البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

August / 28 / 2022  |  667ديكارت وثنائيّة الوجود إشكاليّة الانفصال والاختلاف بين الوجود والماهيّة

محمد تقي الطباطبائي المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية صيف 2021 م / 1443 هـ
ديكارت وثنائيّة الوجود إشكاليّة الانفصال والاختلاف بين الوجود والماهيّة

يذكر الفلاسفة الذين تطرّقوا إلى بيان النسبة بين الوجود والماهيّة في الفترة التي سبقت عهد رينيه ديكارت، ثلاثة أوجه اختلافٍ بينهما، وهذا الفيلسوف بدوره تطرّق إلى بيانها ضمن مباحثه التي طرحها حول النسبة بين الروح والجسد، بحيث اقتصر كلامه على تلميحات موجزة، رغم أنّ المعروف عنه هو التمييز بين الأشياء وماهيّاتها لدى تسليطه الضوء على القضايا الميتافيزيقيّة والآراء المطروحة والمحتملة في تفسير حقيقة عالم الوجود، ناهيك عن تأكيده على هذا الاختلاف في المباحث الميتافيزيقيّة الأساسيّة التي تبنّاها إزاء الله تعالى والعالم المادّي.

ولبيان رؤيته الميتافيزيقيّة بصدد الاختلاف بين منزلتيَ الوجود والماهيّة تسلّط هذه الدراسة الضوء على أربعة أنواعٍ من الاختلاف انطلاقًا من نظريّاته ثمّ على أساسها يشير الباحث إلى أربعة أوجه من الاختلاف بين الوجود والماهيّة وذلك استنادًا إلى منهج ديكارت القائل بثنائيّة الوجود. وهذا الأمر بحدّ ذاته أسفر عن حدوث غموضٍ في آرائه ونظريّاته ومن ثمّ تسبّب بحدوث خللٍ في تفسيره الميتافيزيقيّ لحقائق عالم الوجود، وهذا الخلل يرد عليه ويُحدِثُ تشويشًا ذهنيًّا لكلّ من يقرأ مدوّناته.

"المحرِّر"


شهد عالم الفلسفة في القرون الوسطى طرح مباحث تحليليّة حول مسألة الاختلاف بين الوجود والماهيّة كردّة فعلٍ على الرأي القائل بكون الوجود زائدًا على الماهيّة، وهذا البحث الفلسفيّ متفرّع على أطروحة الحكيم ابن سينا الذي اعتبر فيها الماهيّة عارضةً على الوجود.

محور البحث في هذه المقالة هو بيان طبيعة اختلاف الوجود عن الماهيّة، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الفيلسوف الفرنسيّ إتيان جيلسون يعدّ من أوائل الفلاسفة المعاصرين الذين تطرّقوا إلى توضيح الموضوع بدقّةٍ وإمعان نظرٍ ضمن كتابه "الوجود والماهيّة"[2]، حيث سلّط الضوء على مسألة الاختلاف من وجهة نظر رينيه ديكارت مؤكّدًا على أنّ وجهة نظره مشابهة لما طرحه الفيلسوف فرنسيس سواريز الذي اعتبره اختلافًا عقليًّا "distinction of reason of conceptual distinction".

ثمة مسألتان أساسيّتان لم يتطرّق جيلسون إلى بيانهما، وعلى ضوء تغاضيه عنهما ادّعى أنّ ديكارت تجاهل المعنى الواقعيّ للوجود، أي الوجود غير الذهنيّ الذي يترتّب عليه الأثر المرتبط بالتغييرات التي تطرأ في عالم الخارج والمدركة من قبل حواسّ الإنسان[3].

المسألة الأولى هي المعيار الأساس لإمكانيّة تصوّر الإنسان conceivability برأي ديكارت أو ما يسمّى بطريق الأفكار way of ideas، وهذه الرؤية ميّزته عن سائر الفلاسفة الذين سبقوه وتبنّوا آراء أخرى؛ لذلك عرفت بالثورة الديكارتيّة[4]؛ وعلى هذا الأساس حتّى إذا افترضنا أنّه سلّط الضوء بالبحث والتحليل على مسألة الاختلاف العقليّ بين الوجود والماهيّة، وقلنا إنّه تأثّر بنظريات سواريز، لكن مع ذلك ينبغي إيعاز هذا الاختلاف إلى ثورته الفكريّة وآرائه التي تفرّد بها عن غيره. الجدير بالذكر هنا أنّ ديكارت بعد أن تبنّى وجهات نظر تختلف عن آرائه السابقة تقوّمت رؤيته الجديدة بالقول بعدم وجود دلالة معقولة لجوهر الأشياء ولا صفاتها ولا أحوالها، وهذا الكلام يتعارض مع ما ذكره قبل ذلك.

المسألة الثانية هي التغاضي عن جميع جوانب الاختلاف التي ذكرها في مختلف آثاره الفكريّة والتي على أساسها كتب رسالةً إلى شخصٍ مجهولٍ أشار فيها باقتضابٍ وغموضٍ إلى مختلف أنواع الارتباط المحتملة بين الوجود والماهيّة، واستنادًا إلى ذلك ادّعى جيلسون أنّ ديكارت من منطلق اعتقاده بكون الاختلاف بين الوجود والماهيّة عقليًّا وليس حقيقيًا، فقد تجاهل المعنى الواقعيّ للوجود واقتصر في آرائه على معناه اللفظيّ[5].

لقد اعتمدنا في هذه المقالة على مدوّنات ديكارت التي أشار فيها إلى مسألة الاختلاف بين الوجود والماهيّة، وآراؤه في هذا الصعيد مشتّتة وغامضة بنحوٍ ما، وقد استنتجنا منها رؤيته الكلّيّة بالنسبة إلى هذا الموضوع، وأضحنا مختلف أنواع الارتباط المحتمل بينهما وفق آرائه، ثمّ أشرنا إلى حصيلة الاختلاف الحقيقيّ بينهما real distinction بشكلٍ استنتاجيّ، كما سلّطنا الضوء على رأيه الذي أكّد فيه على حقيقة الوجود الذي وصفه بالحقيقة الصوريّة، وفي هذا السياق ذكرنا النقد الوارد عليه ونقاط الخلل فيه التي أسفرت عن حدوث خلل لا يمكن التغاضي عنه في منظومته الفكريّة.

الحقيقة أنّ معظم الإشكاليّات التي ترد على الآراء الميتافيزيقيّة لهذا الفيلسوف ناشئة من اعتقاده بثنائيّة الوجود -الوجود المزدوج-؛ لأنّ آراءه ونظريّاته متقوّمة من أساسها على معنى واحدٍ فحسب، حيث إنّ المعيار الذي افترضه لمسألة التصوّر والذي وضّح معالمه ضمن آرائه التي حاول فيها التشكيك بهذه المسألة إلى جانب أسلوبه الفكريّ الذي يتقوّم بضرورة اتّباع تسلسل الأدلّة وليس ظهور الأشياء، لا يتناغمان مع فكرة أنّ الحقيقة الصوريّة ذاتيّة المضمون، ومن ثمّ تعدّ عقبةً أمام القول بكون التصوّر أمرًا ذاتيًّا كما ادّعى؛ لذا لا نبالغ لو قلنا إنّه أخفق في بيان حقيقة الذات الإلهيّة وفي بيان كلّ أمرٍ تصوّريّ[6].

صحيحٌ أنّ ديكارت ذكر في أحد مؤلّفاته أنّ الوجود في غاية البداهة ولا ينبغي السعي لتعريفه،[7] وقال أيضًا إنّه محمولٌ وصفةٌ[8]، إلا أنّ هذين الرأيين لا يمكن اعتبارهما دليلًا على رأيه النهائيّ في تفسير مفهوم الوجود الذي أشار إليه ضمن ثلاث عبارات شهيرة مأثورة عنه، وهي: أنا موجود، الله موجود، المادّة موجودة. أضف إلى ذلك أنّه من منطلق اعتماده على مبدأ العلّيّة في استدلالاته ادّعى وجود مؤشّرٍ يدلّ على ارتباط عضويّ بين الحقيقة الذهنيّة والحقيقة الصوريّة في عالم الخارج، لكنّه مع ذلك لم يتمكّن من الاستدلال على وجود ارتباط بين هذا المعنى من الوجود مع المعنى الذي يكون فيه الوجود تصوّريًّا، كما لم يستدلّ بدقّة على طبيعة الارتباط بين حالة الفكر التي تكتنف الإنسان وبين التصوّرات الذهنيّة التي تتبلور خلال عمليّة التفكير؛ وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه لم يهمل هذا الموضوع أو يتجاهله، بل السبب في ذلك يعود إلى نهجه الفلسفيّ، فالمبادئ الفلسفيّة التي تبنّاها لا تسمح له بأن يسلّط الضوء بدقّة على هذا الموضوع من جميع جوانبه، الأمر الذي جعله عرضةً للكثير من النقد مثل مسألة الدَّور المنطقيّ الذي عُرف بالدَّور الديكارتيّ والإشكاليّات التي طرحت على البرهان الذي تبنّاه لإثبات الوجود.

وأمّا أهمّ غموضٍ في منظومته الفكريّة فهو يتمثّل في تخلّيه فجأةً عن فحوى أطروحته المعروفة الكوجيتو[9] Cogito, ergo sum حينما اعتبر الكوجيتو وعالم الوجود شيئًا واحدًا، في حين أنّنا نستشفّ من آرائه والبراهين التي ساقها أنّ محور البحث يدور حول مسألة تصوّر الأشياء والمفاهيم الإدراكيّة ولا ارتباط للموضوع بحقيقة الأشياء في عالم الخارج -خارج نطاق التصوّر الذهنيّ-؛ لذا أسفرت هذه الرؤية المتداخلة عن حدوث غموضٍ كبيرٍ بالنسبة إلى معنى الوجود في منظومته الفكريّة، وبما أنّه فيلسوف كان من الواجب عليه تسليط الضوء على هذا الموضوع وبيان مختلف تفاصيله من منطلق اقتضاء الفكر الفلسفيّ ذلك.

المشكلة الأساسيّة هنا لا تكمن في الحديث عن حقيقة الوجود في عالم الخارج -الوجود غير الذهنيّ- بل تكمن في الأسلوب الذي اتّبعه واستدلّ من خلال على ضرورة صياغة الحقائق الخارجيّة في رحاب الفهم الصريح الذي يمكن للإنسان على ضوئه التمييز بين الأشياء وبين ما يرتبط بها من تصوّرات ذهنيّة، في حين أنّ مفهوم الحقيقة برأيه موجود في الكوجيتو قبل طروء حالة التصوّر على ذهن الإنسان؛ مثل تصوّر وجود الله تعالى، فحسب رأيه لا يمكننا معرفة حقيقة ذاته المباركة على الإطلاق ضمن تصوّراتنا الذهنيّة، لكونها مجرّد مؤشّر على الحقيقة الصوريّة له؛ لذا من المستحيل امتلاك صورة خاصّة به تميّزه عن غيره[10].

لا نهدف في هذه المقالة إلى بيان طبيعة النقد الذي وجهه إتيان جيلسون إلى آراء رينيه ديكارت، بل هدفنا هو تسليط الضوء على تفسير جيلسون الذي حاول فيه حلّ عقدة غموض رأي ديكارت بخصوص مسألة الاختلاف بين الوجود والماهيّة، حيث طرح معنى آخر للوجود الديكارتيّ، الأمر الذي أسفر عن حدوث غموضٍ أكثر وازدواجيّة بالنسبة إلى رأي ديكارت بخصوص مسألة الوجود ومن ثمّ تسبّب بطرح كثير من الإشكاليّات على صعيد تفسير نظريّاته.

فضلًا عن ذلك لم نتطرّق إلى الحديث عن طبيعة الارتباط بين الوجود والماهيّة برأي جيلسون الذي اعتبر الوجود أمرًا خارجيًّا -غير ذهنيّ- ولم نتطرّق أيضًا إلى تفاصيل رأي ديكارت القائل بكون الوجود عبارة عن حقيقة صوريّة؛ لأنّ هذا موضوع آخر وبحاجة إلى دراسة مستقلّة، ومن هذا المنطلق نرى من الأنسب أوّلًا الإشارة بدقّةٍ إلى المصادر الثلاثة الأساسيّة التي اعتمد عليها جيلسون لبيان أوجه الاختلاف بين الوجود والماهيّة برأي ديكارت.

أوّلًا: أنواع الاختلاف بين الوجود والماهيّة على ضوء الإجابة عن أوّل إشكاليّات تأمّلات ديكارت

أشار الفيلسوف يوهان كيتر (Johan De Kater Johannes Caterus) ضمن الإشكاليّات الأولى التي طرحها على آراء رينيه ديكارت في نهاية بحثه الذي نقض فيه الاختلاف الحقيقيّ بين النفس والبدن والذي ذكره ديكارت في تأمّله الخامس إلى الاختلاف الصوريّ (formal distinction) وفق المفهوم الذي تبنّاه الفيلسوف الأسكتلنديّ دانز سكوت (Duns Scotus)، وذلك لأجل بيان سقم رأي ديكارت وإثبات وجود اختلافٍ بين النفس والبدن، لكنّه مع ذلك لم يعتبر هذا الاختلاف حقيقيًّا؛ إذ بإمكاننا تصوّر شيئين مختلفين عن بعضهما في عالم الذهن فقط إلى جانب عدم الاعتقاد بوجود اختلاف بينهما في عالم الخارج؛ وهذا الرأي يتعارض مع استدلال ديكارت في تأمّله الخامس، فهو يعتقد بأنّنا إذا استطعنا التمييز بين أمرين بوضوحٍ ودون أيّ غموضٍ فهما في الحقيقة منفصلان عن بعضهما في عالم الخارج وكلّ واحدٍ منهما موجودٌ على حدة من منطلق قدرة الله عزّ وجلّ على خلق أشياء مستقلّة عن بعضها[11]؛ وهذا هو أوّل موضوع طرحه ديكارت بخصوص البحث عن الاختلاف المشار إليه، حيث سعى من خلاله إلى الردّ على يوهان كيتر وبيان آرائه حول مختلف أنواع الاختلاف التي يعتقد بوجودها، فقد أكّد على أنّ الاختلاف الصوريّ الذي نسبه كيتر إلى دانز سكوت في حقيقته اختلاف بين شيئين غير مكتملين؛ لذا فهو مجرّد اختلافٍ في الحالة، لأنّ الاختلاف في الصورة والحالة ليسا مثل الاختلاف الواقعيّ الذي يطرأ على أمرين غير متكاملين.

يقصد ديكارت من الكائن الكامل (complete being) أو الكائن في ذاته (ens per se) الجوهر وليس شيئًا آخر على الإطلاق[12]، وبما أنّه في التأمّل الخامس أثبت كون النفس والبدن جوهرين وكلّ واحدٍ منهما كامل في حدّ ذاته، فقد استنتج إمكانيّة طرح صورة مستقلّة لكلٍّ منهما تختلف عن صورة الآخر بالكامل، ثمّ على أساس هذه الصورة الواضحة والمختلفة بالإمكان إيجاد أشياء مختلفة ممّا يعني قدرة الله على خلق أشياء مختلفة، أي أنّه قادر على إيجاد اختلاف بين الأشياء، ونظرًا لكونه تعالى قادرًا محضًا وحقيقةً مطلقةً، فهو يمتلك القدرة على فعل كلّ شيء، وهذا الأمر دليلٌ على عدم وجود اختلافٍ حقيقيّ بين النفس والبدن.

الركيزة الأساسيّة التي استند إليها ديكارت في هذا المبحث هو اعتقاده بوجود نوعين من الاختلاف بين النفس والبدن، أحدهما اختلاف بين شيئين متكاملين وهو حقيقيّ، والآخر اختلاف بين شيئين غير متكاملين وهو صوريّ أو اختلاف في الحالة.

المثال الذي ذكره ديكارت لبيان طبيعة الاختلاف الصوريّ هو في الواقع مثال على الاختلاف بين الشكل والحركة، فعلى الرغم من اعتقاده بإمكانيّة تصّور كلّ واحدٍ منهما على حدة وبشكل مستقلّ عن الآخر، لكن لا الحركة يمكن أن تنفكّ عن المتحرّك ولا الشكل يمكن أن ينفكّ عن ذي الشكل؛ ناهيك عن عدم إمكانيّة تصوّر شيء متحرّك دون شكلٍ أو تصوّر شيء ذي شكل غير متحرّك، بينما الاختلاف بين النفس والبدن في واقعه اختلاف بين جوهرين، ومن هذا المنطلق فهو ليس من سنخ الاختلاف في الصورة أو الحالة.

ديكارت أشار ضمن رأيه هذا إلى نوعين من الاختلاف، حيث أقحم اختلاف الصورة المطروحة من قبل دانز سكوت في اختلاف الحالة واعتبره جزءًا منه.

ثانيًا: أنواع الاختلافات المذكورة في كتاب مبادئ الفلسفة

في المقاطع 60 إلى 63 من كتاب مبادئ الفلسفة طرح ديكارت مبحثًا تفصيليًّا بخصوص مختلف أنواع الاختلاف، ففي المقطع رقم 60 ذكر ثلاثة أنواع من الاختلاف هي ما يلي:

1 ) اختلاف حقيقيّ

2 ) اختلاف الحالة

3 ) اختلاف مفهوميّ (عقليّ)

الاختلاف الحقيقيّ برأيه يقتصر على النسبة بين جوهرين أو عدّة جواهر، ويمكن إدراكه عندما يتسنّى لنا تصوّر أمرين واضحين ومستقلّين عن بعضهما.

وفي المقطع رقم 61 وضّح المقصود من الاختلاف في الحالة مؤكّدًا على حدوثه بنحوين، الأوّل يتمثّل في اختلاف حالةٍ ضمن المعنى الذي تختصّ به في جوهر وجودها modes properly so called وهذا الاختلاف ليس في المعنى العامّ للحالة والذي يشمل الصفة أيضًا، والثاني هو الاختلاف بين حالتين للجوهر الواحد عن بعضهما.

النوع الأوّل من الاختلاف لا يمكن إدراكه إلّا إذا تصوّرنا جوهرًا في معزلٍ عن حالته، لكن لا يمكن تصوّر حالةٍ دون جوهرها كما لو قلنا بوجود اختلافٍ بين الذاكرة والنفس أو بين الشكل والجسم المادّي؛ والنوع الثاني لا ندركه إلا عندما يتاح لنا تصوّر حالتين مستقلّتين عن بعضهما دون تصوّر استقلالهما عن جوهريهما مثل الحجر المكعّب المتحرّك، إذ بإمكاننا تصوّر التكعيب بشكلٍ مستقلٍّ عن الحركة لكن لا يمكننا تصوّر أيٍّ منهما دون تصوّر الحجر بذاته.

تجدر الإشارة هنا إلى قول ديكارت الآتي: لو أخذنا بنظر الاعتبار اختلافًا بين حالتين غير مرتبطتين بجوهرٍ واحدٍ، فهذا الاختلاف لا يعدّ حقيقيًّا من منطلق عدم إمكانيّة تصوّر أيّ حالة في معزلٍ عن جوهرها - على نحو الاستقلال التامّ - ناهيك عن أنّ النسبة بين الجواهر قوامها اختلاف حقيقيّ، ممّا يعني أنّها تختلف عن بعضها اختلافًا حقيقيًّا أيضًا وفي هذا السياق أكّد على أنّ الاختلاف لا يكمن في الحالات فحسب.

في المقطع 62 راح يسلّط الضوء على الاختلاف المفهوميّ أو العقليّ ووضّح معالمه، وهو برأيه اختلافٌ بين الجوهر وبعض الصفات التي تُعرض عليه، إذ لا يمكننا تصوّره دونها، ولا يمكن فهمه عقليًّا بمعزلٍ عنها، وهذا الاختلاف طبعًا على غرار الاختلاف في الحالة، إذ من الممكن أن يحدث بين اثنتين من هذه الصفات مع جوهرهما، ونحن ندرك هذا النوع من الاختلاف حينما نعجز عن امتلاك تصوّر واضح ومستقلّ للجوهر على ضوء ما لدينا من تصوّرات ذهنيّة، فعلى سبيل المثال لا يمكننا تصوّر جوهرٍ لا وجود له، وحينها نعجز عن امتلاك فهم واضح ومستقلّ لصفتين مختصّتين بجوهرٍ واحدٍ كلًّا على حدة، إذ لا يوجد جوهر مستقلّ عن بقائه ودوام وجوده، فكلّ جوهرٍ لا بدّ أن يكون أزليًّا من حيث كونه جوهرًا؛ لذا يكون الاختلاف في هذه الحالة بين الوجود والبقاء مفهوميًّا.

وفي نهاية هذا المقطع قال إنّه يعلم أنّ الإجابات الأولى عن الاعتراضات المطروحة بخصوص التقسيم تتّسم بالازدواجيّة، ولم يذكر فيها أوجه اختلافات الحالات والمفاهيم، وقد برّر هذا الأمر بعدم وجود ضرورة لتفصيل الموضوع وأكّد على أنّه لم يقصد من وراء ما ذكر بيان الاختلاف بين النفس والبدن موضحًا أنّه أراد مجرّد إثبات كون الاختلاف بينهما حقيقيًّا وليس افتراضيًّا.

نستشفّ ممّا ذكر أنّ ديكارت ضمن بيانه أنواع الاختلاف اعتمد على مصطلحات تخصّصيّة تعدّ ضروريّةً لامتلاك فهم صائب بخصوص تقسيمه لهذه الأنواع، ومن هذا المنطلق فالضرورة تقتضي بيان مداليل كافّة المصطلحات والمفاهيم التي تدلّ عليها؛ لذا لا نجد بدًّا من تأجيل البحث حول المصدر الثالث للاختلاف بغية بيان معاني المصطلحات المشار إليها؛ لأنّ توضيح المصدر الثالث مرهون بمعرفة معانيها بشكل دقيق.

ديكارت ضمن مقدّمة النسخة الفرنسيّة من كتاب مبادئ الفلسفة[13] قال إنّ الأسلاف أخفقوا لكونهم لم يستهلّوا مباحثهم بالمبادئ والعلل الأساسيّة، نظرًا لاقتضاء ظروفهم الزمانيّة وإمكانيّاتهم العلميّة ذلك؛ إذ لم يكن لديهم إلمامٌ علميّ كافٍ، ومن ناحيةٍ أخرى فالفلسفة هي العلم الذي يجب أن يتطرّق إلى بيان هذه المبادئ والعلل لكونه يسلّط الضوء عليها من حيث كونها ركائز أساسيّة في سائر العلوم؛ لكن في عصرنا الحاضر -والكلام لديكارت- يدركها جميع العلماء والمفكّرين بفضل رواج النزعة التجريبيّة رغم أنّ إدراكها بهذا النحو يعدّ خطئًا كبيرًا.

وفي هذا السياق قال إنّ المبادئ يجب أن تتّسم بميزتين أساسيّتين كما يلي:

1) الوضوح (clearance)

2) إمكانيّة استنتاج سائر القضايا منها (to deduce)

وضوح أحد المبادئ مرهون بقدرته على الرسوخ أمام كلّ شكّ وترديد يطرح بخصوصه، ووجود الإنسان من هذا النوع.

مبدأ وجوديّ أنا كإنسانٍ متواكبٌ مع معيار الصدق والحقيقة ممّا يعني عدم إمكانيّة طروء خطأ ما دمنا نمتلك تصوّرات واضحة يختلف كلّ واحدٍ منها عن الآخر، وقد طبّق ديكارت هذا المبدأ على كافّة مكوّنات الذهن وقوّمها على أساسه ليستنتج الحقائق المكنونة فيها[14]، وعلى هذا الأساس وضّح المقصود من الماهيّات أو ما يسمّى بالتصوّرات البسيطة (simple notions or natures)حيث اعتبر التصوّر البسيط قوامًا أساسيًّا لأفكارنا (basic component of thoughts) وقصده من ذلك أنّ كافّة أفكارنا منبثقة من مفاهيم توصف بأنّها تصوّرات بسيطة، وعلى هذا الأساس بادر إلى تحليل الفكر البشريّ وفق هذا النوع من التصوّرات بهدف إعادة تأهيله من خلال ضمّ التصوّرات إلى جانب بعضها ومن ثمّ طرح أفكار مصونة من الخطأ؛ لأنّ التصوّر البسيط من حيث كونه واضحًا ومختلفًا عن غيره يعدّ مصونًا من الخطأ[15]

بعد ذلك دوّن قائمةً ذكر فيها كافّة التصوّرات البسيطة -المفاهيم الإدراكيّة- (all the objects of perception) وذلك ضمن ثلاثة أنواع أساسيّة هي:

النوع الأوّل: مفاهيم إدراكيّة تسمّى أشياء (things)

النوع الثاني: مفاهيم إدراكيّة تسمّى انفعال الأشياء أو تأثّرها (affections of things)

النوع الثالث: مفاهيم إدراكيّة تسمّى حقائق أزليّة (eternal truths)

وفي هذا السياق أكّد على أنّ الحقائق الأزليّة ليست موجودةً خارج نطاق الذهن؛ لذا نستشفّ من كلامه أنّ النوعين الأوّل والثاني يشيران على أقلّ تقديرٍ إلى حقائق غير ذهنيّة - خارجيّة - رغم وصفه له بكونها مفاهيم إدراكيّة باعتبارها قضايا ذهنيّة.

الجوهر -الأزليّة- (duration) هو أعمّ موضوع سلّط ديكارت الضوء عليه في هذا الصعيد حيث اعتبره شيئًا، كما اعتبر النظم والعدد وأمورًا أخرى مشابهة بصفتها أشياء أيضًا، لكنّه في الحصيلة النهائيّة لتصنيفه استنتج مجموعتين من الأشياء التي يمكن للإنسان إدراكها، أولاها الأشياء الفكريّة المرتبطة بالذهن والتي وصفها بالجوهر الفكريّ وتسمّى قضايا ذهنيّة، وثانيها الأشياء المادّيّة المرتبطة بالجسم والتي وصفها بالجوهر الممتدّ.

الجدير بالذكر هنا أنّ تصنيف ديكارت النهائيّ الذي استدلّ عليه خلص فيه إلى وجود مجموعتين فقط من القضايا المعرفيّة، حصيلته أنّ الجوهر الأزليّ وما شاكله لا يعدّ شيئًا وإنّما أمرًا عامًّا ينسب إلى كلّ ما يوصف بكونه شيئًا، ممّا يعني أنّ القضايا العامّة والمحمولات العامّة كلّها أشياء، حيث ذكرها ضمن الفقرة 56 تحت عنوان «صفة».

بعد ذلك تطرّق إلى مسألة تأثير الأشياء التي هي حالات يرتبط بعضها بالجوهر المادّيّ وبعضها بالجوهر الفكريّ -الذهنيّ- أو أنّ بعضها عبارة عن حالات خاصّة ترتبط بكليهما -المادّي والذهنيّ- كما في وحدة بدن الإنسان، ومثال ذلك الإدراك والإرادة، فهما حالتان مرتبطتان بالجوهر الذهنيّ والمادّي المتمثّل بالشكل والحركة والوضع والقابليّة على التقسيم كالجوع أو الألم؛ إذ كما هو معلوم عندما يشعر الإنسان بالحاجة إلى الطعام أو يتألّم من شيءٍ ما فهو يدرك هذا الأمر ببدنه وفكره في آنٍ واحدٍ[16].

إلى هنا استنتجنا وجود ثلاثة أنواع من القضايا برأي هذا الفيلسوف الغربيّ، حيث يرتبط النوعان الأوّل والثاني بذات الأشياء، بينما النوع الثالث مرتبط بحالات هذه الأشياء، وبيان ذلك كما يـأتي:

النوع الأوّل: الصفات

النوع الثاني: الأشياء المادّية أو الذهنيّة

النوع الثالث: الحالات التي تطرأ على كلّ واحدٍ من هذه الأشياء المادّيّة والذهنيّة، أو الحالات التي تكتنفها على هيئة اتّحاد بين المادّة والفكر.

النوع الثالث يعتبر من القضايا الإدراكيّة وعلى ضوء التقسيم الذي أشرنا إليه يمكن اعبتاره نوعًا رابعًا، باعتبار أنّ هذه القضايا عبارة عن حقائق أزليّة، وقد استدلّ ديكارت عليها بقواعد ومفاهيم منطقيّة أساسيّة، مثل «لا شيء يوجد من لا شيء» و «المفكّر لا يمكن أن يكون معدومًا من الوجود حين تفكيره»، حيث اعتبرها أصولًا متعارفة أو بديهيّة (axiom) أو تصوّرات مشتركة (common notions)، وقال إنّها ليست مجرّد أشياء واقعيّة في عالم الوجود، كما أنّها ليست حالات تكتنف هذه الأشياء، بل هي حقائق أزليّة مكنونة في ذهن الإنسان. وهذه المفاهيم ليست موضوع بحثنا؛ لذا لا نجد ضرورة إلى بيان تفاصيلها هنا، لكن لأجل بيان رؤية ديكارت بخصوص الاختلافات بين الأشياء نرى من اللازم تعريف النوعين الأوّل والثاني من المفاهيم الإدراكيّة بدقّةٍ لكون الاختلافات كامنة في تفاصيلها.

الجوهو هو أوّل تصوّر في مضمار التصوّرات العامّة الثابتة، حيث يُحمل على الأشياء بغضّ النظر عن كونها مادّية أو ذهنيّة، فهو يعتقد بأنّ تصوّرنا للجوهر يعني تصوّرنا لشيءٍ غير مرتبطٍ بشيءٍ آخر على الإطلاق، وعلى أساس هذا التعريف لدينا جوهر واحد فقط هو الله تعالى بصفته جوهرًا ذهنيًّا غير مخلوقٍ، في حين أنّ الأشياء الأخرى التي نطلق عليها عنوان جوهر يتقوّم وجودها بوجوده تعالى، أي أنّ استقلال وجودها في الواقع متقوّم بوجوده تبارك شأنه.

استدلّ ديكارت على ضوء هذا الاستنتاج بأنّ مفهوم الجوهر الذي ينسب إلى الله تعالى ومفهومه الذي ينسب إلى غيره ليسا مشتركين معنويّين، بل لكلّ واحد منهما معناه المستقلّ رغم وجود اشتراك معنويّ بين الجوهرين المادّي والذهنيّ، وهما بطبيعة الحال جوهران مخلوقان.

بعد ذلك تطرّق ديكارت إلى الحديث عن الآثار التي تترتّب على الأشياء في عالم الوجود، مستنتجًا أنّ الحالة (mode) بمعناها الخاصّ حينما تستخدم في مقابل النوعيّة -الكيفيّة- (quality)والصفة (attribute) عبارة عن أثرٍ للجوهر، في حين أنّ الصفات لا ترتبط مطلقًا بالتأثير الجوهريّ؛ لكونها تتبلور في ذهن الإنسان على هيئة تصوّرات ثابتة للأشياء، ومن ناحيةٍ أخرى اعتبر الكيفيّة نتيجةً للتأثّر بالجوهر، وهذا الأمر دليل على تعيّن الجوهر بطبيعته الخاصّة بحيث يمنح الصورة شكلها بعد أن تتأثّر به[17].

ثمّ واصل بحثه مشيرًا إلى مسألة الوجود قائلًا: كلّ مخلوقٍ في عالم الوجود لا يتأثّر بغيره فهو ليس حالةً ولا كيفيّةً، بل صفة على غرار الوجود الأزليّ. فهو يعتقد بأنّ الوجود الأزليّ عبارة عن صفة ثابتة لا تغيير لها ولا تتأثّر بأيّ شيءٍ آخر، والملفت للنظر هنا أنّه ذكر الأزليّات ضمن النوع الأوّل من المفاهيم الإدراكيّة -الذهنيّة- ولم يشر حينها إلى الوجود بذاته، وإنّما أشار إلى الجوهر، وحسب تعريفه لهذا الجوهر فهو عبارة عن وجود مستقلّ؛ لذا يمكن اعتباره ذات الوجود الذي يُنسب إلى الأشياء وليس الحالات.

الجدير بالذكر هنا أنّ الفيلسوف جين ماريون أكّد ضمن استدلالاته الفلسفيّة على كون الوجود والجوهر أمرًا واحدًا[18]، وسوف نتطرّق إلى بيان تفاصيل هذا الرأي في ختام البحث.

ذكر ديكارت اختلافًا آخر بين الصفات حينما اعتبرها كامنةً إمّا في الذهن أو في الأشياء، وفي هذا السياق استدلّ بمسألة الزمان (time)، حيث اعتبره مختلفًا عن الوجود الأزليّ، لكونه مجرّد صفة ذهنيّة متحصّلة من صفة أزليّة موجودة في ذات الأشياء؛ وذلك لأنّ شيئين بإمكانهما قطع مسافتين مختلفتين في زمانٍ واحدٍ، وعلى هذا الأساس فالزمان ليس وصفًا لهما لكونه ثابتًا؛ والحقيقة أنّ الوجود الأزليّ لا ارتباط له بمقدار الحركة والمسافة التي يقطعها الشيء المتحرّك، ويعدّ وصفًا لكلا الشيئين الساكن والمتحرّك، وعندما ننسب أزليّة جميع الأشياء إلى أزليّة أعظم شيءٍ فسوف نحصل على الزمان[19].

بناءً على ذلك إذا قلنا إنّ صفة الشيء تكون بالشكل المذكور بالنسبة إلى صفة الفكر، بإمكاننا القول بثبوت هكذا نسبة إزاء الوجود، مثل صفة الشيء والوجود وصفة الفكر أيضًا. ديكارت تبنّى هذا الرأي وأشار إلى هذه النسبة ضمن التأمّل الثالث في النسبة العلّيّة بين الصورة الحقيقيّة أو الحقيقة الصوريّة (formal reality) والتصوّر الذهنيّ أو الحقيقة الذهنيّة (objective reality) واعتبر كلّ حقيقة ذهنيّة ترجع في نهاية المطاف إلى حقيقة صوريّة، وهذا الأمر سنسلّط الضوء عليه ضمن نقدنا لآرائه لاحقًا[20].

ومن المباحث الأخرى التي ذكرها تبعًا لما أشرنا إليه: لو أنّ العدد أو الأمر الكلّيّ اعتبرناه شيئًا انتزاعيًّا أو عامًّا من منطلق كونه غير مخلوق، ففي هذه الحالة يصبح على غرار الزمان من حيث كونه ليس مجرّد حالة أو صفة ذهنيّة، وصفات الأشياء بطبيعة الحال ليست مخلوقةً.

ثمّ وضّح كيفية حدوث العدد والأمر الكلّيّ مثلما وضّح كيفيّة حدوث الزمان من الوجود الأزليّ، وأشار إلى حقيقة العدد لإثبات أنّه صفة ذهنيّة وذكر كيف ينتج من الأشياء، والرأي الذي تبنّاه في هذا السياق فحواه أنّ العدد ينشأ من الاختلاف بين الأشياء، وعلى هذا الأساس أشار في المقطع رقم 60 من كتاب مبادئ الفلسفة إلى مسألة الاختلاف بين الأعداد مؤكّدًا على أنّ السبب الأساسيّ الذي دعاه إلى طرح مسألة الاختلاف هذه يعود إلى ضرورة بيان كيفيّة نشوء الصفة الفكريّة والانتزاعيّة من العدد على ضوء الاختلاف بين الأشياء. وبعبارةٍ أخرى فهذه الصفات الكامنة في الفكر كلّها منبثقة من الصفات الكامنة في ذات الأشياء، والقصد من ذكر الأشياء هنا هو بيان كونها مستقلّة عن تصوّرها الذي هو في الواقع أمر ذهنيّ يشير إلى ما هو موجود في عالم الخارج.

ثالثًا: الاختلاف بين الوجود والماهيّة وفق ما ذكر في رسالة ديكارت سة 1645م أو 1646 إلى شخصٍ مجهولٍ

استهلّ رينيه ديكارت هذه الرسالة ببيان الاختلافٍ الدقيقٍ بين الحالة بمعناها الخاصّ وبين الصفة، وقد أشرنا إليه آنفًا، حيث قال: الشكل والحركة للجوهر الجسمانيّ عبارة عن حالتين بالمعنى الخاصّ؛ لأنّ الجسم بإمكانه القيام بحركة خاصّة والاتّصاف بشكلٍ خاصّ في زمان معيّن، وله القابليّة في زمان آخر على أن يتّصف بحالة السكون وبشكلٍ آخر، وهاتان الحالتان بكلّ تأكيد لا يمكن أن يتبلورا على أرض الواقع دون جسم؛ وكذا هو الأمر بالنسبة إلى حالات الحبّ والبغض والرغبة والشكّ، فهي مرتبطة بالذهن الذي يعدّ جوهرًا فكريًّا، بينما بعض الأمور الأخرى مثل الوجود والأزليّة والحجم size والعدد والأمور الكلّيّة بأسرها (universals) ليست من سنخ الحالة بالمعنى الخاصّ، إذ تقتضي الإشارة إليها بالاعتماد على مصطلح أكثر عموميّةً يتمثّل بالصفة أو حالة الفكر (mode of thinking) كما هو معلوم[21].

الصفات عبارة عن حالاتٍ لا يمكن للشيء -الموصوف- أن يستقلّ عنها وفي الوقت ذاته هي أيضًا لا يمكن أن توجد بشكل مستقلّ عنه.

الاختلاف الآخر الذي ذكره ديكارت كائنٌ بين حالات الأشياء بذاتها (modes of things themselves) وفي هذا السياق أكّد على أنّ الحالات الفكريّة تختلف بهذا النحو ذاتيًّا، فحالة ذات الشيء هي من سنخ الحالات من النوع الخاصّ، والصفة هي حالة التفكير.

نستشفّ ممّا ذكر أنّ حالة ذات الشيء - الحالة بمعناها الخاصّ - تشمل حالات الأشياء المادّيّة والذهنيّة على حدٍّ سواء، وإثر ذلك يجب القول إنّ الحالات الخاصّة التي تتمثّل في الشكّ أو الحبّ هي في الواقع عبارة عن شيء ذهنيّ وليست حالة ذهنيّة، في حين أنّ الوجود عبارة عن حالة ذهنيّة تكتنفنا إزاء الأشياء، فإذا أخذنا الشيء بعين الاعتبار من حيث وجوده خارج نطاق الذهن، فهو في الواقع ليس مستقلًّا عنه، لكن إذا أخذناه بعين الاعتبار في باطن الذهن فهو مستقلّ عنه. وقد ذكر ديكارت مثالًا لبيان هذا الاختلاف، والحقّ أنّ مثاله يفي بالغرض ويوضّح الموضوع بشكل مثاليّ، وهو كما يأتي: حينما ننتزع ماهيّة الشيء ونسلّط الضوء عليه بغضّ النظر عن كونه موجودًا أم معدومًا، فسوف ندركه بصورةٍ معيّنةٍ، وحينما نسلّط الضوء عليه من حيث كونه ماهيّة موجودةً، فسوف ندركه بصورةٍ أخرى، في حين أنّ ذات الشيء لا يمكن أن توجد خارج الذهن دون وجوده أو بمعزلٍ عن صفاته الأخرى، وبعبارة أخرى فالصفات الموجودة في الأشياء لا يمكن أن توجد بشكل مستقلّ عن جوهرها أو ماهيّتها[22]، بينما الصفات الكامنة في الذهن يمكن أن توجد بشكل مستقلّ، وأمّا الحالات بمعناها الدقيق، فهي من الممكن أن تنفكّ عن الجوهر أو الماهيّة سواء أكانت في الذهن أم في الأشياء.

يعتقد ديكارت بأنّ الإشكاليّة ترِد على هذا الموضوع عندما نتغاضى عن الاختلاف الكائن بين الأشياء الموجودة خارج نطاق فكرنا والأفكار المرتبطة بها في ذهننا، إذ في هذه الحالة حينما نفكّر بماهيّة المثلّث وفي الحين ذاته نغضّ النظر عن نسبته إلى الوجود والعدم بحيث ننظر إليه ذهنيًّا بما هو مثلّث فحسب، فهاتان الحالتان الفكريّتان مختلفتان عن بعضهما من حيث المعنى الخاصّ لكلّ واحدة منهما باعتبارهما كليهما حالتين فكريّتين وتدلّان على معنيين (representational content (objective reality[23]، لكن إذا نظرنا إلى المثلّث بصفته شيئًا موجودًا خارج نطاق الذهن، ففي هذه الحالة لا يمكن ادّعاء وجود أيّ اختلاف بينه وبين وجوده[24].

بعد هذا المبحث تطرّق ديكارت إلى تقسيمه النهائيّ بالنسبة إلى أنواع الاختلاف، وفي هذا السياق أكّد على وجود ثلاثة أنواع هي:

النوع الأوّل: اختلاف حقيقيّ بين جوهرين

النوع الثاني: اختلاف شكليّ بين الحالة وجوهرها

النوع الثالث: اختلاف صوْريّ بين الصفات

الجدير بالذكر هنا أنّ النوع الثالث من الاختلافات يمكن اعتباره كالنوع الثاني من حيث كونه شكليًّا (modal distinction) وقد أشار إلى هذا الأمر في آخر مبحثٍ ضمن الإجابات التي ذكرها بخصوص الإشكاليّات الأولى، حيث اعتبر الاختلاف الشكليّ ينطبق على النوعين الثاني والثالث على حدٍّ سواء.

وأضاف في هذا السياق أنّ الاختلاف الثالث المذكور في المقطع رقم 60 من كتاب مبادئ الفلسفة يسمّى اختلافًا مفهوميًّا، وفحواه أنّ الاختلاف الذي يقرّه العقل وفقًا لأسس واقعيّة (reason ratiocinatae) ليس على غرار الاختلاف الذي يقرّه وفق أسس غير واقعيّة (reason ratiocinantis)؛ لذلك لم يرتضِ به نظرًا لعدم إمكانيّة امتلاك أيّ تصوّر دون الارتكاز إلى الواقع. كذلك قال بإمكاننا إطلاق عنوان مشترك بين الاختلافين الثاني والثالث باعتبارهما يمثّلان اختلافًا عقليًّا مرتكزًا على الواقع، وهذا الرأي جعل تقسيمه في غاية التعقيد لكونه أطلق عنوان «الاختلاف الحقيقيّ» على ثلاثة أنواع من الاختلافات المتقوّمة على أسس واقعيّة واعتبرها في مقابل ما هو متقوّم على أسس غير واقعيّة، وبناءً على هذا الكلام يصبح الاختلاف بين الوجود والماهيّة من سنخ الاختلافات الواقعيّة التي افترضها.

وفي نهاية بحثه ذكر معنى آخر للاختلاف بين الوجود والماهيّة مغزاه أنّنا لو قصدنا من الماهيّة شيئًا كامنًا بشكلٍ ذهنيّ في عالم العقل، وإذا قصدنا من الوجود هذا الشي بذاته لكن من جهته الخارجة عن نطاق العقل، ففي هذه الحالة ينشأ اختلاف واقعيّ[25].

رابعًا: رؤية شاملة على مسألة الاختلاف بين الوجود والماهيّة في رحاب ثلاثة نصوص

الخطوة الأولى في هذا المبحث هي إدرج كافّة الآراء والتعاريف التي ذكرها رينيه ديكارت لكلّ واحد من أوجه الاختلاف المشار إليها في النصوص الثلاثة السابقة -التأمّلات ومبادئ الفلسفة والرسالة إلى شخصٍ مجهولٍ- لأجل بيان المقصود من الاختلاف بين الوجود والماهيّة في كلّ واحدٍ منها وتمييزه عن الآخر، وفي الخطوة اللاحقة سنذكر المعنى الشامل لمفهوم الوجود وطبيعة ارتباطه بالماهيّة حسب آراء هذا الفيلسوف الغربيّ.

هنا مسألة جديرة بالاهتمام ولا ينبغي التغاضي عنها على الإطلاق لكونها تعكس البنية الأساسيّة لتقسيم الاختلافات من وجهة نظر ديكارت، حيث أشار إليها بنفسه ضمن كتاب مبادئ الفلسفة، وهي أنّ كافّة الاختلافات يجب أن تحدث على أساس تصوّرات واضحة ومتباينة عن بعضها إلى جانب وجود نحوٍ من الارتباط فيما بينها، لذا كلّ تعريف ذكره بخصوص الاختلاف فحواه أنّ كلّ اختلاف كائنٌ بين شتّى أنواع التصوّرات باستثناء حالة واحدة سوف نذكرها فيما بعد؛ ممّا يعني أنّ المعيار الأساسيّ للتصوّر يعدّ معيارًا أيضًا للاختلافات كافّةً[26].

1) الاختلاف العقليّ غير الواقعيّ (reason ratiocinantis)

أحد الاختلافات عقليّ لكنّه غير مرتكز على أسس واقعيّة، وبما أنّ ديكارت لا يعتقد بوجود أيّ أمرٍ ذهنيّ -فكريّ- لا يستند إلى الواقع؛ لذا رفض هذا النوع من الاختلاف، فلو أردنا بيان النسبة بين الوجود والماهيّة على أساس هذا الاختلاف المفترض وعلى ضوء آراء ديكارت، فلا بدّ من الرجوع إلى ما قاله بهذا الخصوص: لا يوجد أيّ اختلاف بين الوجود والماهيّة بالنسبة إلى الموجود خارج الذهن.

بناءً على هذا الكلام يمكن تعريف الوجود بأنّه شيء كائن خارج نطاق الذهن، ولا يعتبر أمرًا تصوّريًّا على الإطلاق، ممّا يعني أنّ حالة الفكر لدى الإنسان لا ارتباط لها بهذا الوجود، ومن ثمّ لا محيص من القول بكونه غير منفصل عن الماهيّة، بل هو ذاتها وهي ذاته؛ وهذا هو معنى صفة الوجود الكائنة في الشيء وليس في الفكر.

2) الاختلاف العقليّ الواقعيّ (reason ratiocinatae)

هذا النوع من الاختلاف يقرّه العقل بالنسبة إلى أسس واقعيّة وقد صنّفه ديكارت ضمن ثلاثة أنواع أكّد على وجودها، حيث تنشأ برأيه بين المفاهيم الإدراكيّة، وعلى هذا الأساس يكون كلا طرفي الاختلاف أمرًا تصوّريًّا، أي أنّهما كامنان في الذهن باستثناء حالة واحدة يعتبر أحد أطرافها فقط أمرًا تصوّريًّا.

هذا الاختلاف يتبلور في باطن المفاهيم الذهنيّة للتصوّرات (representational content) ممّا يعني أنّ مداليلها المفهوميّة ذات ارتباطٍ بالحقائق الذهنيّة التي تحكي عنها (objective reality)، وفي هذه الحالة فالحقيقة الذهنيّة لكلّ تصوّر عبارة عن مرآة تحكي عنه، بحيث تشير في رحابه إلى أمرٍ يتجاوز نطاقها، وعلى هذا الأساس يتحقّق ارتباط بينها وبين عالم الواقع - فيما وراء الذهن - ومن ثمّ يتمّ تمييز كلّ تصوّر عن الآخر، ولو أنّ هذه الحقيقة الذهنيّة لم تتمكّن من إيجاد اختلاف بين التصوّرات، سوف تصبح كافّة التصوّرات متكافئة مع بعضها وكأنّها شيء واحد من جهة كونها حالات فكريّة فحسب[27].

أ - الاختلاف الواقعيّ

الاختلاف الواقعيّ عبارة عن اختلافٍ بين موجودين كاملين، والمقصود من كمالهما هنا أنّ كليهما جوهران، وعلى أساس هذا النوع من الاختلاف يمكن اعتبار كلّ اختلافٍ يحدث بين حالتين لجوهرين واقعيًّا، لأنّنا نقوّمه على أساس هذين الجوهرين وليس الحالتين؛ والمرتكز الأساس في هذا النوع من الاختلاف هو التصوّر الواضح والمستقلّ لكلّ جوهرٍ على حدة بمعزل عن الجوهر الآخر، وذلك باعتباره شيئًا منفصلًا عنه وذا طابع مختصّ به على نحو الاستقلال.

في هذا السياق أيضًا أكّد ديكارت على وجود ضرب من الاختلاف بين الوجود والماهيّة يعتبر النوع الاختلافيّ الوحيد الذي يكون أحد طرفيه تصوّريًّا ذهنيًّا والطرف الآخر صورةً واقعيّةً (formal reality) كامنةً خارج نطاق الذهن؛ وعلى هذا الأساس ووفقًا لما ذكره في الرسالة التي أشرنا إليها قبل ذلك، فالاختلاف الحقيقيّ بين الوجود والماهيّة يتحقّق هنا لكون الماهيّة تعدّ أحد طرفي الاختلاف في هذه الحالة، وذلك باعتبارها وجودًا خارجًا عن نطاق الذهن، وبصفتها وجودًا تصوريًّا كامنًا في باطن الذهن في الوقت نفسه.

هذه النسبة بين الوجود والماهيّة اعتبرها إتيان جيلسون من جملة الأمور التي غفل عنها ديكارت، إلّا أنّ الأمر ليس كذلك في الحقيقة لكونه لم يغفل عنها كما لاحظنا؛[28] وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ وليام ويلز أيّد رأي جيلسون على ضوء ادّعائه بأنّ الاختلاف الذي يعتقد به ديكارت بين الوجود والماهيّة عقليّ واقعيّ فحسب[29].

نستشفّ من جملة ما ذُكر أنّ النسبة بين الوجود والماهيّة حسب نظريّات ديكارت تعتبر في الواقع نسبة بين الحقيقة الصوريّة للشيء والحقيقة الذهنيّة لتصوّره، وعلى هذا الأساس فالاختلاف بينهما من شأنه أن يوضّح معالم أحدهما على أقلّ تقديرٍ، حيث ندرك في رحابه وجه اختلاف الماهيّة الذهنيّة عن الوجود وتصوّرها بشكلٍ مستقلّ، ممّا يعني أنّ الاختلاف في هذا المضمار واقعيّ.

ب- الاختلاف من جهةٍ أو في الحالة

الاختلاف الذي وصفه ديكارت بأنّه اختلاف من إحدى جهات الشيء أو في حالته، هو في الحقيقة اختلافٌ بين جوهرٍ وإحدى حالاته، كما أنّه يحدث بين حالتين لجوهرٍ واحدٍ، وعلى أساسه بالإمكان امتلاك تصوّر واضح ومستقلّ بشأن إمكانيّة انفكاك الجوهر عن حالته وعدم إمكانيّة انفكاك الحالة عن جوهرها، أي أنّ الجوهر أصيل وثابت والحالة طارئة وعارضة عليه ولا تعدّ ثابتةً على الإطلاق.

هذا النوع من الاختلاف برأي ديكارت قد يتبلور بشكلٍ خاصّ أيضًا بحيث يصبح قاسمًا مشتركًا بين الاختلاف الواقعيّ والاختلاف الصوريّ أو العقليّ، وقد يتبلور أيضًا بشكلٍ عامّ ليشمل كلا الاختلافين الصوريّ واختلاف الحالة؛ وأمّا المسألة الأساسيّة على صعيد التمييز بين اختلاف الحالة عن الاختلاف الصوريّ، فهي تكمن فيما أكّد عليه ضمن اختلاف الحالة بمعناها الخاصّ عن الجوهر، واختلاف الصفة عن الجوهر، والقاسم المشترك بينهما حسب المعنى العامّ يتمثّل في أنّ كليهما يحكيان عن اختلافٍ في باطن جوهرٍ إزاء حالاته أو صفاته.

في الرسالة التي أشرنا إليها ذكر ديكارت اختلافًا للحالة بالمعنى الخاصّ بين الوجود والماهيّة، واستدلّ عليها بمثال المثلّث، حيث اعتبر أنّ ماهيّة المثلّث الموجود في الذهن وماهيّة المثلّث الموجود في عالم الخارج تتبلوران في الذهن بغضّ النظر عن النسبة إلى الوجود والعدم، فهما حالتان ذهنيّتان -فكريّتان- يرتبط وجود إحداهما وعدم وجود الأخرى بحالة الذهن والتفكير، حيث نعتقد في أفكارنا أنّ إحداهما موجودة والأخرى لا ننسبها إلى الوجود.

ج- الاختلاف المفهوميّ (العقليّ أو الصوريّ)

المعيار في تعريف الاختلاف المفهوميّ هو عدم قدرة الذهن على امتلاك تصوّر واضح ومستقلّ بالنسبة إلى انفكاك الجوهر عن الصفة، وهذا الاختلاف -بين الجوهر والصفة- كائنٌ أيضًا بين صفتين لجوهرٍ واحدٍ وبين صفات الله عزّ وجلّ.

الجدير بالذكر هنا أنّ ديكارت عمّم مسألة الاختلاف العقليّ، ثمّ أدرج اختلاف الحالة ضمنه، والسبب في ذلك يعود إلى عدم كونهما اختلافين واقعيّين، كذلك أكّد على ذات الأمر حينما ردّ على رسالة كاتيروس.

ومن آرائه الأخرى في هذا المضمار وجود اختلافٍ عقليّ بين الوجود والماهيّة على ضوء اعتقاده بكون الوجود يعكس حالة الإنسان الذهنيّة -فكره-؛ لذا فهو صفة عامّة تنطبق على كافّة الأشياء، في حين أنّ الماهيّة برأيه عبارة عن تصوّر شيءٍ مادّيًا كان أو ذهنيًا؛ إذ بإمكاننا تصوّر جوهر ما لكن ليس بمعزلٍ عن وجوده باعتبار أنّه وفقًا لتعريفه عبارة عن وجود مستقلّ، وعلى هذا الأساس يكون الاختلاف بينه وبين الحالة الذهنيّة - حالة الفكر - إزاءه إمّا عقليًّا أو مفهوميًّا أو صوريًّا.

الجدير بالذكر هنا أنّ صفة الوجود حسب هذا النوع من الاختلاف ليست شيئًا موجودًا خارج الذهن، بل عبارة عن حالة ذهنيّة قوامها كيفيّة تفكيرنا، وفي غير هذه الحالة وكما هو مذكور في تعريف ديكارت يجب القول بعدم وجود أيّ اختلافٍ بين ذات الشيء ووجوده في عالم الخارج.

 نتيجة البحث

الحصيلة النهائيّة لما ذُكر في هذا البحث هي أنّ معنى الوجود ضمن الاختلافين الثالث والرابع بين الوجود والماهيّة حسب رأي رينيه ديكارت، عبارة عن حالة ذهنيّة - حالة فكرٍ - وهذا الأمر ذكره في كتاب مبادئ الفلسفة وفي الرسالة التي بعثها إلى شخصٍ مجهولٍ، بينما الصفة وفق هذا المعنى عبارة عن حالةٍ فكريّةٍ؛ لذا ليس بإمكان الإنسان تصوّر جوهرٍ لا وجود له في عالم الواقع، فعلى سبيل المثال اختلاف المثلّث الموجود في الذهن عن المثلّث بما هو مثلّث بغضّ النظر عن الوجود والعدم، ذو ارتباط بحالة الفكر بالمثلّث الموجود، فالحالتان ذهنيّتان، لكن غاية ما في الأمر أنّنا في واحدةٍ منهما تصوّرنا الموجود، وفي الأخرى تصوّرناه دون نسبةٍ إلى الوجود والعدم؛ لذا ثمّة اختلاف بينهما من جهةٍ يسمّى اختلاف الحالة.

الأمر يختلف طبعًا ضمن التعريفين الأوّل والثاني؛ لأنّ الوجود في كلا التقسيمين يراد منه الحقيقة الصوريّة التي تعني وجود الشيء ليس باعتباره صفةً كامنةً في الذهن، بل باعتباره أمرًا خارجًا عن الذهن إلى جانب كونه صفةً كامنةً في ذات الشيء؛ لذا حسب الحالة الأولى التي يفترض فيها أنّ الوجود والماهيّة أمران خارجان عن نطاق الذهن، لا يمكن تصوّر أيّ اختلافٍ بين الوجود والماهيّة على الإطلاق، ومن هذا المنطلق ادّعى ديكارت عدم اختلافهما، لكن حسب الحالة الثانية ثمّة ارتباط بين الحقيقتين، الصوريّة والذهنيّة، باعتبار أنّ الماهيّة كائنة في الذهن -حقيقة ذهنيّة فكريّة- والوجود عبارة عن حقيقة صوريّة كائنة خارج نطاق الذهن، وهذا النوع من الاختلاف اعتبره واقعيًّا.

استنادًا إلى ما ذكر يمكن القول إنّ ديكارت يعتقد على أقلّ تقديرٍ بوجود معنيين للوجود اتّخذهما كأساس للاستدلال على أربعة أنواع من أوجه ارتباطه بالماهيّة، ولا شكّ في أنّ هذه الازدواجيّة الدلاليّة في معنى الوجود تسبّب بحدوث إشكاليّات كثيرة إزاء وجهة نظره الحقيقيّة بالنسبة إلى الأمور الميتافيزيقيّة وجعلت أفكاره عرضةً للنقد من قبل  الباحثين.

وفي الختام أثبتنا أنّ الوجود برأي هذا الفيلسوف الغربيّ يدلّ على معنيين منفصلين لا يمكن جمعهما مطلقًا، أحدهما هو اعتباره كالصفة للشيء أو كحقيقة صوريّة للأشياء الخارجة عن نطاق الذهن، والآخر كالصفة للذهن أو كحالة فكريّة مرتبطة بذهن الإنسان؛ والإشكال الذي يطرح هنا هو أنّ هذين النوعين برأيه مرتبطان مع بعضهما على نحو العلّيّة لكونه يعتقد بعدم إمكانيّة تصوّر شيءٍ إلّا إذا كان متقوّمًا على حقيقة صوريّة، في حين أنّ الحقيقة الصوريّة للأشياء بحدّ ذاتها لا وجود لها في تصوّراتنا باعتبارها مجرّد علل أساسيّة للحقائق الذهنيّة، أو لما يسمّى بالمعاني الدلاليّة للتصوّر.

ينبغي الإشارة هنا إلى أنّ الحقيقة الصوريّة لا تعدّ تصوّرًا، في حين أنّ الشيء والجوهر والامتداد والفكر والوجود -بمعنى الصفة للفكر- والمواضيع والمفاهيم التي تندرج ضمن هذه القضايا، كلّها تندرج ضمن التصوّرات.

حالة الفكر التي تكتنف ذهن الإنسان معلولة للوجود بمعناه الصوريّ الذي ضَمِنه الله تعالى لنا، لكن أهمّ إشكاليّة تطرح على صعيد الميتافيزيقا الديكارتيّة فحواها أنّه: على الرغم من أنّ الله تعالى ضَمِن الارتباط الذي على أساسه تنطبق الحقيقة الصوريّة مع الحقيقة الذهنيّة، لكنّنا عاجزون عن معرفة حقيقة ذاته، وعلى هذا الأساس يقال إنّه حقيقة صوريّة مطلقة -لامتناهية-.

إذن، رغم أنّ ديكارت ادّعى في مقدّمة كتاب مبادئ الفلسفة أنّه الشخص الوحيد الذي تمكّن من التفوّق على حالة الشكّ بعد أن أدرك مبادئ الأشياء الأولى -عللها الأساسيّة-، إلّا أنّه أخفق في رأيه هذا، وهو في الواقع مجرّد ادّعاء لا أساس له من الصحّة لكون أوّل مبدأ وعلّة للأشياء مستثنى من المبادئ والعلل التي قال إنّه أدركها بداعي أنّ عقلنا المحدود عاجز عن معرفته على حقيقته بالتمام والكمال؛ لكن بما أنّه مبدأ يضفي الوجود إلى كافّة الحقائق الصوريّة في الكون سواء أكانت أشياء أم كوجيتو؛ لذا ليس بإمكاننا امتلاك علمٍ بأيّ حقيقة صوريّة في العالم على أساس علّتها، فمعيار إمكانيّة تصوّر الشيء يعدّ أهم مبدأ منهجيّ اتّبعه ديكارت لامتلاك إدراك واضح ومستقلّ للأشياء، لكن هذا المبدأ نفسه بات سببًا أساسيًّا لفشله في معرفة الحقيقة الصوريّة لها خارج نطاق الذهن؛ ولهذا السبب أخفق في معرفة أهمّ هدف أراد تحقيقه والمتمثّل في معرفة الأشياء وفق عللها الأولى فقط.

المصادر والمراجع

اللغة العربية

إتيان جيلسون، هستي در انديشه فيلسوفان (باللغة الفارسيّة)، ترجمه إلى الفارسيّة سيّد حميد طالب زاده، الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، منشورات «حكمت»، 2006م.

رينيه ديكارت، اعتراضات وپاسخ ها (باللغة الفارسيّة)، ترجمه إلى الفارسيّة علي أفضلي، الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، طهران، منشورات «علمي فرهنگی»، 2007م.

رينيه ديكارت، تاملات در فلسفه اولي (باللغة الفارسيّة)، ترجمه إلى الفارسيّة أحمد أحمدي، الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، طهران، منشورات «سمت»، 2002م.

اللغة الأجنبية

John Cottingham, 1993, A Descartes dictionary, Oxford: Black well publishers.

Rene Descartes, 1985 ( a ), The philosophica Writings of Descartes, vol. 1, translated by John Cottingham, Robert Stoothoff, and Dugald Murdoch, Cambridge: Cambridge University press.

Rene Descartes, 1985 ( b ), The Philosophical Writings of Descartes, vol. 2, translated by John Cottingham, Robert Stoothoff, and Dugald Murdoch, Cambridge: Cambridge University press.

Rene Descartes, 1991, The Philosophical Writings of Descartes, vol. 3, translated by John Cottingham, Robert Stoothoff, Dugald Murdoch, and Anthony Kenny, Cambridge: Cambridge University press.

Paul Hoffman, 2002, Descartes`s theory of distinction in philosophy and phenomenological research, 64 ( 1 ):

Jean Luc Marion, 1992, Cartesian Metaphysiscs and the role of simple naturs in the Cambridge Companion ti Descartes, ed. By John Cottingham, Cambridge, Cambridge University press.

Norman Wells, 1966, Descartes on distinction in the quest for the absolute, ed. By Fredrck J. Adelmann, The Hauge: Martinus Nijhojff.

----------------------------------

[1]*ـ  أستاذ مشارك في فرع الفلسفة بجامعة طهران.

ـ نشرت هذه المقالة في مجلّة «فلسفة وكلام» قسم الفلسفة، 2016م، السنة الرابعة والأربعون، العدد 1.

ـ تعريب: أسعد مندي الكعبي.

[2]- قبل إتيان جيلسون تطرّق الفيلسوف مارتين هايدغر إلى شرح وتحليل أهمّ المسائل الفينومينولوجية لكنّه لم يشر إلى آراء رينيه ديكارت في هذا المضمار.

[3]- إتيان جيلسون، هستي در انديشه فيلسوفان (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية سيد حميد طالب زاده، الجمهورية الإسلامية الإيرانية، منشورات «حكمت»، 2006م، ص38 - 49.

[4]- Jean Luc Marion, 1992, Cartesian Metaphysiscs and the role of simple naturs in the Cambridge Companion ti Descartes, ed. By John Cottingham, Cambridge, Cambridge University press, p. 115.

[5]- إتيان جيلسون، هستي در انديشه فيلسوفان (باللغة الفارسيّة)، ترجمه إلى الفارسيّة سيد حميد طالب زاده، ص223 - 224.

[6]- ديكارت 1386، ص150.

[7]- Rene Descartes, 1985 (b), The Philosophical Writings of Descartes, vol. 2, translated by John Cottingham, Robert Stoothoff, and Dugald Murdoch, Cambridge: Cambridge University press, p. 418.

[8]- Ibid, p. 263.

[9]- الكوجيتو (باللاتينيّة: Cogito, ergo sum) هو المبدأ الذي انطلق منه ديكارت لإثبات الحقائق بالبرهان وهو عبارة عن قضيّة منطقيّة ترجمتها بالعربيّة (أنا افكّر، إذًا أنا موجود).

[10]- رينيه ديكارت، اعتراضات و پاسخ ها (باللغة الفارسيّة)، ترجمه إلى الفارسيّة علي أفضلي، الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، طهران، منشورات «علمي فرهنگی"، 2007م، ص120 - 130.

[11]- رينيه ديكارت، تاملات در فلسفه اولي (باللغة الفارسيّة)، ترجمه إلى الفارسيّة أحمد أحمدي، الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، طهران، منشورات "سمت"، 2002م، ص90.

[12]- رينيه ديكارت، اعتراضات و پاسخ ها (باللغة الفارسيّة)، ترجمه إلى الفارسيّة علي أفضلي، ص280.

[13]- Rene Descartes, 1985 (a), The philosophica Writings of Descartes, vol. 1, translated by John Cottingham, Robert Stoothoff, and Dugald Murdoch, Cambridge: Cambridge University press, p. 181.

[14]- Ibid, p. 207.

[15]- Ibid, p. 208.

[16]- Rene Descartes, 1985 (a), The philosophica Writings of Descartes, vol. 1, translated by John Cottingham, Robert Stoothoff, and Dugald Murdoch, p. 208 - 209.

[17]- Ibid, Rene Descartes, p. 211.

[18]- Jean Luc Marion, 1992, Cartesian Metaphysiscs and the role of simple naturs in the Cambridge Companion ti Descartes, ed. By John Cottingham, p. 121.

[19]- Rene Descartes, 1985 (a), The philosophica Writings of Descartes, vol. 1, translated by John Cottingham, Robert Stoothoff, and Dugald Murdoch, p. 212.

[20]- رينيه ديكارت، تاملات در فلسفه اولي (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسيّة أحمد أحمدي، ص 60.

[21]- إذا اعتبرنا الوجود بأنّه حالة ذهنيّة - فكريّة - على ضوء القول بكونه شيئًا شبيهًا بالوجود الذهنيّ، ففي هذه الحالة على سبيل المثال لا يمكن ادّعاء وجود اختلافٍ بين المثلّث الخارجيّ والمثلّث الذهنيّ، وفي هذا السياق اعتبر ديكارت الصفة الموجودة في الفكر بأنّها حالة تفكيرٍ وليست حالةً فكريّةً، أي أنّها ليست أمرًا ذهنيًّا، بل مجرّد حالة تطرأ على الذهن.

[22]- هذا الموضوع يرتبط بالتقسيم الذي ذكره ديكارت في المقطع رقم 57 ضمن كتاب مبادئ الفلسفة، حيث أدرج الصفات في مجالين، هما الفكر والشيء.

[23]- لا بدّ من التنويه هنا إلى أنّ وجود إحدى الحالات التي ترتبط بحالتنا الذهنيّة إزاءها -التفكير بها- فنحن قادرون على التفكير تارةً بمثلث من حيث كونه موجودًا، وتارةً أخرى نفكّر به بغض النظر عن وجوده وعدمه.

الجدير بالذكر هنا أنّ المثلّث من حيث كونه مثلّثًا، وكذلك المثلث الموجود الذي تنعكس صورته في الذهن كلاهما حالتان فكريّتان، لكن غاية ما في الأمر أنّ إحداهما غير منسوبة إلى الوجود والعدم، والأخرى منسوبة إلى الوجود بحيث ننظر إلى المثلث الذي نريد إصدار حكمٍ عليه من أيّ جهةٍ كانت بصفته شيئًا موجودًا ومرتبطًا بحالة تفكيرنا.

استنادًا إلى ذلك فالوجود الذي يعتبر صفةً هو في الواقع ذات حالة التفكير التي تطرق ذهن الإنسان، لذا من شأنه أن يرتبط بحالة فكريّة معيّنة ولا يرتبط بحالة فكريّة أخرى.

[24]- بناءً على الرأي القائل بعدم وجود اختلاف بين ذات الإنسان وتصوّره لها، فهو في الواقع غير قادر على تصوّر عدم وجودها، وهذا الأمر على خلاف تصوّر سائر الأشياء التي تعدّ مستقلّة عن بعضها، إذ بإمكانه تصوّرها بغضّ النظر عن نسبتها إلى الوجود أو العدم.

[25]- Rene Descartes, 1991, The Philosophical Writings of Descartes, vol. 3, translated by John Cottingham, Robert Stoothoff, Dugald Murdoch, and Anthony Kenny, Cambridge: Cambridge University press, p. 279 - 281.

[26]- Paul Hoffman, 2002, Descartes`s theory of distinction in philosophy and phenomenological research, 64 (1): 57 - 78., p. 58 - 61.

[27]- رينيه ديكارت، تاملات در فلسفه اولي (باللغة الفارسيّة)، ترجمه إلى الفارسية أحمد أحمدي، ص57.

[28]- إتيان جيلسون، هستي در انديشه فيلسوفان (باللغة الفارسيّة)، ترجمه إلى الفارسيّة سيّد حميد طالب زاده، ص224.

[29]- Norman Wells, 1966, Descartes on distinction in the quest for the absolute, ed. By Fredrck J. Adelmann, The Hauge: Martinus Nijhojff, p. 133 - 134.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف