الدكتور السيد حسين شرف الدين باحث وأستاذ جامعي في حقل الثقافة والاتّصالات، وهو عضو في الهيئة العلميّة في مؤسّسة الإمام الخميني للدراسات والتحقيقات، ويمارس في الوقت نفسه نشاطات تعليميّة وتحقيقيّة. صدرت له مجموعة من الكتب التخصّصيّة منها: (الإسلام وعلم الاجتماع الأسري)، (المفاهيم والآراء النّظريّة في موضوع الثقافة والاقتصاد)، (التسلية الإعلاميّة)، (النموذج المنشود لملء أوقات الفراغ والتسلية في الإسلام)، (القيم الاجتماعية من وجهة نظر القرآن الكريم)، كما نشر العديد من الدّراسات حول الميديا الاجتماعيّة وأثرها في السلوك العام.
في هذا الحوار نتناول معه قضايا سوسيو- ثقافيّة حول نمط حياة الإنسان المعاصر وخصوصاً ما يتّصل منها بثقافة الاستهلاك.
«المحرّر»
* كيف ترى في الاجمال إلى خصائص وقيَم نمط الحياة الإنسانية في زمن ما بعد الحداثة؟
- لقد عمد مختلف المنظرين من أمثال: جيمسون، وباومن، وليوتار، وبورديو، وغيدنز، وآخرين إلى لفت الانتباه إلى بعض الخصائص التي سوف نشير إلى أهمّها فيما يلي. إنّ إنسان ما بعد الحداثة ـ خلافًا للإنسان القديم والحديث ـ الذي يُبدي تعلّقًا نظريًّا وعمليًّا بالثقافة والنظام المفهومي الغالب بوصفه مظلّةً فوق مجتمعه، يعيش في صلب أنواع متغيّرة من أنماط الحياة ومع مجموعة من العناصر المرنة والمليئة بمنعطفات الحياة. إنّ نمط حياته يتمّ توصيفه تبعًا للنموذج الحاكم على تفكيره وبيئته، بخصائص غالبة، من قبيل: الموديلات، والانفتاح على الإبداعات المتتابعة والمتلاحقة، والعلمانيّة، والإنسويّة، والجسمانيّة، وضيق الأفق، وضحالة العمق، والمطالبة بالرفاه والكماليات، واستثارة الشهيّة المتواصلة للاستهلاك، وبالتالي تحويل الاستهلاك إلى أمر مثالي وغاية مطمح للأفراد، والتهرّب من أنواع الرياضات جميعها وتحمّل المشقّات البناءة للتنمية والتكامل الروحي، والتمحور حول الوهم والخيال والرومنطيقية، والتظاهر والتبجّح، وحبّ التميّز والتفرّد ـ ونعني بذلك تميّز الأشخاص على أساس موقعياتهم المختلفة في مقدار استفادتهم الاستهلاكية وتمتّعهم بالموارد ـ وتحطيم الذات، والحسّية، والذوقية، وتغليب الأميال ـ بمعنى استبدال الاحتياجات والمصالح بالميول والأهواء ـ والنّزوع إلى اللّذة، والسرور بمعنى الإفراط في اللّذة والنّشوة الناجمة عن الاستهلاك والجوانب الترفيهيّة والمسلّية والممتعة وما إلى ذلك، والافتقار إلى المرجعيّة القيَميّة والمعياريّة المعتبرة على المستوى العام، والديمقراطية العامة بمعنى عدم الطبقية، ورفع سلسلة المراتب، ومنح الحق في الاستهلاك للجميع على الرغم من اختلافهم في الحصول الفعلي، وكذلك الحفاظ على عدم المساواة، وإحلال قيَم الاستهلاك بدلاً من العمل والإنتاج، والنّزعة الفردانيّة المتمحورة حول الذات والمنبهرة بنرجسيتها، وانخفاض مستوى الوعي في ضوء الإعلام الإغرائي والإغوائي، وتحويل الدين والروحانيات إلى مجموعةٍ من الموضوعات السارّة والبهيجة، وترجيح كفّة المعنويات العلمانيّة على المعنويات ذات المناشئ الميتافيزيقية، والاعتقاد بالحقائق الغيبية والما ورائيّة وما إلى ذلك. كما ذكرت ـ بطبيعة الحال ـ خصائص أخرى لفكر ما بعد الحداثة وعقيدتها، وهي بالطبع منعكسة على نمط حياتها، من قبيل: نبذ التراث، والتأثر العميق بوسائل الإعلام في العالم الافتراضي، والانفتاح الفكري، والنسبية، والتسريع في تجربة المتغيّرات، والتأكيد على الصيّغ والظواهر بدلًا من المضامين والمحتويات، وعدم التكهّن، وتشيئ الأمور أو تصنيمها، وزوال التمايز بين ثقافة النخبة وثقافة العامّة، والافتقار إلى الجذور والبُعد التاريخي، وهيمنة التكنولوجيا المعيدة للإنتاج، من قبيل: التلفزيون، والكامبيوتر، وعدم أصالة القيَم الغالبة، وتاريخ صلاحية استهلاك العلاقات والأشخاص على غرار البضائع والأشياء، وانهيار الحدود بين التصوّر أو التشبّة، وبين الحقيقة والواقعية، وغموض التمايز بين الأمر الواقعي والأمر غير الواقعي، وزوال الحدود بين ما بعد الواقعية والحياة اليومية، واعتبار الاستهلاك بوصفه أسطورة للسعادة، والقيمة الظاهرية للاستهلاك بدلاً من القيمة الواقعية، والفهم المصطنع لكلّ شيء بدلاً من التصوّر الذاتي، وتأصيل التّلاعب اللّفظي، ومحوريّة العلائق الفرديّة بدلاً من النّماذج الأصيلة والبنيويّة في تعيين السلوكيات والأفعال، واعتبار المجتمع بوصفه مجموعةً متكثرةً من الرغبات والتعلّقات والأمزجة، والاعتراف بالنّماذج المتنوّعة للحياة، وإنكار السلوكيات الفوقية، والحقائق العامة والشاملة، من قبيل: الدين والعلم، وخفضهما إلى مستوى الظواهر الثقافية، والاعتراف بالتعدّدية الدينية والأخلاقيّة والمعرفيّة وذات الحقيقة، وإضعاف كيان الأسرة، وزوال الحدود الثقافية، ونفي العقلانية والرسمية ومحورية القانون في الأمور، وتحقيق الهوية وبناء الكينونات على أساس الغيرية، وفقدان المعايير المعيّنة والمحدّدة بشأن كلّ شيء، والنقاش في جميع الأفهام والاعتبارات المقبولة في المجتمع وما إلى ذلك.
* كيف تحوّلت أوقات الفراغ إلى أزمة بوصف كونها ظاهرة بيِّنة من ظواهر عصر ما بعد الحداثة وتداعياته؟
- الفراغ أو البطالة المفرطة، يتمّ الحديث عنها في بعض الحالات بوصفها مصدرًا لبعض الأزمات في المجتمع الحديث وما بعد الحديث. إنّ الفراغ ـ بمعنى مرحلة الخلوّ من جميع أنواع النّشاط الإلزامي في المجتمع الحديث المتأخر والمجتمع ما بعد الحداثي، وإنسان هذا العصر ـ قد اكتسب بسبب التحرّر النسبي من دائرة الإلزامات المضنيّة، ومحوريّة الفرد، والإيكال إلى النّفس، وإشباع الرغبات، والمبالغة في التنوّع، وتوفر المزيد من إمكانيات الازدهار الفردي في ضوء الاشتغال بالنشاطات الترفيهية والتفنّنيّة، قد اكتسبت جاذبية كبيرة، وبسبب هذه الجاذبية فإنّها تشتمل على استعداد كبير للإفراط وكسر القواعد والإدمان. إن الفرد في مقام تجربة هذه الحالة واقف إلى حدّ كبير على فاعليته في توظيف إرادته، وهو أكثر إحساسًا وشعورًا بلذّة وجوده وصيرورته، وإنّه بسبب امتلاكه لهذه الامتيازات يميل أبدًا إلى ترجيحها على العمل الإلزامي من أيّ نوع كان. إنّ الفراغ الذي يتمّ تعريفه في المجتمع التقليدي في إطار العمل وبوصفه مكمّلاً ومتمّمًا له، قد اكتسب في هذه المرحلة أصالة، بل وطغى حتى على العمل. إن الأشخاص يعملون كي يوفّروا مستلزمات تزجية أوقات الفراغ ونفقاتها والحصول على المزيد من الإمكانات؛ من أجل حسن الاستفادة من هذه الأوقات. كما أنّ الفراغ يطلق أحيانًا بوصفه ظرفًا للترفيه والتسلية، وأحيانًا يُطلق على الاشتغالات الترفيهيّة والمسلية الشائعة في هذه المرحلة الزمنية. وربّما كان أهمّ خصائص الفراغ بالنسبة إلى الإنسان في هذا العصر، هو الترجيح المطلق له على العمل والسعي الإلزامي بسبب الآثار الذهنيّة والنّفسيّة والسّلوكيّة الخاصة له. وبعبارة أخرى: لقد اكتسب الفراغ في العالم الحديث المتأخّر وما بعد الحديث أصالة، وأصبح للعمل موقعًا تبعيًّا. إنّ غلبة هذا الفهم قد أدّت بالكثير من الآراء الناظرة إلى أساليب الحياة إلى اعتبار أوقات الفراغ وطرق تزجيته ـ وليس العمل وطرق الاشتغال ـ بوصفها واحدة من العناصر المحورية، بل والنواة الأصلية لأنماط الحياة الجديدة. من الواضح أنّ حجم ميل الأشخاص إلى أوقات الفراغ، وترجيحها على العمل، يرتبط بشكل وثيق بنوع العمل، وساعات العمل، والنفقات الفيزيقية والنفسية المترتبة على العمل، والموقع والمنزلة الاجتماعية للعمل، والمزايا الأصلية والفرعية ـ الأعم من المادية وغير المادية ـ ومستوى القدرة على القيام بالمهام الموكولة، ومقدار الرغبة والرضا بالعمل، والعلاقات الناشئة من العمل، والثقافة المؤسّساتية وما إلى ذلك. لا شكّ في أنّ الارتقاء الكيفي بالعمل يعدّ من أهمّ العناصر والأسباب في خفض الرغبة بالفراغ. وبعبارة أخرى: إنّ الذي اختزل مسؤوليّته في الحصول على مجرّد الاستمتاع واللذة فقط، إنّما سيجد الرغبة من نفسه إلى العمل إذا ضمن العمل له مثل هذه المتعة واللذة التي تحقّقها له أوقات فراغه. وباختصار فإنّ الفراغ المفرط يمهّد الأرضيّة للتقاعد الاختياري عن العمل والسعي البنّاء، وتوقّف أو إبطاء عجلة الازدهار، والطاقات الفرديّة في ضوء العمل والجهد الخلاق، وتعزيز الروح الاستهلاكية، والتنوّع، والكماليات، واللّذة، والسرور، وهدر الإمكانات وما إلى ذلك. ومن الواضح أنه لا يمكن تصوّر نقطة نهاية لهذا المسار الذي يفرط في طلب اللذّة والمتعة وبناء الجنّة الموعودة في سراب هذا العالم، وإنّ الحصول على أيّ مقدار من الإمكانات الرفاهية والاستهلاكية، لا يُؤدّي إلى عدم إشباع رغباته الطاغية فحسب، بل على العكس من ذلك سوف يزيد من استعار شهوته ورغبته في الحصول على المزيد. من الواضح أنّ التخبّط في هذه الدورة والحلقة المفرغة، يسير بالحياة نحو الفراغ والتّفاهة. وسوف تتنزّل غاية آمال الناس إلى مستوى اللّذة الطائشة، وتفقد الحياة فلسفتها الحقيقيّة. إنّ أزمة المجتمع والإنسان في هذه المرحلة يعود سببها إلى تجاهل الأهداف والغايات، والتأصيل المفرط للوسائل والأدوات، أو تغلب الهوامش على النّصوص. يمكن لاستمرار هذا المسار أن يُوقف عجلة التّكامل الاجتماعي، ويبرّر سعي الإنسان إلى مجرّد الحصول على المزيد من الإمكانات من أجل المزيد من الاستهلاك وطلب اللّذّة. وبلُغةٍ دينيّة وتربويّة: حيث إنّ عالم المادة هو عالم التّزاحم والتّضاد، لا يمكن للناس أبدًا أن يصلوا إلى لذّة مجرّدة من الألم، وارتفاع مجرّد عن السقوط، وسرور عار عن المحن والمرارة. يضاف إلى ذلك أنّ المطلوب في هذا العالم في المجموع عبارة عن أمورٍ نسبيّةٍ، وإنّ الإنسان فيها لا يصل إلى الرضا الكامل أبدًا.
* تأسيسًا على ما ذكرتم كيف يؤدّي الفراغ في نهاية المطاف إلى الاغتراب عن الذات؟
- الفراغ في هذه الرؤية عبارة عن مساحة لا متناهية من إشباع الغرائز والمتع الحسّيّة. وإنّ دائرة الفراغ تعني دائرة التحرّر المؤقّت من المستلزمات العادية والعرفيّة والدينيّة والمهنيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، ومساحة التحرّر التام والكامل وإيكال الفرد إلى نفسه ونزعاته، ومساحة العيش في إطار الإبداعات الفردية، أو الاستسلام إلى الابداعات الطبيعية لمؤسّسات ومنظومات الفراغ. إنّ الفراغ يمنح الأفراد إمكانيّة تجربة الهويّة المصطنعة والانفعاليّة. إنّ الجانب الممتع من الفراغ والانشغالات الفراغيّة إنّما يكمن بشكل رئيس في المتعة واللذة الحقيقيّة أو الوهمية التي يحصل عليها الفرد في هذه الموقعيّة بشكل وآخر. ومن الواضح أنّ المتع واللّذات الوهميّة في هذا المجال لا تتوقّف عند حد أو مقدار خاص. إنّ هذا النوع من اللّذة التي تنشد التنوّع تحتوي على قابلية عالية وكبيرة على طلب المزيد والإفراط وإيجاد نوع من الإدمان المصحوب بالغفلة. إن الانغماس في هذا السنخ من المشاغل ـ بالإضافة إلى إهدار الوقت بل وحتى الثروات الوجودية والتخلّف عن الوظائف والمسؤوليات الهامة في بعض الأحيان ـ يؤدّي إلى توجيه الفرد إلى نوع من الإشباع والشعور بالخواء والعدمية. ثم إنّ تأصيل الفراغ يعدّ نوعًا من الإقلال العملي الذي لا يتناسب مع المنطق الحاكم على قواعد الحياة في هذا العالم ونمط العيش المتعارف، ويسلب الفرد فرصة التطوّر والازدهار الإنساني في إطار التكامل والتسامي. وعلى حدّ تعبير بعض علماء النفس: إنّ التماس الفراغ إنّما يأتي في الحقيقة من رغبات الطفل الكامن في وجود كلّ واحد منّا، وإنّ الاهتمام بهذا الفراغ إنّما هو نوع من تضخيم هذا الطفل المتربّع في داخلنا. إنّ الاغتراب عن الذات الناشئ من الإفراط في دائرة التماس الفراغ من أجل الاستمتاع، لا يبعد أن يعود سببه في الغالب إلى التداعيات والتبعات الهدامّة لهذه الحالة، من قبيل: إضعاف الطاقات الوجودية، وإهدار الوقت، وتبذير الثروات والإمكانات، والتخلّف عن الأمور الهامّة، وتقلب المزاج والانفعال، والإدمان المؤذي وغير القابل للإشباع، والوقوع في شباك المنظومات الفراغيّة النفعيّة، والابتلاء أحيانًا ببعض الأمراض الجسدية والنفسيّة، والضجر، والشعور بالتفاهة وانعدام المعنى وما إلى ذلك. وطبقًا للمنطق الديني والإلهي يجب القول: إنّ الإنسان قد دخل إلى هذا العالم الأرضي من أجل تحقيق الغايات والأهداف المثالية والمتعالية، وإنّ نسيان هذه الحقائق والاستسلام إلى الأوضاع المتعيّنة، والرضوخ للإنماط المدمّرة، من قبيل: الاستهلاك العبثي، يمثّل في حدّ ذاته مصداقًا للاغتراب عن الذات والفراغ الوجودي.
* سبق وقلتم إنّ التطوّر المتنوّع في التكنولوجيا والرفاه الحاصل بسببه أدّى إلى اتّساع في أوقات الفراغ؛ وعليه فما هي الأساليب والمناهج التي يمكن تصوّرها من أجل تحسين إدارة أوقات الفراغ؟
- إنّ الإجابة عن هذا السّؤال تختلف من مجتمع إلى آخر بالالتفات إلى الخلفيّات والظروف الثقافيّة والإمكانات والمحدوديات الجغرافيّة والبيئيّة. ومن خلال ملاحظة الوضع العام للمجتمعات الإسلامية، يمكن توجيه الخطاب إلى العاملين في الحقل الثقافي للمجتمع، وتزويدهم ببعض المقترحات التي هي من قبيل:
ـ إنّ ضرورة الاعتراف بأوقات الفراغ والترفيه بوصفها واحدة من الاحتياجات الأساسيّة، واحدة من الحقوق الفردية، وطريقة تزجيتها بوصفها واحدة من خصائص كيفيّة الحياة، ودورها التطبيقي المؤثّر في كافة أنحاء الحياة وأبعادها الفرديّة والاجتماعيّة.
ـ بناء المؤسّسات الخاصّة من أجل مواصلة الأمور المرتبطة بأوقات الفراغ للجميع، وطريقة قضائها بشكل حسن.
ـ تجميع نشاطات المؤسّسات المعنيّة، أو تقسيم العمل التنظيمي بين المراكز المتصدية لهذه المهام.
ـ ترجيح البرمجة والتخطيط اللا مركزي بما يتناسب مع مختلف المناطق بالالتفات إلى الظروف والمقتضيات البيئية والثقافية فيها.
ـ إجراء الإصلاحات الضرورية على مستوى المصادر وإنفاق الميزانيّة العامة للبلاد بالالتفات إلى الاحتياجات الخاصة بأوقات الفراغ والترفيهات العامة.
ـ الاهتمام بإقامة دراساتٍ جذريّةٍ فيما يتعلق بمكانة أوقات الفراغ، والترفيه، والتسلية في نمط الحياة، ولا سيما بالنسبة إلى طريقة حياة المؤمنين والمتشرّعة.
ـ إيجاد مختلف الفروع الناظرة إلى دراسة أوقات الفراغ والترفيه والمسائل التابعة لها، من قبيل: علم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، وعلم النفس، والاقتصاد، والإدارة، والتواصل، والصحة والعلاج وما إلى ذلك في الجامعات ومراكز التعليم العالي.
ـ العمل في إطار تعديل وإصلاح الأفهام والآراء المتشدّدة والمتشكّكة الناظرة إلى موقف الإسلام فيما يتعلق بأوقات الفراغ والترفيه والتسلية، والموسيقى، والنقد الساخر، وسائر الاشتغالات الترفيهية والفنية.
ـ تحديد خصائص في إطار تمييز أوقات الفراغ والترفيهات المطلوبة من غير المطلوبة، في ضوء المعايير الدينية والقومية والأخلاقية والتطبيقية.
ـ الالتفات إلى تنوع الأقاليم الثقافية والقومية الموجودة في البلد، وإدخال ذلك التخطيط لأوقات الفراغ العامة، وتحديد الاحتياجات المعرفية والعاطفية والسلوكية، والأذواق الثقافية والاجتماعية والدينية للطبقات المستهدفة.
ـ الاهتمام المنسجم بجميع الأبعاد الوجودية للإنسان ـ الأعم من الجسدية والروحية والعقلية والمعاشية والمعنوية.
ـ الالتفات إلى الأبعاد الثلاثة لهوية المجتمع الإسلامي وعناصرها الأصيلة في مقام وضع الخطط والسياسات.
ـ الاستثمار الشامل في إطار تدوين القواعد والملاكات، وإنتاج البضائع والخدمات، وإيجاد الإمكانات والمؤسسات الخاصة بإدارة أوقات الفراغ والترفيه والتسلية بما يتناسب مع الاحتياجات المتنوّعة العامة والمتغيرات المعاصرة.
ـ الاستفادة من ظرفيات القطاع الخاص، والتعاونيات والمنظمات الشعبية، وتعزيز دورها في مقام التخطيط والتوجيه والدعم والإشراف على أدائها.
ـ التوزيع العادل للفرص والإمكانات والتجهيزات القائمة، وتسهيل مسار الوصول المنصف إليها للجميع، بعيدًا عن المحدوديات المناطقية والطبقية والجنسية وما إلى ذلك.
ـ تخصيص تسهيلات وتقديم دعم خاص في إطار رفع مستوى القدرة على الاستفادة من البضائع والخدمات الخاصة بأوقات الفراغ من قبل القطاع الخاص في إطار الخدمات العامة، وإعطاء الأولوية للطبقات الضعيفة في المجتمع.
ـ عدم تأصيل الخطط والنشاطات الخاصة بأوقات الفراغ والترفيه، والتوجيه المتواصل لعامة الناس بالدور المتقدم والآلي لهم في إطار ضمان الغايات المتعالية.
ـ بث الوعي والمعرفة وتعليم المهارات الضرورية في إطار التوظيف الصحيح لأوقات الفراغ، والاستفادة من التقنيات الجديدة لتأمين حاجات أوقات الفراغ.
ـ التعريف والسماح المنظم بالتسليات السليمة والتشجيع على الاستفادة منها، وبناء الأرضية لخفض مستوى التبعية للتسليات الإعلامية والدعائية المنفعلة.
ـ التأسيس لمستشارية خاصّة بأوقات الفراغ في البرامج التعليمية والتربوية في المدارس والأسر، في إطار توجيه وهداية الطلاب وأولياء الأمور.
ـ التوظيف المناسب للفرص وظرفيات أوقات الفراغ المؤسّسة، من قبيل: الأعياد والاحتفالات الوطنية والدينية والثورية، من أجل نشر الأفراح، والنشاط العام، وتوفير فرص للإبداع المنهجي والمبرّر في إيجاد الفرص وكيفية الاستفادة منها.
ـ العمل في إطار التنويع المتواصل للمحاصيل والبضائع والخدمات الخاصة بأوقات الفراغ، والاهتمام بالإبداع والتجديد في التوظيف الأفضل والأكثر للظرفيات والثروات الثقافية الخاصة بنا في توفير البضائع والخدمات الخاصة بأوقات الفراغ، وخفض مستوى التبعيّة للبضائع المستوردة.
ـ الاهتمام بإشباع الأبعاد التعليميّة والأخلاقيّة والتربويّة في البرامج المتنوّعة الخاصة بأوقات الفراغ والترفيه، ولا سيما منها المحاصيل الإعلامية، واجتناب النظر إلى هذه الاشتغالات بوصفها أمورًا تُراد لمجرّد التسلية.
ـ الاهتمام بتطوير الظرفيات والقابليات الإنسانية، من طريق البرامج وملء أوقات الفراغ والترفيه، إلى جوار الآليات المتداولة، من قبل: التنوّع، والترفيه، والنشاط، ورفع مستوى الجدوائية وما إلى ذلك.
ـ إعداد وعرض الأفلام، والمسلسلات، والرسوم المتحركة الوثائقية والقصصية عن سيرة وشخصية المشاهير الوطنية والدينية، والمشاهد الخلابة والأثرية، والمناظر الطبيعية، والموضوعات الدينية، والحقائق البيئية، وما إلى ذلك.
ـ الإشراف والرقابة الجادة على مسار إنتاج وعرض المحاصيل والبرامج والخدمات الترفيهية المتنوّعة الخاصة بأوقات الفراغ من قبل المراكز والمؤسسات الداخلية، وممارسة الفصل الدقيق في خصوص المحاصيل المستوردة.
ـ تعزيز وتنمية الظرفيات وبرامج أوقات الفراغ والترفيه على مستوى الأسر والمدارس والجامعات ومراكز التعليم العالي، والمراكز الثقافية، والأقسام الإدارية الكبرى، والإنتاجية، والصناعية، والخدمية، والمؤسّسات العامة الكبرى، من قبيل: المدن الصناعية، والمعسكرات، والسجون، والمعتقلات، والمراكز التربوية، والمراكز التأهيلية للمدمنين وما إلى ذلك.
ـ العمل في إطار إيجاد التنوّع في مجالات وأجواء العمل، وتعزيز ثقافة الاستمتاع من خلال الانهماك في العمل والجهود النافعة، والتأكيد على رفع مستوى النشاط والحيوية بوصفها الهدف الرئيس في أوقات الفراغ.
ـ إعادة النظر في الاتّجاهات الخاصّة بأوقات الفراغ، وتغيير الاتّجاه من محوريّة العرض إلى محوريّة الطلب، والاهتمام بالاحتياجات الحقيقيّة والمتنوّعة للجماهير بالالتفات إلى مختلف المتغيّرات المؤثرة، واتّخاذ الطرق المناسبة.
ـ التأكيد على إيجاد التوازن بين أساليب تزجية أوقات الفراغ بشكل فعّال ومنفعل، ولا سيّما من طريق تنمية النشاطات الجادة لأوقات الفراغ وتعزيزها، من قبيل: الرياضة، والنشاطات الثقافية والفنية، والزيارات الدينية، وتفقد المراكز العلمية والأثرية.
ـ الاهتمام الجاد بالمداليل الثقافية والبرامج الخاصة بأوقات الفراغ والمسلية، ولا سيما منها المحاصيل الإعلامية المستوردة.
ـ التوظيف الحساس للتجارب الناجحة لسائر البلدان الإسلامية، والعمل على توطينها ومركزتها بما يتناسب وحاجة البلد.
* كيف تعلقون على شعار (أنا أشتري؛ إذًا أنا موجود)، الذي يجتاح المجتمعات الغربية وقد تحول إلى أزمة في أزمنة ما بعد الحداثة؟
- لقد عمد النّظام الرأسمالي ـ من أجل إشاعة الاستهلاك ونشر الثقافة الاستهلاكيّة والمجتمع المستهلك ـ إلى بناء الأيديولوجيا الاستهلاكيّة والترويج لها. وإنّ منطق هذه الأيديولوجيا ولسان حالها، هو: (أنا أستهلك؛ إذًا أنا موجود). إنّ الاستهلاك في هذه الأيدولوجيا قد امتزج بهويّة الإنسان، وإنّ الجاذبيّة الناشئة عن امتلاك البضائع والخدمات بسبب ماهيتها (الصنمية)، قد سلبت الجميع قلوبهم ودينهم. إنّ السعادة والهناء وغاية الآمال الإنسانية في هذا العالم ـ من وجهة نظر هذه الأيديولوجيا ـ ليست سوى تحقيق المزيد من القدرة على استهلاك البضائع والخدمات وإشباع الغرائز والأمنيات. وكأنّ الاستهلاك وحده هو الذي يوصلنا إلى الكمال، ويقضي على نقصاننا الوجودي. وإنّ الاستهلاك أو القدرة على الاستهلاك هو الذي يمكنه أن يوصل الإنسان إلى كعبة آماله وإلى السعادة التي يرجوها. إنّ معنى الحياة ـ من زاوية هذه الأيديولوجيا ـ يرتبط بشكل وثيق بكميّة وكيفيّة الاستهلاك والنموذج والنظام الاستهلاكي. فأنا إنّما أصل إلى هويّتي الحقيقيّة، وأقف على تميّزي الوجودي من الآخرين، وأشعر لذلك بالغبطة والسعادة والابتهاج بواسطة الاستهلاك. وبعبارة أخرى: عندما يكتسب استهلاك البضائع والخدمات في الحياة العامة أصالة وموضوعية، ويتحوّل إلى هدف البشر وغاية مطمحهم، وتكون له قيمة محوريّة في حياة الأفراد، سوف يغدو الإنسان ورغباته مقيّدة بسلاسل حديديّة إلى السوق. ومن ناحية أخرى فإنّ القيام بالإبداعات والخلاقيات اللامتناهية في مجال الصناعة لغرض الإنتاج وعرض البضائع الاستهلاكية، يحتوي على كيفيّة متمايزة ومتجدّدة، تعمل ـ إلى جانب الدعاية الواسعة والمخادعة عبر وسائل الإعلام، من أجل استثارة شهية المتلقي وفتحها ـ على تشديد تعلّق الشخص بالسوق، وتحفيزه على شراء واستهلاك المزيد من البضائع. ولا يترتّب على هذا المسار في نهاية المطاف من غاية سوى السراب والضياع في ظلمات الآمال وأضغاث الأحلام. وعلى كلّ حال فإنّ النزعة الاستهلاكية في النظام الرأسمالي، قد تحوّلت إلى أسطورة، وأيديولوجيا، وعنصر محوري لنمط جديد في الحياة، وأضحت هي الملاك في جودة وكيفيّة الحياة، ونوع من التجربة الثقافيّة، وسلوك ينشد اللّذة والمتعة التي لا يمكن إشباعها، وتلبية للحس اليوطوبي، وعنصر لتميّز الهوية، ومحمل من أجل التظاهر والتفاخر، ومساوق للسعادة في هذا العالم، واكتسب تجليًا وتبلورًا ومكانة مركزية. وفي الحقيقة فإنّ النزعة الاستهلاكية ليست مجرّد ثمرة الاختيار أو الترجيح الحرّ للفرد، ولا هي مجرّد التلقين المتحكّم من قبيل البيئة والبنية، بل هي في الغالب حصيلة التعاطي والعلاقة الديالكتيكية بين هذين الأمرين. إنّ النّزعة الاستهلاكية تتبلور على الدوام في إطار السلوكيات المغتبطة الغالية والمسرفة. إنّ مدّعى الأيديولوجيا الكامنة في النّزعة الاستهلاكيّة هي أنّ السعادة ليست سوى القدرة على الاستفادة المتكرّرة للإمكانات الفعلية في هذا العالم من البضائع والخدمات المتوفّرة والمُرضية؛ وكأن ليس للإنسان في هذا العالم من رسالة ومهمّة سوى السعي المتواصل من أجل الحصول على المزيد من هذه الإمكانات، لغرض الاستهلاك الذي يجلب السعادة والرضا. إنّ من أبرز خصائص تأزّم مجتمع ما على المستوى الخاص والعام، هو التخبّط في دورات من هذا النوع.
* لماذا يتمّ الترويج للنزعة الاستهلاكية بوصفها اتجاهًا صانعًا للهويّة؟
- إنّ النّزعة الاستهلاكيّة باعتبار ذلك الشّعار الذي تمّ طرحه في السّؤال السابق، يمثّل أيديولوجيّة الإنسان الذي يعيش ضمن هذا النّوع من المجتمعات. يبدو أنّ مهمّتي وفلسفتي الوجوديّة الوحيدة التي قدّرني خالق الوجود لها، تكمن ـ في منطق النظام الرأسمالي ـ في العمل والسعي الدؤوب والمتواصل من أجل الحصول على المزيد من الثروة ورفع مستوى القدرة على الشراء واستهلاك المزيد من الثروات والإمكانات وتبذيرها وإهدارها لأغراض استمتاعية. إنّ حجم قدرتي الاستهلاكيّة هو الملاك في تعيين حدود هويّتي التي تميّزني من الآخرين. إنّ طريقة حياة الفرد التي تشكّل كميّة الاستهلاك وكيفيّتها أهمّ قاعدة فيها، هي الملاك الذي يميّزه من الآخرين. وبعبارة أخرى: إنّ الفرد إنّما يرى عنصر تميّزه الوحيد أو الرئيس ـ بوصفه عنصرًا بارزًا في تحديد هويّته ـ من خلال طريقته الاستهلاكيّة. إنّ الاستهلاك في هذه المنظومة لا يعكس الحاجة، بل هي في الغالب تمثّل ناحية رمزيّة تعمل على تحديد موقع الفرد في النظام القيَمي للمجتمع الاستهلاكي. وبعبارة أخرى: إنّ المجتمع الذي تعدّ فيه القدرة على الشراء والاستهلاك وحدها هي الملاك والمعيار لتقييم الأفراد واعتبار نجاحهم، إنّما أشعر بهويّتي وكينونتي بمقدار امتلاكي لهذا الشاخص، وأكون بهذا المقدار سعيدًا ومغتبطًا ومبتهجًا بوجودي وكينونتي. إنّ ربط الاستهلاك بالهوية والكينونة إنّما هو في الواقع سعي ومحاولة إلى ترسيخ هذه الدورة بوصفها أمرًا طبيعيًّا، وعلى حدّ تعبير بعض العلماء: تحويل الاستهلاك إلى أسطورة. عندما تتحوّل النّزعة الاستهلاكية إلى هويّة لي، فإنّ هذا سيعني أنّها ستكتسب مكانةً وجوديّةً في كياني، وسوف تعرف بوصفها مطلبًا طبيعيًّا لرغباتي وتطلّعاتي الأصيلة.
* كيف يمكن أن نعتبر إشاعة الثّقافة الاستهلاكيّة مشروعاً لترسيخ أعمدة النّظام الرأسمالي وإقامته؟
- يختصر النّظام الرأسمالي ـ بوصفه نظامًا يتمحور حول الاقتصاد ـ رسالته في الإنتاج والعرض المتراكم للبضائع والخدمات من خلال الاستعانة بالحدّ الأقصى من الظرفيات الصناعيّة والتكنولوجيّة، لغرض الحصول على المزيد من المنافع والأرباح. إنّ الإنتاج الكبير والوفير إنّما يتناسب من الناحية المنطقية مع فرضيّة أنّ السّوق عامرة، وأنّ الاستهلاك قائم بشكل كبير. لقد عمد هذا النّظام من أجل تحقيق هذه الغاية، إلى توظيف جميع مساعيه من أجل بناء وتقوية الأرضيات الذهنية والنفسية والثقافية والاجتماعية للاستهلاك والنزعة الاستهلاكية بوصفها ثقافة وأيديولوجيا وخطاب. يمكن اختزال بعض الخلفيات الحضارية لتبلور اتّجاه الإنسان ـ في العصر الحديث وفي عصر ما بعد الحداثة ـ إلى الاستهلاك المنفلت، في موارد من قبيل: الإنتاج وعرض أنواع البضائع والخدمات بكيفيّات وقيَم تبادليّة واستهلاكيّة متنوّعة على نطاق واسع وفي المتناول وبما يتناسب مع جميع الأذواق والأمزجة، وتطوّر وسائل وإمكانيات الشحن والنقل والمواصلات من أجل النقل الفيزيقي للبضائع من المركز إلى الأطراف القريبة والبعيدة، والهجرة إلى المدن على نطاق واسع ولا سيما منها المدن الكبرى على المقياس العالمي بالنظر إلى المقتضيات الثقافية والاجتماعية الخاصة، وعولمة أسلوب الحياة ونموذج الاستهلاك في البلدان المتطوّرة والنظام الرأسمالي، واتّساع الشركات المتعدّدة الجنسيات وتأثيرها، بالإضافة إلى تنوّع وكلاء مبيعاتها في مختلف البلدان، ومنظمة التجارة العالمية، وسياسات البنك الدولي وصندوق النقد العالمي في إطار منح التسهيلات إلى البلدان الضعيفة من أجل رفع القدرة الشرائية وجعل الاستيراد أمرًا ممكنًا، والاستيراد المنفلت من قبل الدول اللا نامية وشبه النامية وتوفير التسهيلات الداخلية لمواطنيها، وإقامة المناطق التجارية الحرّة، وتطبيق سياسات من قبيل: إقامة المعارض الموسمية لعرض البضائع وبيعها بأسعار مخفّضة، وتأسيس المتاجر الكبرى والمتسلسلة، والمولات، والأسواق، ومنح التسهيلات المصرفيّة، والبيع إلى المستهلكين بالتقسيط، وتخصيص البطاقات الاعتبارية، وفيشات شراء البضائع، والتنافس المنفلت بين المؤسّسات التجارية الكبيرة والشركات المنتجة، والدعاية الواسعة عبر وسائل الإعلام والشارع، واختلاق الحاجة وتحفيز الشهية المطلقة من خلال استثارة الرغبات والميول الكامنة لدى الأفراد بالقوة، والتلاعب بالمنظومة النفسية لدى الناس، وإيجاد التغيير التدريجي في الآراء وأساليب حياة الناس، وتحويل الشراء والاستهلاك إلى واحد من المعايير والقيَم المتعالية والصانعة للهوية، والميل الطبيعي للإنسان إلى الاستمتاع واللذة، وطلب المزيد، والبحث عن الرفاه، والتنوّع والجمال والكماليات، واكتساب البضائع المنتجة مكانة ومنزلة في منظومة الترجيحات الفردية، وخلق حالة من الجشع والطمع الشديدين لدى الأفراد إلى التملّك غير القابل للكبح والإشباع والإقتناع بسهمهم من الكمية المتوفرة في الأسواق، والرفع النسبي للدخل والقوة الشرائية لا سيما بالنظر إلى تسهيل الحصول على القروض، ورفع مستوى الإقبال من قبل الأفراد على المجازفة، واستسهال الدين وعدم اعتباره شيئًا قبيحًا، ورفع القدرة على الاختيار بسبب توفّر مختلف أنواع البضاعة ممّا يعدّ في حدّ ذاته مغريًا ودافعًا إلى المسرّة والرضا، ونشر وإشاعة مسار تحويل الحياة إلى مذهب، مما يُعدّ في حدّ ذاته وبشكل طبيعي من عناصر ازدهار النزعة الاستهلاكية، وإشاعة المهرجانات والاحتفالات القوميّة والوطنيّة والدينيّة، وإقامة المآتم القوميّة والوطنيّة والدينيّة، والمناسبات المذهبيّة من قبيل: إقامة المجالس والولائم في مختلف المناسبات، وبشكل عام إقامة جميع أنواع المراسم التي تستلزم استهلاك البضائع والخدمات بشكل يفوق الدورة العادية في الحياة اليومية، واضمحلال وأفول الثقافة الدينية، وحلول أزمة الأخلاق والهويّة. وبالإضافة إلى ما تقدّم فإنّ تبلور ظاهرة دولة الرفاه كان لها مع المهام الخاصّة دور محوريّ في إشاعة وتحسين وتعميق هذه الثقافة. إنّ النزعة الاستهلاكيّة الحديثة بوصفها نموذجًا عالميًّا شاملاً، تمثّل مظهرًا واضحًا لنشر الثقافة والنظام الرأسمالي للغرب، وهو ـ خلافًا لنماذج الاستهلاك التقليديّة ـ ليس تابعًا للترجيحات الثقافية ومقتضياتها، والفرص والقيود البيئية، والمؤسّسات والتقاليد المتعارفة المحلية والمناطقية والوطنية، والمصالح العقلائية. لا شكّ في أنّ ازدهار وبقاء واستمرار النظام الرأسمالي في عصر الحداثة وما بعد الحداثة، والنظام الاجتماعي الناشئ عنه، رهن بالحفاظ على المسار المتقدّم ومعطياته المعقدة. لقد عمل النظام الرأسمالي على الدوام، بسبب استجابته وتلبيته للاحتياجات الفعلية ـ التي كان له سهم في أصل إيجادها وترسيخها ـ على اكتساب مشروعيته واعتباره وكينونته في العالم الأنفسي والآفاقي للبشر.
* ما هي خلفيات وأسباب انخفاض الاستهلاك إلى مستوى التسلية؟ وما هي الآفات الاجتماعية التي يعمل هذا الاتّجاه على مفاقمتها في المجتمعات الحديثة؟
- في المجتمع الحديث المتأخّر وما بعد الحداثوي، يتمّ رفع كميّة الإنتاج بشكل رئيس؛ بهدف الحصول على المستوى الأعلى من الربح للمؤسّسات الاقتصادية، وبذلك فإنّ تلبية الاحتياجات الفعليّة الفرديّة والاجتماعية، والشراء والاستهلاك قبل أن يكون تابعًا للاحتياجات الحقيقيّة، يأتي في الغالب لغرض التميّز والّترف والتّسلية والمتعة والتظاهر والتفاخر، وإشباع بعض أشباه الاحتياجات والتمنيات الذوقيّة والمزاجيّة. وبعبارة أخرى: إنّ النّزعة الاستهلاكية الحديثة تأتي غالبًا في إطار الإنتاج وإشباع الرغبات والاحتياجات الكاذبة والمصطنعة الموجّهة؛ لتكون في سياق تلبية الاحتياجات الفعلية والميول الطبيعية، ومن ناحية أخرى فإنّ كلّ حاجة طبيعيّة تمتزج في مقام تلبيتها بطيف من المظاهر والحواشي بحيث لا يمكن التعرّف على الحدّ بين الواقعي والمتصوّر، وبين الحاجة الحقيقيّة وما يُشبه الحاجة أو الحاجة المصطنعة. وفي توضيح هذه الناحية إجمالاً ومن خلال بيان المصداق، يمكن القول: إنّ الشراء بوصفه مقدّمة للاستهلاك يؤدّي تلقائيًّا إلى فتح الباب أمام الأشخاص للهجوم على الأسواق ومعارض الشراء والمتاجر ومشاهدة البضائع ذات الجودة العالية. لقد أصبحت هذه الأماكن تنافس المسارح والمتاحف ودور السينما وما إلى ذلك، حيث تحوّلت اليوم واحدة من أجمل المناطق الترفيهية والكمالية للتجوّل لمختلف الطبقات، وأضحت مؤثّرة في الترفيه عن النفس، وتفريغ الطاقة السلبية، وخفض الضغوط النفسية، والاسترخاء من وعثاء التعب والملل، واستعادة القوى المتحلّلة. من الطبيعي أن تساعد آلية الابتهاج والسعادة على تعزيز الدوافع والحوافز لدى الأشخاص من أجل الحضور المتكرّر في هذه الأمكنة، ورفع الشهيّة والانهماك القهري في دورة الشراء والاستهلاك لأجل الاستهلاك. وبعبارة أخرى: إنّ الاستهلاك في هذا المجتمع بدلاً من أن يكون سلوكًا اقتصاديًّا صرفًا ومعبّرًا عن المكانة والمنزلة الطبقية، فقد تحوّل إلى مسار من صناعة المفاهيم وإنتاجها، وتبادل الأمثلة والنماذج والمعاني، وتسرية العناصر النموذجية والمفهومية إلى جميع الأمكنة والفضاءات والقواعد والسلوكيات والعلاقات الخاصة بالشراء والاستهلاك، وبناء الهوية، وإظهار التمايزات الاجتماعيّة، ورفع مستوى القدرة على الانتخاب والاختيار لدى الفرد، والترويج لمنظومة من القيَم والمعايير، ورسم نمط من الحياة، والدعوة إلى نوع من الأيديولوجيا الاجتماعية، وإشاعة أنواع من الموضات، وتنشيط طيف من الأذواق الجمالية وما إلى ذلك. كما أنّ الأيديولوجية الاستهلاكية تثير هذا المعنى، وهو أنّ الأفراد إذا لم يستطيعوا المساعدة على تطوير مجتمعاتهم وارتقائها، عبر الإبداع والإنتاج في مختلف الأبعاد؛ فإنّ بإمكانهم التعويض عن ذلك من خلال المشاركة في (استهلاك) المحاصيل والمنتجات المعروضة. الأمر الذي حوّل وهم بناء الثقافة والنزعة الاستهلاكية والمبادرة إلى زيادة الاستهلاك إلى أمر مُبرّر ومشروع. الأمر الآخر أنّ كلاً من النّزعة الاستهلاكيّة والرّغبة في التسلية يُمثّل جزءًا من العناصر الشخصيّة والخصائص النّفسيّة لإنسان ما بعد الحداثة، وعناصر نمط حياته. إنّ التسلية وملء أوقات الفراغ بمعناه الواسع بدوره يمثّل نوعًا من الاستهلاك للفرص والإمكانات بما يتناسب مع الأذواق بهدف الاستمتاع. يضاف إلى ذلك أنّ الجاذبة الاستهلاكية في نفسها ـ لما تحمله من خصائص الاستمتاع والتنويع والتحرّر المؤقّت من النمطيّة والروتين اليومي ـ تعدّ نوعًا من التسلية الممتعة التي يحظى بها الجميع بنسب متفاوتة.
* كيف تقرأ التحليل الغربي للتداعيات الفرديّة والاجتماعيّة المترتّبة على النزعة الاستهلاكية والتظاهر بزيادة القدرة الشرائيّة؟
- يذهب عالم الاجتماع الأميركي تورشتاين فيبلن إلى القول بأنّ واحدة من الخلفيات النفسيّة والاجتماعيّة للإنسان الحديث ـ والتي انعكست بشكل عميق على نمط حياته وأسلوبها ـ تتمثّل في وجود الرغبة والشهيّة الكبيرة إلى التظاهر ولفت الأنظار والتبجّح والتفاخر. وفي ظلّ هذه الأوضاع تعدّ قدرة الأشخاص والأسر في تلبية رغباتهم الجامحة، وكمية وكيفيّة استهلاكهم، من أهمّ أوجه تمايزهم من بعضهم، وملاك أفضليتهم وتفاخرهم على بعضهم. إنّ هذا المنطق يعمل على إقحام الأشخاص في ماراثون لا أمد لنهايته في الشراء والاستهلاك أو هدر الإمكانات، ويخلق أنواعًا من التعارضات والصراعات بعيدًا عن الصدامات المتداولة في الحياة على مختلف أبعاد المجتمع، ويعرّض مسار ازدهار المجتمع ـ في إطار ادخار ومراكمة الإمكانات للأجيال القادمة ـ إلى الخطر. ولا شك في أنّ المنتفع الحقيقي في هذه الأوضاع، إنّما هي المؤسّسات الاقتصادية الكبرى وتجّار الأسواق. وبعبارة أوضح: إنّ بعض التداعيات والتبعات الفردية والاجتماعية لهذه الأوضاع عبارة عن: تشديد الطمع والجشع الذين لا يعرفان الشبع لدى عامّة الناس إلى الشراء والاستهلاك، والاستهلاك المتعجّل للإمكانات والثروات المحدودة الجديرة بالادخار والاستثمار، والشعور بالحرمان الدائم، واليأس وعدم الرضا الأخلاقي بسبب التعلّق بالأمور التي لا نمتلكها والتوقعات الاعتباطية، والغفلة عن الإمكانات المتوفّرة، ومركزيّة الأهواء بدلاً من العقلانية، والتشكيك العملي ببعض القيَم المتعالية والمقبولة، من قبيل: الزهد، والقناعة، والاعتدال، والبساطة وما إلى ذلك، وترجيح كفّة الأمور المرذولة، من قبيل: الإسراف والتبذير والانسياق وراء الموضة والأمور الكمالية والرفاهية وعدم تبيّن الحدود بين الاحتياجات الحقيقيّة والاحتياجات الزائفة والكاذبة، وتنزّل الأهداف الطامحة والقيَم المتعالية إلى حدود الرغبات والمطالب المادية والاستهلاكية، ومركزية التجربة الذهنيّة والنفسيّة الناشئة عن الاستهلاك والسعادة الوهميّة الناشئة عنها، وانتشار الثقافة المرغوبة من قبل الدهماء والنزعة الدهماوية، وتعزيز الاتّجاهات الخياليّة والطوباوية في الحياة، وفرض نوع من النزعة الشبابيّة الكاذبة لدى جميع الأعمار، وإشاعة الموضة والموديلات، وعدم الاقتناع بالمنتج الداخلي المحدود والتمهيد النفسي لتقبل فكرة استيراد البضائع الأجنبية الكمالية وغير الضرورية، وما يترتب على ذلك من الآفات، من قبيل: تقبّل الثقافة الأجنبية والغريبة تبعًا لذلك، وخروج العملة الصعبة من البلاد، وإضعاف المنتجات الداخلية، وتشديد التبعيّة وما إلى ذلك من الآفات الأخرى، وفتح المجال لتوسيع دائرة ثقافة التظاهر والتفاخر والتبجّح، ومفاقمة ظاهرة التمايزات الاجتماعيّة والشروخ الطبقيّة بين الأغنياء والفقراء بسبب الاختلاف الملموس والمحسوس بينهم في القوّة، وممارسة نوع من الضغط المعياري على أولئك الذين لا يريدون أو لا يتمكّنون ـ لأيّ سبب من الأسباب ـ من مواكبة مقتضيات هذه الثقافة، واتّساع رقعة الأضرار والآفات النفسية والاجتماعية وارتفاع منسوبها، والدفع القهري للأشخاص ـ الذين يفتقرون إلى القدرة الاقتصادية المناسبة ـ نحو زيادة ساعات العمل أو السعي إلى الحصول على أكثر من مهنة، وإجبار سائر أفراد الأسرة على العمل، والحصول على القروض والديون، وفي بعض الموارد إجبار الأشخاص الذين يمتلكون خزينًا ثقافيًّا محدودًا وضعيفًا إلى الحصول على الأرباح من غير المصادر المشروعة من قبيل: الرشوة والاختلاس والتهريب والسرقة والغش ورفع الأسعار وما إلى ذلك، وتأجّج الشهوات النفسية وطغيانها ولا سيّما منها الناتجة عن الإثارات البيئية وضعف أعمال الكوابح الداخلية، والشعور النفسي بالاجتثاث في قبال تعدّد البضائع الاستهلاكية وتنوّعها، والملل الناشئ من عدم الثبات والاستقرار النموذجي والمعياري، وظهور بعض الآفات والأعراض الجسدية، وإيجاد أرضية أكبر للتلوّث البيئي، وفرض الأذواق، والأمزجة والاتجاهات الفنية والجمالية، والترجيحات القهرية تحت تأثير صناعة الثقافة والاستهلاك الجبري للبضائع المعروضة، وزيادة أعداد المحافظين والمفتقرين إلى التّطلّعات الإنسانيّة وأهدافها، وتضخّم القطاع الخدمي المنهمك في دورة توفير البضائع الاستهلاكية وتوزيعها، والحاجة إلى زيادة حجم الاستيراد، وتقبّل سلطة الأسواق العالمية، وإعادة إنتاج السلطة الرأسمالية، واستمرار الحداثة الثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والأيديولوجيّة.
تعريب: السيد حسن علي مطر الهاشمي.