محتويات العدد
■ معالم الخطاب النقدي للاستشراق
حسن أحمد الهادي
■ مباني المستشرقين في دراسة القرآن الكريم
الشيخ لبنان حسين الزين
■ القراءات المختلفة وإضافات الشيعة الإماميّة على القرآن
مثير بار آشر ـ تعريب: زينة الجمال ـ نقد وتعليق: سامر عجمي
■ مفهوم اللوغوس بين الكتاب المقدّس والقرآن الكريم في تصوّر أنجيليكا نويفيرت
عمر علي حسين، أ.د. منشد فالح وادي
■ الاستشراق في دوافعه وتهافتاته
الشيخ حسن أحمد الهادي
■ من الإماميّة إلى الاثنى عشريّة دراسة نقديّة لنظريّة «إيتان كولبرغ» في ظهور الشيعة
محسن أوليري
■ دور الدراسات الاستشراقيّة؛ وتأثيرها على الفهم الغربي للتّسامح الديني
أورنيلا سكر
■ «الحديث في الدراسات الاستشراقيَّة»
مصطفى محمّد مكّي
الافتتاحية
بسم الله الرحمن الرحيم
معالم الخطاب النقدي للاستشراق
تمتاز حركة الاستشراق على امتداد مراحلها الزمنيّة، وتنوّع مدارسها وشخصيّاتها، ومناهجها، وأولويّاتها البحثيّة والتحقيقيّة، بأنّها حركة علميّة منظّمة شارك فيها عدد كبير من المستشرقين المتخصّصين في علوم ومجالات علميّة متنوّعة، وتختلف في اتّجاهاتها وخلفيّاتها ودوافعها وقيمها الفكريّة، مثلما تختلف في النتائج البحثيّة والعلميّة التي توصّلت إليها؛ وهو ما يفسّر تنوّع الإنتاج العلمي والبحثي والتحقيقي لهذا الجهد الاستشراقي المعرفي وانتشاره في أهمّ لغات العالم.
وسواء قبلنا بفرضيّة أنّ الاستشراق كان ظاهرةً منظّمة تمثّل جهدًا معرفيًّا قام به الغربيّون في محاولة لفهم الحضارة الإسلاميّة والعربيّة في الشرق؛ فكريًّا، واجتماعيًّا واقتصاديًّا... والاستفادة من غنى تراثها، أم جمعنا إلى هذه الفرضيّة فرضيّة أنّ الاستشراق حركة غير بريئة منذ نشأتها الأولى، وترتبط في كل مشاريعها العلميّة والفكريّة بالأهداف الكنسيّة الدينيّة والاستعمارية بأوجهها المختلفة. وأنّ الانطباع العام هو ذلك التوجّس والشكّ وعدم الوثوق في براءة نوايا المستشرق. وإن كان بعض هذا الشكّ وذاك الارتياب ناشئًا من صنع بعض المستشرقين المسرفين الذين لم يتجرّدوا عن ذاتيّاتهم الفكريّة والدينيّة حين كتبوا عن العرب أو عن الإسلام.
ومن الواضح أنّ غالب النتائج التي توصّلوا إليها كانت محمّلةّ بتصوّرات الذات الغربيّة عن الشرق؛ التي لا تفارق تراكمات الصراع الفكري والحضاري الممتد عبر العصور، ولا تحيد عن مظلّة الأهداف الغربيّة التي تعتبر أنّ النموذج الوحيد الذي ينبغي أن يسود العالم هو نموذج الثقافة الغربيّة باعتبارها -حسب دعواهم- مركز الثقافات، والمحور الذي تدور حوله بقية الثقافات والحضارات، وهي التي تشكّل المرجعيّة المثلى والإطار العام لصياغة المسيرة الإنسانيّة.
* * *
وليست المشكلة في أنّ الكثيرين في هذا العالم الإسلامي قد قرأوا الغرب من الغرب نفسه، وبلُغَته ومن جامعاته ومراكزه العلميّة المتخصّصة...، بل إنّ هذا عين الصواب، وهو مقتضى المنهجية العلميّة التي ينبغي المحافظة عليه، وهو يعبّر عن مناقبيّة علميّة ترتبط بدراسة الآخر من مصادره ووفق مناهجه. ولكن تكمن المشكلة في صناعة العقول والأفكار وفق المنظومة الغربيّة وفي التبعيّة الفكريّة والقيميّة له، وفي تكوين القناعة المعرفيّة بمكوّنات تلك المنظومة وبمنهجيّاتها في فهم الإنسان والمجتمع.
والأكثر استغرابًا في هذه المسألة أنّ قسمًا معتدًّا به من هؤلاء وبالاعتماد على مرجعيّة الفكر الغربي، قد عمد إلى نقد الفكر الإسلامي ومنظومة القيم الإسلاميّة في الكثير من القضايا الفكريّة والثقافيّة، والترويج لقيم الأطروحة الغربيّة ومبادئها وكأنّ الإنسان في المجتمع الغربي يعيش الحالة المثلى للحياة والسعادة.
وبالاستناد إلى هذا الواقع نجد أنفسنا كباحثين ومراكز دراسات ومؤسّسات متخصّصة وجامعات... أمام تحدٍ فكري وعلمي كبير ومتنوّع يحتاج إلى دراسة علميّة عميقة في الأهداف والخلفيّات والدواعي بمستوى أهميّة دراسة الفكر نفسه، وصياغتها في قضايا كلّيّة جامعة، وعرضها على كل هذه الجهات لتشكّل مدخلات لخطط استراتيجيّة في مشروع النقد المعمّق؛ تحليلًا وتفكيكًا ونقدًا للأطروحة الغربيّة؛ في مبانيها وأصولها، ومركزاتها، ومناهجها، ومضامينها وتجلّياتها. إلى نقد المركزيّة الغربيّة المتعالية التي تنبذ الآخر المختلف وتصادر حقّه في الوجود الحضاري والثقافي...
* * *
وإنّ منهج النقد المطلوب في أحد مستوياته، عبارة عن النظر في قيمة الأفكار الواردة في ما ننقده، وبيان مواطن الضعف في أي نظريّة أو منهج، وتسليط الضوء على عثراتها وتناقضاتها الداخليّة، وتهافتها وعدم تماسكها، وضعف انسجام أفكارها، والخروج بنتائج لا تتناسب مع المقدّمات، ولوازمها الفاسدة والآثار السلبيّة التي تترتّب عليها، وذلك بمراعاة دوائر النقد، حيث يجب أن يركّز النقد على مستويين من الأفكار والقضايا:
الأوّل: نقد المباني والمرتكزات العامّة من حيث المنهج والمضمون والمحتوى، إضافةً إلى نقد الأفكار الفرعيّة الناتجة عن هذه المباني والمرتكزات، على أن لا يغرق النقد في مناقشة التفاصيل على حساب المباني العامّة.
والثاني: تسليط الضوء على العوامل والظروف والمبادئ المؤسِّسة والجذور الاجتماعيّة والنفسيّة التي ساعدت على وجود عثرات وضعف في المباني والأفكار الفرعيّة، إضافةً إلى الكشف عن تحيّزات المُفكِّر، والسياقات الحياتيّة الخاصّة به التي انعكست على كيفيّة معالجته للأفكار التي هي مورد العرض والنقد.
وهذا ما يجب اعتماده في الخطاب النقدي للاستشراق؛ إذ الملاحظ عدم تبلور مكوّنات هذا الخطاب النقدي إلّا بعد عهود طويلة من وجود الاستشراق فعليًّا على أرض الواقع، وإن وجدت محاولات، فإنّها لم تحقّق الأهداف المرجوّة في مواجهة المد الاستشراقي المعرفي. خاصة مع دخول عنصر انبهار بعض المفكّرين والمثقفين العرب والمسلمين بهذه الجهود العلميّة التي يخدم بها المستشرقون تراثًا غير تراثهم[2]. وهذا ما يؤكّد الحاجة إلى خطاب نقدي معمّق وشامل.
ويبدو أنّنا نحتاج إلى خطاب نقدي معاصر ومعمّق، تكون أولى مراحله في نقد ودحض المرجعيّات الفكريّة والفلسفيّة والاجتماعيّة والنفسيّة والمبرّرات غير المنطقيّة التي استند إليها المستشرقون في الكتابة عن الإسلام خصوصًا والشرق عمومًا، علمًا بأنّ بنية الاستشراق ليست سوى بنية من الأكاذيب أو الأساطير التي ستذهب أدراج الرياح إذا ما انقشعت الحقيقة المتعلّقة بها كما يصرّح إدوارد سعيد.
كما يجب أن يلحظ الخطاب النقدي المعمّق والشامل أثر الاستشراق الواضح في الباحثين العرب والمسلمين، إذ لا ينكر جلّ الدارسين العرب تمتّع المستشرقين بالبراعة في التحقيق والتدقيق والغوص في التراث، حيث ذهب عدد غير قليل من الدارسين العرب إلى الإشادة بجهود المستشرقين، والثناء على القيمة العلميّة لأعمالهم. قال أحدهم: «الحق أنّ مناهج المستشرقين في البحث هي مناهج تتميّز بالجد، وبالدأب على البحث، والتعمّق، والتحليل، والاستقراء، والاستنتاج والوصول إلى الحكم العام(…) وبقدر ما في طرائق البحث والاستنتاج من سلامة وحياد تكون الأحكام العامّة دائمًا سليمة محايدة بعيدة عن الإجحاف والأغراض»[3]. ويذهب عدد آخر من الدارسين أبعد من ذلك، فيرى أنه بوصفنا عربًا مدينون للاستشراق الذي وظّف العقليّة الغربيّة المنظّمة في دراسة التراث العربي، ممّا سمح له بالبقاء والحياة[4].
ولكن بالمقابل يوجد من أنصف الخطاب النقدي للاستشراق، قائلًا: «فإذا كانت القضايا التي أثارها الاستشراق تعدّ أخطر هجوم قام به أصحابه على العرب وشخصيّتهم ودينهم ولغتهم وفكرهم وثقافتهم وأدبهم، فإنّ ردّ الفعل الذي قام به العرب يعدّ بحقّ أروع دفاع عمّا هو عربي وإسلامي، حتّى ليستطيع المرء أن يعتبر ما أنتجوه خلال مواجهتهم لهذا الهجوم أروع ما في أدبهم المعاصر من فكر وفلسفة وعمق وثقافة ومنطق»[5]. وسواء اعتبر المرء هذا النوع من الأدب أدبًا جدليًّا أو أدبًا فلسفيًّا أو أدبًا دفاعيًّا، فلا يسعه إلّا أن يعترف بروعة أسلوبه وغزارته وما فيه من خصائص ومميّزات[6].
ويلحظ (محمّد عبده) جنبة أخرى ينبغي ملاحظتها في الخطاب النقدي للاستشراق، حيث يرى أنّ أوّل شرارة ألهبت نفوس الغربيّين، فطارت بها إلى المدنية الحاضرة، فكانت تلك الشعلة الموقدة التي كان يسطع ضوؤها من بلاد الأندلس على ما جاورها، وعمل رجال الدين المسيحيّين على إطفائها عدّة قرون، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. واليوم يرعى أهل أوروبا ما نبت في أرضهم بعد أن سقيت بدماء أسلافهم المسفوكة بأيدي أهل دينهم في سبيل مطاردة العلم والحرّيّة وطوالع المدنيّة الحاضرة.
وخلاصة القول - بالإضافة إلى ما ذكرنا- إنّ الخطاب النقدي للاستشراق وأطروحات المستشرقين ينبغي أن يلحظ:
التسليم بأنّ كثيرًا من المستشرقين يشاركون في مؤامرة ذات خلفيّات دينيّة واستعماريّة تستهدف إسقاط الفكر الإسلامي وتشويه تعاليمه، وتقديمه بصورة نمطية جديدة.
الالتفات إلى علميّة ما يطرحه المستشرقون، ما يقتضي التعامل معه بنفس مستوى العلميّة في النقد، ويتطلّب معرفتهم بالمصدر الذي ينبع منه الاستشراق ذاته، وبالمناهج التي تُتّبع في أبحاثه.
ملاحظة مشروع الغرب الدائم في سعيه لسيطرة المركز الغربي على الشرق ورغبة امتلاك السيادة عليه وإعادة بنائه وإنتاجه سياسيًّا وعقائديًّا وعلميًّا...
الارتكاز على الحجج والبراهين المنطقيّة في النقد، ولا سيّما تلك التي يقبلها العقلاء كعقلاء.
عدم الاكتفاء ببيان المنظور التراثي أو الديني في النقد والمواجهة، فهذا مطلوب لبيان الحقيقة ورفع الالتباس، لكن لا يكفي لهدم فكرة الآخر.
ملاحظة أنّ الخطاب الاستشراقي إنشاء لا يعكس حقائق أو وقائع، بل يصوّر تمثلّات أو ألوانًا من التمثيل حيث تتخفى القوة والمؤسّسة والمصلحة. إنّه خلق جديد للآخر، أو إعادة إنتاج له.
إنّ النظرة للاستشراق لا بدّ أن تجابه بطريقة علميّة صحيحة خالية من الشوائب الفكريّة والتأثيرات الخارجيّة المختلفة.
-------------------------------------
[1]- مدير التحرير.
[2]- ينظر: علي بن إبراهيم النملة: نقد الاستشراق والمستشرقين في المراجع العربيّة، مكتبة الملك فهد الوطنيّة، ط1، 2010، ص15.
[3]- علي حسني الخربوطلي، المستشرقون والتاريخ الإسلامي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، دط، 1988م، ص123.
[4]- م.ن، ص124.
[5]- أحمد سمايلوفيتش، ص684.
[6]- م.ن.