
الملخّص
عندماتكون العِمامة يومًا رمزًا للرّئاسة، ويكون إلباس العِمامة لرجلٍ تعبيرًافي العُرف السّياسيّ حينهاعن تقليده الرّئاسة، ويكون مَن مارس ذلك العُرف هو النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) صاحب الرّئاسة الدّينيّة والدّنيويّة، وتكون العِمامة الّتي أُلبست عِمامة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه، بما ترمز إلى رئاسته وسلطانه، ويكون من أُلبس العِمامة (الإمام عليّ(عليه السلام)) هو المرشح الأوّل للخلافة والرّئاسة، وتكون الواقعة بجميع عناصرها تحكي عن تدبير أمرٍ ذي بالٍ يؤشّر إلى الرّئاسة، ويكون الحدث في سياقٍ تاريخيّ اجتماعيّ يتطلّب تدبيرًا من النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لمستقبل الرّئاسة، ويكون في سياق خطبةٍ يتحدّث فيها النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) عن ولاية عليّ(عليه السلام) من بعده، حيث قال: «من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه»؛ فما الّذي يمكن فهمه من هذا المشهد؟ وما الّذي يمكن أنْ نعيه من هذا الفعل؟ وهل يبقى من شكٍّ عندها في أنّ النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ما أراد من ممارسة هذا العُرف، إلّا تقليدَ الإمام عليّ(عليه السلام) رئاسته، ونصبَه لخلافته، وجعله الإمام من بعده؟
إنّ ما نخلص إليه هو أنّه لا يمكن أنْ نعي ذلك الفعل (إلباسه العِمّة)، إلّا بوصفه فعلًا رمزيًا يُراد له أنْ يعضد البيان القوليّ، حتى لا يبقى أيُّ لَبسٍ في أنّ النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يترك خلافته لتكون سببًا لتصدّعاتٍ بنيويّةٍ خطيرةٍ تصيب أمّته، وإنّما قد بلَّغ ما أُنزل إليه من ربّه في عليّ(عليه السلام) وأهل بيته(عليهم السلام).
الكلمات مفتاحية: الغدير، العِمّة، أنثروبولوجيّا، الخلافة، النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، الإمام عليّ(عليه السلام).
Abstract
When the turban is then a symbol of the presidency, and wearing the turban for a man is an expression in the political custom at the timeof his tradition of the presidency, and the person who practiced that custom is the Prophet (peace be upon him) who has a religious and worldly presidency, and the turban that wore the turban of the Prophet (peace be upon him) himself, symbolizing his presidency and authority, and the person who was worn the turban (Imam Ali (peace be upon him)) is the first candidate for the caliphate and the presidency, and the incident with all its elements tells of a measure of significance that indicates the presidency, and the event is in a historical-social context It requires a measure from the Prophet (peace be upon him) for the future of the presidency, and it is in the context of a sermon in which the Prophet ((peace be upon him) talks about the guardianship of Ali ((peace be upon him) after him, where he said: "Whoever is his master, I am his master", so what can be understood from this scene? And what can we be aware of from this act? Is there any doubt that the Prophet ((peace be upon him did not want to practice this custom, except for Imam Ali (peace be upon him) to imitate his presidency, install him to succeed him, and make him the Imam after him?
What we conclude is that we cannot be aware of this act (wearing it as the turban), except as a symbolic act intended to support the verbal statement, so that there is no confusion that the Prophet (peace be upon him) did not leave his caliphate to be the cause of structural and serious cracks that afflict his nation, but rather reached what was revealed to him from his Lord in Ali (peace be upon him) and his family (peace be upon him).
Key words: Al-Ghadir, the turban, Anthropology, Caliphate, Prophet (peace be upon him), Imam Ali (peace be upon him).
مقدّمة
ليس أمرًا غير ذي فائدة الوصل ما بين العلوم الإنسانيّة وأدواتها المنهجيّة من جهة، وما بين جملة القضايا الدّينيّة والتّاريخيّة من جهة أخرى؛ لِما لهذا الوصل من قدرة على إنتاج معالجاتٍ مختلفةٍ ومقارباتٍ متمايزةٍ في اللّغة والمنهج والأسلوب والبيان، وصولًا إلى اجتراح نتائج وخلاصات أكثر جِدّة وجدوى ومعاصرة.
من هنا وجدنا أهميّة أنْ نستفيد من الأنثروبولوجيا الدّينيّة والتّاريخّية لبحث واقعة الغدير، وتحديدًا في بعضٍ من أهمّ المراسم الّتي حصلت في يوم الواقعة، حيث عمد النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، قبل خطبته في جموع النّاس الّذين احتشدوا يومها لسماع بيانه، إلى القيام بعملٍ لافتٍ جدًّا للنّظر وذي دلالة، وممارسة بعض التّقاليد الاجتماعيّة الّتي كانت متعارفةً ومعمولًا بها يومها، وهو أنّه بادر إلى إلباس عمامته المعروفةبـ(السّحاب) للإمام عليّ(عليه السلام)، ثمّ لتبدأ بعد الخطبة مراسم التّهنئة – بل والبيعة – للإمام عليّ(عليه السلام).
وعليه، سوف يكون السّؤال مشروعًا أنّه لماذا بادر النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى هذا الفعل؟ وماذا كان هدفه من اعتماد هذا التّقليد والعُرف الاجتماعيّ السّياسيّ يومها؟ وما هي دلالة ورمزيّة أنْ يبادر النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه إلى إلباس عمامته الخاصّة به المعروفةبـ(السّحاب) لشخصيةٍ ذات مواصفاتٍ استثنائيّةٍ كالإمام عليّ(عليه السلام)، وفي ظرفٍ تاريخيّ استثنائيّ، وفي جمعٍ استثنائيّ، وبعد خطبةٍ استثنائيّةٍ مليئةٍ بدلالاتها السّياسيّة والدّينيّة والتّاريخيّة والمستقبليّة، مع كثيرٍ من القرائن والحيثيّات الّتي تسهم في تكوين المشهد العامّ يومذاك وعناصره ذات الصّلة؟
ومن هنا سوف يكون عملنا في هذا البحث على تبصّر دلالة هذا الفعل وهدفه في العُرف السّياسيّ والاجتماعيّ والدّينيّ يومها، لنعمل على استجماع مجمل تلك القرائن الدّخيلة الّتي تسهم في بناء تلك الدّلالة، من خلال إعمال أدوات التّحليل والبحث الأنثروبولوجيّة في هذا المقام.
تمهيد:
في الثّامن عشر من ذي الحجّة من السّنة العاشرة من الهجرة النّبويّة، وقبل وفاة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بحوالي الشّهرين ونيّف، وأثناء عودته وجموع المسلمين ووفودهم من حجّة الوداعتتحدّث بعض النّصوص التّاريخيّة عن تجاوز عددهم يومها المائة ألف، وهو عددٌ كبيرٌ جدًّا في حساب ذلك الزّمانوعند وصولهم إلى ذلك الموقع ما بين مكّة والمدينة المعروف بغدير خمّ قرب الجُحفة، وهو مفترق طرق القوافل إلى بلدانها وأمصارها، أمر النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) من كان معه بالبقاء، واسترجع من كان قد سبق منهم إلى بلده ومصره، وانتظر من لم يكن قد وصل بعد منهم إلى ذاك المكان، واختار موضعًا فيه العديد من الأشجار الضّخمة، فأمر بإعداده لاجتماع تلك الأعداد الكبيرة من المسلمين، من أجل أنْ يلقي عليهم آخر خطبةٍ له في ذلك الحشد الغفير، وليعمد أيضًا إلى القيام بجملةٍ من المراسم، الّتي منها إلباس عِمامته المعروفة بالسّحاب الإمامَ عليّ(عليه السلام)[1]، ثمّ ليأمر المسلمين وكبار الصّحابة بتهنئة الإمام عليّ(عليه السلام)، بل وبيعته، حيث استمرت هذه المراسم لثلاثة أيامٍ متواليات[2].
العِمّة في العُرف الاجتماعيّ في عصرصدرالإسلام:
لا شكّ في أنّ للعِمامة رمزيّتها في العُرف الاجتماعيّ في عصر صدر الإسلام وما قبله[3]، وقد يكون لهذه الرّمزيّة دلالاتها السّياسيّة والاجتماعيّة والدّينيّة وسوى ذلك، وقد تختلف هذه الدّلالات تِبعًا للعديد من العناصر والحيثيّات، من قبيل طبيعة الموقف، وكيفيّة التّعامل مع هذه العِمامة، وأشخاص هذا الموقف وصفاتهم وموقعيّتهم، والظّرف أو السّياق التّاريخيّ والاجتماعيّ، وصولًا إلى مجمل العناصر والمسائل الّتي تضمّنها ذلك الموقف وتمظهره.
إنّ تشخيص مجمل تلك العناصر والحيثيّات، وتقديمها في قالبٍ منسجمٍ ومتكامل، يسهم في المساعدة على قراءةذلك الموقف ودلالته، تِبعًا لرمزيّته في العُرف الاجتماعيّ السّائد يومها، وكيفيّة فهمه، وتوظيفه لجميع العناصر ذات الصّلة.
ولا شكّ في أنّ الدّينوالإسلام تحديدًا يستخدم في إيصال معانيه ومضامينه وسائل وأدوات الدّلالة العرفيّة، سواءً أكانت لغويّة، أم حركيّة اجتماعيّة، تتوسّل ببعض التّقاليد والأعراف الاجتماعيّة لإيصال معانيها وإبلاغ مقاصدها.
إنّ ما تقدّم يفرض علينا تتبّع رمزيّة العِمامة في العُرف الا جتماعيّ في صدر الإسلام، وهو ما يتطلّب العودة إلى مجمل تلك النّصوص في مختلف المصادر التّاريخيّة وغيرها من المصادر، الّتي تتحدّث عن تلك الرّمزيّة في ذلك العصر أو قريبًا مِمّا قبله وما بعده، بلحاظ أنّ تلك الأعراف لا تتغيّر أو تتبدّل في وقت قصير. وقد لا نحتاج إلى حشد كثيرٍ من الشّواهد في هذا السّياق، إذ قد يكفي بعضها من باب الإشارة إلى أمرٍ قد يكون على قدرٍ من الوضوح في ذلك العُرف الاجتماعيّ الخاص بالعِمامة، إذ إنّ التّنبيه على ذلك العُرف والإلفات إلى وضوحه، قد يفي هذا المطلب حقّه، وما ينبغي من بحثه.
وفي اعتقادي أنّ إشكاليّة البحث الّتي تحتاج إلى مزيد صناعةٍ قد لا تكمن كثيرًا في هذا الانشغال البحثيّ على (كبرى) ذلك العُرف الاجتماعيّ ودلالاته الرّمزيّة ذات الصّلة، بل هي أكثر ما تكمن في انطباق هذه الكبرى على واقعة الغدير، ومدى كون هذه الواقعة تشكّل صغرى لتلك الكبرى، ومصداقًا صحيحًا لها، وإنْ لم يكن مناص من هذا الانشغالالكبروي والبدء منه.
أي إنّ السّؤال الأساس يكمن فيما حصل يوم غدير خمّ، بخصوص تلك المراسم ذات الصّلة بما أقدم عليه النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) من إلباس عمامته الإمام عليّ(عليه السلام)، وما تنتجه تلك المراسم من دلالة في العُرف الاجتماعيّ يومها، وما يتضمّنه ذلك الموقف من رمزيّاتٍ حركيّةٍ في ذاك السّياق، وإنْ كان من الواضح أيضًا أنّ النّقاش في صغرى تلك المراسم لن يكون ذا جدوى، ما لم نعمد إلى هذا التّأسيس الكبروي في تلك المراسم ورمزيّاتها الحركيّة.
ومن هنا نجد من الأهميّة، بل من المنطقيّ، أنْ نعرض إلى تلك الكبرى العُرفية وتثبيتها، وسياق جملة من الشّواهد والأدلّة عليها.
تُعدّ العِمامة رمزًا لعزّة العرب ومكانتهم، وهي تدلّ على الجاه والنّفوذ، وهي من لباس الأشراف السّادة، بل لباس خاصّتهم. ولمكانتها تلك ورمزيّتها، وما لها من تبجيلٍ واحترام، فقد اتّخذوها لواءً عند الحرب، حيث ينزع سيّد القوم عِمامته لتتّخذ لواءً في الحروب؛ هذا ما كان عليه حالهم قبل الإسلام[4].
أمّا في الإسلام فلم يختلف هذا الحال[5]، فبقيت للعِمامة مكانتها تلك وفوائدها الّتي تُبتغى من لبسها؛ فلبسها النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولبسها أصحابه، وكان للنّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) عِمامة اسمها (السّحاب)، وكان إذا اعتمّ أرخى عِمامته بين كتفيه، بمعنى أنّه أسدل طرفها أو طرفيها بين كتفيه، وقد عُرف النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بـ(صاحب التّاج)، أي صاحب العِمامة، ليس من جهة أنّ غيره لم يكن يلبس العِمامة، بل من جهة أنّ العِمامة كانت خاصّة أشراف العرب ورؤسائهم، فهي تدلّ على تلك المكانة، وعلى الشّرف والرّئاسة؛ ولمّا كان النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في موقع الرّئاسة الدّينيّة والسّياسيّة، فقد أضحت عمامته رمزًا لهذه الرّئاسة الدّينيّة والسّياسيّة. وما توصيفه بـ(صاحب التّاج)[6]أي صاحب العِمامةإلّا من جهة أنّ عمامته قد أضحت تعبيرًا عن تلك الرّئاسة ودليلًا عليها.
يقول الزبيدي في (تاج العروس): «التّاج: ... العِمامة.. والعرب تُسمّي العمائم: التّاج، وفي الحديث: العَمائم تيجان العرب... أراد أنّ العَمائم بمنزلة التّيجان للملوك... وتوّجَه أي: سوَّده [أي جعله سيّدًا] وعمّمه»[7]. كما يقول: «ومن المجاز: عُمِّم – بالضّمّ – أي سُوِّد؛ لأنّ تيجان العرب العَمائم، فكما قيل في العجم: توّج من التّاج، قيل في العرب: عُمِّم.. وكانوا إذا سوّدوا رجلًا عمّموه»[8].
والمقصود بهذا الكلام أنّ العِمامة عند العرب هي بمنزلة التّاج عند العجم. ولا شكّ في أنّ التّاج عند العجم علامة الرّئاسة، فالمتوّج عندهم يكون المتقدّم فيهم والرّئيس عليهم. وإذا توّجوا رجلًا فمعناه أنّهم جعلوه رئيسًا؛ لأنّهم كانوا يعبّرون عن جعل الرّئاسة للرجل بوضع التّاج على رأسه وتخصيصه به، فإذا كان هذا حال التّاج عند العجم، فكذلك هو حال العِمامة عند العرب، من كونها علامة على الرّئاسة عندهم، وإلباسهم الرجل العِمامة إذا جعلوه رئيسًا عليهم، واعتمادهم هذا التّعبير العملي للدّلالة على جعل الرّئاسة وتعيينها في شخص منهم.
نعم قد يصحّ القول إنّ دلالة العِمامة على أصل السّيادة قد لا يكون محلّ نقاش، إنّما النّقاش في رتبة هذه السّيادة ونوعها وطبيعتها وما يترتّب عليها؛ وهو كلام صحيح، إذ إنّ تشخيص دلالة هذا الموقف أو ذاك – والّذي يتضمّن التّتويج بالعِمامة – على هذا المستوى من الرّئاسة أو ذاك، وعلى هذا النّوع من الرّئاسة أو ذاك؛ كلّ هذا يتشخّص تبعًا لجملة من العناصر والقرائن ذات الصّلة، والّتي تفصح عن أنّ هذا المتوَّج قد نال هذا النّوعأو المرتبةمن الرّئاسة أو تلك، وهو ما يتمّ تشخيصه بحسب كلّ موقف، ومجمل وقرائنه الّتي ترتبط به.
وحال العِمامة في ذاك الزّمان من حيث دلالتها على السّيادة، هو كحال العِمامة في زمننا من حيث دلالتها في بعض المجتمعات على العلم (الدّينيّ). ومن هنا نعي ما تحمله العِمامة في هذا الزّمان من رمزية للعلوم الدّينيّة (الإسلاميّة)، إذ إنّ لبسها على الرّأس تعبير عن كون لابسها من أهل العلوم الدّينية، أو إنّ إلباسها من قبل أحد مراجع الدّين، أو كبار أساتذة الحوزة العلمية؛ تعبيرٌ عن كون من أُلبِسَ هذه العِمامة قد أصبح من أهل هذا السّلك الدّينيّ وأضحى من المنضوين فيه.
وعليه، فإنّ مبادرة من يمتلك الرّئاسةبمعزل عن كونها دينيّة أو دنيويّة أو الرّئاستين معًاإلى إلباس العِمامة لشخصٍ ما، ضمن احتفاليةٍ معيّنة، ومراسم مشخّصة، وظروفٍ خاصّة؛ قد تدلّ على منحه نوعًا من الرّئاسة، أي منحه رئاسة ما. هذه الرّئاسة الّتي تتشخّص، ويتشخّص نوعها ورتبتها، تِبعًا لمجموعة من القرائن اللّفظية وغير اللّفظية ذات الصّلة بتلك الاحتفاليّة، ومجمل عناصرها وظروفها.
وبالتّالي قد لا يصحّ أن يطرح الإشكال التّالي، وهو أنّ لبس العِمامة في ذلك الزّمان من قبل مجمل الرّجال، قد يتعارض مع كون هذه العِمامة رمزًا للسيادة، ودليلًا على الرّئاسة؛ لأنّه يمكن القول في مقام الجواب على هذا الإشكال إنّه فرقٌ بين قضيتين اثنتين في هذا المورد:
الأَولى، أنْ يُقال: إنّ كلّ لبسٍ للعِمامة دليلٌ على السّيادة، وإنّ كلّ من يلبس العِمامة يتّصف بالرّئاسة؛ وهذه القضيّة ليست هي المستفادة من مجمل النّصوص ذات الصّلة، وليست هي القضية الّتي يتمّ طرحها في شأن العلاقة بين العِمامة والرّئاسة.
الثّانية، أنْ يُقال: إنّ العِمامة تحمل رمزيّة الرّئاسة، لكن دلالة إلباسها لشخصٍ ما على رئاسة أو أخرى، إنّما يرتبط بجملةٍ من القرائن والظّروف، الّتي قد تفيد كون هذا الإلباس للعِمامة في تلك الظّروف وبمعيّة تلك القرائن يدلّ على الرّئاسة من عدمه، وعلى أيّ نوعٍ أو مرتبةٍ منها؛ وهذه القضيّة هي الّتي ندّعيها في هذا المقام، والّتي يمكن استفادتها وفهمها من مجمل تلك النّصوص التّاريخيّة وغير التّاريخيّة الّتي تحدّثت عن صلةٍ ما بين العِمامة والرّئاسة.
بناءً على ما تقدّم، قد يضحى واضحًا ما نقل من أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كان لا يولّي واليًا حتّى يعمِّمه[9]، إذ قد يصبح مفهومًا، وبشكل واضح جدًا ، ما يعنيه إلباس العِمامة في هكذا واقعة، وذلك للأسباب الآتية:
أولًا: إنّ من يُلبس العِمامة هو النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، أي من له الرّئاسة الدّينيّة والّدنيويّة يومها، ومن له أنْ يختار الولاة وتوليتهم، وإرسالهم إلى مختلف الأمصار والبلدان.
ثانيًا: ظروف الواقعة وقرائنها؛ بمعنى ما الّذي تحكيه مجمل تلك القرائن المقاليّة والحاليّة الّتي انطوت عليها تلك الواقعة، أي ما الّذي قاله النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) فيها، وماهي المراسم الّتي حصلت عندها، وما طبيعة الجمع والحشد الّذي كان موجودًا، وما الّذي تحكيه مختلف الإجراءات والتّدابير الّتي أحاطت بتلك الواقعة ومجمل حيثياتها؟
ثالثًا: السّياق التّاريخيّ والسّياسيّ والاجتماعيّ العامّ الّذي حصلت فيه تلك الواقعة؛ فهل يرتبط السّياق بفتح البلدان والأمصار، ومطلوبيّة تنظيم شؤونها وإدارة أمورها، وما يتطلّبه ذلك من تولية الولاة، وإرسالهم للقيام بتلك الوظائف المناطة بهم؟ أم إنّ هناك سياقًا آخر؟
رابعًا: الشّخص الّذي تمّ إِلباسه العِمامة، ومناقبه، ومكانته الدّينيّة والسّياسيّة، وصلته بمن يمتلك تلك الرّئاسة ومنزلته لديه.
وهنا يمكن القولإذا أردنا الاختصار والإجمال إنّ النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بوصفه رئيسًا للدّولة الإسلامية، عندما يبادر إلى إلباس العِمامة لأحد أصحابه، ممّن يمتلك مواصفات وأهليّة ما لتولّي ولاية مصر من الأمصار، ويكون هذا الفعل في محفلٍ من أصحاب النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في مسجد المدينة – مثلًاكمقرّ لشؤون الدّولة الإسلاميّة وإدارتها، ليتحدّث النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه التّولية وجملة ما يرتبط بها، ويكون السّياق التاريخيّ العامّ سياق بسط اليد على جملة من الأمصار والبلدان، والتّصدّي لإدارة شؤونها وتنظيم أمورها؛ فإنّ ما تقدّم يصبح شديد الوضوح في أنّ ذاك الفعل، في رمزيّته الحركيّة، إنّما يدلّ على التّولية لذاك المنصب، وعلى جعل من أُلبس العِمامة في ذاك المحفل، وفي تلك الشروط والظروف والقرائن، واليًا على هذا المصر أو ذاك.
إلباس العِمّة في الغدير: المراسم والدّلالات:
جمع النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين في غدير خمّ، في الثامن عشر من شهر ذي الحجّة من السنة العاشرة للهجرة، وتمّ إعداد جميع التّرتيبات لإلقاء آخر خطبةٍ له في أكبر حشدٍ يومها بعد حجّة الوداع، وآخر لقاءٍ عامٍّ بينه(صلى الله عليه وآله وسلم) وبين عموم المسلمين، وقبل وفاته بحوالى الشّهرين ونيّف من الزّمان، ولتبدأ مراسم ذلك اليوم وأحداثه من الصّلاة، وإلباس العِمّة، والخطبة، والتّهنئة، حيث بيّن النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) للنّاس في تلك الخطبة أنّه وشك أنْ يرحل قريبًا عنهم إلى ربّه، وأوصاهم بجملة وصايا، ثم دعاهم إلى التّمسّك بكتاب الله وأهل بيته(عليهم السلام) وبلّغهم ولاية عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، قائلًا لهم: «من كنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصرْ من نصره، واخذلْ من خذله، وأدرِ الحقَّ معه كيفما دار»[10].
ولم يكتف النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ببيانه القوليّ هذا، وإنّما عمد إلى بيانٍ عمليّ، فكان أنْ أَلبس بيديه المباركتين عِمامته المعروفة بـــــ(السّحاب) لابن عمّه، وزوج أبنته، وأشدّ المقرّبين منه عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، من ضمن مراسم خاصّة، كانت آخر فقراتها تهنئة الإمام عليّ(عليه السلام) من قِبل جميع المسلمين بولايته تلك، هذه التّهنئة ومراسمها التي استمرّت لعدّة أيّام، وهي أيّامٌ وصفت بأنّها كانت شديدة الحرّ والقيظ في ذلك الزّمان.
وعليه، فإنّ السّؤال المنطقيّ الّذي يطرح ها هنا: ما الّذي يعنيه إلباس النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) عِمّته تلك لعليّ(عليه السلام) في تلك الواقعة، وظروفها، وأعرافها، وسياقها الاجتماعيّ والتّاريخيّ؟
حتّى نجيب على هذا السّؤال، لا بدّ من أن نأخذ بعين الاعتبار جميع القرائن ذات الصّلة، لتحديد القراءة الصّحيحة في هذا المقام، وهو ما يتطلّب منا الإلفات إلى تلك القرائن، حيث يمكن أنْ نذكر منها ما يلي:
أوّلًا: منزلة من أَلبس العِمامة، أي النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): إذ من المعلوم أنّ النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قد كانت له الرّئاسة الدّينيّة والدّنيويّة، وهذا يعني مطلوبيّة أنْ نأخذ بعين الاعتبار احتماليّة أنْ يكون ما أراد النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) التّعبير عنه وتقليده في ذاك الموقف هو هذه الرّئاسة في بعديها الدّينيّ والدّنيويّ. إنّ معنى أن يكون النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسهمع ما له من رئاسةٍ عامّةٍ في أمور الدّين والدّنياهو من يُلبِس العِمّةمع ما للعِمّة من دلالةٍ على الجاه والرّئاسة هو أنّ النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) يمنح بفعله هذا رئاسةً ما، ويجعل بتصرفه هذا إمرةً ما، ويقلّد بهذه المشهديّة ولايةً ما؛ وذلك لأنّ ما كان معمولًا به في العُرف الاجتماعيّيومها، هو أنّه إذا ما أُريد التّعبير العمليّ عن منح رئاسةٍ ما أو إمرةٍ ما لرجل آخر، من قِبل مَن له الرّئاسة والإمرة؛ فإنّ ما ينبغي فعله للتّعبير العمليّ والبصريّ عن ذلك، هو أنْ يَعمد من له الرّئاسة والإمرة إلى إِلباس العِمّة لذاك الرّجل، الّذي يراد منحه الرّئاسة وتقليده الإمرة.
وهذا الّذي كان يعتمده النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في الأعراف السّياسيّة، الّتي عمل بها، عندما كان يعيّن الولاة على الأمصار، وهذا الّذي قام به النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في غدير خمّ؛ لأنّه هو صاحب التّاج (العِمّة)، وما يرمز إليه تاجُه إلى رئاسته، وما يدلّ عليه من ولايته. وهوبوصفه رسولًا مبلِّغًا عن الله تعالى من له الصّلاحية أنْ يفعل ذلك، وهو الّذي شرّع بسنّته هذا العُرف وهذه الدّلالة، عندما كان يعيّن الولاة؛ ولذا فقد أراد النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)أْن يستفيد من هذا العُرف في غدير خمّ، ليوحي من خلال هذه الدّلالة البصريّة بما صرّح به في بيانه اللّفظي، وبما كانت واقعة الغدير من أجله في موضوع الخلافة، وقضية الإمرة والإمامة.
ثانيًا: منزلة من أُلبِس العِمامة، أي عليّ(عليه السلام): من المعلوم أنّ الإمام عليّ(عليه السلام) هو أفضل المرشّحين على الإطلاق لخلافة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك لأسبابٍ كثيرةٍ تجعل منه المتقدّم على غيره في تبوّأ ذلك المنصب، وتحمّل مسؤوليّته بعد وفاة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم).
وعليه، عندما يبادر مَن له الرّئاسة العامّة (الدّينيّة والدّنيوية) إلى ممارسة العُرف السّياسيّ الاجتماعيّ المعتمد في منح الرّئاسة وتقليد الإمرة، والقاضيّ بإلباس العِمامة بل عِمامته هو لرجلٍ يُعتبر أفضل المقرّبين مِمّن له الرّئاسة، وأهمّ المرشحينبما أظهر من فضائله ومناقبهلتبوِّء منصبه وخلافته؛ ألّا يصحّ عندها القول إنّ ممارسة هذا العُرف من قِبل من له الرّئاسة، مع أهم المرشحين وأفضلهم على الإطلاق لخلافته، والجلوس في موضعه؛ هو قرينةٌ في غاية الأهمية على أنّ النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ما أراد بذاك العُرف واعتماده في تلك الواقعة، إلّا التعبير عن منح هذه الرّئاسة عليًا(عليه السلام)، وتقليده خلافته من بعده؟
ثالثًا: عِمامة مَن الّتي تمّ إلباسها؟ لأنّ العِمامة إذا كانت ترمز إلى الرّئاسة، فإنّ عِمامة الرّئيس ترمز إلى رئاسته؛ لأنّها تختصّ به، وتشير إلى منزلته، كما التّاج بالنّسبة إلى الملك، فإنّه يشير إلى ملكه، ويحكي عن سلطانه؛ وعليه، عندما يتمّ إلباس عِمامة الرّئيسبما تحمله العِمامة من رمزية الرّئاسة وموقعهالرجلٍ ما، فهذا يعني تقليد هذا الرّجل موقعيّة الرّئاسة ومنحه إيّاها، كما هو الحال بالنّسبة إلى التّاج، عندما يتمّ إلباس تاج الملك، من قِبل الملك نفسه، لرجلٍ ماضمن ظروفٍ ومراسم محددةفهو ما يدلّ على منح هذا الملك ملكه وسلطانهأو ولاية عهدهلذاك الرّجل؛ لأنّ التّاج يختزن الدّلالة على الملك، ويتضمّن الإشارة إلى السّلطان.
وهنا من الواضح أنّ العِمامة الّتي اُلبست عليًّا(عليه السلام) في الغدير هي عِمامة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه، المعروفة بـ (السّحاب)، بما ترمز إليه عِمامة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) من منزلته ورئاسته – عدا النّبوّة ، ما يعني أنّ الّذي أُريد منحه عليًّا(عليه السلام)، وتقليده إيّاه، هو تلك المنزلة والرّئاسة الّتي هي للنّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)؛ وإلّا لماذا يختار النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) عِمامته تلك ليلبسها عليًّا(عليه السلام)؟ ولماذا اهتمّ النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بإلباس عليّ(عليه السلام) تلك العِمامة المعروفة بتميّزها (السّحاب)؟ ولماذا لم تكن تلك العِمامة عِمامة أخرى غير عِمامة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ ألّا يمكن أنْ نفهم من إصرار النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) على إلباس عِمامته هو، المعروفة بتميّزها ودلالتها على رئاسته وسلطانه، أنّ النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أراد أنْ يوصل إلى الناس ومن حضر الغدير رسالةً بصريّة، مفادها أنّه قد قلّد عليًّا(عليه السلام) سلطانه، ومنحه رئاسته، واستخلفه على أمته؟
رابعًا: الموقف الحالي لإلباس العِمامة: بمعنى أنّه عندما ندرس طبيعة الموقف الّذي جرى فيه إلباس العِمامة، قد يصبح فهمنا لذاك الموقف وطبيعته قرينةً على تحديد دلالة إلباس العِمامة في هكذا موقف، بما يتضمّنه من أحداثٍ ووقائع تسهم في تكوين تلك القرينة.
وهنا، عندما نأتي إلى الموقف الحاليّ لإلباس النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) العِمامة للإمام عليّ (عليه السلام) في الغدير، فإنّنا نلحظ الوقائع والأحداث التّالية: في طريق العود من حجّة الوداع، وقبل وفاة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بأشهرٍ قليلة، حشدٌ كبير جدًا من المسلمين (عشرات الآلاف، أو أكثر) في غدير خمّ، مفترق طرق القوافل ووفود المسلمين قبل تفرّقها إلى بلدانها، مع اهتمامٍ لافتٍ من النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بحضور جميع وفود الحجيج ذلك الموقف وسماع خطبته ومعاينة مشهديّته، وإعداد ذلك المكان لاحتشاد ذلك الجمع الغفير، وإقامة الصّلاة بإمامة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومبادرته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى إِلباس ِعمامته (السّحاب) للإمام عليّ(عليه السلام)، وإلقاؤه خطبته المعروفة بخطبة الغدير، لينتهي الموقف بمراسم البيعة والتّهنئة للإمام عليّ(عليه السلام).
وهنا عندما نجمع هذه المشهد بمجمل عناصره ووقائعه وتسلسله، فإنّ ما يمكن فهمه منه هو أنّه يحكي عن أمرٍ في غاية الأهمية والخطورة، ويتّصل بمجمل أولئك المسلمين وشؤونهم، وإلّا لَما كان الحرص من النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) على أن يكون إلباس العِمامة لعليّ(عليه السلام) في تلك الواقعة وذاك الموقف، ومع تلك الوقائع والمراسم، وأمام ذلك المحفل الكبير جدًا من وفود المسلمين العائدة من حجّة الوداع إلى بلدانها، وفي آخر مشهدٍ لها تشهده مع النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قبل رحيله عن هذه الدّنيا. وإنّ تلك الأهمّيّة الشّديدة المكتنفة في تلك المشهديّة، وما تشير إليه من صلةٍ بمجمل أولئك المسلمين وشؤونهم وقضاياهم؛ أكثر ما تتلاءم مع كون إلباسه(صلى الله عليه وآله وسلم) العِمامة لعليّ(عليه السلام) يحكي عن الرّئاسة العامّة الدّينيّة والدّنيويّة، أي عن خلافة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم).
خامسًا: السّياق التّاريخيّ لقضيّة إلباس العِمامة ومجمل عناصرها: أي إنّ تلك القضيّة قد حصلت في آخر حياة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، قبل مايقارب شّهرين من رحيله عن هذه الدّنيا، وما يعنيه ذلك الرّحيل من حصول فراغٍ قياديّ كبيرٍ جدًا على مستوى قيادة الدّولة الإسلاميّة ومشروعها الحضاريّ والدّينيّ، وما يتطلّبه هذا الفراغ القياديّ المرتقب من إجراءٍ استباقيّ، يمنع من حصوله، ويحول دون ما يمكن أنْ يترتّب عليه من تداعيات. هذا الإجراء الاستباقيّ الّذي يتمثّل في استخلاف النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لعليّ(عليه السلام)، ليكون خليفته على أمّته، وإمامًا لها من بعده؛ فكانت واقعة الغدير بما تتضمّنه من قضية إلباس العِمامة، ومجمل المراسم الّتي حصلت يومها.
وعليه، إنّ ما يمكن أنْ يحكي عنه هذا السّياق التّاريخيّ في بعده المنطقيّ والعقلانيّ، الّذي لا يمكن لحركة الوحي والنّبوّة فيه أنْ تخرج عنه وعن عقلانيّته الماثلة؛ هو أنّ تلك الواقعة – إذا نظرنا إلى مآلاتها التّاريخيّةلا يمكن إلّا أنْ تكون واقعةً دينيّةً سياسيّةً بامتياز، وإلّا سوف نكون أمام اتّهام الوحي والنّبوّة باللّاعقلانيّة التّاريخيّة، واللّامبالاة تجاه مستقبل الأمّة ومشروعها الحضاريّ ومآل الدّولة الإسلاميّة واجتماعها الإسلاميّ، وهو – أي اتّهام الوحي والنّبوّة باللّامبالاة واللّاعقلانيّةلا يمكن أنْ يُصار إليه، ولا أنْ يكون مقبولًا كلازم لتلك القضية.
وإنّ معنى أنْ تكون تلك الواقعة في سياقها التّاريخيّ واقعةً سياسيّةً دينيّة، وأنْ تتضمّن – فيما تتضمّنهقضيّة إلباس العِمامة لعليّ(عليه السلام) من قِبل النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، هو أنّ هذه القضيّة ذات مدلولٍ سياسيّ دينيّ بامتياز. فإذا أخذنا بعين الاعتبار ذلك الفراغ القياديّ السّياسيّ والدّينيّ المنتظَر نتيجةً لوفاة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) المرتقَبة، فهذا يعني أنّ القضيّة (إلباس العِمامة)، لا بدّ أنْ تكون في إطار أكثر من إجراءٍ وتدبيرٍ يُراد منه أنْ يعالج استباقيًّا ذلك الفراغ المرتقَب. وهذا يعني أنّ تلك القضيّة هي بمستوى خلافة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وتولّي رئاسته العامّة الدّينيّة والدّنيويّة، وأنّ النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ما أراد من تلك القضيّة في ذلك السّياق التّاريخيّ ومآلاته، إلّا إبلاغ الأمّة من يكون خليفته عليها بعد وفاته، ليكمل خليفته ما كان قد بدأه النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في إمامته الدّينيّة والدّنيويّة.
سادسًا: سنن الاجتماع العامّ وضرورة مراعاتها: أي إنّ هناك سننًا وقوانين تحكم حركة الاجتماع العامّ في مجمل أبعاده الاجتماعيّة والسّياسيّة والدّينيّة. إذ لا يمكن لحركة النّبوّة والرّسالة، إلّا أنْ تراعي هذه القوانين والسّنن في إدارتها لمشروعها في هذا الاجتماع.
وهنا عندما نأتي إلى التّجربة الدّينيّة (حركة النّبوّة والرّسالة) في عصر صدر الإسلام، نجد أنّها قد واجهت جملةً من التّحدّيات الكبيرة، خصوصًا في مواجهة قريش ومشروعها؛ إذ إنّ قريشًا هذه، وإنْ هُزمت في فتح مكّة في السّنة العاشرة للهجرة، لكن ما فعلته هو أنّها أظهرت الإسلام، وأبقت على مواجهتها لجوهره وقيمه، وإنْ بوسائل وأساليب أخرى. أي إنّ قريشًا الّتي لم تبلَع هزيمتها في مواجهة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، ارتضت أنْ تظهر قبولها بالإسلام واندماجها في اجتماعه العامّ، لكنّها أبقت على مواجهتها له، وعلى أهدافها في إسقاطه، وذلك من خلال التّسلل إلى مواقع النّفوذ لديه، وانتظار فرصة وفاة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) للانقلاب على الأعقاب، حيث لا يمنع أنْ يكون هذا الانقلاب باسم الإسلام وتحت لوائه.
لقد كان النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)والوحييدرك هذا، أي ما كانت تعمل عليه قريش للثّأر من هزيمتها وهزيمة مشروعها، ويعي حجم المخاطر المتأتّي من تيّار النّفاق والمنافقين على مشروعه ورسالته، وأنّ النّاس حديثو عهد بالإسلام، وقريبو عهد بالجاهليّة، وأنّ كثيرًا من القيم الجاهليّة ما زالت هي الحاكمة عليهم والمحرّكة لهم، ويدرك أنّ خضوع الكثير من القبائل للإسلام ودولته لم يكن قائمًا على أرضٍ صلبةٍ وثابتة، ويدرك طبيعة الانقسام القبليّ، والتّنافس القائم بين القبائل وفروعها، والخريطة الاجتماعيّة والسّياسيّة القائمة وتعقيداتها، وما يمكن أنْ يشكّله هذا الأمر من منطلقٍ لتنافسٍ محمومٍ وحادّ، قد يصل إلى حدّ التّنازع والاحتراب على السّلطة ومواقعها في مختلف مجالاتها، ويدرك ما يمكن أنْ تشكّله خلافته وموقع الإمامة الكبرى لديه من إغراء لمختلف الجهات الاجتماعيّة السّياسيّة يومها، قد يدفع الأمور إلى تصدّعاتٍ بنيويّة، تصيب بالضّرر الكبير جسد الأمّة، وحركة الرّسالة، ومقاصد الوحي.
أمام هذه التّحدّيات والمخاطر والتّعقيدات، ماذا نتوقّع من النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)والوحيأنْ يفعل؟ وكيف يمكن للنّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، المعروف بحكمته وحرصه على الأمّة، أنْ يتصرّف؟ وهل يُعقل أنْ يكون النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) غير مُبالٍ تجاه هذه المخاطر؟ أم هل يُحتمل أنْ يكون غير عقلانيّ تجاه هذه التّحدّيات؟ أم هل يتصوّر عاقلٌ أنْ يدير النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ظهره لمجمل تلك المخاطر ويتغافل عنها؟ وماذا عن رسالته ومشروع النّبوّة لديه، ومستقبل هذه الرّسالة وهذا المشروع، في ضوء تلك التّحدّيات وتلك المخاطر؟
وبناءً عليه، كيف يمكن أنْ نتلقّى حدث (الغدير) من خلال ما سلف؟ وكيف يمكن أنْ نعي تلك المشهديّة الّتي تتضمّن حركيّة إلباس النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) عِمامته (السّحاب) للإمام عليّ(عليه السلام) في تلك الظروف والملابسات التّاريخيّة؟ وهل يمكن أنْ تكون هذه المشهديّة مبتورةً عن سنن الاجتماع العامّ وطبيعة الخريطة الاجتماعيّة والسّياسيّة واتجاهاتها يومها؟ ألّا يصح القول إنّ عقلانيّة الوحي وحكمة النّبوّة في إدارة ذاك الاجتماع العامّ ومراعاة سننه؛ هما بمنزلة قرينةٍ إضافيةٍ على أنّ ما أراده النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) من إلباس عِمامته (السّحاب) للإمام عليّ(عليه السلام)، لم يكن إلّا تعبيرًا حركيًّا عن منحه الرّئاسة (بعد وفاة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم))، وتقليده الخلافة، كتدبيرٍ يُراد منه ديمومة الرّسالة كما جاء بها النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وحفظ الدّين، والتّأويل الصّحيح للكتاب، ونزع فتيل التّنازع على الإمامة، والحؤول دون الاحتراب على الخلافة، والحفاظ على المشروع الحضاريّ الإسلاميّ وقيمه، كما جاء به الوحي، وبشّر به النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وإلّا فإنّنا سنقع في تأويل يفضي بنا إلى لا عقلانيّة الوحي، ولا مبالاة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويقود إلى عدم الحكمة في إدارة الاجتماع العامّ، ومراعاة سننه وقوانينه؛ وهو ما لا يمكن الالتزام به على الإطلاق في هذا السّياق.
الخاتمة:
لقد كانت العِمّة وإلباسها محورَ عُرفٍ سياسيّ اجتماعيّ (أو تقليد سياسيّ اجتماعيّ) في الاجتماع العربيّ الإسلاميّ في عصر صدر الإسلام، عُرفٌيرتبط بانتقال السّلطة ومن يتولى الرّئاسة، والتّقليد المعتمد للتعبير عنه؛ ومفاده أنْ يَعمد من له الرّئاسة والإمرة إلى إلباس العِمّة لمن يراد منحه تلك الرّئاسة، وتقليده تلك الإمرة؛ لأنّ العِمّة يومها كانت تختزن الدّلالة على الجاه والشّرف والرّئاسة، إذ كان العرب إذا أرادوا جعل أحدهم رئيسًا عليهم وسيّدًا فيهم، فإنّهم كانوا يعبّرون عن ذلك بإلباسه العِمّةبما ترمز إليه من الجاه والرّئاسةللقول بأنّه قد أصبح الرّئيس فيهم، والسّيّد عليهم. وهو ما اعتمده النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لدى تعيينه الولاة على الأمصار، إذ كان إذا أراد أنْ يعيّن واليًا عمَّمه؛ ليشير بهذه المشهديّة إلى جعل تلك الولاية على هذا المِصر أو ذاك لمن أَلبسه العِمّة، وتوّجه تاج الولاية.
بناءً على ما تقدّم، وعندما نأتي إلى ما حصل في غدير خمّ، من إلباس النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) عِمامته المعروفة بـ (السّحاب) للإمام عليّ(عليه السلام)، سوف يكون الأمر في غاية الوضوح، فيما يرتبط بما أراد النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) حكايته والتّعبير عنه في هذه المشهديّة البصريّة والموقف العمليّ، من دلالةٍ على جعل الإمام عليّ(عليه السلام) خليفةً له(صلى الله عليه وآله وسلم) على أمّته، وإمامًا عليها من بعده.
لقد كان النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) مَن له الرّئاسة العامّة في أمور الدّين والدّنيا، ومَن لهبوصفه مبلِّغًا عن الله تعالىأنْ يعيّن من يكون خليفةً له على أمّته من بعده؛ وكانت عِمّة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ترمز إلى إمامته، وتختزن الدّلالة على رئاسته؛ وكانت كلّ القرائن الّتي يمكن أن تُلحظظاهريًا بمعزل عن الدّلالة اللّفظية والأنثروبولوجيّةفي ذاك الموقف: من التّوقيت، إلى الموقع، إلى طبيعة ذلك الحشد، إلى حرص النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) على حضور الجميع ذلك الموقف وسماع خطبته، إلى المراسم والإجراءات المعتمدة، إلى عناصر الواقعة وأحداثها: من الصّلاة جامعة، إلى إلباس العِمّة، إلى الخطبة الّتي دامت وقتًا غير قصير، إلى التّهنئة الّتي دامت أيامًا.....، لقد كان كلّ ذلك يوحي إلى أنّ أمرًا غاية في الأهمية يُعمل على التّحضير له، ويؤشّر إلى أنّ أمرًا مفصليًّا وذيّ بال يراد الإفصاح عنه؛ وكان الظرف التّاريخيّ قريبًا من حصول فراغ قياديّ خطير في قيادة الأّمّة والدّولة، نتيجة لوفاة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) المُرتقَبة، وهو فراغٌ يحتاج إلى استباقه بتدبير يحول دون وقوعه، ودون مجمل تلك التّداعيات الخطيرة الّتي قد تترتّب عليه.
وكانت أدنى دراية بالخريطة السّياسيّة والاجتماعيّة القائمة يومها، وطبيعة الانقسام القبليّ وغير القبليّ حينها، وقرب عهد النّاس بالجاهلية، وحداثة عهدهم بالإسلام، ومستوى المخاطر والتّهديد الّذي يحيق بالتّجربة الإسلاميّة (حركة الرّسالة ومشروع النّبوة) يومذاك، وما يمكن أنْ تشكّله قضية الإمامة، وخلافة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) من عامل للاحتراب بين مختلف جهات الاجتماع الإسلاميّ، وسبب لإيجاد تصدّعاتٍ بنيويّةٍ مستديمةٍ وخطيرةٍ في جسد الأمّة الإسلاميّة، تهدّد مشروع الرّسالة نفسه وديمومته، وتساعد تيار النفاق والطامعين إلى السّلطة وأركان الحزب القرشيّ على بلوغ مقاصدهم وأهدافهم.
إنّ ذلك كلّهوغيرهكان يفرض تدبيرًا استباقيًّا وحكيمًا، يسعى لاعتماد العلاج المناسب والصّحيح، فكانت واقعة الغدير تعبيرًا صادقًا عن حكمة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعقلانيّة الوحي، في التّعامل مع تلك المرحلة التّاريخيّة، وإدارة مختلف مخاطرها الاجتماعيّة والسّياسيّة والدّينيّة، هذا فضلًا عن تلك المقاصد العليا، والأهداف البعيدة، الّتي ترتبط بديمومة الهداية الإلهيّة، كما أُنزلت على النّبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويُراد لها أن تستمر في النّاس.
وكان بيان النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته واضح الدّلالة على أنّه يريد تدبير الأمر لما بعد وفاته، حتّىلا يحصل أيّ فراغ في خلافته، وفي الرّئاسة الدّينيّة و الدّنيويّة من بعده، وفي قيادة المشروع الحضاريّ الإسلاميّ كما أراده النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أنْ يكون، وفي حفظ الدّين والحقّ من بيانه، والتّأويل الصّحيح للكتاب ومعرفة تَرجمانه؛ لذا وبعد أنْ تحدّث(صلى الله عليه وآله وسلم) عن قرب وفاته، دعاهم إلى التّمسك بكتاب الله وأهل بيته(عليه السلام)، ومن ثمّ ليبوح لهم بولاية عليّ ابن أبي طالب(عليه السلام)، مصرّحًا بقوله: «من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه»[11]، ليفصح بهذا البيان عن غايته الأساس من تلك الخطبة، وعن الهدف الأسمى من تلك الواقعة، ألاّ وهو تبليغ ما أنزله الله تعالى من ولاية عليّ(عليه السلام) وإمامته، وخلافته على الأمّة والرّسالة من بعده.
فهنا عندما يجمع النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بيانه اللفظيّ (الخطبة)، مع بيانه البصريّ (إلباس عِمامته لعليّ(عليه السلام))، مع الأخذ بعين الاعتبار مجمل تلك القرائن الّتي ألفتنا إليها، ودلَلنا عليها؛ هل يبقى أدنى شك في أنّ النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ما أراد بذلك إلّا الخلافة؟ ألا يبدو من حرص النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)على استخدام جميع البيانات الممكنة، والدّلالات المتّاحة (لفظيّة وعمليّة)، أنّه قد أراد أنْ يقطع أيّ شكٍ في مقصده ومراده، باليقين المستفاد من استخدام جميع تلك الدّلالات، وتكاتف تلك المعاني المستفادة منها؟ وهل يمكن لباحث موضوعيّ أنْ يناقش في دلالة خطبة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّها على خلافة عليّ(عليه السلام) وإمامته، أم على أمر أخر، بعد أنْ يلتفت إلى ذلك البيان العمليّ، والمشهديّة البصريّة المتمثّلة في إلباسه(صلى الله عليه وآله وسلم) عِمامته (السّحاب) لعليّ(عليه السلام) في واقعة الغدير؟ ألا يمكن أنْ نستنتج أنّ كثيرًا من الجدل الكلاميّ الّذي اشتعل بعد الغدير وواقعته، لم يكن نتيجةً لعدم فهم مراد النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ووعي مقصده، وإنّما كان لاعتباراتٍ تاريخيّةٍ ترتبط بحسابات السّلطة والمصالح، لكنّها أخذت بعد ذلك صبغةً دينيّة، وشغلت علم الكلام لقرونٍ متمادية، وإنْ كان الحقّ فيها بيّن لمن استهداه؟
أليس مفيدًا التّأكيدبناءً على مجمل ما تقدّم على أنّ من الأهمية بمكان تعزيز البحث العلوم – إنسانيّ في هذه القضايا بعيدًا عن الإرث الكلاميّ ومؤثراته؟
والخلاصة أنّه؛ عندما يضع مَن له الرّئاسة العامّة في أمور الدّين والدّنيا (النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)) عِمامته الخاصّة به، المسماة بـ (السّحاب)، بما هي رمز إلى رئاسته، وما تختزنه من دلالة على إمامته، على رأس رجلٍ (الإمام عليّ(عليه السلام)) يُعدّ أهم مرشحٍ لخلافة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأفضل من يتولّي الرّئاسة بعده، في تعبيرٍ عن عُرفٍ سياسيّ اجتماعيّ كان معتمدًا عند العرب حينها، فكانوا إذا أرادوا جعل أحدهم رئيسًا عليهم ألبسوه العِمّة، وتوّجوه تاج السّيّادة، فالعِمامة عندهم بمنزلة التّاج عند العجم. هذا وقد اعتمد النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضًا ذاك العُرف في نصبه الولاة، إذ إنّه ما كان يولّي والّيًا حتى يعمّمه بيديه المباركتين؛ في ظرف تاريخيّ يتطلب تدبيرًا لقضية الخلافة، لاستباق أيّ فراغ في قيادة الأمّة والدّولة نتيجة لوفاة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) المُرتقَبة، وما قد يفضي إليه هذا الفراغ من احترابٍ وتصدّعاتٍ بنيويّةٍ مستديمةٍ وخطيرةٍ في جسد الأمّة؛ وفي واقعٍ اجتماعيّ سياسيّ معقّدٍ وذي مخاطر متعدّدة، ومشبَع بتحدّيات تستوجب عدم ترك قضية الإمامة هَمَلًا، لتستحيل إلى عامل تفجير للتّجربة الإسلاميّة والاجتماع الإسلاميّ يومهاخصوصَا مع عدموجود تجربةٍ سابقةٍ لانتقال السّلطة ــ؛ ومع رسالة دينيّة (الإسلام) عنت بأدق التّفاصيل وأقلّها أهمية على المستوى الدّينيّ وغير الدّينيّ، فكيف بقضيةٍ (الإمامة) تعدّ من أخطربل أخطرــ القضايا على المستوى الدّينيّ والدّنيويّ؛ وفي احتفاليّةٍ استثنائيةٍ وضخمةٍ (واقعة الغدير) في التّاريخ النّبويّ، احتفاليّةٌ تشي بجميع عناصرها ومراسمها وظروفها إلى أمرٍ ذي بال، وعلى قدرٍ كبيرٍ من الأهمية والخطورة؛ ومع خطبة (خطبة الغدير) محورها الحديث عن مستقبل الأمّة، ومن يتولّى قيادتها لاحقًا، ومن يكون مرجعيتها الدّينيّة وغير الدّينيّة بعد وفاة النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل مع تصريح فيها من النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بولاية علي ابن أبي طالب(عليه السلام): «من كنت مولاه فعليّ مولاه»؛ فعندما يحصل جميع ما تقدّم، مع قرائنه تلك، وجميع دلالاته؛ كيف يمكن ألّا نعي من تلك المشهديّة (إلباس النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) عِمامته السّحاب لعليّ(عليه السلام)) أنّه ما أراد بها إلاّ نصبه لخلافته؟ أليس على قدرٍ كبير من الوضوح أنّ النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ما أراد بهذا الفعل إلاّ التّعبير عن تقليده رئاسته الدّينيّة والدّنيويّة للإمام عليّ(عليه السلام)؟ بل لو اقتصرنا من مجمل ما ذكرنا على إلباس النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) عِمامته لعلي(عليه السلام) – دون بقية القرائنألن يكون كافيًا بهذه المشهديّة البصريّة، واعتماد هذا العُرف السّياسيّ الاجتماعيّ، من دلالة على نصب النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) عليًّا(عليه السلام) لخلافته، والإمامة من بعده؟
فكيف سيكون حال هذه الدّلالة لو ضمَمنا إليها بيان النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) (خطبة الغدير) بولاية عليّ(عليه السلام)، فضلًا عن مجمل تلك الشواهد والقرائن ذات الصّلة بتلك الواقعة ومقصدها؟ وهل سيبقى عندها أدنى شكٍ – لباحث عن الحقّ والحقيقة فيما قصده النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) من خطبته في ولاية عليّ(عليه السلام) يومها ؟ وهل سيبقى من ريبٍ حينها في أنّ مجمل الجدل الّذي اشتعل من ذاك الزّمن في هذا الموضوع، لم ينبع من ضعف البيان أو ضمور القصد، إنّما من هَنَات يُستقصى أثرُها في التّاريخ ودروسه؟
لائحة المصادر والمراجع:
الزبيدي محمّد مرتضى الحسيني، تاج العروس من جواهر القاموس.
السيوطي جمال الدين، الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، دار الفكر للطباعة والنشر والتّوزيع، بيروت، 1401هـ -1981م.
الشبلنجي مؤمن بن حسن مؤمن، نور الأبصار في مناقب آل النبي المختار(صلى الله عليه وآله وسلم)، المكتبة التوفيقية.
المجلسي محمّد باقر، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، بيروتلبنان، 1403هـ -1983م.
أحمد بن محمّد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، 1413هـ - 1993م.
ابن الجوزي سبط ، تذكرة الخواص، مؤسّسة أهل البيت(عليه السلام)، بيروتلبنان، 1401هـ-1981م.
الكليني محمد بن يعقوب ، أصول الكافي، دار التعارف للمطبوعات، 1419هـ1998م.
المفيد، الإرشاد، مؤسّسة أهل البيت(عليه السلام) لتحقيق التراث، 1414هـ -1993م.
اللكهنوي حامد حسين، عبقات الأنوار في إمامة الأئمة الأطهار، دار الكتاب الإسلاميّ، بيروت.
الأميني عبد الحسين، الغدير في الكتاب والسُنّة والأدب، دار الكتاب العربيّ، بيروت، 1983م.
مرتضى جعفر، الصحيح من سيرة الإمام عليّ(عليه السلام)، المركز الإسلامي للدراسات، 1430هـ- 2009م.
الجبوري يحيى وهيب، العِمامة في الجاهليّة والإسلام، حوليّة كلية الإنسانيّات والعلوم الاجتماعيّة (جامعة قطر)، العدد الثامن، 1405هـ -1985م.
[1] لقد نقلت هذا الحدث كثيرٌ من المصادر الإسلاميّة الشّيعيّة منها والسّنيّة، حيث نجد بعضًا من الموسوعات قد عنت بتتبّع مصادر علماء الدّين السّنّة ومحدّثيهم الّتي ذكرت ذلك الحدث، ومن تلك الموسوعات: اللكهنوي حامد حسين، عبقات الأنوار في إمامة الأئمة الأطهار، دار الكتاب الإسلاميّ، بيروت، ج 9، صص 234-237؛ الأميني عبد الحسين، الغدير في الكتاب والسّنة والأدب، دار الكتاب العربيّ، بيروت، 1983م، ط 5، ج 1، صص 290293.
[2] مرتضى جعفر، الصّحيح من سيرة الإمام عليّ(عليه السلام)، المركز الإسلامي للدراسات، 1430هـ2009م، ط 2، ج 7، صص 212-215.
[3] راجع في هذا الموضوع: الجبوري يحيى وهيب، العِمامة في الجاهليّة والإسلام، حولية كلّية الإنسانيّات والعلوم الاجتماعيّة (جامعة قطر)، العدد الثّامن، 1405هـ - 1985م،ص 379-394.
[4] المصدر نفسه، ص 381.
[5]المصدر نفسه، صص 386-389.
[6] الشبلنجي مؤمن بن حسن مؤمن، نور الأبصار في مناقب آل النبي المختار(صلى الله عليه وآله وسلم)، المكتبة التوفيقية، ج 1، ص 60.
[7] الزبيدي محمّد مرتضى الحسيني، تاج العروس من جواهر القاموس، مادة توّج، ج 2، ص 12.
[8] المصدر نفسه، ج 8، ص 410.
[9] السيوطي جمال الدّين، الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، دار الفكر للطباعة والنشر والتّوزيع، بيروت، 1401هـ - 1981م، ط 1، ص 365.
[10] أحمد بن محمّد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، 1413هـ -1993م، ط 1، ج 1، ص 119؛ المجلسي محمّد باقر، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، بيروت لبنان، 1403هـ -1983م، ط 2، ج 37، ص 126.
[11] ابن الجوزي سبط، تذكرة الخواص، مؤسسة أهل البيت(عليه السلام)، بيروت لبنان، 1401هـ-1981م، ص 3031؛ الكليني محمد بن يعقوب، أصول الكافي، دار التعارف للمطبوعات، 1419هـ - 1998م، ج 1، ص 295؛ المفيد، الإرشاد، مؤسسة أهل البيت(عليه السلام) لتحقيق التراث، 1414هـ - 1993م، ج 1، ص 176.