البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

September / 3 / 2022  |  793قراءة في كتاب د. محمد بلال أشمل صورة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في الفكر الإسباني المعاصر الرؤية والمنهج

د. محمد العمارتي المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية خريف 2021 م / 1442 هـ
قراءة في كتاب د. محمد بلال أشمل صورة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في الفكر الإسباني المعاصر الرؤية والمنهج

المُلخَّص:

يقارب الدكتور محمّد بلال أشمل في كتابه «صورة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في الفكر الإسباني المعاصر»تصوّرات الفكر الإسباني عن النبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، بالاستناد إلى أعمال مجموعة من المفكّرين الإسبان، وذلك بالوقوف على تطوّر هذا الخطاب منذ بداية العصر الوسيط بإسبانيا كمرحلة أولى في هذه القراءة ثمّ الانتقال إلى مجالات الكتاب ومحتوياته من خلال قراءة متأنّية واصفة لمضامينه وقضاياه؛ ليكشف في سياق ذلك عن مختلف الأبعاد والمواقف والتصوّرات الفكريّة والعقديّة الدينيّة التي يحملها هؤلاء المفكّرون الإسبان عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد تمثّل المنهج الذي اعتمده الكاتب في نقد النقد، إذ برز في طيّات الكتاب سجال علمي ونقدي مع طبقة من المفكّرين الإسبان في مراحل مهمّة من تاريخهم العلمي والعقدي اللاهوتي في إطار بلورة تصوّرات ومواقف إسبانيّة تجاه رسول الإسلام محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)؛ وذلك بمحاولة علميّة ومنهجيّة تهدف إلى المزاوجة في هذه القراءة بين الوصف والتحليل للقضايا المعروضة في الكتاب، وتقديم ملاحظات جزئيّة وعامّة متّصلة بعموم الفكر الإسباني ومواقفه إزاء الدين الإسلامي عمومًا والرسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) على وجه الخصوص.

المحرِّر


مدخل

تروم قراءتنا لكتاب «صورة الرسول محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في الفكر الإسباني المعاصر»، تزكية الذات وتجريح الغير  للدكتور محمّد بلال أشمل[2]، ملامسة جملة من القضايا التي يعرضها المؤلّف في كتابه، حول تصوّرات الفكر الإسباني عن الرسول سيّدنا محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) انطلاقًا من أعمال المفكّرين الواردين في الكتاب، لنكشف في سياق ذلك عن مختلف الأبعاد والمواقف والتصوّرات الفكريّة والعقديّة الدينيّة التي يحملها هؤلاء المفكّرون الإسبان إزاء الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهم على التوالي: رايموندومارتين ورايموندولوليو وخوان الطوركيماديفي مرحلة العصر الوسيط، ودونوسوكورتيس/ أنخيل غانيفيت/ رامون كامبوامور/ منيندثبيلايو/ ميغيل آسين بلاثيوس/ خوستافوبوينو/ أوخينيوترياس/ ثيسار فيدال في المرحلة المعاصرة، وبالتالي سنقف على أهم عناصر الائتلاف والاختلاف في أبنية هذا الفكر ومواقفه إزاء الرسول سيّدنا محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، مع السعي إلى الإلمام بمنهجيّة تفكيك هذا الخطاب عند المؤلّف، لمعرفة هل توصّل إلى بناء معرفة بهذا الخطاب وآليّات اشتغاله أم كان ينهج مقاربة تاريخيّة تستعرض الخطاب في مراحل تطوّره فقط؟!.

وبناءً عليه سنحاول قدر الإمكان المزاوجة في هذه القراءة بين الوصف والتحليل للقضايا المعروضة في الكتاب، ممّا سيفسح لنا المجال لتقديم ملاحظات جزئيّة وعامّة في النهاية متّصلة بعموم الفكر الإسباني ومواقفه إزاء الدين الإسلامي عمومًا، والرسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) على وجه الخصوص.

والكتاب الذي نقوم بدراسته ومقاربة قضاياه ليس كتابًا في نقد الأديان ولا في الفكر الديني، بل هو دراسة في نقد النقد، ولتحديد أكثر نقول إنّه سجال علمي ونقدي مع صياغات وتحوّلات فكريّة ودينيّة وضعها مفكّرون إسبان في مراحل مهمّة من تاريخهم العلمي والعقدي اللاهوتي في إطار بلورة تصوّرات ومواقف إسبانيّة تجاه رسول الإسلام سيّدنا محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك في عيون الفكر الإسباني منذ أن بدأت ترتسم ملامحه في أوائل العصر الوسيط إلى العصر المعاصر بتحوّلاتها وتناقضاتها المتعدّدة.

وهو بالإضافة إلى ذلك مسعى علمي لتخطّي المألوف، وجهد كبير اقتضى من صاحبه دراسات ومراجع تقصد إعادة النظر في تاريخ العلاقة الدينيّة بين الإسلام والمسيحيّة على أرض إسبانيا، وخطوة جادّة تستحقّ التقدير لما اتّسمت به من جرأة إلى جانب الجديّة والوضوح.

وبتعبير أدق إنّه عمل يروم الاقتراب من الخطابات الإسبانيّة في تناولها للرسول سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) في سياق بناء رصد دقيق وواقعي لهذه الخطابات الإسبانيّة المتعدّدة، محاولًا رسم  معالم هذا الفكر.

ولهذا، فبالرغم من صفحات الكتاب المعدودة والمحدودة (لا تتعدّى154ص من القطع الصغير)، فإنّه لا يخلو من أهميّة وجدّيّة في الطرح والتناول وإثارة مجموعة من القضايا المرتبطة بالموضوع، كما يثير تساؤلات جادّة حول طبيعة المسار الذي سلكه هذا الفكر الإسباني تجاه موضوع غاية في الحساسيّة والأهميّة، ألا وهو موضوع الحقيقة المحمّديّة.

لذا كانت القضيّة التي واجهتنا في إطار دراستنا للمؤلَّف ذات طبيعة منهجيّة ومعرفيّة في آن، فالحديث عن هذا الفكر يقتضي منا بداية تحديد الإطار التاريخي الذي يتحرّك فيه، وقد حدّدناه زمنيًّا من بداية العصر الوسيط إلى بداية القرن الحادي والعشرين.

يعرض المؤلّف في فصول كتابه الهدف من وراء دراسة هذه الخطابات في العصر المعاصر، فيبدأ بإيراد  هذه الخطابات التي استمدّت مرجعيّتها من الأفكار الدينيّة للعصور الأوروبيّة القديمة، التي تغلغلت في معظم دراسات مفكّري إسبانيا الوسيطيين والمعاصرين، فكان نتيجة ذلك تزايد استخدام هذه التصوّرات المعادية عند هؤلاء تجاه الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).

وبالتالي يوضح المؤلّف منذ البداية أنّ كتابه سينصبّ على دراسة خطابات ومواقف إسبانيّة متنوّعة حدّدها في:

- الفصل الأوّل: بنية الخطاب حول الرسول في الفكر الإسباني الوسيطي:»البداية والاستواء والاستئناف».

- الفصل الثاني: بنية الخطاب حول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في الفكر الإسباني المعاصر:»رفع الذات ووضع الغير».

- الفصل الثالث: صورة الرسول في الخطاب الإسباني المعاصر: «بين التعصّب والإرهاب».

-الفصل الرابع: دلالات الخطاب حول الرسول في الفكر الإسباني المعاصر .

فكان من الطبيعي إذًا أن تتّسع دائرة الاهتمام والعناية عنده لتشمل العديد من المفكّرين الإسبان من العصر الوسيط وحتّى العصر الحديث والمعاصر، نذكر منهم حسب ترتيبهم في هذه الفصول وهم:

رايموند مارتين[3]، ورايموندلوليو[4]، وكذا خوان الطوركيمادي[5]، ودونوسوكورتيس[6]، وأنخيلغانيفيت[7]، ورامون كامبوامور[8]، ومينينديثبيلايو وإعادة إنتاجه للأفكار والصفات التي كانت سائدة في العصر الوسيط حول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)[9]، وميغيل آسين بلاثيوس وبنية التماثل بين المسيحيّة والإسلام[10]، وكذا خوستافوبوينو[11]، وأوخينيوترياس وتصوّره للحقيقة المحمّديّة، واستمراره في توظيف تصوّرات العصر الوسيط في بلورته لصورة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)[12]، وأخيرًا ثيسار فيدال وسياق الخوف على إسبانيا من الإسلام، وصناعة الكذب على الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)[13].

ومن ثمّ سيسعى المؤلِّف في البداية إلى تقديم قراءة في الشقّ المتعلّق بصورة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في الفكر الإسباني خلال مرحلة العصر الوسيط باعتبارها لحظة تأسيسيّة ومرجعيّة لتلك الصورة في الفكر الإسباني عامّة، وأكثر من ذلك في التمثّلات الثقافيّة للآخر في «إسبانيا» تجاه المسلمين في سياق الصراع ضدّ الوجود الإسلامي بشبه الجزيرة الإيبيريّة.

وكأنّه يسير بنا قدمًا للوقوف على مكامن الخلل في الخطاب الغربي/ الإسباني حول الإسلام/ نبيّ الإسلام، بدءًا من لحظات التأسيس في العصر الوسيط مع رايموندو مارتين (1230-1286) أو كما يسمّيها بدايات تشكّل صورة الرسول في الفكر الإسباني، مرورا بـرايموندولوليو (1233-1316)، ونضج هذا الخطاب واستكماله مع خوان الطوركيمادي (1388-1468).

لذا فاللحظة الأولى: هي لحظة تشكيله مع رايموندو مارتين الذي سعى إلى دحض المصدر الإلهي للإسلام، وإبراز حقيقة ومصداقيّة العهدين القديم والجديد، واعتبار الإسلام تحريفًا وتزييفًا للمسيحيّة؛ فاقترنت عنده تزكية الذات بتجريح الغير، ليخلص المؤلّف محمّد بلال أشمل إلى أن رايموندو مَارْتين أسّسَ لأربع بنيات وهي: الإسلام نحلة محمّديّة، والتزكية الذاتيّة، وتجريح الغير، والأصل والتبعيّة[14]. إلّا أنّه لم يناقش مرجعيّة فكر رايموندو مارتين وروافده، كما أنّه لم يربط هذه الأفكار بسياقها التاريخي والفكري لاستخلاص الأهداف المضمرة.

اللحظة الثانية، يمثلها رايموندولوليو، حيث يحدّد المؤلّف السياق الذي انبثقت فيه صورة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عند هذا المفكّر قائلًا: «لقد تأثّر «ليّولا» [رايموندولوليو] بما كان سائدًا في عصره من أحكام مسبقة حول هؤلاء جميعًا؛ وبخاصّة اعتبار الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) «دجّالا» أو «نبيًّا مزيّفًا»، والنظر إلى المسلمين باعتبارهم متوحّشين، في سياق مليء بالعداوة والبغضاء لكلّ ما هو إسلامي أو مسلم»[15].

بمعنى أن رايموندولوليو لم يقم إلّا بحفظ التصوّر الرسمي (النخبة في الكنائس والأديرة) والشعبي (الأتباع والمؤمنين المسيحيّين) الذي كان سائدًا في أوروبا المسيحيّة عن الإسلام، وتحويله إلى أثر مكتوب يحفظه من النسيان، خاصّة في مرحلة تصاعد ما عُرف بـ «حروب الاسترداد» بإسبانيا.

 ويبدو أنّ رايموندولوليو لم يأت بجديد بخصوص صورة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في الخطاب الديني المسيحي بقدر ما جمع الموروث السائد، والأفكار النمطيّة المستبطنة في الذاكرة المسيحيّة التي تشكّلت منذ الاحتكاك الأوّل للمسلمين بالمسيحيّين، أبرزها تلك المتعلّقة بمطابقة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) للدجّال التي انتشرت خلال القرن التاسع الميلادي، خاصّة بقرطبة.

اللحظة الثالثة: كانت في نهاية العصر الوسيط ويمثّلها خوان الطوركيمادي (1388-1468)، ويصفها المؤلّف بلحظة «الأخطاء الأساسيّة لمحمّد». ويعتبر هذا الرجل من أبرز وجوه السجال المسيحي الإسلامي خلال العصر الوسيط، فقد دافع عن وحدة الكنيسة الكاثوليكيّة في خضم حركات الإصلاح الديني، لهذا كانت حياته حافلة بالعطاء الفكري والديني، ألّف خلالها جملة من الكتب، أبرزها كتاب: «الأخطاء الأساسيّة لمحمّد والأتراك أو المسلمين». وكان الباعث وراء هذا العمل هو إيقاظ همم المسحيّين لمواجهة المدّ العثماني في ظلّ انهيار الأوروبيّين، خاصّة بعد سقوط القسطنطينيّة، والتنبيه إلى أهميّة دور البابويّة في توحيد صفوف المسيحيّين. فلم يهتم خوان الطوركيمادي بسيرة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنما ركّز على أخطاء محمّد ونحلته، فتتبع المؤلّف الدكتور محمّد بلال أشمل فصول هذا الكتاب؛ ليقف على فلسفة التاريخ عند خوان الطوركيمادي.

وبناء عليه يصير الكتاب، كما يلاحظ محمّد بلال أشمل بمثابة: «تحريض الأمراء المسيحيّين، ورجال الدين والدنيا، على هدي الحجج السابقة، على أن يتحالفوا في حملة صليبيّة لكي يستأصلوا نحلة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)»[16]...

وتنتظم هذه البنيات جميعها، حسب المؤلّف، ضمن منظومة فكريّة عقديّة عامّة هي «بنية تجريح الخصم»، وترتّبت عنها بنية خاصّة هي «بنية الرفض»؛ أي نحن أمام بنية عامّة شاملة، وبنيات جزئيّة، أو أمام بنية تتضمّن مجموعة من العناصر كما سبق أن لاحظنا ذلك مع بنيات رايموندو مارتين.

ومن خلال النماذج التي قدّمها محمّد بلال أشمل وهي: رايموندو مارتين، ورايموندولوليو، وخوان الطوركيمادي، يمكن اختزال صور الرسول صلى الله عليه من خلال الفكر الإسباني خلال العصر الوسيط في ثلاث صور نمطيّة، وهي: الوثنيّة، العنف والشبقيّة[17].

وإذا كان المؤلّف قد بيّن لنا الهدف وسياق تصوّرات خوان الطوركيمادي، فإنّه لم يبرز ما يتعلّق بسياقات رايموندو مارتينورايموندولوليو. وعليه، فإنّنا سنحاول أن نبرز ذلك، انطلاقًا من كون تصوّرات هذيْن المفكّريْن، لم تكن معزولة عن واقعهما، وأبرز شيء يمكن تسجيله هو كونهما عاصرا مرحلة أوج «حركة الاسترداد»، فكان الإسبان في أمسّ الحاجة إلى معالجة مشكلة كبيرة كانت تشوّش على الكيان المسيحي، وهي وجود جماعة مسلمة متحضّرة تتمتّع بكفاءة عالية في الفلاحة والحرف والبناء والمعمار، وهي التي عرفت بالمدجّنين (Los mudéjares)، والتي تعايشت مع المسيحيّين في ظلّ إقطاعيّات استفادت منها وانتفعت من خبرتها، فكان لا بدّ أن يحارب المسيحيّون بالقلم كما حاربوا بالسيف[18]؛ أي «ضمن اتجاهين اثنين مختلفين ومتكاملين ومتداخلين في الوقت نفسه، أوّلهما حربي قتالي وثانيهما سجالي كتابي»[19]، ويثبتوا لهؤلاء زيف معتقداتهم بغية تنصيرهم، بل أكثر من ذلك ليثبتوا للمسيحيّين الآخرين صدقَ معتقدهم ودينهم، صونًا لهم من الانبهار بهؤلاء المهرة المتحضّرين. لهذا عمل المفكّرون الإسبان على تجميع كلّ المعطيات السلبيّة المفترضة عن الإسلام. ومن جانب آخر اضطلعوا بدور التعبئة الفكريّة ضدّ المسلمين من أجل تقليص مساحة الإسلام بشبه الجزيرة الإيبريّة إلى غاية القضاء عليه نهائيًّا[20].

إنّ تصورات مفكّري العصر الوسيط، عن الإسلام والمسلمين عامّة، وعن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) خاصّة، لا يمكن أن تكون تصوّرات مجرّدة، وإنما هي نتاج أفكار مرتبطة بواقعها ارتباطًا وثيقًا، فلا شكّ أنّها خضعت لتطوّرات، وهذا أمر عادي وبديهي، أو هي حصاد  لأفكار كانت قد سادت في إسبانيا، طيلة مراحل الصراع المسيحي/ الإسلامي صراع وجودي ومعرفي. فمن الراجح أن تكون تلك التصوّرات تجميعًا لما كان يكنّه المسيحيّون الغيّورون على دينهم، والتي عبّر عنها المناظرون والمجادلون والناقمون بل والمحاربون أيضًا، مادام أنّ الإسلام كان يشكّل تهديدًا سياسيًّا وسلوكيًّا ومعرفيًّا، ليس فقط لمساهمته الحضاريّة، وإنّما لقيامه على دحض مزاعم الكنيسة دون المساس بفكرة الألوهيّة، التي تشكّل جوهر الدين. فلم يكن بدّ أمام المسيحيين «الإسبان» في العصر الوسيط إلّا أن يبادروا بالهجوم بدل الارتكان إلى الدفاع والتبرير، من خلال اعتبار أنّ الإسلام ذاته الذي يزعم هذه التصوّرات المنافية للمسيحيّة، ما هو إلّا هرطقة مسيحيّة[21].    

صورة الرسول سيّدنا محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في كتابات مفكّري إسبانيا العصر المعاصر

وبناءً عليه يعمد المؤلّف محمّد بلال أشمل في كتابه إلى التصدّي لمسألة في غاية الأهميّة، وقد شكّلت محور الصراع الديني المسيحي الإسلامي عبر العصور، وهي تلك التصوّرات والرؤى التي كوّنها المفكّرون الإسبان عبر تاريخهم عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وشكّلت مركز انشغال الفكر الإسباني منذ القديم وما تزال تستقطب اهتمامهم إلى الآن.

ولهذا فإنّه -المؤلّف- سيحاول خلخلة جملة من المفاهيم والأفكار السائدة في الفكر الإسباني المعاصر كذلك، حيث أضحت من كثرة تداولها وتوظيفها من المسلّمات المباشرة والضمنيّة في اعتقاد الإسبان، مع تقديم اقتراحات من شأنها أن تساعد على إعادة خلق الخطاب الإسباني وصياغته على أساس من الوعي والحقيقة والموضوعيّة، وفي هذا الصدد يقدّم لنا تساؤلات مشروعة عن آليّة الوعي الفردي والجماعي لدى المفكّرين الإسبان المعاصرين، فهل هناك انقطاع وقطيعة مع أفكار الماضي أم هناك وصل واستمرار لهذا الوعي بالقياس إلى التجارب الماضية التي تشكّلت بدءًا من الوجود الإسلامي بالأندلس؟! وكيف نمت هذه الأفكار واستمرّت في التطوّر والصمود بحيث أصبحت القاعدة الذهبيّة لهؤلاء المفكّرين الإسبان سواء منهم الأقدمين أو المعاصرين الذين تجمّدوا أمام سلطتها؟! يقول المؤلّف في هذا الصدد: «وبما أنّنا نعني فقط بالخطابات الإسبانيّة حول الموضوع، ينبغي التأكيد في هذا المقام على أنّ الزمان الإسباني جمد على تقاليد ثقافيّة وفكريّة ورثها من فترة صراعه مع مسلمي الأندلس عقب سقوط غرناطة»[22].

ومن خلال هذا الاستنتاج يعمد المؤلّف إلى فتح الباب على مصراعيه لتحديد مسؤوليّة الكنيسة  ورجال الدين والمفكّرين أنفسهم في صياغة وتنامي هذا الفكر الديني المعادي للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بإسبانيا قديمًا وحديثًا على حدّ سواء، لقد كان مثلًا أحد المفكّرين الإسبان المعاصرين وهو دونوسوكورتيس شديد الولاء للمذهب الكاثوليكي يومئذ، وكان حضور ذلك زائدًا عن الحاجة وبقدر عظيم من التعصّب للكاثوليكيّة، وبجرعات كبيرة من التحيّز الأعمى للمسيحيّة، وبألوان عديدة من التطرّف القومي الإسباني، وهي الصفات التي اشتهر بها في تاريخ الفكر الإسباني[23] .

والمؤلّف عندما يعمل على تحديد ملامح هذا الوعي السلبي لدى الإسبان عامّة، فإنه يروم إلى فهم السلوكات والاتهامات السلبيّة والمعادية للإسلام ولنبيّه المصطفى الكريم التي تستبطنها الذاكرة الجماعيّة الإسبانيّة كنقطة انطلاق في أيّة عمليّة بناء للمعرفة بهما معًا، هادفًا في الآن نفسه من وراء ذلك إلى انتقاد مقولة ميغيل آسين بلاثيوس القائلة ببنية التماثل بين المسيحيّة والإسلام، يقول المؤلّف بشأن ذلك «...ونشير منذ البداية إلى أنّ موقف الرجل يتحرّك وفق بنية في الخطاب قائمة على التماثل مثلما سيعلن عنها في تقديمه لكتابه عن الغزالي، والتي بمقتضاها تكون المسيحيّة هي الأصل، والسيّد المسيح هو المنبع، والتعاليم الإنجيليّة هي المنطلق، وهي بنية رأينا بعض مظاهرها وصداها فيما مرّ بنا من خطابات مضادّة للإسلام والمسلمين ونبيّهم عليه السلام، وبناء على بنية التماثل يرى بلاثيوس أنّ بعض أحاديث الرسول منقولة حرفيًّا عن الإنجيل، وأمّا بعض صفاته وشمائله(صلى الله عليه وآله وسلم) كما يسوقها ابن حزم، فمستوحاة من التعاليم المسيحيّة»[24].

إنّ الفشل الذي عرفته هذه القراءات الفكريّة الإسبانيّة للرسالة المحمّديّة يفتح أمام أعيننا أسلوب التعامل مع الأشياء والمعطيات بنوع من الحذر واليقظة، ورؤية هذه التأويلات والاستنتاجات لهؤلاء المفكّرين الإسبان على ضوء الواقع التاريخي الحقيقي، لإيجاد صيغ علميّة ومعرفيّة ملائمة لكلّ هذه المظاهر الفكريّة العدائيّة في حقّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولن يتأتّى ذلك كلّه إلّا بالمزيد من التعمّق في المعرفة وفي حفرياتها، وما تفرضه ضرورة المرحلة المعاصرة من ابتكار لقنوات الحوار والتواصل العلمي الهادئ والرصين مع أمثال هؤلاء المفكّرين الإسبان قصد الارتقاء بالمعرفة الدينيّة عندهم بالرسول وبتعاليمه السمحاء التي تؤسّس لثقافة التسامح والتعايش وقبول الآخر بمعتقداته ودينه وبطقوسه التعبديّة بدون مركّب نقص أو إقصاء.

إنّ المسألة هنا تتعلّق في تصوّرنا بالمنهج والرؤى والتصوّرات التي يحملها هؤلاء ويتبنّونها. كما يلاحظ المؤلّف في هذا المجال أنّ الطابع اللازمني هو المهيمن في هذه الدراسات، بدليل أنّها لم تتغيّر في الجوهر، وإن تغيّرت في المصطلحات والجهاز المفاهيمي والرؤيوي للمعطيات .

ولهذا جاءت مباحث الكتاب خادمة لتصوّرات الكاتب ورهاناته باعتبارها تتناول أفكار أبرز من اهتمّ من المفكّرين الإسبان بالرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بدءًا من العصر الوسيط وإلى عصرنا الراهن، وتُعَرِّفُنا على مواقفهم التي تعبّر عن مقدرة كبرى في صناعة الزيف وقلب الحقائق، وتستبطن عداء كبيرًا تجاه الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، فالمؤلّف يحاول الكشف عن مدى ارتباط فكرهم بالجوّ العام السائد لدى الإسبان عامّة إزاء موقفهم من الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن رسالته السماويّة السامية.

ولاشكّ في أنّ هؤلاء المفكّرين تعترضهم أفكار متوارثة سابقة لا يتمّ تذويبها بسهولة ويسر، تحمل تصوّرات موروثة ومستبطنة سادت في الفكر الأوروبي عامّة في مرحلة مظلمة من مراحل الصراع الديني والسياسي بين الإسلام والمسيحيّة، فلم تسلم إسبانيا بدورها من هذه العدوى المعادية للإسلام ولنبيّه عليه السلام، كما أنّ مسألة سيادة هذه الأفكار وإعادة إنتاجها وإحيائها من جديد تقف عقبة كأداء أمام كلّ تحوِّل أو تجديد في المشهد الفكري الإسباني المعاصر في إطار دراسته للإسلاميّات.

ومن هذه الزاوية يطرح المؤلف مجموعة من القضايا المنهجيّة والمعرفيّة لمواجهة الأحكام والأفكار التي تمّت محاولة تأصيلها وترسيخها في الذاكرة الجماعيّة للإسبان عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل علماء الدين واللاهوت وعلماء المسيحيّة، وتعميمها وكأنّها حقائق صحيحة ثابتة لا يمكن الطعن فيها، بحيث غدت كواقع منزّه عن النقد وإعمال النظر والعقل. وأخطر ما في هذه الممارسات أنّها تمّت في مراحل تاريخيّة وسياسيّة عدائيّة خاصّة في فترة تنامي حركة الاستعمار للعالم الإسلامي عامّة، وأخذت صبغة الوثوقيّة، وكأنّها مستمدّة من واقع حقيقي صحيح،  كما هو الحال بالنسبة إلى طروحات رامون كامبوامور حينما اعتبر أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من المؤسّسين للأنظمة الدينيّة الذين جعلوا التعصّب غايتهم ـ فمن وجوه تناقضات هذا الرجل، أنّه يورد للرسول ما يؤكّد دعوته إلى التسامح، ثمّ يرمي أمّته عليه السلام بتهمة التعصّب، ويزيد عليها تهمة الاستبداد، إذ ليس يستقيم لديه أن يكون من هم برابرة ومتوحّشون غير مستبدّين، لذلك فالعرب لم ينقطعوا قطّ عن النزوع إلى التعصّب والاستبداد»[25].

وهكذا وبناء عليه يحدّد المؤلّف مجموعة من المبادئ التي أصبحت تتحكّم في هذه الخطابات، وهي كالتالي:

التأكيد المستمر على عداء المفكّرين الإسبان المعاصرين المتأصّل ضدّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن ثمّ اعتباره الخصم الرئيس الذي لا يمكن ولا تجوز مصالحته.

مواصلة الصراع ضدّ الرسول والإسلام.

العمل في اتجاه التأجيج 

وتمثّل هذه المواقف أو المبادئ ،كما ذكر المؤلّف، خروجًا سافرًا على مبادئ الحوار والبحث عن الحقيقة المنشودة، وهذه التصورات للأسف الشديد تأخذ حجمًا متعاظمًا مع الزمن، بل وتقوى مع السنوات في الذاكرة الإسبانيّة الشعبيّة منها والمثقّفة على حدّ سواء، عندما يتدخّل المخيال الشعبي ليضيف عليها هالات ضخمة من الصور والاستيهامات التي تنتقل من صفتها الخرافيّة الخياليّة إلى مجال الواقعيّة، بحيث يصعب التخلّص منها ومن استبدادها في اللاوعي لدى الإسبان فيما بعد.

إنّ هذه المساهمة الفكريّة للمؤلّف ترتكز أساسًا على الفحص والنقد وسبر أغوار الموضوع في مساره التاريخي، وعلى ضوء معطيات البحث في اللاهوتيّات، إذ يعمد من أجل توضيح هذه الأبعاد إلى إقامة علاقة نقديّة لأفكار هؤلاء وصيغهم العلميّة والمعرفيّة في إطار ربطها بالمنظومة الفكريّة والعقائديّة الإسبانيّة التي يتحرّكون في دائرتها، هادفًا من وراء ذلك إلى خلق انشغال في حفريّات هذا الفكر، وإقامة رؤية نقديّة تعتمد على الأخذ بالمناهج العلميّة، متجاوزًا نظرة التعميم والتفسيرات المتداولة المستهلكة.

فيعالج هذا التوجّه على أساس استراتيجيّة فكريّة تعتمد على المواضيع التي تقوده بالضرورة إلى الوقوف على الخصائص والتصورّات الثاوية وراء هذا الخطاب، ومستوى البحوث والدراسات التي تمّت في هذا المجال، مع البحث عن منطلقاتها وخلفيّاتها الإيديولوجيّة والعقائديّة الدينيّة، وكيف يُنْظَر إلى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في الوعي الفكري الإسباني، مع دراسة التحولّات والتغيّرات التي طرأت في هذا المجال.

وعلى هذا النحو يمضي مسلّطًا الضوء على بعض التناقضات؛ ليقدّم في كتابه هذا صورة واضحة المعالم والقسمات عن هؤلاء المفكّرين الإسبان، وفي ثنايا العرض نجده يضيف كثيرًا من الوقائع عن حياة هؤلاء وسلوكهم.

إنّ مثل هؤلاء المفكّرين الإسبان هم الذين يسعون إلى تكريس تصوّرات ومسلّمات مقتبسة من ثقافتهم وتكوينهم وقناعتهم التي استبطنوها في مسارهم الديني دون بحث جادّ، بل يختفون وراء الفكر العدائي، ويقتفون خطا الأقدمين الذين كانوا يسيئون للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ويكتفون بتمثّلات كلاسيكيّة مستبطنة حول الدين الإسلامي ورسوله وبكلّ الآراء المحكومة بنظريّات العداء لكلّ ما هو إسلامي.

فرغم عمليّة التجدّد والانفتاح والتطوّر والحريات الفكريّة التي شهدها المجتمع الإسباني المعاصر، فإنّ مفكّريه لم يحاولوا أن يتخلّصوا للأسف من إرث الماضي الظلامي، وأن يستبدلوا هذه الأفكار المتوارثة بأفكار جديدة، وتوظيفها توظيفًا إيجابيًّا نموذجيًّا يتلاءم مع الصورة العامّة للتحولّات الكبرى التي يشهدها المجتمع الإسباني والعالمي كما ذكرنا آنفًا.

لقد اجتهدت هذه المواقف أو الخطابات -للأسف- في تقديم نصوص وأفكار حول الإسلام ونبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وتحليلها تحليلا عدائيًّا، ولم تخرج عن الإطار الرسمي المتداول للظاهرة الدينيّة المسيحيّة الكاثوليكيّة، وبقيت بالرغم من هالتها العلميّة خاضعة في جانبها المعرفي إلى وجهة النظر المسيحيّة التي روّج لها رجال الدين المتشدّدون، بحيث أضحت هذه الخطابات تأخذ صورة نموذجيّة تكراريّة ابتدعتها الكنيسة وسعت إلى استغلالها كحدّ أقصى؛ لتفرض هيبتها وتصوّراتها الخاطئة مع الحفاظ على آليّاتها واستبدادها، بحيث لم يستطيعوا التخلّص منها، فتحكّمت في خطوات دراساتهم ووجهتها على الرغم من تنوّع المناهج التي اعتمدوها والمنطلقات التي انتهجوها دون أن يؤسّسوا رؤى أو تصوّرات موضوعيّة حول صورة الرسول (صلعم) بطريقة نزيهة وخالية من كلّ صراع أو تعصّب ـ 

كما يلاحظ المؤلّف بأنّ كلّ كتابات هؤلاء المفكّرين الإسبان تستبعد التعرّض لأسئلة معيّنة وحقيقيّة تمسّ الوضع القائم دينيًّا وعقائديًّا بين الإسلام والمسيحيّة، ولا تسعى إلى التفكير فيه، وتبقى ضمن الأسئلة التي لا يباح النظر إليها، وفي كلّ فترة نجد أنّ الاعتقادات تتغلّب أكثر فأكثر على أطروحاتهم، معتمدة ومستعينة بإرادة السلطة الكنسيّة، وهذا الواقع للأسف لا يزال مستمرًّا إلى الآن حتّى بالنسبة إلى الوعي الخاصّ بكلّ جماعة من الجماعات الإسبانيّة، مثقّفين وسياسيّين ولاهوتيّين...، وبذلك تبقى شخصيّة الرسول محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) هي الشخصيّة التاريخيّة الوحيدة التي لم ينصفها الغرب لحدّ الآن، متناولًا بشكل موضوعي إنجازاتها وأخطاءها، والتي يبدو أنّها كانت كثيرة، لأنّ الغربيّين ليسوا قادرين على الاعتراف بأيّ فضل لها. إذ إنّه لا توجد أيّ مسرحيّة أو شريط أو كتاب حقّق شهرة عالميّة لسبب أو لآخر، إلّا وتناول شخصيّة النبي بشكل سلبي، بل بأعلى درجة ممكنة من السلبيّة، حسب طبيعة الدور الذي أعطي له في العمل.    

ويرى المؤلّف أيضًا في هذا المجال أنّ الأسلوب الذي يتّبعه الفكر الإسباني المهتمّ بالرسول(صلعم) يعبّر تمام التعبير عن النظرة الإسبانيّة المركزيّة التي ما تزال تهيمن على الكثير من الدارسين والمفكّرين الإسبان المعاصرين في مسألة دراستهم للإسلام بشكل عام.

إذًا فهذه الخطابات عندما تنظر إلى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فهي تنظر إليه من خلال المرجعيّات الشعبيّة الراسخة في الذاكرة الجماعيّة للإسبان منذ العصر الوسيط، وتعتبر أنّ الرسول نبيّ مزيف، وأنّ عيسى هو الإله، وعلى هذا الأساس ركّزت ملاحظاتها الانتقاديّة على ما تستضمره الكنيسة من حقد وعداء، ولم تحاول أن تنظر إلى الإسلام ونبيّه كحدث مرتبط بالسيرورة الدينيّة والتاريخيّة للأمّة العربيّة والإسلاميّة التي أراد الله بها تصحيح اليهوديّة والمسيحيّة بالإسلام.

أو بعبارة أوضح إنّ نقد هؤلاء للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) تعزّزه أساطير تاريخيّة، وتؤطّره وتحرّكه قناعات لاهوتيّة، فكان التحليل المسيحي للإسلام ولنبيّه عليه السلام تحليلًا دفاعيًّا، بمعنى أنّ الإسلام قد جاء لزعزعة دعائم المسيحيّة من أساسها، إذ بدأ أغلب هؤلاء المفكّرين الإسبان، القدماء منهم والمحدثين، من الفكرة التي تزعم بأنّ الإسلام كان تهديدًا خطيرًا ومباشرًا للمسيحيّة، فسعوا بعد ذلك إلى الادّعاء بأنّ الإسلام «نبوّة زائفة»، لذا أضحت هذه الهجمات شرسة لا ترعى ضميرًا؛ لأّنها كانت عدوانيّة الطالع، دفاعيّة المقصد.

كما كانت افتراءاتهم على الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين في العادة افتراءات بذيئة وغير مسؤولة للغاية. فكثير من آرائهم وتصوّراتهم التي حيكت عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بالخصوص كانت سفيهة في أسلوبها؛كأن يعتبر المفكّر مينينديثبلايو الرسول منتحلًا لأحسن ما في اليهوديّة والمسيحيّة[26]، وهي قصص أوجدتها أساطير شعبيّة تخلو من أقلّ قدر من الدقّة التاريخيّة والدينيّة، وتردّدت كثيرًا جدًّا في جميع المؤلّفات الجداليّة. وأغرب هذه الترّهات قد نسجها الخيال المسيحي الإسباني المريض، كما نقلتها الأساطير الشعبيّة، تلك التي تزعم بأنّ الرسول لم يكن مؤسّس ديانة جديدة، وإنما هو مسيحي مرتدّ وحاقد، كوَّن طائفة منشقّة داخل الكنيسة، يحدوه في ذلك طموح منحرف.

لقد أضحى هؤلاء المفكّرون الإسبان منشغلين -كما يقول المؤلّف- بالعنف ضدّ الإسلام ونبيّه بهدي من المبادئ اللاهوتيّة المتشدّدة، وقد جعلوا من سيّدنا محمّد (صلعم) الهدف الرئيس لهجومهم، وبذلك يمكننا اعتبار التهجّم عليه(صلى الله عليه وآله وسلم) بلورة لمقت هؤلاء، ومعهم الغرب، للمسلمين عامّة في أبشع صوره.

ثمّ يعرض المؤلّف في الفصل الثالث لعدد من المتغيّرات التي استجدّت في الساحة العالميّة والدوليّة مثل أحداث الحادي عشر من ستنبر 2001، وعمليّات الإرهاب التي تعرّضت لها عاصمة إسبانيا مدريد، والتي لو استغلّت بشكل إيجابي لكانت فرصة تاريخيّة لدراسة الإسلام ونبيّه بنوع من الهدوء، لكن للأسف زادت الأشياء تدهورًا وتعصّبًا ومقتًا بشكل غير مسبوق في أعمال هؤلاء المفكّرين الإسبان. لذلك فإنّ هذه الحقبة التاريخيّة التي يشير إليها الباحث شهدت بروز ما أصبح يعرف الآن بظاهرة إسلاموفوبيا التي تدعّمت بلا شك ّبفعل التأثير المتعاظم للأفكار المعادية لكلّ ما هو إسلامي، ممّا جعلت من مفكّر إسباني مثل خوستافوبوينو (Gustavo Bueno) حسب ما أورده المؤلّف في كتابه قيد التحليل[27] أن يصيح بأعلى صوته بدعوته إلى اجتثاث الإسلام من جذوره باسم العقلانيّة، كما حدث مع الكنيسة في القرن الثامن عشر، وإسقاط تجربة محدودة في الزمان والمكان على الدين الإسلامي الحنيف، وهو تفكير يحاول أن يتّخذ من الأحداث التي يعيشها العالم مطية ومبررًا للطعن في الإسلامي ونبيّه.

إنّ الفشل الذي عرفته هذه القراءات الإسبانيّة لشخصيّة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وحياته الدينيّة والسياسيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة يفتح أمام أعيننا أسلوب التعامل مع هذه الآراء والأفكار والمواقف بفكر نقدي متيقّظ ومتبصّر وحذر إلى أبعد الحدود، مع إدراك ذلك في ضوء الواقع التاريخي الحقيقي للرسول وسيرته العطرة لإيجاد صيغ ملائمة لكلّ هذه المشكلات، وهذا لن يتأتّى إلّا بالمزيد من التعمّق في المعرفة، وما تفرضه ضرورة المرحلة [العصر المعاصر] من مسايرة لتحوّلات الرؤى العالميّة تجاه الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) - وهنا يأخذ الكتاب أهميّته في هذا القسم عندما ينتقل من التقرير إلى التحليل، ومن التحليل إلى النقد.  

من هذه الزاوية أيضًا يمكننا فهم الأهميّة التي ينطوي عليها هذا الكتاب، فهو يتناول هذا الموضوع خلال مرحلتين زمنيّتين مختلفتين: العصر الوسيط والعصر المعاصر، وهو ما يعد إنجازًا أصيلًا في هذا الميدان، وإذا ما أضفنا نتائج هذه الدراسة إلى نتائج الدراسات التي تناولت الموضوع نفسه أمكننا التوصّل إلى بعض الأحكام المهمّة التي تحكم التحوّلات التي طرأت على موضوع دراسة صورة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في الفكر الإسباني في نسقه الشمولي العام.

إلّا أنّ اللافت للانتباه في هذا الكتاب أنّ المؤلّف لم يُولِ اهتمامًا وعناية كبيرين للوجه الإيجابي والمضيء في هذا الفكر [الفكر الإسباني] الذي وقف إزاء الإسلام والرسول موقفًا نزيهًا وثابتًا، وجعل مسألة البحث عن الحقيقة المحمّديّة في أبهى صورها وتجليّاتها مطمحه ورهانه العلمي، فبنى معرفته بهما بناءً موضوعيًّا، بعيدًا عن كلّ تحامل أو افتراء أو كذب. وللاستشهاد عن هذا الوجه الإيجابي للمفكّرين الإسبان المعاصرين، الذي أغفل المؤلف الحديث عنهم، سنورد الآن نموذجًا واحدًا هو المفكّر الإسباني نيقولاس روزيرنيبوت، وهو أستاذ بجامعة مالقة (Malaga) بإسبانيا، يقول عن النبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في دراسة له بعنوان (مسائل في علاقة الغرب بمحمّد(صلى الله عليه وآله وسلم): المثال الإسباني) شارك بها في ندوة السيرة النبويّة في الكتابات الإسبانيّة، التي احتضنتها جامعة سيدي محمّد بن عبد الله بمدينة فاس سنة 2008: «إنّ حكم الغرب على محمّد نابع ربّما من الحسد، لأنّه نجح في تحقيق هدفه وهو على قيد الحياة، وبالتالي لم يكن بطلًا بعد وفاته، يستفيد آخرون من إنجازاته، ولأنّه كان بطلًا منتصرًا على المستوى الروحي والسياسي والاجتماعي، على عكس غيره من الشخصيّات التاريخية «المنافسة» له، والتي تُقدّم على أنّها بطلة على المستوى الروحي أو المثالي، وبالتالي أنبل منه، ولكن بعد اختفائها. وهذا هو الحال بالنسبة لبوذا وسقراط ويسوع، وهذا ما يعني أنّ آخرين هم الذين استفادوا من تعاليم هذه الشخصيّات بعد أن غيّروها وفق مصالحهم. وما يزعج معارضي محمّد هو أنّه استطاع أن يبلور أفكاره ومبادئه على المستوى الاجتماعي والسياسي، وأنّ هذا المجهود كُلِّل بالنجاح في حياته وبعدها، وهذا على الرغم ممّا عانته هذه الأفكار خلال تطبيقها طيلة التطوّر التاريخي للنظم السياسيّة الإسلاميّة»[28].

 بعد  ذلك يعيب على الغرب قائلًا: «... لم يستطع الغرب حتّى الآن أن يستوعب الإسلام أو نبيّه في نظرة محايدة للتاريخ والحضارة؛ لأنّ القبول ببعض مزايا النبيّ، من شأنه أن يفتح الباب أمام تبنّي دينه، وهو ما كان يجب تجنّبه بأيّ ثمن.ولكن إذا رفض دين محمّد، أي الإسلام، فإنّ الغرب ملزم بشرح الأسباب، مع أنّ هذه الأسباب لن تكون حقيقة، تبعًا لأحكام الغرب المسبقة، وبالفعل فإنّ على الغرب أن يعترف يومًا ما ببعض شمائل الرسول»[29]. ثمّ يتابع اتّهامه للغرب الذي يحاول طمس الحقيقة المحمّدية عن طريق إلغاء كلّ اهتمام علمي حقيقي بها من قبل مفكّريه، مضيفًا إلى أنّه «حتّى الآن كلّ مواقفه تجاه النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أثبتت أنّها غير صحيحة، ولا تفي بالغرض الذي وضعت من أجله. كما أنّه من غير الممكن ترك محمّد دون تقييم، تبعًا لأحكام مسبقة للحضارة الغربيّة فاقت أربعمائة سنة. والواقع أنّ الكثير من قلق الغربيّين تجاه الإسلام والمسلمين، يأتي نتيجة غياب هذا التقييم، ولترك الحكم على نبيّ الإسلام معلّقًا، ناهيك عن اللجوء إلى حلول مؤقّتة لا تؤدّي إلّا إلى زيادة هذا القلق»[30].

نخلص إذًا ممّا سجّلناه آنفًا من ملاحظات إلى القول إنّ أهمّية كتاب الدكتور محمّد بلال أشمل لا تعود إلى كون المكتبة العربيّة في أمسّ الحاجة إليه، لما تعانيه من نقص وفقر كبيرين بخصوص هذا الموضوع من الدراسات فحسب، كما لا تعود هذه الأهميّة فقط إلى المجهود الفكري/ النظري الذي بذل فيه عبر مختلف فصوله وقضاياه؛ بل أيضًا لأنّ المؤلّف، رغم اقتحامه لموضوع شائك وملتبس وحسّاس، لم يسقط في تكريس المبتذل والمكرور على حساب الموضوع المطروق.

ولهذا فإنّ أهميّة هذا الكتاب النوعيّة كذلك تكمن في ميزته المنهجيّة التي أبعدته عن دائرة التكرار والاجترار للأفكار والآراء المتداولة في الموضوع.

كما أنّ الأهداف الضمنيّة التي يسعى إليها المؤلّف من خلال تأليفه لهذا الكتاب هي حثّ الفكر الإسباني على التحرّر من هذه الأفكار التي لا تخدم مصالح إسبانيا الحيويّة مع المسلمين، وفي هذا الصدد يبرز الأستاذ أسئلة تاريخيّة فكريّة محاولًا تعميق الواقع التاريخي للمسألة الدينيّة ضمن شروط الواقع الملموس، وهي لا تتطلّب فقط التخلّص من الإرث والأحكام والتصوّرات المتوارثة التي أخذت صبغة القداسة، بل تفرض عدم التورّط في تبنّي مناهج علميّة وأكاديميّة لا تنطبق على معتقداتنا الدينيّة الإسلاميّة ورموزها المقدّسة، وعلى رأسها سيّدنا محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم).

وممّا يزيد طريقة التحليل في هذا المؤلّف قيمة ويضفي عليها جاذبيّة، تلك النصوص العلميّة الغنيّة التي أوردها المؤلّف لهؤلاء المفكّرين، ثمّ أتبعها بترجمة أدبيّة تساعد القارئ غير الملمّ بالإسبانيّة على استكمال الصورة وبناء المعرفة بالموضوع، وما قدّمه المؤلّف في هذا المجال من ملاحظات جديرة بأن تحظى بنقاش مكثّف مستقبلًا للكشف عن طبيعة الأخطاء والهنات التي سقطت فيها هذه الخطابات الإسبانيّة المعادية للإسلام ولنبيّه الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم).

يبقى القول بأنّ هذه الدراسة تمثّل إسهامًا عمليًّا طيّبًا ومثمرًا، وهي تعدّ في رأينا من الدراسات الرائدة في موضوعها، وأنّ هناك كذلك بالمقابل الكثير من الاستنتاجات والملاحظات الصائبة التي يستحقّ صاحبها التهنئة عليها.  

وبهذا القدر نكون قد قدّمنا تقديمًا عامًّا وأوّليًّا لأفكار المؤلّف، مع التأكيد على عموميّة القراءة والعرض والتقديم، وقد تجنّبنا تفصيل العديد من الآراء والمواقف التي تحتاج إلى دراسات مستقبليّة، ونحن على يقين أنّ مساهمة من هذا النوع تحتاج إلى نقاش واسع ومكثّف. ولا يسعنا في الأخير إلّا أن ننوّه بالجهد العلمي الذي بذله الباحث الدكتور محمّد بلال أشمل في كتابه هذا، وما قام به من اجتهادات لنقل أفكار هؤلاء المفكّرين الإسبان بوضوح وأمانة.

لائحة المصادر والمراجع

الإسلام في تصوّرات الاستشراق الإسباني من ريموند سلولوس إلى أسين بلاثيونس، عبد الواحد العسري، بيروت، 2015.

صورة الرسول محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في الفكر الإسباني المعاصر، تزكية الذات وتجريح الغير، تأليف د. محمّد بلال أشمل، صادر عن دار نون للنشر، دولة الإمارات العربيّة المتحدة، الطبعة الأولى 2015.

صورة الرسول محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في الفكر الإسباني المعاصر: تأليف د. محمد بلال أشمل، الطبعة الأولى، دار نون، الأردن، 2015.

قراءة في تصوّرات مفكّري العصر الوسيط» للدكتور محمّد رضى بودشار، وهي قراءة ألقاها بمقرّ فرع مؤسّسة «مؤمنون بلا حدود»  للدراسات والأبحاث بالرباط/ المغرب، بتاريخ 06 مارس 2016.

الغرب المتخيّل: صورة الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط)، محمّد نور الدين أفاية، بيروت - الدار البيضاء، 2000.

نيقولاس روزيرنيبوت «مسائل في علاقة الغرب بمحمّد(صلى الله عليه وآله وسلم): المثال الإسباني»، ضمن «السيرة النبويّة في الكتابات الإسبانيّة»، جمع وتنسيق سعيد المغناوي، فاس، 2009.

 

-----------------------------------


[1]*- باحث أكاديمي من المغرب.

[2]- صادر عن دار نون للنشر، دولة الإمارات العربيّة المتّحدة، الطبعة الأولى 2015.

[3]- صورة الرسول محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في الفكر الإسباني المعاصر: تزكية الذات وتجريح الغير، محمّد  بلال أشمل، الطبعة الأولى، دار نون، الأردن، 2015، ص17.

[4]- نفسه، ص21.

[5]- نفسه، ص33.

[6]- نفسه، ص59.

[7]-  نفسه، ص67.

[8]- نفسه، ص75.

[9]- صورة الرسول محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في الفكر الإسباني المعاصر: تزكية الذات وتجريح الغير، محمّد  بلال أشمل، الطبعة الأولى، دار نون، الأردن، 2015،  ص83.

[10]- نفسه، ص89.

[11]-  نفسه، ص103.

[12]-  نفسه، ص109.

[13]-  نفسه، ص115.

[14]-  المرجع السابق، ص20.

[15]-  صورة الرسول محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في الفكر الإسباني المعاصر: تزكية الذات وتجريح الغير، محمّد  بلال أشمل، الطبعة الأولى، دار نون، الأردن، 2015،  ص22.

[16]- صورة الرسول محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في الفكر الإسباني المعاصر: تزكية الذات وتجريح الغير، محمّد  بلال أشمل، الطبعة الأولى، دار نون، الأردن، 2015،  ص42.

[17]- كتاب: (الغرب المتخيّل: صورة الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط)، محمّد نور الدين أفاية، بيروت - الدار البيضاء، 2000، ص123، 143.

[18]- انظر: تقديم كتاب (صورة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في الفكر الإسباني المعاصر): تأليف د. محمّد بلال أشمل. «قراءة في تصوّرات مفكّري العصر الوسيط» للدكتور محمّد رضى بودشار.

[19]-  الإسلام في تصوّرات الاستشراق الإسباني من ريموند سلولوس إلى أسين بلاثيونس، عبد الواحد العسري، بيروت، 2015، ص121.

[20]-  انظر: تقديم كتاب (صورة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في الفكر الإسباني المعاصر): تأليف د. محمّد بلال أشمل. «قراءة في تصوّرات مفكّري العصر الوسيط» للدكتور محمّد رضى بودشار.

[21]- المرجع نفسه.

[22]- انظر كتاب: (صورة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)في الفكر الإسباني المعاصر: تزكية الذات وتجريح الغير)، محمّد بلال أشمل، ص59 .

[23]-  انظر كتاب: (صورة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)في الفكر الإسباني المعاصر: تزكية الذات وتجريح الغير)، محمّد بلال أشمل، ص61 .

[24]-  نفسه، ص92 .

[25]-  انظر كتاب: (صورة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)في الفكر الإسباني المعاصر: تزكية الذات وتجريح الغير)، محمّد بلال أشمل، ص79 .

[26]-  انظر كتاب: (صورة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)في الفكر الإسباني المعاصر: تزكية الذات وتجريح الغير)، محمّد بلال أشمل، ص84.

[27]- انظر كتاب: (صورة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)في الفكر الإسباني المعاصر: تزكية الذات وتجريح الغير)، محمّد بلال أشمل، ص103.

[28]- نيقولاس روزيرنيبوت «مسائل في علاقة الغرب بمحمّد(صلى الله عليه وآله وسلم): المثال الإسباني»، ضمن «السيرة النبويّة في الكتابات الإسبانيّة»، جمع وتنسيق سعيد المغناوي، فاس، 2009، ص116.

[29]- نيقولاس روزيرنيبوت «مسائل في علاقة الغرب بمحمّد(صلى الله عليه وآله وسلم): المثال الإسباني»، ضمن «السيرة النبويّة في الكتابات الإسبانيّة»، جمع وتنسيق سعيد المغناوي، فاس، 2009، ص119.

[30]-  نفسه، ص119.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف