يأخذ هذا الحوار مع الباحث في العلوم الاقتصاديّة الدكتور عبد الحليم فضل الله مسارًا خاصًّا؛ حيث يحيط بأبرز المباني والمرتكزات التي يقوم عليها النظام الاقتصادي الليبرالي، والانعكاسات الكارثيّة على استقرار الدول، وخصوصًا ما يُسمّى بالعالم النامي.
نشير إلى أنّ الدكتور فضل الله هو أستاذ الاقتصاد السياسي في الجامعة اللبنانيّة، ورئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، وله العديد من المؤلّفات والدّراسات التّخصّصيّة في الفكر السياسي والاقتصادي.
«المحرّر»
* اسمح لي أن نبدأ أسئلتنا من قضيّةٍ ملحّةٍ اليوم. في نهايات القرن الماضي تحوّل الغرب (بشكل خاص أميركا وبريطانيا) إلى مبادئ النيوليبراليّة والتي ارتكزت على ضرورة دفع الحكومات نحو الخصخصة الشاملة ورفع الحكومة يدها عن القطاعات بما في ذلك قطاع الصحّة والتعليم، واليوم مع جائحة كورونا وجدت الحكومات نفسها غير مضطرّة للدفع للطبقات الفقيرة والمتضرّرة فقط، بل للشركات والقطاع الخاص منعًا لانهيارها وإفلاسها. ما هي برأيكم الأثار التي ستتركها هذه الجائحة على الاقتصاديات العالميّة وعلى النظريات الاقتصاديّة الغربيّة؟
- لا شكّ أنّ الليبراليّة بنسختيها التقليديّة والجديدة ذات جذور ضاربة في الحداثة الغربية وما بعدها، لكن مسارها كان متأرجحًا ولم تحتل طوال الوقت مقعد القيادة على صعيد السياسات والمدارس الاقتصاديّة. لقد تفاعلت مع التحوّلات التي أحاطت بها خلال أطوار التّاريخ الغربي وحقبه، وانعكست عليها موازين القوى العالميّة ومصالح الدول الأكثر نفوذًا وحاجاتها وطموحاتها، وكان لتطوّر الفكرين السياسي والاقتصادي وتقدّم العلوم الأخرى ذات الصلة بها تأثير كبير عليها.
عجزت الليبراليّة عن تقديم إجاباتٍ على أسئلةٍ مستجدّة كمواجهة التخلّف والفقر والظلم الاجتماعي في الدول المتحرّرة من الاستعمار في منتصف القرن الماضي، وعن وضع تفسيراتٍ حاسمةٍ للدّورات الاقتصاديّة المؤلمة التي تمرّ بها الرأسماليّة، وسبل تهدئتها، وللأسباب التي تقف وراء الأزمات والانهيارات المتكرّرة التي تصيب الأسواق الماليّة على نحوٍ مدمّرٍ لطبقات اجتماعيّة وقطاعات إنتاجيّة ومؤسّسات بل واقتصادات بأكملها، ولم تمتلك كذلك الحلول الناجعة للتعافي من الأزمات والتخلّص من ذيولها. وقد حدث ذلك مرارًا وتكرارًا، فخلال قرن من الزمن، شهد العالم ما يزيد عن مئة أزمة ماليّة أبرزها أزمة ثلاثينيات القرن العشرين وآخرها أزمة 2008 التي عدّت خسائرها بآلاف مليارات الدولارات، وأنفق العالم في التعامل مع آثارها تريليونات أخرى دون أن يسجّل تعافيًا تامًا.
كلّ ذلك أضفى مسحةً من الشكّ على صلاحيّة الليبراليّة في أن تكون إطارًا للنمو والرفاهيّة الدائمين، وفي إخراج الدول من براثن الفقر والمرض واللّامساواة والتّأخّر الشديد، وفي قيادة عمليات إعادة الإعمار والبناء ولا سيّما بعد الحروب الكبرى ولا سيّما الحرب العالميّة، وفي استرداد الأسواق الماليّة من مسارها السابق قبل الانهيارات التي واجهتها.
وفي غضون ذلك وبسببه، رأينا الفكر الاقتصادي الكينزي (المنسوب لعالم الاقتصاد البريطاني جون مينارد كينز 1883-1946) يسود في النصف الشمالي المتقدّم من الكوكب بعد أزمة 1929-1932 وبعد الحرب العالميّة الثانية، فيما كان الفكر التنموي والمؤسّسات الأمميّة المعبّرة عنه (كمنظّمة الأسكوا واليونيسف والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة..) يتصدّر في النّصف الجنوبي من العالم خلال الربع الثالث من القرن الماضي، ونمت التيّارات اليساريّة والماركسيّة في الغرب مستفيدةً من الصّعود الذي سجّله المعسكر الاشتراكي في ذلك الوقت، ومن تضخّم الطبقة العاملة بعد الحرب.
ولم يسرِ الأمر على هذا المنوال في الربع الأخير من القرن العشرين؛ إذ التقطت الليبراليّة أنفاسها مجدّدًا واغتنمت فرصة تغيّر اتّجاه الريح للخروج بحلّةٍ جديدةٍ هي النيوليبراليّة. لقد استفاد الفكر الليبرالي في تجديد نفسه وفي إطلاق كوامنه من عوامل عدّة أبرزها الرّكود الذي مرّت بها الرأسماليّة في النصفين الثاني والأوّل من عقدي السبعينيات والثمانينيات المنصرمين، ومن ارتفاع معدّلات التضخّم والديون التي حملت مسؤوليتها لما قيل إنّه تضخّم القطاع العام وإفراط الدولة في التدخل، ثمّ أتى انهيار المعسكر الاشتراكي الذي أعقب وصول كلّ من رونالد ريغان ومارغريت تاتشر إلى السلطة في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، ليمهّد الطريق واسعًا أمام جنوح الرأسماليّة ومعها العالم نحو شكل متشدّد، وربّما على نحو غير مسبوق من السياسات، التي أكثر ما يعبّر عنها ما يعرف بتوافق واشنطن.
* إلى أيّ مدى شكّلت الكتابات المرجعيّة في الغرب كمؤلّفات كينز على سبيل المثال في رفد ما يُمكن تسميته بالإيديولوجيّة الليبراليّة التي بلغت ذروتها في العولمة أواخر القرن العشرين؟
- كما كان لكتاب كينز «النظريّة العامّة للتشغيل والفائدة والنقود» (1936) دور في انخراط الدول والحكومات في مزيد من الإنفاق والاستثمار، كان لمفكرَين آخرَين دورٌ أساسيٌّ في اتّخاذ طريق معاكس، وهما جون فون هايك (1899-1993) في كتابه «الطريق إلى العبودية»، وميلتون فريدمان (1912-2006) في كتابه «الرأسماليّة والحريّة»، اللذين عارضا دون هوادة تدخّل الدّول في النّشاط الاقتصادي كونه يتعارض برأيهما مع الحريّة والازدهار.
لكن العولمة النيوليبراليّة الآن، وبعد ربع قرنٍ من تصدّرها المسرح في انطواء وأفول، لأسبابٍ كثيرةٍ: أوّلها، تغيّر ميزان القوى الاقتصاديّة من جديد لغير مصلحة الاقتصاد الغربي، وانتقال بؤرة العولمة نحو الشرق، علمًا أنّ هذا الانتقال الذي لم تصاحبه تغيّرات مماثلة في موازين القوّة العسكريّة والجيوسياسيّة والمؤسّساتيّة، أوجد أسبابًا أخرى للاضطراب والشقاق العالميين.
وثاني هذه الأسباب هو تغيّر مصالح الدول المهيمنة، التي لم تعد تستفيد كما ذي قبل من الانفتاح التجاري والاقتصادي والمالي بسبب تراجع مكانتها في التبادل العالمي، وهذا جعلها تنكفئ حتى عن التبنّي الانتقائي للتعاليم النيوليبرالية، فنرى واشنطن التي بشّرت بهذه التعاليم وسعت إلى فرضها على العالم بأسره، تتبع من جديد سياساتٍ حمائيّةً وتضييقيّةً و«تَبرع» في فرض عقوبات على الآخرين لدواعٍ اقتصاديّةٍ تارة وسياسيّة وعسكريّة تارة أخرى.
وثالث الأسباب التي تقف وراء تراجع النيوليبراليّة، هو إخفاقها الشديد في منع وقوع الأزمات أو على الأقل التخفيف من وطأتها، وفشلها في تحقيق أيّ من وعودها ولا سيّما في ميدان التجارة والتبادل عبر الحدود.
ولا نغفل في هذا السياق نفسه، الدور الذي أدّته الأفكار أيضًا والنظريات والمفكرين الاقتصاديين والسوسيولوجيين في دفع الاقتصاد العالمي نحو سياسات جديدة بعيدًا من الليبرالية المغرقة في تشدّدها، ويحضرنا هنا على سبيل المثال لا الحصر: بيير بورديو (1930-2002) في كتابه بؤس العالم المنشور عام 1993، وجون رولز (1921-2002)، في كتابه الحريّة والعدالة الذي وجد فيه أنّ الليبراليّة لا تتحقّق من دون تضافرهما معًا، وأمارتيا سن (1933-) في كتابه الحريّة كإنصاف، وفي أعماله التي ركّزت عمومًا على أن يكون النمو الاقتصادي في خدمة الإنسان لا العكس، وتوماس بيكتي (1971-) في كتابه الرأسمال في القرن الواحد والعشرين والذي سلّط فيه الضوء من جديد على الدور السلبي لعدم المساواة في توزيع الرأسمال العالمي على أداء الاقتصاد. وأنطوني غيدنز (1938-) في أطروحته عن الطريق الثالث، ناهيك بالنتاجات العلميّة الوفيرة التي أثارت الانتباه إلى العلاقة بين الظلم الواقع على غالبيّة الناس في توزيع الثروات والمداخيل من ناحية والتباطؤ الاقتصادي وتراجع التنمية من ناحيةٍ ثانيةٍ.
* إذا أردنا تقديم جردة حساب عامّة تتعلّق بإنجازات النّظم الاقتصاديّة الغربيّة وإخفاقاتها، فما هي أبرز التقييمات التي ترونها في هذا الميدان؟
- تميّزت النّظم الاقتصاديّة الغربيّة في القرن العشرين بتنوّعها ومرونتها النسبيّة، وقدرتها على التكيّف مع المتغيّرات، لكن نظمها المعرفيّة ومرجعيّاتها الفكريّة ومناهجها العلميّة كانت منقسمةً بقوّة. لا يمكن صرف النّظر مثلًا عن أنّ الماركسيّة هي ظاهرةٌ مرتبطةٌ بأوروبا في المقام الأوّل، وردّة فعل على الآثار التي تركتها الثورة الصناعيّة الأولى على النسيج الاجتماعي والاقتصادي في غرب القارة. تلتقي الاشتراكيّة العلميّة مع نظيرتها المثاليّة في عدّ الملكيّة عنصرًا من عناصر الأزمة، وفي إعطاء التوزيع أهميّة تفوق الإنتاج في تحليل الوقائع الاقتصاديّة، والبحث عن مصادر الاختلال في فائض القيمة. لكنّ الماركسيين الجُدد نقلوا الاهتمام إلى قضايا التبادل الدولي في تتبع الاختلال المذكور، وجعلوا من العلاقة الصراعيّة بين دول المركز وبلدان الأطراف موازية للصراع الطبقي داخل الدول في تفسير الأزمات بل ربما تفوقه أهميّة. وفي المقابل كنّا نجد عناصر اتّفاق بين مدارس متعارضة، كالتقاء آدم سميث رائد الرأسماليّة الكلاسيكيّة مع كارل ماركس على النّظر إلى العمل بوصفه مصدر القيمة للموارد والسلع والخدمات.
كانت نوازع الانقسام والخلاف بين المدارس الاقتصاديّة الغربيّة أقوى من دوافع الاتّفاق، مما انعكس على السياسات المعتمدة هنا وهناك. فاليسار كما اليمين لم يكن شيئًا موحّدًا، وكانت المساحة الفاصلة بينهما مملوءة بالاتّجاهات والتيّارات والنّظم ذات الألوان المتعدّدة المتباعدة حينًا والمتقاربة حينًا آخر. وكان تبادل الأدوار يجري طوال الوقت.
أُبعدت الرأسماليّة الكلاسيكية عن مواقع الريادة منذ أواسط القرن التاسع عشر، وتحديدًا منذ اتّبعت ألمانيا سياسات دولة الرفاه بعد توحيدها عام 1871 وقيام الرايخ، وكان هدف رئيس الوزراء آنذاك «أتو فون بسمارك» شدّ لحمة الأمّة الألمانية وصدّ تغلغل الأفكار الاشتراكية بين العمال. وأصيبت الرأسماليّة الكلاسيكيّة بانتكاستين في أوائل القرن العشرين، الأولى جسدتها الثورة البلشفية التي سيطرت على الحكم واتبعت طريقًا اشتراكيًا بقيادة فلاديمير لينين. والثانية التحوّل الذي أحدثته المدرسة الكينزيّة بإعطائها الدولة كما سبقت الإشارة دورًا رئيسيًّا في النشاط الاقتصادي. ولم تكن الرأسماليّة الكلاسيكيّة أفضل حالًا بعد الحرب العالمية الثانية؛ إذ واصلت تسجيل الخسائر وفقدان المواقع أمام تقدّم سياسات السوق الاجتماعيّة ودولة الرعاية الشاملة وتبني البلدان التي استقلت حديثًا أواسط القرن العشرين، سياسات قوامها تدخل الدول في التخطيط للتنمية وتوزيع الموارد. صرنا نرى طيفًا واسعًا من الأفكار والرؤى والمدارس والآيديولوجيات التي يمكن أن توصف بأنّها رأسماليّة دون أن تنطوي على المضمون نفسه، إلى حدّ كاد يمّحي أحيانًا الفارق بينها وبين عدوتها اللدود الإشتراكيّة.
ومع ذلك يمكن القول بأنّ النّظم الاقتصاديّة الغربيّة حقّقت تحت وطأة المنافسة الضارية بين الجبارين خلال الحرب الباردة، والخوف من تغلغل الشيوعيّة والماركسيّة في عقول الطبقات العاملة والفقيرة، نتائج مقبولة وخصوصًا خلال الربع الثالث من القرن العشرين، فحافظت الاقتصاد الأميركي على صدراته عالميًا، وأدّى السباق بين القطبين العالميين إلى تحفيز البحث العلمي في مجالات الفضاء والتسلّح والتكنولوجيا الدقيقة، مما أعطى الابتكار والتجديد والتعليم والمعرفة دفعة قوية إلى الأمام. واضطرّت الحكومات الغربية بفعل حرصها على توحيد مجتمعاتها في مواجهة الخصوم، إلى تبني سياسات معقولة لإعادة التوزيع، الأمر الذي انعكس بقدر ما من الإيجابية على المساواة وقلّل بعض الشيء من معدّلات الفقر ووفّر الخدمات الأساسيّة لعموم الناس. وللأسباب نفسها اتّسعت برامج المعونات والمساعدات الدوليّة التي شكّلت نسبًا ملحوظة من نواتج الدول المتقدّمة والغنيّة. وهو ما أتى ضمن شروط مخفّفة ومعقولة خوفًا من ارتماء الدول النامية والفقيرة في أحضان المعسكر الشرقي.
* كيف تصف الصّلة بين صعود الليبراليّة الجديدة والعولمة؟ وما الذي أفضت إليه؟
- استعادت الرأسماليّة الكلاسيكيّة مواقعها في الربع الأخير من القرن الماضي في السياق المذكور أعلاه، فارتدّت عباءة العولمة النيوليبراليّة ذات الحصاد المرير. كان هدف توافق واشنطن هو وضع اليد على النظام الاقتصادي العالمي، والسيطرة على المؤسّسات الدوليّة (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) واستحداث غيرها (منظمة التجارة العالميّة) للإمساك أكثر فأكثر بمقاليد الأمور، والهيمنة على تقاسم الموارد والإنتاج في العالم، ومنع قيام اقتصادات مستقلة، وإعادة إنتاج العلاقات بين المركز والأطراف وبين الفئات العليا والدنيا على نحو أكثر تشدّدًا وافتئاتًا.
ولم تخفِ الرطانة العلميّة شيئًا من الظلم الكامن تحت رماد الوعود الخلّابة بالازدهار، كالقول بأنّ النّمو يتغلّب تلقائيًا على الفقر ويصنع بحدّ ذاته التنمية، وأنّ معاناة قلّة من الناس يجب ألّا تصرف انتباهنا عن الحصاد الوفير الذي سيتمتّع به غالبيتهم إذا ما حرّرت الاقتصادات. ودارت على الألسن مقولات وضعت في مصاف البديهيات، مثل أنّ تفكيك وظائف الدولة وتوزيعها على القطاع الخاص هو الأفضل؛ لأنه أجدر منها في الإنتاج، والأقدر على المطابقة بيد خفية بين المصلحتين العامة والخاصة، وجعل أهداف المدى القصير متلائمة مع الغايات طويلة الأمد، ومثل القول بأنّ التجارة الحرة ستنعكس إيجابًا على النّشاط الاقتصادي وستصبّ حكمًا في مصلحة كلّ المنخرطين فيها.
لكن ما كان حصاد ذلك؟ لم تجنِ الاقتصادات الغربيّة سوى تباطؤ في معدّلات النمو وصولًا إلى تحقيق معدّلات نمو سلبيّة، بمعدّلٍ سنويٍّ لا يكاد يصل في معظم السنوات إلى نقطتين مئويتين. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ بل كان النموّ موصومًا بالتفاوت الاجتماعي وارتفاع نسب الفقر واتّساع الفارق بين منحنيات نمو أرباح الشركات الكبرى الذي صار تصاعديًا بقوّة، والشركات المتوسّطة والصغيرة الذي تراجع نمو عائداتها، وهذا في مقابل ركود شديد، بل وتراجع في بعض الأحيان في نمو مداخيل الفئات العاملة بأجر. وفي غضون ذلك استبدلت المساعدات والاستثمارات المنتجة في الدول النامية بتدفّقات ماليّة ذات طابع ريعي أو باستثمارات هدفها وضع اليد على المرافق العامّة، ولا سيّما منها التي تتمتّع باحتكاراتٍ طبيعيّةٍ.
خلق هذا النظام الاقتصادي مشاكل جمّة للاقتصادات الغربيّة قبل غيرها، فتضاعفت الديون العامة، وارتفعت مستويات الاستهلاك في مقابل تلاشي الادّخار، ووقعت الأسر تحت طائلة الائتمان المبالغ به، بحيث وصل مجموع الديون العالمية إلى أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج العالمي، وأفضت النزعة الامبراطوريّة الأميركيّة في مطلع الألفيّة الثالثة إلى زيادة الانفاق العسكري أضعافًا مضاعفة، واقتطع هذا الإنفاق، إلى جانب أنواع الإنفاق الترفي والعبثي والاستهلاكي المفرط، أجزاء كبيرة من الموازنات الحكوميّة والمداخيل العالميّة، فنال حصّة أعلى بكثير من الحصة التي نالتها الخدمات الحيويّة. وفي غضون ذلك جرى استتباع البحث العلمي والتكنولوجيا لعوامل الطلب الأساسيّة المنبثقة من ثقافة الاستهلاك والنّزعة الأمبراطوريّة للتسلّح.
لم تتحقّق وعود العولمة، ولم تؤتِ أكلها، بل جاءت نتائجها بعكس التوقّعات، والمفاجأة أنّها عدّلت عن غير قصدٍ في موازين القوّة غير العسكريّة في العالم وأعادت رسم جغرافيّته الاقتصاديّة. بل يمكن ترداد ما يقوله الأميركيون أنفسهم، بأنّ مركز الإنتاج العالمي لم يعد غربيًا. لكن المعضلة تكمن في أنّ الاقتصاد الحقيقي آخذ بالتمركز في الشّرق فيما لا يزال الاقتصاد النّقدي والسياسي متمركزًا في الغرب الأميركي محروسًا بقواها العسكريّة وتسلّطها السياسي، ولن يكون العالم بمنأى عن تداعيات هذه المعضلة، والتي ستظهر على شكل توتّرات واضطرابات ومنافسات متعدّدة الأوجه، في مسارح عديدة تشمل الدول الصغيرة أو الأقاليم المضطربة كالشرق الأوسط والعالم العربي وغربي آسيا والقوقاز، وربما يصل الأمر إلى احتكاكات مباشرة بين الدول الكبرى نفسها، وخصوصًا إذا لجأت واشنطن إلى استعمال القوّة العسكريّة بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ لمنع الآخرين من التقدم (يحصل ذلك مع إيران ويطرح بعضهم ضرورة منع الصين من الصعود مواصلة صعودها السلمي)
وباختصار كان حصاد الرأسماليّة الغربيّة ونظمها مقبولًا عندما تصرّفت بواقعيّة، أي حين أخذت بحسبانها النماذج المنافسة لها، والأزمات الكبرى التي مرّت بها، والتهديد الناشئ عن السخط الاجتماعي الداخلي للفئات المهمّشة والضعيفة والمصادرة حقوقها (كالعمال والقاطنين في الارياف). وبرز ذلك في تخليها طوال الربع الثالث من القرن العشرين، عن ارثوذوكسيتها مقتربة من المناطق الوسطى آيديولوجيًا وسياسيًا، فمزجت بين عقيدة السوق وبين متطلبات الرفاه والرعاية الشاملة والاستقرار والحفاظ على البيئة ومعالجة المشاكل الاجتماعية من جذورها وايلاء بعض العناية بحاجات الدول النامية والفقيرة، والاعتراف ببعض الحقوق الاجتماعية للعمال وغيرهم.
وقد تبدل الأمر عندما أعطت زمام القيادة إلى الشركات متعدّدة الجنسيات، التي فضلت الهجرة نحو الجنوب ليس من أجل البحث عن عمالة رخيصة فحسب، بل للعثور على بيئة مؤاتية لإطلاق يد الرأسمال من جديد، وسلب الحقوق الأساسيّة التي انتزعها العمال في دول الشمال عنوة، بل وانتهاك حقوق الإنسان عامّة، مكرّرة بذلك ما فعلته في أوروبا نفسها خلال القرن التاسع عشر، لكن في خارجها هذه المرة.
هذا الحصاد كان سابقًا على انبعاث الرأسماليّة النيوليبراليّة من رماد تحوّلات العقدين الأخيرين من القرن الماضي، وسعيها إلى التمدّد في أربع رياح الأرض تحت مسمّى العولمة. فأعيدت عقارب الساعة في معظم النظم الاقتصاديّة الغربيّة إلى الوراء بل إلى نقطة الصفر وما دونها، وجرى التخلي عن المكاسب التي نالها المواطنون، وأُطلق حبل الداروينيّة الاجتماعيّة على غاربه، الذي التفّ على عنق العقد الاجتماعي غير المعلن بين العمال وأصحاب العمل، وبين الدولة والمجتمع. بل إنّ دولة كألمانيا التي كانت رائدة دولة الرفاه منذ قرن ونصف، والتي أطلقت نظام السوق الاجتماعي بعد الحرب العالمية الثانية على يد وزير ماليتها ثم مستشارها لودفيغ إيرهارت (1897-1977)، صار نمو مداخيل الفئات العليا يساوي، منذ التسعينيات، أضعافًا مضاعفةً لنمو مداخيل العمل، مع زيادة الضرائب على الفئات الدنيا وخفضها على الفئات العليا.
كانت مقولة الرأسماليّة الاجتماعيّة الرئيسيّة هي تحقيق نمو منصف، وقد نجحت جزئيًّا وعلى نحو متفاوت في تحقيق ذلك، وهدفت السياسات الكينزيّة إلى تمكين الدولة من المشاركة في تحفيز النمو وردم فجوة الاستثمار ومساعدة الاقتصادات على النهوض بعد الأزمات المالية والنقدية والاقتصادية وقد نجحت نسبيًا في ذلك أيضًا، كما يدلّ على ذلك بالخصوص دور الإنفاق الآتي من الحكومة ومن البنوك المركزية والذي بلغ آلاف مليارات الدولارات، في منع أزمة 2008 من التحول إلى كساد شبيه بكساد الثلاثينيات.
وبالمقابل كان الفشل نصيب السردية الأساسيّة للنيوليبراليّة المتمحورة حول تحرير الأسواق المالية والنقدية وتفكيك الحواجز المعيقة للتجارة الدوليّة من أجل تعزيز النمو، وهذا الأخير هو بمثابة الماء الذي ترتفع كل السفن بارتفاعه. وكانت الجملة الرائجة هي النمو بالتساقط ( Trickle down) فما يناله من هم في أعلى الهرم سينتقل بفعل الجاذبية الاقتصادية إلى أسفله، من دون أيّ جهد خاص وبلا سياسات مقصودة وخطط مسبقة، سيساعد النمو في اقتصاد متحرّرٍ من الضوابط على خفض الفاقة ونشر الرفاه، وبعد ذلك لا يكون للعدالة أهميّة ذات شأن.
وفي نهاية المطاف، وبعد أربعة عقود تقريبًا من انبعاث النيوليبراليّة، نتذوق حصادها المرير: انكماش في الاقتصاد، وزيادة في التباين الاجتماعي، واستقرار بل حتى زيادة في معدلات الفقر، وتراجع في القدرة على النفاذ إلى الخدمات العام، وتهالك نظم الحماية الاجتماعية، وانكشاف زيف وعود العولمة، كما أبرز ذلك على نحو لا يرقى إليه الشك حال العالم بعد جائحة كورونا.
* كيف ترى معالم إخفاق النّظم الغربية ونماذجها الكلاسيكيّة والنيوليبراليّة نظريًّا وعمليًّا؟
- لنناقش بالتفصيل الخطوط الأساسيّة التي قام عليه أداء هذه النظم في تمثلاتها النيوليبراليّة التي تصدّرت المشهد بعد الحرب الباردة، ثمّ تحوّلت على يد المؤسّسات الدّوليّة إلى ثوابت لا تناقش، لكنّها انطوت على مفارقات عند التطبيق، ومحاولات فاشلة لإحياء المركزيّة الغربيّة بوصفها صاحبة الحقّ الحصري في رسم سياسات العالم وتحديد وجهته. وسنحصر نقاشنا في المبادئ الأساسيّة الآتية، التي يتكرّر ورودها في وصفات صندوق النّقد الدّولي وغيره من أطراف توافق واشنطن، في التعامل مع الدول المتعثّرة والتي تعاني من أزماتٍ حادّةٍ:
المبدأ الأوّل: إنّ تحرير التجارة الدوليّة سيؤدّي في نهاية المطاف إلى تعظيم المنافع وزيادة الرفاهيّة العالميّة وحلّ مشاكل التنمية والفقر تلقائيًّا.
لكن فتح الأبواب أمام تدفّق السّلع والخدمات، ومنح رؤوس الأموال حريّة تنقل مطلقة، لم يؤدّ إلى تحوّلاتٍ تذكر في معدّلات النّمو العالمي، وما زالت هذه المعدّلات على حالها تقريبًا منذ عام 1980، بل هي تراجعت في العقد الأخير. ولعلّ من أسباب فشل تحرير التجارة في زيادة النّمو حلول الشركات الكبرى محلّ الحكومات في التحكّم بحركة التبادل الدولي، فهناك 500 شركة كبرى تسيطر على أكثر من ثلثي التجارة الدوليّة.
المبدأ الثاني الذي اعتمدته الليبراليّة الجديدة، هو أنّ الأسواق الحرّة أكثر قدرةً على التكيّف مع الأزمات من البيروقراطيات الحكوميّة، معنى ذلك أنّ الانفراج الاقتصادي والوفرة يتعاظمان كلّما قلّ تدخل الدولة واتّسعت حريّة الأسواق.
لكنّ المطالبين بعدم تدخل الدولة، يلحّون عليها اليوم بالتّدخّل، فهي الطرف الوحيد القادر على التعامل مع أزمات هائلة ومريعة. الإفلاسات الضخمة التي تعرّضت له البنوك في دول جنوب شرق آسيا في النصف الثاني من التسعينيات لم يكن لتعالج لولا تدخلات عاجلة وسخيّة من قبل السلطات المختصّة، وتكرّر الأمر نفسه في مواجهة أزمة الرهن العقاري التي ألحقت خسائر بالمصارف الكبرى في العالم تجاوزت قيمتها تريليونات عدّة من الدولارات، ويتكرّر كذلك الآن في مواجهة جائجة كورونا وانتشار فيروس كوفيد 19. وسنلاحظ أنّ الدول التي تحفّظت على وصفات التحرير الاقتصادي هي في وضع أفضل من تلك التي انصاعت دون رويّة لهذه الوصفات، ولم تبدأ روسيا مثلًا باستعادة توازنها إلا بعد أن كفّت عن السعي إلى بناء دولةٍ ليبراليّةٍ بالكامل على النمط الغربي، كما أنّ النّمو الصناعي والتكنولوجي في الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة كان بفضل قرارات الحماية الجريئة التي اتخذت قبل عقود، وبسبب الحصار الذي أوجب عليها الاعتماد على قدراتها المادية والبشرية وتنمية هذه القدرات.
وثالث هذه المبادئ، هو دعوة الليبراليين الجدد الدولة إلى أن تعتمد كلّ الاعتماد على سياساتها النقديّة للحفاظ على معدّلات تضخّم منخفضة، والاكتفاء بهذا الحدّ من التدخل الذي يبقي مسافة آمنة بين تدخلاتها وآليات السوق التي تبقى مصانة من أيّ سوء.
غير أنّ السّلطات النّقديّة تقف عاجزة اليوم في مواجهة الأزمة الحالية التي يمرّ بها الاقتصاد العالمي، فقد خفضت البنوك المركزية الفوائد إلى أدنى حدّ وصولًا إلى الصفر وما دونه بعض الأحيان، وجرى ضخّ سيولة ضخمة للمصارف المصابة بأزمة الرهن العقاري فيما تناضل البنوك المركزيّة على امتداد العالم للجم ارتفاع الأسعار، وها هو الاحتياطي الفدرالي الأميركي يطبع آلاف مليارات الدولارات لاستيعاب التداعيات الاقتصادية لتفشي وباء كورونا. لكن كلّ هذه الإجراءات كانت لتظلّ محدودة الفعاليّة لولا دخول الحكومات والبرلمانات طرفًا في المعادلة ووضعها برامج استثمار واسعة النطاق وإقرار تشريعات جديدة وتعديل تشريعات أخرى مالية بالخصوص، وإعادة النظر بمعايير الملاءة والسيولة التي تقيّد عمل المصارف والمؤسّسات المالية، وتوسيع برامج الأمان الاجتماعي من جديد، وإعادة العمل ببعض اجراءات الحماية التي فُكّكت في إطار تحرير التجارة العالمية. وعلى الرغم من محدوديّة هذه التدخلات وعدم المس بجوهر المقاربة النيوليبرالية فقد أثبتت عقم المقاربة التي هيمنت على العالم منذ التسعينيات وكبّدته خسائر هائلة غير مسبوقة في تاريخه الحديث.
المبدأ الرابع الذي تبشّر به النيوليبرالية، هو أنّ نجاح دولة ما في المنافسة يرتبط بقدرتها على ارتياد القطاعات الحديثة. ففي ظلّ الأسواق الحرّة تميل كفّة التبادل العالمي لغير صالح المواد الأوّليّة والمنتجات الزراعيّة والصناعات كثيفة العمالة، كما يزداد طغيان الاقتصاد المالي على الاقتصاد الحقيقي.
في العقد الماضي عادت السلع الأساسيّة والمنتجات الزّراعيّة والمواد الأوّليّة، لتكون محور التجارة العالميّة؛ حيث تضاعفت أسعار النفط ومواد البناء قبل أن تنخفض مجدّدًا بسبب الركود العالمي، وارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسيّة دفعةً واحدةً، وبدلاً من أن تؤدّي سياسات التحرير إلى تعميم الرفاهيّة وتقليص أعداد الجياع إلى النصف على ما جاء في أهداف الألفيّة الثالثة، ها نحن نشهد نقصًا في الكميات المتوفّرة من المواد الحيويّة الأساسيّة. ربّما انخفضت أسعار المواد الأوّليّة والسلع الزراعيّة في الآونة الأخيرة، لكنّها تظلّ مرشّحة للارتفاع في أيّ وقت بفعل النّزاعات الاقتصاديّة بين الدولة الصناعيّة، وبسبب ارتفاع الاستهلاك العالمي المتوقّع بعد انكفاء جائحة كورونا.
أمّا المبدأ الخامس فهو أنّ تحرير التجارة الدوليّة يجسّد مصالح الدول الصناعية، وبسبب ذلك فإنّ مصلحتها تكمن في حماية مسار العولمة وضمان استمراره، وهو ما قامت به الولايات المتحدة خلال العقد الماضي.
غير أنّ الحصيلة لم تكن في نهاية المطاف لمصلحة الدول المتقدّمة، فقد تراكمت الفوائض في دول أخرى كالصين والهند وتجد طريقها إلى مصدري المواد الأوليّة والمنتجات الزراعيّة. هذا معناه أنّ الدول الغربية التي أرست مبادئ التحرير الاقتصادي الشامل باتت أقل اهتمامًا بتطبيقها، ولأوّل مرّة تبدو مصالح الشركات متعدّدة الجنسيات متعارضة مع مصالح دولها الأصليّة، فالشركات تستفيد من مزيد من التحرير والخصخصة وإزالة الحواجز فيما تواجه الحكومات مشاكل الركود و العجز في الميزان الخارجي وارتفاع الأسعار، مما يدفعها إلى توسيع دائرة التدخل إلى أبعد من إدارة السيولة و التحكم بمعدلات الفائدة، وها هي الولايات المتحدة تعمل بصورة مباشرة تارة وملتوية تارة أخرى للعودة إلى الحماية وفرض مزيد من القيود على حركة البضائع والخدمات. مما يؤكد النّظريّة القائلة بأنّ التحرير الاقتصادي يستمرّ ما دام لمصلحة الدولة أو الدول الأقوى في العالم.
* هل يقف اختلال النّظم الاقتصاديّة الغربيّة عند حدود السياسات أم يتجاوزها إلى النظريّة نفسها؟
- يعتري هذه النّظم عجز نظري في تفسير العديد من الظواهر الاقتصاديّة على نحوٍ حاسمٍ. فليس لدى الرأسماليّة الكلاسيكيّة وهي الجذر الفكري للنيوليبراليّة المعاصرة مثلًا، تفسير حاسم للكساد وللدورات الاقتصادية، مما شجعها على التمادي في تحرير الأسواق، وإعلاء شأن «اليد الخفيّة» في مقابل كفّ يد الدولة وتقليص حجمها ما أمكن. ويفترض روّاد هذه المدرسة، وعلى رأسهم: آدم سميث (1723 – 1790)، وديفيد ريكاردو (1772 – 1823)، وجون ستيوارت مل (1806 – 1873) وجان ساي (1767 – 1832) وغيرهم..، أن التوازن العام للاقتصاد يتحقّق تلقائيًّا عند مستوياتٍ مرتفعةٍ من التشغيل والعمالة، ويبقى هذا التوازن قائمًا ما لم تطرأ عليه عوامل خارجيّة تؤدّي إلى إطاحته، مثل نشوب الحروب، وتدخل غير مرغوب به من قبل السلطات، وهيمنة الاحتكارات المحميّة. ويعزى التوازن الآلي للسوق إلى عوامل عدّة من بينها: عمل جهاز الثمن، والمرونة التامة للأسواق التي تتيح لها التكيف الفوري مع التغيرات في العرض والطلب، وفعالية قانون الأسواق الذي يرى القائلون به أنّ العرض هو الذي يخلق الطلب لا العكس، وبرأي هؤلاء لا تعاني الأسواق من فائض إنتاج؛ إذ كلما زاد الإنتاج تحسّنت القوّة الشّرائية للأفراد وتنامى الطلب على السلع الإضافيّة المعروضة للبيع.
لقد فوّت هذا الفراغ النّظري على الرأسماليّة إمكانيّة التطوّر وفرض عليها العودة إلى نقطة البداية كلما قطعت شوطًا لا بأس به من التجدّد والتحوّل، وخير مثال على ذلك هو أعمال «مدرسة شيكاغو» التي دعت في وقت مبكر بعد الحرب العالمية الثانية، إلى التخلي عن مبادئ الرأسماليّة الاجتماعية، مع أنّ هذه الأخيرة أتاحت للدول الأوروبية التي دمّرتها الحرب العالميّة الثانية استيعاب نتائج تلك الحرب، وكان لها الفضل في إنقاذ العالم من أزمة الثلاثينيات. وللأسف تمكّنت مدرسة شيكاغو المذكورة من الاستحواذ في بداية ثمانينيات القرن الماضي على عقول صانعي القرار في دولتين غربيتين رئيسيتين هما أميركا وبريطانيا قبل أن تسقط حصون دولة الرفاه تباعًا في فرنسا وألمانيا وغيرها من دول غرب أوروبا ولامست الموجة المضادّة حدود الدول الاسكندنافيّة وباقي دول العالم النامي، الذي سحرته الاشتراكيّة والدولة التضامنيّة في يوم ما.
ويتّضح من تتبّع مسار الرأسماليّة بأنّ الأفكار الكلاسيكيّة، التي تعارض تدخّل الدولة وتغضّ النّظر عن التفاوتات الاجتماعيّة والمفارقات الأخلاقيّة، هي الاتّجاه التاريخي للرأسماليّة، وأنّ المدارس الأخرى ما هي إلا استثناء تفرضه الأزمات الحادة التي تهدّد فيما تهدّده الطبقات المهيمنة، المستفيدة عادة من ترك حبل السوق على غاربه.
وقد كان ثمن التصلّب الإيديولوجي باهظًا، فخلال أزمة الكساد الكبير، أدّت هيمنة الرأسماليّة التقليديّة إلى تأخير الإصلاحات مدّة من الزمن؛ حيث نجح اقتصاديان معروفان هما: جوزيف شومبيتر (1883-1950) وليونيل روبنز، بإقناع الرئيس الأميركي هربرت هوفر (1874-1964) الذي عاصر بداية الأزمة، بترك الأسواق تصحّح نفسها بنفسها، وانتظار الانتعاش الذي سيأتي وحده دون عناء. أثبتت هذه التوصية فشلها وضيعت على العالم الغربي ثلاث سنوات ثمينة، وكان على الرئيس الأميركي اللاحق فرانكلين روزفلت (1882-1945) أن يقرّ برامج حكوميّة ضخمة للتشغيل والإنفاق على البنى التحتيّة، وينتظر بضعة سنوات أخرى قبل أن تنتعش الأسواق من جديد. وبالرغم من الفشل الذريع الذي سجلته الرأسماليّة الكلاسيكيّة في تقديم توصياتٍ مفيدةٍ للتعامل مع الأزمة، فإنّ أفكار مدرسة شيكاغو السالف ذكرها والتي ظهرت في بداية الخمسينيات، تشير إلى أنّ الرأسماليّة الكلاسيكيّة التقطت أنفاسها بسرعةٍ وأعادت تقديم نفسها في قالب جديد هو المدرسة النّقديّة.
وبرأي ميلتون فريدمان (1912-2006)، أحد ألمع علماء هذه المدرسة، فإنّ أزمة الكساد الكبير هي نتيجة سوء تصرّف السلطات النّقديّة الأميركيّة (الاحتياط الفدرالي الأميركي)، في حين كان على السلطات المالية والنقدية، تبني سياسات محايدة نقديًا وماليًا في جميع الأحيان، ومن شأن ذلك في جميع الأحيان توفير أرضيّة نموّ واستقرار لأمد طويل. وفي ظلّ المذهب النّقدي الذي أطلقه فريدمان، يسمح للدولة بالتدخل من قناة وحيدة هي سياسة الفوائد، ولهدف وحيد أيضًا هو خفض معدّلات التضخّم الذي بات في الستينيات والسبعينيات الماضية أحد سمات النظام الرأسمالي. لكن فريدمان تجاهل أنّ خفض الفائدة يستنفذ أغراضه بسرعةٍ ولا يحقّق النتائج المرجوّة، كما حصل في أزمة الثلاثينيات وتكرّر حصوله في أزمة اليابان في التسعينيات وأيضًا في الأزمة الحاليّة؛ إذ وصلت معدلات الفائدة الحقيقية إلى الصفر دون أن تغيّر اتّجاه الأزمة.
إنّ عجز الأرثوذوكسيّة الاقتصاديّة عن تقديم إجاباتٍ علميّةٍ شافية للكساد الكبير وللأزمات الأخرى، جعلها تبدو تيّارًا اقتصاديًا يحبّذ الفوضى، ولعلّها صارت كذلك، إذ إنّها فضّلت فتح الباب أمام العواصف المفاجئة الآتية من جحيم الأسواق العالميّة، وحرمت السلطات الماليّة والنقديّة من الصلاحيات اللّازمة للتصدي لها، وظلّت متمسّكة بفرضيّة أثبتت الوقائع خطأها، وهي أنّ الاقتصاد يزداد نشاطًا كلّما تمّ التخلي عن القيود والتنظيمات التي تلجم آليات السوق، وهذا وجه من وجوه السياسات الفاشلة التي لن يقوّم اعوجاجها ما لم تصحّح المبادئ النّظريّة التي تستند إليها والجذور الفكريّة المتّصلة بها.
* كيف تنظر إلى الأسباب الكامنة وراء ميل الرأسماليّة الغربيّة إلى توليد الأزمات، وتداعيات ذلك؟
- إذا كان من سبب عام يلخّص الأسباب الغائرة وراء الأزمات، فإنّه يتمثّل في عبارة واحدة: اختلال التوازن الذي قادت إليه الليبراليّة المحدثة خلال ربع قرن من هيمنتها على صانعي القرار.
والمظهر الأوّل لذلك الخلل، هو فقدان التوازن بين الحكومات والأسواق، فسياسة كفّ اليد التي أُطلقت في الثمانينيات لم تقف عند حدّ تخليص الدولة من حمولاتها الزائدة كما يزعم، بل أفقدتها دورين أساسيين من أدوارها، دور الضامن الأخير لعمليات الاستثمار والإنتاج عند اضطراب البيئة الاقتصاديّة العامة، ودور الموجّه لحركة الرساميل والمراقب لأداء الأسواق. إنّ نهاية هذين الدورين زاد من حدّة الانفصام بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد المالي والنّقدي، فبات هذا الأخير يمتلك قوّة دفعٍ خاصّة به، لا تمتّ بصلةٍ بتمويل عمليات إنتاج السلع والخدمات كما هو مفترض، إلى حدّ باتت معه تحركات الرساميل في العالم تساوي أكثر من مئات أضعاف القيمة الإجماليّة لحركة التجارة الدولية والاستثمارات المباشرة.
المظهر الثاني للخلل، هو عدم التوازن بين تركز الثروة في دول الشمال وتركز الإنتاج في دول الجنوب. فبحثًا عن عمالة رخيصة ومدرّبة في ثمانينيات القرن الماضي، بدأ النظام الرأسمالي يعيد نشر الصناعات التقليدية جنوبًا، وقد وضع هذا الأمر الرساميل الوطنيّة في البلدان الصناعيّة أمام خيارين: الهجرة أو البحث عن مجالات استثمار بديلة، ومع التطوّر الهائل في تقنيات المعلومات والاتّصالات تحوّل جزء لا يستهان به من الرساميل العاملة ومدّخرات الأسر والقروض الفرديّة نحو المضاربة في البورصات والأسواق الماليّة.
أما المظهر الثالث للخلل، فيجسّده عدم التوازن في توزيع المداخيل والثروات في الدول الصناعيّة نفسها، وهو ما يعدّ الجذر الاجتماعي لأزمة الأسواق الماليّة. ففي السنوات 1917-1939 تراوحت نسبة المداخيل المخصّصة للـ 10% الأغنى في الولايات المتحدة الأميركية، ما بين 40% و 50% من مجمل الدخل الوطني الأميركي، وطوال المدة اللّاحقة 1945-1981 التي تميّزت بهيمنة الفكر الكينزي، انخفضت هذه النسبة إلى 35%، لتعود إلى الارتفاع مجدّدًا إلى 50% في المرحلة اللاحقة. ويقدر أنّ حصّة الأجور انخفضت من 63% إلى 53% من الناتج الإجمالي الأميركي ما بين عامي 1975 و2005. وفي بلد صغير كلبنان تساوي كتلة الأجور ما لا يزيد عن 25 بالمئة فقط من مجموع ناتجه، الأمر الذي عُدً من الأسباب الرئيسية لتفسّخ العقد الاجتماعي وهيّأ الأرضيّة لخفض إنتاجيّة الاقتصاد وفتح الباب أمام انهيارات اقتصاديّة واجتماعيّة ونقديّة وسياسيّة، ما زلنا نعيش في أتونها.
كان لهذا التفاوت العالمي آثارٌ اجتماعيّةٌ واقتصاديّةٌ متسلسلةٌ، فقد أدّت تصرّفات الفئات الأغنى إلى خفض ميل الأسر للادخار، وزيادة ميلها للاستهلاك، وصار تمويل النّمط الاستهلاكي المفرط لخُمس السكان الأكثر ثراءً يحتاج إلى تحويل هائل للثروات لمصلحة هذه الفئة، وفي حالات أكثر تطرفًا أصبح ضروريًا استخدام وسائل غير عادية للحصول على التمويل الخارجي بأية طريقة؛ لتغذية تيّار الاستهلاك الجارف وثقافته المدمرة، وبالنتيجة كان لا بدّ من خلق كائناتٍ ماليّةٍ خطيرةٍ مثل المشتقات الماليّة، التي ضخّمت قيم الأرصدة المصرفيّة بطريقةٍ منفصلةٍ عن عالم الاقتصاد الفعلي، وجرى غض النّظر عن تراكم العجز في الحساب الخارجي والموازنات العامّة خدمة للخمس الأعلى ثروة، وللواحد بالألف منهم على وجه الخصوص.
تكمن مشكلة الرأسمالية المالية/النيوليبرالية هنا تحديدًا، أي في تنكّرها لكلّ أنواع التوازنات ولا سيما منها التوازنات الاجتماعية، واعتقادها بأنّ الفئات الأعلى في سلم الدخل قادرة على خلق طلب استهلاكي واستثماري كاف، وقيادة قاطرة النمو بمفردها. وهذا غير صحيح، ففي الوقت الذي تحتكر فيه هذه الفئات الجزء الأكبر من المداخيل فإنّها تقوم بتشويه عمليات تخصيص الموارد، وتذهب بالاقتصاد العالمي بعيدًا عن هدفي الاستقرار والازدهار.
والمظهر الرابع للخلل في المنظومة الرأسماليّة الجديدة، هو تعثرها الآيديولوجي. ولنأخذ أزمة 2008 نموذجًا على ذلك. بدأت هذه الأزمة مع تنامي الاعتقاد بأنّ بوسع الأسواق أن تدير نفسها بنفسها من من دون قواعد صارمة، وبمعزل عن نظام أخلاقي (نعم أخلاقي!) من شأنه تأدية مهام لا غنى عنها مثل: توفير التوازن بين عنصري الكسب والاستقرار، وطرد المغامرين من السوق، ووضع حواجز تكبح السرعات الزائدة (مثل النمو فائق السرعة للقطاع العقاري ثم تراجعه بسرعة أكبر)، ومنع الجيل الحاضر من استعمال موارد الأجيال الآتية عبر الاستدانة. الأمر الأخير ينطبق على الأسر الأميركية التي أقحمها خفض الفوائد في دوامة الاستهلاك، فضاعفت ديونها خلال ثلاثة عقود أكثر من عشرين مرة لتصل إلى 14 تريليونًا تقريبًا. الحكومة الأميركية فعلت الشيء نفسه فموّلت توسّعها في الإنفاق على التسلّح بالاستدانة، ومن دون أي زيادة في الضرائب حتى لا يخدش ذلك النقاء الأيديولوجي لليبراليّة الجديدة.
تنامت النّزعة غير الأخلاقيّة في الأسواق وتحوّلت إلى موجةٍ كاسحةٍ. لقد كانت قويّة إلى حدّ أنّها قوّضت مسلّمات السّوق، وألزمت صانعي القرار بسنّ قواعد جديدة تسوغ أفعال المغامرين والمضاربين، وتجيز البحث عن ربح سريع لا يرتبط بالإنتاجيّة. والمفارقة هي أنّه في الوقت الذي كانت فيه اتّفاقية بازل (2) تفرض شروطًا أكثر تشدّدًا على المصارف لضمان كفاية رأس المال، عمدت لجنة مراقبة عمليات البورصة في أميركا عام 2004 إلى التخلّي عن الحد الأقصى المفروض على الديون الذي يعادل 12 دولار مقابل دولار واحد، ليرسل ذك إشارة البدء لحمّى المضاربات والمراهنات و«الابتكارات» الخطيرة.
وقد روى ماثيو فيليبس في مجلة نيوزويك قصة ذلك «الوحش» الذي تفتّقت عنه أذهان مديري المصارف. فبعد أن ضاق هؤلاء ذرعًا بوجود كمياتٍ هائلةٍ من الأموال الاحتياطيّة المعزولة عن آلة الربح، لجأوا إلى خلق طرفٍ ثالثٍ مهمّته شراء المخاطر وتحمّل مسؤوليّة التخلّف عن السداد، ثم قام البنك بخلط القروض بعضها ببعض وتقسيمها إلى شرائح صغيرة وبيع أكثرها خطورة لمستثمرين آخرين معتمدًا طرقًا رياضيّة معقّدة لا يمكن لمراقبي الأسواق فهمها ورصد خطورتها. كان لدى مبتدعي هذه المنتجات الغريبة على ما يقول إحساسًا مشابهًا للذي اعترى واضعي تصاميم القنبلة النووية الأولى.
ولم تكن النتائج مختلفة كثيرًا؛ إذ تسبّب ذلك الوحش بتضخّم سوق «مقايضة الديون» خلال سنواتٍ قليلةٍ ليصل إلى حوالي 62 ألف مليار دولار أميركي أي بما يكفي لتلويث الأسواق العالميّة وتحويلها إلى جحيم. وها نحن في لبنان نعاني الآن شيئًا مشابهًا، وإن جرى ذلك لدينا بصورةٍ أكثر علنيّةً وفجاجةً وأقلّ براعةً ودهاءً مما حصل في أسواق نيويورك ولندن وهونغ كونغ وغيرها من الأسواق المتقدّمة، فبكلّ بساطة وضعت المصارف يدها على أموال المودعين متذرّعة باحتجاز أموالها لدى المصرف المركزي والحكومة، علمًا أنّ ذلك جرى بملء إرادتها وبوعي منها للعواقب، وطلبًا للمزيد من الأرباح والريوع المشتقّة من أرباح وريوع أخرى، دون جهد أو إبداع أو عمل.
ومع أنّ إطاحة أخلاقيات السّوق يقف وراء ذلك الانفلات الغرائزي في الأسواق الماليّة العالميّة الذي تحوّل إلى تدمير ذاتي كارثي، فقد كان له مردود جيد لصانعي اللعبة، وتكفي الإشارة إلى أنّ «إكراميات» مدراء المصارف والمؤسّسات الماليّة ارتفعت دفعة واحدة من 24 مليار $ عام 2006 إلى 65 مليارًا قبيل أزمة 2008، فيما حقّق مدير ليمان براذر وحده 500 مليون دولار في سنوات قليلة.
من حيث الشكل، نجحت الابتكارات المذكورة أعلاه، في زيادة تمركز الاقتصاد الرأسمالي ككل حول الأسواق الماليّة، وفي خلق تيّاراتٍ وهميّةٍ من الأرباح والتدفّقات والقيم. لقد عطّلت نشوة الربح القدرة على الحكم وإبداء رأي حصيف لدى جميع الأطراف المعنية: المصارف ومؤسّسات التأمين، وكالات التصنيف، أجهزة الرقابة، السلطات النقديّة، الحكومات.. الجميع كان مطمئنًّا إلى إمكانيّة الاستمرار بتلك اللعبة غير الأخلاقية وغير المعقولة إلى ما لا نهاية. وتكرارًا فعلنا للأسف الشيء نفسه في لبنان وها نحن نتخبط في أزمة حادة يصعب حلّها بإمكاناتنا الذاتية المحدودة، ودون قضم من السيادة الوطنية في مقايضة يريدها بعضهم بين السيادة الغذاء!
وقد فضحت جائحة كورونا بعض ما كان مسكوتًا عنه، ومما كشفت عنه أنّ إنفاقنا على القطاع الصحي العام هو أقل بكثير في الدول المتقدّمة من إنفاقها على التسلّح، وأن ما صرف من أموال على التجميل كان أكبر بكثير مما صرف للوقاية من الأوبئة والتحسب الاستباقي لها، وأنّ الموازنات الموجهة للصناعات الاستهلاكيّة والترفية هي أضخم من تلك المخصّصة لأبحاث السرطان..
الانتكاسة الإيديولوجيّة التي تواجهها الرأسماليّة لا تتعلق فقط بغلوّها وبالتناقض بين تقليص دور الدولة في الاقتصاد وتضخيمه في الحرب والسياسة، إن لها صلة أيضًا بافتقارها أكثر من أيّ وقت مضى لمرجعيّة أخلاقيّة تهدّئ من توتّر «اليد الخفيّة»، التي حاولت الانتقال إلى نموذج أكثر ليبراليّةً وتطرّفًا، لكنّها فشلت في تحقيق ذلك ووضعت الاقتصاد العالمي برمّته عند حافّة الانهيار، وكبّدت المجتمعات التعرّض للمخاطر الشديدة والآلام المبرحة.
* يعتقد البعض أنّ الهيمنة الاقتصاديّة الأميركيّة على الاقتصاد العالمي آيلة إلى الأفول، وأنّ الحرب الاقتصاديّة التي تشنّها أميركا على الصين تهدف لتأخير هذا الأفول لا منعه. إلى أيّ مدى هذا الأمر صحيحًا؟ وبرأيكم ما هي الركائز التي يرتكز عليه أصحاب هذه النّظريّة؟ وهل تعتقدون أنّ المنظرين الاقتصاديين الغربيين عاجزون عن إيجاد الحلول لإبقاء هيمنةٍ غربيّةٍ على الاقتصاد العالمي ومنع صعود الصين والشرق بشكل عام؟
- هذا صحيح إلى حدّ كبير. لكن الصراع ليس تقليديًّا ولا تعبّر عنه أرقام قليلة. فبالفعل تجاوز الاقتصاد الصيني نظيره الأميركي بالقوة الشرائيّة وبالقيم الحقيقية (بمعيار تعادل القوة الشرائية PPP)، ومعدّلات النّمو في الصين هي أعلى بكثير من نظيرتها في أميركا، بأربعة أضعاف أو خمسة أضعاف، إلّا أنّ ذلك لا يلخّص المشهد كلّه، ففي المقابل مازالت أميركا تتقدّم في مجالاتٍ عدّة، ومنها على سبيل الذكر لا الحصر، حصة الفرد من الناتج التي تساوي في الولايات المتحدة خمسة أضعافها في الصين. وما زالت أميركا تتصدّر حتى الآن في مجالات تقنيّة عديدة، وتتحكم بالمسار التكنولوجي ربما إلى وقت غير بعيد في صناعات حسّاسة ومكوّنات أساسيّة في قطاعات صاعدة (مثل أشباه الموصلات في تكنولوجيات الاتصالات والصناعات الإلكترونية فائقة التطور والذكاء الصناعي).
وتحرص واشنطن على استغلال تفوّقها العسكري ونفوذها السياسي للتعويض عن تراجع قدراتها التنافسيّة، فتمنع بقوّة الأمر الواقع دولًا من فتح أسواقها أمام المنتجات والاستثمارات الآتية من دول على خصومة معها (مثل الصين وروسيا على المستوى العالمي وايران على المستوى الإقليمي)، وبقوّة الأمر الواقع أيضًا تجبر دولًا وقطاعات (كالنفط) على استعمال الدولار الأميركي عملة تبادل شبه وحيدة. وتصبّ العقوبات والتهديد بفرضها في الإطار نفسه، وهي التي باتت تشمل دولًا صديقة لواشنطن، وليس المعادين أو المنافسين لها وحدهم.
لكن ذلك لن يستمر طويلًا؛ إذ تواجه الولايات المتحدة الأميركية نفسها مهمّة شاقّة هي إعادة اكتشاف العالم لمعرفة أيّ طريق عليها سلوكه، والمهمّة على أية حال محفوفة بالمخاطر، فالعودة إلى الوراء غير ممكنة، والمضي قدمًا في الطريق نفسه حماقة لا يمكن تحمل تبعاتها. وليس أمام واشنطن سوى مخارج قليلة، تقع في ذلك الهامش المفتوح ما بين الانكفاء الذي قد يلامس حدود العزلة، أو البحث عن صياغة جديدة لدورها العالمي في إطار من التعاون والشراكة، هذا إذا لم تمعن في سلوك الطريق نفسه. بمزيد من الحروب.
ويترتّب على كلّ خيار من الخيارات نتائج اقتصادية وسياسية كثيرة، وتداعياته لا تقل أهميّة أو خطورة عن تلك التي أدّت إليها خيارات أميركية سابقة. ففي التسعينيات أرسيت قواعد عمل العولمة على مزيج من الانفتاح والهيمنة بوسائل تجاريّة واقتصاديّة، فاتّسع النفوذ الأميركي باطراد، وفي عهد جورج بوش الابن في فجر الألفة الثالثة، صارت الحرب هي الوسيلة لتحقيق الهدف نفسه، لكنّها انتهت إلى ما هو معروف من الخسائر والكوارث. وها نحن اليوم نقف عند تقاطع سياسي اقتصادي جديد؛ حيث إنّ فشل سياسة الحرب من ناحية وتعذر العودة إلى النموذج الاقتصادي العالمي من ناحية ثانية، يمهدان لتغير موازين القوى الاقتصادية وتبدل اتجاهات العولمة. ومن مؤشرات هذا التبدل فرض مزيد من القيود على حركة الرساميل و بدء ارتداد الشركات العابرة نحو بلدانها الأم، وتدني مكانة المؤسّسات الاقتصاديّة الدولية، وتحول سلاح العقوبات إلى أداة تقليدية ويوميّة في العلاقات الاقتصاديّة على يد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي لم يتورع عن فرض عقوبات على شركات صينية دون أيّ سبب مقنع سوى منعها من الحصول على التكنولوجيا، وبذلك تكون الحرب الاقتصادية التي تشنها أميركا هي البديل لانطفاء تفوقها الاقتصادي من ناحية وتسارع جهود دول أخرى في ردم فجوة التقنية والعلم معها من ناحية أخرى.
* كيف سينعكس ذلك برأيكم على الهيمنة الغربية؟
- يواجه الغرب مشكلة التكيّف مع التحوّلات السياسيّة المرتقبة، فبقدر ما كان العنف الإمبراطوري الأميركي سببًا من أسباب الأزمات الماليّة، فإنّ التدهور الاقتصادي الناتج عنها، هو من العوامل التي ترفع منسوب التوتّر وتؤدّي إلى اتّساع محاور الاضطراب في العالم. وبحسب المؤرخ الأميركي «نيال فرغسون»، الذي رصد طويلاً صراعات القرن العشرين، فإنّ عدم الاستقرار الاقتصادي، وانحسار نفوذ الإمبراطوريات وارتفاع منسوب التوتر العرقي تزيد من احتمال تصاعد العنف. وتجتمع هذه العوامل الثلاث فيما بينها اليوم متفاعلة على نحو غير مسبوق، مما ينذر بتحوّل العنف الإمبراطوري، إلى عنفٍ فوضويٍّ يتنقّل باستمرار على متن أزمة اقتصاديّة واسعة وعميقة، وينذر كما بات واضحًا بانقضاء عصر الهيمنة الغربية والأميركية على نحو خاص. فالفوضى هي بيد الغرب سيف ذو حدين، من جانب يسمح له باستقطاب مزيد من الفوائض من الدول الضعيفة والبعيدة من المركز، مستفيدًا من تفشّي ظاهرة الدول الفاشلة، ومن جنب آخر لن ينجو هو نفسه من تداعيات ذلك. نجد ذلك واضحًا وصادمًا في الولايات المتحدة نفسها، التي تعاني من انشقاقات عاموديّة سياسيّة وآيديولوجيّة وإثنيّة، ومن صعود الشعبويّة ومن تقدّم اليمين المتطرّف فيها وفي دول الغرب عمومًا الذي تنشر فيه كالهشيم ظواهر عنصريّة تهدّد تماسكه.
هل يمكن ضبط الفوضى الآتية بمجرد استبدال الإدارة الأحادية للعالم بسلطةٍ عالميّةٍ متعدّدة الأطراف تقف الولايات المتحدة على رأسها؟
إنّ ضبط الفوضى يتطلّب غلق الفجوة داخل النظام الدولي بين الأهمية الاقتصادية للدول وبين مكانتها السياسية، وبين هذه الأخيرة وريادتها الثقافية والآيديولوجية. ومن دون ذلك لن يكون بوسع هذا النظام السيطرة على أزماته المتفاقمة والمتنقلة. وينطبق ذلك بالدرجة الأولى على الولايات المتحدة التي تحظى بقوّةٍ عسكريّةٍ وسياسيّةٍ تفوق كثيرًا مساهمتها في الاقتصاد العالمي، ولا تقاس تلك المساهمة فقط بحصتها من الناتج العالمي ونصيبها في التجارة الدولية، بل أيضًا بدورها في الوقاية من الأزمات وتهدئة الأسواق. لكن بخلاف هذا الدور المزعوم، صار أداء الاقتصاد الأميركي المتراجع منذ سنوات مصدر قلق وخطر، وتكفي الإشارة في هذا المجال، إلى أنّ كلفة تمويل العجز الفدرالي تتخطى المبالغ اللازمة لإطعام النصف الأكثر فقرًا من سكان العالم. وحتى لو اتّجهت أميركا لبناء دورها العالمي الجديد على أساس الشراكة والتعاون، فإنّ ذلك لن يحلّ المشكلة، ما دامت تعتبر أنّ من حقّها أيضًا تقرير مصير الآخرين ورسم أدوارهم، وتستعمل القوّة الغاشمة لإجبار الآخرين على القيام بأفعال تتنافى مع مصالحهم، وتجبر كلّ ذلك لمصلحة تكريس الظلم العالمي الاقتصادي منه (اللاَّمساواة والفقر) والسياسي (دعم دولة الاحتلال الصهيوني، والقوى المتطرفة في العالم).
وهذا فضلًا عن أفول دعوى جاذبية نموذج الحياة الأميركي الذي تردّد على الألسن وزُرع في الأذهان، وآخر من تراءى له التبشير به، جوزيف ناي، الذي وجد فيه حلًا لمشكلة تراجع المكانة التنافسية لأميركا، التي بإمكانها بحسبه، جذب الموارد البشرية النادرة في العالم اعتمادًا على فرادة نظام عيشها وليس بناء على تنافسية اقتصادها. رأي غريب، ومع ذلك فإنّه يثبت اهتزاز ثقة أميركا بنفسها وبقدرة مؤسّساتها، وبموقعها المستقبلي بين الجالسين على قمة الاقتصاد العالمي.
* انطلاقًا من طبيعة المشهد المعقّد على نطاقٍ عالميٍّ، هل يمكن الدول الصناعية الغربية التكيّف مع الأزمة مرّة أخرى؟
- اعتادت الرأسماليّة على احتواء المخاطر دون التسبّب بانهياراتٍ حادةٍ أو كسادٍ شاملٍ، لكن الظروف الراهنة مختلفة، وهناك عوامل عدّة قد تمنع تكيّف الدول الصناعيّة الكبرى بسهولةٍ مع الأزمة، من بينها:
أوّلًا: تعطّل الرافعة التي مثلتها الولايات المتحدة الأميركية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، فاليوم هي التي تقف على فوهة البركان، مستنفدة من قدرتها على تصدير أزماتها، بعد أن استعملت سلطاتها كلّ أسلحتها تقريبًا النقديّة والماليّة السياسيّة بل وحتى العسكريّة. ثمّ إنّ قدرة أميركا على قيادة الدول الصناعية إلى برّ الأمان محكوم بوزن اقتصادها في الاقتصاد العالمي؛ حيث صارت القدرة الشرائيّة لمجموع ناتجها أقلّ من الناتج الصيني (15.3 بالمئة في مقابل 18.3 بالمئة من اقتصاد الكوكب على التوالي)، علمًا أنّ الحجم الاقتصادي للصين كان عشر سنوات يساوي تقريبًا أقل من نصف الناتج الأميركي (على أساس تكافؤ القوّة الشرائيّة).
ثانيًا: مركزيّة الأزمة، فما بين نهاية الحرب العالميّة الثانية ونهاية السبعينيات من القرن الماضي، عرفت الرأسماليّة استقرارًا ملحوظًا في ظلال التعاليم الكينزية، ومع أنّ تلك الحقبة حفلت بأزمات وطنيّة قاسية فإنّها لم تعرف أزمات إقليميّة أو دوليّة كبرى.
في المرحلة اللاحقة بدأت المشكلات تضرب أطراف العالم الصناعي، أميركا اللاتينيّة في النّصف الثاني من الثمانينيات، والنمور الآسيوية في العقد التالي، لكن الأزمة تهدّد هذه المرّة دول المركز؛ حيث لا وجود لآليّة دوليّة قادرة على احتواء تدهور أوضاعها، فعلى خلاف الدول المتعثّرة الصغيرة والمتوسّطة، ليس لدى مؤسّسات النظام الدولي الماليّة والنقديّة الأدوات الكافية والكفيلة بتعويم اقتصادات ضخمة كالاقتصاد الأميركي (من يتصور أن بوسع العالم مثلًا حلّ مشكلة الدين العام الأميركي الذي يلامس حدود ستة وعشرين ألف مليار دولار!)
ثالثًا: تنامي المنافسة من خارج النادي الصناعي التقليدي، فأعداد المتربّصين في تزايد، وهؤلاء بوسعهم تحويل أزمة الاقتصاد الأميركي من تعثّر مؤقّت إلى تراجع دائم. ليست الصين وحدها في هذا المضمار، هناك الأسواق الناشئة، والدول الغربية التي حافظت على سياسات اقتصاديّة معتدلة خلال موجة التحرير المتطرفة، وهناك أيضًا روسيا التي تخطّت كارثة التسعينيات حين فقدت حوالي ثلاثين بالمئة من ناتجها أثناء محاولتها بناء دولة على الطراز الغربي. وها هي تفلح في مضاعفة ناتجها في أقلّ من عشر سنوات بعد أن سلكت طريقًا آخر.
رابعًا: السياسات النّقديّة الخاطئة التي باتت عماد السياسات الاقتصاديّة الغربيّة. فالسّلطة النّقديّة الأميركيّة تتحمل المسؤوليّة عن المال الرخيص، أي الذي يجري «خلقه» وطباعته دون غطاء اقتصادي، فسياسة الفوائد المنخفضة التي اعتمدت في بداية الألفية الثالثة لتحفيز النمو شجّعت الأسر على التمادي في الاستدانة؛ لتمويل الاستهلاك، وهذا أدّى إلى زيادة الواردات وتعظيم العجز التجاري في العديد من الدول الكبرى. الجدير ذكره أنّ زيادة مديونيّة الأسر ترافق مع تراجع حصّة الأجور في الناتج العالمي من 71 بالمئة قبل أربعة عقود إلى حوالي النصف، مما أثر سلبًا على العجلة الاقتصاديّة التي يُساهم الإجراء في تحريكها، وأدّى إلى تفاقم الأزمات الاجتماعيّة.
وعلى العموم هناك أكثر من اتّجاه لتفسير تطوّرات الاقتصاد العالمي، فالأزمة من ناحية هي مولود اقتصادي لكائنٍ سياسيٍّ يمثّله جنوح الإدارة الأميركيّة نحو العنف، ولولا التوتّر الدولي لم تلامس أسعار النفط المعدّلات التي سجّلتها أثناء صدمة النّفط الأولى في سبعينيات القرن العشرين (بالأسعار الثابتة)، والأزمة تتّصل من ناحيةٍ أخرى بطريقة تمويل واشنطن لفاتورة حرب العراق الضخمة المباشرة وغير المباشرة المقدّرة بحوالي ستة آلاف مليار دولار في غضون أربع سنوات، فضلًا عن إنفاقها العسكري الذي يقدّر في سنوات ما بعد تلك الحرب بحوالي 12 ألف مليار دولار. وحتى تحمي نمط حياة مواطنيها القائم على المبالغة في الإنفاق فضلت السلطات الأميركية غالبًا زيادة الديون أو الإكثار من طباعة العملة الخضراء على زيادة الضرائب، علمًا أنّ الأمر الأخير يتحمّل كلفته الدول الأخرى التي تعتمد الدولار عملةً رئيسيّةً في تعاملاتها، أكثر مما تتحمّله أميركا نفسها.
وسواء اختارت واشنطن الانكفاء على الذات، أو الانفراد بإعادة صياغة النظام الدولي على هواها وهو ما فشلت فيه حتى الآن، فإنّ العالم لن يتخطى خطر الأزمة ما لم يتخلّص من الحمولة الزائدة التي يمثّلها التضخّم غير المبرّر لدورها، وما لم يكن لديه معايير موحّدة يمكن تطبيقها على الجميع دون استثناء.
* عند الحديث عن أفول اقتصادياتٍ عالميّةٍ وصعود أخرى، غالبًا ما يتم الحديث عن الصين والهند وماليزيا وما إلى ذلك، مع غياب شبه تام للدول الإسلاميّة رغم ما تمتلكه من إمكانيات وثروات هائلة ماديّة وبشريّة. أين تكمن المشكلة في العالم الإسلامي والتي تبقيه بعيدًا عن دائرة التوقّع بتحوّلهم إلى اقتصاديات فاعلة ووازنة ومؤثّرة بل ومهيمنة؟
- المشكلة ليست في هويّة الدولة، إسلاميّة كانت أو غير إسلاميّة. ماليزيا تضم غالبيّة مسلمة تتعايش مع أقليات أخرى صينيّة وبوذيّة ومسيحيّة وغيرها، ومع ذلك حقّقت قفزةً كبيرةً في عهد رئيس وزرائها مهاتير محمد من دولة زراعيّة تعتمد على الموارد الطبيعيّة إلى دولة صناعيّة متقدّمة علميًّا وتكنولوجيًّا وصناعيًّا، وبذلك تعدّ ماليزيا مثالًا للتنمية والتقدّم الذي لا يصاحبه تخلٍّ عن الهويّة الاجتماعيّة والعقيدة الدينيّة. وتعدّ تركيا مثالًا آخر للتقدّم القائم على النمو في إطار معولم، وهو ما حقّقته في ظلّ حكم ذي مرجعيّة إسلاميّة ومقرّب من الغرب.
لكن التجربة الأبرز هي في الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية التي نجحت تحت ضغط الحصار الظالم وطويل الأمد في التحوّل إلى دولةٍ صناعيّةٍ بارزةٍ تحقّق اكتفاءً ذاتيًّا في مجالات إنتاجيّةٍ عدّة، ولديها سجلٌّ لافت للنّظر في التقدّم السريع على جادة المعرفة والبحث العلمي والاقتصاد المعتمد على العلم. وكان النجاح الايراني ثلاثي الأبعاد في التنمية المستقلّة، وفي الاكتفاء الذاتي في قطاعات حيويّة عدّة، وفي الصمود في وجه العقوبات بحيث حقّقت إنجازاتها بدون تقديم تنازلاتٍ سياسيّةٍ أو استراتيجيّةٍ أو آيديولوجيّةٍ، وبدون التبعيّة للآخرين تقنيًّا وماليًّا وسياسيًّا، ومن دون التخلي عن مقاربتها الإسلاميّة الغنيّة والفريدة في عالم اليوم.
إنّ أيّ انطلاقة جديدة للدول العربية والإسلاميّة لا بدّ وأن يبدأ ببناء اقتصاد حقيقيّ منتج، قوامه الصناعة بكلّ مستوياتها، فمن دونها لا تكون التنمية في الأمد الطويل، ولا تُعبّأ الطاقات والموارد الماليّة والبشريّة، ولا تُستقطب التكنولوجيا، ولا يتحقّق الاستقلال الاقتصادي والسياسي والتكافؤ في التعامل مع الدول الأخرى، ولا تنمو قطاعات الإنتاج الأخرى، ولا يفتح الطريق أمام اقتصاد المعرفة. ثم إنّ الإنتاج المتقدّم معرفيًّا وتقنيًّا لا يمكن الوصول إليه في ظلّ تحويل فوائض الاقتصاد إلى الخارج من خلال الاستهلاك المفرط، وسوء توزيع الثروة الذي يركز القدرة على الادّخار لدى فئةٍ صغيرةٍ من السكان (الواحد بالألف منهم مثلًا)، ممن يفضلون إيداع أموالهم في المصارف الخارجية الكبرى، عوضًا عن إعادة استثمارها في بلدانهم.
مشكلة بعض العالم الإسلامي بما فيه بلدان عربية، تكمن في الانطلاق من فرضيات خاطئة من قبيل القول بأنّ الاعتماد على الغرب والارتباط بسياساته هو الطريق الوحيد للتقدم، أو الاعتقاد بأنّ النّمو المعتمد على الريوع النفطيّة المباشرة وغير المباشرة يساوي التنمية، ناهيك بثالثة الأثافي وهي سعي غالبيّة السلطات الحاكمة في تلك الدول إلى التعويض عن نقص مشروعيتها الداخلية بـ«مشروعية» خارجية، هذا الخارج لا يقف عند حدود دعم حكومات لا تمثّل طموحات شعوبهم وآمالهم ومصالحهم، بل يتحكّم باقتصاداتها السياسيّة المتحكّمة برسم السياسات ووضع الأولويات وتوزيع الموارد التي تعبّر عن توزيع القوّة داخل المجتمع.
* رغم أنّ علماء المسلمين (من ناحية فقهية) يعتبرون أنّ الاقتصاد العالمي لا يتطابق مع الرؤية الإسلاميّة، لكن الدول الإسلاميّة تجد نفسها «مضطرة» للتعامل معه. برأيكم هل هناك إمكانيّة لفرض تعديلات على الاقتصاد العالمي أكثر انسجامًا مع الرؤية الإسلاميّة؟ وإذا كان الجواب إيجابيًّا ما هي السبل والأليات الكفيلة بتحقيق ذلك ولو بشكل مختصر؟
- النظام الاقتصادي الإسلامي هو واحد من البدائل، للأنظمة الاقتصادية المعاصرة التي عجز معظمها عن احتواء المشاكل الاقتصاديّة، وتأمين قدر ما من التكافؤ بين عنصري التقدّم والنمو من جهة والعدالة والتوازن الاجتماعيين من جهة أخرى.
المبادئ الأخلاقيّة التي يبشّر بها الإسلام، ناهيك بتشريعاته، تملأ فراغ النّظم الأخرى؛ إذ تعمل على توسيع مفهوم الدوافع التي تحرك النّشاط الاقتصادي للأفراد، لتكون هذه الدوافع جزءًا ليس فقط من سعيهم الدؤوب لتحقيق مصالحهم الخاصة، بل أيضًا من ارتباط الإنسان الوثيق بأخيه الإنسان وبالطبيعة، وبما ينسجم بطبيعة الحال مع صلته بعالم الغيب وبالقيم الإلهيّة المستمدّة منه.
على أنّ التحديد النهائي للنظريّة الاقتصادية في الإسلام، لا يكون فكريًّا فحسب بل في إطار التجربة التي تميّز ما هو ممكن وقابل للحياة من الاجتهادات النظرية عن غيرها الاجتهادات. فما زال التطبيق جزئيًّا ومحدودًا في بعض الدول الإسلامية التي تراعي بعض جوانب الشريعة، ولم يبلغ بعد غاياته البعيدة، في دولة إسلامية بالفعل كجمهورية إيران الإسلامية.
ولا تكون النظرية أو النظريات الاقتصاديّة الإسلاميّة، قادرة على التقدّم والمنافسة في مضمار الأفكار وصناعة السياسات، ما لم تحظ بالمبدئيّة والواقعيّة والتنوّع، وما لم تتمتع بالقدرة على اختراق مجتمعات ودول غير إسلامية. وهذا يستدعي فيما يستدعيه توسيع فضاء الاجتهاد، بحيث تتكامل مجالاته وحقوله، ويترابط مع العلوم الإنسانيّة الأخرى. فالفقه الذي يقع في قلب منظومة الاجتهاد لا بدّ وأن يتعامل مع مفاهيم معاصرة لا تأتي النصوص على ذكرها، وحتى لو ذُكرت فإنّ لها دلالات جديدة لا يمكن أن تتبلور إلّا بالاستعانة بعلوم أخرى (كمفهوم الدولة، والسيادة، والشرعية الدولية، وتوزيع الدخل، وحقوق الإنسان، والقطاع العام، والعلاقات الدولية، والعقد الاجتماعي، والنظام التربوي، والملكية العامة، الخ)، ولا يصحّ فصل الفقه عن علوم الأخلاق ولا أن يكون نقيضًا لمكارمه، كما لا يمكن عزل الأخلاق والشريعة عن غايات المجتمع ومصالحه.
إنّ منظورًا أكثر اتّساعًا وتكاملًا للاجتهاد، يوصلنا ليس فقط إلى الأحكام الفرديّة، بل إلى إفراغ الوسع في بناء النظريّة الإسلاميّة، وهذا ما نجده في أعمال مفكرين إسلاميين، ورأينا الكثير من تجلياته في تجربة الثورة الإسلامية في ايران، التي استفادت من نتائج ثورة فكريّة ثقافيّة قطعت مع التراث الفقهي المحافظ. ويمكن أن نكرّر هنا ما قاله المفكر الراحل الهندي الأصل كليم صديقي في كتابه «نظرية الثورة الإسلاميّة»، بأنّ الأسس الأولى لما حدث في إيران عام 1979 يمكن ردّه إلى جذوره في القرن العاشر الهجري، عندما تمكّنت المدرسة الأصوليّة «الاجتهادية» من إقصاء المدرسة الإخباريّة، فيما لم تتمكّن مذاهب إسلامية أخرى من إحياء الاجتهاد بالطريقة نفسها، ولولا ذلك لما كان لايران برأيه أن تمضي قدمًا في طريق الثورة.
نحن إذًا بحاجة إلى قطع ووصل معرفيين في آن معًا في علاقتنا بالتراث: قطع مع العناصر الإخبارية أو مع ميراث أهل الحديث ووصل مع العناصر الاجتهادية ومع الميراث الغني لمدرسة الرأي، فمن شأن ذلك أن يوصلنا إلى بناء نظريّة إسلاميّة اقتصاديّة، أو في الاقتصاد السياسي، عابرة للخصوصيات الثقافيّة والدينيّة، وتعيد تقديم الاقتصاد وعلاقاته على أسسٍ اجتماعيّةٍ وأخلاقيّة وقيميّة متنوّعة.
وهناك في السياق مبادئ إسلاميّة من شأنها أن تغني الفكر الاقتصادي والإنساني إذا أحسنا وضعها في بيئة حديثة، وأعدنا تعريفها بما يتناسب مع تحدياتنا وهمومنا المعاصرة. ومنها على الخصوص مبدأ خلافة الإنسان لله على الأرض، والذي يعني ضرورة تقيد المجتمع البشري بقيم عليا أثناء استغلاله للموارد وتوزيعه للدخول والثروات والسلع، بحيث يُقيّد التفويض الممنوح للإنسان في الإشراف على الطبيعة، بمدى احترامه لمبادئ العدالة والتكامل والاعتدال المقررة إلهيا.
ومن المبادئ أيضًا، التوازن في توزيع الملكية بين العام والخاص، أي أنّ للدولة حيَّزها الذي لا يتضارب مع المجال الفردي ولا يخترقه بل يتكامل معه، وهذا في إطار نظرة متعدّدة الأبعاد للملكية في الإسلام التي تستند إلى الحق الطبيعي (تملك الأفراد)، والخير العام (تملك الدولة) وتحقيق الأهداف العامة للنشاط الاقتصادي (الملكية المشتركة). وهنا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار وجود حقّ عام في كلّ منتج اقتصادي، كون القائم على إنتاجه يستفيد بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ من الخيرات والنعم والموارد الملموسة وغير الملموسة التي يملكها الجميع (كالموارد الطبيعية، والأرض غير المستصلحة، والنّظام العام الذي ترعاه الدولة، والتعليم والبحث العلمي الذي يزيد قدرات المجتمع بأسره...).
ويمكن للمنظور الإسلامي للحريّة الاقتصاديّة أن يساعد على حلّ المفارقة بين النتائج المدمّرة لإطلاق حبل الحريات على غاربها، وبين الفشل الذي يتسبّب به الحجب المطلق لهذه الحريات، وهذا يكون من خلال ربطها وتقييدها بحقوق أصيلة. وعلى رأس هذه الحقوق العدالة الاجتماعيّة بوصفها أحد أسس توزيع الثروة في المجتمع، وهدف التكافل العام والتوازن الاجتماعي. لكن العدالة لا تعني إهمال حق الفرد في جني ثمار جهده، وهي تنطلق من فكرة مفادها أنّ توزيع الموارد البشريّة والماديّة (الأرض والرأسمال والثروات الطبيعية والتعليم والصحة) التي تعدّ من مدخلات الإنتاج لها الأولويّة في الإسلام على العدالة في توزيع نتائج العملية الإنتاجيّة.
ومن المبادئ الإسلاميّة، الترابط بين العمل وحيازة الثروات والموارد، وتسخير كلّ ذلك لمصلحة فهم جديد لأهداف النّشاط الاقتصادي، الذي يجب أن يحقّق في آنٍ معًا المنفعتين العامة والخاصة، وأن يقود المجتمع نحو التكامل المادي والمعنوي.
إنّ من أهم ما يمكن للفكر الاقتصادي الإسلامي أن يقدّمه هو مدّ يد المساعدة في إخراج الاقتصاد من عزلته عن فضاء القيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة والإنسانيّة المحيطة به، الأمر الذي زاده خشونةً وضراوةً. هذا التنميط للاقتصاد قلّل من طابعه الإنساني، وأضفى عليه مسحةً كئيبةً وقاسيةً نجد لها أمثلة وانعكاسات عديدة في عالم اليوم. فقد تراجع إلى أدنى حد عدد الاقتصاديين المبالين بقضايا العدالة والصالح العام والتنمية، والقضاء على الفقر، باعتبار أنّها مخلّفات معزولة ومستهجنة لمراحل فكريّة بائدة، ويجري يوميًا التبشير بضرورة كفّ يد الدولة عن التدخل في النّشاط الاقتصادي، في مقابل إطلاق يد الشركات الكبرى والقوى الاقتصاديّة المهيمنة والتكتلات الضخمة، حتى ولو سُحقت تحت عجلاتها أفقر الطبقات، وأحوجها للمساندة. وسيتغير كلّ ذلك إذا جعلنا المبادئ العليا والقيم السامية في المجتمع هي الحاكمة على النّشاط الاقتصادي إنتاجًا وتوزيعًا واستهلاكًا وليس العكس.
* يقول البعض إنّ الهيمنة السياسيّة يقف خلفها هيمنة اقتصاديّة، وإنّ الهيمنة الاقتصادية غير متاحة ما لم تترافق مع قوّة عسكريّة. هل تعتقدون أنّ هذا الأمر دقيق؟ وإذا كان صحيحًا ألا يتعارض مع الحديث عن أفول أو تراجع الهيمنة الاقتصاديّة الأميركية في ظلّ بقاء تفوّقها العسكري؟ وفي كلّ الأحوال كيف تنظرون إلى جدليّة العلاقة بين التفوّق العسكري والهيمنة الاقتصاديّة؟
- لم يكن الاقتصاد أكثر اقترابًا واندماجًا بالسياسة مما هو عليه اليوم، فقد بات المصدر الأهم لصناعة السلطة، وتقرير موازين القوى داخل الأمم وفيما بينها، ومع أنّه لم يغب عن مثل هكذا دور، فإنّ أهدافه تلقى الآن دعمًا متماديًا من الساسة ومالكي القرار الدولي، ويحظى بقدر أكبر من التحكم بالمسارات الداخلية للدول والمجتمعات.
وفي عالم الثروات الهائلة والشركات العملاقة الذي نعيش، تضاءلت سيطرة الشعوب على مصائرها، وكذلك هو أمر الإنسان الفرد، وغدا إمساك الحكومات بزمام المبادرة والقيادة في بلدانها في أدنى مستوياته، وحتى تلك الدول، التي تظنّ أنّ الشرعيّة السياسيّة فيها مستمدّة فقط من الشّعب، وأنَّ خياراتها مرهونة بإرادته، تقف عاجزة أمام سطوة الرأسمال الاحتكاري، ونفوذ الوحدات الاقتصادية الضخمة المتزايد، تلك التي بمقدورها في أي وقت ومكان، التلاعب الخفي بقواعد الديموقراطية، وإملاء إرادتها حتى على أكثر البلدان اقتداراً وقوة.
هذا التبدّل الحاد في اتّجاه التبعية بين السياسة والاقتصاد، لصالح الأخير، أوجد إطارًا جديدًا للعلاقات الدولية، وانعكس بعمق على السياسات العالمية. ففي قمة أولويات عمل السفارات الأميركية في العالم مثلاً، الدفاع عن مصالح الشركات الأميركية الكبرى، ويظهر سفراؤها في بعض الأحيان، كممثلين تجاريين أثناء بحثهم عن فرص استثمار جديدة، ولا تتردد دول الغرب عن شن حملات سياسية ضارية لانتزاع تنازلات اقتصادية، بل قد يصل بها الأمر في سبيل ذلك إلى تحريك التوتر وإيقاد نيران الحروب.
هذه المفاعيل المعاصرة للتبعيّة المتبادلة بين السياسة والاقتصاد، هي ثمرة تطوّرات تاريخيّة في مسارين، مسار الوقائع الاجتماعية والاقتصادية، ومسار الفكر الاقتصادي، ورغم انفصالهما الظاهري، فإنهما يترابطان بعمق، حيث لا تخفى الصلة الوثيقة ما بين المدارس الاقتصادية والظروف المتمايزة والخاصة لمجتمعاتها، كما أنّ التطوّرات التاريخيّة غالبًا ما حركت إلى جانبها تيارات فكرية، عبرت وبشكل غير واع، عن مصالح الأوطان التي تنتمي إليها.
وعلى الصعيد العالي، تكتب الهيمنة لذلك الفكر الاقتصادي، الذي يحقّق أهداف أقوى الدول، ففي القرن الثامن عشر أطلقت بريطانيا فكر تحرير التجارة الخارجية، بوصفه تعبيرًا ضمنيًا عن تفوقها في المنافسة على سائر الدول. وقامت الولايات المتحدة اليوم في مرحلة صعودها في التسعينيات بالأمر نفسه، حينما وضعت العالم بين خيارين إمّا العزلة، أو الانخراط في نظام عالمي، عماده نزع الحواجز المعيقة لحركة السلع، وهدفه تمكين الشركات المتعدّدة الجنسيات، من الوصول إلى أي مكان في العالم من دون عقبات.
بيد أنّ تغير موازين القوّة الاقتصاديّة في العالم الذي صار ميله أكثر فأكثر نحو الشرق وإلى حدّ ما نحو الجنوب، جعل الآية تنعكس من جديد، فمنذ عقدين من الزمن صار النفوذ السياسي والقوة العسكرية هما الضمانتين الأساسيتين لتفوق الدول الكبرى ولا سيما منها الولايات المتحدة الأميركية، ليستعملا بالدرجة الأولى في تعزيز السيطرة العالمية للدولار الأميركي على المبادلات العالمية، ولمنع انتشار التكنولوجيا فائقة التطور، وللإشراف على خطوط الطاقة والممرات الاقتصادية الأساسية، ولاسترداد الفوائض التي حقّقها الآخرون في التجارة الدولية، عنوة كما ظهر في المعاملة المذلة لدونالد ترامب لبعض دول الخليج، وكما برز أيضًا في الحروب التجارية وآخرها مع الصين.
وبالعموم، عاد العامل الاقتصادي ليصطفّ خلف العامل السياسي مع بزوغ فجر الألفية الثالثة، والأمثلة كثيرة، منها بطبيعة الحال الإنفاق العسكري الأميركي الهائل قياسًا إلى الموارد المتاحة، وتردّد دول منطقة اليورو في الضغط على السلطات الأميركية للحد من خفض قيمة الدولار، وقيام الدول الخليجية بعد أزمة 2008 بفتح صناديقها السيادية لتعويم المصارف الأميركية المتعثّرة، وحفاظها على الدولار عملة شبه وحيدة في تجارة النفط رغم تراجعه المطّرد، وانصياع هذه الدول لاحقًا وتحت وطأة سياسات الرئيس الأميركي رونالد ترامب، إلى تقديم مئات مليارات من الدولار في مقابل صفقات ومشتريات غير مجدية وزائدة عن الحاجة، وقد نظر إلى الأمر على أنّه ضريبة قاسية وبمفعول رجعي على نشر مظلّة الحماية الأميركية فوق هذه الدول الهشّة، وثمنًا للإبقاء على حكوماتها التي لا تعبّر عن تطلعات شعوبها.
بل أكثر من ذلك، أظهرت حرب العراق الثانية وما بعدها، والحروب الصغيرة أو الكبيرة التي خاضتها أميركا هنا وهناك، أنّ الأهداف الجيوسياسية عادت لتحتل الصدارة في تسلسل الأولويات، ولذلك نرى واشنطن تتكبد آلاف مليارات الدولارات جراء تدخلاتها العالمية دون أن تسترد منها أحيانًا سوى النزر اليسير.
ومن المؤشّرات البارزة على هذا التحوّل هو بروز ما يسمّى اقتصاد التدخل، بالأحرى اقتصاد الاحتلال، والذي أدّى إلى فشل بل إفشال تجارب إعادة الاعمار في مرحلة ما بعد النزاعات التي خاضتها واشنطن في دول عدة، ومنعها أو عرقلتها في دول أخرى كسورية.
يميل المنظور الاقتصادي الجديد إلى عدم الفصل بين المستويات السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة للحملات العسكريّة الخارجيّة، ممهدًا بذلك لتغير جديد في النظرة الأميركية للعلاقة بين الاقتصاد والسياسة والحرب. في عهد بيل كلينتون كانت الدبلوماسيّة هي الوسيلة المفضلة لفتح الأسواق، والاستحواذ على الموارد الحيوية. الحرب كانت خيارًا ثانيًا. مع إدارتي جورج بوش حصل العكس، وباتت القوة العسكريّة الأداة المعوّل عليها لتحقيق الغايات الاقتصاديّة والسياسيّة المختلفة، وهذا أدّى إلى تضخيم دور المنظمات الحكوميّة، كما دفع الجيش الأميركي إلى واجهة البيروقراطيّة الحكوميّة كونه الأكثر تنظيمًا وقوّةً ووفرةً في الموارد. أمّا المنظور الجديد فيقترح خطًّا ثالثًا هو بمثابة مزيج من رؤيتي بوش وكلينتون، حيث يُقلّص دور المنظمات الحكومية لصالح دور أكبر تؤديه الجيوش الأميركيّة، ليكون مظلة للمبادرات الخاصة وضامناً لها في مناطق النزاع والتوتر.
وفي صلب هذه الخيارات التي تخلط بين الحرب والسياسة والاقتصاد، نشأت نظريّة الفوضى التي تتجاهل ذيول الأزمات الاقتصاديّة العالميّة تجاهلاً لافتًا، بل كأنّها تقترح استعمال مفاعيل القوّة العسكريّة وعمليات الغزو لإعادة بعث النيوليبراليّة من رماد الانهيارات الماليّة العالميّة، الناتجة عن سلسلة طويلة من المبادرات الخاصة المنفلتة من عقالها، وهذا وهم إضافي إزاء ما يثقل كاهل الاقتصاد الأميركي من أزماتٍ وتحدياتٍ غير مسبوقةٍ.