فيلسوف مثالي ألماني. ولد في مدينة شتوتغارت Stuttgart الألمانية، ومات في برلين Berlin.
أُرسل في الثالثة من عمره إلى المدرسة الألمانية، وفي الخامسة إلى اللاتينية. كان طالباً مجتهداً، ومن الطلبة الأوائل على امتداد مراحل دراسته. درس الفلسفة واللاهوت في معهد توبينغن Tübingen اللاهوتي (1788ـ1793)، وارتبط فيه بصداقة مع هولدرلين Hölderlin وشلنغ Schelling، وكان لهما أثر بالغ في تكوينه الروحي ونزعته الصوفية إلى وحدة الوجود Pantheism. واهتم تبعاً لهذا التأثير بدراسة كبار الصوفية الألمان وعلى رأسهم إيكارت Eckhart. وقد عمل هيغل بعد التخـرج مدرساً في بـرن Bern (سويسرا) وفرانكفورت ما بين عامي 1793ـ1800. ثم لحق بأستاذه شلنـغ إلى جامعـة ييناJena، واشترك معه بتدريس المنطـق والميتافيزيقـا (1801ـ1807)، ثم في إصدار «مجلـة الفلسفة النقدية» سنة 1802. انتقل بعدها إلى بامبـرغ Bamberg ت(1807ـ1808) ومنها إلى نورنبرغ Nürnberg ت(1808ـ1816) إذ عين موجهاً لإحدى المدارس الثانوية. وفي برلين كانت له قمة المجد والشهرة، فقد عين أستاذ الفلسفة في جامعة هايدلبرغ Heidelberg ت(1816ـ1818)، ثم أستاذاً في جامعة برلين، إثر وفاة فيخته Fichte، ومديراً لجامعة برلين (1818ـ1831) لحين وفاته بوباء الكوليرا.
ترك هيغل للفكر الإنساني كتباً وأسفاراً شغلت وما تزال تشغل اهتمام الخاصة والعامة في مختلف الميادين، نشر بعضها في حياته، وكان أولها كتاب «الفرق بين منهجي فلسفة فيخته وشلنغ» ت(1801)، ثم «فينومنولوجيا الروح أو العقل» ت(1807)؛ ويعد مدخلاً لفلسفته، ثم كتابه «علم المنطق» ت(3 مجلدات، 1812ـ1813ـ1816)؛ ويعد حجر الزاوية في بنائه الفلسفي، و«موسوعة العلوم الفلسفية» ت(1816)، ومؤلفه السياسي «أصول فلسفة الحق» ت(1821). وبعد وفاته قام تلامذته وأنصاره بجمع كتاباته الأخرى، وطبعها في ثمانية عشر مجلداً، ثم نشروا أول مرة عام 1831، محاضراته في «علم الجمال» وفي «فلسفة التاريخ»، وفي «فلسفة الدين»، و«تاريخ الفلسفة» ت(1854)، كما طبعوا أبحاثه المبكرة التي تميز مرحلة تطوره الأول الدينية النقدية، وهي «حياة يسوع» و«وضعية الدين المسيحي» و«روح المسيحية ومصيرها»، وتناول فيها هيغل حياة المسيح بروح علمية فاستبعد كل المعجزات، وكذلك الجانب الإلهي في المسيح، وعرض حياته عرضاً بسيطاً اعتمد فيه على الحقائق المعقولة الواردة في الأناجيل، فنظر إلى المسيح على أنه إنسان سامٍ مكافح من أجل الفضيلة والحقيقة والحرية، كما بحث في كيفية نشوء الأديان الوضعية من الأديان العقلية. وقد تميز أسلوبه في كتبه الأولى بالبلاغة والصور، واتسم بالتجريد والتعقيد والاصطلاحات الكثيرة في كتبه اللاحقة.
تقوم مثالية هيغل على ثلاثة معانٍ رئيسة: الفكرة idea والطبيعة nature والروح أو العقل spirit- mind. وترجع هذه المعاني الثلاثة إلى معنى واحد هو الفكرة، وهي محايثة، فالفكرة هي المطلق، إنها الذات الكلية التي تنظم كل شيء، والوحدة المطلقة للتصور الذاتي والموضوعية، وهي الحق في ذاته ولذاته. الفكرة هي الحياة وهي الخير في المعارف والأفعال. وهي المعرفة الكلية المطلقة التي يصل إليها فكر الفيلسوف. الفكرة هي الجوهر الكلي للعقل. ولها ثلاث مراحل في ثلاث لحظات تسير وفق منهج «ديالكتيكي»: الوضع (الموضوع)، والنفي (نقيض الموضوع)، والتوحيد أو التأليف (مركب الموضوع ونقيضه). وتبعاً لهذا ينقسم المذهب في الفلسفة الهيغلية إلى: المنطق، وفلسفة الطبيعة، وفلسفة الروح أو العقل.
والمنطق في فلسفة هيغل حجر الزاوية؛ لأنه العلم الباحث في الماهيات العقلية، وفيه يدرس هيغل العقل وقوانين الفكر لمعرفة صيرورة ارتقاء الفكر عبر سلسلة من العمليات الجدلية تسير وفقها المقولات المنطقية وتنتظم؛ فالنظر للمنطق على أنه نظام التعينات الخالصة للفكر، يعني أن موضوعه (العقل) هو بعينه موضوع سائر العلوم الفلسفية من فلسفة الطبيعة إلى فلسفة العقل، فالعقل محضاً في المنطق، والعقل مطبقاً في حالة تخارج في فلسفة الطبيعة، والعقل في حالة استبطان في فلسفة الروح أو العقل. وبالتالي فإن البحث في المنطق هو بحث في الوجود، والبحث في الوجود هو بحث في الفكر وقوانينه، وعلى ذلك يستنتج هيغل نسقاً منطقياً يقع في ثلاث دوائر كبرى: دائرة مقولات الوجود؛ دائرة مقولات الماهية؛ دائرة مقولات الفكر الشاملة.
والطبيعة عند هيغل هي الفكرة عندما تخرج عن ذاتها، فالروح أو العقل يباين نفسه فتظهر الطبيعة، فهي مظهره الخارجي الذي يعارضه وينفيه، وهي تتطور وفق المنهج الجدلي الثلاثي، فتميز ثلاثة مستويات للوجود: فهناك الطبيعة في ذاتها أو جملة القوانين الآلية التي تعبر عن الوجهة الكمية في الأجسام (عالم الآليات)، والصورة التجريدية هنا هي المكان، وصورة الصيرورة هي الزمان؛ وهناك الطبيعة لذاتها أو جملة القوى الطبيعية والكيميائية التي تعبر عن الوجهة الكيفية (العالم الفيزيائي - الكيميائي)؛ وهناك الطبيعة في ذاتها ولذاتها أو الطبيعة الإحيائية (العالم العضوي)، وهي أرقاها جميعاً إذ تكون الطبيعة الجيولوجية والنباتية والحيوانية، والإنسان قمتها، ومعه تصبح العودة إلى الذاتية واضحة في الشعور والوعي وتصبح هذه الذاتية عند الإنسان «أنا حرّة» هي الصورة النهائية والأكمل للطبيعة.
ومع فلسفة الروح يكتمل المذهب الهيغلي (منطق، طبيعة، روح) في تجليات ثلاثة (ذاتي، موضوعي، مطلق). والروح الذاتية هي الروح منظوراً إليها نظرة ذاتية خالصة، وتشمل كل مراتب العقل البشري ووظائفه وملكاته وقدراته وقواه، من صورها الدنيا التي تتمثل في الغريزة والوجدان والإحساس إلى أعلى صورها كما تبدو في النشاط العملي والعقلي، وهي تعرض في موضوعها عملية ترقي الذات الفردية في تساميها من مستوى الأنا المتناهي إلى مستوى الإنسان، وتبعاً لهذا يميز هيغل بين النفس وهي موضوع الأنتروبولوجية anthropology، وبين الشعور أو الوعي وهو موضوع الفينومنولوجيا phenomenology، والروح وهي موضوع علم النفس psychology. أما النفس فهي الروح بما هي متوقفة على شروط فيزيولوجية وطبيعية كالمناخ والمزاج والطباع. وفي المستوى الأعلى (الوعي) تدرك الذات مضمون العالم الخارجي. وتبلغ الـروح (في العقل) أكمل مستويات ارتقائها عـبر سلسلة من العمليات العقلية العليا، وتغدو روحاً حرة هي الروح النظري ـ المعرفة، والروح العملي ـ الإرادة؛ الروح التي تحمل كل تراث الثقافة والتاريخ.
أما الروح الموضوعية فتدرس العالم الخارجي وقوانينه التي تحكم مجتمعه كله: عالم المؤسسات والتنظيمات الاجتماعية والأسرة والمجتمع المدني والدولة، أي القانون والعرف والعادات والتقاليد والحقوق والواجبات والأخلاق بوصفها دلالات تحقق الحرية وأوجهاً لتموضع الذات الكلية في الإنسان، وعلى هذا، يتفرع الروح الموضوعي إلى ثلاث مراحل: مرحلة الحق المجرد: والشخصية المالكة أساسه. ويقوم على حق طبيعة العقل ذاته، وتمثله الإرادة العقلية، ويتجسد واقعاً بالملكية التي تشكل أساس الحرية. ومرحلة الأخلاق الفردية أو أخلاق الضمير: وتنقسم إلى الغرض والمسؤولية، النية والرفاهية، الخير والضمير. والمرحلة الأخلاقية الاجتماعية وتنقسم إلى الأسرة، المجتمع المدني، الدولة. وتحقيق الروح الكلي (المطلق) غاية الدولة، فهي مشيئة الله على الأرض، ويقصد هيغل هنا الدولة المثالية، واحترامها من احترام الله. ويحتاج الإنسان لكي يصعد مدارج الكمال إلى تعميق وعيه الذاتي، من خلال الدين والفن والفلسفة. فالدين إدراك إلى المطلق في الباطن، والفن تعبير عنه في الظاهر، فالفن دين غير كامل، والدين فن متكامل، لكن الدين شخصن الإله وجعله مفارقاً للعالم، في حين تصورته الفلسفة وتأملته، فالدين وصف في شكل كالخيال، والفلسفة طرحته في شكل مفهوم. فالفن والدين وليدا العاطفة والخيال، لكن الفلسفة تحقيق لما يرمز إليه الفن والدين، وانتصار للعقل الخالص، وتحقيق للروح المطلق. فالفلسفة نشاط يطهر العقل ويحرره. والعقل الواعي هو الموجود الحقيقي وهو العقل الذي يفعل في حرية، وهو العقل الذي يزيد وعي الناس بماهية ما يقومون به وما يشغلون به أنفسهم، وهو الفيلسوف الذي ينمّي الوعي بماهية الفن والسياسة والتجارة والدين، فالحقيقة الفلسفية هي الحقيقة المطلقة للروح، إنها الجانب الإلهي في الإنسان والفكر في كليته.
وترتبط آراء هيغل في الأخلاق بآرائه في القانون والسياسة والفلسفة الدينية، فالأخلاق عنده نوعان متقابلان، الأخلاق الذاتية وهي الأخلاق التي تتحدد بمعيار صوري (أخلاق الواجب عند كَانْت)، والأخلاق الموضوعية وهي الأخلاق الحقيقية ويكتسبها الإنسان في المجتمعات التي تقوم على تربية الأسرة والمجتمع المدني وخصوصاً الدولة، بوصفها الكائن الاجتماعي الأكبر.
أما مذهبه في التاريخ فهو أكثر أجزاء فلسفته شيوعاً وتميزاً بين الناس. فالتاريخ الكلي الحقيقي برأيه هو التاريخ الفلسفي الذي يهيمن على الوقائع وينظر إليها بعين مجردة من الزمان، لأن العقل جوهر التاريخ، وهو الذي يحكمه، فكل أحداث التاريخ إنما جرت وفق مقتضيات العقل، وعليه فالتاريخ تطور ونمو لمنطق باطن لم تكن الشخصيات التاريخية إلا أدوات لتحقيقه من دون شعورها بذلك، وهذا ما يسميه هيغل «خبث العقل الكلي المسيطر على التاريخ».
ظهر تأثير هيغل في التفكير الميتافيزيقي المنهجي وفي علم الجمال وفي النظرية السياسية والاجتماعية، وفي البروتستنتية وفلسفة الدين والتأريخ، وتاريخ الفكر. وتراوح تأثيره في كل منها، واختلفت النتائج التي توصلت إليها الحركات الهيغلية بسبب التناقضات في الفلسفة الهيغلية نفسها، مما أدى إلى انقسام المدرسة الهيغلية بعد هيغل إلى فريقين: فريق اليمين الهيغلي، وهم الذين اتجهوا اتجاه المحافظة، فكانوا ضد الثورة والتغيير (الهيغليون الشيوخ Old Hegelians). وفريق اليسار الهيغلي، وهم الذين اتجهوا اتجاهاً ثورياً (الهيغليون الشباب Young Hegelians). وقد اتسع الخلاف بين اليمين واليسار ليشمل السياسة بعد الدين. أراد أنصار يمين الديـن، أمثال: كـارل ميشيليه Karl Michelet ت(1801ـ1893)، وغيـورغ غابلـر Georg Gabler ت(1786ـ1853)، ويوهان روزنكرانتس Johann Rosenkranz ت(1805ـ1879) إرجاع الفلسفة الهيغلية إلى الروحانية. أما اليسار الذي ضم الهيغليين الشباب، فقد طرح كلياً كل ما هو تمثل في الميدان الديني. وقد أفضى عند بعضهم إلى الإلحاد، أمثال فويرباخ Feuerbach الذي هاجم فلسفة الدين التأملية عند هيغل، وأحدث ثورة حقيقية في كتابيه «أفكار حول الموت والخلود»، و«ماهية المسيحية»، طالت فكرة الألوهية عند المسيح في مؤلف شتراوس (1808ـ1874) «حياة اليسوع»، الذي كان سبباً رئيساً في تقسيم الهيغليين إلى ثلاثة معسكرات يسار ويمين ووسط.
وفي السياسة رأى اليمين في نظرية هيغل في الدولة، وفي تعليله للصيرورة التاريخية حجةً وسنداً يدعم ما ذهبوا إليه من تمجيد للنزعة الوحدوية الجرمانية، أما اليساريون أمثال ماركس Marx فقد عارضوا تمييز هيغل بين الدولة والمجتمع، ورأت الماركسية أن للجدلية الهيغلية طابعاً ثورياً تغييرياً واضحاً، فلا وجود لشيء سوى سياق الصيرورة المتواصل، سياق الظهور والفناء والارتقاء المتواصل، ومع هذا أصبح الجدل مع ماركس مادياً، فقد استبدل العمل بلوغوس هيغل، وارتأى ضرورة قلب الهيغلية رأساً على عقب، أن تنطلق من الواقع حقاً، ليصبح جدل الفكر الذي ينحو عند هيغل للارتقاء بالواقع إلى مستوى الفكر جدلا واقعا ملموسا فعلاً، تصبح معه سلبية هذا الواقع الكامن وراء متناقضاته وضعاً اجتماعياً وتاريخياً، أي منهجاً مادياً وتاريخياً يتناول مراحل تقدم المجتمع والإنسان، ويقدم الحركة الحقيقية الفعلية لصيرورة تطور مسار التاريخ البشري وارتقائه وانتقاله من مرحلة تاريخه إلى مرحلة أخرى.
انتقل تأثير هيغل إبان القرن التاسع عشر إلى كل أوربا وأمريكا، فانتشرت الهيغلية في مختلف البلدان الأوربية، وهيمنت على مختلف التيارات والمذاهب الفلسفية المعاصرة، وكان هناك من توافق معها في فرنسا مثل فيكتور كوزان Victor Cousin ت(1792ـ1867)، وفي إيطاليا كروتشه Croce، وفي بريطانيا غرينGreen، وبرادلي Bradley. وكان هناك من عارضها في الدنمارك مثلاً في الحركة المناهضة لها على يد سورين كيركغارد Kierkegaard، كما قاومت التجريبية البريطانية تأثيرها.
لكن التأثير القوي لهيغل ظهر في القرن العشرين، في الماركسية اللينينية، والبراغماتية Pragmatism والوجودية المؤمنة منها والملحدة Existentialism، أمثال ياسبرز Jaspers وسارتر Sartre وغيرهم، لكن يبدو أن هيغل القرن العشرين كان غير هيغل القرن التاسع عشر؛ لأن القرن العشرين اهتم بمنطقه ومنهجه الجدلي، وأسقط هيغل المثالي في سبيل هيغل العملي.
-"الموسوعة العربية"