع أفلوطين، الانبثاق، أو التوالد، أو انتشار شيء آتٍ من المبدأ»[114].

ويتّضح البعد اللاهوتيّ في فكر ديكارت على أوضح ما يكون في موقفه من الحقائق الرياضيّة والقوانين الطبيعيّة؛ حيث يقول في خطاب له إلى مرسين (15 إبريل 1630): «إن القوانين الرياضيّة للطبيعة قد أسّسها اللّه»[115].

 وتعتمد هذه القوانين على الله كلّيّة، شأنها شأن كلّ المخلوقات، ويذهب ديكارت إلى أنّ «القول بعدم افتقار هذه الحقائق إليه، يجعل تصوّرنا لله من وجهة نظر ديكارت كتصوّر اليونان لجوبيتر Jupiter [116] وساترن Saturn[117]، وفيه إخضاع الله للقضاء والقدر»[118]. ويجزم ديكارت بأنّ الله هو الذي أنشأ هذه القوانين في الطبيعة كما ينشئ ملك القوانين في مملكته. وإذا ما برز اعتراض على هذا بأنّ اللّه لو كان هو الذي ينشئ تلك الحقائق لكان في استطاعته أن يغيّرها كما يغيّر الملك قوانينه، فإنّ ديكارت يردّ على ذلك بقوله: «هذا يجوز لو كانت إرادة اللّه متغيّرة، أمّا إذا اعترض بأنّ الحقائق أبديّة وثابتة، أجيب بأنّ اللّه كذلك، وإذا اعتُرض بأنّه حرّ أجيب بأنّ قدرته بعيدة عن فهمنا، وأنّه من الجائز لنا بوجه عامّ أن نؤكّد قدرته على صنع كلّ ما لا نستطيع فهمه، لا عجزه عن كلّ ما نعجز عن فهمه، ومن الاجتراء أن ندّعي لمخيّلتنا مثل ما لقدرته من مدى[119].

وهنا يظهر الأثر اليسوعيّ على ديكارت بوضوح؛ حيث إنّ الأساس الدينيّ عند منشئ الجماعة اليسوعيّة القدّيس أغناطيوس اللوايولى St.  Ignatius Loyola (1491-1556) هو أنّ الإنسان مخلوق، ومن ثمّ فهو عاجز إذن عن فهم أسرار الله وقدرته، وأنّه مع ذلك كائن حرّ، يستطيع تمجيد الله وخدمته[120].

إذن فاللّه عند ديكارت هو خالق الحقائق الأبديّة، وهو في الوقت نفسه ضامن صحّة إدراكنا لها، والأكثر من ذلك أنّه كان قادرًا وحرًّا في أن يخلقها على خلاف ما هي عليه، وهو ليس مضطرًّا لخلقها على هذا النحو أو ذاك؛ يقول ديكارت: «وتسألني ما الذي اضطر اللّه أن يخلق هذه الحقائق؟ أجيبك بأنّه كان حرًّا في أن يجعل أقطار الدائرة غير متساوية، مثلما كان حرًّا في ألّا يخلق العالم»[121]. وكأنّ ديكارت يفهم العلاقة بين الله والأشياء مثل فهم الأشاعرة إذا جازت مثل هذه المقارنة هنا.

ومن ثمّ يتبيّن لنا أنّه إذا كان ديكارت قد اعتبر «الرياضيّات مفتاحًا للمعرفة»[122]، فإنّه لا يعني البتّة أنّ هذا المفتاح عقلانيّ محض؛ لأنّ هذا المفتاح ليس مع الإنسان، وليس مؤسّسًا على ضمانات الفكر وحده، وإنّما هو مع الله الذي خلقه ويضمن صدقه وجدواه.

ولا يكتفي ديكارت بتأسيس العلوم الرياضيّة والطبيعيّة على مفهوم الألوهيّة، بل يعطي لهذا التأسيس سلطة لاهوتيّة ربما تزعزع العقلانيّة الديكارتيّة؛ حيث يصف ديكارت مَنْ يعترض على تفسيره المقدّم بأنّه من المعترضين على أفعال الله وتدبيره، وكأنّه يفكّر بآليّة التكفير التي هي إحدى الآليّات الأصيلة في الفكر اللاهوتيّ. يقول ديكارت في نصّ قطعيّ الدلالة: «يبدو لي أنّ من اعتقد بطلان علل المعلولات الموجودة في الطبيعة على نحو ما وجدناه، هو من المعترضين على أفعال الله وتدبيره؛ لأنّ معناه مؤاخذة اللّه على أنّه خلقنا من النقص بحيث كنّا عرضة للخطأ، حتى لو أجدنا استعمال ما منحنا اللّه من عقل ونظر»[123].

خاتمة

هكذا أدّى الاشتباه في الفكر الدينيّ عند ديكارت إلى إعادة النظر في موقفه الفلسفيّ بشكل عامّ؛ مما أدّى إلى بيان أنّ منطق منهج ديكارت يبدو منطقًا عقلانيًّا، حيث يظهر من القواعد التي يضعها لمنهجه أنّها قواعد عقلانيّة، أمّا حين ينظر المرء في مذهبه يتبيّن أنّ ديكارت قد ناقض قواعد منهجه، فالمنطق الذي يحكم المذهب يبدو منطقًا غير عقلانيّ في كثير من الأحيان؛ حيث نجد المفاهيم اللاهوتيّة حاضرة في بنية المذهب وتكوينه، لدرجة يمكن القول معها إنّ هذا المذهب محكوم بالمنطق اللاهوتيّ أكثر من كونه محكومًا بالمنطق العقليّ.

وهنا تسقط أقنعة ديكارت العقلانيّة التي تقنّع بها في مذهبه.

حيث الحضور الطاغي للمفاهيم اللاهوتيّة، مثل: الضمان الإلهيّ، والشيطان الماكر، ونظريّة الخلق المستمرّ، والحضور اللاهوتيّ البارز في الطبيعيّات والرياضيّات، وثنائيّة النفس والبدن، والموقف التسليميّ المطلق بالوحي، وعدم مناقشة العقائد، والإذعان لرجال الكنيسة، والتأكيد الدائم من قِبله أنّه ما من حقيقة فلسفيّة في مذهبه يمكن أن تكون متنافية مع حقيقة العقائد المسيحيّة المنزلة، وهذه هي الفكرة الشائعة عن العلاقة بين الوحي والعقل في التوماويّة، إلى غير ذلك مما حاول هذا البحث إعادة النظر فيه نتيجة الاشتباه في معنى النصوص الديكارتيّة. فهل تمكّن هذا البحث من فهم النصوص الديكارتيّة؟

لعلّ الإجابة عند جاك دريدا: «لا يكون نصّ نصًّا إن لم يُخْفِ على النظرة الأولى، وعلى القادم الأوّل، قانونَ تأليفه وقاعدة لعبه. ثمّ إنّ نصًّا ليظلّ يُمعن في الخفاء أبدًا. وليس معنى هذا أنّ قاعدته وقانونه يحتميان في امتناع السرّ المطويّ، بل أنّهما، وببساطة، لا يُسلّمان أبدًا نفسيهما في الحاضر لأيّ شيء مما تمكن دعوته بكامل الدقّة إدراكًا. وذلك بالمجازفة دائمًا (أي من لدن النصّ)، وبفعل جوهره نفسه، بالضياع على هذه الشاكلة نهائيًّا. من سيفطن لمثل هذا الاختفاء أبدًا؟ يمكن لخفاء النسج بأيّ حال أن يستغرق، في حلّ نسيجه، قرونًا»[124].

ومن ثم فكل قراءة ليست مطلقة، وكلّ تأويل هو نسبيّ، وكلّ محاولة لإدراك النصّ ليست نهائيّة. ومع هذا ينبغي أن يستمرّ الاجتهاد في القراءة وإعادة القراءة.

المصادر والمراجع

الأب كزافييه ليون دوفور اليسوعيّ، معجم الّلاهوت الكتابيّ، ترجمه إلى العربيّة مجموعة من علماء اللاَّهوت بإشراف المطران أنطونيوس نجيب، بيروت، دار المشرق، 1988.

إميل برهييه، تاريخ الفلسفة: الفلسفة الهلنستيّة والرومانيّة، ترجمة جورج طرابيشى، بيروت، دار الطليعة، 1982.

أندره روبينه، الفلسفة الفرنسيّة، ترجمة جورج يونس، بيروت، المنشورات العربيّة، 1979.

أندريه لالاند، معجم مصطلحات الفلسفة التقنيّة والنقديّة، مترجم إلى العربيّة تحت عنوان “موسوعة لالاند الفلسفيّة”، ترجمة د.خليل أحمد خليل، تعهّده وأشرف عليه حصرًا: أحمد عويدات، بيروت - باريس، دار عويدات، ط1، 1996.

أورمسون وآخرون، الموسوعة الفلسفيّة، ترجمة فؤاد كامل وآخرين، مراجعة د. زكى نجيب، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصريّة، 1982.

برتراند راسل، حكمة الغرب، الجزء الثاني، ترجمة فؤاد زكريا، الكويت، عالم المعرفة (72)، 1983.

بيير دوكاسيه، الفلسفات الكبرى، ترجمة جورج يونس، بيروت، منشورات عويدات، 1983.

تاريـــخ الفلسفـة الغربيّـة: الفلسفـة الحديثة، الكتاب الثالث، ترجمة محمد فتحي الشنيطي، القاهرة، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1977.

تاريخ الفلسفة:  العصر الوسيط والنهضة، ترجمة جورج طرابيشي، بيروت، دار الطليعة، 1983.

توفيق الطويل، قصة الصراع بين الدين والفلسفة، القاهرة، دار النهضة العربيّة، ط3، 1979.

جاك دريدا، صيدليّة أفلاطون، ترجمة كاظم جهاد، تونس، دار الجنوب للنشر، 1998.

جون هرمان راندال، تكوين العقل الحديث، ترجمة جورج طعمــة، مــراجعــة بــرهان داجانى، بيروت، دار الثقافة، 1966.

حسن  حنفي، مقدّمة في علم الاستغراب، القاهرة، الدار الفنيّة،1991.

ديف روبنسون وكريس جارات، ديكارت، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2001.

رواد المثآليّة في الفلسفـــة الغربيــــة، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1989.

ريتشارد شاخت، رواد الفلسفة الحديثة، ترجمة د. أحمد حمدى محمود، القاهرة، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1993.

ستيورات هامبشر، عصر العقل: فلاسفة القرن السابع عشر، ترجمة ناظم طحان، سوريا، دار الحوار للنشر والتوزيع، 1986.

الشيرازي: أبو إسحاق إبراهيم بن علي، اللمع في أصول الفقه، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1405هـ.

صلاح قنصوه، الموضوعيّة في العلوم الإنسانيّة، بيروت، دار التنوير، ط2، 1984.

عادل العوا، المذاهب الأخلاقيّة:عرض ونقد، الجزء الأوّل، سوريا، مطبعة الجامعة السوريّة، 1958.

عثمان أمين، ديكارت، القاهرة، مكتبة القاهرة الحديثة، 1965.

علي عبد المعطي محمد، ألفرد نورث هوايتهد: فلسفته وميتافيزيقاه، الإسكندريّة، دار المعرفة الجامعيّة، 1980.

الغزالي: أبو حامد، المستصفى في علم الأصول، تحقيق محمد عبد السلام عبد الشافي، بيروت دار الكتب العلميّة، 1413.

فرانكلين باومر، الفكـر الأوروبيّ الحديث  القرن السابع عشـر، ترجمة أحمد حمدي محمــود، القاهرة، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1987.

فؤاد زكريا، آفاق الفلسفة، القاهرة، مكتبة مصر، 1991.

قضايا معاصرة: في الفكر الغربيّ المعاصر ج (2)، بيروت، دار التنوير، ط1، 1982.

كزافييه ليون دوفور اليسوعيّ، معجم اللاَّهوت الكتابيّ، ترجمه إلى العربيّة مجموعة من علماء اللاَّهوت بإشراف المطران أنطونيوس نجيب، بيروت، دار المشرق، 1988.

محمد عزيز الحبابي، مفاهيم مبهمة في الفكر العربيّ المعاصر، القاهرة، دار المعارف،1990.

مراد وهبة، المعجم الفلسفيّ، مصر، دار قباء، 1998، والطبعة الثالثة، القاهرة، دار الثقافة الجديدة، 1976.

نجيب بلدى، ديكارت، القاهرة، دار المعارف، 1968.

هيغل، موسوعة العلوم الفلسفيّة، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، بيروت، دار التنوير، 1980.

يحيى هويدى، دراسات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1981.

يـوسـف كــرم، تـاريـخ الفلسفــة الحـديثـة، بــيروت، دار القلم، بدون تاريخ.

 

----------------------------

[1]*ـ  مفكر ورئيس جامعة القاهرة، أستاذ الأديان والفلسفة الحديثة في كلّيّة الآداب بالجامعة، جمهوريّة مصر العربيّة.

[2]-  برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربيّة: الفلسفة الحديثة، ترجمة د. محمد فتحي الشنيطي، القاهرة، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1977، ص119.

[3]- د. حسن حنفي، مقدّمة في علم الاستغراب، ص255.

[4]- D. E. Cooper, World Philosophies: An Historical Introduction, Oxford, Blackwell, 1996, P. 242.

Blackburn, The Oxford Dictionary Of Philosophy, P. 100.

[5]- J. Cottingham, “Introduction” To Descartes: Selected Philosophical Writings, Cambridge: Cambridge University Press, 1988, P. Vii.

[6]- ثمّة العديد من المؤرّخين والدارسين قد أكّدوا من قبل مناصرة ديكارت للدين المسيحيّ، مثل: إسبناس في بحثه المنشور في مجلّة «الميتافيزيقا والأخلاق» 1917، باريس، تحت عنوان «الفكرة الأصيلة في فلسفة ديكارت». وكذلك بلانشيه إلى حدّ ما في دراسته «السوابق التاريخيّة لمبدأ: أنا أفكّر إذن موجود»، باريس، 1910، وجوهييه في دراسته «الفكر الدينيّ عند ديكارت»، باريس، 1924. انظر: د. عثمان أمين، ديكارت، القاهرة، مكتبة القاهرة الحديثة، 1965، ص289 وما بعدها.

[7]- J. Cottingham, a Descartes Dictionary, Oxford, Blackwell, 1994, P. 62.

[8]- ديكارت، التأمّلات في الفلسفة الأولى، ترجمة د. عثمان أمين، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصريّة، 1980، ص39.

[9]- المصدر السابق، ص41.

[10]-  D. E. Cooper, World Philosophies, p. 234.

[11]- د. عثمان أمين، ديكارت، ص34.

[12]- Donald A. Cress, „Editor‘s Preface“ To Descartes: Discourse On Method And Meditations On First Philosophy. Indianapolis /Cambridge, Hackett Publishing Company, Third Edition, 1993, P. Vii.

[13]- فونتنل، استطراد عن القدماء والمحدثين، طبعة سنة 1688، ص142. مقتبس عن د.عثمان أمين، ديكارت، ص284.

[14]-  J. Cottingham, R. Stoothoff And D. Murdoch (Eds.), The Philosophical Writings Of Descartes, Cambridge, Cambridge University Press, 1985, Vol. I, P. 51.

[15]-   J. Cottingham,  A Descartes Dictionary, P. 152.

[16]- ديكارت، مقال عن المنهج لإحكام قيادة العقل وللبحث عن الحقيقة في العلوم، ترجمة د. محمود محمد الخضيرى، القاهرة، سميركو للطباعة والنشر، 1985، الطبعة الثالثة، ص75-76.

[17]- D. E. Cooper, World Philosophies, PP. 174 – 5.

[18]- إميل برهييه، تاريخ الفلسفة: العصر الوسيط والنهضة، ترجمة: جورج طرابيشى، بيروت، دار الطليعة، 1983، ص174-175.

[19]- ذكر ديكارت هذا المعنى في أكثر من نصّ قطعيّ الدلالة وذلك في كتابه «مبادئ الفلسفة»، ترجمة د. عثمان أمين، القاهرة، دار الثقافة، 1993، انظر: ص70، فقرة 25؛ وص 107،  فقرة 76.

[20]- عن د. توفيق الطويل، قصة الصراع بين الدين والفلسفة، دار النهضة العربية، ط 3، 1979، ص192. وقارن: د. عثمان أمين، ديكارت، ص292-293.

[21]- د. توفيق الطويل، قصة الصراع بين الدين والفلسفة، ص192.

[22]- ديكارت، مبادئ الفلسفة، ص70 .

[23]- المصدر السابق، ص70 .

[24]- Burtt, The Metaphysical Foundations Of Modern Science, London, Routledge & Kegan Paul, 1980, P. 116.   

[25]- ديكارت، مبادئ الفلسفة، ص107.

[26]- المصدر السابق، الموضع نفسه .

[27]- ابن رشد، فصل المقال فيما ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، تحقيق د. محمّد عمارة، بيروت، المؤسّسة العربيّة، 1981، ط2، ص32.

[28]- ديكارت، التأمّلات في الفلسفة الأولى، ص39 .

[29]- ديكارت، التأمّلات في الفلسفة الأولى، ص40 .

[30]- ديكارت، التأمّلات في الفلسفة الأول، الموضع نفسه.

[31]- Penelhum, T., Religion And Rationality, New York, Random House, 1971, PP. 11- 12. Simon Blackburn, The Oxford Dictionary Of Philosophy, P. 715.

[32]- هكذا عرّبه المترجم.

[33]- إميل برهييه، تاريخ الفلسفة: القرن السابع عشر، ترجمة جورج طرابيشي، بيروت، دار الطليعة، 1983، ص93.

[34]- حول مساحة اختلافه واتفاقه مع أوغسطين. انظر:

E. L. Allen, Guide Book To Western Thought, London, The English Universities Press, 1966,  pp. 60- 1.

     وبـرتــراند راسـل، تــاريخ الفلسفـة الغربيـّـة ج (3)، ترجمة د. محمد فتحي الشنيطي، القاهرة، إلهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1977، ص114. وإميل برهييه، تاريخ الفلسفة: القرن السابع عشر، ص93.

[35]- انظر: H. E. Smithers, A History Of The Oratorio, 3 Vols., London, 1977- 79.

[36]- H. D. Lewis, Philosophy Of Religion, London, Warwick Lane, 1975, P. 276.

[37]- Anthony Kenny, Descartes: A Study Of His Philosophy, New York, Random House, 1968, PP. 223 - 4

[38]- د. علي عبد المعطي محمد، ألفرد نورث هوايتهد: فلسفته وميتافيزيقاه، الإسكندريّة، دار المعرفة الجامعيّة، 1980، ص173.

[39]- المرجع السابق، ص174.

[40]- Quinn And Taliaferro, A Companion To Philosophy Of Religion, Cambridge, Blackwell, 1997, P. 136.

[41]- Blackburn, The Oxford Dictionary Of Philosophy, p. 101.

[42]- J. Cottingham, R. Stoothoff And D. Murdoch (Eds.), The Philosophical Writings  Of Descartes, Vol. I, P. 291.                         

[43]- اقتبسه برهييه، تاريخ الفلسفة: القرن السابع عشر، ص67.

[44]- Catharine Wilson, “Mersenne”, in: Academic American Encyclopedia, New Jersey, Arete, 1980, vol. 13, p. 312.

[45]- قارن: برهييه، تاريخ الفلسفة: القرن السابع عشر، ص63.

[46]- Cress D. A., “Editor’s Preface” To Descartes: Discourse On Method And Meditations On First Philosophy. P. Vii-Viii.

[47]- تتبع برهييه بداية حركة المنافحة العقلانيّة عن المسيحيّة في القرن السادس عشر قبل ديكارت مباشرة. انظر كتابه: تاريخ الفلسفة: العصر الوسيط والنهضة، الجزء الثالث، ترجمة جورج طرابيشى، بيروت، دار الطليعة، 1983، ص281. ويدرج برهييه ميتافيزيقيا ديكارت في سياق هذه الحركة الدينيّة، لكنّه يعود فيعتبر ذلك «محض مظهر خارجيّ لفكر ديكارت» بعكس ما يؤكّد عليه بحثنا من كون العقلانيّة مجرّد مظهر ارتداه ديكارت ليخفي وراءه تفكيره اللاهوتيّ. قارن: برهييه، تاريخ الفلسفة: القرن السابع عشر، ص84. ّ

[48]- د. توفيق الطويل، قصة الصراع بين الدين والفلسفة، ص194.

[49]- ديكارت، التأمّلات في الفلسفة الأولى، ص37.

[50]- د. توفيق الطويل، قصة الصراع بين الدين والفلسفة، ص193.

[51]- ديكارت، التأمّلات في الفلسفة الأولى، ص41.

[52]- J. Cottingham, A Descartes Dictionary, P. 63.

[53]- J. Cottingham And Others, The Philosophical Writings Of Descartes, Vol. I I I, Cambridge, Cambridge University Press, 1991, P. 177.

طبع هذا الجزء بعد ستة سنوات من طبع الجزءين الأوّل والثاني؛ لذا تمّت الإشارة لبياناته على نحو منفصل.

[54]-  J. Cottingham And Others, The Philosophical  Writings Of  Descartes, I I, P. 392.

[55]- الأسرار السبعة في عقيدتي الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة هي: التعميد، والتثبيت، والتناول، والتوبة أو الاعتراف، ومسحة المرضى المقبلين على الموت، والكهنوت أو الرسامة، والزواج. وهي المراسم الرئيسة في العبادة المسيحيّة، وهي شعائر موضوعة بغرض جعل المسيحيّين يحيون حياة مسيحيّة، أو لتنمية هذه الحياة بينهم، وهي علامات مقدّسة تحدث النعمة الإلهيّة في قلب المؤمن. لكن في العقيدة البروتستانتيّة، ثمّة إنكار للأسرار عدا سرّين هما: التعميد، والتناول؛ وهما عند البروتستانت مجرّد رمز للنعمة الإلهيّة.

John Bowker(ed.), The Oxford Dictionary of World Religions, Oxford, Oxford University Press, 1997, p. 831.

[56]- ديكارت، مبادئ الفلسفة، ص70 .

[57]- مثل انتقادات أرنو لديكارت الواردة في «الاعتراضات الرابعة»؛ فأرنو قدّم بعض الاعتراضات الجزئيّة (حول تحوّل القربان) على التأمّلات في الفلسفة الأولى لديكارت، لكن هذا لا يمنع من كون أرنو مؤيّدًا لديكارت في سائر نظريّاته. انظر:

Cottingham, The Philosophical Writings Of Descartes, P. 153. Cottingham, A Descartes Dictionary, P. 62.

[58]- الأب كزافييه ليون دوفور اليسوعيّ، معجم اللاهوت الكتابيّ، ترجمه إلى العربيّة مجموعة من علماء اللاهوت بإشراف المطران أنطونيوس نجيب، بيروت، دار المشرق، 1988، ص466.

[59]- J. H. Hick, Philosophy Of Religion, London, Prentice - Hall International, 1988, P. 58.

[60]- Ibid.

[61]- ديكارت، التأمّلات في الفلسفة الأولى، ص80.

[62]- ديكارت، التأمّلات في الفلسفة الأولى، ص95.

[63]- D. E. Cooper, Wrold Philosophies, P. 244.

[64]- د. صلاح قنصوه، الموضوعيّة في العلوم الإنسانيّة، بيروت، دار التنوير، ط2 ، 1984، ص218.

[65]-  E. L. Allen, Guide Book To Western Thought, P. 140.

[66]- ديكارت، مبادئ الفلسفة، ص 56.

[67]- إميل برهييه، تاريخ الفلسفة : القرن السابع عشر، ص101.

[68]- ديف روبنسون وكريس جارات، ديكارت، ترجمة د. إمام عبد الفتاح إمام، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2001، ص70.

[69]- ديكارت، التأمّلات في الفلسفة الأولى، ص77 - 78 .

[70]- م.ن، ص80 .

[71]- م.ن، ص135.

[72]- ديكارت، مبادئ الفلسفة، ص61.

[73]- م.ن، ص60.

[74]- J. H. Hick, Philosophy Of Religion, P. 58.

[75]- ديكارت، التأمّلات في الفلسفة الأولى، ص196.

[76]- المصدر السابق، ص77.

[77]- J. Cottingham, A Descartes Dictionary, P. 60.

[78]- ديكارت، التأمّلات في الفلسفة الأولى، ص252.

[79]- المصدر السابق، ص269.

[80]- Descartes, Lettre a Mersenne De 6-5-1630, Correspondance Publiée Par Adam Et Milhand, Paris, 1937. I, 139 - 140.       

 ترجمه إلى العربيّة د. نجيب بلدى في: ديكارت، القاهرة، دار المعارف، 1968، ص192.

[81]- جيمس كولينز، الله في الفلسفة الحديثة، ترجمة فؤاد كامل، القاهرة، مكتبة غريب، 1973، ص88.

[82]- ديكارت، التأمّلات في الفلسفة الأولى، ص220.

[83]- المصدر السابق، ص219 - 220.

[84]- المصدر السابق، ص220.

[85]- ديكارت، التأمّلات في الفلسفة الأولى، ص221 - 222.

[86]- د . يحيى هويدي، دراسات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1981، ص27.

[87]- Jacques Waardenburg (Editor), Classical Approaches To The Study Of Religion: Introduction And Anthology, Paris, Mouton & Co.,  1973, P. 29.

[88]- أندريه لالاند، معجم مصطلحات الفلسفة التقنيّة والنقديّة، مترجم إلى العربية تحت عنوان «موسوعة لالاند الفلسفيّة»، 3/ 1451.

[89]-  أندريه لالاند، معجم مصطلحات الفلسفة التقنيّة والنقديّة، الموضع نفسه. وقارن: مجمع اللغة العربيّة، المعجم الفلسفيّ، ص160-161.

[90]- قارن د. فؤاد زكريا، آفاق الفلسفة، القاهرة، مكتبة مصر، 1991، ص129. وجدير بالذكر أنّ د. فؤاد زكريا يقدّم قراءة تركّز على «عرض وجهة النظر التي تؤكد أهمّيّة الجانب العلميّ في فلسفة ديكارت، وذلك من خلال تفسيرين: أحدهما يجعل العلم هدفًا أساسيًّا إيجابيًّا تتوارى إلى جانبه الميتافيزيقا التي تكتفي بتمهيد الطريق له فحسب، والآخر يجعل للميتافيزيقا دورًا إيجابيًّا يظلّ ملازمًا للعلم حتى أبعد أطرافه وأكثرها تشبّعًا»، ويجد د. زكريا نفسه» يواجه هاهنا إشكالًا يتعلق بصميم مهمّة الفلسفة التأمّليّة عند ديكارت»، ويبدو له «أنّ عصر ديكارت ذاته، وموقعه التاريخيّ، ودوره كفيلسوف تحمّس للمعرفة العلميّة، كلّ هذه العوامل تعمل على الاحتفاظ بالإشكال في حالة تناقض حيّ، وتدعونا إلى الامتناع عن اتخاذ موقف نهائيّ بين طرفيه المتعارضين». ص164-165.

[91]- ديكارت، مبادئ الفلسفة، ص42 - 43.

[92]- ديكارت، العالم أو كتاب النور، ترجمة اميل خوري، بيروت، دار المنتخب العربيّ، ط1، 1999، ص86.

[93]- انظر: د. عثمان أمين، ديكارت، ص227.

[94]- ديكارت، العالم أو كتاب النور، ص82.

[95]- انظر: د. عثمان أمين، ديكارت، ص227.

[96]- ديكارت، العالم أو كتاب النور، ص82.

[97]- المرجع السابق، ص84.

[98]- المرجع السابق، ص86.

[99]- E. A. Burtt, The Metaphysical Foundations Of Modern Science, P. 113.

[100]- جيمس كولينز، الله في الفلسفة الحديثة، ص98.

[101]- يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، بيروت، دار القلم، بدون تاريخ، ص80.

[102]- J. Cottingham, A Descartes Dictionary, P. 40.

[103]- ديكارت، العالم، ص87.

[104]- لمزيد من التفاصيل انظر المقارنات الضافية التي أجراها بيرتE. A. Burtt  بين جاليليو وديكارت من منظور ميتافيزيقيّ في كتابه:

The Metaphysical Foundations Of Modern Science, P. 111, ff.

[105]- ديكارت، مقال عن المنهج، ص98.

[106]- المصدر السابق، ص109 - 110.

[107]- ديكارت، التأمّلات في الفلسفة الأولى، ص158 - 159.

[108]- ديكارت، مبادئ الفلسفة، ص67.

[109]- المصدر السابق، الصفحة نفسها.

[110]- المصدر السابق، الصفحة نفسها.

[111]- حبيب سعيد، مادة «خلق» في: قاموس الكتاب المقدّس، القاهرة، دار الثقافة، 1991، ص345 - 346.

[112]- Ross, Aristotle Selections, London, 1927, p. 116.

[113]- Hinnells (Editor), The Facts On File Dictionary Of Religions, United Kingdom, Penguin Books, 1984, p. 245.

[114]- إميل برهييه، تاريخ الفلسفة: الفلسفة الهلنستيّة والرومانيّة، ترجمة جورج طرابيشى، بيروت، دار الطليعة، 1982، ص247 - 248.

[115]- E. A. Burtt, The Metaphysical Foundations Of Modern Science, P. 115.

[116]- جوبيتر هو إله السماء الأكبر عند الرومان، وهو ابن ساترن، وحاكم الأولمب. وليس جوبيتر إلهًا يونانيًّا، لكنّه يعادل عند اليونان كبير الآلهة زيوس Zeus. انظر:

Brandon, (General Editor), a dictionary of Comparative Religion, London, Weidenfeld & Nicolson, 1970, pp. 386 - 7. 

[117]- ساترن هو إله الزراعة والحصاد والبذور عند الرومان، كان كبير الآلهة  حتى خلعه ابنه جوبيتر عن العرش، وليس ساترن إلهًا يونانيًّا، لكنه يعادل عند اليونان الإله كرونوس Kronos. انظر:

Brandon, (editor), a dictionary of Comparative Religion, p. 559. 

[118]- ترجمه إلى العربيّة: د. نجيب بلدي، ديكارت، ص190.

[119]- المرجع السابق، ص190 - 191.

[120]- لمزيد من التفاصيل انظر:

Brodrick, St. Ignatius Loyola, The Pilgrim Years, 1491 – 1538, London, 1956.

[121]- وذلك فى خطابه إلى مرسين ( 27 مايو 1630 )، ترجمه إلى العربيّة د. نجيب بلدى، ديكارت، ص 194.

[122]- E. A. Burtt, The Metaphysical Foundations Of Modern Science, P. 106.

[123]- اقتبسه د. عثمان أمين في كتابه: ديكارت، ص231، عن: مؤلفات ديكارت، طبع أ - ت، م 9، ص123.

[124]- جاك دريدا، صيدليّة أفلاطون، ترجمة كاظم جهاد، تونس، دار الجنوب للنشر، 1998، ص13.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف