فهرس المحتويات

رؤى نقدية معاصرة 3 العتبة العباسية المقدسة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية محمد أركون دراسة النظريات ونقدها مجموعة مؤلفين

روئ نقدية معاصرة 3 

محمد أركون 

دراسة النظريات ونقدها 

مجموعة مؤلفين 

 

بسم الله الرحمن الرحيم 

محمد اركون : دراسة النظريات ونقدها / تأليف مجموعة مؤلفين - الطبعة الأولى - النجف ، العراق : العتبة العباسية المقدسة ، المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية ، 1441 ه . = 2019 . 

318صفحة ؛ 21×14سم . -(رؤى نقدية معاصرة ؛ 3)

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية .

ردمك : 9789922625829

1. اركون ، محمد ، 2010-1928--نقد وتفسير . 2. الفكر الاسلامي . أ. العنوان .

LCC : B748. A524 M64 2019

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة

 

(4)

الفهرس

كلمة المركز7

التحرير9

الفصل الأول:

المنهجية التأسيسية لمحمّد أركون في مشروع نقد العقل الإسلامي

مهدي رجبي12

الفصل الثاني: دراسةُ النظريات ونقدُها

العقل الإسلامي والعقل الغربي عند محمد أركون

محمد عرب صالحی - سعید متقي فر129

محمد أركون وآفات العقل الديني

محمد صفر جبرئيلي-وسعيد متقي فر173

نقد الفكر  العربي: الأسلوب التفكيكي لمحمد أركون

سيتي رحمة سوكاربا199

محمد أركون والتفكيكية

عثمان خليل- الآنسة عبيدة خان229

نقد نظرية محمد أركون في هرمنيوطيقا القرآن

عبد الكبير حسين صالح295

(5)
(6)

مقدمة المركز 

يعتبر الفكر المعاصر مكوِّنًا أساسيًّا في المنظومة الفكرية الإسلامية، والتراث المعاصر لا يختصّ بطبيعة الحال بالعالم الإسلامي فحسب، وإنّما له ارتباطٌ بجميع الثقافات والكيانات الجماعية التي تضرب بجذورها في تاريخ البشرية.

يتبلور هذا الفكر على أرض الواقع حينما تشهد الساحة ظهور فكرٍ «آخر» بصفته ثقافةً وسلسلةَ مفاهيمَ دلاليةٍ منافسةٍ، فالزمان والمكان إلى جانب المنافسة التي تحدث على ضوء مجموعةٍ من المفاهيم التي يطرحها «الآخرون»، كلُّها أمورٌ تُحفّز المدارس الفكرية والثقافات الأصيلة للعمل على التأقلم مع الظروف الجديدة، وفي الحين ذاته تحفّزها على السعي للحفاظ على حيويتها وخصوصياتها التي تميّزها عن «الآخر».

لو أنّ التاريخ شهد في بعض مراحله إقبال العلماء المسلمين على التراث الفلسفي الإغريقي باعتباره نطاقًا منسجمًا من الناحية الدلالية وذا مضامينَ عميقةٍ لدرجة أنّ بعض الفلاسفة من أمثال الفارابي وابن رشد ولجوا في فضائه الفكري وحاولوا إقامة تعريفٍ لمعانيهم ورؤاهم الدينية متلائِمٍ مع هذا الآخر الدخيل، ففي العصر الراهن باتت الثقافة والحضارة الغربيتان الحديثتان المتقوّمتان بأسسٍ عَلمانيةٍ وتوسُّعيةٍ، تمثّلان «الآخر» بالنسبة إلينا ولسائر الثقافات غير الغربية.

النظام الدلالي المنبثق من الفكر الغربي قد أسفر عن إيجاد تحدّياتٍ كبيرةٍ لـ «ذاتنا الإسلامية» بفضل تفوّقه سياسيًّا واقتصاديًّا، ونطاق هذا التحدّي يتّسع أكثر يومًا بعد يومٍ؛ لذلك طُرحت العديد من الحلول لمواجهته؛ وقد استسلم بعضهم لواقع الأمور بعد أن شعروا بالخشية من الغرور الغربي، فراحوا يبحثون

(7)

عن الحلّ في العالم الغربي نفسه، لذا دعوا بانفعالٍ إلى ضرورة ملائمة «ذاتنا» مع هذا «الآخر»؛ إلا أنّ آخرين سلكوا نهجًا مغايرًا ودعوا إلى تفعيل تراث «ذاتنا» وأكّدوا على أنّ الحلّ لا يتبلور في ديار منافسنا، وإنّما هو كامنٌ في ديارنا. نعم، تراثنا المعاصر هو ثمرةٌ لكلّ حلٍّ يمكن أن يُطرح في هذا المضمار.

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية افتتح في مكتبه بمدينة قم المقدّسة فرع الفكر المعاصر بهدف تدوين دراساتٍ وبحوثٍ علميةٍ حول الإنجازات الفكرية التي تحقّقت على صعيد ما ذكر إلى جانب تقييمها، وفي هذا السياق بادر الباحثون فيه إلى استطلاع المشاريع الفكرية لأبرز العلماء والمفکّرين في العالم الإسلامي من الذين تنصبّ نشاطاتهم الفكرية في بوتقة الفكر المعاصر، وثمرة هذا النشاط تنشر في إطار دراساتٍ تتضمّن بحوثًا تحليليةً لآثارهم، وإلى جانب ذلك تتطرّق إلى بيان واقع مسيرة إنتاجهم الفكري وكيفية تبلور آرائهم بصياغتها النهائية.

في هذا النمط من الدراسات عادةً ما يتمّ تسليط الضوء على مسيرة الإنتاج الفكري الهادف إلى إيجاد خلفّياتٍ ومبانٍ فكرية ونظرياتٍ تحت عنوان «المنهجیة التأسیسیة» ويقوم الباحث فيه بدراسة وتحليل مدى نجاح الفكر المعاصر أو إخفاقه بشكلٍ صريحٍ وشفّافٍ.

 

 

السيد هاشم الميلاني
المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية
النجف الأشرف ـ 1441 هـ
(8)

المقدمة

فرع الفكر المعاصر هو أحد مكوّنات المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، وقد تمّ تأسيسه بهدف استقصاء التحدّيات المعرفیّة في الفكر العربي الإسلامي على ضوء الاجتياح الثقافي الغربي، والسعي لوضع حلولٍ ناجعةٍ لمواجهتها، وكذلك العمل على تبويب مختلف التيارات الفكرية المعاصرة في أصنافٍ متناسقةٍ واستطلاع واقعها ونقد متبنّياتها الفكرية والمعرفیّة. من البديهي أنّ هذه الأهداف لا تتحقّق إلا من خلال امتلاك فهمٍ دقيقٍ للفكر المعاصر، وهذا الفهم بكلّ تأكيدٍ يتطلّب إجراء دراساتٍ وبحوثٍ علميةٍ مسهبةٍ حول شتّى الآثار المدوّنة في العصر الحديث وبذل جهودٍ حثيثةٍ لاستكشاف مضامينها ومنهجيتها الحقيقية.

من هذا المنطلق وعلى ضوء المشروع الفكري لمحمّد أركون، دار موضوع البحث حول تفصيل بيبلوغرافيا آثاره ضمن محورين أساسيين هما كالتالي:

1) فهرسةٌ موضوعيةٌ لآثاره ضمن جدولٍ شاملٍ للمواضيع التي سلّط الضوء عليها في مشروعه الفكري.

2) تعريف آثاره الفكرية كلّ واحدٍ على حدةٍ وبيان ما تضمّنته فصوله من مباحثَ وذكر أهمّ المواضيع التي تطرّق إليها في كلّ فصلٍ.

جُمعت ثمرة جهود فريق البحث المختصّ ضمن كتابٍ مستقلٍّ تحت عنوان “محمد أركون تحليل المنهجية ودراسة المؤلفات” حيث طبع من قبل دار النشر التابعة للمركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية.

هذا الكتاب يتضمّن مباحثَ تحليليةً نقديةً حول مختلف جوانب مشروع

(9)

محمّد أركون الفكري، وهو حصيلةٌ لجهود عدّة باحثين تطرّقوا إلى بيان واقع الفكر العربي الإسلامي المعاصر باللغتين الإنجليزية والفارسية، وقد وقع الخيار على خمس مقالاتٍ دوّن مؤلّفوها دراساتٍ نقديةً حول مختلف آراء محمّد أركون ونظرياته، حيث اختيرت من بين عدّة دراسات لكونها تعكس المعالم العامّة لمنظومته الفكرية، وهي إلى جانب المقالة الأولى المدوّنة تحت عنوان “المنهجية التأسيسية لمحمّد أركون في مشروع نقد العقل الإسلامي”، تتضمّن آراءً نقديةً شاملةً حول شتى أبعاد مشروعه الفكري.

يتكوّن الكتاب من جزئين أساسيين كما يلي:

الجزء الأوّل: ميثودولوجيا بنيويةٌ لمشروع محمّد أركون (نقد العقل الإسلامي).

الجزء الثاني: دراساتٌ نقديةٌ حول مشروع محمّد أركون (نقد العقل الإسلامي).

وفي الختام نتقدم بالشكر الجزيل والتقدير لجميع الباحثين الأفاضل الذين ساهموا في إنجاز هذا المشروع البحثي، ولا سيّما سماحة السيّد هاشم الميلاني رئيس المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، الذي وفّر جميع الإمكانيات المتاحة لتمهيد الأرضية المناسبة لإنجازه، وفي هذا المضمار وضع الأصول الأساسية له واختار الكوادر الكفوءة في البحث والتدوين. كما نشكر الدكتور محسن الموسوي مدير فرع المركز في مدينة قم المقدّسة، والدكتور هادي بيكي ملك آباد مدير فرع الفكر المعاصر.

 

التحرير
(10)

 

 

 

 

 

الفصل الأول 

المنهجية التأسيسية

لمحمّد أركون في مشروع

نقد العقل الإسلامي

 

(11)

المنهجية التأسيسية

لمحمّد أركون في مشروع نقد العقل الإسلامي
مهدي رجبي[1]

 

محمّد أركون مفكرٌ جزائريٌّ، وجهٌ معروف في المحافل والأروقة العلمية، له منهجٌ نقديٌّ راديكاليٌّ تجاه الدين ولا سيما في بُعده الإسلامي. لقد أقام أركون مشروعه الفكري تحت عنوان «نقد العقل الإسلامي» على أساس نقد العقلانية الإسلامية. يجمع أركون بين مخالفة الرؤية الاستشراقية إلى الإسلام وبين معارضة التيارات الإسلامية ونوع الرؤية التي تحملها هذه التيارات عن الإسلام.

يكمن أحد أساليب نقد ودراسة آراء أيِّ مفكِّرٍ في معرفة منهجه الفكري التأسیسي، إذْ إن كلَّ نظريةٍ تقوم على سلسلةٍ من الأسس الأنطولوجية والإبستيمولوجية والأنثروبولوجية، والمفکّر يتأثر في أخذ ذلك ببعض من سبقه من المفکّرين، ما يكوّن بصورةٍ إجمالیةٍ الخلفیّة المعرفیّة لنظريته. وبالإضافة إلى الخلفیّات المعرفیّة يتأثر المنظّر بخلفياتٍ غيرِ معرفيةٍ، من قبيل: الخلفیّات السياسية والاجتماعية وما إليهما (بارسانيا، 1392 هـ ش، ب، ص 7 ـ 10).

(12)

نسعى في هذا المقال إلى دراسة أفكار محمّد أركون من هذه الزاوية، إذ نعمل ـ من خلال البحث في الخلفیّات المعرفیّة وغير المعرفیّة لفكره ـ على بيان الإطار والمسار الخاص الذي اتخذه في تنظيراته. لنعمل لاحقًا ـ بعد بيان مشروعه الرئيسي وما ينطوي عليه من النظريات ـ على تقييم كلِّ واحدةٍ من هذه النظريات على حدةٍ. كما سنعمل على تقييم المباني الفكرية لأركون، ومدى الانسجام الداخلي لهذه الأفكار، أو بعبارةٍ أخرى: تقييم نسبة تلك المباني إلى نظرياته.

1- محمّد أركون في سطور

وُلد أركون في مطلع شهر فبراير سنة 1928 م في بلدة تاوريرت ميمون من قرى أقليم القبائل الكبرى في الجزائر، في أسرة أمازيغية تنتمي إلى الطبقات الدنيا والفقيرة في المجتمع. وبعد أن أكمل دراسته الابتدائية في المدارس الفرنسية في مسقط رأسه، تخلف عن مواصلة الدراسة في العاصمة ـ خلافًا لرغبته ـ تحت وطأة الوضع المادي لأسرته، فاضطر إلى الجمع بين مواصلة دراسة المرحلة الثانية ومساعدة والده في متجره في مدينة وهران. وبعد اجتياز هاتين المرحلتين، واصل دراسته الجامعية في كلية الآداب في جامعة الجزائر في حقل الأدب العربي، حيث نال شهادة البكلوريوس (ليسانس) سنة 1952 م (مصطفى كيحل، 2011 م، ص 23 ـ 24).

ثم انتقل أركون إلى باريس لمواصلة دراساته العليا هناك سنة 1952 م. وعلى الرغم من حقله العلمي الرئيسي في اللغة والأدب العربي، أخذ يحضر مختلف الدروس في الأنثروبولوجيا، والفلسفة، وعلم الاجتماع في المدرسة العلمية للدراسات العليا. وفي عام 1957 م، قدّم أطروحته في موضوع نزعة الأنسنة في الفكر العربي، مسکویه الفيلسوف والمؤرّخ، على مستوى الدكتوراة، حيث أشرف عليها لويس

(13)

ماسينيون، وحاز علی شهادة الدكتوراة نهاية العقد السادس. كان أركون منذ عام 1960 م يمارس التدريس في حقل «تاريخ الفكر الإسلامي» في جامعة السوربون، كما كان يشغل منصب أستاذٍ زائرٍ في العديد من الجامعات الأوروبية والأمريكية، لينهي مسيرته العلمية ـ وهو في ذروتها ـ بوفاته في الرابع عشر من سبتمبر سنة 2010 م، عن عمر ناهز الثانية والثمانين عاماً في باريس (أركون، 1991 م، 156 ـ 170؛ مصطفی، 2011 م، ص 26 ـ 27).

2 - الخلفیّات لفكر محمّد أركون

إنّ خلفيات الأفكار والنظريات تنقسم إلى خلفياتٍ معرفيةٍ، وخلفياتٍ غيرِ معرفيةٍ. وإن الخلفیّات المعرفیّة عبارةٌ عن عناصرَ دخيلةٍ في التبلور التاريخي للنظرية، ويكون لها ارتباطٌ منطقيٌّ بنظريات المفکّر. أما الخلفیّات غير المعرفیّة فليس لها ارتباطٌ منطقيٌّ، وإنّما هي في الغالب ذاتُ صبغةٍ تحفيزيةٍ. (بارسانیا، 1392 هـ ش، ب، ص 7، 14، 17). وفي البداية سوف نبحث في الخلفیّات غير المعرفیّة لأفكار أركون، لننتقل بعد ذلك إلى بحث خلفياته المعرفیّة.

الخلفیّات غير المعرفیّة لفكر أركون

إن الخلفیّات غير المعرفیّة عبارةٌ عن عناصرَ تحفيزيةٍ، من قبيل: الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية، حيث تؤثر في الغالب في غايات المفکّر، وتدفعه إلى إخضاع موضوعٍ خاصٍّ لبحثه وتحقيقه. ومن الضروري ـ لإدراك أسباب تبلور المشروع الفكري لأركون ـ أن نلتفت إلى الظروف السياسية وكذلك المناخات الاجتماعية والثقافية التي ترعرع فيها.

(14)
الظروف السياسية

تعدّ ظاهرة الاستعمار من أهم الأحداث السياسية في العالم الثالث منذ القرن التاسع عشر للميلاد فلاحقًا. ففي هذه الفترة كان الغرب يعيش نشوة الغرور العلمي في إطار الفلسفة الوضعية على أنها فلسفةٌ شاملةٌ وعالميةٌ، وقد حمل هذا الغرب المنتشي على عاتقه رسالة أو مهمة نشر ثقافته وحضارته. وفي هذا المناخ كانت العلاقة بين الإسلام والغرب في أسوأ حالاتها؛ إذ كان الغرب ينظر إلى الإسلام بوصفه مثالًا للتخلف والوقوف بوجه التطوّر، وكان المسلمون في المقابل يرون في الغرب مظهرًا للهيمنة والاستعمار الاقتصادي والسياسي والثقافي.

وفي هذه الحقبة كانت فرنسا من أهم البلدان الاستعمارية، حيث استولت على الجزائر سنة 1830 م ـ تحت ذريعة تحريرها من الإمبراطورية العثمانية ـ وواصلت استعمارها لها حتى عام 1962 م. ومن هنا حيث كان أركون يقيم حتى نهاية العقد الخمسين من حياته في الجزائر، وكانت أهم مراحل حياته الفكرية ودراسته الجامعية قد اقترنت بحقبة الاستعمار الفرنسي للجزائر. يكون بذلك قد قضى شطرًا كبيرًا من حياته في ظل الاستعمار، وقد لمس واقع الاستعمار الفرنسي بنفسه. ومما قاله في هذا الشأن:

«لقد عشت أيام الاستعمار ضمن مناخٍ من الكبت والإحباط الأخرس الصامت... لأني لم أكن أجرؤ حتى على مجرّد البوح به أو فتح فمي للاعتراض» (أركون، 2007 م، ص 264).

كما عاش ـ بطبيعة الحال ـ مراحل تبلور الكفاح المسلح في الجزائر ما بين عامي 1954 ـ 1962 م، وتعرف في الوقت نفسه على الإيديولوجيات النضالية أيضًا، ولكنه كان على الدوام يُحجم عن الاعتقاد بالإيديولوجيَات على مختلف أنواعها

(15)

(وصفي، 1388 هـ ش، ص 100). ومن هنا فإن الكثير من زملاء أركون الذين كانوا يدرسون معه في فرنسا، كانوا يعودون إلى الجزائر وينخرطون في الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي، وكان هناك منهم من استشهد على سواتر الجبهات، إلا أن أركون عقد العزم على الإقامة في باريس (أركون، 1991 م، ص 154).

وبالإضافة إلى الظروف الاستعمارية القاسية والكفاح من أجل الاستقلال، كانت الأجواء المناهضة للإمبريالية ولا سيما الحرب مع إسرائيل من الأحداث السياسية التي عاصرها أركون. إن تجربة هذه الظروف كانت واحدةً من أهم خصائص التحقيق الإسلامي لأركون أي مكافحة الإيديولوجيا. وإن دعوته إلى إلغاء التيارات النضالية ـ أو الأصولية بزعمه ـ تنبثق من هذه التجارب. يرى أركون من خلال تجربته لهذا المناخ أن هيمنة ضرورة الحرب مع الخارج والتحرير الخارجي وغلبتها على الحرب مع الداخل والتحرير الداخلي، وتبلور الإيديولوجيات القائلة بمحاربة الإمبريالية والاستعمار وإسرائيل، قد أدت إلى أفول الحركة الإبداعية والليبرالية في الفكر العربي ـ الإسلامي. وهذا الأمر هو الذي أدى إلى استبدال العقل المحارب بالعقل الليبرالي، واستمراره لاحقًا بصيغتيه القومية أو الوطنية منذ عام 1950 إلى 1970 م، وبصيغته الأصولية الإسلامية منذ عام 1970 م فما بعد (أركون، 1997 م، ص 8؛ بلا تاريخ، ص 290 ـ 291).

الظروف الثقافية ـ الاجتماعية

إلی جانب الاستعمار السياسي، كان الاستعمار الثقافي حاضرًا في الجزائر أيضًا، حيث كانت فرنسا تعتقد بتفوّق ثقافتها على سائر الثقافات الأخرى، وكانت ترفض الاعتراف بأيِّ ثقافةٍ أخرى غير الثقافة الفرنسية وتُنكر على الثقافات

(16)

الأخرى حتى لغاتها. وكان المبشرون المسيحيون يتوافدون على الجزائر لتغيير دين أبنائها، حتى فرضت العزلة على الإسلام. وكانت أجواء الكبت والقمع مهيمنةً حتى على الجامعات أيضًا، وكان أركون واحدًا من خمسة أو ستة أشخاصٍ فقط سُمح لهم بمواصلة الدراسة في حقل الأدب العربي. في حين كان آلاف الفرنسيين يواصلون دراساتهم في مختلف الحقول العلمية، وكانوا يعربون عن احتقارهم لتعلم اللغة العربية، ويسعون إلى إلغاء هذه الحقل أو تحجيمه. وإلى جانب ذلك كله كانت الدراسات الاستشراقية لا تُقدّم عن الإسلام سوى صورةٍ نمطيةٍ باليةٍ وميّتةٍ هي حصيلة الذهنية البدائية للإنسان، والقول بأن هذا الإسلام يقف حجر عثرةٍ أمام التقدم والحداثة. وفي ظل هذه الظروف تبلورت البراعم الأولى لخصومة أركون مع الفهم الاستشراقي التقليدي للإسلام، وبموازاة ذلك انقدحت في ذهنه الشرارة الأولى لنقد التراث الإسلامي أيضًا (أركون، 2007 م، ص 262 ـ 263).

كما درس أركون في معهد الاستشراق في جامعة السوربون، الذي رآه من أكثر الاقسام العلمية انغلاقًا في جامعة السوربون، وقال بأن حظر الاستفادة من المناهج العلمية الحديثة كان هو المسيطر على هذا المعهد (أركون، 1997 م، ص 13). وقد أثرت مشاهدته للفضاء المغلق في معهد الاستشراق في جامعة السوربون وضحالة منهجه البحثي للإسلام، في تبلور معارضته للاستشراق.

ومن ناحيةٍ أخرى في الوقت الذي كانت الحضارة الغربية تشهد ازدهارها وتطوّرها العلمي، كانت المجتمعات الإسلامية ـ بشكلٍ عامٍّ ـ ومن بينها الجزائر، تواجه الكثير من المشاكل الثقافية والاجتماعية. وكان الشرخ المذهبي والركود والتخلف العلمي والانحطاط الفكري بشكلٍ خاصٍّ من أهم خصائص المجتمع الإسلامي (أركون، 2007 م، ص 263).

(17)

يرى أركون أن مخاض وإنتاج الفكر الإسلامي قد توقفت منذ عصر ابن رشد وابن خلدون. حيث انحسر التنوّع عن التفكير الإسلامي وحلّ محله التقليد والاجترار؛ ليكون هو الحالة السائدة. وقد رأى أن ذروة الانحطاط والتقليد الفكري تكمن في غلق باب الاجتهاد في الفقه (وصفي، 1388 هـ ش، ص 124). ويمكن الوقوف على التخلف العلمي بشكلٍ واضحٍ في جامعات الجزائر؛ إذ يصفها أركون قائلًا: إن جميع أساتذة حقل الأدب العربي في مرحلة البكلوريوس كانوا من الفرنسيين. يرى أركون أن التخلف العلمي في العالم الإسلامي يدعو إلى الحزن والألم، ويعزو ذلك إلى الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية، إذ يقول:

«إذا ما نظرنا إلى ناحية الباحثين العرب المسلمين وجدنا تأخُّرًا في البحث وبطءًا ونواقصَ أشدَّ إيلامًا وإحزانًا. إن تفاقم المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية منذ السبعينات يفسّر لنا سبب الانخفاض الواضح للإنتاج العلمي في المجال العربي والإسلامي كمًّا ونوعًا» (أركون، 1996 م، ب، ص 14).

وفي خِضمّ ذلك يعتبر أركون أن الحقبة ما بين عامَيْ 1880 ـ 1950 م، تمثل المرحلة الليبرالية أو «الإنتاجية» في الفكر العربي ـ الإسلامي، والاتجاه إلى الالتحاق بركب الحضارة الحديثة، ولكنه يرى أن هذا الاتجاه لم يكتب له الاستمرار بسبب تبلور وغلبة الإيديولوجيات النضالية (أركون، 1997 م، ص 11؛ بلا تاريخ، ص 290 ـ 291).

كما أن إقامة أركون في باريس وإدراكه للظروف الاجتماعية والثقافية، قد أثّر في تبلور وظهور مشروعه الفكري على نحوين:

(18)

النحو الأول: أنه شهد عن كثبٍ النزعة الاستعلائية لدى الغرب في نظرته إلى الإسلام، حيث يبحث عن أسباب انحطاط العالم الإسلامي ضمن العناصر الأزلية، ويراها بالتحديد ناشئةً عن الإسلام نفسه (أركون، 2001 م، ص 45 ـ 56). وقد استدعت هذه الرؤية الاستعلائية من الغرب ردّةَ فعلٍ من أركون، وفي الحقيقة يمكن القول: إن مشروعه يمثل نوعًا من ردّة الفعل على النظرة الاستعلائية لدى الغربيين تجاه الإسلام، بمعنى أن أركون كان يسعى إلى إثبات أنّ الإسلام قد خاض تجربةً من الازدهار والعقلانية، ليحلل بعد ذلك ما هي الأسباب والعوامل التي أدّت إلى عدم تواصل هذه التجربة (المصدر ذاته، ص 203).

النحو الثاني: لقد اقترنت مرحلة الدراسة الجامعية لأركون في عقد الخمسينات (العقد السادس) من القرن العشرين بالثورة المنهجية التي قادها علماء ومفكرون من أمثال: شتراوس[1] وفوكو[2] وبارت[3] وبورديو[4] ودريدا[5] وبرودل[6] وغيرهم، ولا سيّما الاتجاه الحديث لـ مدرسة الحولیات في التاريخ، التي أثارت الكثير من الأبحاث والدراسات بشأن التاريخ والتراث المسيحي. إن مشاهدة أركون للحيوية الفكرية لأوروبا، وإدراكه الفقر المنهجي الذي تعاني منه الأبحاث الإسلامية الراهنة، قد دعاه إلى توظيف الأساليب الحديثة في إعادة قراءة المجتمع والتاريخ والفكر البشري في إطار إعادة قراءة التراث الإسلامي. وكانت هذه الأساليب قد انبثقت

(19)

عن علومٍ من قبيل: التاريخ، والعلوم الاجتماعية، والأنثروبولوجيا، وعلم النفس التاريخي، وعلم اللغة، وأظهرت تفوّقها في التطبيق على التراث المسيحي (أركون، 2009 م، ص 22 ـ 25).

الخلفیّات المعرفیّة لفكر أركون

لقد أمضى أركون أهم سنوات ازدهاره العلمي في فضاء التنوّر الفکري لفرنسا. وبالالتفات إلى التحولات العلمية التي شهدتها فرنسا في فترة إقامة أركون فيها، فقد تعرّف على أحدث الاتجاهات العلمية والمفکّرين من الطراز الأول والمنظّرين الفرنسيين. ومن هنا سنواصل البحث في دراسة المذاهب والمفکّرين الذين أثّروا في تفكير أركون، مع تحديد تأثير كلِّ واحدٍ منهم في تفكيره.

المدارس الفكرية المؤثِّرة في أركون

إنّ لدراسات أركون اتجاهاتٍ متداخلةً، ولذلك نجده متأثِّرًا بمختلف المذاهب والمدارس الفكرية، ومن هنا نرى ضرورةً للاهتمام بتلك المدارس في دراسة المنهج الفكري لأركون. وقد كانت مدرسة الحوليات الفرنسية (الأنال)[1]، وعلم النفس التاريخي، وما بعد البنيوية، والاستشراق، من أهم الاتجاهات المؤثرة في فكر ومنهج أركون، وكان لها دورٌ واضحٌ في توجيه الدفة الفكرية لأركون.

(20)

مدرسة الحوليات (الأنال) الفرنسية

تُعتبر مدرسة الحوليات الفرنسية [على ما يحلو لأركون تسميتها] مدرسةً تاریخیةً حديثةً تم تأسيسها عام 1929 م، من قبل لوسين فافر ومارك بلوك، كردّة فعلٍ اعتراضيةٍ على الفهم السائد عن التاريخ في المدرسة الوضعية، واتخذت منهجًا مخالفًا للآراء ذات البُعد الواحد. وقد أخذت هذه التسمية من مجلة تحمل عنوان (حوليّات التأريخ الاقتصادي والاجتماعي) والتي تمّ تأسيسها من قبل فافر[1] وبلوک[2] (بيران، 1372 هـ ش، ص 12؛ كريمي، ص 171 ـ 172، و 181).

وباختصارٍ فإن التأريخ التقليدي يتمحور حول نقل الوقائع ذات البعد التاريخي ـ السياسي الواحد، حيث يتم وصف الأحداث وروايتها استنادًا إلى الأسس الوضعية التي تدور حول محور حياة الملوك، بمعنى أنه يتجاهل التاريخ الاجتماعي والثقافي. إنّ لهذا التأريخ التقليدي طبيعةً نخبويةً تتخذ من حياة وموت الملوك محورًا لها. إن هذا التاريخ يستند إلى محورٍ بعينه، وعلى هذا الأساس يتعيّن على المؤرّخ أن يعمل على اكتشاف وبيان الوقائع التاریخیة من خلال الغوص في الوثائق والمستندات، وأن يعمل على إصلاح الماضي في الظرف الراهن، دون أن يكون لتفسيره الخاص أيّ تأثير في هذا المسار. كما يعتقد كذلك باستقلالية علم التأريخ عن سائر الحقول المعرفیّة الأخرى ومن بينها العلوم الإنسانية (بيران 1372 هـ ش، ص 13 و 16 و 26 و 27).

إن مدرسة الحوليات في إطار نقدها للنزعة التأريخية الوضعية المتقدّمة، قد عملت ـ من خلال إدخال العلوم الإنسانية والاجتماعية إلى الدائرة التاريخية ـ

(21)

على تغيبر منهج الأسلوب التاريخي، وأقامت منهجًا جديدًا كانت له الهيمنة على أفكار العلماء والمفکّرين طوال السنوات الخمسة والعشرين المنصرمة (أركون، 1997 م، ص 61).

إن هذا الأسلوب ـ خلافًا للتأريخ التقليدي ـ ينتهج النزعة التحليلية، ويعمل على دراسة تاريخ المتقدمين من خلال مدخلٍ وسيطٍ. ويعمل على إعادة صياغة النظام الفكري وإصلاحه ضمن مرحلةٍ تاريخيةٍ من خلال التأكيد على العوامل والعناصر الاجتماعية والاقتصادية، والنظر إليها بجميع أجزائها وتفاصيلها، ولا يتجاهل مسائلَ من قبيل: التاريخ المحلي والمناطقي، والمجتمع القروي، والنظام القیمي، والحياة اليومية لعامة الناس ولا سيما الفلاحين والحياة القروية، والأسس النفسية للدين، وكذلك المعتقدات الدينية والآداب والمناسك والآراء والمعتقدات والأفكار السائدة والشعور العام، وتحليل بنية الأساطير (بيران، 1372 هـ ش، ص 40؛ كريمي، ص 183 ـ 185).

تعدّ هذه المدرسة من التيارات المعرفیّة المؤثرة التي يعتبر أركون نفسه مدينًا لها، وقال بأن تعرّفه على هذا الاتجاه قد أنقذه من النظرة الأحادية والاستشراقية إلى التاريخ (أركون، 1997 م، ص 61). إن للاتجاه التأريخي لمدرسة الحوليات مكانةً محوريةً في المشروع الفكري لأركون. يسعى أركون ـ من خلال توظيف ميثودولوجيا هذه المدرسة واستخدام معطياتها في تحليل التاريخ الأوروبي وتاريخ مختلف المجتمعات ـ إلى تأسيس تأريخٍ جديدٍ للفكر الإسلامي.

علم النفس التأريخي

إن علم النفس التأريخي يُعدّ واحدًا من متفرعات «تأريخ الذهنيات» الذي

(22)

تم تطويره في فرنسا على يد جورج دابي[1] وجاك لو غوف[2] وروبير ماندرو[3]، وتمكن من دراسة علم النفس الجمعي لفرنسا في القرون الوسطى، وشهد على ولادة علمٍ جديدٍ في فرنسا. وتعتبر هذه الرؤية بدورها من معطيات مدرسة الحوليات أيضًا. وفي الوقت الذي عمد الجيل الأول من أتباع هذه المدرسة إلى الاعتكاف على دراسة التاريخ المادي المؤلف من الجغرافيا التاريخية، والتاريخ الاقتصادي، وعلم الاجتماع التاريخي، اتجه الجيل الثاني إلى البحث بشأن البنى الذهنية والمعنوية للشعوب الأوروبية (هاشم صالح، «ملحق» في أركون، 2007 م، ص 302). وكان علم النفس التأريخي من بين الاتجاهات الأخرى التي استحوذت على اهتمام أركون. وفي هذا الأسلوب بالإضافة إلى الاقتصاد والعناصر المادية، يتم توظيف التخیل الأسطوري والعقل الجمعي بوصفه عنصرًا رئيسًا ومحرّكًا في التاريخ الإسلامي (أركون، 2007 م، ص 245).

ما بعد البنيوية

إن ما بعد البنيوية[4] تمثل ردّة فعلٍ على علم اللغة البنيوية الذي تبلور في

(23)

فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية في إطار أفكار أشخاصٍ من أمثال جاك دريدا، ورولان بارت، وجيل دلوز[1]، وميشيل فوكو (فارد، 1393 هـ ش، ص 132 ـ 133).

يرى ما بعد البنيويون أن التغيير هو الأصل، بمعنى أن العلاقة بين الدالِّ والمدلول في النزعة البنيوية تقوم على أساس القواعد والبنى المتعيّنة والموجودة في كل لغةٍ، وتحدث بذلك دلالةٌ معيّنةٌ، والعلاقة بين الدالِّ والمدلول علاقةٌ بنيويةٌ، بيد أن المدلول في ما بعد البنيوية يتنزّل ويُحِلّ الدالَّ في منزلةٍ أسمى، ويكون المدلول بمقتضى الدالِّ في تزعزُعٍ وتغيُّرٍ مستمرٍّ، وتكون الدَوَالُّ عائمةً وطافيةً دون أن تكون لها أيُّ علاقةٍ متعيّنةٍ مع المداليل (ساراب، 1382 هـ ش، ص 11 ـ 12).

الاستشراق

يمثل الاستشراق[2] واحدًا من الاتجاهات الهامّة في ما يتعلق بأفكار أركون؛ وذلك لأنه من جهةٍ قد درس في معهد الاستشراق في جامعة السوربون، وكان جلّ أساتذته من المستشرقين، ومن جهةٍ أخرى كان هذا الاتجاه من بين الاتجاهات التي تركت تأثيرًا سلبيًّا عليه، وخلال مخالفته ونقده لهذه الاتجاهات الاستشراقية، سعى أرکون إلى طرح اتجاهٍ جديدٍ في دراسة التراث الإسلامي.

إن الاستشراق بالمعنى العام، هو: «دراسةٌ يقوم بها الغربيون لقضايا الشرق، وبخاصة كل ما يتعلق بتاريخه ولغاته وآدابه وفنونه وعلومه وتقاليده وعاداته» (جبور، 1984 م، ص 17). وأما في معناه الراهن فهو نمطٌ من التفكير يقوم على «المغايرة» وفصل الشرق عن الغرب، ويهدف إلى معرفة عالم الشرق بغية السيطرة

(24)

عليه. وقد اجتاز الاستشراق ثلاثَ مراحلَ معرفيةٍ، وهي:

1 ـ الاستشراق في مرحلة ما قبل النزعة التجريبية.

2 ـ الاستشراق في مرحلة النزعة التجريبية وذروة المرحلة الحديثة.

3 ـ الاستشراق في مرحلة ما بعد النزعة التجريبية أو ما يسمّى بما بعد الحداثة (بارسانيا وبيکي، 1394 هـ ش، ص 36 ـ 42).

إن الاستشراق الذي تعامل معه أركون كان من نوع الاستشراق في مرحلة النزعة التجريبية وعصر التنوير. إنّ الحداثة في هذه المرحلة كانت تبحث ـ من خلال إدراكها التجريبي للعلم ـ عن العقلانية والتقدّم الثابت على محور القيم الغربية بوصفها قيمًا مطلقةً وشاملةً لجميع العالم. وعلى هذا الأساس كان مفكِّرو النزعة التنويرية يرون ضرورة بسط قيمهم على كافة ربوع العالم، وانطلاقًا من عنجهيتهم يرون أوروبا من أكثر أجزاء العالم تقدُّمًا وتحضُّرًا. وقد مهّدت هذه النظرةُ الاستعلائيةُ الأرضيةَ لتبلور المركزيةِ الأوروبيةِ، وتكوّنت على هذا الأساس فكرة إصلاح سائر البلدان الأخرى، (ولكن الذي كان يحصل على أرض الواقع ليس سوى استعمار الشعوب والبلدان الأخرى من قِبلهم)، الأمر الذي أدى إلى رؤيةٍ استشراقيةٍ مشبوهةٍ وغيرِ واقعيةٍ تعتبر أوربا قمة الحضارة، وسائر الثقافات والأعراق الأخرى وحشيةً وهمجيةً ومتخلفةً (المصدر ذاته، ص 41). وقد وصف أركون هذه المرحلة قائلًا:

«كانت الثقافة الفرنسية تعتزّ بتفوّقها على كل الثقافات الأخرى، وترفض الاعتراف بتلك الثقافات، أو حتى بلغاتها القومية» (أركون، 2007 م، ص 264).

(25)

وفي هذه المرحلة كان الخطاب الاستشراقي يُسقط المنهجَ الفيلولوجي أو اللغوي والتأريخ التقليدي على التراث الإسلامي، وكانت الاتجاهاتُ التجريبيةُ هي الغالبةَ عليها (أركون، 2007 م، ص 233 ـ 243؛ أركون، 1996 م، أ، ص 18). وفي هذا المنهج اكتفى المستشرقون بتصحيح النصوص والشروح اللغوية، واعتمدوا في دراساتهم التاريخية على الروايات والتقارير الرسمية فقط.

يُطلق أركون على نتاج جهود المستشرقين بشأن معرفة الإسلام مصطلح الإسلاميات الكلاسيكية، بمعنى معرفة الإسلام من خلال الكتب الفقهية لكبار الفقهاء التقليديين. وفي الحقيقة حيث كان المستشرقون غرباء ومتطفلين على الدراسات الإسلامية، فإنهم يفضلون الاكتفاء بنقل نصوص كبار المتقدمين إلى لغةٍ أخرى (أركون، 1996 م، ب، ص 51 ـ 52).

يرى أركون أن الإسلاميات الكلاسيكية والتقليدية تعمل على بيان وتفسير التراث الإسلامي في مرحلة تبلوره من خلال الاستناد إلى مجموعاتٍ من النصوص الموثوقة، وبذلك فإنها لا تستطيع نقد وتقييم التراث الإسلامي (أركون، 1996 م، أ، ص 18). ومن هنا فإنها لا تعمل في إطار تحرير المسلمين من الاجترار ودفعهم نحو الإبداع والتجديد. إن هذا الضعف والخلل يعود إلى موانعَ وعقباتٍ معرفيةٍ تكمن في صلب المبادئ النظرية للإسلاميات الكلاسيكية، والتي تعود بدورها إلى الاتجاه الوضعي فيها.

الشخصيات الفكرية المؤثرة في أركون

ربما تعذّر اعتبار مفكر بعينه صاحبَ التأثير التام والحاسم في صقل وبلورة تفكير أركون؛ كما أنه نفسه يدّعي أنه لم يتأثر أبدًا بأيِّ مفكِّرٍ على نحوٍ كاملٍ. بل

(26)

إنه قبل أن يتأثر بالأشخاص، قد وقع تحت تأثير العلوم والمناهج العلمية والمدارس الفكرية (أركون، 2007 م، ص 249). ومع ذلك كان هناك لبعض المفکّرين دورٌ محوريٌّ في توجيه مساره العلمي والفكري، وفي طليعة هؤلاء يمكن لنا أن نذكر الأسماء الآتية: لوسيان فافر، وفرانسوا فوريه، وميشيل فوكو، وجاك دريدا.

لوسيان فافر

يعتبر لوسيان فافر ـ مؤسس مدرسة الحوليات ـ من أهم الأشخاص الذين تركوا تأثيرهم على تفكير أركون. إن نزوع أركون إلى دراسة تاريخ الفكر وكذلك أسلوبه ومنهجه في دراسة هذا التاريخ، أعني: أسلوب التأريخ الجديد، يعود إلى التأثير الذي تركه عليه فافر في هذا الشأن. تعود بداية معرفة أركون بفافر إلى المحاضرة التي ألقاها الأخير في جامعة الجزائر سنة 1951 م، والتي كان موضوعها دين رابليه[1]، وقد حدث ذلك عندما كان أركون لا يزال طالبًا في هذه الجامعة. وقد وصف أركون هذه المحاضرة بأنها كانت بمثابة الصاعقة أو الوحي الذي نزل عليه، وكان لها أبلغ التأثير في مساره الفكري (أركون، 2007 م، ص 244).

في هذه المحاضرة أكد فافر على ضرورة التدقيق في مواجة مسألة المغالطة

(27)

التاريخية[1] عند دراسة التاريخ، مذكرًا بأن اتهام رابليه في عصره لا ينطوي على ذات المعنى الذي نفهمه للإلحاد حاليًّا. وقد أثبت من خلال توظيفه لأسلوب التأريخ الحديث أن الإلحاد بمعنى اللادينية كان محالًا في العصور القديمة، ولم يكن بإمكان أحدٍ أن يخرج من ربقة المعتقدات الحاكمة. لا ريب في أنه كان هناك مفكرون أحرارٌ في تاريخنا، إلا أن حريتهم كانت مقيّدةً ومشروطةً ومحكومةً للظروف، والواقع أنهم لم يخرجوا أبدًا عن الإسلام، ولكنهم خرجوا عن فهمٍ ضيّقٍ وقسريٍّ وشكليٍّ وسطحيٍّ لدين الإسلام. هذا كل ما في الأمر لا أكثر ولا أقل (هامش المترجم، في ذات المصدر، ص 303). وبعبارةٍ أخرى: إن التحرر والحرية الفكرية في التاريخ المنصرم كانت حبيسة المنظومة المعرفیّة[2] (الإبیستمیة) الحاكمة في عصرهم، وإن الذين اُتُّهموا بالإلحاد إنما كانوا من الأشخاص الذين تجاوزوا الفهم المغلق والسطحي السائد في عصرهم، وتوصّلوا إلى فهمٍ مغايِرٍ للدين، ولم يخرجوا من الدين نفسه (خلجي، 1376 هـ ش، ص 43 ـ 44).

وفي الحقيقة فإن بحث فافر في هذه المحاضرة يمثل نوعًا من دراسة التاريخ الفكري الذي قام على منهج التاريخ الحديث، وهذا الأمر قد فتح أفقًا جديدًا لأركون.

فرانسوا فوريه

يُعدّ فرانسوا فوريه من الشخصيات الفكرية التي أثرت في فكر أركون. يرى أركون أن مشروع نقد العقل الإسلامي مدينٌ لمنهج فرانسوا فوريه في إعادة التفكير في الثورة الفرنسية. ومن هذه الناحية يكون نقد العقل الإسلامي بمعنى كيفية فهم الإسلام من جميع الجوانب وبشكلٍ أعمقَ ومغايرٍ للفهم القديم. لقد

(28)

عمد فوريه في هذا الكتاب إلى دراسة جميع الأدبيات التاريخية المكتوبة حول الثورة الفرنسية طبقًا للمنهج الانتقادي، كي يصل إلى فهمٍ عميقٍ ونقديٍّ مختلفٍ وبعيدٍ عن العصبية بشأن الثورة الفرنسية؛ إذ تمّ تأليف الكثير من الكتب في موضوع الثورة الفرنسية، وقد أوجد كلَّ واحدٍ منها شبكةً واسعةً من النظريات في حقل تفسير وتشريح هذه الثورة. وإن هذا التنوّع في النظريات ـ قبل أن يرتبط بالحادثة الأولى (الثورة الفرنسية) ـ يعود إلى الظروف التاريخية والاجتماعية التي كُتبت هذه النظريات في إطارها (أركون، 2007 م، ص 222 ـ 223).

وقد عمد أركون إلى تكرار هذا الأمر في نقد العقل الإسلامي بشأن حادثة تاريخية ظهور الإسلام والقرآن أيضًا. فقد أحدث النص القرآني منذ نزوله على طول القرون المتمادية أنواعًا من التفسير والأدبيات التأويلية، تراكبت فوق بعضها على مرّ الزمن مُشكِّلة بذلك ما يشبه الطبقات الأرضية، وقد تم دفن الحادثة التأسيسية الأولى (الإسلام والقرآن) تحت ركام هذه الطبقات المتراكبة فوق بعضها.

میشیل فوكو

يُعتبر میشیل فوكو من أهم الشخصيات المؤثّرة في تفكير أركون، ومن هنا فإنه أحال النظام الفكري للتراث العربي ـ الإسلامي إلى مفهوم الإبستمية[1] لفوكو. إن التأكيد على القطيعه التاريخية، والبحث عن شرائط إمكان وفاعلية العقل الإسلامي، وكذلك الاهتمام بالعلاقات القائمة بين القدرة والمعرفة في تحليل الأفكار، والأهم من ذلك كله منهج الجينيالوجيا والأركیولوجيا، هي من الأفكار التي أخذها أركون عن فوكو.

(29)

إن الحقل الرئيسي لفكر فوكو يكمن في البحث عن تبلور العقلانيات الخاصة والمتفرّقة في مختلف حقول المجتمع، ويعمل في هذا البحث على ربطها بعلاقات القدرة. وبالتالي فإن تحليله الرئيسي بشأن الأشكال الأساسية لبنية الأفكار يقوم على العلاقات القائمة بين العلم والقدرة. وعليه يمكن القول باختصارٍ: إن فوكو يسعى إلى دراسة ظروف إمكان وتبلور مختلف أشكال العلوم بوصفها منظومةً من علاقات القدرة، وكيف يمكن لمختلف أشكال الحوار العلمي ـ بوصفها نظامًا من علاقات القدرة ـ أن يتبلور (دريفوس ورابينو، 1392 هـ ش، ص 14).

لقد عمل فوكو في هذا المسار على توظيف منهجين، وهما: الجينيالوجيا، والأركیولوجيا. إن علم الجينيالوجيا هو: «أسلوبُ تحليلِ القواعد الكامنة وغير الواعية لتبلور التلاقحات في العلوم الإنسانية، وغايته تقديم وصفٍ مؤرشَفٍ للأحكام السائدة في عصرٍ ومجتمعٍ بعينه» (المصدر ذاته، ص 20).

أما علم الأركیولوجيا فهو: أسلوبٌ ومنهجٌ تحليليٌّ متمِّمٌ للمنهج المتّبع في علم الجينيالوجيا (خاتمي، ص 569). إن هذا الأسلوب يقوم على الهوّة وعدم الاستمرار وفقدان الوحدة، وقد استلهمه فوكو من نيتشة. يتم توظيف هذا الأسلوب والمنهج في قراءة المسارات الاجتماعية المفتقرة إلى القوانين العامة التي يطويها المجتمع من الناحية التاريخية (أكرمي وأژدريان، 1391 هـ ش، ص 11). إن الجينيالوجيا تتعاطى مع مستوياتٍ من الأحداث والتفاصيل والانحرافات الصغيرة والأخطاء والتقييمات والنتائج الخاطئة التي أدّت إلى تبلور كل ما ينطوي على قيمةٍ بالنسبة إلى الإنسان. وفي الحقيقة فإن الجينيالوجيا تعمل على تظهير تاريخية الظواهر والأمور التي تعتبر فاقدةً للتاريخ، لتثبت أن العلم متعلقٌ بالزمان والمكان (دريفوس ورابينو، 1392 هـ ش، ص 22 ـ 23).

(30)

جاك دريدا

تمثل التفكيكية إستراتيجيا جديدةً في التعاطي مع النصوص الفلسفية والأدبية، وقد بدأت هذه الإستراتيجيا بالفيلسوف الفرنسي الشهير (جاك دريدا). لا يمكن للمدلول ـ من وجهة نظره ـ أن يعمل على توجيه مفهوم الدالِّ أو أن يعمل على تثبيته على الدوام. وعلى هذا الأساس يعمد دريدا إلى نفي وجود أيِّ نوعٍ من أنواع المداليل المتعالية في النص وخارجه. ليس للنصوص أيُّ مصداقٍ خارجيٍّ أو مدلولٍ متعالٍ، وحتى الكاتب لا سلطةَ له على تفسير نصه، وعلى الرغم من تمكّن الكاتب من بيان مراد نصّه بشكلٍ واضحٍ، ولكن لا اعتبار بهذا البيان. ونتيجة هذا المبنى هي نوعٌ من الهرمنيوطيقا التي تدور حول محور المفسّر، والتي لا يمكن فيها تحديد المعنى القطعي والأخير لنصٍّ ما أو القول بصحة تفاسيرَ وعدم صوّابية التفسير الآخر؛ لأن النص لا يحتوي على أيِّ بناءٍ، وإن المعنى في النصّ متوثِّبٌ وحيويٌّ وغیرُ ثابتٍ دائمًا وأبدًا. يرى دريدا أنّ لكلِّ فكرةٍ ثنائياتها الناشئة من أيديولوجيَاتٍ ثابتةٍ، عملت على تحديد المعنى على محور مدلولٍ مركزيٍّ، وتُقدّم تفسيرًا ثابتًا للواقعة أو النص. ومن هنا يتم تعريف التفكيك بين هذه الثنائيات بوصفه مدخلًا للتحرر من قيود العقائد المتشدّدة (علي أكبر زادة، 1294 هـ ش، ص 130 ـ 133).

يسعى أركون ـ مثل دريدا ـ إلى العمل على نقد الآراء الثابتة التي يزعم أنها إيديولوجيا، ومن هنا فإنه يحاول من خلال توظيف أسلوب التفكيكية في دراسة الأفكار الإسلامية أن يفكك بين ثنائيات، من قبيل: الكفر ـ الإيمان، والحق ـ الباطل، وما إلى ذلك، ليعمل على نقد الآراء المهيمنة التي هي من وجهة نظره غالبًا ما تكون أصوليةً.

(31)

المباني الفلسفية لأركون

إنّ كلَّ نظريةٍ ـ كما تقدّم أنْ ذكرنا ـ تقوم على مجموعةٍ من المبادئ والمباني، ولكي تتبلور النظرية في ذهن المفکّر، يجب أن تنتظم مبادئ تلك النظرية في ذهنه أوّلًا. وبالالتفات إلى طرح المدارس المؤثرة وكذلك الجذور الفكرية لأركون، من الواضح أنه في أخذ هذه المباني كان متأثِّرًا بهذه الاتجاهات وهؤلاء المفکّرين.

المباني الأنثروبولوجية

إن لدى أركون توجُّهًا إنسانويًّا هو أصالة الإنسان مقابل  أصالة الدین (الله)[1]، ومن خلال اعتقاده بالقيمة الذاتية للإنسان، فإنه يعتبره مركز الوجود ومحور القيم (أركون، 1997 م، ص 10 ـ 12). يكمن محور هذا التفكير في التحول الذي حدث في عصر النهضة ضمن ارتباط الإنسان بالله، فحيث كانت العصور الوسطى تمثل مرحلة المركزية اللاهوتية حيث كان الله هو المحور، ولا يقع الإنسان موردًا للاهتمام إلا من طريق الارتباط بالله، كان عصر ما بعد النهضة في أوروبا يمثل بدايةً لمرحلة مركزية الإنسان، حيث أصبح الإنسان هو المحور (المصدر ذاته، ص 12).

ولا بد ـ بطبيعة الحال ـ من الالتفات إلى أن النزعة الإنسانوية المنشودة لأركون تختلف عن إنسانوية عصر التنوير. ففي النزعة الإنسانویة لعصر التنوير يشتمل الإنسان على جوانبَ ثابتةٍ، ومن بينها: العقل الذي يشترك فيه جميع الناس، وفي التفكير الإنسانوي لهذه المرحلة «لا يتمثل الهاجس الرئيسي للإنسان في كشف مراد الله، وإنما في بلورة الحياة على أساس من العقل البشري» (توكلي، 1382 هـ ش، ص 46).

(32)

لقد تأثر أركون بتعاليم ما بعد الحداثة ولا سيما مدرسة الحوليات، وقد رأى ـ من خلال قبوله بأصل تاريخية الإنسان ـ أنّ الإنسان إنما هو نتاج التاريخ والمجتمع، وإن نزعته الإنسانویة تتمحور حول الإنسان بدون الذات والجوانب الثابتة. ومن هنا يمكن اعتبار محورية الإنسان، وحرية الإنسان، وارتباط الإنسان بالتاريخ والمجتمع من أهم المباني الأنثروبولوجية لأركون:

1ـ محورية الإنسان: يعتبر هذا الأصل محور النزعة الإنسانویة، ولا يقف أركون عند حدود القول به فحسب، بل يبحث عن جذوره الأولى في آراء فلاسفة القرن الهجري الرابع، من أمثال: مسکویه، ولا سيما أبي حيان التوحيدي أيضًا. وبطبيعة الحال فإن أركون يُذعن بأن النزعة الإنسانویة لدى أبي حيان التوحيدي إن هي إلا نزعةٌ إنسانویةٌ مؤمنةٌ، إذ إن النزعة الإنسانویة التي تعني الطلاق البائن عن الله والدين لم تتبلور إلا في عصر التنوير (أركون، 1997 م، ص 619 ـ 620).

إن التعاليم الدينية تحتوي على نظرةٍ عموديةٍ للإنسان، وتعمل على تعريفه في إطار ارتباطه بالله، ومن هنا يتم التعرّف على الإنسان بوصفه شخصًا ـ مخلوقًا، وأما المرحلة الحديثة فهي مرحلة أصالة الإنسان، وتحوّل النظرة العمودية إلى نظرةٍ أفقيةٍ. وفي هذه الرؤية بدلًا من التعرّف على الإنسان بوصفه شخصًا ـ مخلوقًا، يعرف بوصفه شخصًا ـ فردًا ـ مواطنًا. ففي النموذج الأول يتجلى الإنسان على شاكلة المخلوق الذي يتم توجيهه من الخارج، وتكمن هويته في طاعته لأوامر الخالق ونواهيه، وأما في النموذج الثاني، فقد وصل الإنسان إلى الاستقلال الذاتي، وأضحى هو صاحب القرار بشأن أعماله (أركون، 2003 م، ص 207 ـ 208).

2ـ حرية الإنسان: يرى أركون أن لدى الإنسان ميلًا غريزيًّا إلى الحرية، وأن الإنسان قد خُلق حرًّا، ولا يحق لأحدٍ أن يفرض إرادته على الأخرین (أركون، 2007

(33)

م، ص 237). إن هذه الحرية تشمل الحرية في السلوك، والحرية في التفكير، والحرية في تقرير المصير واختيار الحكومة.

3ـ ارتباط الإنسان بالتاريخ والمجتمع: طبقًا لهذا الأصل يكون الإنسان من صنع المجتمع والتاريخ والآداب والسنن التي تبلورت عبر الزمن، وبالتالي لا يكون الإنسان وحيدًا في ممارساته، بل هناك حضور لمجمل التاريخ والثقافة الماضية في تصرّفاته (خلجي، 1376 هـ ش، ص 282).

وعلى هذا الأساس لن يكون العقل بدوره عقلًا واحدًا، فعلى الرغم من أن العقل موجودٌ عند جميع الناس بوصفه قوّةً إدراكيةً، إلا أنه متعددٌ بعدد أفراد البشر، وهو يختلف باختلاف الثقافات والأساليب التربوية وأنواع البنى الاجتماعية والأطر السياسية والدينية (أركون، 1999 م، ص xiv).

نقدٌ وتقييمٌ

تُعدُّ المباني الأنثروبولوجية من أهم أركان المباني الفكرية لأركون؛ إذ إنّ مبانيه الإبستيمولوجية والأنطولوجية ـ على ما سيأتي ـ قد تبلورت بشكلٍ متناغمٍ مع هذه المباني، وإن آراءه بشأن الوحي والقرآن وكذلك تشخيصه لآفات المجتمعات الإسلامية يقوم على هذا المبنى أيضًا. ومن هنا فإنّ تقييم هذه المباني والاهتمام باللوازم المترتبة عليها تحظى بأهميةٍ بالغةٍ. وفي هذا الجزء من البحث نسعى إلى الإشارة إلى بعض اللوازم الباطلة لهذا المبنى.

1ـ النزعة الإنسانویة ضد الإنسان: في الرؤية الدينية يعتبر الإنسان عين الارتباط والتبعية والافتقار إلى الله. فلو تعرّف شخصٌ على حقيقة نفسه، سيدرك أنه آيةٌ من آيات الله، وكلمةٌ من كلماته، ومن هنا فإن نسيان الإنسان لله يعني في الحقيقة نسيانه لنفسه. قال الله تبارك وتعالى في الآية التاسعة عشرة من

(34)

سورة الحشر: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [1]. وقال العلامة الطباطبائي في تفسير هذه الآية:

«لما كان سبب نسيان النفس نسيان الله تعالى؛ إذ بنسيانه تعالى تنسى أسماؤه الحسنى وصفاته العليا التي ترتبط بها صفات الإنسان الذاتية من الذلة والفقر والحاجة، فيتوهم الإنسان نفسَه مستقلةً في الوجود، ويخيل إليه أن لنفسه حياة وقدرة وعلمًا وسائرَ ما يتراءى له من الكمال بصورةٍ مستقلةٍ» (الطباطبائي، 1417 هـ، ج 19، ص 219 ـ 220).

ومن هذه الزاوية فإن نفي نموذج الشخص ـ المخلوق وإبداله بنموذج الشخص ـ الفرد ـ المواطن، الذي يُثني عليه أركون باستمرار، إنما يعني في الحقيقة إلغاء الإنسان، ويمثل بداية اغترابه عن نفسه، إذ إن الإنسان بنسيانه لله سينسى نفسه أيضًا، وسوف يبحث عن حقيقته في مصنوعاته ومنسوجاته الذهنية أو العملية (بارسانيا، 1389 هـ ش، ص 115 ـ 117).

2ـ الاستبداد بالرأي: إن الاستبداد ـ من الناحية الدينية ـ عبارةٌ عن تحكّم الرغبات الإنسانية، بغضّ النظر عن الهداية والمعرفة الإلهية (المصدر ذاته، ص 30 ـ 31). إن الاستبداد بهذا المعنى يُعتبر نتيجةً حتميةً عن محورية الإنسان، وإذا لم يكن هناك ـ طبقًا لأصل محورية الإنسان ـ أيُّ معيارٍ فوق الإنسان التأريخي، فإننا سنواجه على المستوى العملي أنواعًا من الاستبداد، إذ سيتعيّن علينا أن نتحمل الحرية المنفلتة التي تتحكم فیها الأهواء النفسانية للبشر وما يترتّب على ذلك من الهرج والمرج، أو أن نرضخ لاستبداد الأقلية أو الأكثرية.

(35)

في ظل غياب المعيار الإلهي والميزان العقلي، سوف يجعل كلُّ شخصٍ من رأيه وهواه معيارًا لسلوكه وعمله، وسوف يسعى من خلال الاستبداد بالرأي إلى تثبيت رغباته وترسيخ أهوائه، ولن ينتج عن ذلك سوى الفوضى والاضطراب. وإننا إذا أردنا الفرار من الوضعيه الفوضيه من خلال ترجيح كفة أهواء الأقلية أو الأكثرية، سوف نقع في استبداد الأقلية (الدكتاتورية) أو استبداد الأكثرية (الديمقراطية)، أو أننا تحت ذريعة وجوب أن يخضع المجتمع لضوابطَ وقوانينَ لتنظيم الممارسات، سنضطرّ إلى اعتماد شريعةٍ بشريةٍ قائمةٍ على الاجتهاد التجريبي، كما فعل أركون حيث قام بنفي الشريعة وإبدالها بالاجتهاد التجريبي (ابن عاشور، بلا تاریخ، ص 241).

3ـ نفي الجوانب الثابتة لدى الإنسان: على الرغم من ثبوت أصل تأثير المجتمع والتاريخ في الإنسان بشكلٍ لا يُنكر، ولكن يجب الالتفات إلى أن المبالغة في تظهير دور المجتمع والتاريخ والإنسان، والقول بأنه نتاج المجتمع والتاريخ، سيؤدي إلى نفي الجوانب الإنسانية الثابتة والمشتركة. وفي هذا الشأن لا بدّ الالتفات إلى نقطتين:

النقطة الأولى: إن دور المجتمع لا يفوق تفعيل الاستعدادات والطاقات البشرية (منظومة الإدراكات والآراء والدوافع والتوجهات) وتقوية وتضعيف الخصائص النفسية للإنسان (مصباح اليزدي، 1381 هـ ش، ص 195 ـ 198).

النقطة الثانية: على الرغم من تأثير المجتمع والتاريخ في هذا المقام، هناك على الدوام إمكانية العودة والإعراض عن المقتضيات والشرائط الاجتماعية (بارسانيا، 1392 هـ ش، أ، ص 120).

(36)
المباني الإبستيمولوجية

لا يصنّف أركون نفسه ضمن التيار الحداثوي، ولا ضمن التيار ما بعد الحداثوي، بل يمكن العثور لديه على تعاليمَ من كِلا التيارين، وعلى كلِّ حالٍ فقد كان لفضاء ما بعد الحداثة الذي هيمن على فرنسا في عقد الستينات من القرن العشرين ـ وهي فترة تواجد أركون في باريس ـ الحصة الأكبر من التأثير عليه، حيث يعقد مبانيه الإبستيمولوجية ضمن إطار هذا المناخ. وفي المجموع تعتبر الهوية المستقلة للعقل البشري، وتاريخية العقل، ونسبية الإدراك، وديالكتيكية المعرفة والقدرة، والتعاطي اللغوي والفكري والتاريخي، والعلمانيه الإبستيمولوجية، من بين أهم المباني الإبستيمولوجية لأركون.

1 ـ الهوية المستقلة للعقل البشري: إن من بين الانتقادات التي يوجهها أركون إلى التراث الإسلامي، تكمن في الدور المنفعل للعقل في التعرّف إلى كلمات الله، وتفسير وتبويب وصياغة الشريعة (أركون، 1996 م، ب، ص 41 ـ 42). ومن خلال هذا النقد عمد أركون إلى التأكيد على الهوية المستقلة للعقل البشري.

فقد ذهب إلى الاعتقاد بأن الاستناد إلى الاستدلال وعدم التبعية للمعايير الأخرى ـ بما في ذلك القوى الغيبية ـ يعدّ من المعطيات الهامّة للنزعة العقلية لعصر النهضة، بمعنى ترك مهمة بلورة الأخلاق وقواعد السلوك وتنظيم المجتمع إلى العقل البشري، واعتبار وضع التشريعات وسن القوانين من المسؤوليات البشرية. وقد رأى أن هذا العقل هو نتاجٌ لجهود لوثر[1] وديكارت[2] وسبينوزا[3]،

(37)

وقال بأن الغرب قد تجاوز بهذا العقل مرحلة العقل الأرسطي والنزعة المطلقة للكنيسة، ليدخل في مرحلة النزعة العقلية الكلاسيكيه الحديثة (أركون، بلا تاريخ، ص 316 ـ 317). توضيح ذلك أن الهوية المستقلة للعقل قد بدأها لوثر، وتم تثبيت دعائمها من قبل ديكارت وسبينوزا، لقد آمن لوثر بحق العقل في البحث الحر، وبذلك عمل على زعزعة مكانة العقائد الكنسية، بيد أنه لم يتمكن من الخروج من إطار اللاهوت الوحياني، ولكن بعد استمرار هذه الحركة، تمكن العقل من خلال الحصول على حقوقه من الفصل بين العلم الاستقرائي ـ الذي يبدأ مسار التفكير من الواقعية الخارجية ـ وبين اللاهوت الذي يكتفي بما يقدمه الوحي (أركون، 1996، ب، ص 12).

2ـ تاريخية العقل: لا يُعتبر العقل ـ من وجهة نظر أركون ـ جوهرًا ثابتًا يفوق التاريخية أو يتنصل من قيود التاريخ، بل العقل تاريخيٌّ أيضًا، وله نقطة بدايةٍ ونقطة نهايةٍ (أركون، 2007 م، ص 233؛ أركون، بلا تاريخ، ص 52). لأن العقل يتم توظيفه في إطار مذهبٍ خاص أو دينٍ خاصٍّ، ويقوم على مجموعةٍ معيّنةٍ من المسلَّمات والمرجعيات الثقافية، ويتكثّر بتكثّر هذه المرجعيات والمسلَّمات، ويتبلور على شكل: العقل الصوفي، والعقل المعتزلي، والعقل الإسماعيلي، والعقل الفلسفي، والعقل الحنبلي، والعقل الشيعي وما إلى ذلك من العقول الأخرى (أركون، 2007 م، ص 232 ـ 233).

تمتد رؤية أركون هذه بجذورها في اتجاهاتٍ ما بعد حداثويةٍ أيضًا. ومن هذه الزواية على الرغم من اعتبار العقل قوةً إدراكيةً لدى جميع الناس ـ الأعم من الرجال والنساء ـ ولدى جميع الأديان والمذاهب، إلا أنه في الوقت نفسه يتعدد بعدد أفراد البشر، ويختلف باختلاف الثقافات والمناهج التربوية وأنواع البنى

(38)

الاجتماعية والأطر السياسية والدينية. ومن هذه الناحية يمكن الحديث عن عقلٍ ماركسيٍّ وعقلٍ رشديٍّ وعقلٍ عَلمانيٍّ (أركون، 1999 م، xiv).

كما يبدي أركون اهتمامًا بتأريخية العقل من خلال الفصل والتفكيك بين العقل والتفكير والعلاقة القائمة بين العقل والخيال والذاكرة. إن العقل والخيال والذاكرة من بين القوى التي يعمل التفكير البشري على توظيفها، وبذلك يكون التفكير أعمَّ من العقل. لا يمكن فصل الخيال والذاكرة عن العقل، كما لا يمكن للعقل أن يستغني عنهما. يعمل الخيال من خلال الصور التي يضعها في متناول العقل على إعداد الأرضية المناسبة لنشاط العقل، كما تعمل الذاكرة ـ من خلال اختزانها للمفاهيم والمعارف ـ على توفير الأرضية لعمل وأداء العقل أيضًا.

وحيث تكون المعطيات والأدوات التي يضعها الخيال والذاكرة تحت تصرّف العقل مرتبطة بالتاريخ والمجتمع والثقافة والمعرفة السائدة في كل عصر، فإن العقل من هذه الناحية لن يكون شيئًا مجرّدًا أو شيئًا معلَّقًا في الهواء، بل سيكون عقلًا تاریخيًّا ومقيدًا بثقافة المجتمع والتاریخ والمعرفة الحاكمة عليه. وعلى هذا الأساس لن يكون العقل الإسلاميُّ أمرًا مطلقًا ومجرَّدًا وخارجًا عن إطار الزمان والمكان، بل هو مقترنٌ بشرائطَ وظروفٍ محددةٍ، وبذلك يكون متغيِّرًا ومتحوِّلًا (أركون، 2007 م، ص 232).

3 ـ نسبية الإدراك (تاریخية الإدراك والحقيقة): إنّ الحقيقةَ من وجهة نظر أركون نسبيةٌ ومؤقتةٌ وغيرُ مطلقةٍ ولا أبديةٍ، مهما أمكن أن يكون عمر هذه الحقيقة النسبية والمؤقتة طويلًا في بعض الأحيان. لن يتمكن العقل والعلم من الوصول إلى كنه وحقيقة أيِّ مسألةٍ أو موضوعٍ (أركون، بلا تاريخ، ص 317). وعلى هذا الأساس يذهب أركون ـ تبعًا لفلاسفة ما بعد الحداثة ـ إلى الاعتقاد بعدم

(39)

وجود حقيقةٍ، وإنما نحن نواجه كثرةً من التعابير بشأن الحقيقة، وإن المعرفة لا تعمل على تجسيد حقيقة الأمور.

يعود هذا المبنى الأبستيمولوجي لأركون بجذوره إلى تعاليم ما بعد الحداثة. هذا في حين أن عقل ديكارت وسبينوزا كان يدّعي أنه إذا كان يقوم على أساس الأساليب البرهانية القائمة على مبدأ عدم التناقض، فإن بإمكانه الوصول إلى الحقائق المطلقة والثابتة والأبدية، إلا أنّ النزعة العقلية لما بعد الحداثة قد تخلت عن هذا الادعاء المطلق (المصدر ذاته، ص 315 ـ 315).

4ـ ديالكتيك المعرفة والقدرة: يرى أركون أن هناك بين المعرفة والسلطة علاقةً ديالكتيكيةً، ولا يمكن فصلهما عن بعضهما. وفي الأساس فإن المعنى (المعرفة) والسلطة في مسار الهيمنة والسيطرة متواكبان. فكلما اتسعت رقعة المعنى واشتد ساعدها، ازدادت السلطة قوّةً وبأسًا، والعكس صحيحٌ أيضًا، ومع ذلك ليس بينهما تطابقٌ كاملٌ بطبيعة الحال (أركون، 2001 م، ص 20).

وبذلك تتغلب الفكرة الإيديولوجية في بعض الأحيان بدعمٍ من السلطة السياسية، ومن نماذج ذلك أن المتوكل العباسي تمكن سنة 232 للهجرة ـ من خلال الاعتماد على سلطته السياسية وقوته المتفوّقة ـ من وضع حدٍّ للنزاع والجدل الفكري بين الحنابلة والمعتزلة بعد أن كان قائمًا منذ عهد المأمون. وبذلك فإن السلطة السياسية من خلال إعلانها عن حظر العقلانية الاعتزالية لعبت دورًا في القضاء على فكر المعتزلة، وتثبيت أركان الفكر الحنبلي وتفضيله على سائر العقول الأخرى (أركون، 1999 م، ص xv؛ أركون، 2007 م، ص 235).

5ـ التعاطي بين الفكر واللغة والتاريخ: يرى أركون أنّ هناك تعاطيًا متبادَلًا

(40)

بين الفكر واللغة والتاريخ، بمعنى أن اللغة من ناحية تُعتبر في كلِّ مجتمعٍ تابعًا للخلفيات المعرفیّة والخلفیّات الاجتماعية أيضًا، وتبعًا لارتباطها بالفكر والتاريخ فإنها تخضع للتغيُّر تبعًا لتغيُّر وتطوّر المعارف والأفكار وتحوُّل التاريخ. وهذا التطور يطال المفردات والألفاظ المستعملة في الكلام، كما يطال الأساليب البيانية وتركيب العبارات. ومن ناحيةٍ أخرى فإن الإلزامات والمقتضيات التاريخية تؤثر في توجّهات الفكر وصبّ التفكير في قوالب اللغة. وعليه فنحن لا نستطيع أن ندرس مرحلةً فكريةً في الماضي القريب أو البعيد إذا لم نأخذ بعين الاعتبار وضع اللغة آنذاك وطريقة التعبير السائدة والمفردات المستخدمة، وعلاقة كل ذلك بالزمن ومشروطيتها به. إن نظرة سريعة نلقيها على العصور الثقافية العربية ـ الإسلامية توضّح لنا ذلك. لنأخذ العصر الجاهلي ـ مثلاً ـ ثم العصر الإسلامي الأول والعصر الكلاسيكي الذي تفاعلنا فيه مع اليونان وغيرهم، ثم العصر الأرثوذكسي السكولاستيكي، ثم عصر النهضة الحديثة، فإننا نلاحظ شيوع مفرداتٍ معيَّنةٍ وأساليبَ تعبيرٍ مختلفةٍ من عصرٍ إلى آخرَ (أركون، 1996 م، ب، ص 16).

6ـ العلمانيه الإبستيمولوجية: إن أركون لا يأخذ العلمانية بوصفها أصلًا سياسيًّا بمعنى فصل الدين عن السياسة، ولا بوصفها أصلًا أنطولوجيًّا بمعنى الرؤية الدنيوية إلى العالم ونفي أيِّ نوعٍ من أنواع القداسة، بل يأخذها بوصفها أصلًا أبستيمولوجيًّا ومعرفيًّا.

ومن هذه الزاوية تكون العلمانية قد أُخِذت بوصفها موقفًا في مواجهة مسألة المعرفة والإبستيمولوجيا (أركون، 1996 م، ج، ص 9)، وهي قبل كل شيءٍ مسألةٌ مرتبطةٌ بمعرفة ومسؤولية الروح البشرية، هي: «نزعة الروح ومسارها نحو التوصّل إلى الحقيقة» (المصدر ذاته، ص 10). ومن هنا يجب على الباحث إذا أراد

(41)

التوصّل إلى معرفةٍ تشتمل على موافقة جميع البشر، أن يتجاوز خصائصه الثقافية والتاريخية والدينية، وألّا يعمل ـ عند نقلها إلى الأخرین ـ على تقييد حرياتهم (المصدر ذاته، ص 10 ـ 11).

وعلى هذا الأساس فإن العلمانية تعني التحمّل والتسامح في مقام التحقيق، وإن ذهنية وروح المحقق تسعى ـ بعيدةً عن كل قيدٍ ـ إلى توظيف جميع الإمكانات السياسية ـ الاجتماعية، والأساليب الإبستيمولوجية ـ المعرفیّة والصناعية من أجل الوصول إلى الحقيقة. وبعبارةٍ أخرى: إن العلمانية بهذا المعنى هي عبارةٌ عن التخلي عن الإيديولوجيات (خلجي، 1373 هـ ش، ص 17).

نقدٌ وتقييمٌ

من بين الأصول المطروحة في القسم المتقدّم العلمانية الإبستيمولوجية والمعرفیّة إذا كانت بمعنى العمل على تحصيل الحقيقة، والتسامح وتحمّل الأخرین في مقام التفكير وكذلك عدم تقييد حرية الأخرین في مقام إيصال المعرفة، فهو أمر مقبول ولا غبار عليه، ولكن هناك بعض الملاحظات بشأن أصوله الأخرى، نبيّنها على النحو الآتي:

1ـ القراءة الأركونية للعلاقة بين العقل والوحي: يرى أركون أن الدور الاستقلالي للعقل يعني بلورة الأخلاق وقواعد السلوك وتنظيم المجتمع، ويعتقد بأن سنّ القوانين أو التشريعات من المسؤوليات البشرية (أركون، بلا تاريخ، ص 316). وهذا الفهم لاستقلال العقل يعني الانفصال الكامل والتام عن الوحي، وجعل الإنسان هو المعيار في التقييم، ومن هنا يكون موضع تساؤلٍ من عدّةِ جهاتٍ:

أولاً: إن الإعلان عن الانفصال والانقطاع عن الوحي يتعارض مع جميع الأدلة

(42)

القطعية التي تثبت ضرورة الوحي والنبوّة. فإن الإنسان ـ طبقًا لمختلف البراهين الكلامية والفلسفية والعرفانية والأخلاقية ـ يحتاج إلى الوحي للحصول على العلم بمصالحه الواقعية (صلاح المعاش والمعاد)، والوقوف على الغاية من وجوده المتمثل بلقاء الله سبحانه وتعالى (جوادي آملي، 1388 هـ ش، ص 40 ـ 47).

ثانيًا: إنه يغفل عن حدود العقل والعلم في إدراك حقائق العالم. ومن بين مختلف المصادر المعرفیّة للإنسان، لا يمكن للحس أن يُبيّن أكثر من الظواهر الجزئية والمحدودة بالشرائط الزمانية والمكانية الخاصة، ولا يستطيع لوحده أن يدرك المسائل القيميّة ولا سيما ما يتعلق بسلوك الإنسان وتعامله مع الوجود برمّته وتعاطيه مع السعادة الواقعية. كما لا يمكن للعقل وحده أن يتكفّل بهذه المسؤولية؛ لأن بديهيات العقل محدودةٌ للغاية، ولا يمكن له من هذه الناحية أن يحيط علمًا بجميع العلاقات المعقدة والمتنوّعة للإنسان. وكذلك التعاون بين الحسّ والعقل أيضًا؛ فإنّه وإنْ كان يُوسِّع من دائرة معلومات الإنسان، ولكنه مع ذلك يبقى محدودًا بدائرة المحسوسات فقط. والخلاصة هي أن الحس والعقل عاجزان عن تحديد برنامجٍ دقيقٍ للحياة بحيث يضمنان السعادة والكمال الواقعي للإنسان (مصباح اليزدي، 1384 هـ ش، أ، ص 13 ـ 14).

وعلى هذا الأساس فإنّنا بالإضافة إلى الحسّ والعقل، نحتاج إلى مصدرٍ معرفيٍّ آخرَ، ألا وهو «الوحي». وعليه فإنّ الوحيَ مصدرٌ معرفيٌّ إلهيٌّ يفوق المعرفة العقلية والتجربية، ويقدم لنا معلوماتٍ لا يستطيع الإنسان أن يحصل عليها بأدواته الخاصة[1]. وبالتالي فإن المعرفة الوحيانية ضرورية لجميع العصور، ولها حجيتها واعتبارها (بارسانيا، 1389 هـ ش، ص 316 ـ 317).

(43)

ثالثاً: إن قبول الدور المستقل للعقل لا يعني إنكار الوحي، بل يمكن تفسير العلاقة والارتباط بين العقل والوحي بشكلٍ لا يؤدّي إلى إلغاء العقل ولا إلى إنكار الوحي، بل يمكن الحفاظ على استقلال العقل ويكون في الوقت نفسه متناغمًا ومنسجمًا مع الوحي. ويمكن العثور على هذا النوع من التفسير الوسطي في النظام الإبستيمولوجي والمعرفي للحكمة الإسلامية، ففي هذا التفسير يكون العقل (التجريدي والتجريبي) والوحي مصدريْن معرفييْن مُعتبَريْن، يتم توظيفهما في كشف الحقائق التكوينية والتشريعية للعالم. ومن هذه الزاوية «إذا كان النقل المعتبر هو ما أنزله الله، سيكون العقل البرهاني بدوره هو ما ألهمه الله، وحينها يكون كلا هذين المصدرين من مصادر المعرفة الدينية، ويمثّل كلُّ واحدٍ منهما جناحًا لوصول البشر إلى معرفة الحقائق الدينية» (جوادي آملي، 1386 هـ ش، ب، ص 13).

رابعاً: إن إعطاء وتخويل الإنسان أيَّ نوعٍ من التقييم والتقنين، يَلزم منه إلغاء وإبطال الإرادة التشريعية لله، وإنكار التوحيد التشريعي لله عزّ وجل. ونعلم أن التوحيد في التشريع يمثّل واحدًا من مراتب التوحيد، وإن إنكاره يَحول دون الوصول إلى التوحيد الكامل في الألوهية، وبالتالي سيؤدي إلى نفي الألوهية، بمعنى الخروج من ربقة التوحيد، وهذا الخروج يتنافى مع روح التعاليم الإسلامية (مصباح اليزدي، 1384 هـ ش، ب، ص 54).

2ـ أركون وتاريخية العقل: على الرغم من أن توظيف العقل قد تم في إطار المدارس والمذاهب الخاصة، وهو قائمٌ على مسلمات كل واحد منهما يؤدي إلى نتائج متنوّعة، ويمكن اعتبار ذلك تعدُّدًا بتعدد هذه المرجعيات والمسلّمات، إلا أن هناك على الدوام مستوياتٍ من المعارف لا مناص لكلِّ مدرسةٍ ومذهبٍ وثقافةٍ وتاريخٍ

(44)

منها، وإنّ العقل ـ من حيثُ هو عقلٌ ـ يعمل على تصديقها. إن هذه الطائفة من المعارف هي معارفُ بديهيةٌ يكفي تصوُّر الموضوع والمحمول فيها لتصديقها. فهي أصولٌ من قبيل استحالة اجتماع النقيضين واستحالة ارتفاعهما وما إلى ذلك مما عمد أركون نفسه إلى الاستفادة من بعضها في دراساته (أركون، 1997 م، ص 102 و 128 و 182 و 409). إن هذه المجموعة من المعارف، تمثل المعيار الرئيس للحكم بشأن سائر المعارف غير البديهية. وعلى هذا الأساس فإنّ إمكان الوصول إلى المعارف ما فوق التاريخية وإن كان صعبًا ومعقَّدًا، ولكنه ليس متعذِّرًا أو مستحيلًا.

ولا بد من الالتفات ـ بطبيعة الحال ـ إلى أن هذه الرؤية إلى شأن ومرتبة العقل، إنما يمكن تفسيرها في إطار رؤية الحكمة الإسلامية إلى العلاقة بين العقل والوحي، على ما مرّ بيانه في النقطة السابقة. وعليه فإن اعتبار تفوّق العقل على التاريخ في هذه الرؤية لا يعني تأصيله ذاتيًّا. إن الحكمة الإسلامية من خلال تجنُّبها للإفراط الحداثوي والتفريط ما بعد الحداثوي في دائرة العقل، لا تعتبر العقل تاريخيًّا وثقافيًّا، ولا تعتبره متأصِّلًا على نحوٍ ذاتيٍّ وتلقائيٍّ، وإنّما تسعى إلى أن يكون العقل مُتّصفًا بوجودٍ يفوق التاريخ ويتجاوز الثقافة ويتربع على قمّة الزمان والثقافة، وأن يعمل من خلال الاتضاع للوحي، على نقد وتحليل العالم والإنسان (مدقق، 1395 هـ ش، ص 84).

3ـ عدم الفصل بين الأداء البرهاني للعقل وبين الأداء الجدلي له: عندما يتم توظيف العقل في إطار مسلّماتٍ مذهبٍ أو مدرسةٍ، فإنه إذا لم يعمل على الاستفادة من المقدّمات البيّنة (البديهية) أو المبيّنة (النظرية المبرهنة)، سیكون له أداءٌ جدليٌّ، ولا ينبغي نسبة تنوّع وتكثّر العقل في مقام الجدل إلى ساحة العقل في مقام البرهان. إنّ المغالطة التي يرتكبها أركون ـ تبعًا لعامّة مفكِّري ما بعد الحداثة

(45)

ـ تكمن في انتقال حكم العقل الجدلي إلى العقل البرهاني.

4ـ السفسطة والتشكيك البنيوي: لا يصرّح أركون بالسفسطة، إلا أن مبانيه تستلزم القول بها، ويمكن اعتبار التشكيك البنيوي والسفسطة واحدًا من لوازم وتبعات رؤيته التاريخية. لا سيما وأن أصل نسبية الإدراك والحقيقة، يلازم التشكيك والسفسطة.

وبعبارة أخرى: إن نسبية الإدراك والحقيقة هي ذات السفسطة والتشكيك الخفي. إن التشكيك والسفسطة باطلان بالضرورة وعلى نحوٍ ذاتيٍّ وأوليٍّ (بارسانيا، 1385 هـ ش، ص 89 و 92 و 105 و 107). وحيث يكون التشكيك ملازمًا لمباني نظريات أركون، فإن بطلان التشكيك سوف يُشكّل دليلًا على بطلان مبانيه ونظرياته.

5ـ الإفراط في التأكيد على دور وتأثير المجتمع والتاريخ على المعرفة: يذهب أركون ـ من خلال القول بالديالكتيكية القائمة بين المعرفة والسلطة، وكذلك التعاطي المتبادل بين المعرفة واللغة والتاريخ ـ إلى الاعتقاد بأن المعرفة مُنتَجٌ ومحصولٌ اجتماعيٌّ. وفي هذا الشأن لا بدّ من العلم بأنّ أصل تأثير العناصر الفسيولوجية والنفسية والاجتماعية ـ التاريخية أصلٌ مسلَّمٌ، بيد أن الذي يحظى بالأهمية هو كيفية التأثير وحجمه ومقداره. ويمكن تصوّر تأثير العناصر والخلفیّات الفردية والاجتماعية على عدّةِ أشكالٍ:

أ ـ تأثير الثقافة في المنع من دخول علمٍ في مجتمعٍ أو السعي لإدخاله فیه.

ب ـ تأثير عناصر التحفيز الفردي والاجتماعي في اختيار الموضوعات وانتاج المسائل.

ج ـ تأثير الثقافة والمجتمع في المباني وفي طرح النظريات.

(46)

د ـ توجيه دفّة المعرفة بواسطة القيم والأهداف (بارسانيا، 1390 هـ ش، ص 45 ـ 46).

إن تأثير العوامل والخلفیّات التحفيزية في اختيار الموضوعات وإنتاج المسائل، وكذلك تأثير الثقافة في المنع من دخول علم في المجتمع أو العمل لإدخاله فیه، يمثل تأثيرًا خارجيًّا، وليس هو من قبيل التأثير والتدخل في مضمون العلم ومحتواه.

في ما يتعلق بتأثير الثقافة والمجتمع في مباني المفکّر ونظرياته العلمية، لا بدّ من الإشارة إلى أن المفکّر في مسار العلم لا يكون مجرَّدًا من العوامل والخلفیّات الفردية والاجتماعية، بل إنه يتأثّر بالمجتمع على نحوٍ طبيعيٍّ، حيث يأخذ الكثير من مبانيه من صلب الثقافة، ويقيم نظرياته عليها. إلا أنّ هذا لا يعني أنّ المباني والنظريات مجرّدةٌ عن المجتمع فهو مخالفٌ للحقیقة، والقول بأنّ هذه الأمور ذاتُ هويةٍ تاريخيةٍ بحتةٍ. بل إنّ لهذه الأصول الأولية وكذلك النظريات الناشئة منها، واقعيةً ذاتيةً بغض النظر عن المجتمع، وإنها تُعبّر عن حقيقةٍ، وتتصف بالصدق أو الكذب بلحاظ مطابقتها أو عدم مطابقتها لها، ولها قابلية إصدار الأحكام العلمية (رجبي، 1395 هـ ش، ص 105).

وباختصارٍ فإنّ للعناصر والعوامل والخلفیّات الفسيولوجية والنفسية والاجتماعية دورًا إعداديًّا في المعرفة، فهي تمثّل ظرفًا للظهور والتحقق التاريخي للعلم. وإنّ الدور الإعدادي لهذه المجموعة من المقدمات، لا ينهض دليلًا على اعتبار المعرفة عينَ المقدمات، والتنزل بالمعرفة إلى مستوى مقدماتها (بارسانيا، 1385 هـ ش، ص 93).

كما أنّ تأثير أهداف المجتمع وقيَمه في توجيه دفّة العلوم بدورها ليست من

(47)

نوع تأثير العناصر والعوامل الخارجة عن العلم في العلم؛ لأننا إذا لم نحدد مصادر المعرفة على الحسّ والتجربة فقط ـ وهو ما لا نفعله ـ وأدخلنا العقل والوحي في دائرة المصادر المعرفیّة، سيكون للقيم والأهداف القائمة على العقل والوحي قابلية الحكم أيضًا، وبالتالي سيكون لهما هويةٌ معرفيةٌ. وبذلك سيكون لكلِّ نوعٍ من أنواع التأثير الخارجي أو الداخلي في العلم قابلية التقييم العلمي، وبعد التقييم سيكون تأثيرها من قبيل تأثير العلم في العلم، وبالتالي فإنّ القول بتأثير الثقافة والمجتمع في العلم لا يعني القول بنسبية العلوم والنظريات (رجبي، 1395 هـ ش، ص 106).

المباني الأنطولوجية

في الأنطولوجيا يقع الكلام في وجود العالم أو ما هي الأشياء الموجودة في هذا العالم. وقد تأثّر أركون في ذلك بفلاسفة ما بعد الحداثة من أمثال: میشیل فوكو وجاك دريدا. وفي ما يتعلّق بالمواءمة بين مبانيه المعرفیّة يعبّر عن نوعٍ من الذاتانية[1]. وفي الحقيقة فإنّه إذا تغلّبت الرؤية الذاتانية إلى الوجود لن يبقى من الأنطولوجيا شيٌء يُذكر، وسوف تتدنّى إلى مستوى الأبستيمولوجيا. ومن هنا فإن تقرير الرؤية الذاتانية لأركون تمثل نوعًا من اجترار مُدّعياته المعرفیّة والإبستيمولوجية، وهذا هو السبب الكامن وراء طرح مبانيه الأنطولوجية بعد مبانيه الإبستيمولوجية أيضًا. وفي ما يلي سوف نشير إلى بُعديْن مترابطيْن لهذه الرؤية والفكرة.

1ـ بنائیة الواقعية: إن فكرة الحقيقة تتجسّد دائمًا وفي كلِّ مكانٍ عن طريق

(48)

عمل الفاعلين الاجتماعيين، وهي صدًى للاحتياجات والتحديات والتطلعات الموجودة لدى جماعةٍ من الأقلية أو الأكثرية الحاكمة أو المحكومة. وفي الأساس، ليس هناك من حقيقةٍ غير الحقيقة التي تخصّ الكائن الإنساني المتفرّد والمتشخّص والمنخرط ضمن أوضاعٍ محسوسةٍ قابلةٍ للمعرفة والدرس. إن الحقيقة تظهر لكي تُعلَن وتُنشَر ضمن وسطٍ اجتماعيٍّ ـ تاريخيٍّ يتنافس فيه أناسٌ مختلفون من أجل اقتناص السلطة والسيطرة عليها، ومن أجل السيطرة على الحقيقة الرسمية التي تُسوِّغ مشروعیة هذه السلطة وتُبرّرها (أركون، 1996 م، ب، ص 37 ـ 38). يرى أركون أن اعتبار المفهوم جوهرًا إلهيًّا، وأنّ العالم يصل إليه بتوفيقٍ وتسديدٍ من الله، من أصول الاجتهاد التقليدي الذي لا يُنتج سوى النزعة الدوغمائية[1] والمذهب الحق (الفجاري، 2005 م، ص 37 – 38).

2ـ نفي الذات أو المدلول المتعالي: يعمد أركون إلى نفي كلِّ نوعٍ من أنواع الذات أو الجوهر والبنية المتعالية في عالم المعرفة الإنسانية، ويذهب إلى الاعتقاد بعدم وجود أيِّ حقيقةٍ قصوى من قبيل: العقل والجوهر والنفس وما إلى ذلك، ما يُمكنه أن يشكّل حَجَر الأساس لسائر الأفكار. من وجهة نظر هذه الرؤية لا توجد أيُّ حقيقةٍ مسبقةٍ، وإنّ تعابيرنا هي التي تصنع حقائق العالم. وبعبارةٍ أخرى: إن العالم بالذات لا شكل له ولا معنى، وإنما يتبلور مفهومه ومعناه من خلال العقيدة الغالبة والمسيطرة في كلِّ عصرٍ. إن جميع الحقائق هي من صنع الظروف والمناخات الاجتماعية ـ التاريخية، ومن هنا لا ينبغي لحاظ أفكارٍ من قبيل الجواهر المجرّدة أو الموجودات العقلية المتعالية (خلجي، 1373 هـ ش، ص 68).

(49)

3ـ الاتجاه المعنوي والرمزي: إن الجذور الإسلامية لأركون تمنعه من اتخاذ اتجاهٍ علمانيٍّ خالصٍ من الوجود، ونفي الدائرة القدسية من العالم. فهو يؤمن بنوعٍ من المساحة القدسية للعالم، وبذلك فإنه يحافظ على نوعٍ من المعنوية في الحياة الإنسانية، ولكن لا بد من الالتفات إلى أنه لا يتحمل المرجعية المطلقة والملزمة لله تعالى (أركون، بلا تاريخ، ص 276).

4 ـ مفهوم الإله: على الرغم من إيمان أركون بالله بوصفه أمرًا متعاليًا (المصدر ذاته، ص 277)، وبذلك فإنه يعتقد بإمكانية نوعٍ من المعنوية، ولكنه يرى في الوقت نفسه أن حضور الله تعالى في الوجود ليس على نحوٍ مباشرٍ، وإنما يتم عبر اللغة البشرية وكذلك المؤسسات والأنظمة البشرية وتفسير علماء الدين، فيكون له بذلك تصوُّرٌ وحضورٌ خاصٌّ في المجتمع. إنه في إطار هذه الرؤية البنائیة يذهب إلى الاعتقاد باستحالة الوصول إلى الله بشكلٍ مباشرٍ، بل يجب أن يكون هناك على الدوام واسطةٌ بيننا وبين الله تعالى، وتتمثل تلك الواسطة باللغة والآليات البشرية. وعلى هذا الأساس فإن ما يقوم به البشر هو أن يُقدّموا تصوُّرًا وفهمًا عن الإله بما يتناسب وعصرَهم ويتوقف ذلك ـ بطبيعة الحال ـ على الإمكانات المعرفیّة المتوفرة في عصرهم (المصدر ذاته، ص 276 ـ 277).

وعلى هذا الأساس قال أركون في نقد اللاهوت: «أما التيولوجيا [اللاهوت] فعلى العكس من ذلك [أي بعكس الفلسفة الحديثة] تبحث عن تحديد أسسها عن طريق تركيز الاهتمام على الكائن المطلق اللامحدود: أي الله. ولكنها لا تعترف دائمًا بأن هذا البحث والتحديد كان قد أنجز من قبل الإنسان» (أركون، 1996 م، ب، ص 39).

(50)
نقد وتقييم

كما تقدم أنْ ذكرنا فإنّ الرؤية الأنطولوجية لأركون متأثرةٌ بفلاسفة ما بعد الحداثة، وقد سعى إلى تنظيمها في إطار مبانيه الإبستيمولوجية. ومن هنا تتكرر الانتقادات الواردة على مبانيه الإبستيمولوجية والمعرفیّة بشكلٍ من الأشكال أيضًا، ومع ذلك سوف نسعى إلى طرح انتقاداتٍ من زاويةٍ جديدةٍ.

1ـ تقليل الأنطولوجيا إلى الأبستيمولوجيا: كما سبق أن أشرنا فإنّ أنطولوجوية أركون تأتي كاستمرارٍ لأبستيمولوجيته، وبسبب غلبة الرؤية الذاتانية والبنائیة، لا يبقى شيءٌ من الأنطولوجيا، وسوف تنخفض إلى مستوى الأبستيمولوجيا.

2ـ تنزّل الحقائق المتعالية إلى الظواهر الأسطورية: على الرغم من عدم استيعاب أركون للرؤية الحديثة الجامدة للوجود، وبحثه عن نوعٍ من الصورة المعنوية، إلا أن رؤيته لا تزال بعيدةً عن الرؤية الدينية، فهو يحمل نظرةً أساطيريةً ومُلغِزةً إلى العالم. وفي إطار هذه الرؤية تتحوّل الحقائق المتعالية إلى مفاهيمَ أساطيريةٍ وتمثيليةٍ.

3ـ الترويج للنزعة المعنوية العلمانية والفاقدة للشريعة: إنّ إلغاء المرجعية الملزمة لله تعالى، والحفاظ على المفهوم الأدنى عن الله من أجل ضمان التجربة المعنوية للإنسان، يمثل نوعًا من النزعة المعنوية العلمانية. وقد تمّ تنظيم هذه المعنوية في إطار السعي إلى الخلاص من تفاهة عالم الحداثة وعالم ما بعد الحداثة، ولكنها في الوقت نفسه بعيدةٌ كل البعد عن حقيقة الدين؛ وذلك لأن «الدين مجموعة من العقائد والأخلاق والقوانين والاحکام التشریعیة لإدارة المجتمع الإنساني وتربية أفراد البشر» (جوادي الآملي، 1386 هـ ش، أ، ص 93 ـ 95). إن الدين ـ في ضوء هذا التعريف ـ يعمل على تنظيم الحياة الإنسانية من طريق تقديم التعاليم

(51)

الناظرة إلى الموجودات والمعدومات، وكذلك التعاليم الأخرى الناظرة إلى الضرورات والمحظورات، وإن الدين من دون الشريعة يفقد حقيقته ومعناه.

3- مشروع نقد العقل الإسلامي

بعد الفراغ من البحث في الخلفیّات المعرفیّة وغير المعرفیّة لأفكار أركون، وبعد الالتفات إلى مباني تفكيره، سوف نبحث في هذا الموضع أصل المشروع الفكري لمحمّد أركون. وعلينا في البداية أن نعمل على تحليل تبلور مشروع نقد العقل الإسلامي في ما يرتبط بالخلفیّات غير المعرفیّة لأركون، لننتقل بعد ذلك إلى التعريف بمشروع نقد العقل الإسلامي وأجزائه.

طبقًا للإيضاحات المتقدّمة فإنّ أركون كان من جهةٍ ينظر إلى مثالية الظروف الفرنسية وازدهار الحضارة الغربية، ويرى من جهة أخرى إلى التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الجزائر وعموم المجتمعات العربية والإسلامية. وفي ظل هذه الظروف تبلور أهمُّ سؤالٍ علميٍّ لأركون من خلال مقالة شكيب أرسلان بعنوان: «لماذا تخلف المسلمون، وتقدّم الآخرون؟» (أركون، 2007 م، ص 263). ومن هنا بدأ المشروع الفكري لأركون تحت عنوان نقد العقل الإسلامي.

إنّ أركون في مشروع نقد العقل الإسلامي يعمل ـ طبقًا للتعبير الذي يستعمله ـ على بيان تراجيديا: ما هو سبب ازدهار النزعة العقلانیة والإنسانوية أثناء العصر الكلاسيكي الإسلامي الذي ازدهر على يد مفكرين من أمثال مسكويه وأبي حيان التوحيدي في المجتمعات الإسلامية ـ العربية، ثم انقراضها واختفاؤها، وأفول الفضاء العقلاني والإنساني المفتوح، وانتصار أصحاب النقل والمتألهين، في حين انتصر

(52)

في الغرب العقل العلمي الحديث في القرن السادس عشر للميلاد على العقل الثيولوجي والمسيحي (أركون، 1997 م، ص 10).

وفي الحقيقة فإن أركون يعمل على تعريف هذا المشروع في إطار البحث عن أسباب وعلل انحطاط وتخلُّف العالم الإسلامي، ويسعى من خلال ذلك إلى تقديم تصوّرٍ عن تاريخ العقل والعقلانية في الإسلام، ومسؤوليته في إنتاج المعرفة، كما يعمل في الوقت نفسه من خلال إعادة التفكير في تاريخ الفكر الإسلامي ودراسة أسلوب تبلور تراث الفكر الإسلامي، فيعمل أوّلًا: على إثبات تاريخية التراث الإسلامي، كي يتمكن من خلال ذلك ـ بزعمه ـ من إحياء روح التساؤل والانتقاد في المجتمعات الإسلامية، ويمهّد الأرضية أمام طرح الأفكار الجديدة، ويعمل ثانيًا: من خلال إثبات الإيديولوجيا للأفهام الرسمية للدين، على اقتلاع أساس كل ما يُعتبر ـ بحسب تصوّره ـ حتميةً أو دينًا حقًّا، ويعمل على اجتثاث جذور التحزبات المذهبية والتعصبات المتطرّفة.

وعلى كلِّ حالٍ فإن مشروع فكر أركون هو نقد العقل الإسلامي، وغايته في هذا المشروع تقديم تاريخٍ تطبيقيٍّ للفكر الإسلامي، وكما عبّر عن ذلك بنفسه في مقدمة تاريخية الفكر الإسلامي في وصف مشروعه الفكري، إذ سمّاه: «التاريخ التطبيقي للفكر الإسلامي» (أركون، 1996 م، ب، ص 11). إنه في هذا المسار ومن خلال التخلي عن أسلوب تدوین التاريخ التقليدي والاستشراقي، يحذو حذو طريقة مدرسة الحوليات في التاريخ، ومن خلال توظيف المناهج المتنوّعة في العلوم الإنسانية يعمل على تطبيق مزيجٍ وخلیطٍ من مناهج ما بعد الحداثة على تاريخ المجتمعات الإسلامية والعربية. وقد دعا هذا الأسلوب بـ الإسلاميات التطبيقية.

إنّ أركون في نقد العقل الإسلامي يتخذ من الإسلام والفكر الإسلامي ـ الذي

(53)

تجلّى في مجموعة التراث الإسلامي ـ موضوعًا لدراسته، وقام بنفس ما قام به أتباع مدرسة الحوليات بشأن تاريخ أوروبا، وعمل على تطبيقها بشأن تاريخ الإسلام والتراث الإسلامي. وعلى هذا الأساس فإن الذي تمّ إخضاعه للبحث والدراسة ليس هو الإسلام بوصفه حقيقةً مطلقةً، بل التجسيد التاريخي للإسلام طوال القرون المختلفة، ويسعى الكاتب إلى ردّ الرؤية التي ترى الإسلام مفهومًا يتجاوز التاريخ، ويعرضه ضمن قوالبَ ذاتِ خصائصَ ثابتةٍ وأساسیةٍ، وهو الرأي الذي منح الإسلام ـ بزعم أركون ـ صورةً أسطوريةً وإيديولوجيّةً. ولكي يتّضح مراد أركون من نقد العقل الإسلامي، من المناسب أن نعمل على تحليل المفردات المستعملة في هذا العنوان. وعليه سنواصل هذا البحث عبر تقديم تحليل لهذه الألفاظ والمفردات.

مفهوم العقل الإسلامي

إن مراد أركون من نقد العقل الإسلامي هو نقد الفكر الإسلامي الذي يتجلّى في التراث الإسلامي، و في ضوء ذلک یقوم بدراسة المسارات التي أدّت إلى بلورته. يرى أركون أن العقل الديني يختبئ خلف الصور المختلفة للتراث الإسلامي (أركون، بلا تاريخ، ص 234)، وعليه فمن المنطقيّ أن يتمّ نقد العقل من طريق نقد التراث. وفي الحقيقة فإنّ الذي يقوم به أركون عبارة عن: دراسة وتحليل ذلك الشيء الذي يُعتبر من نتاج العقل في العالم الإسلامي، ويعمل فيه على دراسة أسلوب تبلور الأفكار والتفاسير المتبلورة في العالم الإسلامي. وبما أنّ التفاسير والأفكار المتبلورة حول محور القرآن والإسلام نتاج نشاط العقل في القرآن، فقد عمد أركون إلى دراسة هذه المجموعة من نتاجات العقل تحت عنوان نقد العقل الإسلامي.

ومن ناحية أخرى فإنّ العقل في المنهج الفكري لأركون تاريخيٌّ ومتكثِّرٌ، بمعنى

(54)

أنّه يعمل في إطار المدارس والمذاهب المختلفة ويقوم على مجموعةٍ معيّنةٍ من المسلَّمات والمرجعيات الثقافية. إذًا يمكن الكلام عن تبلور العقل والقیام بدراسته. ومن هنا فإنّ الذي يريده أركون من العقل الإسلامي هو العقل التاريخي الذي تبلور في العالم الإسلامي، ويعمل في إطار مجموعةٍ من المسلّمات على تفسير وتأويل القرآن. ويرى أركون أنّ جميع أدبيات التفسير والفكر الإسلامي قد أنتجتها العقول المتكثرة والتاريخية (أركون، 2007 م، ص 222 ـ 227).

وعليه فإنّ الذي يقوم به أركون هو نقد العقلانية التي هي من نتاج هذه العقول المتكثرة والمتغيّرة: العقل الشيعي، والعقل المعتزلي، والعقل الأشعري، والعقل الفلسفي، والعقل العرفاني وما إلى ذلك من العقول الأخرى. وفي هذه الحالة يَرِد السؤال الآتي: إذا كانت العقولُ متعددةً ومتكثرةً، فلِمَ لم يعمد أركون إلى بحث ودراسة مسار تبلور كلِّ واحدٍ منها بشكلٍ مستقلٍّ، وَوَضَع الجميع ضمن عنوان واحد هو العقل الإسلامي؟

يرى أركون أن هذا العقل من حيث استناده إلى مرجعياتٍ وثقافاتٍ حاکمةٍ متعددةٍ، يكون متعددًا ومختلفًا، بيد أن هذه العقول المتشتتة تتعلق من الناحية الإبستيمولوجية والمعرفیّة بـ منظومةٍ معرفيةٍ أو الإبستيمية[1] على حد تعبير میشیل فوكو، وهي تشتمل على الكثير من العناصر المشتركة، ويمكن أن نذكر منها:

1ـ الاعتقاد بأن العقل هبةٌ إلهيةٌ، وكونه متطابقًا مع الوحي مسبقًا، وبالتالي ضرورة خضوع العقل للوحي (أركون، 2009 م، ص 79 ـ 80)[2].

(55)

2ـ القبول بزعامة كبار العلماء ورؤساء المدارس والمذاهب الإسلامية المختلفة والقول بضرورة احترامهم وإطاعتهم.

3ـ قيام العقول الإسلامية على تصوّرٍ محدودٍ للعالم يعود إلى العصور الوسطى، بمعنى القيام بتحقيقاتٍ قائمةٍ على الفلكيات التقليدية والتجريدية قبل غاليلي[1] (أركون، 2007 م، ص 227 ـ 230).

مفهوم النقد

إن مراد أركون من النقد في مشروع نقد العقل الإسلامي ليس هو العمل على إسقاط العقل الإسلامي من الاعتبار والدعوة إلى التشكيك فيه، وإنما مراده هو الكشف التاريخي عن كيفية تبلور هذا العقل التاريخي وكيفية نشاطه وتأثيره في المجتمعات العربية والإسلامية، منذ تبلوره وحتى هذه اللحظة (أركون، بلا تاريخ، ص 274).

إنه يبحث عن الظروف التي تبلور العقل والفكر الإسلامي ضمنها، وأصبح ناشطًا في إطارها. كما يسعى أركون ـ من خلال دراسته لكيفية تبلور العقل الإسلامي ـ إلى إثبات أن العقلانية التي تبلورت في تاريخ الإسلام ليست أمرًا مطلقًا وخارجًا عن الزمان والمكان، بل هي ناشئةٌ ضمن ظروفٍ محدّدةٍ ومعيّنةٍ تمامًا، وعلى هذا الأساس هناك إمكانيةٌ لتبلور عقلانيةٍ جديدةٍ.

بالالتفات إلى التحليل الذي قدّمناه عن مفهوم العقل الإسلامي والنقد، تتّضح صورة مشروع نقد العقل الإسلامي. فكما سعى فرانسوا فوريه إلى الوصول إلى فهمٍ عميقٍ ومختلِفٍ بشأن الحادثة التاريخية للثورة الفرنسية من خلال البحث

(56)

النقدي للأدبيات التاريخية المنتجة حول هذه الثورة، سعى أركون بدوره إلى القيام بتكرار هذه العملية حول الحادثة التاريخية لظهور الإسلام والقرآن أيضًا، والعمل على إعادة قراءةٍ واسعةٍ وناقدةٍ بشأن جميع التراث الإسلامي منذ ظهور القرآن والإسلام إلى يومنا هذا (أركون، بلا تاريخ، ص 283).

وفي الحقيقة فإن نقد العقل الإسلامي لأركون مشروعٌ تاريخيٌّ وأنثروبولوجيٌّ يهتم بدراسة بنية العقل الديني وأسلوب نشاطه وآلياته (أركون، 1999 م، ص xvi.,xvii). كما يبحث هذا المشروع في اللوازم النظرية الحاكمة على قراءة القرآن، ودراسة الآليات العقلية التي أدّت إلى إنتاج الأنظمة الدينية والعقائدية المتنوّعة، ويبحث كذلك في الآليات الاجتماعية التي تعمل على توظيف الأنظمة العقائدية من أجل الوصول إلى المقاصد السلطوية (أركون، 2007 م، ص 99). وبعبارةٍ أخرى: إنّ نقد العقل الإسلامي عبارةٌ عن دراسة كيفية ظهور المدارس والمذاهب الإسلامية في العصر القديم ومسار تحوُّلها منذ ظهورها إلى يومنا هذا، وقراءة الآليات المشتركة وغير المشتركة بين الأمر اللاهوتي والأمر السياسي وتأثير كلِّ واحدٍ منهما على الآخر (المصدر ذاته، ص 294).

4 - نقد ودراسة أهم نظريات محمّد أركون في مشروع نقد العقل الإسلامي يبدو أن أركون حین قام بِسَبر أغوار مشروع نقد العقل الإسلامي قام بعرض آرائه بشكلين، أحدُهما إيجابيٌّ والآخرُ سلبيٌّ، بمعنى أنّه يسعى في بداية الأمر إلى بيان الوضع القائم ويعمل على بيان آفات هذا الوضع، وهو يشتمل على موضوعاتٍ ومسائلَ من قبيل: الدوغمائية، وانعدام حرية التفكير، وانتشار أنواع الإيديولوجيَات المتطرّفة التي تتبنى العنف، والتوظيف الإيديولوجي والسياسي للإسلام وما إلى ذلك. وبعد بيان الآفات وتحديد إشکالیات العالم الإسلامي، سعى إثباتًا ـ بزعمه ـ

(57)

إلى إعادة قراءة تاريخ الفكر الإسلامي لتجاور الظروف الراهنة، وعمل على إثبات تاريخية الإسلام واستحالة وجود قراءةٍ غيرِ تاريخيةٍ للإسلام. يحاول أركون من خلال ذلك أن يعمل ـ بزعمه ـ على اجتثاث جذور التطرّف والراديكالية في العالم الإسلامي، وتجفيف مصادر الجمود الفكري والعقل الإسلامي والإيمان الأرثوذكسي. وقد طوى هذا المسار معتمدًا على أسلوب الإسلاميات التطبيقية، وبعبارةٍ أخرى: إنّ الإسلاميات التطبيقية تمثّل منهجًا له في إعادة قراءة الفكر الإسلامي. وعلى هذا الأساس يمكن متابعة نظريات أركون من خلال العناوين الآتية:

ـ رأي أركون بشأن الوضع الراهن لعالم الإسلام.

ـ منهج «الإسلاميات التطبيقية».

ـ القراءة الأركونية لتاريخ الفكر الإسلامي.

رأي أركون بشأن الوضع الراهن لعالم الإسلام

إن للبُعد السلبي في تفكير أركون أو معرفته لآفات الوضع القائم في عالم الإسلام، دورًا رئيسًا في الأبعاد الإيجابية لتفكيره. كما تقدّم أن أشرنا فإن الجوانب الإيجابية من تفكيره تقصد إلى حل المعضلات القائمة في العالم الإسلامي. وإنّ أهمَّ الآفات التي تنبّه أركون إلى وجودها في عالم الإسلام، عبارةٌ عن: التخلف، والدوغمائية، وانعدام حرية التفكير، وإلغاء وتعطيل العقل البشري، وانتشار أنواع الإيديولوجيات المتطرّفة، ودولنة الدين والتوظيف الإيديولوجي للإسلام، وتقديس التراث الإسلامي بوصفه أمرًا متعاليًا، وهيمنة الأنظمة العقائدية الأرثوذكسية، والاعتقاد بوجود الثنوية[1] بين الإسلام والغرب.

(58)

1 ـ أنواع التخلف الحضاري في عالم الإسلام: إنّ التخلف الحضاري في مختلف الحقول الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية، حقيقة شاهدها أركون بشكلٍ واضحٍ وعن كثبٍ. وكما سبق أن ذكرنا فإن مشروع أركون قد انبثق عن هذه المشاهدات الميدانية، وبذلك فقد شكّل السؤال عن أسباب هذا التخلّف الاشکالیة الاساسیة لدراساته وأبحاثه وتحقيقاته.

يرى أركون أن المجتمعات الإسلامية من الناحية الحضارية ـ بشكلٍ عامٍّ ـ تسير القهقرى، فهي ترجع إلى الوراء بدلًا من التقدم نحو الأمام (أركون، 1997 م، ص 11 و 41 ـ 42). قال أركون في معرض مقارنته بين تخلف الجزائر والتقدم الحضاري في فرنسا، والاعتراف بوجود البون الشاسع بين الحضارة الغربية والعالم الإسلامي: «كنت أنظر وأرى إلى المسافة الشاسعة التي تفصل بين تطوّر فرنسا وتخلّف الجزائر على الأصعدة كافّةً؛ فالمجتمع الجزائري كان خاضعًا ـ آنذاك ـ للنزعة السكولاستية المدرسية التكرارية والعقيمة، هذا في حين أنّ فرنسا ـ والحضارة الغربية بشكلٍ عامٍّ ـ كانت مزهوّةً بنفسها، ومعتدّةً بقوتها وحداثتها» (أركون، 2007 م، ص 263).

يرى أركون أن المجتمع الإسلامي يعاني من إنقطاعین من الناحية التاريخية ـ الحضارية، وهما:

1 ـ الانقطاع عن تاريخ الإسلام الساطع في المرحلة الكلاسيكية.

2 ـ الانقطاع عن أوروبا الحديثة وسطوع نجمها منذ القرن السادس عشر للميلاد (أركون، 1996 م، ب، ص 169 و 180 ـ 181). وللخروج من هذا الوضع أكد أركون على ضرورة العبور التدريجي (لا الدفعي) من جميع المراحل التي

(59)

قطعتها أوروبا منذ بداية عصر النهضة والإصلاح الديني إلى هذه اللحظة (أركون، 2001 م، ص 197).

ويبدو ـ بطبيعة الحال ـ أن أركون من خلال دعوته إلى السیر في الطريق الذي سلكته أوروبا في تطورها، لا يدعو إلى تقليد الغرب بشكلٍ أعمى، بل یعتقد نظرًا لوجود الاختلاف التاریخي بین المجتمعات الإسلامیة والمجتمعات الأروبیة لا بد  لنا أن  نسلک الطریق الذي سلکته أروبا، ولكن من الواضح أن ذلك يجب أن يتمّ بواسطة خطواتنا وأقدامنا وبشكلٍ يتناسب مع ظروفنا الاجتماعية والسياسية والتاريخية. فعلى سبيل المثال: على الرغم من أننا سوف نسعى إلى العلمانية، إلا أننا لا نروم الوصول إلى علمانية تحمل جميع الخصائص الفرنسية بما فيها من نواقص ونقاط الضعف الكثيرة التي تعاني منها، بل يجب علينا أن نوجد لأنفسنا علمانيةً تنسجم مع ظروفنا التاريخية (أركون، بلا تاريخٍ، ص 210 و 308).

2 ـ عدم استقلال العقل البشري وعدم الاستفادة منه: تكمن المشكلة الرئيسة للعالم الإسلامي في عدم استقلالية العقل البشري، بمعنى أن العقل في الفكر العربي ـ الإسلامي لا يعمل إلا في إطار القرآن والسنة، وليس بشكلٍ مستقلٍّ، وعليه فإنّ العقل لا يلعب دورًا غيرَ الدور الانفعالي والسلبي (أركون، 2009 م، ص 79 ـ 80). وبعبارةٍ أخرى: إنّ دور العقل قد تدنّى إلى حدود معرفة كلمات الله في القرآن، وتوضيح وتبويب وتقسيم الشريعة لا أكثر، فلیس له أيُّ دورٍ مستقلٍّ في الفهم والمعرفة (أركون، 1996 م، ب، ص 41 ـ 42).

يُضاف إلى ذلك أنه من بين انتقادات أركون للتراث الإسلامي هو أنّ دورَ العقل في الأبحاث الأخلاقية والتشريعية مفقودٌ. يزعم أركون أن التيارات الإسلامية تستند إلى الآية: «إن الحكم إلا للّه»(الأنعام: 57؛ يوسف: 40، 67) في حصر حق التشريع

(60)

وسن القوانين بالله عزّ وجل. ومن هذه الزاوية يقوم الله سبحانه وتعالى بإبلاغ أحكامه إلى الناس بواسطة النبي، ويتكفل علم أصول الفقه بإحراز الأحكام الإلهية، وبالتالي لا يملك العقل بعد النبي حق التشريع وسنّ القوانين، وليس له من دورٍ سوى إدراك وفهم النصوص الدينية والمصالح والمفاسد من خلال الأحكام الإلهية. كما أنهم يعتقدون بأن الوصول إلى الحقائق المطلقة لا يتمّ إلا من طريق القرآن والحديث النبوي، وقد تم نقل هذين المصدرين بواسطة الصحابة، وبذلك تكون عندهم الحقائق المطلقة. وعلى هذا الأساس فإنهم يحصرون الحقيقة المطلقة في جيل الصحابة. كما يعتقد أن الحياة الدنيوية للمؤمنين تتشكّل على يد فقهاء أهل السنة وأئمة الشيعة، حيث يتمّ تنظيمها على أساس القرآن والسنة (المصدر أعلاه، ص 148 ـ 149).

ومع ذلك فإنّ من بين المؤشرات على عدم توظيف العقل البشري، ترجيح العلوم الدينية على العلوم العقلية، وتهميش الفلسفة وتاريخ الفلسفة في التفكير الإسلامي، ولا سيما غياب ذلك عند أهل السنة (المصدر ذاته، ص 129)، إلى الحدّ الذي يصل إلى غياب حتى تاريخ الفلسفة العربية والإسلامية في مدارس وجامعات العالم الإسلامي. حيث يتمّ اعتبار العلوم العقلية علومًا غريبةً ومستوردةً، وفي كلِّ واحدٍ من الفرق الإسلامية، تعتبر العلوم الدينية المنسوبة إلى تلك الفرقة هي المتقدمة على العلوم العقلية (أركون، 1999 م، ص x). وإنّ من المؤشرات الأخرى على تعطيل العقل ـ من وجهة نظر أركون ـ عدم السماح بتطبيق الأساليب اللغوية والمعرفیّة والأنثروبولوجية الحديثة على التراث الإسلامي (أركون، 2009 م، ص 80).

3ـ الدوغمائية وعدم حرية التفكير: إن المشكلة الأخرى القائمة في هذه

(61)

المجتمعات، تكمن في سيادة الفضاء المغلق، وغياب الحرية الفكرية، وهيمنة الجمود الفكري الذي تلبّدت غيومه على طول التاريخ (المصدر ذاته، ص 346). إن أركون يرى عدم وجود الحرية في المجتمعات الإسلامية من الخطورة بحيث يعتقد بأن هذه المجتمعات تفتقر إلى أبسط الحريات (المصدر ذاته، ص 57). إنه يرى أنّ غياب الاتجاه النقدي بشأن التراث الإسلامي، ووضعه في إطار اللّامفکَّر فیه بل واعتباره تراثًا متعاليًا ومقدَّسًا، خيرُ شاهدٍ على غياب الحرية الفكرية (أركون، 1996 م، أ، ص 51 ـ 54).

يرى أركون أن تقديس التراث الإسلامي برمّته، يُعدُّ من بين خصائص التيارات المتطرّفة والأصولية بزعمه. يرى أركون أن هذه التيارات تعتقد أن التراث الإسلامي ـ الشامل للنصوص الوحيانية وتعاليم الأنبياء وكذلك الكتب الفقهية والتفسيرية وما إلى ذلك ـ هي بأجمعها من الأمور المتعالية والمقدّسة والخارجة عن نطاق التاریخ، وإن كل ما فيها يعود بجذوره إلى الحقائق المطلقة والمقدّسة (أركون، 2005 م، ص 44). وهذا الأمر هو الذي يحول دون القيام بدراساتٍ نقديةٍ جادّةٍ، وبالتالي فإنّ المجتمعات الإسلامية خلافًا للمجتمعات الأوروبية التي أخضعت التوراة والإنجيل إلى مبضع النقد والتشريح ولا تزال تشهد غيابًا لهذه الدراسات بشأن القرآن (المصدر ذاته، ص 20؛ أركون، 2009 م، ص 284).

إن عدم وجود المناظرات العلمية في المجتمعات الحالية بدوره يُعدّ من المؤشرات الأخرى على انغلاق هذه المجتمعات، هذا في حين أن المفکّرين المتقدمين من أمثال: ابن رشد والغزالي كانوا يؤكدون على البحث العلمي الحر والتبعية للاستدلال والاحتجاج (أركون، 1999 م، ص iii). في المرحلة الراهنة تحول التيارات المتطرفة والأصولية دون قيام المتنورين بالبحث العلمي الحر (أركون، 2009 م، ص

(62)

80). إنه يرى أنّ عدم وجود حرية التفكير في العالم الإسلامي بلغ حدًّا کبیرًا بحيث اضطر عند تعريب كتابه «نقد العقل الإسلامي» ـ الذي كتبه أول الأمر باللغة الفرنسية ـ إلى غضّ النظر عن عنوان الكتاب، وإبداله بعنوان آخر هو «تاريخية العقل العربي الإسلامي» (أركون، 1999 م، ص xiii.xii). كما أن تضخّم المسائل التي لم یتمّم التفكير فيها، وممنوعٌ التفكير فيها، يُعبّر عن التخلّف في المجتمعات الإسلامية (أركون، 2001 م، ص 44).

4 ـ التوظيف الإيديولوجي والسياسي للإسلام ودولنته: إنّ الإيدولوجيَا عبارةٌ عن أفکارٍ مختارةٍ، والهدف من إظهارها ليس هو تحفيز ذهن وفكر المخاطب، وإنما هو إثارة الطاقات الاجتماعية في إطار الأهداف المحدّدة مسبقًا من قبل جماعة بعينها (أركون، 1996 م، ب، ص 212). إن المراد من التوظيف الإيديولوجي للإسلام هو تفسير الإسلام في إطار مصلحةِ جماعةٍ خاصةٍ، وهذا يعدّ من وجهة نظر أركون واحدًا من المعضلات التي كانت ولا تزال موجودةً في العالم الإسلامي منذ العصور الغابرة وحتى هذه اللحظة. ومن هنا فإنه يرى في تخليص الإسلام من مخالب وبراثن هذا النوع من التوظيف الإيديولوجي واحدًا من أهدافه ومبادئه (أركون، 1996 م، أ، ص 229).

يرى أركون أن هذا النوع من التفاسير الأيديولوجيّة للإسلام، يُعدُّ واحدًا من الأدلة والمؤشرات على ركود الحضارة الإسلامية (روشن وآذرمند، 1393 هـ ش، ص 76). وإنه في إطار بيان معارضته لهذا النوع من القراءات للإسلام الذي يعتبره نوعًا من استغلال الدين وإساءة الاستفادة منه، يعمل على التمييز بين ثلاثة أنواعٍ من الإسلام:

1 ـ الإسلام المتمحور حول الشريعة والذي هو نتاج قراءة الفقهاء، وعلى حد تعبير أركون: إسلام المتصدين للدين، وأصحاب القراءة الأرثوذكسية للدين.

(63)

2 ـ الإسلام الأصولي الذي بدأ ـ بحسب اعتقاده ـ منذ سبعينيات القرن الماضي (القرن العشرون للميلاد)، ولا سيما بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران.

3 ـ الإسلام المتمحور حول المعنويات الفاقد للشعائر والضرورات والمحظورات. وهو على المستوى الشخصي يفضل الإسلام بمعناه الأخير، معتبرًا إياه بمنزلة إحدى الطرق في تجربة الأمر الإلهي (أركون، 2009 م، ص 276 ـ 282).

5 ـ الهيمنة الأيديولوجية المتطرفة: إن الخطاب الفکري الإسلامي الحاكم والمهيمن على العالم الإسلامي حاليًّا ـ من وجهة نظر أركون ـ هو خطاب الإسلام السياسي والذي يمتلك القدرة على التحشيد السياسي وتعبئة الناس جماهيريًّا كذلك (أركون، 1996 م، أ، ص 17). ومن وجهة نظره فإن هذا الإسلام هو الإسلام الأصولي المتطرّف والجهادي الذي يتصف في الغالب بالأبعاد الأسطورية والإيديولوجية (أركون، 2009 م، ص 282). كما أنه يرى في وجود هذه التيارات عقبةً تحول دون تبلور التنمية الإنسانية في المجتمعات الإسلامية (أركون، 1997 م، ص 20).

إن أركون لا يبحث عن جذور هذه التيارات الأصولية والإيديولوجية المتطرّفة في ذات الإسلام، وإنما يبحث عنها في الغالب في عواملَ سكانيةٍ واجتماعيةٍ (ارتفاع عدد السكان)، واقتصاديةٍ وسياسيةٍ بالإضافة إلى الضغوط الخارجية. وبعبارةٍ أخرى: إن تراكم المعضلات والعقبات الاجتماعية يؤدي إلى التطرّف في الدين، وتعمل الحركات الإسلامية على توظيف الدين على نحوٍ إيديولوجيٍّ، ولا تراه أمرًا روحانيًّا، وبذلك يتبلور نوعٌ من الإسلام الجماهيري الذي يسعى إلى الثأر والانتقام (أركون، بلا تاريخ، ص 294 ـ 295).

وعلى أيِّ حالٍ فإنه يرى أن وجود التيارات المتطرّفة يمثّل إحدى الظواهر

(64)

الشائعة في العالم الإسلامي، ويعزوه إلى القراءة الأرثوذكسية للإسلام، وينسبه إلى المسؤولين ورجال الدين، وهم بزعمه یجهلون تمامًا مناهج البحث الجدیدة في الدین. يذهب أركون إلى الاعتقاد بأن الإسلام الأرثوذكسي يعمل على نشر الجهل عبر أدواته ومناخاته التعليمية، من قبيل: المساجد وخطب الجمعة بشكلٍ منهجيٍّ ومنظَّمٍ (أركون، 2009 م، ص 248 ـ 269).

ولا بد من الالتفات ـ بطبيعة الحال ـ إلى أن أركون لا يرى العنف والتطرف خاصًّا بالمجتمعات الإسلامية فقط، بل يرى أن العنف والتطرف ظاهرةٌ عامةٌ وأنثروبولوجيةٌ بحسب المصطلح، ويمكن العثور عليها في جميع المجتمعات بما في ذلك العلمانية منها (أركون، 1997 م، ص 37 ـ 38؛ أركون، 2009 م، ص 48). یبحث أركون ظاهرة العنف والتطرّف في إطار مثلَّثٍ مؤلَّفٍ من العنف / التقديس / الحقيقة، ويذهب إلى الاعتقاد بأن هذه الأضلاع الثلاثة لها تأثيرٌ متبادلٌ على بعضها، فمن جهةٍ تعمل الحقيقة والتقديس على تبرير العنف والتطرّف، وتضفيان الشرعية عليهما، ومن ناحية أخرى يعتبر العنف بمنزلة الأدات المشروعة للحفاظ على الحقائق المطلقة والمقدّسة (أركون، 2009 م، ص 51 ـ 57). يؤكد أركون ـ من خلال تحليله الإبستيمولوجي ـ على دور الاعتقاد والإيمان بالحقيقة المطلقة وكذلك الأمر المقدّس في إنتاج العنف. كما يذهب إلى الاعتقاد بأن الإيمان بوجود الحقيقة المطلقة والأمر المقدّس يَحُول دون الحياة الآمنة والتعايش السلمي؛ لأن الإيمان بالحقيقة المطلقة والأمر المقدّس يؤدّي بالمؤمن إلى احتكار الحق لنفسه وإلغاء الآخر. ولكي يعدّ الأرضية إلى تقبّل الآخر، يعمل أركون على تقويض احتكار الحقيقة وطرح نوعٍ من التعددية من خلال القول بـ «النسبية» و «نفي الحقيقة» في سبیل عبور تيار ما بعد الحداثة.

(65)

يذهب أركون إلى الاعتقاد بأن الحقيقة من وجهة نظر عقلانية ما بعد الحداثة لا هي مطلقةٌ ولا أبديةٌ، بل هي نسبيةٌ ومؤقَّتةٌ، وإن العقل والعلم لا يصل إلى أيِّ حقيقةٍ مطلقةٍ (أركون، بلا تاريخ، ص 317). إننا أمام تكثُّرٍ وتعدّدٍ للمعاني والتعابير بشأن الحقيقة التي تبلورت في ظل الخطابات الفکریة المسيطرة في كل عصرٍ وفي جدليةٍ وديالكتيكيةٍ مع السلطة (خلجي، ص 1376 هـ ش، ص 68؛ أركون، 2001 م، ص 20).

وفي هذا الإطار يتم تفسير التعايش السلمي بوصفه قائمًا على نفي الحقيقة المطلقة وإنكار وجود معيارٍ للحكم والفصل بين الحق والباطل. وعلى هذا الأساس تُعتبر الأديان والمذاهب المختلفة تعابيرَ متنوّعةً للحقيقة الدينية، ولا يمكن ترجيحُ كفة أيٍّ منها على الأخری، ولا يمكن للمؤمنين والمعتقدين بأيِّ دينٍ أو مذهبٍ أن يدّعوا وصولهم إلى الحقيقة أو أن يحتكروها لأنفسهم ويرموا الأخرین بالضلال والانحراف، ناهيك عن ممارسة العنف ضدّهم. وعلى هذه الشاكلة ينتقل أركون من القيمة المتكافئة للأفكار المختلفة وكذلك الأديان والمذاهب المتعددة، ليصل إلى ضرورة التعايش السلمي والمداراة الاجتماعية.

6ـ الثنويّة بين الغرب والإسلام: إنّ اعتبار الثنوية بين الإسلام والغرب والتصوّرات الخاطئة لكلِّ واحدٍ منهما تجاه الآخر، مشكلةٌ أخرى يزعم أركون أنه قد عمل على تشخيصها في المجتمعات الإسلامية. فمن جهةٍ يعمل الغرب على توظيف واستثمار العنف القائم في العالم الإسلامي لغاياتٍ انتخابيةٍ، ومن ناحية أخرى هناك في العالم الإسلامي سوءُ فهمٍ عميقٌ لـ العلمانية والعقل التنويري، وقد تفاقمت هذه المشكلة بشكلٍ خاصٍّ بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وقضية سلمان رشدي، وحظر الحجاب في فرنسا (أركون، 1999 م، ص xiii, xii).

(66)
تحليل وتقييم

في مقام تلخيص رؤية أركون إلى معضلات العالم الإسلامي، يجب القول: إنّ المشاكل التي يُعدّدها تُعبّر عن أزمةٍ في حقل التفكير والتنظير، ويغلب عليها الطابع الفكري ـ الثقافي، أكثر من الطابع السياسي ـ الاقتصادي. وبعبارةٍ أوضحَ: على الرغم من مشاهدة أركون للتخلف الاقتصادي ـ السياسي ـ الاجتماعي، واعتبار ذلك نقطةَ انطلاقٍ له، إلا أنه عند البحث عن جذور هذا التخلف يصل إلى أزمات الفكر والتنظير، ولذلك لا يُبدي اهتمامًا كبيرًا بالأسباب والعناصر الخارجية ودورها في تخلّف العالم الإسلامي ومعضلاته. وهذا لا يعني أنّه يُغفل تمامًا عن دور العناصر الخارجية في هذا الشأن، ولكنه لا يهتمّ بها كثيرًا. ويكتفي في تحليل تبلور الأصولية بالإشارة إلى دور الغرب في إثارة واستفزاز العالم الإسلامي، والتعريف به بوصفه محور الشرّ والوحشية (أركون، 2011 م، ص 118 ـ 119). كما يذهب إلى الاعتقاد بأن بعض التيارات والجماعات المتطرّفة والجهادية يتم توجيهها وقيادة دفتها من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها التقليدية ممثَّلةً بالمملكة العربية السعودية (أركون، 2009 م، ص 56).

وبالإضافة إلى الاهتمام بالنقطة المذکورة أعلاه بشأن تشخيص أركون للآفات، إلا أن بعض أبحاثه في هذا الحقل قابلةٌ للنقد، وفي ما يلي نبيّن هذه الأبحاث أو المواضع، وذلك على النحو الآتي:

1 ـ نفي الحقيقة والقداسة لضمان التعايش السلمي: لقد سعى أركون ـ من خلال تصوّره أنّ الإيمان بالحقيقة والقداسة يلازم القول باحتكار الحقّ، وبالتالي عدم تحمّل واستيعاب الـ آخر ـ إلى إعداد نوع من التعددية بواسطة النزعة النسبية ونفي الحقيقة. بيد أن الطريق الوحيد لتوجيه التعددية لا يكمن في

(67)

التشبّث بـ نسبية الحقيقة فقط، بل يمكن ضمانها من طريق القول بـ محدودية المعرفة البشرية أيضًا. وعلى أساس هذا المبنى حيث تكون المعرفةُ محدودةً فإن الأفكار في الوقت الذي لا تتمتع بقيمةٍ متكافئةٍ، فإنها تتكثّر وتتعدّد بشكلٍ عَرَضيٍّ[1] وطوليٍّ[2] ومتقابلٍ[3]، وتكون المداراة الاجتماعية بسبب محدودية الفهم والمعرفة البشرية، واحتمال عروض الخطأ فيها، وليس بسبب نسبية الحقيقة وإنكار المعرفة اليقينية (بارسانيا، 1381 هـ ش، ص 71 ـ 72).

2 ـ عدم الفصل بين السياسة الدينية والدين السياسي: إنّ التعاطي بين الدين والسياسة يمكن تصوّره على إحدى صيغتين، وهما:

أ ـ صيغة السياسة الدينية.

2 ـ صيغة الدين السياسي.

إن إحدى الانتقادات التي يمكن طرحها بشأن رؤية أركون في حقل تشخيص آفات المجتمعات الإسلامية، تكمن في عدم فصله النظريّ بين هاتين الصیغتين، وكذلك الخلط بينهما في مقام التطبيق.

وفي صيغة السياسة الدينية لا يكون فقط الدينُ والسياسةُ منبثقَيْن من قناتين

(68)

مختلفتين لا تلتقيان، بل السياسة هنا ترشح من الدين، ويكون الدين هنا معيارًا للسياسة. ومن مواصفات هذه السياسة وعلاماتها البارزة امتزاجها بالأخلاق، وتبلور هذه الأخلاق في سلوك وأداء الحكام ومحورية الدين في برنامجهم. وفي هذه الصيغة لا يريد الناسُ الدينَ في الدائرة النظرية فقط، بل يريدون رؤيته وتجسيده في دائرة العمل وفي أخلاق وسلوك الحاكمين أيضًا.

وأما في الدين السياسي، فتكون المصالح السياسية هي المحور ـ خلافًا لنموذج السياسة الدينية التي تكون فيها الأصول والقواعد الدينية هي المعيار، وتكون السياسة متطابقة مع الأصول والأخلاق الدينية ـ ويكون الدين وسيلةً وأداةً في خدمة مصالح الحكام، ويتم توظيفه في إطار الحفاظ على تلك المصالح الشخصية الضيّقة.

لا شكَّ في تحقق نموذج «الدين السياسي» على طول التاريخ، وإن الكثير من الحكومات قد عملت على توظيف الدين سياسيًّا، حيث تمثل الحكومة الأموية النموذج البارز لهذه الحقيقة. ولكن هذا لا يعني أننا لا نستطيع تقديم نموذجٍ للتعاطي بين الدين والسياسة بحيث لا يتمّ فيه استغلال الدين وتوظيفه بشكلٍ سيّئٍ. وعلى هذا الأساس لا يصحّ حصر التعاطي بين الدين والسياسة في نموذج «الدين السياسي» فقط. وإن الغفلة عن الفصل بين هذين النموذجين في مقام التنظير، دفع به في مقام الحكم إلى عدم التمييز بين الحكومات القائمة في المجتمعات الإسلامية، والحكم على الجميع ولومها بتهمة «الدين السياسي»!

3ـ عدم الفصل بين المدارس والمذاهب والتيارات المختلفة: إن من بين المغالطات الي يرتكبها أركون، عدم فصله بين المذاهب والمدارس والتيارات التي تدّعي الإسلام. وبالتالي فإنه يعمّم إشكالات وآفات كلِّ واحدٍ منها على سائر

(69)

المذاهب والتيارات الأخرى. يمكن العثور على هذا النوع من المغالطة في الكثير من أبحاثه، ولكن في ما يتعلّق بموضوع بحثنا الراهن، نجد أن عدم استقلال العقل البشري وعدم الاستفادة منه، والدوغمائية، وانعدام الحرية الفكرية، لا نجدها في جميع المذاهب والمدارس على وتيرةٍ واحدةٍ. فعلى الرغم من تغييب العقلانية الاعتزالية عند أهل السنة، إلا أن العقلانية في الفكر الشيعي تمثل حركةً حيويةً حيةً، بل إن العقلانية في التفكير الشيعي أقوى من العقلانية الاعتزالية التي يُبدي أركون شغفه بها. كما أن الدوغمائية لا تمثّل الصفة المشتركة بين جميع المذاهب والمدارس والتيارات الإسلامية. فلا يمكن ـ على سبيل المثال ـ تعميم الجمود الفكري لتيارٍ مثل تيار القاعدة على الكثير من التيارات الإسلامية الأخرى، في حين أن أركون لا يتورّع عن تعميم النمط الفكري للقاعدة على جميع التيارات الإسلامية الأخرى.

4 ـ الغفلة عن نشاط العقل المستقل في العقلانية الشيعية: إنّ من بين الفروق البارزة بين الفقه الشيعي وفقه أهل السنة التي جهلها أركون أو تجاهلها، موقعَ ودورَ العقل في استنباط الأحكام الشرعية. ويبدو ـ بطبيعة الحال ـ أنّ عدم التفات أركون إلى هذا الاختلاف ناشئٌ من ضعفه في معرفة أصول الفقه الشيعي.

وبشكلٍ عامٍّ فإنّ العقل في فقه أهل السنة لا يُعتبر مصدرًا مستقلًّا لاستنباط الأحكام الشرعية، فإذا ما استثنينا الكتاب والسنة، هناك دورٌ يتمّ إعطاؤه للاستحسان، والمصالح المرسلة، والقياس بوصفها من مصادر الفقه السّنّيّ في استنباط الأحكام الشرعية. وإذا تمّ عدّ العقل لدى القلة القليلة من علماء العامة بوصفه أصلًا رابعًا، فإنّ التأمّل في عباراتهم يُثبت أن مرادهم من العقل هو توظيف أصولٍ من قبيل البراءة أو الاستصحاب فقط (بور علي، 1395 هـ ش، ص 52).

وأما في المذهب الشيعي فبالإضافة إلى القول بـ الحُسن والقبح العقليَّيْن في

(70)

المسائل والأبحاث الكلامية، وكذلك إمكان تعرّف العقل على حسن وقبح الأفعال، فإنّه يُعدّ ـ إلى جانب القرآن والسنة والإجماع ـ واحدًا من مصادر الأحكام الفقهية المتبعة؛ إذ «إن العقل رسولٌ باطنيٌّ، ولا يجوز دفعُه وإقصاؤه» (العراقي، 1388 هـ ش، ص 27). و هذا هو الرأی المشهور، بمعنى «أن المشهور من علماء الأصول يذهب إلى القول بأنّ الدليل العقلي القطعي حجةٌ في استنباط الأحكام الشرعية»(الصدر، 1417 هـ، ص 308 ـ 309). وبالتالي فإن العقل والنقل يمثلان طريقين لمعرفة الشريعة (جوادي الآملي، 1386 هـ ش، ب، ص 13 و 32 و 106).

إنّ البحث في مكانة العقل في استنباط الأحكام، قد أفضى في تاريخ علم أصول الشيعة إلى بحثين هامّين تحت عنوان المستقلات العقلية وغير المستقلات العقلية.

والمستقلات العقلية: هي تلك الأحكام التي يستقل العقل وحده في إدراك حكمها، دون حاجةٍ منه إلى الوحي والشرع في تأليف صغرى أو كبرى قياسه واستدلاله، من قبيل: إدراك حسن العدل وقبح الظلم وما إلى ذلك. وما يوجد في الكتاب والسنة من هذه المفاهيم يحمل صبغةً إرشاديةً إلى حكم العقل في هذا الشأن.

وغير المستقلات العقلية: فهي الأحكام التي لا يستطيع العقل أن يستقلّ في إدراك أحكامها، ويحتاج فيها إلى الوحي والدليل الشرعي في تكوين صغرى الاستدلال، من قبيل: الحكم بوجوب مقدمة الواجب (الصدر، 1410 هـ، ص 177).

5 ـ الإسلام بلا شريعةٍ، إسلامٌ غيرُ إسلاميٍّ: لقد عمد أركون إلى الفصل بين ثلاثة أنواعٍ من الإسلام، وقد رجّح من بينها كفّة الإسلام المجرّد من أيِّ تكليفٍ في إطار الواجب والمحظور. إن هذا الإسلام لا يُشبه الدين بشيءٍ؛ إذ بناءً على أساس

(71)

البرهان العقلي يُعتبر الدين الكامل هو الدين الذي يسجّل حضورًا في جميع أبعاد حياة الإنسان، ولا يكون حياديًّا تجاه أيِّ مسألةٍ، بمعنى أن يكون له بيانٌ ورأيٌ في الأصول العامّة للخلق، ولا يكون غائبًا عن العلوم والأمور الجزئية (جوادي آملي، 1386 هـ ش، أ، ص 232).

أركون والإسلاميات التطبيقية

هناك بعض الاختلافات حول ماهية الإسلاميات التطبيقية ومنزلتها في فكر أركون. فهناك من الكُتّاب من رأى أن الإسلاميات التطبيقية تعبيرٌ آخرُ للمشروع الفكري لأركون المتمثل بنقد العقل الإسلامي (خلجي، 1377 هـ ش، ص 80). وهناك من الكُتّاب الأخرین من أمثال إدريس هاني (هاني، 2006 م، ص 215)، وفوزي البدوي من قال بأنّ الإسلاميات التطبيقيّة هو المشروع الفكري لأركون. ولكن يبدو أن المشروع الفكري لأركون هو نقد العقل الإسلامي، وإنه في هذا المشروع قد تمسّك بأسلوبٍ خاصٍّ اسمه الإسلاميات التطبيقيّة (الفجاري، 2005 م، ص 20 ـ 21؛ فاضل السعدي، 2012 م، ص 75).

وعلى كلِّ حالٍ فإنّ الإسلاميات التطبيقيّة يعرف بالاتجاه المنهجي لأركون في نقد العقل الإسلامي، والذي أخذ عنوانه عن كتاب الأنثروبولوجيا التطبيقية لـ روجيه باستيد[1]، وقد تبلور في مواجهة منهج الإسلاميات الكلاسيكية والإسلاميات التقليدية (أركون، 1996 م، ب، ص 275). إنّ الإسلاميات الكلاسيكية تعبيرٌ عن المنهج المستعمل في الاستشراق، وإن الإسلاميات التقليدية یراد منها الإشارة إلى معرفة الإسلام الشائعة بين العلماء التقليديين.

(72)

إن أهم تحوّل فكري لأركون من الناحية المنهجية، هو التحول من التاريخ الكلاسيكي والدراسات التاريخية والفيلولوجية الاستشراقية إلى تحليل التاريخ من زاوية التاريخ الحديث، والذي تأثر فيه بالثورة المنهجية لمتنوري عقد الستينات في فرنسا ولا سيما مدرسة الحوليات التاريخية (أركون، 2009 م، ص 23؛ أركون، 1997 م، ص 61).

يرى أركون أن الإسلاميات الكلاسيكية، تكتفي من خلال تطبيق المنهج الفيلولوجي والتاريخ التقليدي على التراث الإسلامي إلى تصحيح وشرح مفردات نصوص كبار المتقدمين ونقلها إلى لغةٍ أخرى، وتعمل على بيان التراث الإسلامي في مرحلة تبلوره بالاستناد إلى مجموعةٍ من النصوص الموثوقة، بيد أنها لا تستطيع تقييمها ونقدها. إن هذا النوع من معرفة الإسلام في الدراسات إنّما يعتمد على التقارير الرسمية المكتوبة، ولا يلتفت إلى البيان الشفهي للناس بشأن الإسلام، وأنماط الحياة غير المكتوبة لهم، وكذلك الأنظمة الدلالية المعرفیّة من قبيل: الحكايات والأساطير والأشعار. يرى أركون أن هذا الاتجاه وضعيٌّ، وليس له نصيب من العلوم الإنسانية الجديدة (أركون، 1996 م، ب، ص 51 ـ 54).

وفي المقابل فإنّ للإسلاميات التطبيقية خصوصيتين، وهما:

1 ـ وضع الإسلام بوصفه تراثًا فكريًّا في معرض التنظير، ودراسته من زاويةٍ مقارنةٍ بالقياس إلى سائر الأديان.

2 ـ دراسةٌ منسجمةٌ لمعطيات الفكر العالمي الحديث.

في هذه الرؤية تتم قراءة الإسلام بوصفه ظاهرةً دينيةً من خلال توظيف العلوم الإنسانية الحديثة. وباختصارٍ فإن الإسلاميات التطبيقية هي:

(73)

«تطبيقُ منهجيات العلوم الإنسانية ومصطلحاتها على دراسة الإسلام عبر مراحل تاريخه الطويل» (أركون، 2001 م، ص 178).

لقد اتخذ أركون هذا المنهج بمقتضى مشروع نقد العقل الإسلامي؛ لأن نقد التجسيد التاريخي للإسلام، بحاجةٍ إلى الذهاب إلى أبعدَ من مجرّد تقديم البيان الوصفي، وبيان المسار التاريخي له، عن طريق توظيف أنواع العلوم الإنسانية ـ الاجتماعية، من قبيل: علم اللغة، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، وعلم النفس التاريخي (أركون، 2009 م، ص 80).

ولا بد ـ بطبيعة الحال ـ من العلم بأن انتقاد أركون لاتجاه المستشرقين، وإصراره على ضرورة الاستفادة من الأساليب الحديثة وتطبيقها على التراث الإسلامي، لا يعني مخالفته التامة لأساليب الاستشراق القديمة، وتجاهل تحليلات قدامى المستشرقين. إنّ أركون يُثني على دورهم في إحياء بعض النصوص المنسية، كما كان ملتفتًا إلى أهمية الأساليب الفيلولوجية والتاريخية التقليدية، ويرى أن المنهجیة التاريخية ـ اللغوية لا تزال تحتفظ بقيمتها الخاصة (أركون، 1997 م، ص 45؛ أركون، 1996 م، ب، ص 54)؛ لأنّنا من هذا الطريق نحصل على معلوماتٍ جامعةٍ وموثوقةٍ عن التراث الإسلامي، ولكننا بعد هذه المرحلة علينا القيام بتحليلاتٍ نقديةٍ.

تحليلٌ وتقييمٌ:

لقد أثار الاتجاه المنهجي لأركون انتقادَ الكثير من المفکّرين والكتاب في العالم الإسلامي، ومن بين هؤلاء يمكن لنا أن نذكر كلًّا من: طه عبد الرحمن (عبد الرحمن، 2006 م، ص 190 ـ 193)، وكيحل مصطفى (مصطفى، 2011 م، ص 273 ـ 378)، ومختار الفجاري (الفجاري، 2005 م، ص 59 ـ 64)، وأحمد فاضل

(74)

السعدي (فاضل السعدي، 2012 م، 2012 م، ص 365 ـ 389). وإن بعض هذه الانتقادات عبارةٌ عن:

1ـ الغفلة عن نقد الأساليب الغربية: إن أركون يغفل عن نقد الأساليب الغربية، وكأنه يراها بريئةً من كل عيبٍ أو نقصٍ، ومن هنا فإنه يرى الخروج من جميع مشاكل التراث العربي ـ الإسلامي في اللجوء إلى هذه المناهج والأساليب (مصطفى، 2011 م، ص 376).

2 ـ عدم تأصيل المصطلحات والمفاهيم الغربية: إن أركون لم يُراعِ في تحقياته شرائط نقل الأساليب والمفاهيم الغربية إلى البيئة الثقافية العربية ـ الإسلامية، وإنّما حافظ على شكلها المتبلور في مهدها الثقافي الرئيسي، ليستعملها كما هي عليه في ثقافةٍ مختلفةٍ تمام الاختلاف (المصدر ذاته، ص 373). ولذلك فإن القارئ عند دراسة آثاره سيواجه مشكلةً، وسوف يكون مضطرًّا ـ لكي يفهم مرامي كلامه ـ إلى التعرّف على مجمل تاريخ التفكير الغربي ومعطياته المنهجية والمفهومية على أمد القرون الأربعة الأخيرة (هاني، 2006 م، ص 227).

3ـ النزعة التقليدية المعرفیّة: يرى الفجاري أن تراكم المفاهيم الغربية والإفراط في استعمالها من قِبل أركون، إنما هو انعكاسٌ للفكر الاستهلاكي لمنتجات الفكر الغربي، ويعمل على تقييمه بوصفه نوعًا من التقليد المعرفي، ويراه تقليدًا أكثرَ تجذّرًا من التبعية والتقليد الاقتصادي والحضاري (الفجاري، 2005 م، ص 61).

4ـ عدم الانسجام بين المناهج المختلفة: يعمد أركون إلى الاستفادة من المناهج والاتجاهات المختلفة والمتناقضة أحيانًا، ولم يتمكن من صهرها في بنيةٍ منهجيةٍ واحدةٍ ومنسجمةٍ، وهذا ما أوقعه في الخطأ، عند الجمع بين بعض

(75)

الفلسفات، من قبيل: فلسفة فوكو وفلسفة هابرماس (المصدر ذاته، ص 63؛ فاضل السعدي، 2012 م، ص 373 ـ 374). وهذا هو الذي أوقع أركون في التناقض بشأن المناهج المختلفة ولذلك نراه تارةً يرفض المنهج اللساني، ويؤكّد عليه تارةً أخرى (فاضل السعدي، 2012 م، ص 78). كما يبقى هذا السؤال قائمًا: كيف أمكن لأركون أن يوفّق بين هذه القطع المنهجية المتنافرة، في حين أن هذا لم يحدث حتى في موطن نشوء هذه المناهج؟ هل يعني ذلك أن دائرة المعرفة الإسلامية الأجنبية تمامًا عن المناهج الغربية قد اجترحت معجزةً وأمكن لها صنع المستحيل في التوفيق بين المناهج الغربية، وهو ما لم يكتب له التحقق حتى في مهدها الأصلي! (هاني، 2006 م، ص 227).

5 ـ زوال أصالة التراث الإسلامي عبر الموضعة من المنظار الغربي: يقوم الاتجاه المنهجي لأركون في إعادة قراءة التراث الإسلامي من منظار الغرب والمعطيات الغربية، وإخضاعه في مواجهة المناهج والأساليب الجديدة (المصدر ذاته، ص 214 ـ 215). إن هذا الاتجاه من قِبل أركون يُعدّ اتجاهًا غير أصيل بالنسبة إلى التراث الإسلامي؛ وذلك لأنّ العلوم والمناهج الغربية قد تمّ إنتاجها ضمن إطارٍ منهجيٍّ خاصٍّ ومخالفٍ لبنية التفكير والتراث الإسلامي، وكان تلبيةً لحاجة العالم المسيحي، وعليه لا يكون تعميمه على سائر الأديان الأخرى أمرًا علميًّا.

وباختصارٍ فإنّ الخصيصة الرئيسة لمعرفة الإسلام التطبيقية لأركون في مشروع نقد العقل الإسلامي، تكمن في توظيف نظريات ومناهج الحداثة وما بعد الحداثة، ومن هذه الناحية فإنه مبتلًى من حيث المباني والتبعاتُ بذات نقائص النظريات الحداثوية وما بعد الحداثوية التي تمثّل مرجعيةً له. كما أن هذه النظريات إنّما صيغت لحل معضلاتٍ كانت المجتمعات الغربية والمسيحية هي

(76)

التي تعاني منها، وعليه فإنّ تعميمها على سائر الثقافات يعدّ مواجهةً غيرَ علميةٍ مع العالم الإسلامي. إنّ العالم الإسلامي في مسار التغلّب على مشاكله ومعضلاته بحاجةٍ إلى العودة إلى ذاته، والرجوع إلى ثقافته وتراثه الديني وإعادة قراءته على أساس المباني والأصول والميتافيزيقا الإسلامية والتجديد في إطار هذا التراث، لا في تفكيك هذا التراث. فما دام المفکّرون المسلمون ينظرون إلى ثقافتهم ودينهم ضمنم إطار التعاليم التاريخية الحداثوية وما بعد الحداثوية ومن زاوية رؤية هذه التيارات، فإنهم بدلًا من إعادة القراءة والرجوع المتكرر إلى ثقافتهم ودينهم، سيضطرّون إلى إجراء تغييراتٍ تفكيكيةٍ على بنيتهم الثقافية والدينية. إنّ نتيجة هذا النوع من التحوّلات ليست سوى تبلور ثقافةٍ عَلمانيةٍ ودنيويةٍ، وتقديم تفسيرٍ عن دينٍ يفقد في هامش هذه الثقافة أبعاده المتعالية والقدسية والسماوية، ويتحوّل إلى مجرّد أمورٍ عَلمانيةٍ. إن الدين العلماني بدلًا من تلبيته لحاجات عصره وبيئته بأساليبه الاجتهادية عبر أصوله وقواعده، ويمضي في إطار جعل عصره دينيًّا، يعمل على وضع الذخائر الثقافية للأمة الإسلامية في خدمة العرف الدنيوي للإنسان المعاصر، ولن تكون نتيجة هذا المسار سوى المزيد من الاضمحلال (مدقق، 1395 هـ ش، ص 83 ـ 84).

القراءة الأركونية لتاريخ الفكر الإسلامي

كما تقدّمت الإشارة فإنّ غاية أركون من إعادة قراءة تاريخ الفكر الإسلامي هي إطفاء لهيب النزاعات المذهبية واجتياز ما يسميه بالأصولية. وإلى جانب ذلك فإنه يريد ـ بزعمه ـ الذهاب إلى أبعد من شكلين من الجمود، وهما: المعرفة الإسلامية الاستشراقية، والمعرفة الإسلامية التقليدية. إنه يتابع هذه الغاية من طريق إثبات تاريخية الإسلام. ولذلك فإنه يعمل على إعادة قراءة تاريخ الفكر الإسلامي، ويقوم

(77)

بهذا الأمر عبر توظيف المعطيات الهرمنيوطيقية الحديثة، واللسانيات، وعلم التاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم النفس التاريخي (أركون، 2001 م، ص 195 ـ 196).

يقدّم أركون قراءته لتاريخ الفكر الإسلامي من خلال طرح مصطلحين، وهما: الظاهرة القرآنية، والظاهرة الإسلامية. إن القرآن والإسلام من وجهة نظره قد ظهرا في بداية أمرهما بوصفهما صيرورةً وحركةً ثوريةً في اللحظة التأسيسية الأولى لهما، دون أن يتبلورا في قالَب نصٍّ رسميٍّ مغلَقٍ وشعائر ومؤسسات دينية خاصة، ولكن بعد ذلك تبلور الإسلام في إطار نصوصٍ رسميةٍ من قبيل: المصحف والمصادر الروائية وتفاسير القرآن وشروحه، ما عمل على تنظيم سلوك المسلمين وأفعالهم وممارساتهم. يذهب أركون إلى الاعتقاد بأن المسلمين من خلال توسيعهم دائرة المقدّس ليشمل دائرة الأحداث الإسلامية، منحوا التقديس لسلوكيات المسلمين أيضًا، وبذلك أخذوا يعتبرون مجمل التاريخ الإسلامي من بدايته إلى منتهاه مقدَّسًا وفي محلٍّ يتجاوز التاريخ (أركون، 2009 م، ص 249 و 257 و 276).

توضيح ذلك أنّ كلَّ حادثةٍ بعد وقوعها تواجه ـ من وجهة نظر أركون ـ أنواعًا من التفسير على طول التاريخ، ثم تتراكم هذه التفاسير فوق بعضها لتكوّن ما يشبه طبقات الأرض المتراكبة فوق بعضها، لتدفن النصّ (القرآن) أو الحادثة التأسيسة الأولى (ظهور الإسلام) تحت ركامها، حتى لا يُرى منها شيءٌ. وإنّ النص أو الحادثة الرئيسة إنما يمكن فهمها بشكلٍ جديدٍ إذا أمكن لنا تجاوز جميع التفسيرات التي تراكمت فوقها وحجبتها عن الأنظار ودراستها دراسةً نقدیةً (أركون، 1996 م، أ، ص 10 ـ 33).

إنّ أركون من خلال فصله بين الحادثة القرآنية، والحادثة الإسلامية يعمل في حقيقة الأمر على التنظير في حقلين:

(78)

1 ـ القرآن والمسائل المتعلقة به.

2 ـ تحوّلات الفكر الإسلامي بعد ظهور القرآن وتبلور المذاهب المختلفة في إطار الكتب الروائية والتفسيرية والكلامية والفقهية.

ومن هنا يجدر بنا دراسة وبحث رؤيته في كلا هذين الحقلين. ولذلك فإننا سنعمل في البداية ـ ضمن عنوان «الظاهرة القرآنية في القراءة الأركونية» ـ على طرح رؤيته بشأن القرآن واللحظة التأسيسية، لنعمل بعد ذلك على بحث رؤيته حول الحادثة الإسلامية وطريقة تبلور الفكر الإسلامي.

الظاهرة القرآنية في القراءة الأركونية

بالالتفات إلى الارتباط القائم بين أبحاث معرفة القرآن ومعرفة الوحي، وكذلك ارتباط الوحي بـ اللحظة القرآنية، فإن رؤية أركون بشأن «الظاهرة القرآنية» تشتمل على بحثين رئيسين، وهما: قراءته للوحي، وكذلك قراءته لتدوين وتبلور القرآن. ومن هنا فإننا على هامش عنوان الظاهرة القرآنية، سوف نبحث مسألتَيْ «الوحي» و«القرآن» في فكر أركون.

القراءة الأركونية للوحي

إنّ حقيقة الوحي عند أركون عبارة عن: «الوحي يعني حدوث معنًى جديدٍ في الفضاء الداخلي للإنسان» (أركون، 2007 م، ص 89). ويذهب أركون إلى تعميم هذا التعريف وشموله للـ كونفوشيوسية[1] والبوذية[2] وما إلى ذلك أيضًا.

(79)

لو اعتبرنا للوحي ثلاثةَ أضلاعٍ، وهي: المُوحِي (الله)، والموحَى إليه (النبي)، وسامع الوحي (الناس)، يبدو أن التعريف المذکور للوحي ـ بالالتفات إلى خصوصيته ـ قد تم في إطار الارتباط بالموحى إليه، أي: «النبي». وفي بعض الموارد الأخرى عمد أركون إلى تعريف الوحي بالالتفات إلى الضلعين الآخرین أيضًا، وفي هذا الإطار قد عمل على التمييز بين مستويين من الوحي، وهما:

1ـ المستوى العالي من الوحي المتمثل باللوح المحفوظ، ولا يكون هذا المستوى من الوحي بمتناول أحد غير الله سبحانه وتعالى، فلا يُطلع عليه حتى الأنبياء.

2ـ المستوى الأرضي والتاريخي من الوحي الذي يتجلّى على شكل كتابٍ خاصٍّ، مثل: (القرآن والإنجيل والتوراة) في إطار لغةٍ بشريةٍ (أركون، 2009 م، ص 317؛ أركون، 2005 م، ص 22).

وبالتناظر مع هذا الفصل، يعمد أركون إلى القول بالتفريق بين الكلام الإلهي والكلام النبوي أيضًا، وعلى هذا الأساس فإنّ الكلام الإلهي هو كلام الله منذ الأزل، ولا يمتلك أيُّ إنسانٍ القدرة على استيعابه بأكمله. ويعمل النبي صلّی اللّه علیه وآله وسلّم على حكاية وترجمة معنی الوحي الذي نزل عليه والمستقر في نفسه إلى لغةٍ بشريةٍ وبحسب مقتضيات العصر، وبالتالي فإنّ الكلام النبوي لا يرقى إلى مستوى الكلام الإلهي (ابن عاشور، بلا تاریخ، ص 240).

إن أركون من خلال فصله وتمييزه بين مستويات الوحي، يضع تجسُّم كلام الله في المصحف موضع التساؤل. يرى أركون أن التلفظ الشفهي لكلمات الوحي قد حصل أوّلًا من قِبل من يُسمّى «نبيًّا»، وهذه العملیة هي بمثابة تجسُّد الله في

(80)

الأرض (أركون، 2005 م، ص 25)[1]. ثم تحوّل هذا الوحي إلى كتابٍ مضبوطٍ ومتوفِّرٍ للجميع ويمكن لكلِّ شخصٍ أن يقرأه ويعمل على تفسيره وتأويله، ثم يرتدي ثوب التقديس في مسارٍ تاريخيٍّ من طريق تعريف الآداب والمناسك الخاصة بشأنه أو من خلال أنواع الأدلة والبراهين الأخرى، ويتمّ التعريف به بوصفه كتاباً مقدّسًا، وبذلك يغدو غير قابل للنقد (المصدر ذاته، ص 25 ـ 26).

إنّ من بين الخصائص الأخرى لرؤية أركون إلى الوحي، نفي معيارية الوحي. وهذه الرؤية تنبثق من نظرته الخاصّة به إلى النبوّة ومنزلة النبيّ. فهو ينظر إلى النبي نظرةً أنثروبولوجيةً، ويعمل على تحليل شخصيات الأنبياء من خلال استعمال مفاهيمَ من قبيل: الرجال العظام والأبطال الحضاريين. ومن هذه الزاوية يكون النبي مثل سائر الأبطال الحضاريين، صاحب شخصيةٍ تؤسس لبناء حضارةٍ وهداية الناس وتحريك التاريخ، مبشِّرًا بتكوين حضارةٍ جديدةٍ. يكمن الفارق الوحيد بين الأنبياء وسائر العظام في التاريخ ـ من وجهة نظر أركون ـ في الوسيلة والأداة التي يستخدمونها للوصول إلى غاياتهم، وكذلك في المشاعر والأحاسيس التي يلهبونها ويستثيرونها، بمعنى أنهم في مسار إبداع الحضارة، يعملون على توظيف ظاهرةٍ معقَّدةٍ اسمها «الوحي»، ويثيرون في المجتمع أمنية النجاة والسعادة. كما يتمتع النبي قياسًا إلى سائر أبطال التاريخ بمكانةٍ معنويةٍ ومعرفيةٍ أسمى؛ لأن النبي يتمتع بشخصيةٍ ملهَمةٍ وحكيمةٍ، وأنّه بفضل الإلهام يستطيع حلّ المجاهيل واجتياز حدود المعرفة، وهذه الخصائص هي التي توفّر له الشعبية والجماهيرية بين سائر أبناء البشر، حيث يتبعونه دون إكراهٍ أو إجبارٍ (المصدر ذاته، ص 84 ـ 85).

(81)

بناءً على هذا التحليل لمفهوم النبوّة يكون الوحي في بناء الحضارة تابعًا للمسؤوليات النبوية، وتهدف تعاليم النبي إلى بناء حضارةٍ في مرحلةٍ زمنيةٍ معيّنةٍ. ومن هنا لا يكون الوحي معيارًا ثابتًا للبشرية، نازلًا من السماء ليدفع الإنسان وإلى الأبد نحو تكرار مجموعةٍ من الشعائر والمناسك، بل إنما يقترح مفهومًا للوجود قابلًا للنقض وإعادة النظر. وفي هذا الإطار يعمل أركون على تقييم ظاهرة الناسخ والمنسوخ في آيات القرآن بوصفها دليلًا على قابلية الآيات للنقض (المصدر ذاته، ص 85).

تحليل وتقييم:

في ما يتعلق برؤية أركون إلى الوحي هناك بعض النقاط الجديرة بالطرح، نشير هنا إلى ما هو الأهم منها على النحو الآتي:

1ـ انتقائية وإيديولوجية دراسات أركون: إنّ استراتيجيَا أركون هي استراتيجيَا أيديولوجيّةٌ (ابن عاشور، بلا تاریخ، ص 241)، وإنّ دراساتِه انتقائيةٌ تصبّ في خدمة أهدافه وغاياته قبل أن تكون مستندةً إلى مصادرَ أو دراسة الآراء (فاضل السعدي، 2012 م، ص 470).

2ـ التفكيك بين الحوار الشفهي والحوار المكتوب: إن هذا التفكيك الذي يشكّل أرضيةً لنظرية أركون في باب الوحي والقرآن ليس من إبداعات أركون، بل هو مستعارٌ من جاك غودي[1] ودريدا. ثم إنه بالإضافة إلى ذلك لم يُقم برهانًا نظريًّا خاصًّا على هذا الفصل والتفكيك، ومن هنا تكون نظريته مجردَ دعوًى من دون دليلٍ (المصدر ذاته، ص 469 ـ 470).

3 ـ الاتجاه العلماني لأركون في تحليل الوحي: ينظر أركون في تحليله للوحي

(82)

من منظارٍ علمانيٍّ، ولا يخفى أن الاتجاهات العلمانية بشكلٍ عامٍّ تنظر إلى الكون والإنسان بنظرةٍ مجردةٍ عن القداسة، وتعمل على رفض التقديس في نظرتها إلى الوجود (بارسانيا وإسلامي، 1392 هـ ش، ص 17 ـ 18). وفي إطار هذا الاتجاه العام تمثّل الاتجاهات العلمانية بالنسبة إلى الوحي طيفًا من النظريات التي تتجنّب اعتبار إلهية وقداسة ما يحصل من قِبل الوحي. وعلى الرغم من اشتراك الاتجاهات العلمانية في هذه النقطة هناك في الوقت نفسه ـ بطبيعة الحال ـ بعض الاختلافات بينها أيضاً، فهناك منها ما ينكر الوحي صراحةً، بينما تذهب الاتجاهات الأخرى إلى اختيار منهجٍ أكثرَ مرونةً تجاه الوحي، ويُعدّ أركون من المنخرطين في الاتجاه الأخير، فهو لا يُنكر الوحي ولا يشكّك في البعد الإلهي لهذه الظاهرة، ومع ذلك يمكن اعتبار توجُّهِه علمانيًّا من عدّة جهاتٍ:

أولاً: إنه من خلال استبعاده للبعد الإلهي للوحي، وحرمان الجميع من هذا البُعد بمن فيهم الأنبياء، فإنه يعمل على خفض الوحي القرآني إلى المستوى البشري. فهو قبل أن يهتم بالوحي بوصفه أمرًا سماويًّا، يعمل على دراسته بوصفه ظاهرةً نفسيةً تتحقّقُ في روح النبي، وكذلك بوصفها ظاهرةً أنثروبولوجيةً كثيرةَ التحقق في المجتمعات البشرية، وقد تركت تأثيرها على ما لا يُحصى من الناس (أركون، 1996 م، أ، ص 58).

ثانياً: من زاويةٍ أخرى يمكن اعتبار «إخراج البُعد المتعالي للوحي عن المتناول» تعليقًا له طبقًا للأسلوب الظاهراتي، كما قام أركون نفسه بدراسة الوحي تحت عنوان «المقاربة الظاهراتية أو الفينومينولوجية» أيضًا (أركون، 2005 م، ص 17). وفي هذا المقام يُعتبر إخراجُ البُعد المتعالي للوحي عن المتناول هو ذات تعليق البعد الإلهي والمتعالي من الوحي، والذي يؤدي من الناحية العملية إلى نفي الوحي وإلغائه.

(83)

وبذلك فإن أركون بدلًا من تصريحه بعدم إلهية الوحي، يسعى إلى الالتفاف على ذلك من خلال تحديد مستوياتٍ مختلفةٍ للوحي وأخذه البُعد المتعالي له بنظر الاعتبار. وفي الوقت نفسه لا يمكن اعتبار هذا الالتفاف من أركون بمعنى اعتباره إلهيةَ الوحي؛ إذ إن المستوى المتعالي منه ليس بمتناول أحدٍ ـ من وجهة نظره ـ حتى ولو كان نبيًّا. وبالتالي فإن الذي يقع بمتناول عامة الناس ليس هو البُعد الإلهي المتعالي من الوحي. ومن هنا فإن اهتمام أركون ينصبّ في الغالب على تأثيرات ذلك على الذهنية البشرية المشتركة، ويلتفت في ذلك إلى آليات وحي الأنبياء في تأسيس الحضارة (أركون، 1996 م، أ، ص 58).

4 ـ نفي القيمة المعرفیّة والمعيارية للوحي: طبقًا لتحليل أركون يُعتبر الوحي ظاهرةً تاريخيةً تفتقر إلى القيمة المعرفیّة، وعلى الرغم من ترسيخ دعائم الحضارة، لا يقبل التبعية في جميع الأزمنة، بل هو بحاجةٍ إلى إعادة نظرٍ مستمرّةٍ (أركون، 2005 م، ص 85). وعلى هذا الأساس فإن أركون مثل جميع أصحاب الاتجاهات الحداثوية وما بعد الحداثوية إلى الدين والوحي، يدعو إلى الاستقلال عن الوحي والدين (مرزوق، 2012 م، ص 159). وكما ذكرنا في معرض نقدنا لمباني أركون، فإن هذا المبنى يتعارض بشكلٍ واضحٍ مع جميع الأدلة العقلية على ضرورة الوحي والنبوة، وإن الأدلة المثبتة للوحي والنبوة، تنفي هذا النوع من التحليلات التاريخية. فإذا أراد أركون أن يُثبت رؤيته، تعيّن عليه الإجابة قبل ذلك عن هذه الطائفة من البراهين العقلية بأسلوبٍ علميٍّ، ليعمل بعد ذلك على بيان رأيه.

كما أن أركون من خلال هذا المبنى يحشر نفسه ضمن دائرةٍ متناقضةٍ، فهو من جهةٍ يدّعي الانتماء إلى الإسلام، الأمر الذي يفرض عليه الإيمان بمرجعية الوحي

(84)

والدين في مقام العمل، ومن جهة أخرى ينفي قداسة ووحيانية هذا الدين مُنكِرًا مرجعيته إذ يعلن عدم احتياج الإنسان له (المصدر ذاته).

5ـ خفض منزلة النبي إلى مستوى الأبطال التاريخيين: إن تحليل شخصية «النبي» من زاوية المفاهيم الأنثروبولوجية، من قبيل: البطل التاريخي، يؤدي إلى خفض النبي الإلهي إلى مستوى الشخصية التاريخية الفاقدة للرسالة الإلهية، وتفهم على أنها مجرّدُ ظاهرةٍ مؤثرةٍ على الحياة البشرية، بغضّ النظر عما إذا كان وراء هذا التأثير حقيقةٌ أم لا؛ إذ يمكن للأمر الوهمي أن يؤثّر في المجتمع أيضًا (فاضل السعدي، 2012 م، ص 402 ـ 403).

يُضاف إلى هذا الإشكال أنّ رؤيته لا تقتصر على عدم الانسجام مع عقيدة أيِّ مسلمٍ فقط، بل لا تنسجم مع عقيدة جميع المؤمنين بالأديان الإلهية أيضًا. فإنّ الأنبياء ـ من وجهة نظر جميع المؤمنين ـ كانت لهم رسالةٌ إلهيةٌ، وإنهم قد بُعثوا جميعًا من قِبل الله لهداية البشر.

6ـ تعدّدية الاتجاه التأويلي عند أركون: إنّ أركون ـ كما تقدّم أن أشرنا ـ يذهب إلى الاعتقاد بأن الوحي يقترح معنًى للوجود يستوعب من التأويلات إلى ما لا نهاية، ويقدم إلى البشرية ما لا يُحصى من المعاني. إنّ هذا الرأي ـ خلافًا لرأي علماء التفسير في العالم الإسلامي ـ لا يرى معنًى واحدًا للنص، بل يذهب إلى الاعتقاد بـ تعددية المعاني، وبناءً على ذلك یتعدد المعاني بتعدد المدارس والمذاهب وأدوات التأويل، ولا تكون هناك أرجحيةٌ لأحدها على الأخری، ويكون لها بأجمعها قيمةٌ متساويةٌ. إن هذه الرؤية إلى الوحي من قِبل أركون تقوم على تعاليم جاك دريدا الذي یدّعي أنّه لا حقيقة توجد خارج النص، وأنّ النص ـ بالاستناد إلى العلامات والرموز والإحالات اللامتناهية ـ يعمل على تشتيت الحقيقة، لا إلى

(85)

بيانها. ومن هذه الزاوية يكون القرآن نصًّا تتعدد الاحتمالات بشأن معانيه، وله قابلية استيعاب الكثير من القراءات (مصطفى، 2011 م، ص 377 ـ 369).

في نقد التعددية الإبستيمولوجية لا بدّ من الالتفات إلى أن إمكان طرح ما لا نهاية له من المعاني للنص، وعدم وجود حدٍّ لفهم النصّ، إذا كان يعني إمكان طرح العديد من المعاني وما لا يُحصى من المفاهيم على أن تكون في طول بعضها بمعنى وجود مراتبَ طوليةٍ للفهم، فهو أمرٌ مقبولٌ، كأن تنظر مجموعةٌ من الأشخاص إلى شيءٍ قادمٍ من بعيدٍ؛ فيقول أحدهم: إنه شيءٌ خاصٌّ، ويقول الثاني: إنه حيوانٌ، ويقول الثالث: إنه إنسانٌ، ويقول الرابع: إنه زيدٌ. وبذلك تكون هذه الأفهام في طول بعضها وبعضها أكثرُ قربًا إلى الحقيقة من غيرها. وأما إذا كان المعنى إمكانية الأفهام في عرض بعضها حتى على مستوى التعارض التامّ والتناقض، فهو أمرٌ باطلٌ وغيرُ مقبولٍ، وذلك لأنّ العقلاء أيضًا يرجّحون بعض الأفهام على بعضها الآخر (المصدر ذاته، ص 480).

وعلى كلِّ حالٍ فإنّ الحقيقة لا تتغيّر ولا تتعدد بتعدد القراءات، ولا يمكن لجميع القراءات ـ حتى ما كان منها متناقضًا ـ أن تكون صحيحةً؛ لأن هذا يستلزم اجتماع النقيضين، وهو ما لا يتحمله حتى أركون نفسه (أركون، 1997 م، ص 102 و128 و182 و409).

يضاف إلى ذلك أنّ القول بـ التعددية الإبستيمولوجية، يستلزم القول بـ نسبية الإبستيمولوجيا والتشكيك والسفسطة[1]، وهذا المبنى متناقضٌ بنفسه، بمعنى أنه بناءً على النسبية ستكون مدعياتُ القائلين بالنسبية ـ ومن بينهم أركون نفسه ـ نسبيةً أيضًا، ولن تكون لها الأرجحية على الآراء المنافسة لها أيضًا. مضافًا إلى

(86)

ذلك يستلزم نفي إمكان التخاطب والتفاهم بين الناس. بناءً على رؤية أركون التي تتمحور حول المفسّر، سوف ينحسر الحكم بشأن آراء الأخرین؛ إذ يمكن لكلِّ شخصٍ أن ينتقد الأخرین على أساس فهمه الخاصّ، في حين قد لا يكون ذلك الفهم مقصوداً للكاتب، وبذلك لا يمكن حتى لأركون أن يصدر حكمه بشأن الأخرین أيضاً (فاضل السعدي، 2012 م، ص 483 ـ 484).

وفي ما يتعلق بإمكان الوصول إلى الفهم الصحيح، يجب القول: إن هذا أمرٌ ممكنٌ، فإن إمكان الوصول إلى الفهم والمعرفة الصحيحة لا ينافي وجود الفهم والمعرفة الأعمق والأقرب إلى الحقيقة والواقع (المصدر ذاته، ص 480).

7ـ عدم اختصاص الوحي بأنبياء الله: يذهب أركون إلى القول بأن الوحي لا يختص بالأديان الإلهية، ويشمل البوذية والكونفوشيوسية وجميع المصلحين الكبار والمؤثرين في البشرية أيضًا (أركون، 2007 م، ص 89)؛ لأن تعريف أركون للوحي يَصدُق على تجربة بوذا وكونفوشيوس أيضًا. وعلى هذا الأساس فإنّ أركون من خلال نظرته السویة إلی الأديان الإلهية والأديان البشرية، من قبيل: البوذية والهندوسية وما إليهما، يعتبر القرآن نظيرًا لنصوص مثل النصوص البوذية والهندوسية (أركون، 2003 م، ص 36)، في حين أننا إذا درسنا هاتين الديانتين، سنجدهما ـ على أفضل الأحوال ـ مدرستين أخلاقيتين، لم يدّع أصحابهما الوحي والنبوّة أبداً، ولم يكتسبا صفة القداسة إلا من قبل أتباعهما في مرحلة متأخرة (فاضل السعدي، 2012 م، ص 36).

وفي ما يتعلق بهذا الشأن يجب القول أوّلًا: إن هذا الاعتقاد يتناقض مع العقيدة الإسلامية القائمة على خاتمية النبوّة (المصدر ذاته)، ومن هنا فإنّ معتقد أركون لا يتعارض مع مجرد معتقدٍ إسلاميٍّ واحدٍ فقط، بل يعارض البراهين النظرية والعلمية لمفهوم الخاتمية أيضًا.

(87)

وثانياً: نحن لا نُنكر أن تكون لبعض الأشخاص ـ من أمثال: العرفاء والشعراء، وشخصياتٍ أخرى مثل: بوذا وكونفوشيوس ـ تجاربُ باطنيةٌ، وأنهم قد حصلوا على لحظاتٍ ناشئةٍ من مواجهة الحقيقة القدسية، بيد أن الوحي ليس من قبيل هذا النوع من التجارب الشعرية والصوفية، فإنّ تجربة العارف أو الشاعر تجربةٌ مبتورةٌ وعابرةٌ، في حين أنّ النبي يعيش حالةً متصلةً ودائمةً، يُضاف إلى ذلك أن الشاعر والصوفيّ حين القيام بعملٍ يحصل على تجربةٍ بشكلٍ عَرَضِيٍّ، أما النّبيّ فيذهب إلى لقاء الله ويحمل عنه رسالةً ليبيّنها إلى الناس، ويهديهم إلى الحقيقة من خلالها (المصدر ذاته).

8 ـ تقليل محتوى الوحي إلى حالة نفسية: على الرغم من أنّ أركون لا يمتلك صراحةَ نصر حامد أبو زيد، بيْد أن التأمّل في تعريف أركون لحقيقة وماهية الوحي، أي: «حدوث معنًى جديدٍ في الفضاء الداخلي للإنسان» (أركون، 2007 م، ص 89)، والالتفات إلى خروج المستوى المتعالي من الوحي عن متناول حتى الأنبياء، يُثبت أنّ أركون يعتبر الوحي بمثابة الحالة النفسية التي تتبلور في داخل الإنسان. إنه مثل نصر حامد أبو زيد في القول بالتجربة الدينية، ومن هنا يرى صدق تعريف الوحي على أمثال بوذا وكونفوشيوس أيضًا، وذلك لامتلاكهم تجاربَ داخليةً وروحيةً.

وعلى هذا الأساس فإنّ أركون لا يعتبر الوحي أمرًا واقعيًّا وخارجيًّا وناشئًا عن الارتباط بالعالم الأعلى ومنبثقًا عن رسالةٍ إلهيةٍ. فمن وجهة نظره إنّ ما كان يمتلكه النبيُّ هو مِن قبيل هذا النوع من التجارب الداخلية، وإنه في التعبير عن هذه التجربة وتجسيدها على أرض الواقع كان متأثِّرًا بالظروف التاريخية والاجتماعية المحيطة به، وقد عمد إلى ترجمة الوحي طبقًا لما يقتضيه عصره (ابن عاشور، ص 240).

ومن خلال الرجوع إلى ذات القرآن يمكن لنا أن نُدرك أنّ الوحي هو حقيقةٌ فوق الروح البشریة، وبالإضافة إلى «المرسَل إليه» أو مستقبل الوحي الذي هو

(88)

النبي (صلّی اللّه علیه وآله وسلّم)، فإنّ لـ «المرسِل» وباعِث الوحي الذي هو الله، وكذلك «واسطة الإرسال» أي مَلَك الوحي الذي يتمّ التعبير عنه في المصطلح القرآني بـ «الروح الأمين»، يؤثّر في مسار الوحي، وهي حقائقُ خارجيةٌ، وإن الكثير من الآيات تدلّ على حقيقة الوحي الخارجية[1]. كما لا بد من الالتفات إلى أنّ أركون في تقليل مفهوم الوحي إلى الأمر النفسي والداخلي يتناغم مع الكثير من المستشرقين من أمثال إميل درمنغهام[2] (المصدر ذاته، ص 402).

9 ـ القول بنقصان الوحي: إنّ من بين ما يذهب إليه أركون بشأن الوحي، قوله أن الوحي عبارةٌ عن أطروحةٌ دلالیةٌ للوجود (أركون، 2007 م، ص 89)، لا كلامٌ معياريٌّ ثابتٌ للبشر، بل هو قابلٌ لإعادة النظر والنقض على الدوام (أركون، 2005 م، ص 85). وهذا المبنى يعني أن الوحي يقدّم مفهومًا ناقصًا أو مغلوطًا للوجود، وبسبب هذا النقص هناك إمكانيةٌ لإعادة النظر فيه ونقضه (فاضل السعدي، 2012 م، ص 403). إنّ القول بنقصان الوحي يتعارض مع مسلمات ومعتقدات جميع المسلمين بغضّ النظر عن انتماءاتهم المذهبية.

قراءة أركون لتاريخ القرآن وخصائصه

إنّ أركون في بحثه عن القرآن، بدلًا من استعمال كلمة «القرآن» يلجأ إلى استعمال مصطلح الظاهرة القرآنية[3]، ليحترز ـ بزعمه ـ من المضامين اللاهوتية

(89)

لكلمة «القرآن»، ويعمل في الوقت نفسه على فتح الطريق إمام إعادة قراءة هذا الجانب من التراث، ويعمل في الأثناء على تبیین اتجاهه التاريخي من خلال ذلك.

إنّ رؤية أركون بشأن القرآن تقوم على أصلين، وهما:

1 ـ الفصل بين الكلام الشفهي والكلام المكتوب.

2 ـ اعتبار وحدة البنية المعرفیّة للأديان التوحيدية.

إن الفصل بين الكلام الشفهي والكلام المكتوب، يعود بجذوره إلى مصطلحي العقل الشفهي والعقل الكتابي اللذين صدع بهما جاك غودي[1] (أركون، 2005 م، ص 81). كما تأتي مساواته بين الأديان التوحيدية من مقارنته المتكررة بين الإسلام والمسيحية واليهودية (أركون، 2007 م، ص 86؛ أركون، 2009 م، ص 289؛ أركون، 2005 م، ص 25؛ أركون، 1996 م، ج، ص 84). كما نشأ تأكيده على تكرار تجربة الباحثین المسيحيين واليهود من نقد التراث (أركون، 1996 م، ب، ص 186 ـ 188؛ أركون، 2009 م، ص 353 و 355 ـ 356). يريد أركون من المسلمين أن يوردوا على القرآن ذات التشكيكات التي أوردها الآخرون على الأناجيل (فاضل السعدي، 2012 م، ص 144؛ عبد الرحمن، 2006، ص 189 ـ 190).

ومن هذه الزاوية كان القرآن في بداية الأمر خطابًا شفهيًّا ناشئًا من الوحي، تمّ تقديمه إلى البشرية من قبل النبي الأكرم صلّی اللّه علیه وآله وسلّم بوصفه مرسَلًا من قِبل الله، وكان ذلك ـ بطبيعة الحال ـ مقترنًا بالأنشطة الاجتماعية ـ الاقتصادية ـ السياسية للمخاطبين الأوائل (أركون، 1996 م، ب، ص 172). إنّ الخطاب القرآني في الحقيقة هو مجموع السور التي جرت على لسان النبي الأكرم صلّی اللّه علیه

(90)

وآله وسلّم في ظروفٍ زمنيةٍ وشرائطَ خاصّةٍ، وقد تلاشى ذلك الكلام بعد التلفظ به، ولم يعد بالإمكان الوصول إليه في الأزمنة اللاحقة (المصدر ذاته، ص 221)؛ إذ لم تكن الأدوات المناسبة لتسجيل تلك الألفاظ الشفهية التي نطق بها النبي أمام أصحابه متوفرةً في حينها (أركون، بلا تاريخٍ، ص 188). وعلى هذا الأساس فإنّ القرآن مثل العهدين (أركون، 2007 م، ص 86 ـ 87؛ أركون، بلا تاريخٍ، ص 188)؛ إذ كان في البداية خطابًا شفهيًّا مفتوحًا قيل في ظرفٍ زمانيٍّ ومكانيٍّ خاصٍّ، وليس نصًّا مكتوبًا، وإنّ الموجود حاليًّا على شكل نصٍّ مكتوبٍ يتداوله المسلمون، والذي تمّ جمعه من قِبل الصحابة بعد ثلاثين سنة من رحيل النبي صلّی اللّه علیه وآله وسلّم بوصفهم شهودًا على الوحي، وتحول إلى نصّ رسمي ومغلق بين الدفتين على شكل «مصحف» (أركون، 1996 م، ب، ص 173؛ أركون، 1996 م، د، ص 57).

يذهب أركون إلى الاعتقاد بأن الانتقال من مرحلة الخطاب الشفهي إلى مرحلة التدوين والكتابة كان مقرونًا بعملیاتٍ من الحذف والانتقاء والتلاعب اللفظي، وبالتالي لم يتم تدوين جميع الخطاب الشفهي للقرآن عند تحويله إلى نصٍّ مكتوبٍ، بل إنّ الكثير منه قد اندثر أثناء عملية النقل. لا سيما وأنّ عملية جمع وتدوين القرآن قد اقترنت بظروفٍ مشحونةٍ بالتنافس السياسي من أجل الاستيلاء على السلطة (أركون، بلا تاريخ، ص 188)، وفي هذه الحالة من الطبيعي أنْ تضيع بعض الأمور أو تتغيّر (أركون، 2003 م، ص 53). وعلى كلِّ حالٍ فإنّ أركون يذهب إلى الاعتقاد بأنّ القرآن عند انتقاله من المرحلة الشفهية إلى المرحلة الكتابية وتدوينه على شكلِ نصٍّ رسميٍّ، تحوّل إلى كتابٍ عاديٍّ مثل سائر الكتب وأضحى بذلك شيئًا ماديًّا هو نتاجُ مجهودٍ تقنيٍّ حضاريٍّ من قبيل: الحروف والورق وما إلى ذلك، وأنه

(91)

قد تبلور في أرضيةٍ ثقافيةٍ ـ سياسيةٍ ـ اجتماعيةٍ خاصةٍ. ومع ذلك تحوّل بدعمٍ من السلطة الحاكمة إلى أمرٍ مقدَّسٍ ومُتعالٍ (أركون، 2005 م، ص 82).

ومن خلال إطلالةٍ جامعةٍ على الآراء الشائعة بشأن تدوين القرآن يَخلُص أركون إلى تكوين رأيه حول جمع القرآن على النحو الآتي: إنه يذهب إلى الاعتقاد بأنّ جزءًا من آيات القرآن (وليس جميعها) قد تمّ تدوينه في حياة النبي (صلّی اللّه علیه وآله وسلّم)، وأن جمع القرآن كاملًا قد حدث بعد رحيل النبي صلّی اللّه علیه وآله وسلّم سنة (632 م)، وتم إعداده بصورة مصحفٍ في عهد عثمان. ثم صار أركون إلى إبطال الرواية السائدة في التراث الإسلامي من خلال الإشارة إلى رأي المستشرق الألماني ثيودور نولدكه،[1] وطرح هذه الرؤية القائلة بأن عملية جمع القرآن قد تمّت في ظروفٍ صاخبةٍ من التنافس السياسي (أركون، 2007 م، ص 90).

وبالإضافة إلى التحليل المتقدم لتاريخ القرآن، يحظى رأي أركون بشأن لغة القرآن بأهميةٍ أيضًا: إن المراد من لغة القرآن خصائصه من قبيل: الكلمات والعبارات، بمعنى: هل البنية الارتباطية والدلالية لعباراته في مواجهة المخاطبين وإيصال المعنى إخباريةٌ أو إنشائيةٌ، حقيقيةٌ أم غيرُ حقيقيةٍ، عينيةٌ أو تمثيليةٌ أو رمزيةٌ، ذاتُ طبقةٍ واحدةٍ أو عدّةِ طبقاتٍ، وما إلى ذلك (رضائي آدرياني، 1395 هـ ش، ص 93).

يرى أركون أنّ لغة القرآن:

1 ـ ذاتُ نظمٍ داخليٍّ.

2 ـ حقيقيةٌ (واقعيةٌ).

(92)

3 ـ أسطوريةٌ تمثيليةٌ أو رمزيةٌ.

وبهذا المعنى يتحصّل أوّلًا: أن القرآن على الرغم مما يبدو من عدم الترتيب في عرض المسائل والموضوعات في القرآن، واستعماله لأسلوبٍ بيانيٍّ غيرِ مسبوقٍ، يكثر فيه تكرار الإشارات التاريخية والجغرافية والأسطورية والمذهبية بشكلٍ منفصلٍ، ولكنه في الواقع يشتمل على نظامٍ داخليٍّ خاصٍّ، ويقدّم شبكةً واحدةً ومترابطةً من المفاهيم، ونمطًا موحَّدًا من الأفكار والأحاسيس؛ لأنه من خلال الاستعمال العمودي للألفاظ يدعو الإنسان إلى الارتباط المقدّس بالله تعالى، ويمنحه رؤيةً باطنيةً. وثانيًا: أنّه حقيقيٌّ بمعنى أنّه متناسِبٌ ومتطابِقٌ مع البحث الذي يقوم به الإنسان في العثور على الخلاص، ويقدّم الإمكانات الوجودية للإنسان في إطار من القضايا الهندسية. وثالثًا: أنّه يقوم بهذه العملية من خلال استخدام لغةٍ رمزيةٍ واستعاريةٍ وتمثيليةٍ، ومن هنا يجب أن نأخذ وصفه للجنة والجحيم وما إلى ذلك بنظر الاعتبار عبر توظيفه للصور العينية في إطار علاقتها بالخيال الشعري لدى العرب الذين كانوا يعيشون في البادية العربية (أركون، 1386 هـ ش، ص 56 ـ 58).

طبقاً للخصيصة الثالثة، تأتي الأوصاف الواقعية للجنة والنار في القرآن، وكذلك الإشارات المتكررة إلى الأمم التي كُتب لها النجاة أو طالتها اللعنة، والسلوك الصالح للأنبياء، في إطار ذات الهدف المرصود من قبل حكايات التوراة، أي تبرير وإضفاء الشرعية على الأمل والانتظار الفطري لدى الإنسان بتحقُّق العدالة التامّة والقطعية. وبذلك فإنّ القرآن من خلال توظيف الطاقة الشعرية الكامنة في اللغة العربية، عمد إلى تقديم منظومةٍ مثاليةٍ وواسعةٍ إلى المؤمنين ليحرّك فيهم نزعة التفكير والعمل. وهذه الأمثلة عبارةٌ عن:

1 ـ تجسيد الوعي بالذنب.

(93)

2 ـ تجسيد الأفق الأخروي.

3 ـ مثال الأمة.

4 ـ تجسيد الحياة والموت (المصدر ذاته).

وباختصارٍ فإنّ أركون يرى أن بنية القرآن تختلف عن بنية سائر النصوص الإسلامية الأخرى مثل الحديث والكلام والفقه وما إلى ذلك، ويذهب إلى الاعتقاد بأنّ البنية اللغوية للقرآن وأسلوبه البياني شبيهٌ بالأسلوب اللغوي والبياني للكتب المقدسة المتقدّمة على القرآن، أي التوراة والإنجيل. إن القرآن قد استعمل أنواعًا من الخطابات، من قبيل: الخطاب النبوي، والخطاب التشريعي، والخطاب القصصي، والخطاب الحِكَمي، والخطاب التسبيحي. إن الجانب الإبداعي والرمزي والمجازي من القرآن يتغلب على جانبه المنطقي والعقلاني والاستدلالي ـ البرهاني. وإنّ موضع فهمه وإدراكه هو «القلب» لا «الرأس» أو المخ، ومن هنا فإن المعاني القرآنية قبْل أن تُقدّم عن طريق المفاهيم والأدلة المنطقية بشكلٍ محدَّدٍ ومشخَّصٍ، يتم إلقاؤها عبر الرموز والمجازات والحِكَم والأمثال (أركون، بلا تاريخ، ص 283 ـ 284).

وکذلک في ما يتعلق بفهم القرآن يطرح أركون رؤيةً متطابقةً مع الاتجاهات المتمحورة حول المفسّر. يرى أركون أنّ الوصول إلى المعنى الحقيقي للقرآن غيرُ ممكنٍ، وأنّ دعوى الوصول إلى المعنى الحقيقي وتحديد معنى الخلود ليس سوى وهمٍ وخيالٍ، وأنّ كلَّ ما نواجهه هو مجموعةٌ من المفاهيم الكامنة بالقوّة، وتجسيدها وتفعيلها رهنٌ بالسائل (أركون، 1386 هـ ش، ص 56).

النقطة الأخيرة بشأن رؤية أركون القرآنية تكمن في قراءته للقرآن. ويمكن تلخيصها عبر النقاط الآتية:

(94)

1 ـ ضرورة الرؤية الجامعة والشمولية والالتفات إلى السياق (رضائي أدرياني، 1395 هـ ش، ص 94).

2 ـ الالتفات إلى البنية الأسطورية واللغة الاستعارية في القرآن.

3 ـ عدم الاكتفاء بالنتائج التي حققها المتقدّمون، والسعي إلى تقديم أساليبَ حديثةٍ لفهم القرآن (المصدر ذاته).

ولا بد من التنويه إلى هذه النقطة، وهي أن أركون من خلال بيان بعض الخصائص للقرآن، يذهب إلى الاعتقاد بأنّ قراءة القرآن يجب أن تتمّ عبر ثلاث مراحلَ، وهي:

المرحلة الأولى: المرحلة اللغوية واللسانية التي تمكّننا ـ بزعم أركون ـ من الوصول إلى النظم الباطني للقرآن من خلال عدم النظم الظاهري له، بمعنى أنه من خلال توظيف الأساليب اللغوية بدلًا من الخوض في الأجزاء المنفردة، صبّ التركيز على کلِّ النص، أي أن علينا أوّلًا أن نبحث عن منظومة الارتباط الداخلي لمجمل القرآن، والبحث عن معنى القرآن على مستوى هذه العلاقات. ولذلک يجب أن نجتنب كلَّ نوعٍ من أنواع القراءة الدستورية القائمة على الاستنباطات المنطقية والنحوية السائدة.

المرحلة الثانية: المرحلة الأنثروبولوجية التي سيتم من خلالها التعرّف إلى البنية الأسطورية في القرآن. والمراد من الأسطورة هنا البيان الرمزي للواقعية. إنّ أركون ضمن تأكيده على هذا الأصل القائل بأنّ كلَّ أسطورةٍ تُعبّر عن عودةٍ إلى مرحلة ما قبل المعاصي واستعادة الفضاء المعنوي، يذهب إلى الاعتقاد بأن القرآن في الوقت الذي يمتلك لغةً أسطوريةً خاصّةً، له واقعيته المثالية أيضًا.

(95)

المرحلة الثالثة: المرحلة التاريخية التي سيتّضح من خلالها إیجابیات وسلبیات التفاسير الكلامية واللغوية والعرفانية التي أنجزها المسلمون إلى الآن. ويقسّم أركون التيارات التفسيرية ـ التأويلية القائمة في عالم الإسلام إلى ثلاثة تياراتٍ، وهي: التيار الكلامي، والتيار الأدبي، والتيار العرفاني. يرى أركون أن هذه التيارات التفسيرية الثلاثة في ما يتعلق بالحكم بشأن المطلق أو النسبي، والحسن أو القبيح، والصحيح أو الخطأ وما إلى ذلك، إنما تُقدّم نوعًا من المعرفة الکاذبة واللاواقعیة، تَحوَّل فيه البيان الأسطوري للقرآن إلى أسالیبَ استدلالیةٍ ومترادفاتٍ لغويةٍ مجرّدةٍ، وتراكيبَ عرفانيةٍ جافةٍ فاقدةٍ للروح (أركون، 1386 هـ ش، 57 ـ 58).

تحليلٌ وتقييمٌ

1ـ عدم إمكان الوثوق بالقرآن المكتوب الموجود بين المسلمين: إن أركون من خلال تفكيكه بين القرآن الشفهي والقرآن المكتوب، لا يعترف إلا بالقرآن الشفهي، إذْ يقول أن هذا القرآن هو القرآن الحقيقي، وأما القرآن المدوّن والمكتوب فلا يبدو حقيقيًّا (فاضل السعدي، 2012 م، ص 144). وعلى هذا الأساس فالذي يمثل الحقيقة هو الألفاظ الشفهية للنبيّ، والذي لم يعد الوصول إليه ممكنًا، وأما الموجود بأيدينا من القرآن المكتوب فهو غيرُ حقيقيٍّ؛ لأنه ـ بزعمه ـ إنما تبلور في خضم النزاعات السياسية ـ الاجتماعية، ولأنه قد ارتدى ثوب القداسة ضمن العملیة التاريخية من خلال التعريف بالآداب والمناسك الخاصة أو أنواع الاستدلالات بشأنه، وأخذ يتمّ التعريف به بوصفه «كتابًا مقدَّسًا» (أركون، 2005 م، ص 25 ـ 26).

2ـ أركون واعتبار بشرية القرآن: إنّ أنسنة القرآن وقطع صلته بعالم الغيب، هو المسار الذي تنتهجه عامّة الاتجاهات الحديثة (ابن عاشور، بلا تاریخٍ، ص

(96)

237 ـ 238؛ حمزة، 2007 م، ص 93 ـ 94). إنّ أركون ـ طبقًا لما تَقدّم ـ يذهب إلى القول بأنّ الذي يُعرف حاليًّا باسم القرآن لا هو مقدَّسٌ ولا هو سماويٌّ؛ لأنّ نصّه في الحقيقة ليس سوى مدوّناتٍ كتبها الصحابة عن كلمات النبي الأكرم (صلّی اللّه علیه و آله وسلّم)، وتمّ جمعها من قِبل الصحابة ـ بعد وفاة النبي صلّی اللّه علیه وآله وسلّم بثلاثين سنةً ـ بوصفهم شهودًا على الوحي، وبعد التدخّل والتصرّف في تنظيم الآيات والسور، تحوّل إلى نصٍّ رسميٍّ ومغلَقٍ على شكل «مصحفٍ» (أركون، 1996 م، ب، ص 171 ـ 173؛ أركون، بلا تاريخٍ، ص 188). وعلى هذا الأساس فإنّ تدوين مجموع القرآن وتحوُّله إلى نصٍّ مكتوبٍ، لم تكن له صلةٌ بالوحي والنبي، وإنّما هو مجرّدُ عملٍ من أعمال الصحابة. وهذا يعني أن المصحف الموجود ـ طبقًا لادّعاء أركون ـ ليس هو الوحي الذي نزل على النبي (صلّی اللّه علیه وآله وسلّم)، ونحن في مواجهتنا لهذا المصحف المكتوب لا نتعامل مع نصٍّ إلهيٍّ، وإنّما نتعاطى مع نصٍّ بشريٍّ وتاريخيٍّ وغيرِ مقدَّسٍ.

تثبت البحوث والدراسات أنّ هذا الادعاء لا يقوم على أساس علميٍّ، وأنّ القرآن قد تمّ تدوينه بشكلٍ كاملٍ في حياة رسول الله صلّی اللّه علیه وآله وسلّم(حجتي، 1386 هـ ش، ص 232؛ فاضل السعدي، 2012 م، ص 486).

إن مسألة تدوين الوحي وكتابة القرآن في حياة النبي الأكرم صلّی اللّه علیه و آله وسلّم ـ بالالتفات إلى الوثائق والشواهد المعتبرة ـ أمرٌ لا يمكن التشكيك فيه... فقد كان الكُتّاب الذين عُرفوا بكُتّاب الوحي، يعملون طبقًا لأمر رسول الله صلّی اللّه علیه وآله وسلّم على كتابة ما ينزل عليه من الوحي أوّلًا بأوّلَ، وكانوا يتركون نسخةً ممّا يكتبونه في بيت النبي، ويحتفظون بنسخةٍ أخرى لأنفسهم (حجتي، 1386 هـ ش، ص 210).

(97)

و ممّا تقدّم يمكن التوصّل إلى نتيجةٍ مفادها أنّ ترتيب السور الموجود في القرآن الراهن هو على نحوِ الإجمال نفس ترتيب المصحف الذي كان موجودًا في عصر رسول الله (صلّی اللّه علیه وآله وسلّم)، ولكن حيث لم يكن هذا الترتيب [ترتيب السور] توقيفيًّا ـ أي لم يكن ملزِمًا ـ نجد هناك اختلافاتٍ في ترتيب سور القرآن في مصاحف سائر الصحابة. ومع ذلك يمكن القول بأنّ القرآن - سواءً كان على ترتيبه الراهن، أو أيِّ ترتيبٍ آخرَ قد سمح للصحابة من كُتّاب الوحي أن يقوموا به طبقًا لاجتهاداتهم ـ كان موجودًا في عهد رسول الله (صلّی اللّه علیه وآله وسلّم). بعبارةٍ أخرى: إنّ القرآن أيًّا كان ترتيبه، كان موجودًا في حياة رسول الله صلّی اللّه علیه وآله وسلّم بشكلٍ مجموعٍ ومكتوبٍ (المصدر ذاته، ص 232). والخلاصة: إنّ تحليلات أركون بشأن كتابة وتدوين القرآن، وما طرأ عليه من الإضافات أو الحذف المحتمل، بغية الخدش في سماويته وإظهاره على أنّه عملٌ بشريٌّ، لا ينسجم مع الرواية التاريخية الواضحة والتي تؤكد بما لا يدع مجالًا للشكّ أنّ النبي الأكرم صلّی اللّه علیه وآله وسلّم كان يُشرف بنفسه على عملية جمعه وتدوينه.

3 ـ تضارب آراء وأفكار أركون مع نص القرآن: إنّ تحليلات أركون بالإضافة إلى عدم انسجامها مع الروايات التاريخية المعتبرة، فإنها كذلك لا تنسجم مع آيات القرآن أيضًا. لا بد من التوضيح بأنّ أركون هو ـ كما يدّعي ـ شخصٌ مسلمٌ، ونحن بدورنا لا نعتبر رأيه رأيًا أجنبيًّا، وإنما هو رأيٌ من داخل البيت الإسلامي، وفي مثل هذه الحالة كان عليه بوصفه شخصًا مسلمًا أن يقوم في الحدّ الأدنى بمراجعة القرآن ولو لمرّةٍ واحدةٍ لتقييم نظريته وما إذا كانت آراؤه ـ بوصفه مسلمًا ـ تنسجم مع نصّ القرآن ومضامين الآيات أم لا. إننا إذا راجعنا القرآن سنجد الكثير من الآيات القرآنية تخالف آراءه، ومن بينها عشرات الآيات التي تعبّر عن القرآن الكريم

(98)

بلفظ «الكتاب»[1]، والآيات التي تشير إلى أن القرآن في أم الكتاب واللوح المحفوظ، وأنه مكتوبٌ[2]، وأنه قد كُتب بلغةٍ عربيةٍ[3]، وأن حقيقته ليست مجرّدَ حقيقةٍ شفهيةٍ. وهناك آياتٌ أخرى تدلّ على هذه الحقيقة حيث تقول أن القرآن قد نزل بلفظه ومعناه على رسول الله، وأنّ نزول القرآن كان نزولًا لفظيًّا ومعنويًّا (ولم يكن مجرّدَ نزولٍ معنويٍّ)[4]. وعلى هذه الحالة لو قلنا بمقالة أركون واعتبرنا أنّ القرآن كان في البداية مجردَ أمرٍ شفهيٍّ، وأنه كان قائمًا بشخص النبي، وأنه لم يتمّ تدوينه في عهد النبي، فسوف يكون التعبير بـ «الكتاب» في هذه الآيات للدلالة على قرآنٍ غيرِ مكتوبٍ أبدًا، تعبيرًا فاقدًا للمعنى (فاضل السعدي، 2012 م، ص 466).

4 ـ الخلط بين التدوين وجمع وتوحيد المصاحف: كما تقدم أنْ ذكرنا فإنّ أركون يُعيد تاريخ تدوين وجمع القرآن إلى ما بعد وفاة النبي، وقال أنّه من عمل الصحابة. وفي هذا الشأن يبدو أنّ أركون قد خلط بين مفهوم التدوين وجمع وتوحيد المصاحف (المصدر ذاته، ص 145 ـ 146). وبناءً على ما تقدّم من الإيضاحات في الإشكال السابق نقول أوّلًا: إنّ جمع وتدوين كل القرآن قد حصل ـ خلافًا لتصوّر أركون ـ في حياة النبي الأكرم صلّی اللّه علیه وآله وسلّم نفسه. وثانيًا: إنّ ما حصل في عهد أبي بكر هو عملية جمع السور المكتوبة في سجلٍّ واحدٍ. وما حصل في عهد عثمان إنّما هو توحيد المصاحف لا جمع أو تدوين القرآن.

(99)

ولأجل توضيح ذلك فإنه بناء على ما تقدّم، حيث لم تكن أدوات الكتابة القديمة تسمح بإخراج الآيات والسور في مصحف في سجل واحد، إن ما حدث نتيجةً لذلك بعد رحيل رسول الله صلّی اللّه علیه وآله وسلّم هو أنّ مجموع الآيات المحددة التي تمّ تعيينها من قِبل النبي صلّی اللّه علیه وآله وسلّم ضمن سُورٍ خاصةٍ، وتم جمعها في دفاترَ متفرقةٍ، تمّ العمل لاحقًا على توحيدها في مصحفٍ واحدٍ. ثم أمر أبو بكر بكتابة القرآن على شيءٍ ـ من قبيل الجلد أو الأديم ـ قابلٍ للربط والوصل ببعضه؛ ليتم جمع القرآن ضمن مصحفٍ واحدٍ منضبطِ الصفحات. ثم وفي عهد عثمان وبسبب اختلاف المصاحف في القراءة (لا أكثر)، تم اتخاذ قرارٍ جديدٍ، حيث أمر عثمان بتوحيد المصاحف على قراءةٍ واحدةٍ. إنّ جهود عثمان التي تمّت تحت إشراف الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)[1]، قدمت للمسلمين قرآنًا واحدًا أجمعت عليه كافة الفرق الإسلامية (حجتي، 1386 هـ ش، ص 232؛ معرفت، 1386 هـ ش، ص 84 و96 و100 و101).

وفي ما يتعلق بالقول بأن ترتيب السور قد حدث بعد رحيل رسول الله (صلّی اللّه علیه وآله وسلّم)، يجب القول: «إن رسول الله قد أعطى بعض التعليمات والإرشادات والإشارات في هذا الشأن على نحو الإجمال» (المصدر ذاته، ص 231)، و«إنّ ترتيبَ السور الموجود في القرآن الراهن، هو على نحو الإجمال ذاتُ الترتيب الذي كان موجودًا على عهد رسول الله» (المصدر ذاته، ص 232). و«إنّ المهمّ في هذا المقام هو إكمال السور، واستقلالية السور عن بعضها، كي لا تشتبه آيات كلِّ سورةٍ بآيات سورةٍ أخرى، وهذا قد تحقّق في حياة النبي الأكرم (صلّی اللّه علیه وآله

(100)

وسلّم)» (معرفت، 1386 هـ ش، ص 84). بيد أنّ الترتيب بين السور لم يكن توقيفيًّا، وهذا الأمر لا يضرّ بسماوية القرآن الكريم. وعلى هذا الأساس فإنّ أركون يكون قد ارتكب مغالطةً من خلال عدم تمييزه بين جمع القرآن وتوحيد المصاحف.

5 ـ عدم انسجام تحليل أركون مع الأحاديث: يحيل أركون تدوين القرآن إلى ما بعد رحيل النبي الأكرم (صلّی اللّه علیه وآله وسلّم)، وبناء على ذلك لم يكن النبي هو المتصدّي لعملية تدوين القرآن الكريم، وإنما ترك هذه المهمة إلى الذين يأتون بعده. إلا أن هذا الكلام لا ينسجم مع الكثير من الروايات، ومن بينها حديث الثقلين وهو «من الأحاديث المتواترة» (الحر العاملي، ص 420). وفي هذا الحديث قال النبي الأكرم (صلّی اللّه علیه وآله وسلّم): «إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وعترتي أهل بيتي» (الكليني، 1429 هـ، ص 25). وعليه كيف كان يمكن للنبي أن يأمر بالتمسّك بشيءٍ لم يكن بمتناول سوى عددٍ محدودٍ من الحُفّاظ والصحابة؟! فهل يمكن باعتبار كونه محفوظًا في صدور بعض الصحابة أن يأمر الجميع به، والحال أننا نعلم بأنّ الصحابة بدورهم عرضةٌ للنسيان والموت أيضًا (فاضل السعدي، 2012 م، ص 461).

6 ـ أركون وقياس القرآن إلى العهدين: كما أشرنا فإنّ تحليل أركون بشأن طريقة تدوين القرآن، يقوم على قياسه القرآن على العهدين، وقوله بأن القرآن والعهدين على نسقٍ واحدٍ من هذه الناحية (أركون، 2007 م، ص 86)، بمعنى أنّه يجري المسارات التي أدّت إلى تبلور نص العهدين على القرآن أيضًا. وفي هذا الإطار وصف بعض الكُتّاب هذه المقارنة بأنّها من قَبِيل القياس مع الفارق (فاضل السعدي، 2012 م، ص 464 ـ 471؛ حرب، 2005 م، ص 87؛ عبد الرحمن، 2006 م، ص 189 ـ 190). هناك من يرى أنّ القرآن ـ خلافًا للعهدين ـ قد وصل إلينا كاملًا،

(101)

وقد تمت فيه رعاية جميع الخصائص الدخيلة في ضبط بيانه الأعم من الحركات والسكنات والمد والإدغام والوقف وما إلى ذلك. والبعض الآخر من الكُتّاب في دراسته لرؤية نصر حامد أبو زيد وقوله ببشرية القرآن، قد تتبّع جذور هذا القول في آثار وآراء محمّد أركون، وقال بأنّ قول أركون ببشرية القرآن تعود جذوره إلى قياس القرآن الكريم إلى العهدين (نكونام، 1394 هـ ش، ص 42).

وعلى كل حال فإن تحليلات أركون تُعدّ نوعًا من الاجترار للأدبيات التي سبق أن تمّ إنتاجها حول التوراة والإنجيل (عبد الرحمن، 2006 م، ص 189 ـ 190). وفي الحقيقة فإن الابتكار الوحيد الذي قام به أركون في هذا الشأن هو ترجمة النظريات الغربية وآراء المتنورين من اليهود والمسيحيين بشأن «الكتاب المقدّس» وإسقاطها على القرآن، في حين أنّ هناك بونًا شاسعًا وبارزًا بين القرآن الكريم والكتاب المقدّس، وفي ما يلي نشير إلى بعض هذه الاختلافات:

أولاً: خلافًا للقرآن الكريم ـ الذي هو عبارةٌ عن وحي الله إلى النبي الأكرم (صلّی اللّه علیه وآله وسلّم)، وهو الكلام الإلهي على ما مرّ تفصيله في الإشكال الثاني ـ فإنّه لا شيء من مختلف أجزاء العهدين یُعَدُّ كلامًا إلهيًّا. إنّ الكتاب المقدس يشتمل على العهد القديم والعهد الجديد. ويتألف العهد القديم من ثلاثة أقسام، وهي: التوراة (شرح وبيان كيفية الخلق والعالم والإنسان)، والنبوئيم (كتاب الأنبياء)، والكتوبيم (الرسائل والكتب). (فيفر، 1381 هـ ش، ص 36).

تثبت الدراسات أن «التوراة الراهنة لا تعود إلى حقبةٍ زمنيةٍ واحدةٍ أو مؤلِّفٍ واحدٍ، وأنّ أسفاره قد كُتبت عبر التاريخ وفي أزمنةٍ مختلفةٍ» (خير خواه، 1388 هـ ش، ص 29). إن التوراة الأم قد ضاعت في الفتن والحروب الأولى في فلسطين، وإن الأناشيد والترانيم وكتب الأنبياء ليست لأولئك الذين ينسبها اليهود إليهم (المصدر ذاته، ص 27).

(102)

والعهد الجديد بدوره ينقسم إلى أربعة أقسامٍ، وهي:

1 ـ الأناجيل الأربعة التي تبيّن السيرة الذاتية للسيد المسيح عيسى (علیه السلام)، وكلماته[1]، والتي تمّ تدوينها بعد فترةٍ طويلةٍ من غياب السيد المسيح (ما بين عامي 65 ـ 100 م) من قِبل الحواريين وأتباع السيد المسيح (علیه السلام).

2 ـ أعمال الرسل، وهي شرحٌ للنشاط التبشيري والأسفار التبشيرية للمبشرين المسيحيين، ولا سيما بولس.

3 ـ الكتب والرسائل، وهي تشمل الرسائل التي كتبها الحواريون والرسل إلى المدن وإلى مختلف الشخصيات.

4 ـ المكاشفات المنسوبة إلى يوحنا (زيبائي نجاد، 1375 هـ ش، ص 72 ـ 77).

وفي ما يتعلق برؤية المسيحيين إلى العهد الجديد، يجب القول:

 «إنهم [المسيحيین] يقرّون بأن مجموع العهد الجديد مكتوبٌ من قِبل أشخاصٍ عادّيين بعد صعود السيد المسيح (علیه السلام)» (سليماني أردستاني، 1395 هـ ش، ص 49).

والخلاصة هي أن العهدين ليسا كلامًا إلهيًّا، بل وليسا حتى كلامًا نبويًّا، بل هما مجرد كتابات التلاميذ أو غيرهم حول سيرة الأنبياء أو حتى سيرة بعض المبشرين، وقد كُتِبت على مرّ القرون من قبل مختلف الكتّاب. ومن هنا فقد تمّ التشكيك الجادّ في نسبة هذين الكتابين إلى الأنبياء حتى من قبل اليهود والمسيحيين أنفسهم.

ثانياً: نظرًا إلى اهتمام النبي الأكرم صلّی اللّه علیه وآله وسلّم وحرصه على

(103)

كتابة وتلاوة وحفظ القرآن[1]، كان جمهور الناس على معرفة بنص القرآن، ولذلک لم يكن هناك أيُّ إمكانيةٍ للتدخل والتصرّف في القرآن بحيث يغيب عن علمهم. في حين أنّ العهدين مجرّدُ رسائلَ كتبها تلاميذ السيد المسيح عيسى والنبي موسى بشكلٍ منفردٍ، ولا نعرف خلفياتها، ولا كيفية انتقالها إلى الأجيال اللاحقة (نكونام، 1394 هـ ش، ص 42).

يُضاف إلى ذلك أنّ قسمًا كبيرًا من العهد الجديد هو بيان لنشاط وكتب المبشِّرين المسيحيين (الرسل)، وقد أضيفت إلى العهد الجديد لاحقًا.

ومن ناحيةٍ أخرى، ذهب علي حرب إلى اعتبار قياس القرآن إلى العهدين قياسًا مع الفارق. ويذهب إلى الاعتقاد بأن أركون عند مقارنته بين القرآن وسائر الكتب الدينية، يتجاهل الامتيازات التي يتمتع بها القرآن عليها؛ إذ على الرغم من تصنيف القرآن ضمن التراث الإبراهيمي، وفي هذا السياق تم إلحاقه بالكتب المقدسة السابقة عليه، كما أن القرآن من حيث اشتماله على الشرائع والعقائد، يُعدُّ نسخًا أو استمرارًا أو استكمالًا للتراث المكتوب الذي نجده في التوراة والإنجيل، إلا أنه في الوقت نفسه يختلف عنهما، وإنّ هذا الاختلاف لا يكمن في الناحية الاعتقادية، وإنما يكمن في الغلبة الدلالية والتأويلية (حرب، 2005 م، ص 87).

8 ـ أركون ونفي القيم المعرفیّة للقرآن: كما تقدّم أن أشرنا فإنّ أركون يعتبر

(104)

لغة القرآن لغةً أسطوريةً. على الرغم من أنه لم يفسّر الأسطورة بمعنى الكلام الوهمي الذي لا يستند إلى أساسٍ، وسعى إلى تفسير الأسطورة بشكلٍ لا يتنافى مع معرفية القرآن، ولكن يبدو أنّ هذا السعي لم يُؤدِّ إلى النتيجة التي يرجوها، فتمّ لذلك نبذه من قبل الإسلاميين، كما لم يحظَ بترحيبٍ من قِبل الأعداء العلمانيين أيضًا (رضائي آدرياني، 1395 هـ ش، ص 96). كما رأينا فإنّ الدور الذي يرسمه أركون للأسطورة يكمن في مجرّد إرجاع المؤمنين إلى مرحلة ما قبل المعاصي واستعادة الفضاء المعنوي، وكذلك إضفاء التفسير أو المشروعية على الأمل الفطري لدى الإنسان وميله إلى كشف رموز الوجود، والإرادة إلى تحقيق الغلبة على عقبات الحياة (أركون، 1386 هـ ش، ص 57). واضحٌ أنّ هذا الدور والسلوک ينسجم مع واقعية المدلولات كما ينسجم مع السلوک غير الواقعي، فعلى سبيل المثال: إن آيات الجنة والنار حتى وإنْ لم تدلَّ على تحقُّق عالَمٍ يتّصف بذات الخصائص المذكورة في الآيات، يبقى لها ذات التأثير في خلق الأمل، هذا بغضّ النظر عن تصريح أركون بأن حقیقة الجنة والنار تثير الضحك (المصدر ذاته).

إن نفي القيمة المعرفیّة للقرآن لا يكمن في مجرّد اعتباره أسطورةً، بل إن اعتبار لغةِ القرآن تمثيليةً واستعاريةً يؤدي بدوره إلى لزوم بطلانه أيضًا، وهو تأكيدٌ على عدم حقيقة مدلولات الآيات. إنّ أركون لا يرى مفاهيم القرآن معبّرةً عن الحقائق، وإنما هي بالنسبة له مجرّد رموزٍ لإنعکاس الرؤية الباطنية، وإثراء الرغبات والفكر والسلوك الإنساني، بحيث يغدو محلًّا لتجلّي الارتباط المقدس بين الله والإنسان.

9 ـ التناقض في كلام أركون: إنّ من بين الانتقادات الوارد على أركون، هي التناقضات، أو في الحد الأدنى الغموض في كلامه في مقام البحث عن جمع وتدوين القرآن الكريم (فاضل السعدي، 2012 م، ص 147 ـ 148). كما بيّنّا في تقرير رأيه

(105)

فإنّه يحدّد تاريخ تدوين القرآن إلى ما بعد ثلاثين سنة من رحيل النبي الأكرم (أركون، 1996 م، ب، ص 171 ـ 173)، ولكنّه يعمد في بعض آثاره أحيانًا إلى القول بأنْ إعادة جمع وتثبيت القرآن قد تمّ ما بين عامَيْ 632 ـ 936 م، بمعنى أنه يبيّن أنّ جمعه قد تمّ من لحظة رحيل النبي الأكرم (صلّی اللّه علیه وآله وسلّم). وفي بعض مؤلفاته يعيد مرحلة كتابة القرآن إلى فترة خلافة عثمان (645 ـ 656 م). والأعجب من ذلك كله أنه ينسب في بعض عباراته تدوين القرآن إلى القرن الهجري الرابع / القرن العاشر للميلاد! وهو ـ خلافًا لتصور الجميع ـ يقول بأنّ القرآن لم يتخذ شكله الكامل والأخير، وإنما استمر النزاع حوله إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وقد تعرّض القرآن طوال هذه الفترة للحذف والزيادة، حتى اتفق الشيعة والسنة في القرن الرابع على صيغةٍ موحّدةٍ للقرآن (أركون، 2005 م، ص 114). وبشأن حلّ هذه التناقضات وأنواع الإبهام والغموض الناشئ عنها، يجب القول أنه يبدو أنّ جذور جميع هذه المغالطات والتناقضات تعود إلى عدم تمييزه بين التدوين والجمع وتوحيد المصاحف.

الظاهرة الإسلامية والقراءة الأركونية لها

لقد عمد أركون في دراسته لـ «الظاهرة الإسلامية» إلى تقسيمها إلى ستِّ مراحلَ، ومع الأخذ بنظر الاعتبار «الظاهرة القرآنية» أو «اللحظة التأسيسية»، يكون العقل أو الفكر الإسلامي في المجموع قد تجاوز سبع مراحل. والمراحل الست التي يذكرها في دراسة الحدث الإسلامي، هي كالآتي:

1 ـ المرحلة التأسيسية أو اللبنة الأولى للفكر الإسلامي.

2 ـ العصر الكلاسيكي والتقليدي.

(106)

3 ـ العصر الإسكولاستيكي.

4 ـ مرحلة النهضة.

5 ـ الثورة الوطنية الناصرية ما بين عامي (1952 ـ 1970 م).

6 ـ التيار الإسلامي الأصولي، منذ عام 1970 م فصاعدًا. (أركون، بلا تاريخ، ص 283).

ومن بين هذه المراحل تحظى المرحلة التأسيسية والكلاسيكية والإسكولاستيكية بأهميةٍ أكبر، ولذلك سوف نتناول هذه المراحل بمزيدٍ من التفصيل.

1 ـ المرحلة التأسيسة أو اللبنة الأولى من الفكر الإسلامي: وتمتد هذه المرحلة من السنة الهجرية الأولى إلى عام 150 للهجرة (622 ـ 767 م). ولا بد من الالتفات ـ بطبيعة الحال ـ إلى أن أركون يعتبر السنوات الثلاثة والعشرين من حياة النبي الأكرم صلّی اللّه علیه وآله وسلّم جزءًا من الظاهرة القرآنية (المصدر ذاته).

يذهب أركون إلى الاعتقاد بأن الوعي الإسلامي قل تبلور ضمن أربع مراحلَ، وهي:

1 ـ ظهور القرآن ووضع الوثائق الأولية.

2 ـ شهادة الشهود الأوائل على الوحي وكلمات وأفعال النبي المقترنة بنوع من التأويل، والتي أدّت إلى توفّر الوثائق التأويلية ـ التفسيرية.

3 ـ التدوين النهائي للنصوص الدينية.

4 ـ تبلور سلسلة من التفاسير ذات الاتجاهات المختلفة، الأمر الذي أدى إلى تعقّد الحقيقة في لحظة البداية (أركون، 1996 م، ب، ص 171).

(107)

كما تقدم فإنّه بعد رحيل النبي الأكرم صلّی اللّه علیه وآله وسلّم تحوّلت الآيات القرآنية ـ التي نزلت وحيًّا عليه في اللحظة القرآنية طوال ثلاث وعشرين سنةً، ضمن مسارٍ ينتمي إلى لحظة الظاهرة الإسلامية ـ على يد أصحاب النبي بوصفهم الشهود الأوائل على الوحي، إلى نصٍّ رسميٍّ ومغلَقٍ على شكل مصحفٍ (المصدر ذاته، ص 171 ـ 173).

وبالإضافة إلى ذلك فإنّ كلام وعمل النبي بوصفه قائدَ المجتمع، ونقل المشاهدات والمسموعات عنه، أوجدت الأحاديث النبوية، والتي كان يتمّ تناقلها في البداية مشافهةً، ثم تحوّلت إلى نصٍّ مكتوبٍ يُضاهي القرآن (أركون، 1669 م، ب، ص 149)[1]. ثم تبلورت النصوص التفسيرية الناظرة إلى شرح القرآن والأحاديث.

وعلى هذه الشاكلة تحولت الآيات القرآنية وسيرة النبي وأصحابة إلى معاييرَ إسلاميةٍ، يستند إليها المسلمون في مختلف شؤون حياتهم اليومية، دون أن يفصلوا بين القرآن بوصفه نصًّا شفهيًّا، وكذلك النص الرسمي له، وبين النص الرسمي للقرآن والنصوص الثانوية الواردة من قبل الأمة المفسّرة في شرح وبيان القرآن أو الأحاديث المذكورة (أركون، 2003 م، ص 173؛ أركون، 1996 م، ب، ص 174).

2 ـ مرحلة العصر الكلاسيكي: وقد استغرقت هذه المرحلة تقريبًا الأعوام ما بين 150 إلى 450 للهجرة (767 ـ 1058 م)، وتعد «المرحلة الذهبية» من الحضارة الإسلامة، حيث شهدت المواجهة الأولى بين العقل الإسلامي والعقل الأجنبي الفلسفي ـ الإغريقي. وإنّ الفكر المعتزلي، وفكر الفارابي وابن سينا ومسكويه ينتمي إلى هذه المرحلة (أركون، بلا تاريخٍ، ص 286 ـ 287).

(108)

لقد عمل أركون على مقارنة مواقف الذين كانوا ينشطون في العصر الكلاسيكي في مواجهة العلم الإغريقي، بمواقف الجماعات الإسلامية الراهنة تجاه العلوم الأوروبية وأساليبها، وأثنى على مواقف المأمون في رفع مكانة المعتزلة ومكافحة النقل.

إنّ أركون في معرض تحليل خلفيات تبلور المذاهب والمدارس، يعيد ذلك إلى النزاعات التي حدثت بعد رحيل النبي، ويرى أنّها ترسّخت وضربت بأجرانها في المرحلة الكلاسيكية. يؤكّد أركون على أنّ مركز ومحور فتنة عام 661 م والتي أدت إلى ظهور مختلف الفرق الإسلامية، قد تبلورت حول مسألة السلطة، وإنّ جميع المسائل الأخرى قد تبلورت بدورها حول محورها. توضيح ذلك أن الفرق الإسلامية الرئيسة، وهي: أهل السنة، والشيعة، والخوارج ـ من وجهة نظر أركون ـ رغم تسويقها لمعتقداتها على أنها حقائقُ إلهيةٌ خالصةٌ، ولكنها قد تبلورت على أساس التنافس في ما بينها من أجل الاستيلاء على السلطة، وكان كلُّ واحدٍ منها يسعى ـ بسبب الخلافات الاجتماعية والثقافية ـ إلى إلغاء الآخر وإثبات ذاته (أركون، 1996 م، ب، ص 285 ـ 286)[1].

وفي معرض بحثة عن تثبيت دعائم المذهب الشيعي، يرى أركون تأثيرًا بالغًا وكبيرًا لكتب من قبيل: الكافي للـكليني، ومن لا يحضره الفقيه للـ شيخ الصدوق، ومؤلفات الشيخ الطوسي والشيخ المفيد والسيد الرضي والسيد المرتضى (أركون، 2003 م، ص 128). وبشکلٍ إجماليٍّ فإنه يذهب إلى الاعتقاد بأن النصوص الفقهية والنصوص المختصة بعقائد المذاهب المختلفة، تمثل أبنيةً اجتماعيةً تبلورت على أمد القرون الإسلامية الأولى على يد أجيالٍ من الفاعلين الاجتماعيين وفي صلب النزاعات السياسية والاجتماعية، إلا أنها تلفعت بثوب القداسة عبر المسارات الاجتماعية (المصدر ذاته، ص 132).

(109)

3 ـ مرحلة العصر الإسكولاستيكي: يرى أركون أنّ هذه المرحلة تمثل عصر الاجترار والانحطاط، وقال بأنها تبدأ من النصف الثاني من القرن الهجري الخامس/ القرن الحادي عشر للميلاد، وتستمرّ إلى القرن الثالث عشر للهجرة / التاسع عشر للميلاد. يرى أركون أنّ الصعوبات التي يعاني منها العالم الإسلامي المعاصر تعود جذورها إلى هذه المرحلة؛ إذ إن العقل الحاكم على هذه المرحلة عقلٌ مغلقٌ على نفسه، وبذلك فإنه يُلغي الفكر الفلسفي بالكامل، ويرتبط بالتعاليم المذهبية الخاصة ارتباطًا وثيقًا (أركون، بلا تاريخ، ص 289).

يطرح أركون مرحلة النهضة ومرحلة الثورة الوطنية، ومرحلة حاكمية الإسلام الأصولي، كاستمرارٍ للمراحل الثلاثة السابقة. إنّ مرحلة النهضة تبدأ من القرن التاسع عشر (1880 م)، وتستمر إلى منتصف القرن العشرين (1950 م). وأما مرحلة الثورة الوطنية فهي مرحلة تُعرف بشخصية جمال عبد الناصر، وإن أركون يعبّر عن هذه المرحلة بمرحلة الثورة الوطنية الناصرية، وهي تشمل الفترة ما بين عامي 1952 ـ 1970 م. وأما مرحلة حاكمية الإسلام الأصولي فقد بدأت منذ عام 1970 م، ولا زالت مستمرةً حتى الآن.

وفي ما يتعلق بالمراحل المتقدمة هناك نقطتان هامتان، وهما:

النقطة الأولى: إنّه يطرح أحيانًا أنواعًا للإسلام، أو بعبارةٍ أخرى: قراءاتٍ أو معانيَ مختلفةً عن الإسلام، يمكن القول بأنّها تتناظر مع المراحل المختلفة المتقدمة، ويمكن اعتبار كلِّ واحدٍ من هذه الأنواع حاكمًا على مرحلةٍ. إن أركون يُعبّر عن هذه الأنواع أو القراءات بالعناوين الآتية:

1 ـ إسلام اللحظة النبوية وظهور القرآن.

(110)

2 ـ إسلام العلماء والفقهاء والمتكلمين والفلاسفة والمتصوفة في العصر الكلاسيكي.

3 ـ الإسلام المتمحور حول الشريعة.

4 ـ الإسلام الأسطوري والايديولوجي.

5 ـ الإسلام الأصولي (أركون، 2009 م، ص 276، وص 283 ـ 329).

النقطة الثانية: الرؤية العامة لأركون بالنسبة إلى التراث الإسلامي. لم يكن أركون مثل عبد الله العروي؛ لينفي جميع التراث الإسلامي نفيًا كاملًا، ولم يكن مثل محمّد عابد الجابري؛ لينتقي جانبًا معيَّنًا من التراث ويفصله عن سائر جوانبه الأخرى ويلقي بها جانبًا. بل إنه من بين جميع المراحل التي اجتازها التراث الإسلامي، يُثني على التجارب الإنسانية، ومواجهات الفکر التحرري التي تحققت بشكلٍ رئيسيٍّ في المراحل الأولى من الإسلام وكذلك المرحلة الكلاسيكية، ويطالب بتكرار وإحياء تجارب تلك المراحل. وهو يسعى إلى جَسْر الهوّة والشرخ الذي حدث في المرحلة الأسكولاستيكية في التراث الإسلامي والذي أبعدنا عن عصر الإبداع، ویحاول أن يفتح طريقًا يربطنا بالمرحلة الكلاسيكية والإبداع (هاني، 2006 م، ص 209 ـ 233).

ومن الجدير ذكره ـ بطبيعة الحال ـ أنّ الثناء من قِبل أركون على المرحلة الكلاسيكية أو السعي إلى ردم الهوّة والشرخ القائم بيننا وبين المرحلة الإبداعية في المرحلة الكلاسيكية، ليس بمعنى العودة إلى تراث تلك المرحلة، وإنما هو بصدد تكرار النزعة الإنسانية والتحرر الفكري الذي كان سائدًا في ذلك العصر، وإعادة إحياء هذه النزعة في العالم الإسلامي مجدَّدًا.

وكما تقدّمت الإشارة فإنّ أركون يرى أنّ المجتمع الإسلامي كما أنه منقطعٌ عن تاريخ الإسلام الناصع في مرحلته الكلاسيكية، فإنّه يعاني من انقطاعٍ تاريخيٍّ ـ حضاريٍّ آخرَ، وهو الانقطاع عن أوروبا الحديثة والازدهار الذي بدأ منذ القرن

(111)

السادس عشر للميلاد (أركون، 1996 م، ب، ص 124؛ أركون، 2009 م، ص 169، وص 180 ـ 181). وعلى هذا الأساس فإنّه يرى العودة إلى تجربة العصر الكلاسيكي مرادفةً للعودة إلى تجارب حضارة الغرب؛ وذلك لأنّه يرى أنّ النزعة الإنسانية السائدة في القرن الهجري الرابع ونتائجها، إنما كانت حداثة صغيرة من نوع الحداثة الغربية. وبذلك يرى أركون أنّ الحداثة الصغيرة قد تحققت في القرن الهجري الرابع، ولكنها أخفقت لاحقًا ولم تتمكن من مواصلة مسارها (خلجي، 1377 هـ ش، ص 38 ـ 40).

تحليلٌ وتقييمٌ

إن آراء أركون بشأن الظاهرة الإسلامية موضعُ تأمُّلٍ من عدّةِ جهاتٍ. فإنّ توصيته بتکرار الحداثة الغربية، وإزالة القداسة عن كل شيءٍ، وتعميم تحليلاته بشأن طريقة تكوُّن مذاهب أهل السنة وصولًا إلی المذهب الشيعي، من الأمور الجديرة بالنقد والتقييم، وهو ما سنبحثه تباعًا:

1 ـ الدعوة إلى الحداثة دعوةٌ إلى طريقٍ محكومٍ عليه بالاخفاق: إنّ الطريق الذي يضعه أركون أمام المجتمع الإسلامي هو طريقٌ مستنسَخٌ من الحداثة الغربية. هذا في حين أن هذه الحداثة قد تعرّضت للنقد من قِبل المفکّرين من عدّةِ جهاتٍ، ولا سيما من قبل المنظّرين في مدرسة فرانكفورت، وكذلك فلاسفة ما بعد الحداثة: ففي نقد الإيديولوجيا الحدیثة القائمة على الإيمان بالعقل ولا سيما من منطلق كونه آلةً وأداةً، تمّ التركيز من قبل الرومنطيقيين الألمان على الإيمان الأعمى بالعقل وسلطته، وتعرّض ماركس[1] إلی نقد الرأسمالیة وإلى التطور بنظرةٍ ذاتِ بُعْدٍ واحدٍ،

(112)

وبحث ماكس فيبر[1] الرؤية العامة والشاملة للكون عن العقل والحداثة وكذلك الاتجاه الواقعي للحداثة عن العالم، وقام شوبنهاور[2] بالهجوم على النزعة الفردية، وعمد فريدريك نيتشة[3] إلى إشاعة العدمية وتحدّث هوسرل[4] عن أزمة العلم في أوروبا، وانتقد هايدغر[5] الاتجاه التكنولوجي إلى الوجود نقدًا جادًا، كما عمد هوركهايمر[6] وأدرنو[7] في جدل التنوير إلى إظهار الذات والطبيعة المدمّرة للتنوير وزوال أهدافه وتطلعاته، وقام فوكو بالتركيز على سلطویة العالم الحدیث بواسطة العلم[8]. وعلى كلِّ حالٍ فإنّ الحداثة تُعدّ تجربةً مخفقةً، وإن نقدها من قبل فلاسفة ما بعد الحداثة وصل إلى الحد الذي تعدّ معه ما بعد الحداثة مرحلة من الحداثة التي تحقق فيها الوعي تجاه الانحطاط والواقع المتأزم للحضارة الحديثة (مدد بور، 1387 هـ ش، ص 9، وص 13 ـ 14). يمكن القول: إن مرحلة ما بعد الحداثة تمثل فهمًا للحداثة بالإضافة إلى أزماتها ومحدودياتها ونواقصها وإخفاقاتها (أحمدي، 1373 هـ ش، ص 3).

2 ـ أركون والخلط بين مختلف معاني التقديس: يعمل أركون بهدف إعداد الشرائط الضرورية للتحقيق والبحث في التراث الإسلامي إلى نفي القداسة عن جميع الأمور. وكما رأينا فإنّه ينفي القداسة عن جميع المواريث الإسلامية ابتداءً

(113)

من القرآن الكريم إلى الأحاديث الشريفة وما إلى ذلك بنحوٍ من الأنحاء، ويعتبرها وليدة الظروف التاريخية والصراع على السلطة. ولكن لا بد من الالتفات إلى أن قداسة الشيء لا تعني المنع من التحقيق بشأنه ودراسته، ليكون من الضروري نفي القداسة عنه مقدمةً لدراسته والبحث بشأنه. إن الأمر المقدّس هو حقيقةٌ ثبتت قداستها وبعدها عن النقص والخلل بالأدلة المعتبرة، وإنّ نفي مثل هذا الوجود المقدّس بعيدًا عن الضجيج والفوضى، يحتاج إلى تقديم أدلةٍ.

إلا أنّ للقداسة معانيَ أخرى أيضًا، ويجب عدم الخلط بينها. ومن بين معاني القداسة أن يكون الشيء محورًا في الإيمان بحيث يكون القبول به وعدمه معيارًا للإيمان والكفر في الدين. وإن محورية شيءٍ في أمرٍ لا يختص بالدين، ففي جميع المدارس والمذاهب العلمية توجد هناك بعض المباني والقضايا التي يكون نفيها وإلغاؤها سببًا في الخروج من ذلك المذهب وتلك المدرسة. وفي الدين هناك أيضًا بعض المعتقدات التي تحظى بمثل هذه المكانة المحورية، وإن ترتيب آثار الإيمان والكفر والسعادة والشقاء يعود إلى الإعتقاد بمكانتها المحورية. ومن الواضح أن المكانة المحورية لتلك المعتقدات تعود إلى ذات الدين، لا للمتدينين يد في إضفاء القداسة عليها.

والمعنى الآخر للقداسة هو أنْ يكون للشيء قيمةٌ ذاتيةٌ، وإن قداسة العلماء الذين يشتغلون في علومٍ تتعلق بسعادة البشر هي من هذا النوع. ومن هنا فإن قداسة كتب الحديث والمحدّثين، وكذلك قداسة الفقه والفقهاء، لا تعني أنهم  في منأًی عن النقد، وإنّ الفقهاء هم من أوائل الذين عملوا على نقد آراء بعضهم بعضًا.

وللقداسة معنًى ثالثٌ أيضًا، وهو عبارةٌ عن الحجية. فإنّ قداسة بعض الأعمال

(114)

تعني استنادها إلى دليلٍ يُثبت الحجية لها، والقداسة بهذا المعنى لا تعني بدورها أنّ هذه الأمور بعيدةٌ عن النقد (فاضل السعدي، 2012 م، ص 416 ـ 417).

وعلى هذا الأساس فإن القداسة ليست بمعنًى واحدٍ دائمًا، وليست جميع المفاهيم المقدسة وليدة المجتمع. إنّ إثبات وجود الحقيقة المقدّسة والمتعالية، وكذلك محورية بعض المعتقدات في الدين، يُعدّ من الأمور العلمية التابعة للدليل والبرهان، وإنّ إثباتها أو نفيها رهنٌ بإقامة الدليل والبرهان.

3 ـ مقارنة الخوارج بالشيعة والسنة: يعمل أركون دائمًا على ذكر الخوارج بوصفهم فرقةً إسلاميةً أصيلةً إلی جانب الشيعة وأهل السنة (أركون، 1996 م، ب، ص 285 ـ 286). في حين نعلم أن الخوارج عبارةٌ عن فرقةٍ منبوذةٍ من الشيعة وأهل السنة على السواء، ولا يُمكن أن تُعدَّ فرقةً أصليةً، بل هي من الفرق المنقرضة والبائدة.

4 ـ عدم الاهتمام الكافي باللاتجاه العقلي لدى الشيعة: إنّ تحليلات أركون بشأن المواجهة المتطرفة للأصوليين في التعاطي مع العقل اليوناني، ظاهرةٌ تكمن جذورها في تراث أهل السنة، وإلا فإنّ الشيعة ـ كما اعترف أركون في مواردَ أخرى ـ كانوا طوال تاريخهم منفتحين على الاتجاهات العقلية (أركون، 1997 م، ص 99). فقد شهدت حقبة السلالة البويهية ظهور جيلٍ من الفلاسفة الإسلاميين الذين تمكّنوا من تحقيق نجاحاتٍ كبيرةٍ في حقل الخوض في المسائل الاجتماعية أيضًا. يذهب أركون في تقييمه لجهود هذا الجيل من الفلاسفة الإسلاميين إلى الاعتقاد بأن بنية ومقاصد وغايات المعرفة الفلسفية في هذه المرحلة تتناسب مع الحاجات والإمكانات في الأجواء الإيرانية ـ العراقية في القرن الهجري الرابع، وأنّ هذا هو

(115)

السرّ في نجاح وبقاء الفلسفة في هذه المرحلة (المصدر ذاته، ص 345)[1]. وكما تقدّم أن ذكرنا في المباني الإبستيمولوجية لأركون وكذلك في نقد القراءة الأركونية للوضع الراهن للعالم الإسلامي، فإن العقل يُعدُّ واحدًا من مصادر استنباط الحكم الشرعي في الفقه الشيعي، كما لا بد من الالتفات إلى أن المعتزلة والإمامية يعتبرون أصول العقائد غيرَ قابلةٍ للتقليد، إذ يشترطون تحصيل اليقين في أصول الدين (فاضل السعدي، 2012 م، ص 415).

5- تقييم الانسجام الداخلي لفكر أركون

تتبلور النظريات من خلال الربط والنسبة المنطقية إلى مجموعة من المباني، سواءً أَلتفت المنظّر إلى هذه المسألة أمْ لم يلتفت، وسواءً أصرّح بذلك أم لم يُصرّح. وإنّ من بين طرق تقييم النظريات، الالتفات إلى هذا الربط والنسبة، وتقييم انسجام النظريات مع المباني أو عدولها عن المباني المعلنة أو المسكوت عنها (بارسانيا، 1392 هـ ش، ب، ص 10 ـ 11). كما يجب أنْ نرى هل هناك انسجامٌ بين مختلف المباني الأنثروبولوجيلة والإبستيمولوجية والأنطولوجية، أم هناك نوعٌ من عدم الانسجام والتناغم بينها.

النسبة بين المباني الأنثروبولوجية والنظريات

يبدو أنّ المباني الأنثروبولوجية لأركون كان لها تأثيرٌ مباشرٌ في آرائه في مختلف

(116)

الحقول الأخرى. وعليه فمن الضروري الاهتمام بالانسجام وعدم الانسجام بين مبانيه الأنثروبولوجية وبنائه النظري. إنّ إلقاء نظرةٍ على تحليلات أركون للوحي ـ على ما تقدّم ـ تثبت وجود انسجامٍ تامٍّ مع أصل الإنسانویة الذي يعطي المحورية والمركزية للإنسان؛ إذ إن نفي الشعائر والبعد التقنيني والتشريعي للوحي، والتنزّل به إلى مستوى دور بناء النبي للحضارة في مرحلةٍ من التاريخ، دون تفسيرٍ متأصِّلٍ[1] للبشر، لا يبدو ممكنًا.

كما أن رؤيته الناقدة للآفات تنبثق عن هذه المجموعة من المباني أيضًا. وإن مباحث عدم استقلال العقل البشري، وعدم الاستفادة منه، وكذلك النظرة الدوغمائیة، وغياب الحرية الفكرية، من بين الآفات التي يتم طرحها في إطار مبانيه الأنثروبولوجية أيضًا.

وعلى الرغم من تناغم النظريات المتقدمة مع مباني أركون، إلا أنّ بعض آرائه لا تنسجم مع هذه المباني. وإنّ الرؤية الأركونية الأحادية لتيار التاريخ، والتأكيد على اجتياز هذه المراحل التي سبق للغرب أن قام باجتيازها، والإصرار على استعمال الأدوات المفهومية والعلوم التي تُعدُّ من معطيات العقل الغربي، في إطار تقييم التراث الإسلامي، تُعدُّ من بين هذه النظریات والأراء غیر المنسجمة.

توضيح ذلك أنّ أركون يقول من جهةٍ باستحالة تأصيل الأصول والتأسيس لأصولٍ عامةٍ تتجاوز التاريخ (أركون، 2003 م، ص 9)، ومن ناحيةٍ أخرى يعمل على طرح أصولٍ تقوم على العلوم الحديثة، ويطلب منّا طبقًا لهذه الأصول أن نتنازل عن ثوابتنا وأصولنا. فإذا كان تأصيل الأصول محالًا، فلن يكون من حقّ أركون أن يؤصل لأصوله الخاصة، ولا يمكنه أن يرى استحالة أصولنا فقط.

(117)

وعلى هذا الأساس فإنّ أركون من خلال اتخاذه اتجاهًا متناقضًا، يعمل من جهةٍ على القول باستحالة تأصيل الأصل، ومن جهة أخرى لا يكتفي بتأصيل الأصل فحسب، وإنما يتخذه معياراً للحكم على أصول المسلمين (فاضل السعدي، 2012 م، ص 370 ـ 373).

كما رأينا في المباني الأنثروبولوجية لأركون، فإنه يدّعي أن الإنسان نتاج التاريخ والظروف الاجتماعية. ومن هنا فإنّ توصيته بتكرار واجترار تجربة الغرب لا يمكن أن تكون صائبةً؛ لأنّ للمسلم الحقَّ والحريةَ في أن يُقرِّر مصير مجتمعه من خلال التعاطي الجدلي مع ثقافته وتاريخه الخاص، ولربما توصّل بذلك إلى نماذجَ مختلفةٍ عن النماذج الغربية.

كما أن النظرة الأحادية للتاريخ لا تنسجم مع نفي الذات والبعد الثابت للإنسان أيضًا. فإن كان الإنسان فاقدًا للبُعد الثابت وتم اعتباره نتاج التاريخ والثقافة، فعندها ليس من الواضح أن يتخذ التاريخ مسارًا واحدًا وأنه هو المسار ذاتُه الذي قطعه الغرب، بل من الممكن أن تؤدّي تجربة المسلم ـ الذي يعيش ظروفًا تاريخيةً مختلفةً ـ إلى إدخال التاريخ في مرحلةٍ جديدةٍ.

نسبة المباني الإبستيمولوجية والنظريات

بغضّ النظر عن النقاش المتقدم حول أصل المباني الإبستيمولوجية لأركون، فإنّ تقييم نسبة هذه المباني إلى سائر مبانيه ونظرياته وآرائه الأخرى تحظى بأهميةٍ أيضًا. ومن هذه الناحية يمكن لنا أن ندرك أنواع الانسجام وعدم الانسجام الداخلي لآراء أركون. فمن جهةٍ نجد أن مبانيه الإبستيمولوجية تنسجم مع مبانيه الأنثروبولوجية والأنطولوجية نسبيًّا، فكلها تقوم على أصالة الإنسان المحدود

(118)

بواسطة الشرائط الزمانية ـ المكانية، ومن ناحيةٍ أخرى فإن التحليلات التاريخية لأركون في إعادة قراءة التراث الإسلامي منسجمةٌ مع مبانيه الإبستيمولوجية. ومع ذلك يمكن العثور في الوقت نفسه على بعض موارد عدم الانسجام أيضًا، ومن ذلك:

1 ـ عدم انسجام أصل النسبية مع ادعاء العينية أو الحقیقة: لو أقمنا البناء على القول بنسبية الواقعية وتاريخية العقل، لن يعود بالإمكان أن نصف أيَّ قراءةٍ ـ بما في ذلك قراءة أركون ـ بالعينية. هذا في حين أن أركون يعتبر قراءاته حول الإسلام قراءةً عينيةً، ويدّعي أنه بوصفه مؤرِّخًا للفكر الإسلامي سعى إلى أن يظهر بوصفه «عالمًا عينيًّا وباحثًا عن الحقيقة» (أركون، 2001 م، ص 200). إنه يعمل دائمًا على دعوة مخاطَبيه إلى قراءةٍ جديدةٍ للقرآن كي يدركوا حقيقته ويتعرّفوا على أحداث تاريخ الإسلام (فاضل السعدي، 2012 م، ص 486). وفي واقع الأمر فإن هذا التناقض وإنکار الحقیقة موجودٌ في جميع اتجاهات ما بعد الحداثة، فإنهم من جهة ينفون الواقعية ويعتبرونها من صنع الإنسان، ومن جهةٍ أخرى يضطرون إلى اعتبار أصل نظريتهم بوصفها نظريةً واقعيةً.

2 ـ تناقض أصل تاريخية العقل مع التأكيد على توظيف معطيات العقل الغربي في إعادة قراءة التراث الإسلامي: على الرغم من أن أركون يؤكد دائمًا على العنصر التاريخي، إلّا أنه يتجاهل تاريخية العقل الغربي، ويتجاهل تبعًا لذلك تاريخية الأساليب والعلوم الإنسانية ـ الاجتماعية الغربية. ومن هنا فإنه يرى طريق الخلاص من جميع مشاكل وآفات التراث العربي والإسلامي في ظل اللجوء إلى هذه الأساليب، ويرى أنّ تحديث التراث الإسلامي متوقفٌ على هيمنة العلوم الإنسانية الغربية على الموضوعات الإسلامية (مصطفى، 2011 م، ص 376).

3 ـ تناقض أصل الحياد وعدم الأدلجة مع الانتصار للأيديولوجية والتوجهات

(119)

الغربية: إنّ أركون على الرغم من ادعائه العلمانية الإبستيمولوجية ومحاربته للإيديولوجيا، إلّا أنّه يتبنّى الإيديولوجيا الغربية، الأمر الذي أبعده عن نقد الأساليب الغربية والفصل بين الاتجاهات العلمية والأيديولوجية الغربية، ويتعامل معها وكأنّها كاملةٌ ومنزَّهةٌ من كلِّ عيبٍ ونقصٍ (المصدر ذاته).

نسبة المباني الأنطولوجية والنظريات

إن التأمل في المباني الأنطولوجية لأركون والنظريات المطروحة يثبت أنّ المباني الأنطولوجية لأركون تعاني من تناقضٍ داخليٍّ، وكذلك بعض آرائه تخالف هذه المباني أيضًا.

إنّ جميع الحقائق ـ طبقًا لاتجاه البنائیة ـ هي من صنع الفاعلين الاجتماعيين، ولا يمكن الحديث عن الحقيقة وعن واقعية الأشياء، ولا يمكن الحديث عنها نفيًا ولا إيجابًا، وإنما غاية ما يمكن فعله هو الحديث عن حقيقة الأشياء في مقام الذهن والإدراك. ومع ذلك فإن أركون يؤمن بالله بوصفه حقيقةً متعاليةً، وإن كان خارج المتناول.

كما أنه في تحليل الوحي يرى أن للوحي ساحتين وبعدين، أحدهما هو البعد الحقيقي والمتعالي، ويرى أنه موجودٌ في اللوح المحفوظ (أركون، 2005 م، ص 22؛ أركون، 2009 م، ص 317). ولا بأس هنا بالتذكير بأن الاعتقاد بالبعد المتعالي للوحي يتناقض أیضًا مع مبانيه الإبستيمولوجية والأنطولوجية.

 

(120)

6- الخاتمة

في الختام نلقي نظرةً شاملةً على المسار الذي قطعناه في هذه المقالة، مع بيان النقاط الهامة لكلِّ فصلٍ. لقد سعينا إلى تحليل أفكار محمّد أركون من زاويةٍ خاصةٍ تُسمَّى بـ المنهجية التأسیسية. وفي هذا المسار تم تناول تبلور فكره في التعاطي مع العوامل والخلفیّات غير المعرفیّة (السياسية والاجتماعية والثقافية)، وكذلك العوامل والخلفیّات المعرفیّة (المباني الفلسفية، والمدارس والشخصيات المؤثرة).

طبقاً لما تقدّم واجه أركون من خلال مشاهدته لأنواع التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المجتمعات العربية والإسلامية في قبال الازدهار الحضاري في الغرب، السؤال المعروف الذي سبق لشكيب أرسلان أن طرحه، وهو: «لماذا تخلف المسلمون، وتقدم الآخرون؟». ومن هنا بدأ مشروعه المتمثل بـ نقد العقل الإسلامي للإجابة عن هذا السؤال. وقد رأى ـ بتأثيرٍ من أفكار ما بعد الحداثة ـ أنّ السرّ في تخلف العالم الإسلامي يكمن في بنية العقل الديني الحاكم على هذه المجتمعات، ومن هنا عمد في نقد العقل الإسلامي إلى دراسة ونقد بنية العقل الديني وأساليبه وآلياته، وكذلك الآنظمة التي أفضت إلى إنتاج الأنظمة العقدية المغلقة والمتنوّعة. وفي هذا المسار ضمن تقديم صورة عن تاريخ العقل والعقلانية في العالم الإسلامي، سعى من خلال دراسة طريقة تبلور تراث الفكر الإسلامي، إلى إثبات تاريخيته، وبيان الماهية الإيديولوجية لكلِّ ما يُعتبر بزعمه دينًا حقًّا أو جمودًا فکریًّا، كي يمهّد بزعمه الطريق إلى عرض الأفكار الجديدة.

وكما رأينا في تحليله للآفات، فإنه يتجه نحو الحداثة، وإن مراده من الأفكار

(121)

الجديدة هي التعاليم الحداثويّة وشبه الحداثويّة، والغاية من نقد التراث الإسلامي هو فتح الطريق أمام طرح الأفكار الحديثة. وفي الحقيقة فإن أركون بعد أن عمل على توظيف أفكار ما بعد الحداثة لنقد التراث الإسلامي، عمد إلى تغيير مساره في اتجاهٍ مخالفٍ لما بعد الحداثة، سالكًا طريق الحداثة، وإن الذي يضعه أمام العالم الإسلامي ليس سوى تعاليم العالم الحديث.

 

(122)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني 

دراسةُ النظريات ونقدُها

 

(123)

المقدمة

بعد التقييم النقدي للمشروع الفكري لمحمد أركون في ضوء أصول المنهجية التأسیسیة، نواصل هذا  البحث من خلال التدقيق في الآراء التفصيلية في فكره. وفي هذا القسم من البحث تتبلور مختلف أبعاد المشروع الفكري لأركون في أسئلةٍ تمّت الإجابة عنها ضمن مقالاتٍ مستقِلةٍ.

ما هو الفرق بين الأسلوب المعرفي لمحمد أركون وبين الاسلام التقليدي والاستشراقي؟ ما هو الموقع الذي تحتله الهرمنيوطيقا في الدراسات القرآنية لأركون، وما هي خصائصها؟ كيف يتم تقييم تحليلات أركون لظروف إمكان وتبلور ونشاط العقل الإسلامي في مرحلة الحداثة وما بعد الحداثة؟ كيف يتم تقييم تحليله للعقل الإسلامي، والعقل الغربي ونقاط الالتقاء والاختلاف في ما بينهما؟ ما هي انتقاداته للخطاب الإسلامي المعاصر الذي يعتبره خطابًا سياسيًّا؟ وبالتالي كيف يتم تقييم تحليلاته حول آفات العقل الديني؟

في المقالة الأولی «العقل الإسلامي والعقل الغربي عند محمد أركون »  تسعى إلى نقد ومناقشة الرؤية المقارنة لـ (محمد أركون) للعقل الإسلامي بالعقل الفلسفي، والعقل العلمي، والعقل الحديث، وصولًا إلى العقل ما بعد الحديث في نهاية المطاف، عبر أربع محطاتٍ. يذهب الباحثان إلى الاعتقاد بأنّ تجاهل الفَرْق بين عقل الكنيسة والعقل الإسلامي الأصيل هو الذي أوقع أركون في الخطأ عند إبداء رؤيته المقارنة بين العقل الإسلامي والعقل الغربي، بل إن الابتعاد عن الخصائص الأصيلة لعقلانية الإسلام التي يتم بيانها بواسطة المفسرين الحقيقيين للإسلام ـ ونعني بهم الأئمة من أهل البيت والنبي الأكرم

(124)

صلّی اللّه علیه و آله وسلّم  ـ يُعدُّ واحدًا من العلل والأسباب الأصيلة لتخلّف المسلمين.

المقالة الثانية التي عنوانها "محمّد أركون وآفات العقل الديني"، يمكن اعتبارها متمّمةً للمقالة الأولى إلى حدٍّ ما، حيث تمّ تسليط الضوء فيها على الآراء النقدية الأولى التي طرحها محمّد أركون حول العقل الديني؛ لأنّ موضوع البحث في المقالة الأولى تمحور حول بيان واقع الأسلوب المقارن الذي اتّبعه هذا المفكّر إزاء العقل الإسلامي، بينما هذه المقالة طُرحت فيها مباحثُ نقديةٌ على رؤيته الباثولوجية في كلا أسلوبيه المقارن والباثولوجي.

العقل الديني برأي أركون فيه عناصرُ ونقاطُ ضعفٍ تسبّبت في خروجه عن نطاق العقل المثالي وجعلته مدعاةً لتخلّف المسلمين وانحطاطهم فكريًّا، ومن جملتها اتّسامه بطابعٍ ميتاتأريخيٍّ وأسطوريٍّ وعدم انسجامه مع الإيمان وتعصّبه ودوغماتيته، وما إلى ذلك من سماتٍ أخرى. دار البحث هنا حول نقد وتحليل آرائه بخصوص نقاط الضعف هذه، وعلى ضوء اعتقاده بتأريخانية جميع إنجازات العقل البشري، ذهب إلى القول بعدم احتوائه على أيِّ منطقةٍ تترسّخ فيها القضايا المعرفية وبما في ذلك الإنجازات البشرية وتعاليم الوحي، ومن هذا المنطلق ارتقى بمكانة العقل إلى مستوى السلطة المطلقة على حياة البشر معتبرًا عدم الاكتراث به سببًا أساسيًّا في تخلّف المسلمين.

نقاط ضعف العقل الديني مثل ميتاتأريخيته وأسطوريته وعدم انسجامه مع الإيمان وتعصّبه ودوغماتيته، وما إلى ذلك من سلبيات؛ اعتبرها أسبابًا أسفرت عن جهل المسلمين وانحطاطهم فكريًّا؛ لكنّه في الحقيقة وقع بخطأٍ أثناء تسليطه الضوء على الموضوع برؤيةٍ باثولوجيةٍ جرّاء وجهته الخاصّة إزاء هذا العقل من

(125)

منطلق اعتقاده بأنّه العقل الحاكم في العالم الإسلامي وإثر تجاهله الخصائص والأسس العملية التي تمتاز بها العقلانية الأصيلة في الإسلام.

المقالة الثالثة عنوانها "نقد الفكر العربي: الأسلوب التفكيكي لمحمّد أركون"، حيث سُلّط الضوء فيها على مسألة التفكيك التي طرحها هذا المفكّر، وفي هذا السياق تمّ تحليل مدى تأثير آرائه على الأوساط الفكرية في إندونيسيا. قد تأثر فكره الإسلامي بالمفاهيم الفلسفية الحديثة مثل الأسطوره عند ريكور (Ricaeur)، ومفاهيم ما بعد الحداثة مثل الخطاب و الأبسمتية، التي وضعها فوكو وكذلك تفكيكية دريدا. فإذا كان دريدا قد ركّز على التفكيكية كمفهومٍ نهائيٍّ، فإن أركون، من جهةٍ أخرى، قد أصرّ على وجوب أنْ تتّبع التفكيكية إعادة صياغة الخطاب. وإعادة الصياغة عند أركون تعني التخلي عن مسائل التقيد والجمود والزيغ التي كانت تجري في الماضي. يقترح أركون طريقتين: الأولى الاجتهاد، والثانية العقل النقدي الاسلامي مع كامل المعنى النقدي. وفي هذا البحث استخدمتُ طريقة التحقيق في المكتبات. وبناءً على النتيجة توصلتُ إلى استنتاجٍ مفاده أنّ أركون يفقد التواصل مع الباحثين في العالم الإسلامي، خاصةً في تراث الشرق الأوسط، بما أنه طبق الطريقة التفكيكية التي ينظر إليها العالم الإسلامي بأنّها متماديةٌ جدًّا. وضعت أسس الأسباب الأساسية للأزمة العالمية الإسلامية، ما يعني التراث الفلسفي الباهت وفهم الإسلام دوغماتيًّا بدون تحقيقٍ نقديٍّ بحيث يتطور التفكير الإسلامي الذي يعتبر مجمَّدًا، منغلقًا، ومملًا في الوقت الحاضر.

المقالة الرابعة عنوانها "الإسلام ومرحلة ما بعد الحداثة: محمّد أركون والتفكيكية"، وفيها تمحور البحث حول ما يتطرق إلى نظرية التفكيكية ما بعد

(126)

البنيوية المثيرة للإعجاب وأنصارها في الحضاره الاسلامية لتقييم تأثيرها على فكر المسلمين المعاصرين. أما الأساس المنطقي لهذه الدراسة فهو تقييمٌ نقديٌّ للمفاهيم النظرية في العالم الإسلامي ردًّا أو تفاعُلًا مع التأثيرات الابستمولوجية الراهنة من الغرب. هذا الاستقراء أدى إلى استنتاجٍ مفاده أنّ الباحثين في العالم الإسلامي غابت عنهم هذه النقطة من خلال المضيّ بعيدًا قليلًا بما أنّ القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة تذكر بشكلٍ صريحٍ ما يجب على المسلمين رفضه أو دمجه. ويشمل العلاج تحديث الطريقة التقليدية في التفكير وتفسير الأشياء واكتساب القدرة على التفكير في المُحال وما أُغفل سابقا، والكلمة الصادقة الحازمة، والسعي المتواصل من أجل التميز، وكذلك التخلص من طغيان الشيوع، أيًّا يكن، في الفكر الغربي المندفع والعفوي إلى حدٍّ كبيرٍ.

آخرُ مقالةٍ تحمل عنوان "نظرية محمّد أركون في هرمنيوطيقا القرآن: نقدٌ". كان لمحمد أركون الفضل في الاهتمام بالهرمنيوطيقا القرآنية (التأويل القرآني) ويدلّ التحليل النّصّيّ لكتاباته على أنّ مصدر اهتمامه الرئيس هو منهجية التفسير وأنّه درس القرآن من أجل هذه المنهجية. فهو يشكّك في صحة القرآن فضلًا عن دعوى حقيقته. ويُقرأ عَرضه كما لو أنه رياضياتٌ أكثرَ منه كتحليلٍ نصِّيٍّ. وبناءً على ذلك، فقد كانت مناقشته المنهجية موضعَ إهمالٍ إلى حدٍّ كبيرٍ.

محمد أركون مفكِّرٌ مسلمٌ عصريٌّ منشغل بالهرمنيوطيقا القرآنية (التأويل القرآني) التي تشتد الحاجة إليها. وباعتماده على النماذج الخطابية لمرحلة ما بعد الحداثة، فهو مصمِّمٌ على استنباط آليةٍ تفسيريةٍ من شأنها كشف تاريخية القرآن وإثراء تاريخ الفكر من خلال تقديم فهمٍ أفضلَ للقرآن. وهو يضع منهجيته ضمن

(127)

ضوابط الاجتهاد. وبعد التحليل النصي، تشرح هذه المقالة تأويله، بما في ذلك نظريته عن الوحي وبروتوكولاته الثلاثية لتفسير القرآن. كما  تتثبت من صحة وسلامة تفسير أو هرمنيوطيقة أركون للقرآن.

(128)

العقل الإسلامي والعقل الغربي

عند محمد أركون [1]

محمد عرب صالحی[2] - سعید متقي فر[3]

 

الخلاصة

إن من بين الموضوعات التي تحظى باهتمام المفكرين المسلمين هو البحث في علل وأسباب انحطاط المجتمع الإسلامي، وهو موضوعٌ لا تخفى ضرورته وأهميته على أحدٍ. وفي هذا البحث والتنقيب هناك من المستنيرين المسلمين من وجد أن العقل الإسلامي يمثل واحدًا من أهم أسباب وعلل انحطاط العالم الإسلامي. وقد عمد محمد أركون إلى نقد العقل الإسلامي اعتمادًا على أسلوب معرفة الآفات، والأسلوب المقارن. ونسعى في هذا المقال إلى مناقشة أسلوبه المقارن في نقد العقل الإسلامي، حيث يسعى أركون ـ من خلال اعتباره أنّ عقلَ الكنيسة والعقلَ الإسلامي شيءٌ واحِدٌ ـ إلى إثبات عدم جدوائية العقل الديني. لقد عمد

(129)

محمد أركون إلى مقارنة العقل الديني بالعقل الفلسفي والعقل العلمي وعقل الحداثة وعقل ما بعد الحداثة، ليذهب إلى الاعتقاد بأنّ تهميش العقل الديني في الغرب من قِبل العقول المذكورة أعلاه، كان هو السبب في انطلاقة التطوّر المادي في الغرب.

والسؤال الأول الذي يطرح نفسه هنا: هل الاعتقاد بوحدة عقل الكنيسة والعقل الإسلامي صحيحٌ. وثانيًا: ما هو مدى اعتبار مقارنة أركون للعقل الإسلامي بالعقول الآنف ذكرها؟ تسعى هذه المقالة بعد بيان المفاهيم الأساسية إلى نقد ومناقشة الرؤية المقارنة لـ (محمد أركون) للعقل الإسلامي بالعقل الفلسفي، والعقل العلمي، والعقل الحديث، وصولًا إلى العقل ما بعد الحديث في نهاية المطاف، عبر أربع محطاتٍ. يذهب الباحثان إلى الاعتقاد بأنّ تجاهل الفرق بين عقل الكنيسة والعقل الإسلامي الأصيل هو الذي أوقع أركون في الخطأ عند إبداء رؤيته المقارنة بين العقل الإسلامي والعقل الغربي، بل إن الابتعاد عن الخصائص الأصيلة لعقلانية الإسلام التي يتم بيانها بواسطة المفسرين الحقيقيين للإسلام ـ ونعني بهم الأئمة من أهل البيت والنبي الأكرم صلّی اللّه علیه و آله وسلّم  ـ يُعدّ واحدًا من العلل والأسباب الأصيلة لتخلف المسلمين.

الكلمات المفتاحية: العقل الديني، العقل الفلسفي، العقل العلمي، العقل الحديث، عقل ما بعد الحداثة.

 

 

 

(130)

المقدمة

إن البحث في أسباب انحطاط وتخلّف المجتمعات الإسلامية يُعدّ واحدًا من بين المسائل التي شغلت أذهان المفكرين في العالم الإسلامي على الدوام. وقد سعى بعض هؤلاء المفكرين إلى العثور على الإجابة عن هذا السؤال من خلال القيام بإجراء مقارنةٍ بين المجتمعات الغربية والإسلامية. إنهم يرون أن الأسباب الدخيلة في انحطاط الغرب قبل بداية عصر الحداثة، هي نفسها أسباب تخلف العالم الإسلامي، ولذلك يتعيّن على المسلمين إذا أرادوا التخلص من الانحطاط أن يسلكوا ذات الطريق الذي سلكه الغرب أيضًا. يُعدّ محمد أركون[1] من هذه المجموعة من المفكرين حيث بذل مجهودًا أكبر إلى عنصر العقلانية من بين هذه العناصر. انتقل أركون في بداية عقد الخمسينات (العقد السادس) من القرن العشرين للميلاد إلى باريس ودرس على يد كلٍّ من: (ريجي بلاشير)[2]، و(كلود كاهن)[3]، و(ميشال

(131)

فوكو)[1]، و(كلود ليفي ستروس)[2]، و(بيير بورديو)[3]. وعلى الرغم من أن تخصُّصه الدراسي كان في حقل اللغة والآداب العربية، ولكنه كان يحضر في الدروس العليا في حقل الأنثروبولوجيا والفلسفة وعلم الاجتماع أيضًا. ثم حصل على كرسيٍّ في جامعة السوربون في حقل تاريخ الفكر الإسلامي حيث احتفظ بهذا الكرسي لأكثرَ من عشرين سنةً. ومن بين أهم كتبه: (الفكر العربي)، و(تاريخية الفكر العربي الإسلامي)، و(الفكر الإسلامي: قراءةٌ علميةٌ)، و(أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟)، و(قضايا في نقد العقل الديني). ومن خلال مطالعة آثاره يمكن القول أن من بين أهم مؤلفاته التي تحمل مشروعه الفكري، والذي أقرّ هو نفسه بأنه يمثل مشروع حياته، كتاب (نقد العقل الإسلامي)[4]. بالالتفات إلى أهمية وضرورة تتبّع جذور أسباب انحطاط المسلمين، يُعدُّ بحث العقلانية واحدًا من أهم الأبحاث التي يمكن طرحها في هذا المجال. ومن هنا يمكن القول أنّ أركون قد ركّز في هذا البحث على أحد النقاط الجوهرية ، بيد أنه خرج عن الاعتدال سواءً في تحديد المصداق أو في تقديم الحلول، وسلك في ذلك طريق الإفراط، وسقط في الفخ ذاته الذي سقط

(132)

فيه المنظرون من أصحاب النزعة الإنسانية في العالم الغربي. ومن هنا يبدو من الضروري نقد ومناقشة نظريات أركون في رؤيته الانتقادية إلى العقل الإسلامي.

المفاهيم

لقد تم استعمال بعض المصطلحات في هذا المقال، ومن هنا نجد في البداية ضرورةً إلى بيان المعنى والمفهوم المراد منها.

العقل الديني

يُفهم من قراءة نظريات أركون أنه يرى أن العقل الديني يتكفل ببيان وإثبات جميع أنواع القضايا الدينية، ويشمل العقل الكلامي والفقهي أيضًا[1]. ولكن يجب الالتفات إلى أنه إنما ينتقد العقل الإسلامي الذي هو ليس عقل المسلمين؛ إذ يذهب إلى الاعتقاد بأن العقل ملكةٌ مشتركةٌ بين جميع أفراد البشر، ولا فرق في هذه الناحية بين عقل المسلم وعقول الآخرين. وإنما التميّز ينشأ من اتصاف العقل بالإسلامي، بمعنى أنّ العقلانيةَ الكامنةَ في أصل الإسلام، أي القرآن وسيرة النبي الأكرم صلّی اللّه علیه و آله وسلّم  واجتهادات المسلمين، تابعةٌ للعقلانية الجارية في القرآن والتجربة النبوية[2]. وعلى هذا الأساس يرى أركون أنّ كلَّ عقلٍ يرتبط بالدين الإسلامي بنوعٍ ما، فإنه يندرج تحت عموم (العقل الديني). غاية ما هنالك أن (العقل الوحياني) ـ أي العقل الذي يمثل مصدر التعاليم الإسلامية ـ يحظى بالدرجة الأولى من النقد، وأن عقل المسلمين ـ الذي ينشأ من العقل الوحياني ـ يقع في المرتبة التالية من النقد.

(133)
العقلانية

من المناسب التذكير بالتفاوت بين (العقل) و(العقلانية). بغضّ النظر عن كون (العقلانية) بمعنى الشيء (المنسوب إلى العقل)، أو (العقلانية) ـ التي هي وصفٌ معرفيٌّ ـ فإنّها تعني في المصطلح الفلسفي لدى الناطقين باللغة العربية (القول بأولوية العقل) ولهذا مصاديقُ متعددةٌ. ومن بينها العقلانية المطروحة في القرن السابع عشر للميلاد في العالم الغربي[1] ـ وهي النقطة المقابلة للنزعة الإيمانية[2] ـ أو العقلانية المطروحة في العالم الإسلامي مع كل الاختلافات في أوجه النظر بين العلماء المسلمين في هذا الشأن[3]. وعليه فإن العقلانية ليست سوى مرجعية وسيادة العقل[4]. وعليه فإنّه كلما ورد استعمال مصطلح (العقلانية الإسلامية) هنا فإنّ المراد هو نوعٌ من قبيل رؤية الإسلام إلى العقل. ومن ناحيةٍ أخرى يمكن أن نُطلق على العقل ـ الذي يتمّ تعيين مختصّاته من قبل الإسلام ـ (مصطلح العقل الإسلامي)، وللتشابه والقرابة بين هذين المعنيين يتم عادة استعمال أحدهما في موضع الآخر تسامحًا.

العقل الفلسفي

إن المراد من العقل الفلسفي الذي يستعمله أركون، ويُثني عليه في خطابه النقدي هو في الغالب بمعنى العقل الذي يكمن في النقطة المقابلة للعقل الكلامي واللاهوتي، وحيث إن العقل الفلسفي مستقلٌّ تمامًا وغيُر مشوبٍ بالفرضيات الدينية والاعتقادية، فإنه يمثّل النقطة المقابلة للعقل الديني أو الكلامي الذي

(134)

يعتبر ـ من وجهة نظره ـ تعاليم العقيدة الدينية مقدمةً مفترضةً، ويسعى إلى إثباتها. وعليه فإنّ استعمال مصطلح العقل الفلسفي من قِبل أركون يمثّل في الغالب النقطة المقابلة للعقل اللاهوتي والكلامي[1].

العقل الحديث

لقد عمد أركون إلى تقسيم العقل الغربي من الناحية التاريخية إلى أنواعٍ، وعمل ـ في معرض نقد العقل الإسلامي ـ على تفضيلها على العقل الديني. وإن أحد هذه الأنواع هو العقل الحديث، أي العقل الذي ساد الغرب بعد القرون الوسطى، وتشكّلت المرحلة الحديثة على أساسه. وفي الأساس فإنّ خصوصية المرحلة الحديثة تكمن في قيامها على أساس العقل البحت، ومنحت العقل البشري مرجعيةً كاملةً. وهي النهضة التي ظهرت مع التحولات الثقافية والفكرية في القرن الثامن عشر للميلاد، وأكّدت على العقلانية بوصفها أساسًا ومرجعيةً لكلِّ شيءٍ[2]. إن النقطة الجديرة بالذكر هي بيان وجه تفكيك العقل الحديث عن العقل الفلسفي. وكما سيأتي  فإن أركون يرى أن جوهرة العقل الحديث يتمّ تشكيلها من قبل العقل الفلسفي، إلا أنّ هذا المقال ينظر إلى هذين العقلين من زاويتين مختلفتين. إنّ العقل الفلسفي في أبحاث أركون هو بشكلٍ رئيسٍ يمثل عنوانًا في قبال العقل الكلامي. ومن هنا فإن الانتقادات الواردة على ذلك سوف تكون من زاوية النظرة إلى العقل الفلسفي. إلا أن العقل الحديث عدا عن كونه تقسيمًا من الناحية التاريخية في قبال عقل ما بعد الحداثة، يشتمل على عناصرَ من قبيل: العقلانية الانتقادية والمتأصِّلة في

(135)

العقل الغربي والتي سادت العقل الغربي منذ مرحلة الحداثة وما بعدها، حيث سيتم الخوض في نقد ومناقشة العقل الغربي في قسم العقل الحديث من هذه الزاوية. هذا إذا ما استثنينا في مقام الإحصاء استعمال وتوظيف أنواع العقل، حيث نواجه كلَّ واحدٍ من أنواع العقل الخمسة في آثار أركون.

عقل ما بعد الحداثة

لقد بدأ تيّار ما بعد الحداثة بالظهور على أمد العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين للميلاد. يجب رصد التداعيات الأولى لهذا المسار ـ قبل كل شيءٍ ـ في حقل الفن والعمارة، ثم بعد ذلك في حقول النقد الأدبي، ونقد الفن والرسم والسينما وما إلى ذلك[1]. وحدث بعد ذلك أن هيمن هذا التيار وبسط سيطرته على جميع الأبحاث الفكرية والثقافية في العالم الغربي. ويُعدّ كل من (فريديك نيتشه)[2]، و(جاك دريدا)[3]، و(ميشال فوكو)، و(مارتن هايدغر)[4] من المؤسسين لما بعد

(136)

الحداثة[1]. إن المسار الرئيس المتّبع من قِبل ما بعد الحداثة يقوم على التشكيك في مرجعية كلٍّ أمر مطلق وأصوليٍّ أعمَّ من الدين أو العقل. وفي الحقيقة فإنّ ما بعد الحداثة تشكيكٌ في قبال جميع معطيات ومنجزات الحداثة، الأعم من الحقيقة، والتقدم والحرية التي تمّ تحقيقها على أساس العقل البشري الأصيل[2]. يمكن لنا أن نُطلق على العقل الذي جعل من هذا الاتجاه في مرحلة ما بعد الحداثة قدوةً له مصطلح عقل ما بعد الحداثة. وسيأتي في محله توضيح أكثر تفصيلًا لذلك مع بيان اختلاف كلِّ واحدٍ عن الآخر من خلال كلمات أركون.

العقل الآلي

إن الاتجاه الرئيس للعقلانية الآلية يقوم على هيمنة الإنسان على الطبيعة. يمكن الوصول إلى السلوكيات المتأثرة بغلبة العقلانية الآلية، وردود الأفعال العقلانية التي تجنح نحو الأهداف والغايات الدنيوية[3]. إنّ التكنولوجيا والصناعة والبيروقراطية هي من آثار ونتائج غلبة هذا المعنى من العقلانية[4]. كما أن البراغماتية أو العملانية التي تتمثل غايتها في التشغيل الموضعي للعمل، دون الالتفات إلى سعادة الإنسان، تمثل بدورها تجلِّيًّا للعقلانية الآلية. وهناك في تعاليم الإسلام (عقل المعاش) الذي يستعمله الناس فيي تنظيم معاشهم، بيد أن هذا

(137)

العقل موافقٌ للشرع، ويتمّ استعماله في ما يراه الشارع حسنًا وقد تمّ الثناء عليه في الأخبار[1].

العقل التجريبي

إن العقل التجريبي جزءٌ من العقل النظري، حيث ينظر إلى الأمور الطبيعية، ويعمل على توظيف المحسوسات في تشكيل القياسات التجريبية. إن القياسات التجريبية تستند إلى بعض القضايا العامة غير التجريبية التي تؤخذ من المراتب الأسمى للعقل، مثل العقل الميتافيزيقي. إنّ العقلانية الآلية أكثرُ تجذُّرًا في العقل التجريبي. وقد أنكرت العقلانية الآلية المبادئ غير الحسية في العلوم التجريبية بتأثيرٍ من غلبة المذهب الحسي والنزعة الحسية، وابْدلت الأساليب القياسية بالأساليب الاستقرائية[2].

منهجية أركون في نقد العقل الديني

من خلال قراءة أعمال محمد أركون نصل إلى نتيجةٍ مفادها أنّه قد عمل على نقد العقل الإسلامي من خلال الاستناد إلى أسلوبين ورؤيتين يمكن إجمالهما بمعرفة الآفات والرؤية المقارنة.

معرفة الآفات

إنّ من بين الأساليب التي يتّبعها أركون في نقد العقل الإسلامي، هو التّتبّع

(138)

والبحث عن آفات العقل الديني. حيث ذهب في هذا الأسلوب إلى اعتبار النصية والعصبية والدوغماتية والأساطيرية وما وراء التاريخية وما إلى ذلك من بين آفات العقل الديني، وقد تحدّثنا عن ذلك في مقالٍ مستقلٍّ بعنوان: (نقد ومناقشة آفات العقل الديني من وجهة نظر أركون). وأما في هذا المقال فإننا سنقتصر على نقد وتحليل أسلوبه الثاني.

الرؤية المقارنة

إنّ الأسلوب الآخر الذي يتبعه أركون هو العمل على مقارنة كلِّ واحدٍ من أنواع العقول السائدة في الغرب، وهي: العقل الفلسفي، والعقل العلمي، والعقل الحديث، وعقل ما بعد الحداثة، بالعقل الديني، ليخلص إلى نتيجةٍ مفادها أنّ السر في النجاح والتقدّم المادي الذي حققته الحضارة الغربية يكمن في نبذها وتخليها عن العقل الديني، ومن هنا قال بأنّ العقل الديني هو السبب في تخلّف وانحطاط المجتمعات الإسلامية. وقد عمل أركون في هذا الأسلوب المقارن على المقارنة بين العقل الغربي والعقل الإسلامي، وتحدث عن مزايا العقول الحاكمة في الغرب بعد العصور الوسطى، وسعى من خلال ذلك إلى انتقاص العقل الديني والإسلامي بالمطلق. والذي نسعى إليه في هذا المقال هو نقد هذا الأسلوب.

العقل الفلسفي والعقل الديني

تبدأ الرؤية المقارنة الأولى لأركون من مقارنة العقل الديني بالعقل الفلسفي بين المجتمعات الغربية والإسلامية. إنّ المراد من العقل الديني من وجهة نظر أركون هو العقل الذي يثبت جميع أنواع القضايا الدينية ويستدل عليها. والشاهد

(139)

على ذلك أنه يذكر العقل الكلامي والعقل الفقهي من مصاديق العقل الديني[1]. وأما مراده من العقل الديني هنا فهو خصوص العقل الكلامي. وفي هذه الرؤية يتكفّل العقل الديني بشكلٍ عامٍّ والعقل الكلامي بشكلٍ خاصٍّ بإثبات القضايا الوحيانية، أما العقل الفلسفي فلا يتكفل بأيِّ شيءٍ ولأيِّ جهةٍ. إنّ أنصار هذا العقل ـ بالاستناد المطلق على إمكانات العقل وتجاهل المحدوديات الماثلة أمامه ـ يسعون إلى إثبات الحقائق. وهم يرون أنّ القضايا التي يتمّ إثباتها بواسطة هذا العقل تكون حجةً حتى وإنْ خالفت الوحي، وبذلك يجب التخلي عن القضايا الوحيانية.

ومن خلال مقارنة التقابل بين العقل الديني والعقل الفلسفي في البلدان الإسلامية والغربية، يتوصّل أركون إلى القول بأنّ النتيجة النهائية لهذه المعارضة في البلدان الإسلامية تتمثل بغلبة العقل الديني على العقل الفلسفي، وفي البلدان الغربية تتمثل في غلبة العقل الفلسفي على العقل الديني، وقال في ذلك:

بعد ظهور السلاجقة ـ في القرن الحادي عشر للميلاد ـ ضاقت الأطر الاجتماعية والمعرفية والسياسية وآلت إلى الضعف حتى بلغ الأمر حدًّا تفوّق معه العقل الكلامي والفقهي على العقل الفلسفي، ولا يزال هذا التفوّق في ازديادٍ واشتدادٍ من الناحية العملية إلى هذه اللحظة، وأدى إلى محو مكانة الفلسفة من دائرة الفكر الإسلامي. وفي المقابل فإنّ ما حدث في القارّة الأوروبية المسيحية مغايرٌ لذلك تمامًا.

يمتدح أركون دور الفلسفة في تحرير العقل من أسر اللاهوت، ويذهب إلى الاعتقاد بأن الفلسفة قد بذلك من طريق العقل جهودًا كبيرةً للوصول إلى الاستقلال الذاتي والكامل في نقد ذاتها (قياسًا إلى الدين الذي يفترض صحة تعاليمه

(140)

وقضاياه بضرسٍ قاطعٍ ويعمل على تعطيل العقل في هذا الشأن). يرى أركون أن هذا الإنجاز الكبير قد تحقق في أوروبا على يد (رينيه ديكارت)، و(باروخ سبينوزا)، و(إيمانويل كانط)، وبعد ذلك بدأت العلوم الإنسانية بالظهور، وهبّت إلى مساعدة الفلسفة لكي تضطلع بمهامّها[1].

يذهب أركون إلى الاعتقاد بأن العقل الذي تبلور في الغرب على يد (ديكارت)، و(سبينوزا)، و(كانط)، قادرٌ على استيعاب الأمر المقدس، ولهذا الاعتبار يكون العقل من القوى المؤثرة والتي تستطيع أن تعمل على تغيير القيَم والقوانين، وبذلك بكون العقل مرجعيةً عابرةً للتاريخ ونافعًا لجميع المجتمعات. ولكنه يقول من جهةٍ أخرى في وصف العقل الديني:

«أما العقل الذي يوجّه الخطابات الأصولية المتطرّفة في مجتمعات ما قبل الاستقلال، فلا يتميّز بكونه رفضًا عقلانيًّا لمكتسبات الحداثة، وإننما يتميّز بعجزه نفسيًّا وثقافيًّا عن هضم هذه المكتسبات ومعرفة كيفية استخدامها. وحيثما تسيطر الشروط السلبية لممارسة العقل في هذه البلدان ... فإن العقل الأصولي يجهل تمامًا أفضل ما أنتجته الحداثة، وبالتالي فهو يعاديها ويكرهها كُرهًا شديدًا»[2].

نقد ومناقشة

1 ـ ضرورة الاهتمام بمحدودية العقل البشري
(141)

كما سبق أن ذكرنا فإنّ محمد أركون يهدف من وراء طرح العقل الفلسفي إلى مقارنة ونقد العقل الديني. وإنّ أبرز مصداقٍ لمراد أركون من العقل الديني هو العقل الكلامي. إنّ من بين الخصائص التي يمكن عدّها للعقلانية التي يؤيّدها أركون، مخالفتها لعلم اللاهوت أو علم الكلام، والتي هي في الحقيقة ردة فعلٍ عن الرؤية المتطرّفة في باب العقل الذي ساد في العالم الإسلامي. وقد عمل أصحاب الحديث على تعطيل العقل بالكامل. وهكذا المذهب الكلامي الأشعري الذي سعى ـ إلى حدٍّ ما ـ إلى الاستفادة من العقل، ولكنه من الناحية العملية آمن بذات عقائد أصحاب الحديث وعمل على تبرير وتعديل عقائدهم اللاعقلانية، ومن بينها: القول بالتشبيه والتجسيم وإنكار الحُسن والقبح العقليّيْن، والقول بالجبر ونظائر ذلك[1]. ومن الواضح بداهةً أنّ التبرير العقلاني لعقيدةٍ غيرِ علانيةٍ لن يكون مصيره سوى الإخفاق. وفي الحقيقة فإنّ أركون قد جنح في ردّة فعله تجاه إفراط أصحاب الحديث والأشاعرة في باب العقلانية إلى السقوط في التفريط في النزعة العقلانية، وغفل عن الرؤية المعتدلة للإسلام الأصيل والقرآن الكريم الذي كان يجب عليه أن يلتمس تفسيره في كلمات النبي الأكرم صلّی اللّه علیه وآله وسلّم وأهل البيت (عليهم السلام). وفي هذه الرؤية يجوز للعقل المضي قُدُمًا ما دام يمكنه الوصول إلى النتائج القطعية بواسطة الدليل والبرهان، ويكون مسموحًا له من قِبل الشرع بتأويل النقل الظني الدلالة، ولكن حيث لا يدخل الأمر في قدرة العقل يجب التمسك بالعقل الوحياني.

يعترف العقل نفسه بأنّه عاجزٌ عن إدراك ذات وكنه صفات الباري تعالى، وعن فهم الكثير من جزئيات وتفاصيل الأحكام الشرعية. إنّ محدودية الإدراك ليست

(142)

مسألةً يتمّ فرضها على العقل، بل إن العقل النظري نفسه يعترف بجهله وقصوره في الكثير من الموارد. وبذلك يتم إقامة أفضل دليلٍ على الحاجة إلى الوحي والنبوّة من ناحية العقل النظري[1]. وبعبارةٍ أخرى: إنّ ملاحظة محدودية العقل هي التي تؤدّي إلى اعتماد علم الكلام على (العقل الوحياني). وهذا في حدّ ذاته من أحكام العقل؛ فالعقلُ نفسُه يحكم بضرورة الرجوع إلى العالم في موارد عدم عثوره على ما يفيد العلم.

إن التسليم لحكم العقل المحض بعيدًا عن أيّ التزام تجاه الدين الحق، يعني أنّ العقل لا يقبل بأيِّ حدودٍ وموانعَ، وأنّ جميع أبعاد الحقيقة في متناوله دون الاستعانة بالوحي. وهذا خطأٌ فاحشٌ؛ وذلك لأنّ العقل البشري عاجزٌ عن فهم وإدراك بعض حقائق الوجود، وإنّ الاعتقاد بعدم وجود مثل هذه الأمور يمثّل سقوطًا في الجهل المركّب. وعلى حدّ تعبير ابن سينا:

 «إنّ حماقة إنكار ما لا يمكن إثبات امتناعه بالبرهان، ليست بأقل من حماقة الادعاء من دون دليلٍ»[2].

2 ـ عقلانية الالتزام بمضمون الوحي

يذهب أركون إلى التفريق بين الفلاسفة والمتكلمين، وذلك لادعائه بأنّ الفلاسفة لا يُلزمون أنفسهم بالتعاليم الوحيانية، ويتخذون تجاهها موقف اللابشرط. ولكن هذا غيرُ صحيحٍ؛ لأنّ أهم الأدلة وأتقنها في باب إثبات الخالق موجودةٌ في أعمال

(143)

وآثار الفلاسفة الكبار. في حين أن بعض أدلة المتكلمين في هذا الشأن ضعيفةٌ:

«إن الالتزام بمضمون الوحي والأدلة النقلية إذا كان مجرّدًا من الإثبات العقلاني لمبادئه، فهو تقليدٌ، وإذا كان بعد الإثبات العقلاني لمبادئه لم يكن هناك فرقٌ بين المتكلم والفيلسوف؛ لأنّ الفيلسوف بدوره يثبت المباني المؤدية إلى أحقية واعتبار الوحي من خلال التمسك بالبرهان والدليل العقلي أيضًا، وعليه يكون الفيلسوف مثل المتكلم في الالتزام والتعهدّ بحقانية وضرورة ما يثبته»[1].

وعلى هذا الأساس ليس هناك فرقٌ بين الكلام والفلسفة الإلهية من هذه الناحية. ومن هنا فإنّ هذا الالتزام ـ إذا تمّ إثبات أحقيّة الدين الإسلامي بالأدلة والبراهين العقلية المحكمة، ولم يتم معارضتها بالتعاليم المناهضة للعقل ـ لن يعدّ نقصًا في العقل الكلامي، بل إنّ الاستعانة بـ (العقل الوحياني) سيكون جابرًا لمحدوديات العقل البشري أيضًا.

3 ـ عدم الفصل بين العقل والوحي في الإسلام

إن المقارنة بين الإسلام والغرب في هذه المسألة غيرُ واردةٍ من الأساس. إن الوحي والعقل في الإسلام أمران لا ينفصلان ولا يفترقان، بيد أن الذي ساد الغرب هو الاستناد إلى العقل المحض والذي وقف في مواجهة الدين بسبب هيمنة العقل المعارض للدين المحرّف في الغرب[2]. وعليه ربما كانت التبعية للعقل المحض في الغرب، والطلاق مع التعاليم الكنسية المناهضة للعقل، طريقًا للخلاص من

(144)

الانحطاط في الغرب، إلا أنّ الانفصال عن العقل الديني في الإسلام الذي يدعو إلى العقلانية والتفكير والتدبّر، لن ينتج عنه سوى الانتحار والانحطاط.

إنّ كلّ شيءٍ في دائرة العقائد الإسلامية خاضعٌ للعقل، ولا يمكن الإيمان بعقيدةٍ إلا بعد إثباتها بواسطة العقل. فإنّ الإيمان إذا كان عن تقليد فهو باطلٌ، ومن هنا لا وجود للعقائد المخالفة للعقل في الإسلام، وإلا إذا كان الأمر على خلاف ذلك لم يكن الإسلام ليطلب من أتباعه الإيمان على أساس العقل والبرهان. يُضاف إلى ذلك لا توجد هناك إمكانيةٌ لرفض العقل والاكتفاء بالنص في أيِّ واحدٍ من التعاليم الاعتقادية؛ وذلك لأنّ الاستناد إلى النص، يتوقّف على إثبات نبوّة النبي الأكرم صلّی اللّه علیه وآله وسلّم  وحجية قوله، وما دام لم يثبت وجود صانعٍ حكيمٍ أرسل أنبياءه ورسله بالمعجزات لهداية الناس من طريق البرهان العقلي، لن يكون بالإمكان إثبات نبوّة النبي الأكرم صلّی اللّه علیه وآله وسلّم  وحجية كلامه أيضًا، وبالتالي لا يمكن الاستناد إلى نصوص وسنة النبي الأكرم صلّی اللّه علیه وآله وسلّم  في التعاليم الاعتقادية[1]. وطبقًا لهذا البيان حتى في غير المعارف والتعاليم الاعتقادية تكون حجية النقل مترتبةً على تصديق العقل لأحقية وصدق العقائد الإسلامية أيضًا. وعلى هذا الأساس فإن علم الكلام في جوهره علمٌ عقليٌّ.

وفي قسم الفقه الذي تكون فيه الأصالة للتعبد، مع ذلك نجد العقل يفقد شيئًا من قيمته واعتباره. فإنّ العقل ـ من وجهة نظر الكثير من علماء الإسلام ـ بالإضافة إلى دوره في فهم الكتاب والسنة، يُعدّ واحدًا من الأدلة الأربعة أيضًا. ببيان أن الأدلة العقلية في الأحكام الشرعية تنقسم إلى قسمين، وهما: قسم المستقلات

(145)

العقلية، وقسم غير المستقلات العقلية[1]. وغير المستقلات العقلية هي تلك الأمور التي لا يستقلّ العقل في فهمها وإدراكها، وإنما يحتاج إلى الشارع في فهم أحكامها. وفي هذا القسم الناظر إلى جهات محدودية العقل البشري، في الوقت الذي لا يوجد أيُّ حكمٍ مناهضٍ للعقل، فإنه في الكثير من الموارد بعد بيان مِلاك ومَناط الحكم من قبل الشارع، سيحكم العقل بدوره ويعترف بصحة ذلك الحكم.

كما أنّ المستقلات العقلية تحتل مساحةً كبيرةً من الأحكام الفقهية. فإنّ قبح السرقة، والظلم، والإيذاء، والعدوان، والقتل، وكذلك وجوب شكر المنعم على نِعَمِه، ووجوب قضاء الدَّيْن، وردّ الودائع والأمانات إلى أهلها، واستحباب الإحسان وما شاكل ذلك بأجمعها من الأمور التي حتى إذا لم يَرِدْ فيها حُكْمٌ من قِبل الشارع، فإنّ العقل البشري سيكون قادرًا لوحده على الحكم بشأنها. وقد ورد في المصادر الإسلامية الأصيلة أنّ العقل نبيٌّ باطنٌ، فكما أنّ النبيَّ الظاهرَ يبلّغ الأوامر والنواهيَ الإلهية، كذلك يفعل النبي الباطن أيضًا[2]. ومن هنا كانت قاعدة الملازمة بين العقل والشرع (كل ما حكم به العقل، حكم به الشرع)، تعدّ واحدةً من القواعد الأساسية في أصول الفقه. وعلى هذا الأساس فإنّ العقل حتى في علم الفقه ليس تابعًا للنقل بالمطلق، ويمارس دوره في حدود الإمكان.

4 ـ الانفصال عن العقل الإسلامي سبب انحطاط المسلمين

إنّ تعريف أركون للعقل الديني بوصفه سببًا في تخلّف المسلمين وانحطاطهم

(146)

غيرُ مقبولٍ؛ إذْ يمكن اعتبار أهم سببٍ في عدم تطوّر المسلمين وانحطاطهم هو سيادة روح الإرجاء على أفكار المسلمين. لقد كان المرجئة يذهبون إلى القول بأن أساس الإسلام يقوم على الإيمان، ولم يكونوا يعطون دورًا للعمل. وكانوا يقولون: إذا كان إيمانك صحيحًا، فالعمل ليس مهمًّا. فسواءً أعملتَ أم لم تعملْ لن يُقدّم ذلك أو يؤخّر شيئًا، فالمهمّ هو الإيمان فقط[1]. وفي الحقيقة فإنّ انتشار هذا النمط من التفكير بين أغلب المجتمعات الإسلامية أدّى بالتدريج ليغدوَ مقدمةً لفرض أنواع الآفات والصدمات على المسلمين من قبل أعداء الإسلام. هذا في حين أنّ القرآن الكريم الذي يمثّل المصدر المعرفي الأول للمسلمين، والذي تم شرحه وتفسيره للناس من قبل النبي الأكرم صلّی اللّه علیه وآله وسلّم  وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام)، قد طالب المسلمين بالإيمان دومًا مقرونًا بالعمل[2]. كما كان يتمّ التأكيد في الكثير من الموارد على دور العمل وأهميته[3]. ومن هنا لو كان يتم الاهتمام بالتعاليم الإسلامية الأصيلة لما أمكن للجهل والتطفيف في العمل والعصبيات المقيتة والخضوع للقوّة والأمور الأخرى أن يعرّض البلدان الإسلامية للأخطار والصدمات. وعليه فإنّ أهمّ عنصر في انحطاط المسلمين يكمن في ابتعادهم عن التعاليم

(147)

الحقيقية للدين. وفي الحقيقة فإن الابتعاد والانفصال عن الوحي الإلهي هو الذي ساق الناس إلى أودية الهلاك السحيقة. إنّ إشاعة روح الإرجاء ـ التي يمكن العثور على منشأ ترويجها في دعم الحكام المستبدين في الحكومات الإسلامية على طول التاريخ ـ أدت إلى انحسار العمل، ومقارعة الظلم، ومحاربة الطواغيت، والحكام الظالمين (وما إلى ذلك من المفاهيم التي بلغت ذروتها في أدبيات الشيعة) وانطفاء جذوتها في المجتمعات الإسلامية. لقد خلق هذا الأمر الأرضية المناسبة لترسيخ دعائم الحكومات الظالمة وحكام الجور، وأدّى شيوع هذه الروحية بين أغلب المجتمعات الإسلامية إلى تمهيد الطريق أمام تسلّل الاستعمار القديم والجديد ليجثم على صدر البلدان الإسلامية معتمدًا على العقل الآلي الذي كان هو السائد في العالم الغربي.

وفي الحقيقة فإنّ انفصال المسلمين عن العقلانية الإسلامية هو الذي أسال لعاب الاستعمار الغربي وفتح شهيته ليعمل على توفير الوقود لحداثته والحصول على التطوّر الصناعي والمادي في هذه المرحلة من خلال توظيف العقل الآلي والتخلي عن الأخلاق والمعنويات، ويضع طوق الاستعباد على عنق البلدان الإسلامية وينهب ثرواتها وخيراتها المادية والمعنوية.

وبشكلٍ عامٍّ لا بدَّ في تحقيق التقدّم والتطور في البلدان الإسلامية من وجود المقتضي وفقدان المانع. في حين أدّى عدم وجود روح العمل بين المسلمين إلى زوال المقتضي من جهةٍ، وأدى استعمار واستغلال البلدان الإسلامية إلى خلق مانعٍ وسدٍّ كبيرٍ أمام التقدّم والتطوّر من جهةٍ أخرى. والحقيقة هي أن المسلمين لو وضعوا العقلانية الجارية والسارية في التعاليم الوحيانية نصب أعينهم، وآمنوا بأن العمل بالتعاليم الحقيقية للدين هو الذي يضمن لهم الوصول إلى الفلاح، لكانوا قد

(148)

قاموا بالخطوة الأهم في طريق الخروج من مستنقع الانحطاط. وذلك لأن العقل الإسلامي يرى أنّ العملانية المقرونة بالإيمان بالله ووعوده الحقة، ترفض الخضوع للظلم والاستعمار والاستحمار. ومن جهةٍ أخرى فإنّ الأوامر الإسلامية الصريحة بوجوب طلب العلم والمعرفة وتقوية العقلانية، وكذلك التأكيد على أهمية عمارة الدنيا والآخرة بالتوازي[1]، من شأنه أن يفتح أمام المسلمين العاملين بالتعاليم الإسلامية طريقًا رحبًا للخروج من الانحطاط، واتخاذ ذلك بداية في مسار التطور والازدهار. من الواضح جدًّا أنّ جميع هذه العناصر موجودةٌ في تعاليم أهل بيت النبي الأكرم صلّی اللّه علیه وآله وسلّم ، والذين هم طبقًا لحديث الثقلين مقترين بالقرآن ولن يفترقوا عنه إلى يوم القيامة.

2 / 2 / 2 ـ العقل العملي والعقل الديني

إنّ الناحية الأخرى من نقد أركون للعقل الديني تعود إلى المقارنة بين معطيات العقل الديني والعقل العملي في الغرب. إنّ مراده من العقل العملي هو العقل الذي يمثل أداةً في العلوم التجريبية والعلوم الإنسانية الحديثة. يرى أركون أنّ العقل الفلسفي كان في بداية الأمر يحتوي على العقل العلمي أيضًا، إلا أنّ العقل العلمي أخذ ينفصل بالتدريج عن الفلسفة التقليدية والعقل اللاهوتي، حتى وصل الأمر اليوم إلى الطلاق البائن بينهما وبين العقل العملي ـ التكنولوجي ـ وتحوّل العقل العلمي إلى العقل السائد والغالب. وعلى هذه الوتيرة أخذ العقل الديني يفتقد مكانته في الغرب شيئًا فشيئًا، حتى وصل الأمر بالعقل الديني إلى اتخاذ

(149)

موقعٍ دفاعيٍّ كاملٍ[1]. وحيث يرى في سيطرة العقل الغربي على العقل الديني دليلًا على تطوُّر الغرب، فإنّه يقول:

«فالعقل الغربيُّ أصبح مهيمنًا على العالم بسبب نجاحاته التكنولوجية والاقتصادية والسياسية الصارخة. لقد وصل من القوّة والعنجهية إلى حدِّ أنه نافس الدين، بل وانتزع منه تلك الذروة العليا التي تعلو ولا يُعلى عليها: أقصد ذروة الهيبة والمشروعية. ومن المعلوم أنها كانت من اختصاص الدين لفترةٍ طويلةٍ من الزمن. أصبح العقل العلمي هو الذي يحدد المشروعية لا الدين. وعندئذ انتقلت البشرية الأوروبية من الفضاء العقلي القروسطي إلى الفضاء العقلي الحديث. وأصبح علماء الطب والبيولوجيا والقانون هم الذين يحددون السلوك الأخلاقي المستقيم لا رجال الدين. وحَشر العقلُ الغربي الدينَ في منطقةٍ ضيّقةٍ، وحدّد له وظائفَ ثانويةً بعد أن كان يتحكم بحياة البشرية الأوروبية في كلِّ شاردةٍ وواردةٍ طيلةَ قرونٍ وقرونٍ»[2].

وكأنّ أركون يسعى من خلال هذه المقارنة إلى القول بأنّ هيمنة العقل الديني على المجتمعات الإسلامية هي التي تسببت في تخلّف المسلمين وعدم تمكّنهم من مواكبة التطور الحديث.

(150)

نقد ومناقشة

1 ـ الإسلام يدعو ويشجع على طلب العلم

نعلم أن مشكلة التعارض بين العلم والدين إنّما تعود في ذاتها إلى أداء الكنيسة؛ وذلك لاشتمال الكثير من التعاليم الكنسية على قضايا تخالف العلم، وهي مسجّلةٌ في كتبهم المقدسة، وكانت الكنيسة تعتبر العلم الذي يخالفها إنما يخالف الكنيسة. وعليه فإن الكنيسة هي التي رفعت لواء المعارضة للتطوّر العلمي منذ البداية. ومن هنا عمدت الكنيسة إلى إقامة محاكم التفتيش ومعاقبة المفكرين والعلماء من أمثال (غاليلو) وغيره[1]. أجل هناك تعارض بين العلم والكنيسة، وكان يجب أن تتجه الأنظار في الغرب إلى إيجاد حلٍّ لهذا التعارض في العالم المسيحي. ولا ينسحب ذلك على العالم الإسلامي، لأنّ الوحي الإلهي في الإسلام بالإضافة إلى عدم تحريفه، لم يعارض العلم بل أمر به وشجّع عليه، وفي ذلك يقول العلامة الشيخ جوادي آملي:

«ليس هناك أيُّ تعارضٍ بين العلم والدين، وإذا كان هناك من تعارضٍ فهو تعارضٌ بين العلم العقلي الأعم من التجريبي والتجريدي وبعض الأدلة النقلية، وهو الآخر في الكثير من موارده تعارضٌ بَدْوِيُّ غيرُ مستِقرٍّ، ويمكن حله بالطرق العرفية والعقلائية»[2].

ومن ناحيةٍ أخرى لم يتّجه الإسلام إلى أيِّ اتجاهِ لقمع العلم والعلماء كما

(151)

حدث في الكنيسة. بل إنّ الدين الإسلامي يحثّ المسلمين على الدوام على طلب العلم والمعرفة، ويحذّرهم من الجهل والتخلف، وإلا لما وصل المسلمون قبل عهد الاستعمار الغربي إلى تلك المرحلة المتقدمة من التقدم العلمي والإنجازات العلمية العظيمة.

2 ـ العقل قرينُ النقل لا قرينُ الوحي

ثمّ إنه بناءً على الرؤية الصحيحة للإسلام فإنّ العقل بجميع مصاديقه ـ سواءً العقل التجريبي، أو العقل التجريدي (العقل الفلسفي) وغيرهما ـ إذا أنتج حكمًا مبرهَنًا ومستدَلًّا، سوف يُعتبر إلى جانب النقل واحدًا من المصادر المعرفية للدين. وبعبارةٍ أخرى: (إنّ العقل قرينُ النقل، لا قرينُ الوحي)[1]. إنّ وضع العقل في قبال الدين يعدُّ خطأً كبيرًا؛ لأنّ العقل والنقل في الدين الإسلامي إذا أنتجا معرفةً يقينيةً ومبرهنةً، فإنهما سيحظيان باعتبارٍ واحدٍ، ويتمّ التعامل معهما بوصفهما جناحين للمعرفة الدينية. لا بد من الالتفات إلى أنّ (العلوم العقلية والنقلية كلاهما عرضةٌ للاشتباه والخطأ، أما ساحة الوحي الإلهي فهي لا تقبل الخطأ)[2]. إذًا ففي الحقيقة والواقع يُعدُّ هذا الفهم للعقل متطرِّفًا بحيث يرقى به إلى مرتبة الوحي، في حين أنه طبقًا للفهم الصحيح والمعتدل يتم وضع العقل في مستوى النقل، والقول بأنّ كلًّا من العقل والنقل أداةٌ معرفيةٌ في الدين ووسيلة إلى فهم الوحي.

3 ـ الاهتمام العقلي الوحياني بجميع الأبعاد الوجودية للإنسان

الأمر الآخر هو أننا لو حصرنا الاحتياجات البشرية في الحاجة المادية والتكنولوجية والصناعية، أمكن القول بأنّ العقل التجريبي في الغرب قد تمكن

(152)

إلى حدٍّ ما من تلبية هذه الحاجة للرأسماليين الغربيين، ولكن هذه التلبية كانت مقرونةً بالكثير من الآفات المروّعة. فإن الظلم والعنصرية وغياب العدل وسيادة الرأسمالية والاستعمار والاستغلال، هي من تبعات ونتائج الصناعة والتكنولوجيا التي ألقت بظلالها الثقيلة على المجتمعات البشرية. وبعبارةٍ أخرى:

«إن العقل التجريبي الغربي قد ابتعد عن العقلانية الأخلاقية والغائية، وتحول إلى عقلانيةٍ آليةٍ ونفعيةٍ. وفي المقابل تخلّت الطموحات الأخلاقية والمعنوية عن مكانتها لصالح الأهداف والغايات المادية العابرة، وكانت نتيجة ذلك أزمة طالت العالم الغربي على المستوى المعنوي والأخلاقي. ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ الإصرار المفرط من قِبل العقلانية الآلية على العلوم التقنية والتكنولوجية أدى بالإنسان بدلًا من أن يكون سيدًا ومالكًا للصناعة والتكنولوجيا، إلى أنْ يصبح عبدًا لها، وبذلك أضحت سيادة التكنولوجيا وسيادة الرأسمالية بديلًا عن سيادة الإنسان»[1].

إن هذه الآفات تأتي من الغفلة عن البُعد الآخر من وجود الإنسان، والتي لا يمكن للعقل التجريبي أنْ يُدركها أو أن يصدر حكمه بشأنها. وإن الطريق الوحيد لضمان السعادة الكاملة للإنسان على المستوى المادي والمعنوي هو طريق الأنبياء والتعاليم الوحيانية. إنّ الاهتمام بهذه التعاليم يساعد الإنسان في الوصول إلى التقدم المادي والمعنوي دون أنْ تترتّب المحاذير والآفات المتقدمة على ذلك.

(153)
العقل الحديث والعقل الديني

يرى أركون أنّ منشأ التقدم العلمي في الغرب يعود إلى العقلانية التي سادت الغرب بعد العصور الوسطى. ويرى أن منشأ هذه العقلانية تكمن في نبذ الدين بواسطة النهج الإصلاحي الذي قام به مارتن لوثرفي القرن السادس عشر للميلاد. فهو يعتقد بأن الإصلاح الذي قام به لوثر في القرن السادس عشر قد فرض الاعتراف بحقوق العقل في التفحّص الحرّ، وزعزع بذلك الأستاذية العقائدية التي كانت تمارسها الكنيسة الكاثوليكية دون أن يخرج عن الإطار الأنطولوجي الخاص بالوحي. ثم جاءت حركة النهضة في الغرب أيضًا لكي تُعمّق هذه الحركة الإصلاحية وتزيد من اكتساب العقل لحقوقه إلى حدِّ الفصل بين الفلسفة الاستقرائية التي تفكر انطلاقًا من الواقع[1].

وفي الحقيقة فإنّه يرى أن التغيير في نوع العقلانية والتفكير الحر، يمثّل حجر الأساس في بناء النهضة العلمية في الغرب. وقد أكد محمد أركون في أعماله على العقلانية الغربية كثيرًا. وقد رأى أن العقلانية في الغرب تعود في الغالب إلى أفكار كلٍّ من ديكارت وسبينوزا وكانط التي تلبورت في عصر النهضة، وقال في الثناء عليها:

إنّ العقلانية التقليدية في الغرب قد اقترنت بالكثير من المعطيات وهي هامةٌ ومصيريةٌ للغاية، ولا يجدر حتى بالغرب نفسه أن يتجاهلها من خلال رفع شعار ما بعد الحداثة، أو أن يغفل عنها. إن العقلانية التقليدية كانت منشأً لظاهرة الحداثة أو (الحداثة التقليدية)[2].

(154)

ويذهب أركون إلى الاعتقاد بأنّ هناك في العقلانية التقليدية في الغرب سلسلةً من الأصول والقواعد الثابتة وغير القابلة للإنكار والتشكيك، وأنّ العقل إذا عمل على طبق القواعد الدقيقة التي يضعها سيكون قادرًا على اكتشاف الحقيقة[1].

وقال في هذا الشأن:

 «لقد ألف سبينوزا كتابه الشهير بعنوان (الأخلاق) من خلال الاعتماد المطلق على مبادئ وأصول هذا العقل التقليدي، وهو العقل الذي كان يعمل على توظيف الأساليب البرهانية العقلية بواسطة التأكيد على الأصل المنطقي الأرسطي القائم على استحالة اجتماع النقيضين. يرى سبينوزا أنّ العقل إذا تمكن من توظيف المباني المنطقية فإنه سيضطر إلى الاستفادة من البرهان والاستدلال، وهذا الشكل من التفكير يمثل جوهر التفكير التقليدي في عصر النهضة»[2].

وفي الحقيقة فإنّ أركون يرى أن الأصالة والاستقلال الذاتي لهذا العقل هو السرّ في خلاص الغرب من الانحطاط القروسطي، وقال في هذا الشأن:

«لقد عمد سبينوزا وديكارت إلى تحرير العقل الفلسفي من سيطرة وهيمنة التفكير اللاهوتي المسيحي، ومنذ ذلك الحين بدأ يتمّ طرح مسألة حرية العقل والنفس البشرية بشكلٍ تدريجيٍّ. إنّ ما قام به هذان الفيلسوفان من العظمة بحيث لا يمكن بيان قيمته بالكلمات. فقد عملا على منح البشر الاستقلال الذاتي والجوهري للعقل، وقاما بتحريره من مخالب العقل القروسطي»[3].

(155)

ويرى أركون أنّ الاستقلال الذاتي للعقل يكمن في أنه بعد ظهور هذا التفكير الجديد، تم إيكال بلورة الأخلاق وقواعد السلوك وتنظيم المجتمع إلى العقل البشري، واعتبر التقنين والتشريع من جملة مسؤوليات البشر. وهو أمرٌ لم يكن هناك من يجرؤ على التفكير به في العصور الوسطى. وبذلك تمكّن الغرب من خلال العقلانية الجديدة من بسط تفوّقه على جميع الأمم الأخرى، وانتقلت أوروبا من مرحلة العقل اللاهوتي القروسطي إلى مرحلة العقل التقليدي الحديث[1].

تتمثل نقطة ارتكاز أركون من بين المدارس الفكرية الحديثة على العقلانية النقدية. وقد عرّف العقل الغربي بـ (الأنظمة المعرفية المغامرة)، وهو مصطلحٌ يمكن اعتباره صيغةً أخرى للعقلانية النقدية:

«إنّ المرادَ من هذا النظام منظومةٌ عقلانيةٌ ومتغيّرةٌ أو قابلةٌ للتغيير، وبعبارةٍ أخرى: الأوضاع المتحركة التي يمضي بها العقل الناقد قُدُمًا بحيث لا تستقرّ في نقطةٌ نهائيةٌ، ولا يطالها الجمود أبدًا»[2].

وقد عمد أركون إلى تقييم هذه الصفة في العقل الغربي بشكلٍ مغايِرٍ للعقل الديني أو العقل الدوغماتي على حدّ تعبيره بالكامل، وذلك لأنّ العقل الدوغماتي الديني قد توصّل إلى الحقيقة منذ البداية وانتهى الأمر، في حين أن العقل النقدي يرى نفسه في كل مرحلةٍ مضطرًّا إلى إجراء بعض الإصلاحات على نفسه. كما أنه مضطرٌّ إلى اختبار نفسه بمحك البرهان للوقوف على الخطأ والصواب في منهجه، وهذا الأمر هو الذي يؤدّي به إلى التخلي عن الأمور التي كان يعتقد بصوابيتها

(156)

في الماضي ثم اكتشف بعد ذلك أنّها كانت خاطئةً. وحيث يأمل أركون بتحقيق مثل هذه العقلانية في الدين، فإنه يرى أنّ تطبيق (الأنظمة المعرفية المغامرة) في المجتمعات المسلمة، إنما تكون على أيدي العظام والأفذاذ من الرجال[1].

نقدٌ ومناقشةٌ

لنقد العقلانية الحديثة في الغرب ـ والتي يُشيد بها أركون ـ من الضروري أوّلًا أنْ نعمل على مناقشة ونقد عناصر وخصائص هذا النوع من العقلانية. وفي ما يلي سنشير إلى اتجاهين رئيسين في العقلانية الحديثة، ونعمل على نقدهما.

1 ـ الأصالة الذاتية للعقل الحديث والنزعة الإنسانية

إنّ أساس الحداثة يقوم على فرضيةٍ واحدةٍ، وهي أنّ العقل البشري هو المصدر الوحيد للمعنى والحقيقة والمعرفة[2]؛ بمعنى أنّ العقل الإنساني قادرٌ لوحده على اكتشاف جميع الحقائق وأنْ يخطّط في إطار تحقيق سعادته الفردية والاجتماعية؛ بمعنى أنّ الإنسان لا يحتاج في تحقيق السعادة إلى شيءٍ باسم الدين، وأنّ العقل وحده قادرٌ على الاضطلاع بهذه المسؤولية. إنّ هذا العنصر هو الذي دفع أركون إلى تصوُّر أنّ السبب في التقدم الحاصل في المرحلة الحديثة يعود إلى اعتماد العقلانية الأصيلة والمستقلة عن الدين والتعاليم المسيحية، وأن سبب انحطاط الغرب في العصور الوسطى يعود إلى سيادة الخطاب الكنسي. إنّ هذا النوع من الرؤية المتطرّفة إلى قدرة العقل البشري تنشأ من مبنى النزعة الإنسانيّة التي

(157)

أضحت هي السائدة في العالم الغربي[1]. وعلى هذا الأساس فإنّ العقلانية والنزعة الإنسانية في الغرب وجهان لعملةٍ واحدةٍ، ولا يمكن مناقشة أو بحث أيِّ واحدةٍ منهما بمعزلٍ عن الأخرى. ومن هنا فإنّ مناقشة ونقد النزعة الإنسانية تُعدُّ في حد ذاتها أرضيةً مناسبةً لنقد أصالة العقل البشري.

1 / 1 ـ ضرورة التفكيك بين الكنيسة المناهضة للإنسان وبين النزعة الإنسانية للإسلام

تعود جذور النزعة الإنسانية في رؤيةٍ واحدةٍ إلى أدبيات ما قبل المسيحية وتفضيل الإنسان على الآلهة في ردّة فعلٍ على اللاهوت الكنسي. ففي الرؤية الأساطيرية الإغريقية كان هناك على الدوام تنافُسٌ وتحاسُدٌ بين الإنسان والآلهة، وكان الإنسان شخصًا متحرِّرًا ومتمرِّدًا ومذنبًا يستحقّ العذاب[2]. ينظر اللاهوت المسيحي إلى جميع الناس على أنّهم عصاةٌ ومذنبون بالفطرة وفي جِبِلّتهم، وكان لا بدّ من أن يُصلب السيد المسيح ويُفتدى به من أجل تطهير الإنسان من خطيئته. وقد تمّ منع البحث عن حقائق الوجود والكائنات خوفًا من أن تصل إلى نتائجَ تتناقض مع تعاليم الكنيسة، وكان يتم الحكم بالإعدام على العلماء الذين يتوصلون ـ من خلال توظيف العلم والتجربة ـ إلى نتائج مخالفة لتعاليم الكنيسة. وإن هذا النوع من الرؤية الممتهنة للإنسان هي التي دفعت الناس إلى الثورة ضدّ الكنيسة. وعلى هذا الأساس فإن النزعة الإنسانية تمثّل تجلّيًا لثورة الإنسان الغربي ضد القيم السائدة في الكنيسة في العصور الوسطى. ومنذ ذلك الحين تحولت النزعة

(158)

الإنسانية إلى دين في قبال دين الكنيسة، وتم تدوين منظومةٍ اعتقاديةٍ[1] لهذا الدين الجديد[2].

وأما في الإسلام ـ خلافًا لما عليه الأمر في الكنيسة ـ فليس هناك من شيءٍ يمكن أنْ يقارَن بقيمة الإنسان. وذلك حيث نجد أنّ الله سبحانه وتعالى يأمر ملائكته بالسجود إلى آدم، وعمل على طرد الشيطان من رحمته ولَعَنه؛ لأنّه رفض السجود لآدم (عليه السلام)[3]. وقد دعا القرآن الإنسان إلى التعلّم، وجعل آدم معلِّمًا للملائكة[4]. ووضع العقل في النقطة المقابلة للشر[5]. كما أنّ الإسلام ـ خلافًا للكنيسة التي تُعارض التعقّل والتّفكير بشأن التعاليم المسيحية ـ يرفض التدّيّن المفتقر إلى العقل[6]. وقد سمح القرآن الكريم للإنسان بتسخير الأرض والسماء

(159)

واستثمارهما[1]، وأن يستخرج خيراتهما دون إسراف وتبذير وظلم وعدوان[2]. ولم يُحرّم الإسلام اللذة والاستمتاع في الدنيا على الناس[3]، ولم يفرض عليهم أيَّ حدودٍ أو قيودٍ في تحصيل العلم ومعرفة الوجود[4]. لقد اعتبر الإسلام حقوق الإنسان من الحرمات الإلهية وقام بتوفير الكرامة للإنسان[5]. وإن الدين في الإسلام يمثّل الطريق لتكامل الإنسان لا لإلغائِه، وليس جميع الناس مذنبين في جِبِلّتهم، كما أنهم لا يحتاجون إلى تضحية من «ابن الله» [المزعوم، تعالى الله عن ذلك]، لغفران ذنوبهم، بل يحتاجون في ذلك إلى هداية الأنبياء. وبعكس ذلك يرى الإسلام أنّ جميع الناس يولدون على الفطرة الطاهرة التي فطر الناس عليها، وما الشريعة التي أنزلها الله عليهم إلّا من أجل صيانه هذه الفطرة والحفاظ على عقل وكرامة الناس[6]. وإن الإنسان في الإسلام ليس عدُوًّا لله، ولا هو منافسٌ له، وإنما يراد للإنسان أن يكون خليفةً لله على الأرض[7] لا أكثر[8].

(160)

وعلى هذا الأساس فإن الإسلام يعمل في جميع المحاور على حماية وهداية الإنسان في معرفة الحقيقة، وبذلك كان ـ بعبارةٍ أخرى ـ دينًا إنسانيًّا. وقد لاحظ الإسلام في ضوء نظرته المدافعة عن الإنسان المحدودية التي يعاني منها عقله، فقام بجبران هذا النقص من طريق الوحي والتعاليم الدينية في إطار وضع البرنامج الضامن لسعادة البشر.

2 / 1 ـ الإخفاق الذريع لتجربة النزعة الإنسانية في الغرب

بشكلٍ عامٍّ يمكن تقسيم النزعة الإنسانية من الناحية التاريخية إلى عدّة مراحلَ، ولكلِّ مرحلةٍ خصائصها التي تتميّز بها من المراحل الأخرى؛ بيد أنّ جوهر ولب هذه الخصائص يكمن في أصالة ومرجعية الإنسان في تدبير وإدارة وبرمجة شؤونه في جميع الأمور. لقد بلغ ظهور النزعة الإنسانية ـ التي تقارنت مع بداية الحداثة ـ ذروته مع بداية القرن العشرين للميلاد. ففي بداية القرن العشرين بعد الفضيحة التي تسبب بها الإنسان الغربي في الحرب العالمية الأولى والثانية، وقفت البشرية على نتيجة الاعتماد على الإنسان، وأدركت أن التعويل على العقل الإنساني لن يؤدي بالإنسانية إلى غير البؤس والحيرة والشقاء. وعندما بلغت النزعة الإنسانية غايتها وجدت نفسها أمام طريق مسدود من العدمية والتفاهة. وهنا يفتضح سرّ إخفاق العقل البشري في تحقيق أهدافه وغاياته. وذلك لأن العقل الغربي المستقل والنفعي (الآلي) بسبب ابتعاده عن الوحي، لم يتمكّن من تحرير الإنسان من مستنقع الأزمات، وأخفق في توفير الطمأنينة والسعادة له، بل عرّض البشرية للهلاك بسبب سعيه إلى توفير الأرباح واللذة للرأسماليين والمستعمِرين. وعلى هذا الأساس فإنّ طريق نجاة الإنسان من هذا المستنقع يكمن في الرجوع إلى الدين الذي يستمدّ تعاليمه وتشريعاته الأصيلة

(161)

من الوحي؛ وذلك لأن الهداية السماوية تقدّم للبشرية أكمل أساليب الحياة[1]، وإنّ الإنسان لا يمكن بلوغ الحياة الطيبة الحقيقية[2] إلا إذا استجاب لنداء الوحي[3].

2 ـ النزعة العقلانية الانتقادية

إنّ العنصر الثاني البارز في العقلانية الحديثة يتمثل في النزعة العقلانية الانتقادية. وقد تم التأسيس للعقلانية الانتقادية في الفضاء المسيحي. إنّ التعاليم المناهضة للعقل والطاردة للعقل في الكنيسة دفعت المفكرين المسحيين إلى بذل جهودٍ ومساعٍ حثيثةٍ من أجل حلّ التعارض القائم بين العقل والكنيسة، وأنْ يُقدّم كلُّ واحدٍ منهم نظرياته في هذا الشأن، حيث تبلورت ثلاثُ نظرياتٍ رئيسةٍ في هذا الشأن، وهي: النزعة العقلانية، والنزعة الإيمانية، والنزعة العقلية الانتقادية. إنّ النزعة العقلانية القصوى تقوم على الاعتقاد القائل بأنّ منظومة العقائد الدينية إنْ أريد لها أنْ تكون مقبولةً حقيقةً وعقلًا، وجب أن تكون هناك قدرةٌ على إثبات صدقها بحيث تُقنع الجميع. وبطبيعة الحال هناك من بين أصحاب النزعة العقلانية القصوى بعض من المتدينين من أمثال (جون لوك)[4] الذين يعتقدون بإمكانية القيام بمثل هذا الشيء بشأن المسيحية، وهناك في المقابل مناوئون للدين

(162)

من أمثال (كليفور)[1] يذهبون إلى الاعتقال باستحالة ذلك. ذهب أصحاب النزعة الإيمانية إلى عدم إمكانية إخضاع العقائد الدينية للتقييم العقلاني، وقالوا بوجوب الانقياد للإيمان بشكلٍ أعمًى، إذ إن الإيمان في الأساس لا ينسجم مع التعقّل. وهناك مجموعةٌ ثالثةٌ في البيْن باسم أصحاب النزعة العقلانية الانتقادية اختارت سلوك طريقٍ وسطٍ، واعتقدوا ـ خلافًا لنظرية أصحاب النزعة الإيمانية ـ بإمكان النقد والتقييم العقلاني لأنظمة العقائد الدينية، وذهبوا أيضًا ـ خلافًا للقائلين بالعقلانية القصوى ـ إلى الادعاء بأنّ هذه الدراسات والأبحاث العقلانية لا يمكن أن نتوقّع منها إثبات صحة أنظمة العقائد الدينية بضرسٍ قاطعٍ بحيث يُقنع الجميع. إنّ هذا الاتجاه يعتبر انتقاديًّا من جهتين، فأوّلًا: إن النزعة العقلانية الانتقادية بدلًا من أن تُطالب بالإثبات القطعي لصدق العقائد الدينية تؤكّد على دور العقل في نقد الدين أو التقييم النقدي للدين، وثانيًا:  إنّ هذا الموقف بسبب فهمه الخاص لذات العقل يُعتبر موقفًا ناقدًا، وإنّ النزعة العقلية الانتقادية تحمل فهمًا متواضعًا ومحدودًا لقدرات العقل[2]. وفي نقد هذا الاتجاه العقلاني هناك ثلاثُ نقاطٍ رئيسةٍ جديرةٍ بالذكر، وهي كالآتي:

1 / 2 ـ عدم وجود الأرضية للمناورة العقلانية الانتقادية في الإسلام

إنّ المسألة الهامّة التي غابت عن عين المستنيرين المسلمين، تكمن في الاختلاف بين الكنيسة والإسلام. إنّ عقائدَ مخالفةً للعقل، من قبيل: الاعتقاد بالثالوث، واعتبار

(163)

السيد المسيح عيسى ابن الله، ومولد الله في عيد ميلاد المسيح، ونظرية الفداء والتضحية بالسيد المسيح من أجل غفران ذنوب العباد، والعشاء الرباني، والاعتقاد بعصمة البابا، ومنع القساوسة من الزواج، والاعتراف بالذنوب أمام الكهنة، وشراء وبيع الجنة والنار (صكوك الغفران)، وما إلى ذلك من عقائد الكنيسة، لا موضع لها في الدين الإسلامي الحنيف حتى يكون هناك مجال للمناورة الانتقادية في نقد العقل الإسلامي. وبطبيعة الحال ليس هناك ما يمنع من توجيه الانتقاد العقلاني من قبل النزعة العقلانية الانتقادية تجاه العقل الإسلامي؛ إذْ إن الإسلام يمتلك الأجوبة المناسبة في الرد على هذه الانتقادات، إلا أن مختصر الكلام يكمن أوّلًا في محدودية العقل البشري، بحيث إن هذه المهمة تُعدُّ أبعدَ من حدود طاقته[1]. وثانيًا: إن الرؤية العقلانية الانتقادية تجاه العقل الديني على أساس المباني والأصول المتواضع عليها التي تمّ استلهامها بشكلٍ صحيحٍ من العقل الكنسي، ولكنها لا تنسجم مع مباني العقلانية الإسلامية. إن النزعة العقلانية الانتقادية تعتبر العقل الديني ـ طبقاً لتصوّرها للعقل الكنسي ـ عقلًا تاريخيًّا وأساطيريًّا ومتعصِّبًا ودوغماتيًّا وما إلى ذلك من الأوصاف التي لا نجد لها في العقلانية الإسلامية محلًّا من الإعراب.

2 / 2 ـ التشكيك والنزعة النسبية في العقل الانتقادي

النقطة الثانية تكمن أن العقلانية الانتقادية ليست شيئًا آخرَ غير النزعة التشكيكية الحديثة. فإنّ القول بأن جميع أحكام العقل قابلةٌ للنقد، ولا يمكن تصوُّر أيِّ حكمٍ قطعيٍّ لها، لا يمكن تسميته بغير النزعة التشكيكية. وعلى حد

(164)

تعبير الشيخ الشهيد المطهري:

«ظهرت مسالكُ أخرى في القرون المتأخرة، وهي بأجمعها تتحد في نهاية المطاف ـ على الرغم مِمّا بينها من الاختلافات التفصيلية ـ في هذه المسألة مع المذاهب التشكيكية، من قبيل: المذهب الانتقادي للفيلسوف الألماني (إيمانويل كانط)، ومذهب أصالة العمل أو (البراغماتية) للفيلسوف الأمريكي[1] ويليام جيمس»[2].

وهذه هي الحقيقة التي عبّر عنها إتيان جيلسون[3] بقوله:

«إنّ جميع الاتجاهات الفلسفية التي ظهرت حتى الآن في إنجلترا وأمريكا تحت عنوان الفلسفة، ما هي إلا ظلالٌ متنوعةٌ للمذهب اللاأدري»[4].

وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار العقلانية الانتقادية نسيجًا نسبيًّا؛ إذ إنها لا

(165)

تعتبر أيَّ حكمٍ حكمًا نهائيًّا أبدًا، وعلى أساس قانونها الخاصّ تكون جميع الأحكام العقلية قابلةً للنقد، وسيكون هناك دورٌ انتقاديٌّ مستمرٌّ يسود جميع أحكام العقل، ولن يصل إلى حكمٍ قطعيٍّ أبدًا. ولذلك لا يمكن القول أنّ هذا حكمٌ صحيحٌ أو مطابقٌ للواقع، إذ هناك على الدوام احتمال وجود الخطأ فيه.

3 / 2 ـ هشاشة العقلانية الانتقادية

النقطة الثالثة التي يمكن الإشارة لها في هذا الإطار، تكمن في هشاشة هذه النظرية، بمعنى أنّه إذا كانت جميع الأحكام العقلية قابلةً للنقد والنقاش، فهذا يعني أنّ هذه النظرية التي تطرحها النزعة العقلانية الانتقادية نفسها ستكون مشمولةً لهذا الحكم، ولا يمكن أنْ تُستثنى منه. وعلى هذا الأساس يمكن القول أنّه ـ بحكم النزعة العقلانية الانتقادية نفسها ـ حتى هذه النظرية يمكن نقدها والخدش فيها، كما تقدم نقدها بالفعل أيضًا.

عقل ما بعد الحداثة والعقل الديني

وحيث إنّ التأثر الشديد بالغرب ونظريات الفلاسفة الغربيين يُعدّ من أهمّ أسباب النظريات الخاطئة لأركون في باب العقل الإسلامي، فقد واصل خطواته مع تطوْر النظريات والأبحاث في الغرب خطوةً خطوةً. فهو إذ كان حتى الآن يتحدّث عن مزايا العقل الحديث، ما أن وصلت المرحلة إلى ما بعد الحداثة، حتى غير نغمته وشرع في الحديث عن عقل ما بعد الحداثة وضرورته. وقد ذهب إلى القول بتبلور نظريةٍ ثالثةٍ في بداية القرن الحادي والعشرين، وقد أطلق عليها عنوان (العقل المنبثق) أو (العقل الاستطلاعي)، فهذا العقل الجديد الذي يتجاوز كلَّ ما سبق، يوسّع ويعمّق في الواقع تلك المعرفة التحريرية التي قادها عقل التنوير في أوروبا الغربية منذ القرن الثامن عشر للميلاد. إنّ هذا العقل قد انفصل عن

(166)

جميع المسلَّمات الاعتبارية والنظريات الميتافيزيقية التي كانت ثابتةً في السابق، واتخذ لنفسه طريقًا منفصلًا بالكامل عن العقل الديني والعقل الفلسفي والعقل العلمي[1]. يذهب أركون إلى الاعتقاد بأنّ العقل ما بعد الحداثوي حيث يلتفت إلى المعاني المتداولة، ويعترف بجميع المعاني المحتملة والمقترحة الممكنة، فإنّه يتكفل بمهمة إدارة أنواع العنف والتعصّب الممكنة والتي قد تقترن بواحدٍ من العقول الثلاثة، ونعني بذلك: العقل الديني، والعقل الفلسفي، والعقل العلمي[2]. وبعبارةٍ أخرى: إنّ العقل ما بعد الحداثوي يحترم جميع المعاني المحتملة بشأن مسألةٍ ما، ولا يسمح بالإصرار على معنًى خاصٍّ على حساب المعنى الآخر. وطبقًا لهذا التعريف للعقل ما بعد الحداثوي، فإنّ المعرفة الناتجة عنه ستكون نسبيةً ومتعددةً.

يذهب أركون إلى الاعتقاد بأنّ العقل ما بعد الحداثوي الذي يمارس نشاطه في مختلف السياقات الغربية يعرف أنه مهيمِنٌ. فهو لا يفرض فقط نماذجه الاقتصادية والمصرفية والمؤسساتية والتشريعية على الجميع، وإنما يفرض نفسه بصفته الذروة العليا والإجبارية لتكريس أو تحطيم أيِّ إنتاجٍ علميٍّ أو ثقافيٍّ، ويعتقد هذا العقل الغربي أنه يعوّض عن هذه الهيمنة الشاملة عن طريق ليبراليته أو احترامه لحق الاختلاف[3]. إنّ هذا العقل يفوق جميع التجارب البشرية، بما في ذلك الحداثة الغربية وغيرها، وأصبح مهيمنًا على جميع الأفكار البشرية المعاصرة، ولذلك نجد أركون يصرّح بأنه يفضّل التعبير عنه بـ (عقل ما فوق الحداثة) بدلًا من (عقل ما

(167)

بعد الحداثة)[1].

إنّ كلَّ ما يتمنّاه أركون هو أن نستلهم العِبر ونتعلّم الدروس من إخفاق وعدم جدوائية العقل الفلسفي الذي تعلّمناه من الإغريق واليونان الكلاسيكية، وإخفاق الحقيقة الدينية المثلى التي علمنا إياها الأنبياء وحكماء آسيا، وكل ما نأمله هو أن يتحلى العقل الاستطلاعي الجديد وما بعد الحداثوي بتواضع القديسين والحكماء[2].

نقدٌ ومناقشةٌ

1 ـ النسبية المطلقة

يرى أركون أنّ الاختلاف بين العقلانية الحديثة وعقلانية ما بعد الحداثة يكمن في أنّ العلم الحاصل من عقلانية ما بعد الحداثة يُعلن مسبقًا عن أنّه لن يحصل على أيِّ حقيقةٍ مطلقةٍ، وأنّ الحقيقة نسبيةٌ ومؤقَّتةٌ. في حين يذهب سبينوزا وديكارت إلى الاعتقاد بأنّ العقل يمكنه الوصول إلى الحقائق المطلقة والثابتة والأبدية والنهائية التي لا يمكن التشكيك فيها[3]. وعلى هذا الأساس إذا كان مِلاك صدق قضيةٍ ما ـ في العقلانية الانتقادية الحديثة ـ هو مطابقتها للواقع، ولكنها تؤدي إلى النسبية بسبب الإفراط في تضخيم الناحية الانتقادية للعقل، فإنّ عقل ما

(168)

بعد الحداثة يُعلن منذ البداية عن عدم وجود أيِّ حقيقةٍ حتميةٍ، ويعتبر النسبية أمرًا مفروغًا عنه. إنّ بطلان النسبية أمرٌ بديهيٌّ وغنيٌّ عن الاستدلال. وعلى كل حال فإن الأمر إما أن يكون مطابقًا للواقع أو لا يكون مطابقًا له، فإن لم يكن مطابقًا للواقع فلا كلام لنا، ولكن إذا كان مطابقًا للواقع فلا معنى للتنصّل عنه والالتزام بأمرٍ آخرَ. فعندما يحكم العقل بصحة شيءٍ، كيف يمكنه ألّا يلتزم به؟!

2 ـ مفارقة التناقض والهشاشة

إنّ من بين أهم الأدلة على بطلان عقلانية ما بعد الحداثة، هو تناقض هذه العقلانية وهشاشتها؛ إذ لو كانت جميع الأفهام ـ على أساس مباني ما بعد الحداثة ـ صحيحةً، يجب أن يكون فهمها خاطئًا؛ إذ قد يكون فهم الآخرين متّجهًا إلى أنّ فهمها خاطئٌ. بيد أن عقل ما بعد الحداثة قد وجد حلًّا لهذه المعضلة، وهي أن عقلانية ما بعد الحداثة وحدها هي الصحيحة!!! وعلى حدّ تعبير أركون فإنّ عقل ما بعد الحداثة يرى نفسه مهيمنًا وحاكمًا على الوجود، ويسعى إلى فرض موازينه وأدواته التقييمية على جميع العالم. إنّ هذا العقل لا يقبل بأيِّ نقاشٍ بشأن ذاته، ولا يطلب من الآخرين سوى الخضوع والتبعية. ولكن السؤال المطروح هنا: هل يمكن لكل مذهبٍ فكريٍّ أو مدرسةٍ فكريةٍ أن تجعل من نفسها ـ بمشيئتها ـ مِلاكًا ومعيارًا للحقيقة؟ وإلى أين ستنتهي نتائج هذا الأمر؟

3 ـ العجز عن حلّ مسألة الأخلاق والمعنوية

لقد أشار أركون نفسه إلى أهم تداعيات العقلانية الحديثة وما بعد الحديثة التي أعلنت الطلاق والانفصال عن الدين والمعنوية، وجعلت من المادية معيارًا ومِلاكًا من الناحية العملية، وقال:

(169)

«إنني أفرّق بين نظام القيَم الأخلاقية وبين نظام المعارف الدقيقة أو الصحيحة التي يحقّق فيها العقل نجاحاتٍ أكبرَ. فقد أثبت العقل البشري قدرته في هذا المجال عندما حقق نجاحاتٍ صارخةً في مجال علم الأحياء والكيمياء والفيزياء... ولكنه لم يستطع أن يحسم مسألة الأخلاق والقيم».

إلّا أن أركون مع ذلك لا ينصح بالعودة إلى الدين من أجل حلّ المعضلة الأخلاقية المحدقة بالعالم الراهن، وقال في هذا الشأن:

«نظراً لتراكم المشاكل المطروحة في كل المجتمعات المعاصرة .. ثمّ نظرًا لعمق الهوّة المتزايدة بين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب، فإِننا لم نعد نستطيع أن نبلور إلا خطابًا أخلاقيًّا مؤقَّتًا، أو نوعًا من خطاب الإغاثة الإنسانية»[1].

النتيجة

لقد انتهى مسار الأبحاث في هذه المقالة إلى هذه النتيجة وهي أن أركون من خلال المقارنة بين العقل الديني وسائر العقول التي سادت في الغرب بعد عصر النهضة، مال إلى الاعتقاد بأنّ أهم أسباب انحطاط الغرب في العصور الوسطى تعود إلى غلبة العقل الديني، وقال بأنّ مسار التطور والتقدم والتنمية في الغرب قد بدأ بعد عصر النهضة واعتزال العقل الكنسي. وقد اعتبر أنّ دور العقل الفلسفي والعقل العلمي والعقل الحديث والعقل ما بعد الحديث في عزل العقل الديني في الغرب جدير بالثناء، وقال بأن هذا الأمر يُعدّ من أهم أسباب التطوّر والتقدّم في العالم الغربي. في حين أنّ العقل ـ في النظرة الإسلامية الأصيلة ـ بجميع تقسيماته

(170)

وآلياته إذا أفرز نتيجةً مبرهَنةً، فإنّه سيُعتبر مع النقل واحدًا من مصادر الدين. وبعبارةٍ أخرى: إنّ العقل العملي والعقل الفلسفي إن اشتملا على نتيجةٍ مبرهَنةٍ، فإنهما سيُعتبران من مصادر الدين، وحتى إنْ وقع التعارض بين الحكم العقلي المبرهَن وبين النقل، يكون المرجّح هو الحكم العقلي المبرهن، وأما الدليل النقلي فيتم تأويله على أفضل التقادير. ولذلك ليس هناك من وجهة نظر الإسلام أيُّ تعارضٍ بين العقل العملي والعقل الفلسفي وبين العقل الديني، بل يمكن لهذين العقلين أن يندرجا تحت عنوان العقل الديني.

ولهذا السبب بالذات فإنّ نظرة الإسلام إلى العقلانية الحديثة وإلى عقلانية ما بعد الحداثة ليست إيجابيةً؛ وذلك لأن هاتين العقلانيتين ـ كما سبق أن ذكرنا ـ تُمهّدان الطريق للخروج والتنصّل عن العقلانية البرهانية واليقينية، والدخول في النسبية، وصولاً إلى الاصطدام بجدار العدمية.

وبالتّالي فإنّ أهمّ سببٍ في تفضيل العقل الإسلامي على سائر العقلانيات يكمن في محدوديات العقل البشري، وتدارك هذا النقص بواسطة الوحي. فحيث لا تكون لدى العقل البشري القدرة على الفهم والاستدلال، يأتي العقل الوحياني ليتدارك هذا النقص. إنّ الوحي المعصوم من الخطأ قد كشف عن الكثير من الظواهر والأمور والعوالم المجهولة، ليضع في متناول الإنسان معرفةً ورؤيةً أوسعَ وأبعدَ من جميع أنواع العقل البشري. ومن هنا يجب أنْ نُرجع أهمّ أسباب تخلّف المسلمين إلى الابتعاد عن العقل الوحياني والديني، فإنّ تلمّسَ حبل الخلاص من هذا التخلّف يكمن في العودة إلى هذا العقل، وإلّا فإنّ الروض الأخضر الذي وضعه العقل الغربي أمام البشرية، لن يجلب للإنسان سوى أزمة انعدام الهوية والانفصال عن الذات.

(171)
(172)

محمد أركون وآفات العقل الديني[1]

 

محمد صفر جبرئيلي[2] وسعيد متقي فر[3]

 

الخلاصة

لقد كان بحث العقلانية ولا يزال من الأبحاث الجدلية بين مختلف النِّحل الفلسفية / الكلامية الإسلامية بل وغير الإسلامية أيضًا. إن الأجواء والظروف والشرائط المختلفة السائدة في كلِ نحلةٍ فكريةٍ، تؤدي إلى أفهامٍ وتفاسيرَ مختلفةٍ لمكانة العقل والعقلانية، بحيث دفعت البعض إلى الإفراط والبعض الآخر إلى التفريط. وقد ذهب محمد أركون ـ بسبب اختياره جانب الإفراط ـ إلى رفع شأن العقل إلى مستوى السيادة المطلقة على حياة البشر، واعتبر تجاهل العقل من الأسباب الأساسية لانحطاط المسلمين. وقد عمد في إنجاز رسالته العلمية في نقد العقل الإسلامي عبر توظيف أسلوبين، وهما: أسلوب معرفة الآفات، والأسلوب

(173)

المقارن. يرى محمد أركون أنّ آفات العقل الديني، من قبيل: لاتاريخيته، ودوره الأسطوري، وعدم تناغم الإيمان، والعصبية، والدوغماتية وما إلى ذك من الأمور، هي التي أدت إلى انحطاط المسلمين وتخلفهم. إنّ فهمه للعقل الديني في إطار العقل الغالب في العالم الإسلامي، وعدم التفاته إلى خصائص وامتيازات وآليات العقلانية في الإسلام الأصيل، قد أدّى إلى وقوعه في الخطأ في معرفة آفات العقل الديني.

الكلمات المفتاحية: العقل، العقلانية، العقل الديني، النزعة الأسطورية، الدوغماتية، النزعة النصيّة.

(174)

المقدمة

يُعدّ مبحث العقلانية على الدوام واحدًا من أكثر الأبحاث جدلًا بين المفكرين وعلماء الدين. لقد كان هذا البحث طوال القرون الثلاثة الأخيرة ـ بسبب التقدم الحاصل من جهة في الحضارة الغربية العلمانية واللادينية، والتخلف الذي شهدته البلدان الإسلامية من جهةٍ أخرى ـ موضعَ اهتمامٍ وبحثٍ خاصٍّ من قِبل العلماء المسلمين. إنّ التصوّر القائل بإنّ تجرّد الحضارة الغربية من الدين هو الذي أدى إلى ما حصلت عليه من التقدّم والتطوّر، دعا بعض المستنيرين المسلمين إلى الاعتقاد بأنّ تخلّف المسلمين يجب أن يكون سببه كامنًا في التعاليم الدينية المخالفة للعقل. ومن هنا فإنّ من بين الحلول التي يقدمونها للتخلص من الانحطاط هو التركيز على العقلانية الغربية ومواجهة العقلانية الدينية. ومن بين المفكرين الذين خاضوا في بحث العقلانية ونقد العقل الإسلامي بشكلٍ جادٍّ هو (محمد أركون)[1].

لقد سلك أركون منهجين في نقد العقل الديني، أحدهما: النقد المباشر للعقل الديني، حيث تعرّض لبيان آفاته بغض النظر عن مقارنته بسائر العقول الأخرى، والآخر: نقد العقل الديني عبر مقارنته بسائر العقول الأخرى. ويعمل من خلال مقارنة العقل الفلسفي والعقل العلمي والعقل الحديث والعقل ما بعد الحديث بالعقل الديني، وبيان مزايا تلك العقول وأفضليتها على العقل الديني، يسعى إلى بيان نواقصه ونقاط ضعفه.

نسعى في هذا المقال إلى نقد ومناقشة النوع الأول من انتقادات محمد أركون

(175)

للعقل الديني؛ إذ يرى أنّ العقل الديني مشتملٌ على عناصرَ وآفاتٍ أخرجته عن دائرة العقلانية المثالية، وحوّلته إلى عقلانيةٍ لم تجلب للمسلمين سوى التخلف والانحطاط. وإنّ من بين عناصر وآفات هذا العقل: لاتاريخيته، ودوره الأسطوري، وعدم تناغم الإيمان، والعصبية، والدوغماتية وما إلى ذك من الأمور. وفي ما يلي سوف نتعرّض إلى نقد ومناقشة آرائه بشأن هذه الآفات.

العقل الديني

يرى محمد أركون أنّ العقل الديني يتكفل ببيان وإثبات جميع أنواع القضايا الدينية، ويشمل العقل الكلامي والفقهي أيضاً[1]. إنّ مراده من العقل الديني العقل الإسلامي الذي ينتقده لا عقل المسلمين؛ إذ يذهب إلى الاعتقاد بأن العقل ملكةٌ مشتركةٌ بين جميع أفراد البشر، ولا فرق في هذه الناحية بين عقل المسلم وعقول الآخرين. وإنما التميّز ينشأ من اتصاف العقل بالإسلامي، بمعنى أنّ العقلانية الكامنة في أصل الإسلام، أي القرآن وسيرة النبي الأكرم صلّی اللّه علیه وآله وسلّم  واجتهادات المسلمين، تابعةٌ للعقلانية الجارية في القرآن والتجربة النبوية[2].

من الجدير بالذكر هنا بيان الاختلاف بين (العقل) و(العقلانية). فبغضّ النظر عن أن مفردة (العقلانية) في اللغة تعني (المنسوب إلى العقل) أو (العقلنة) التي هي وصفٌ معرفيٌّ، فإنّها وردت في قائمة المصطلحات الفلسفية عند الناطقين باللغة العربية بمعنى (القول بأولوية العقل)، ولذلك مصاديقُ متعددةٌ؛ ومن بينها:

(176)

العقلانية[1] التي ظهرت في الغرب إبّان القرن السابع عشر للميلاد ـ في قبال النزعة الإيمانية[2] ـ أو العقلانية التي ظهرت في العالم الإسلامي، على الرغم من اختلاف الآراء بين العلماء المسلمين في هذا الشأن[3]. فالعقلانية إذًا ليست سوى مرجعية وسيادة العقل[4]. ومن هنا يكون الاختلاف بين العقل والعقلانية واضحًا. وعليه فإنّه كلما ورد استعمال مصطلح (العقلانية الإسلامية) في هذا المقال فإنّ المراد منه نوعٌ من قبيل رؤية الإسلام إلى العقل. ومن ناحيةٍ أخرى يمكن أنّ نُطلق على العقل ـ الذي يتمّ تعيين مختصّاته من قبل الإسلام ـ (مصطلح العقل الإسلامي)، وللتشابه والقرابة بين هذين المعنيين يتم عادة استعمال أحدهما في موضع الآخر تسامحًا.

ما وراء التاريخية

ظهرت النزعة التاريخية[5] في الغرب في القرن الثامن عشر للميلاد، بوصفها حركةً فكريةً. إنّ الشرط اللازم في الرؤية التاريخية إدراك حقيقة أنّ الماضي يختلف عن الحاضر[6]. إنّ التاريخية من العناوين والصفات التي إن اقترنت بشيءٍ دلّت على كونها من الأمور المؤقتة والعارضة على ذلك الشيء من حيث كونُه وليد

(177)

الأوضاع والظروف الخاصة، وإن جدوائيته تتناسب مع تلك الأوضاع والظروف، ولا يمكن أن ينطوي على فائدةٍ في الأزمنة أو الأمكنة أو الأوضاع الأخرى أبدًا، أو أنه يفقد جدوائيته[1]. من زاوية النظرة التاريخية ليس هناك أمرٌ يفوق التاريخ؛ ومن هنا فإنّ جميع الأمور المرتبطة بالإنسان، ومنها العقل والدين ممّا يقع في ظرف الزمان تبعًا لوجود الإنسان، تشملها التاريخية أيضًا.

كما يولي محمد أركون في نقد العقل الإسلامي اهتمامًا كبيرًا لعنصر التاريخية، ويرى أنّ من أهمّ عيوب العقل الإسلامي هو اعتباره من قبل المسلمين أمرًا يفوق التاريخ. يرى أركون أنّ المعرفة المعاصرة لا ترى إمكانيةً لأصالة العقل أو الحقيقة النهائية، وذلك لأنّ الحقيقةَ متغيّرةٌ، والعقل يتعرّض للتحوّل والتغيّر من عصرٍ إلى عصرٍ آخرَ[2]. إنّه يرى العقل أمرًا تاريخيًّا[3]؛ وذلك لأنّ عقول مختلف الأشخاص تختلف عن بعضها باختلاف الأزمنة[4].

لا يُعدّ العقل من وجهة نظر أركون أمرًا مجرّدًا، بل هو محسوسٌ ومتحيّزٌ بالكامل. ليس العقل جوهرًا ثابتًا يفوق التاريخ؛ لأنّ عقل كلِّ فردٍ يتأثر بالظروف التاريخية والاجتماعية والثقافية لعصره بكل ما لذلك العصر من المعطيات. ومن هنا فإنّ تابع المتغيرات التكاملية للأنظمة الثقافية والمعرفية يجري في عصر كلِّ مفكِّرٍ. وعلى هذا

(178)

الأساس يذهب محمد أركون إلى اعتبار التاريخية عنصرًا في تحوّل العقل، وبالتالي فإنه يرى عامل التكامل في العقلانية نتاج هذه العقل[1]. يرى أركون أنّ مطلق العقل ـ سواءً الإسلامي أو المسيحي أو عقل آحاد الأشخاص ـ تاريخيٌّ ومشمولٌ لتصرّم الزمان. وعلى هذا الأساس فإنّه يرى جميع النتائج الفكرية الحاصلة من العقلانية الإسلامية والتي يفخر بها العرب والمسلمون في العصر الراهن، إن هي إلا حبيسة المناخ العقلي للعصور الوسطى التي لا تحتوي على قيمةٍ غير القيمة التاريخية، ولا يمكن لها أن تحظى بموقع أو مكانة في التفكير الحديث ومعطياته[2].

وكما سبق أن ذكرنا فإنه من الزاوية التاريخية تعدّ جميع الأمور المتعلقة بالإنسان بما في ذلك دينه وكتابه السماوي تاريخي أيضًا. ومن هنا فإنّ محمد أركون يسعى من خلال عدم الفصل بين الأديان المحرّفة ـ من قبيل اليهودية والمسيحية ـ وبين الإسلام، إلى إفهام مخاطبه أنّ تاريخ الإسلام قد انتهت صلاحيته، كما انتهت صلاحية اليهودية والمسيحية بحكم كونها كلها من الأمور التاريخية. يذهب محمد أركون إلى الاعتقاد بأنّ القول بتفوّق الدين على التاريخ يعني إلغاء التاريخية، سواءً في ذلك (تاريخية العقل) أو (تاريخية الفكر)، ومن ذلك قوله:

«التاريخ يعلّمنا أنّ النظام الفكري للحداثة غير النظام الفكري للعصور الوسطى. ولكن المؤمن التقليدي المنغمس كلّيًّا في يقينياته لا يستطيع أن يرى ذلك. إنه يلغي التاريخ؛ أي يلغي إمكانية حصول أشياءَ جديدةٍ في التاريخ»[3].

(179)

وعلى هذا الأساس يذهب أركون إلى وصف الإسلام ـ الذي يراه المسلمون مناسبًا لجميع الأزمنة والأمكنة ـ بأنّه إسلامٌ متمرّدٌ على التاريخ وزاخرٌ بالعقائد الجامدة والجافة[1]. وعليه فإنّ التاريخية ـ من وجهة نظر أركون ـ عنصرٌ لا يضاف إلى شيءٍ إلا وأدّى إلى تحوُّله وتكامله، وإنّ الاعتقاد بما وراء التاريخية في كلِّ أمرٍ سوف يؤدّي إلى الجمود والبقاء في لحظة ذلك الأمر.

نقدٌ ومناقشةٌ

حيث إن العقل البشري ـ سواءً أكان بمعنى القوة الإدراكية لدى الإنسان[2]، أو بمعنى مدركات الإنسان[3] ـ ليس تاريخيًّا، فإن العقل الإسلامي بدوره لن يكون تاريخيًّا من طريق أولى أيضًا.

يمكن لنا أنْ نبيّن أهم الأدلة على عدم تاريخية العقل الإنساني ، على النحو الآتي:

1 ـ إن تاريخية العقل بمعنى المعقول تستلزم ألّا تكون معلومات المتقدمين مفيدةً أو قابلةً للفهم بالنسبة إلى المعاصرين، في حين أن الأمر ليس كذلك.

2 ـ إن تاريخية العقل بمعنى القوى الإدراكية، تعني أنّ عقل الإنسان المعاصر أصبح بمرور الزمن أقوى وأكمل من عقل الإنسان المتقدّم، في حين أنّ الأمر ليس كذلك؛ إذ كان هناك في السابق عباقرة ونوابغ لم يشهد العصر الحديث مثيلًا لهم من حيث قوّة التفكير والتعقّل.

(180)

3 ـ إن بنية قوّة التعقّل لدى الإنسان تقوم على أساس البديهيات، وإن المعارف النظرية تستند إليها، وسائر المجهولات بدورها تتحول إلى معلوماتٍ استنادًا إلى تلك البديهيات أيضاً[1]. إنّ هذا النظام كان هو السائد منذ البداية على عقل البشر، ولا يزال هو السائد حتى بعد مضيّ هذه القرون، حيث تقوم عليه آلية التعقّل، وعليه كيف يمكن القول: إنّ هذا العقل هو غيرُ العقل الذي ينتمي إلى القرون الماضية.

4 ـ إن تاريخية العقل قد حوّلته إلى أجزاءٍ غيرِ قابلةٍ للارتباط ببعضها، وبذلك تجعله ضعيفًا في مواجهة الماضي، ولن يكون يكون له أيُّ حدٍّ معيَّنٍ أو مرجَعٍ ثابتٍ. إنّ هذا الفهم للعقل ما هو إلّا تأكيدٌ على نسبية السفسطائيين الفرنسيين وأتباع فلسفة (فريدريك نيتشه)، وليس هو العقلية المنشودة والمتقنة[2].

5 ـ إنّ قراءة أعمال أركون تثبت أنه طوال السنوات المتمادية ـ ورغم مضيّ الزمن ـ لم يُحدث أيَّ تغييرٍ في التعاليم التي أخذها عن (ميشال فوكو) و(جاك دريدا)[3] و(بول ريكور)[4]، بمعنى أنّه في التنظير فقط يقول بتاريخية العقل، وأما من الناحية العملية فقد جعل ثمرة عقل المتقدمين نصب عينه[5].

(181)

وجود الخطاب الأسطوري والخيالي

إن الآفة الأخرى التي يعاني منها العقل الديني تكمن في اشتماله على الخطاب الأسطوري والخيالي. يرى أركون أنّ العقل الديني مشتملٌ على عناصرَ خياليةٍ تتصور أنّ بإمكانها من خلال التعاطي مع الكائنات والقوى الخفية أو القصصية وغير الطبيعية أن تحكم الوجود، وأن تجترح المعجزات على أساس المنطق الإعجازي والأسطوري[1]. يذهب أركون إلى اعتبار القرآن ـ الذي هو أهم نتيجةٍ وتجلٍّ للعقل الإلهي ـ (خطابًا أسطوريًّا)[2]، ويرى أنّ العقل الإسلامي مزيجٌ من الخطاب الأسطوري والتاريخي[3]. إنّ الذي يفهمه المؤمنون من كلمة (الأسطوري) مضمونٌ سلبيٌّ بمعنى الخرافة والأمور غير العقلانية. وبطبيعة الحال فإنّ المؤمنين لم يخطئوا من هذه الناحية؛ إذ ورد استعمال هذه المفردة في القرآن الكريم بهذا المعنى أيضًا، والمراد منها كلّ خطابٍ ينتمي إلى عالم الخرافات والأوهام والخيال، وبالتالي فإنه يخلو من الصحة ولا يكون قابلًا للتصديق[4]. يذهب أركون إلى الاعتقاد بأنّ العقل الإسلامي مزيجٌ من الخطاب الأسطوري والتاريخي[5].

(182)

نقدٌ ومناقشةٌ

على الرغم من قول البعض أن مراد أركون من الأسطورة ليس هو المعنى المستعمل في القرآن[1]، إلا أن مصدر اعتبار الدين أسطورةً يعود في الأساس إلى أفكار المستنيرين المسيحيين. وهذا يعود في الواقع إلى الأساطير الموجود في تعاليم الكنيسة، ومن هذه الناحية لا يمكن الإشكال على المفكرين المسيحيين. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنّ مفكرين من أمثال (إرنست رينان) ، طرحوا سؤالًا حول شخصية السيد المسيح وما إذا كان شخصيةً حقيقيّةً أم أنّه محضُ خرافةٍ؟ وقد عمد إلى طرح السؤال نفسه بشأن النبي الأكرم صلّی اللّه علیه و آله وسلّم ، وبذلك فتح الباب لاعتبار تعاليم الأديان السماوية ـ من قبيل: قيامة المسيح، ومعاجز الأنبياء، وما إلى ذلك ـ أسطورةً[2]. وقد لاقى هذا النوع من الفهم قبولًا من قِبل بعض المستنيرين المسلمين أيضًا، وعمدوا إلى تكميل مشروع (إرنست رينان)، وقد بلغ بهم الأمر حدًّا قالوا معه أنّ الحقائق الصريحة التي تمّت الإشارة إليها في القرآن، هي من الأساطير، وأنّ مهمّةَ المفكر العلماني تقوم على إزالة هذا النوع من الرؤية الأسطورية والخيالية، والعمل على تفسير هذا النوع من الآيات تفسيرًا علميًّا.

بيد أنّ الحقيقة هي أنّ العقلانية المفرطة والمنفصلة عن الوحي، قد دفعت

(183)

بهذه المجموعة إلى إنكار الحقائق ما وراء العقلية في الوجود، وحصر جميع الوجود بما يمكن للعقل البشري الناقص أن يدركه. وبذلك يغفلون عن أنّ العقل البشري يعجز عن إدراك الكثير من حقائق الوجود، ويتعيّن على الإنسان أن يستعين بالوحي إذا أراد الحصول على تلك الحقائق. إنّ الوحي الإلهي يرى أنّ الإيمان بالغيب يمثل واحدًا من خصائص المتقين، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)[1].

وعلى هذا الأساس فإن مجرد أن تكون الظاهرة بعيدةً عن متناول العقل لا يشكّل دليلًا كافيًا على إنكارها، بل لا بد من الاستفادة من جميع ظرفيات العقل لفهم أنّ العالم يحتوي على حقائقَ أخرى غير الحقائق المادية والميتافيزيقة، وتقوم بينها علاقة العلية والمعلولية أيضًا[2]. وإنّ هذه الحقائق والعلاقة العلية والمعلولية بينها يجب بحثها في كلام عالم الغيب والشهادة، حيث نجد إخبارًا عن وجود العلاقة العلية والمعلولية بين التقوى ـ بوصفها أمرًا عباديًّا وتشريعيًّا ـ وبسط الرزق والبركة ـ بوصفها أمرًا تكوينيًّا ـ كما في قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[3]. وهكذا الأخبار الغيبية الأخرى الموجودة في القرآن الكريم والتي تتحدّث عن وجود هذا النوع من العلاقة.

وبعبارةٍ أخرى: إن القرآن الكريم كما يدعو الإنسان إلى التعقّل والتفكير حول ظواهر عالم المادة، ويلفت انتباهه بذلك إلى وجود خالقٍ عالِمٍ وقادرٍ وحكيمٍ، يريد منه بهذا الشكل أيضًا أنْ يثق بإخبار الله العالم القادر والحكيم عن الظواهر التي

(184)

لا يمكن للعقل البشري أنْ ينالها، وأنْ يعمل على تدارك نقصان وعجز عقله من خلال الاعتماد على تعاليم الوحي والسماء. وعلى هذا الأساس يمكن الادعاء بأنّ العقل الإسلامي من أكمل العقول؛ وذلك لأنه يعمل على تدارك ضعفه ونقصه بواسطة الوحي، وأما العقل التجريبي فيبقى حائرًا وضائعًا في عالم المادة، ولا يرقى فهمه إلى أبعدَ مما يراه، ولذلك نجده يُعبّر عن الحقائق ما وراء المادية بالأساطير. وبطبيعة الحال علينا في الوقت نفسه ألّا نَغفل عن أنّ بعض الأديان المحرَّفة تشتمل ـ في واقع الحال ـ على بعض الأساطير والخرافات، وهي من الكثرة بحيث تثير الضباب في فضاء فهم الحقيقة بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا يميّزون بين الدين المحرّف والدين غير المحرّف، فيتصورون أنّ جميع الأديان أسطوريةٌ وخرافيةٌ.

النزعة النصيّة

إنّ من بين آفات العقل الديني ـ من وجهة نظر أركون ـ هي التمحور حول النص، وقال في ذلك:

«يشهد العرض الشكلاني للرسالة وجود عقلٍ معيَّنٍ ومحدَّدٍ بشكلٍ صارمٍ ومؤطَّرٍ ومؤدلَجٍ. إنه ينمو ويترعرع داخل إطار مجموعةٍ نصيّةٍ»[1].

ومن بين الأمور التي يقوم بها العقل الإسلامي هو:

«تقديس اللغة ثم التركيز على قدسية المعنى المرسل من قبل الله ووحدانيته (معنويًّا)، هذا المعنى الموضّح والمحفوظ والمنقول عن طريق الفقهاء، بالإضافة إلى عقلٍ أبديٍّ، فوقَ تاريخيٍّ؛ لأنه مغروسٌ في كلام الله ومجهّزٌ بأسلوب أنطولوجيٍّ، يتجاوز كلَّ تاريخيةٍ»[2].

(185)

وإنّ من بين الاختلافات بين العقل القروسطي والعقل المعاصر هو أنّ ساحة العقل في إطار الحضارة الأولى (أي المتوسطة أو القروسطية) ساحةٌ مغلقةٌ، ونلاحظ أنّ العقل في تلك الحضارة كان لاهوتيًّا مركزيًّا ولغويًّا مركزيًّا في آنٍ معًا (بمعنى أنه كان متمركزًا حول الرؤيا اللاهوتية للوجود أو سجين هذه الرؤيا، ولا يمكن أن يخرج عنها. وكان متمركزًا حول اللغة أو النطق أو المنطق بالمعنى المقدس للكلمة: أي الكتاب المقدس). كانت سيادة العقل تمارس ذاتها داخل الحدود المثبَّتة من قبل الله في كتابه العزيز. فالمعنى رُكّب لغويًّا لأوّلِ مرّةٍ وآخرِ مرّةٍ في الكتاب. ولا يمكن أن يُظهر أيَّ شيءٍ جديدٍ بعد ذلك حتى نهاية الزمن[1]. وأما الحداثة فإنّ من بين مكتسباتها أنّ العقل أصبح مستقلًّا بذاته ولا ينبغي أن يخضع لأيِّ شيءٍ آخرَ يتجاوزه. وقد انتزع استقلاليته هذه بعد صراعٍ هائلٍ وألمٍ مريرٍ. وعندما نقول بأنّه مستقلٌّ نقصد أنه وحيدٌ في الساحة، ولا يمكنه بعد الآن أن يتوقّع الغوث أو المساعدة من الخارج[2]. ومن هنا كان من أهم معطيات الحداثة هو الاستقلال الذاتي للعقل حيث يقوم بجميع الأفعال المعرفية بسلطةٍ كاملةٍ منه، ويأبى عن ممارسة أيِّ نشاطٍ داخل الأقفاص والسجون[3].

نقدٌ ومناقشةٌ

إذا كان مراد أركون من الالتزام بالنّصّ في العقل الديني هو الإلتزام السائد في أغلب العالم الإسلامي، فإنّ هذا الأسلوب مرفوضٌ من زاوية الآيات والروايات أيضًا.

(186)

وأما إذا كان بشكلٍ عامٍّ نافيًا للاستناد إلى الوحي أو رواية المعصوم، فيجب القول: إن النقل أو (الوحي) بعبارةٍ أخرى لا يقع في التعاليم والمعارف الإسلامية في قبال العقل والعقلانية، بل هو ثمرةٌ ونتيجةٌ للعقلانية. لو التزمنا بأن الله تعالى هو سيد العاقلين وخالقهم، وأن ما أنزله على الإنسان من الوحي ناشئٌ عن العلم والعقل الإلهي، أمكن لنا أن نستنتج أن الوحي ثمرة ونتيجة للعقل الإلهي.

ومن ناحيةٍ أخرى فإن حجية الوحي تترتب على النبوة، وإنّ النبوّة بدورها تترتب على الإيمان بالله عزّ وجل. ومن بين الطرق لتحصيل هذا الإيمان طبقًا لآيات القرآن الكريم هو الرؤية العقلية إلى نظام الوجود حيث هو في منتهى الإبداع والإحكام والإتقان والتدبير. وعلى هذا الأساس فإنّ تصديق هذا النقل و(الوحي) هو نتيجةٌ وثمرةٌ مكتملةٌ لرؤية العقل في كتاب الوجود. وعليه فإنّ العقل يشترك نوعًا ما في إدراك وفهم كلا الكتابين (كتاب الوحي، وكتاب الوجود). إذًا فالإسلام الذي يرى مثل هذه المنزلة للعقل، لا يمكن أن يقطع صلته وارتباطه بالعقلانية أبدًا؛ إذْ إن الإسلام من هذه الزاوية يشكّل موضوعًا من موضوعات المباحث العقلية. ومن ناحيةٍ أخرى فقد توصّل العقل بعد التأمُّل إلى إدراك هذه المسألة وهي أنه حيث لا تكون لديه القدرة على إدراك غير المستقلات العقلية، سيكون الوحي في هذه النقطة هو الحاكم والملاك والميزان بالنسبة إلى العقل، حيث يعمل الوحي في مثل هذه الحالة على مساعدة الإنسان في تشخيص الصواب من الخطأ. وفي الحقيقة فإن هذين الأمرين (العقل والوحي) يشتركان في هداية الإنسان إلى السعادة والفلاح[1]. ويبدو أنّ هذا الانسجام والتماهي بين العقل والوحي في

(187)

الهداية إلى سعادة الإنسان هو الشيء الذي يعبّر عنه أركون بسجن العقل، وينصح بتحرير العقل من هذا السجن للخروج من الانحطاط. في حين أنّه من المحال فصل العقل عن العقلانية، كما لا يمكن فصل الذات عن الذاتي.

وبعبارةٍ أخرى: عندما يتحدّث الفقهاء وعلماء الأصول عن مصادر الدين، فإنهم يقسمونها إلى أربعة أقسامٍ، وهي كالآتي: الكتاب، والسنة، والعقل، والإجماع. وقد اُشتُرط في حجية الإجماع أنْ يكون كاشفًا عن رأي المعصوم، وعليه فإنّ الإجماع لا يكون حجةً على نحو الاستقلال، وأما بالنسبة إلى السنة فيشترط فيها أن توافق الكتاب. وحصيلة الكلام أنّ هناك شيئَيْن هما اللذان يُعدّان مصدَريْن رئيسين للدين، وهما: العقل والنقل. وبذلك يكون العقل والنقل توأمين في بيان الحكم الشرعي وتعاليم وأحكام الشريعة المنبثقة عنهما. وعندما يقوم مثل هذا الاتحاد بين هذين المفهومين، سيكون الحديث عن وجود تعارضٍ أو تناقضٍ بين العقل والنقل ضربًا من العبث. وهذا يعني أنّ حكمَ الشرع موردُ تصديق حكم العقل، وأنّ حكمَ العقل بدوره يحظى بتأييد الشرع أيضًا. وعلى هذا الأساس فإنّه من وجهة نظر العقلانية الإسلامية الأصيلة، يُعدّ العقل والنقل عنصرين رئيسيّيْن وساعدَيْن قويَّيْن للدين، وإنّ العقل ليس مقولةً منفصلةً عن الدين. إنّ العقل لا يُصدر أيَّ فتوًى في قبال النقل، بل إنّ أحكامه متماهيةٌ ومتناغمةٌ معه. وأما عدم تمكّن العقل من إدراك بعض أحكام وتعاليم الوحي (النقل)، فيعود سببه إلى أنهما يقعان في طول بعضهما، لا في عرض بعضهما، والعقل يُذعن بأنّه عاجزٌ عن إدراك بعض الأمور، وهو بحاجةٍ إلى النقل من هذه الناحية. ولهذا السبب وضع الله سبحانه وتعالى حجتين للإنسان وهما: العقل والنقل. ولو كان الأمر بحيث يمكن للإنسان بقدرته العقلية وبحجةٍ إلهيةٍ واحدةٍ باسم العقل أن يسلك جميع مراحل كماله، فإنّ وضع

(188)

حجةٍ أخرى تحت عنوان الحجة الظاهرة (الأنبياء) يكون أمرًا عبثيًا لا ضرورة له ولا تترتب عليه أدنى فائدة[1].

عدم التناغم بين العقل والإيمان

إنّ من بين الآفات الأخرى في العقل الديني ـ من وجهة نظر أركون ـ عدم الانسجام بين العقل والدين، وعدم قدرة العقل على إدراك التعاليم المتعلقة بالإيمان. وقال في بيان هذا الادعاء والتأكيد على هذه المسألة، وهي أنّ الدين منظومةٌ من العقائد واللاعقائد، والعقيدة بدورها حالةٌ نفسيّةٌ يضع الفرد فيها كلّ ثقته ويقينه على أعتابها:

«يمكن تعريف الاعتقاد أو الإيمان ـ بكلِّ بساطةٍ ـ على أساس أنه الانتساب الفكري إلى عقيدةٍ ما دون البحث عن أسباب هذا الانتساب أو صلاحيته. إنه انتسابٌ عفويٌّ بلا رويّةٍ أو تفكيرٍ، انتسابٌ عاطفيٌّ يتم عن طريق القلب لا عن طريق الرأس أو العقل.

وعلى الرغم من أن الاعتقاد هو موقفٌ أساسيٌّ أو ضروريٌّ بالنسبة لكل المبادرات البشرية، إلا أنّه يتخذ مكانةً أكبرَ في حالة التعاليم الدينية. فلا تطلب الأديان من أتباعها فقط الانتساب إلى شخصياتٍ ووقائعَ وحقائقَ خارجةٍ عن حدود كلِّ ضبطٍ عقلانيٍّ، وإنما تفرض عليهم أيضًا وبصرامةٍ أكثر رفض القيَم والرموز والتأويلات المضادة لها»[2].

(189)

نقدٌ ومناقشةٌ

إنّ هذا النوع من نظرة أركون إلى عدم التناغم بين العقل والإيمان مستلهَمٌ في الحقيقة من النزعة الإيمانية الغربية، وذلك حيث لم يتمكن المتألهون المسيحيون من تفسير القضايا الكنسية المخالفة للعقل؛ فلجأوا إلى نظرية النزعة الإيمانية لإنقاذ إيمان المسيحيين، بمعنى أنّ نظام العقائد الدينية لا يمكن أن يكون موضوعًا للتقييم العقلاني[1]. بمعنى أن محمد أركون من خلال انتهاجه سياسة ازدواجية المعايير في الهجوم على العقل الديني يعمل على توظيف أدلة أصحاب النزعة الإيمانية، وأدلة أصحاب النزعة العقلانية أيضًا[2]. وهذا يدلّ على التشتّت في الرؤية؛ لأن هذين التيارين متعارضَيْن في الغرب. فإنّ صاحب النزعة الإيمانية المسيحي لا يرى الإيمان الديني قابلًا للتفسير العقلاني أبدًا، في حين أن صاحب النزعة العقلانية الانتقادية يراه قابلًا للتفسير، ومن العجيب جدًّا أن يعمل أركون على الجمع بين هذين الأمرين.

وأمّا إذا أردنا البحث عن مسألة الإيمان والعقل خارج دائرة الفضاء المسيحي، والخوض فيها داخل الفضاء الإسلامي ولا سيما الشيعي منه، سنجد أن العقل والتفكير أمرٌ ضروريٌّ ولا محيص عنه في الإيمان بأصول الدين والتوحيد ولوازمه، بحيث لا يُقبل التقليد في هذه الموارد[3]. ولو كانت الأصول الأساسية في الدين

(190)

تخالف العقل، لما وجدنا في القرآن هذا الكمّ الكبير من الآيات القرآنية التي تدعو وتأمر بالتفكّر والتعقل والتدبّر في فهم الأصول الإسلامية الأساسية. عندما يتمكن الإنسان بواسطة العقل من فهم الأصول الأساسية في الدين، وتوصل إلى ضرورة عصمة الوحي وحامله، فإنّه عندما يصل إلى جزئيات الشرع وفروع الدين، فإنّه ما دام داخلًا في حدود وقدرة العقل فإنّه سيعمل على فهم الدين جنبًا إلى جنب النقل بوصفهما مصدرين هامّين من مصادر المعرفة الدينية، وفيما يلي ذلك حيث يدرك العقل محدوديته في فهم بعض ملاكات الفروع، فإنه لكي لا ينحرف عن مسار سعادته، يتعيّن عليه الاعتماد على الوحي، وأن يكون لديه تعبّدٌ في هذه الموارد. على الرغم من أنّ بإمكان العقل بعد بيان الشارع أنْ يدرك المِلاك في أغلب الموارد. وبطبيعة الحال فإنّ هذا لا يعني الرؤية الباطلة والمتطرّفة التي تعتبر العقل مجرّد مفتاحٍ للشريعة ولدخول الإنسان إلى حلبة الدين، إذ إن العقل، مضافًا إلى كونه مفتاح الدين في ما يتعلق بخزانة الدين، هو كذلك مصباحه أيضًا ومصدرٌ معرفيٌّ للبشر تجاه مضمون ومحتوى خزانة الدين[1].

العصبية والدوغماتية

ومن بين آفات العقل الديني الأخرى التي يراها محمد أركون، هي الدوغماتية والعصبية الموجودة في العقل الديني. يقول أركون في وصف دوغماتية العقل الديني: (الواقع أن العقل الدوغمائي أغلق ما كان مفتوحًا ومنفتحًا)[2]. ولتوضيح ذلك يلجأ أركون إلى استخدام مصطلحاتٍ وعباراتٍ بديعةٍ وخاصةٍ به، من قبيل: (اللامفكر

(191)

فيه) أو (المستحيل التفكير فيه) أو (الممكن التفكير فيه). يذهب أركون إلى الاعتقاد بأنه لا توجد هناك في دائرة الفكر الإسلامي أو العربي المعاصر إمكانيةٌ للتفكير (المستحيل التفكير فيه)، أو ما لا يمكن لأحد اقتحامه (اللامفكر فيه). ومن المعلوم أنّ هذا الفكر كان قد تكلّس عندئذٍ وتحجّر ودخل في شرنقة الأرثودوكسية الجامدة والمغلقة، وأصبحت الأشياء التي يمكن التفكير فيها أقلَّ بكثيرٍ من الأشياء التي يستحيل التفكير فيها[1]. وهذا العقل الديني هو الذي حوّل ما كان يمكن التفكير فيه ـ بل ويجب التفكير فيه ـ إلى ما لا يمكن التفكير فيه. ونتج عن ذلك تغلُّب ما لم يُفكَّر فيه أثناء قرونٍ طويلةٍ على ما يجب التفكير والإبداع فيه[2].

يذهب محمد أركون إلى الاعتقاد بأن العقل الديني ـ من خلال الاستعانة بالنصوص الأولية المقدسة التي كان يتم التعامل معها معاملةً كلاميةً تامةً وكاملةً وغيرَ قابلةٍ للنقاش ـ قد أوجد أنظمةً قاسيةً وعصبيةً بواسطة التقديس والتنزيه وما إلى ذلك[3].

نقدٌ ومناقشةٌ

إنّ الإيمان المسيحي ـ أو أي دينٍ آخرَ ـ حيث يشتمل على قضايا مخالفةٍ للعقل، فإنّه في الحقيقة سيلجأ ـ لا محالة من أجل الحفاظ على هويته والحيلولة دون توجيه الانتقاد له من قبل أتباعه ـ إلى التشدد الأعمى في مواجهة الانتقادات،

(192)

وفي الحقيقة فإنّ مخالفة تعاليم ذلك الدين للعقل هي التي تدفع المؤمنين به إلى أودية الدوغماتية والتعصّب الديني؛ وذلك لأنها قد أغلقت طريق التعقل والتفكير. وأما في الإسلام فالأمر على العكس من ذلك تمامًا. فإنّ القرآن الكريم في الوقت الذي يدعو فيه الناس إلى التفكير والتدبّر[1]، يوجّه اللوم والتقريع الشديد لأولئك الذين يتجاهلون هذه النعمة الإلهية[2]، ويصف الذين لا يعملون على توظيف عقولهم بأنهم أضلُّ من الأنعام[3]. وقد شجب القرآن التقليد الأعمى للآباء والأسلاف[4]، ورأى في كلامهم ما يشتمل على عبرةٍ لأصحاب العقول والألباب[5]. إنّ القرآن الكريم بدلًا من أن يدعوَ الناس إلى التعبّد البحت، والإيمان بالعقائد الدينية من دون دليلٍ، يُبادر بنفسه إلى إقامة الأدلة وينصح مخاطبيه عمليًّا باتّباع هذا المنهج[6]. وقد ذكر أنّ عدم اتباع توجيهات العقل هو من بين أهم أسباب تمرّد الإنسان التي تؤدي به إلى السقوط في قعر جهنم[7]. وعلى هذا الأساس فإن الإصرار على العقائد الباطلة والتي لا تستند إلى دليلٍ ليس لها أيُّ موضعٍ في الدين الإسلامي الحنيف، وقد أمر الإسلام على الدوام بالتعقّل والتفكّر والتدبّر بغية تجنّب هذا النوع من العقائد.

إذا كان مراد أركون من دوغماتية العقل الديني أمرًا في قبال نسبية الفهم

(193)

في ما بعد الحداثة، فيجب القول إنّ بطلان نسبية الفهم أمرٌ بديهيٌّ وغنيٌّ عن الاستدلال، وأنّ العقل السليم لا يرضى الانصياع أبدًا للنسبية. وعلى كلِّ حال فإنّ الأمر إمّا أن يكون مطابقًا للواقع أو لا يكون مطابقًا له، فإنْ لم يكن مطابقًا للواقع فلا كلام لنا، ولكن إذا كان مطابقًا للواقع فلا معنى للتنصّل عنه والالتزام بأمرٍ آخرَ. فعندما يحكم العقل بصحة شيءٍ، كيف يمكنه ألّا يلتزم به؟! وفي الحقيقة فإن الإصرار على أمرٍ غيرِ معقولٍ يعني الضرب على معزوفة النسبية، وهذا أنسبُ بالدوغماتية؛ لأنّ النسبية لا تستند إلى العقلانية، وما الدعوة إليها إلا تقليدٌ أعمَى ومتطرّفٌ.

وإن كان المراد هو العصبية العمياء التي يمارسها بعض المتدينين بأساليبَ غيرِ عقلانيةٍ، وجب القول أنّ سلوك بعض المتدينين السطحيين الذين عجزوا عن إدراك حقيقة خطاب الدين ورسالته، لا يمكن نسبته إلى الدين. وكما تقدّم أن ذكرنا فإنّ القرآن الكريم والروايات تدعو الإنسان دائمًا إلى التفكّر والتعقّل وتُحذِّره من العصبية العمياء.

عدم الانسجام التامّ بين مفاهيم العقل الديني والعقل الحديث

إنّ محمد أركون الذي يتحدّث عن المفاهيم الدينية بوصفها مفاهيمَ قروسطيةً، يقول في نقد وردّ التشبيه بين هاتين المجموعتين من المفاهيم: هناك فرقٌ كبيرٌ بين الديمقراطية بمعناها الجديد وبين الشورى (التي يراها مفهومًا قروسطيًّا). فالشورى تتكون من كبار ومشاهير القوم من المسلمين، في حين أنّ الديمقراطية تشتمل على جميع أفراد المجتمع بغضّ النظر عن انتمائهم الديني والمذهبي والعرقي والقبلي. وهذا ما يكون عليه فكر محمد أركون في ما يتعلق بحقوق

(194)

الإنسان؛ إذ في إطار العقلانية في مرحلة العصور الوسطى كان البحث في حقوق الإنسان جزءًا من (المستحيل التفكير فيه)، إلّا إذا تم بحث حقوق الإنسان ضمن ارتباطها واندراجها تحت حقوق الله. وعلى هذا الأساس لا يمكن التنزل بمفاهيم الحداثة إلى مستوى مفاهيم المراحل القديمة، إذْ إنّ ما كان في العصور الوسطى مندرجًا ضمن (المستحيل التفكير فيه)، أصبح في مرحلة ما بعد الحداثة مندرجاً ضمن (الممكن التفكير فيه)[1].

نقد ومناقشة

يبدو أنّ أركون يرهن تطوُّر المسلمين بالابتعاد عن كلِّ شيءٍ يحتوي على صبغةٍ دينيةٍ. يُضاف إلى ذلك أنّ تشبيه المفاهيم الدينية بالمفاهيم الحديثة لا يقتصر على عدم رفع شأن الدين فحسب، بل هو أمرٌ شائنٌ أيضًا. وذلك لأنّ قياس الدين الإلهي بالدين الإنساني يحط من منزلة ومكانة الدين الإلهي، مضافًا إلى أنّ هذا الأمر يبدو مستحيلًا وغيرَ قابلٍ للتحقّق وربما لم يكن معقولًا، لأنّ كلَّ واحدٍ منهما يقوم على أساس مبانيه ومعاييره الخاصة. والعقل لا يرى صحة إقامة التشابه بين مفهومين يستندان إلى مبانٍ ومبادئَ مختلفةٍ ومتعارضةٍ.

وكما أشار أركون نفسه فإنّ مفاهيم الحداثة تقوم على مباني النزعة الإنسانية والإنسوية، في حين أن المفاهيم الدينية تقوم على أساس المباني الإلهية. إنّ مفاهيم من قبيل: الديمقراطية وحقوق الإنسان إنما يتم تفسيرها في إطار أصالة الإنسان وتأليه البشر، في حين أنّ مفاهيم من قبيل: الشورى وحقوق الإنسان في تعاليم الدين الإلهي، إنما تكتسب معانيها في ضوء الارتباط القائم بينها وبين الله سبحانه

(195)

وتعالى. وعلى هذا الأساس يكون الاختلاف بين النزعة الإنسانية والنزعة الإلهية اختلافًا في المبنى، وعليه سيكون البحث حول البناء من الدرجة الثانية ولغوًا.

وبغضّ النظر عن هذا الاختلاف الجوهري، هناك في الدين الإسلامي آليةٌ اسمها الاجتهاد، ويمكن بواسطة هذه الآلية عند الضرورة وتغيُّر المقتضيات التاريخية العمل على قراءة النصوص والمصادر الدينية والعمل على تلبية الاحتياجات الفردية والاجتماعية للمسلمين. وعلى هذا الأساس إذا تمّ طرح مبدأ الشورى في عصر النبي الأكرم صلّی اللّه علیه وآله وسلّم على طبق الشرائط والمقتضيات التي حكمت تلك المرحلة التاريخية، فإنّ ذات هذا الدين والعقلانية الدينية تسمح للمسلمين ـ بعد تغيُّر الزمان وتغيُّر المقتضيات والشرائط والاحتياجات ـ بتوظيف آلياتٍ أخرى بديلةٍ عن الشورى وما إلى ذلك. ومن هنا كانت العقلانية الدينية عقلانيةً حيويةً ومتحرّكةً، ولا ندري ما هو السبب الذي دعا أركون إلى تجاهل هذه الناحية.

خلاصةٌ واستنتاجٌ

إنّ انتقادات أركون للعقل الإسلامي إنّما هي ناظرٌة إلى العقلانية الغالبة والسائدة في عالم التسنن (أهل السنة)؛ أي التفكير الأشعري والجبري الغالب على التفكير الديني في العالم الإسلامي[1]. وهو المسلك الذي يحمل رؤيةً متطرفةً إلى العقل، خلافًا لإفراط المعتزلة والاعتدال النسبي للماتريدية والاعتدال الواقعي للشيعة الإمامية. وقد اختار أركون ـ من بين الرؤية التفريطية لأغلب أهل السنة والرؤية الإفراطية لعالم الغرب إلى العقل والعقلانية ـ الرؤية الإفراطية الغربية، وعمد إلى نقد العقل الإسلامي من هذه الزاوية، وهي الرؤية التي لا تنسجم مع

(196)

الأحقية والأصولية والمباني المطروحة في الإسلام. وفي الحقيقة فإنّ تحميل نقاط الضعف والخلل في العقل المسيحي على العقل الديني المطروح في العالم الإسلامي وعلى هذا النحو من التعميم والشمولية يُعدُّ أمرًا اعتباطيًّا ومُجانِبًا للصّواب. إنّ العقل الديني في المسيحية المحرَّفة الذي وجد فيه الغربيون عقبةً تحول دون تطوّرهم ورقيّهم، وتمكنوا من خلال التخلي عنه واللجوء إلى عواملَ أخرى ـ بطبيعة الحال ـ من تحقيق إنجازاتٍ ملحوظةٍ، لا يمكن قياسه على العقل الإسلامي، والعمل ـ من خلال اعتبار هذين العقلين عقلًا واحدًا ـ على إيجاد حلٍّ من ذاتِ النمط لمشكلة الانحطاط والتخلّف. ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ العقل الديني السائد في العالم الإسلامي بسبب التفريط والنقص الذي تعرّض له بفعل الابتعاد عن تعاليم الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، لم يَعُد قادرًا على تلبية الاحتياجات المستجدَّة. وعلى هذا الأساس فإنّ أكبر إشكالٍ يتّجه إلى أركون في نقد العقل الديني، يعود إلى غفلته وتجاهله للرؤية الاعتدالية لمسألة العقل في العالم الإسلامي، وهي الرؤية المنسجمة مع أحقية الإسلام ومبانيه الأصيلة. ونعني بها العقلانية الاعتدالية للشيعة المقتبسة من تعاليم وتفسير أهل البيت (عليهم السلام) للقرآن الكريم وحقيقة الإسلام. إنّ العقلانية الشيعية المعتدلة هي التي تستطيع أن تجمع بين الاحتياجات والمطالب الدنيوية والأخروية للبشر، وتضع أمام المسلمين المعاصرين طريقًا للخروج والخلاص من الانحطاط، والانطلاق في مسيرة التطور. إلا أنّ البحث في مباني هذا الأمر وبيان الشواهد والآثار العلمية والعملية له بحاجةٍ إلى دراسةٍ أخرى.  

(197)
(198)

نقد الفكر  العربي:

 الأسلوب التفكيكي لمحمد أركون[1]

سيتي رحمة سوكاربا[2]

 

ملخّصٌ

محمد أركون هو أحد المفكرين الإسلاميين المعاصرين العالميين الذي دخل فكره في خطابات التفكير الإسلامي في إندونيسيا مؤخَّرًا. وقد تأثّر فكره الإسلامي بالمفاهيم الفلسفية الحديثة مثل الأسطوره لدى ريكور[3]، ومفاهيم ما بعد الحداثة مثل الخطاب والأبستمیة، التي وضعها فوكو وكذلك تفكيكية دريدا. فإذا كان دريدا قد ركّز على التفكيكية كمفهومٍ نهائيٍّ، فإنّ أركون، من جهةٍ أخرى، قد أصر على وجوب أن تتبع التفكيكية إعادة صياغة الخطاب. وإعادة الصياغة عند أركون تعني التخلي عن مسائل التقيد والجمود والزيغ التي كانت تجري في الماضي. يقترح أركون طريقتين: الأولى الاجتهاد، والثانية العقل النقدي الاسلامي

(199)

مع كامل المعنى النقدي. وفي هذا البحث استخدمتُ طريقة التحقيق في المكتبات. وبناءً على النتيجة توصلتُ إلى استنتاجٍ مفاده أنّ أركون يفقد التواصل مع الباحثين في العالم الإسلامي، خاصةً في تراث الشرق الأوسط. بما أنه طبق الطريقة التفكيكية التي ينظر إليها العالم الإسلامي على أنها متماديةٌ جدًّا.

الكلمات المفتاحية: الأسطوره، الخطاب، الإبستمية، التفكيكية، إعادة الصياغة، الاجتهاد.

(200)

مقدمة

هناك على الأقل ثلاثة أنواعٍ مهيمنةٍ في خطاب الفكر العربي الحديث. أوّلًا، تمثّل التيبولوجيا التحوُّلية (التصنيف التحوُّلي)[1] المفكرين العرب الذين يقدّمون بشكلٍ متطرفٍ سيرورات التحول للمجتمع العربي الاسلامي من ثقافة المجتمع الأبوي السلطوي التقليدي إلى مجتمعٍ عقلانيٍّ وعلميٍّ. ثانيًا، تيبولوجيا التفكير الاصلاحي، باستخدام الطريقة التفكيكية. ثالثًا، تيبولوجيا التفكير الشمولي المثالي، بميزته الرئيسة كموقف ورؤية مثالية نحو تعاليم إسلامية شاملة (أسياوكاني، 1988: 61-65). إنّ طريقة التفكيك هي طريقةٌ/ ظاهرةٌ جديدةٌ بالنسبة للمفكرين العرب المعاصرين. ويتأثّر المفكرون التفكيكيون العرب بالحركة البنيوية (وما بعد البنيوية) الفرنسية وبعض المفكرين الآخرين في مرحلة ما بعد الحداثة، مثل لاكان، بارت، فوكو، دريدا، وغادامير. والمفكران الطليعيان في هذه المجموعة هما محمد أركون ومحمد عابد الجابري. أما المفكرون الآخرون الذين يحملون نفس الآراء فهم بنبيس، عبد الكبير خطيبي، سليم يافوت، عزيز العظمة، وهاشم صالح.

في الفترة الأخيرة، كان معظم الفكر الإسلامي العالمي الذي دخل إلى إندونيسيا من وضع محمد أركون (مواليد عام 1928). إنه من الجزائر، عاش معظم حياته على النمط الفرنسي. وهو من ضمن قلة من  المفكرين الإسلاميين المعاصرين العالميين الذين يدخل فكرهم في خطاب التفكير الإسلامي في أندونيسيا. وعند أركون اهتمامٌ عميقٌ بشأن تطوّر التفكير الاسلامي في هذه الأيام، والذي، وفقا

(201)

له، قد جُمِّد وأغلق، وبكونه أصبح متزمتًا عقائديًّا ويتحول إلى الأصولية الإسلامية. فبالنسبة له، كل هذه المشاكل ناتجةٌ عن ضعف التراث الفلسفي، بحيث يجري تقبل التراث الإسلامي دون تحقيقٍ نقديٍّ. ويرى الحاجة إلى طريقةٍ نقديةٍ لقراءة الفكر العربي الإسلامي. فهو يستخدم أساليب وطرق العلوم الاجتماعية ومفاهيم ما بعد الحداثة مثل الاسطوره من بول ريكور، الخطاب والأبستمية اللتيْن وضعهما ميشيل فوكو، وكذلك الطريقة التفكيكية لجاك دريدا. وطريقة التفكيك هي واحدةٌ من طرق الاستخدام عند أركون في إعادة النظر في الإسلام (ميولمن، 1993: 9-103).

وفقا لأركون، الإسلام ليس دينًا عقائديًّا متزمتًا منظَّمًا بشكلٍ جامدٍ، لكنه أصبح، في تطوره التاريخي، ومن خلال مسار السلطة، عقيدةً ميتةً من أجل السلطة بحد ذاتها. لذلك، ومن وجهة نظرٍ تاريخيةٍ، كان التفكير الإسلامي جامدًا. أما الفكر الإسلامي الناشئ الآن فهو مجزَّأٌ، منغلقٌ، ضيقٌ، مركزيٌّ الشعار، وغيرُ مطلَقٍ.

بالنسبة إلى أركون، لا يتقبل التفكير الإسلامي أي تغييرات في مناهجه وأنشطته. ويجب أن يدرك المجتمع الاسلامي أنه طوال أربعة قرونٍ كان التفكير الإسلامي يحتضر، على عكس التطورالذي حصل في أوروبا (أركون، 1990: 83). فالفكر الاسلامي يكرر فحسب الموقف الديني العقلاني والسياسي المحافظ، كما كان معتادًا في العصور الوسطى، ولم ينتقل إلى موقفٍ حديثٍ (أركون، 1990: 121).

ولهذا السبب، اقترح أركون مشروعًا كبيرًا أطلق عليه تسمية نقد العقل الإسلامي وإعادة فتح طريق الاجتهاد. والحقيقة هي أن الاجتهاد  مجردُ وسيلةٍ إيديولوجيةٍ للسلطة. لذا، يقترح أركون إمكانية توسيع الاجتهاد مع تجربة نقد العقل الإسلامي (أركون، 1990: 54).

(202)

جوهر فكر أركون

يكمن جوهر فكر أركون في الكلمة الرئيسة، النقد الإبستمولوجي (النقد المعرفي). يتم استخدام هذه الفكرة في معظم أعماله، وإن كان في سياقاتٍ مختلفةٍ. فالأفكار الإبستمولوجية (المعرفية) في مفهومه أكثرُ حِدّةً، لأنها موجهةٌ إلى المبنى العلمي للعلوم الدينية ككلٍّ.

إنّ السِّمة الرئيسة لفكر أركون هي في الوصل بين العالم الغربي والعالم الإسلامي، تماشيًا مع حلمه بإعداد الدمج المحدِّد لطرق التفكير المختلفة. فالجهد المبذول في الجمع بين العنصرين، الأكثرِ إلهيةً في الفكر الإسلامي (العقل الإسلامي) والأكثرِ قيمةً في الفكر الغربي الحديث (الفكر الحديث)، هي رغبته التي تحثّه على القيام بأنشطته وأعماله، ما يعني الجمع الخاص بين طرق التفكير المختلفة.

الأساسيات الإبستمولوجية والمنهجية لدى أركون مأخوذةٌ من عقلانية ديكارت ونقدية كانط، وبنيوية سوسور، وسيميائية بارث، هغيمسليف، وغريماز، وأيضا من مدرسة باريس، ومفهوم الأسطوره عند ريكور، وخطاب وأبستمية فوكو، وتفكيكية دريدا.

تستند نظرية الحقيقة عند ديكارت وكانط، كما نعلم، إلى جانب التفكير المنطقي، إلى التماسك والانسجام، وهي مركَّزةٌ بشكلٍ واضحٍ في الفاعل، لا في الإثبات التجريبي. وعلى الرغم من أنّ كانط انتقد منطق التجريبية – الوضعية (الفلسفة الوضعية)، إلا أنه هو نفسه معجبٌ في الواقع بتطور التفكير المنطقي الذي يحوز على الوضوح والصدق في طريقته. هذا هو السبب في تأثّر كامل مبناه الفلسفي بشكلٍ رئيسٍ بصيغة اللغة المنطقية. وأوضح مثال على ذلك هو مفهومه

(203)

الأخلاقي الشهير عن الضرورة الحتمية. فقد قال أنه من أجل معرفة سلوك الخير والشر فإنه لا يتعين على الإنسان / الرجال والنساء الرجوع إلى الكتاب المقدس، إنما يكفي استخدام العقل النقدي والعملي (كوبليستون، 1968: 216-217). واذا ما محّصنا النقد تجاه الفكر الإسلامي، فسوف نجد على ما يبدو بأنه يتبع منطق كانط الذي هو في الواقع يختلف تماما عن الطريقة التفكيكية.

يميز سوسور بين اللغة كمنظومة (بناءٍ نحويٍّ)[1] واللغة كخطاب (التحدث)[2]. فالخطاب (التحدث) عبارةٌ عن نشاطٍ أو عمليةٍ، وهو تاريخيٌّ/ زمانيٌّ (مرتبطٌ بالزمن). أما اللغة (البناء النحوي) كبنيانٍ فهي عبارةٌ عن شبكةٍ من العلاقات الداخلية بين عناصر اللغة وتكون تزامنيةً. ويكون الخطاب[3] فرديًّا ومقصودًا، كما تكون اللغة[4] جماعيةً ومجهولةً. وقد اقترح أركون إعادة قراءة النصوص الإسلامية، بحيث لا يكون القرآن لغةً فقط، وإنما أيضا بمثابة خطابٍ[5] للمجتمع في هذه الأيام. ففي الجانب الأدائي[6] (الذي يمتلك قوةً خلاقةً) مع التحليل الرمزي، يمكن لسورة الفاتحة أن تصبح خطابًا[7]  بالنسبة لأيِّ شخصٍ يقرأها.

إذا قمنا بإجراء مزيد من التحقيق، سنجد تقريبا أنّ كل تفسير القرآن الكريم الكلاسيكي منغلقٌ على مفهوم اللغة (البناء النحوي)[8]. فنقاط الضعف في التفسير،

(204)

والتي تؤكد على اللغة [1]، هي عملية التجفيف لمعنى ووظيفة القرآن بصفته كتاب التنوير بالنسبة لجميع الرجال والنساء. وقد دعا أركون هذا النوع من التفسير بـ فقه اللغة[2] لأنه يقتصر على الجانب النصي فحسب (بارث، 1996: 80-88).

يتبع بارت مسار دي سوسور في كتابه السيميولوجيا  (علم الرموز). ووصف السيميولوجيا بأنها بدأت من المنظومة الأساسية للغة، ما يعني اللغة (البناء النحوي) والخطاب (التحدث). وكانت الأطروحتان اللتان طورهما عن سوسور هما مفهوم الإشارة ومفهوم الاعتباطية كسمةٍ مميزةٍ للإشارة. ووفقا لبارت، فإن الإنسان في خطابه لا يتحدث مباشرةً عن الواقع، وانما يستخدم إشاراتٍ كثيرةً في ما يتعلق بقواعدَ معينةٍ. فالاشارات، بصفتها مزيجًا من الدالِّ والمدلول يمكن أنْ تصبح دلالةً في المستوى الثاني من المنظومة السيميائية، التي هي الأسطورة. وقد استعار أركون مصطلح ريكور للقيام بنوعٍ من إعادة التمثيل لتجربةٍ دينيةٍ في التحليل الأنثروبولوجي (الأسطوري / الرمزي) في قراءة سورة الفاتحة.

قام ريكور بتعريف الأسطورة على أنها رمزٌ ثانويٌّ يتحدث عن الإنسان. هذا هو السبب في أنه لا يجب التخلي عن الأسطورة لتحديث الفكر البشري. ما ينبغي التخلي عنه هو سوء استخدام الأسطورة. ويتبنى أركون هذه النظرية. ووفقًا لأركون، وكذلك القصص في الكتاب المقدس، فإن النص القرآني هو نص أسطوريٌّ. ففي الاجتماعي-التاريخي، يتبدل نص القرآن ليصبح مدونةً ميتةً.

وقد عرّف فوكو الأبستمية على أنها طريقةٌ لرؤية وفهم الواقع. فالانسان من

(205)

وقتٍ لآخر يفهم الواقع بشكلٍ مختلفٍ. لذلك فإنّ البشر يتحدثون عن الواقع بشكلٍ مختلفٍ. والطريقة التي يتحدث بها الناس عن الواقع يطلق عليها فوكو اسم الخطاب. وقد قسم فوكو الأبستمية إلى ثلاثة أقسام وفقا للزمن التاريخي، القرون الكلاسيكية، العصور الوسطى، والزمن الحديث. وعدَّل أركون فكر فوكو من خلال تطبيق مفاهيم الابستمية على تقسيمه المؤلف من ثلاث مراحلَ تاريخيةٍ في تشكيل الفكر العربي- الاسلامي: الكلاسيكي، السكولاستي[1] ، والحديث. وعلى الرغم من أنه لم يتبنَّ كل وجهات نظر فوكو الفلسفية، إلا أن مصطلحات الأبستمية، الخطاب، والأركيولوجيا كان لها معنًى محدَّدٌ عنده وغالبًا ما استخدمها في كتاباته.

عرض دريدا العمليات النقدية من الداخل، وهي التي أطلق عليها اسم التفكيكية أو الكشف. فالعمليات التفكيكية، والتي حازت على اهتمامٍ خاصٍّ من جانبه، كانت تلك المستحيلة و غير الواردة مطلقا. ومن خلال تفكيكية دريدا للنص، حاول أركون إعادة اختراع المعنى الذي كان مهمَّشا أو منسيًّا بسبب الانغلاق والتجميد الذي خضع له من خلال التفكير الإسلامي (نوريس وبنجامين، 1988: 30-36).

تفكيكية أركون

نشر أركون كتابه نقد العقل الاسلامي (Pour une critique de la raison Islamique/Critique of Islamic Reason) عام 1984، باللغة الفرنسية وترجم العمل إلى اللغة العربية تحت عنوان تاريخية الفكر العربي الإسلامي

(206)

(The Historicism of Islamic Arab Thinking). وركز أركون على مشكلة قراءة التراث العربي-الإسلامي. وبدأت أطروحة أركون من القراءة التاريخية أو مشكلة التأريخية والتفسير (الهرمنيوطيقا). وكان أركون يهدف إلى فهم الظاهرة الاجتماعية والثقافية بكاملها من خلال منظورٍ تاريخيٍّ، أي أنه يجب النظر إلى الماضي من خلال مراحله التاريخية. ففي فهم التاريخ، يجب أن يكون ذلك محصورًا وفقًا لحقائقه الزمنية والواضحة / التجريبية. هذا يعني أن التاريخية أدت دورها كطريقةٍ لإعادة صياغة المعنى من خلال القضاء على العلاقة بين النص والسياق. فإذا كانت هذه الطريقة قد اُستُخدمت في من أجل النصوص الدينية، فإنّ المطلوب هو معنًى جديدٌ يحتمل أن يكون خفيًّا في النصوص (تاريخية الفكر الإسلامي، 1986:14).

إن الطريقة التاريخية المستخدمة من قبل أركون هي إحدى تراكيب العلوم الاجتماعية الغربية، وضعها مفكرون فرنسيون بنيويون (وما بعد البنيوية). ومرجعياته الأساسية هم دي سوسور (اللغوية)، ليفي شتراوس (الأنثروبولوجيا/ علم الانسان)، لاكان (السيكولوجيا/ علم النفس)، بارث (السيميولوجيا/ علم الرموز)، فوكو (الابستمولوجيا/ نظرية المعرفة) ودريدا ( الغراماتولوجيا/ في علم الکتابه) وقد قام بتوجيه جميع العناصر أعلاه على النحو الذي تصبح فيه نقد العقل الإسلامي. وكان تحقيقه في النصوص الكلاسيكية من أجل اكتشاف معانٍ أخرى مخبأةٍ في النصوص، بحيث يمضي في إعادة  صياغة (السياق) الذي يجب أن يخضع له التفكيك (تفكيك النص). فأركون لا يُولي اهتماما للنصوص الكلاسيكية لعلماء المسلمين فحسب،  بل ويحقق أيضا في الكتاب المقدس / النصوص المقدسة.

كيف ينظر أركون إلى التقليد (التراث)؟ لقد فرَّق أركون، عمومًا، بين تراثين.

(207)

ففي كتابه الذي وضعه باللغة الفرنسية، استخدم مصطلحين، التقليد والتراث في الوقتِ نفسِه، وصنفهما في أول شعبتين، التقليد والتراث (Tradition and Turats) مع الإشارة بالحرف الكبير T (ت)، ما يعني تقليد المتعال الذي يمكن فهمه وإدراكه على أنه تقليدٌ مثاليٌّ من الله ولا يمكن تغييره بسبب الأحداث التاريخية. هذا النوع من التقليد أبديٌّ ومطلقٌ. أما التقليد الثاني، المكتوب بالحرف الصغيرt (ت)، فهو التقليد أو التراث (tradition or turats)، ويتشكل هذا النوع من التقاليد من خلال تاريخ وثقافة الرجل والمرأة، بوصفه وراثةً أو بوصفه تفسيرًا بشريًّا لنصوص الله المقدسة (أركون،1987: 17-24).

بين هذين التقليدين (التراثين)، قام أركون بتهميش النوع الأول من التقاليد (التراث). ووفقا له، فإنّ هذا النوع من التقليد هو خارج عقل ومعرفة البشر. وبالتالي، كان هدفه وموضوع تحقيقه هو النوع الثاني من التقاليد، التقليد  الذي تَشكّل من خلال ظرفٍ تاريخيٍّ (في ما يتعلق بالزمان والمكان).

فقراءة التراث تعني قراءة النصوص، كل النصوص، لأنه تم تشكيل وتوحيد التراث في التاريخ، وينبغي قراءته من خلال المسودات التاريخية. فبالنسبة له، كان أحد أهداف قراءة النصوص، خصوصا النصوص المقدسة، هو تقييمها في ضوء الوضع والظرف المتغيرين. هذا يعني، أن التعاليم الدينية من النصوص المقدسة ينبغي أنْ تتكيف، لا أنْ تتعارض، مع كل وضعٍ وظرفٍ. وما حاول أركون فعله هنا هو المواءمة بين التقليد والحداثة من خلال طريقةٍ جديدةٍ.

هناك العديد من المعلقين على القرآن الكريم يخضعون لنقدٍ تاريخيٍّ ولغويٍّ وهو سمة من سمات الهرمنيوطيقا (التأويل)، في الوقت الحاضر. فالعديد من الكتابات تنبثق من المستشرقين كما من كُتّابٍ  إسلاميين أنفسهم.  وقد وضعت

(208)

جاين مكوليف كتاب التأويل القرآني: آراء الطبري وابن كثير (Quranic Hermeneutic: The views of Al-Tabari and Ibn Katsir) ، الذي أكدت فيه على طريقة التفسير وعلى جزءٍ صغيرٍ من الأفق الاجتماعي (جاين مكوليف، 1988: 46-62). وقد ناقشه المفكر المعاصرالمسلم، فضل الرحمن في تفسير الحركة المزدوجة، في حين ناقشه أركون في دائرة تفكيره عن التاريخ واللغة.

بالنسبة لأركون، التفسير المتكامل هو التفسير الذي يرى العلاقة بين لغة الفكر ( تعتمد نظريات لغة الفكر على الاعتقاد بأنّ التمثيل العقلي له بنيةٌ لغويةٌ. الأفكار هي جملٌ في الرأس، وهذا يعني أنها تحدث في لغةٍ عقليةٍ) والبعد التاريخي. وللقيام بهذا التفسير الهرمنيوطيقي، فإنّ الخطوة الأولى هي تمييز وإظهار أيٍّ من النصين هو النص الأصلي الأول / الأسبق وأيٍّ منهما هو الهرمنيوطيقي (التأويلي). وأراد أركون إستحضار الفكر الإسلامي ضمن الخطاب القرآني، كما هو، المفتوح على قراءةٍ مختلفةٍ والمنفتح، في الوقت نفسه، على فهمٍ مختلفٍ.

كانت الصعوبة التي واجهها أركون في مشروعه هي أنّ القرآن بصفته النص الأول أو الحدث الأول قد هيمن عليه التفكير الإسلامي على هذا النحو في شكل أدبياتٍ متنوعةٍ كنصٍّ ثانٍ أو كنصٍّ تأويليٍّ. وكانت الهيمنة على النحو الذي عرقل فهم القرآن كما هو حقيقةً (أركون، 1990: 232).

للتغلب على هذه المشكلة، استعار أركون طريقة التفكيك من دريدا أو الكشف وطريقة التحليل الأثري المستخدمة في دراسة الآثار التاريخية. ومن خلال هذا التحليل الأثري حاول القيام بتوضيحٍ تاريخيٍّ حول نصوصٍ تأويليةٍ من تراثٍ فكريٍّ معيَّنٍ، ما يعني توضيح ونفض غبار الزمان والمكان الذي غطاها بحيث تُلحظ العلاقة بين النصوص من مراحلَ تاريخيةٍ محددةٍ وسياقٍ اجتماعيٍّ محدَّدٍ،

(209)

وبين جيل وحركة التفكير المختلفة في الزمن التاريخي نفسِه (أركون، 1990: 233-234).

بدلًا من إظهار العلاقة بين الفكر والتاريخ، يظهر أركون أيضًا علاقةً متلازمةً بين الفكر واللغة. فأيُّ فكرٍ إسلاميٍّ، إلى جانب أنه مرآةٌ للنضالات الديناميكية للواقع الاجتماعي التاريخي، يُصاغ  ويُفهم ويتم التحدث عنه بـ لغةٍ معينةٍ.

ما فعله أركون كان مثالًا عن كيفية تدبر القرآن الكريم بالوسيلة الهرمنيوطيقية. فقد ركز التراث على ثلاثة جوانبَ: النص والسياق والتحقق من ذلك في دائرةٍ متواليةٍ. هذا يعني، متى ما قام المرء بالتحقيق وفي الوقت نفسه إعادة إنتاج المعنى، فإنه ينبغي استخدام الجوانب الثلاثة باستمرارٍ. فعندما يحقق المرء في معنى النص، يجب عليه أن يهتم بسياقه، وفي الوقت نفسه التحقّق من أين جاء النص وكيف يفهم النص في سياقه الأصلي، بحيث إنّه مع هذا النوع من الفهم،  يكون بالإمكان إعادة تفسير معنى نصٍّ معيَّنٍ في سياقٍ مختلفٍ.

في هذه الحالة، كشف أركون عن أنه ينبغي أن تكون هناك دائمًا صلةٌ بين اللغة والفكر والتاريخ، إذْ ينبغي للمجتمع الإسلامي، والمجتمع الديني بشكلٍ عامٍّ أنْ يُدرك تمامًا أنّ هناك علاقةً جدليةً بين اللغة والتفكير والتاريخ. ليس هناك من تفكيرٍ دينيٍّ غيرِ مقيَّدٍ بشكلٍ فضفاضٍ باللغة والتاريخ. وفي ما يتعلق بالقرآن، يُصرّ أركون على أنّ الكِتاب المقدس للمسلمين عبارةٌ عن كلماتٍ ولغةٍ وظاهرةٍ ثقافيةٍ ودينيةٍ آتيةٍ من وضعه الخاصّ به، بحيث إنه لن يُسفر عن معنًى إلا في سياقه ؛ ليخلق بدوره وعيًا بالتنظيم البنيوي فضلًا عن أنّ القرآن عبارةٌ عن نصٍّ دينيٍّ يُقرأ ويُعاش من خلاله (أركون، 1990 ، 19: 185-186).

(210)

برأيي، إن أعمال أركون مهمة من أجل التحقيق، قبل فوات الأوان، لأنّها قدمت منهجيةً نقديةً. ومن أجل فهمها، حاولت التركيز على الجانب التفكيكي من دراسته  للنصوص الإسلامية. فمن خلال منهجه النقدي، نجح أركون في شرحه بأنّ تاريخ الفكر الإسلامي كانت موكلةً به نزعتان، هما: النزعة لجعل النص والتراث مقدَّسًا والنزعة للكشف عن تلك القدسية. إن التفكير الإسلامي في حاجةٍ إلى تفاعلٍ بين الشمولية والتعددية.

لقد أشارت أزمة المؤسسات الدينية بقوةٍ إلى أنّ الدين في الوقت الحاضر ميّال لأن يكون دينًا متسلِّطًا. فالرسالات الدينية في وجودها الأصلي باعتبارها مجهودًا للتحرير قد ضاعت من خلال السيرورات التاريخية، التي شوهتها. وظهرت الأزمة بسبب تغيُّر الدين إلى مؤسسةٍ هرميةٍ حيث كان للمفوض سلطة الحق بالتحدث عن الحقيقة باسم السلطة المطلقة، سواءً أكان ذلك الله، أم المتسلط أم غيرهما.

عندما يتم إضفاء الطابع المؤسسي على الدين أكثر من اللازم، فإن ما يحدث هو الحد من التفسيرات المتعددة له. فخارج التفسير الرسمي، الذي شرعته المؤسسة المفوضة، من المستحيل أن يستشف المرء حقيقة التفسيرات الأخرى. فالكتاب المقدس، الذي فتح في ما مضى أمام تفسيراتٍ متعددةٍ، أصبح تفسيره واحدًا (تفسيرًا أُحاديًّا). وللخروج من هذا الوضع، ظهر نوع من مؤسسات التحقيق (محنة [خلق القرآن]) في عهد الخليفة المأمون في الإسلام، وفي حقبة الإصلاح في المسيحية (هردي وعبد الله، 1994: 84-85).

وقد أظهرت جميع الحالات المذكورة أعلاه أنه عندما يُصبح الدين مؤسسةً محتكَرةً من قِبل سلطةٍ معينةٍ، عندها سيفقد طبيعته كدينٍ متحرِّرٍ. التأثير الآخر للتفسير الأحادي هو مدى صعوبة الحصول على تفسيرٍ جديدٍ وحديثٍ. لذلك،

(211)

فإنّ القيام بإعادة تفسيرٍ جديدٍ وحديثٍ أمرٌ لا بد منه. فمن خلال سياق إعادة التفسير المستمر فقط، سينفتح الدين على الزمن المتغير وعلى التقدم الحاصل، كما أنه سوف يُفلت من التسلط والاستبداد، اللذيْن جعلا المجتمع بحد ذاته عقيمًا.

إنّ هيمنة الخطاب الديني على خطاباتٍ دينيةٍ أخرى يفترض وجود بنيةٍ هرميةٍ، بنيةٍ وضعت المهيمن في موقع المركزي والآخر في موقع الهامشي (الطرفي). هذا البنية الهرمية لا تُقصي خطابًا دينيًا معيَّنًا فحسب، وإنما تقهره وتُخضعه وتقمعه أيضا (علم، 1994: 33).

للسبب أعلاه، هناك حاجةٌ إلى إستراتيجيا للقيام بانقلابٍ في هذه البنية الهرمية التفسيرية لنزع الشرعية عن مزاعم المركزية والأصل والأساسي في الخطاب السائد. فالاستراتيجية المفيدة لإعادة التفسير في الطرائق الدينية ذات الطابع المؤسسي المبالغ به تكون من خلال الطريقة التفكيكية.

التفكيكية ليست خطابًا، من حيث إنها مجموعةٌ من  البيانات التي توجّه وتشكّل تلك الممارسات. والتفكيكية ليست طريقةً تتكون من مجموعةٍ من القواعد الرسمية لتحليل ممارساتٍ خطابيةٍ وغيرِ خطابيةٍ أيضًا (Culler، 1987: 156). التفكيكية هي أكثر من ذلك، إنها بمثابة استراتيجية للكشف عن غموض الخطاب من خلال تتبع مسار الحركات المتناقضة ضمن الخطاب، بحيث إن أيَّ وحدة خطابٍ تكون فرضيته الأساسية مدمرةً له.

يتعلق الغموض في النص وتفسيره بمشكلة المعنى في ما يتصل بالنص. فالنص، وفقًا لدريدا، ليس له معنًى حرفيٌّ، لأنه يفترض الوجود الذاتي المطلق للمعنى (ميولمن، 1993: 101). في الواقع، إنّ النّصّ (الدالّ) كممثّلٍ لن يكون قادرًا أبدًا على

(212)

تجسيد التمثيل للمعنى المشار اليه (المدلول) من خلال النّصّ (يونغ، 1981: 15).

إنّ دور النص هو للاختلاف[1] وفي الوقت نفسه لإرجاء[2]  المعنى. فمن خلال إظهار دلالةٍ على المعنى، أظهر النص غياب معنًى آخرَ. لكن عندها، فإنّ ما يتبقى هو أثرٌ لمعنى مشارٍ إليه. فحركة الإشارة للاختلاف[3] والإرجاء[4]  هي ما يطلق عليها دريدا اسم التفاوط أو الاخترجلاف علی قول عبدالوهاب المسیري[5].

من خلال التأكيد على أنّ أيَّ نصٍّ (نصٍّ دينيٍّ) هو  أثرٌ يشير دائمًا إلى النصوص الأخرى، فإنّه في الوقت نفسه يعزّز الاعتراض على الادعاء بأنّه يمكن  أن يكون لخطابٍ دينيٍّ منفذًا مباشرًا إلى المعنى الأصلي لنصٍّ. هذا الادعاء عزز موقع الهيمنة لخطابٍ في مقابل الخطابات الأخرى. وعن طريق تغيير الهيكلية الهرمية للتفسير، وضعت التفكيكية المناقشات في موضع التعايش.

شكلت الخطابات الثانوية البنية المقاومة تمامًا ضد البنية المهيمنة. ومن خلال تدمير الهيكل الهرمي الذي شكل علاقة التبعية والهيمنة، يمكن للخطابات الدينية أن تدمّر دور الشرعية ومبرر علاقة السلطة اللذَيْن تدعمهما الخطابات الدينية السائدة. ولأنّ علاقة السلطة لا يمكنها النجاح بدون خطاب مدعوم، فسوف يتم تحويل علاقة السلطة القمعية إلى علاقة سلطة في شكلها الإيجابي.

إن استخدام الاستراتيجيا التفكيكية التي وضعها دريدا في ميدان دراسة التفكير

(213)

الإسلامي يمكن أنْ تشكّل منظورَ دراسةٍ إسلاميةٍ نقديةٍ وعمليةٍ. فالمنظور النقدي يعني الانخراط في تحقيقٍ تاريخيٍّ في الممارسات الدينية خطابيًّا واجتماعيًّا، من أجل الكشف عن مجال عمل علاقة السلطة. في حين أنّ المنظور العملي يعني أن هذا المنظور فسح المجال لـأنطولوجيا تاريخيةٍ خاصةٍ بنا في مجال علاقة السلطة، للمشاركة في المقام الأول في النضال من أجل تحويل الأشكال القمعية من علاقة السلطة إلى شكلٍ إيجابيٍّ.

من خلال الاستراتيجيا التفكيكية، يقدّم لنا هذا المنظور لا فقط طريقةً لقراءة النص، بل ويقودنا أيضًا إلى موقف، واخلاقيات، ومبدأ الاعتراف بوجود الآخر وتقديره. وإذا ما تم تطبيق هذه الطريقة في النصوص الدينية، عندها فإنّ ما ينبغي القيام به أوّلًا هو فصل العلاقة الطولية الأحادية بين النص والمعنى (التفسير)، إذ يجب الكشف عن الاعتقاد بوجود علاقةٍ نهائيةٍ بين النص والمعنى، لأنّ هذا النوع من الاعتقاد سوف يكون له تأثيرٌ سلبيٌّ. أولا، التعصب لتفسير معين وإمكانية رفض صحة التفسير الآخر. وثانيًا، هذا الاعتقاد سوف يغلق إمكانية الانفتاح على تفسيراتٍ مختلفةٍ. وباستحالة القيام بتفسيرٍ آخرَ، فإن النص سوف يدمر نفسه. ثالثًا، إنّ النص الذي تم تجميده من خلال إضفاء الشرعية على تفسيرٍ ضمن تفسيرٍ أحاديٍّ سوف يجعل النص لا معنى له إزاء التدفق الكبير للمتغيرات الاجتماعية الجارية في العصر الحديث في الوقت الحاضر (هيردي وعبد الله، 1994: 87).

التفكيكية بالنسبة لنصٍّ تعني فتح الإمكانية على مختلف التفسيرات لهذا النص. وتفكيك النص يستحضر أيضا عواقبَ أخرى من الناحية الاجتماعية، ما يعني كشف احتكار التفسير لدى سلطةٍ معينةٍ كانت قد تحدثت عن حقيقةٍ

(214)

واحدةٍ باسم الله أو الدولة أو الحاكم. ولأن هذا قد يعني أيضًا، من خلال افتراض وجود سلطةٍ معينةٍ، فرضية الأنا المتعالية. وإذا ما قمنا بتنحية الأنا المتعالية جانبا، عندها تكون الامكانيات الكثيرة مفتوحة أمام مختلف التفسيرات. ويصبح التفسير ديمقراطيًّا، بحيث إن الحقيقة لا تكون محتكرةً من خلال تفسيرٍ واحدٍ ومحددٍ.

 إنّ الفهم لهذه الحقيقة الوحيدة فعلًا بما يتصل بافتراض وجود الأنا المتعالية القاهرة بشأن النص يكون بحيث يكون للتفسير الذي عرضه هو (الله) السلطة الوحيدة على الحقيقة. وقد قام أركون بتفكيك الأنا المتعالية  من خلال مفهوم تاريخية الشعارات، ثم فقدت السلطة الوحيدة دعمها، لذلك تظهر بدائل التفسير التعددية. ففي سياقات التعددية، يثبت زيف التفسير المهيمن ويصبح النص حيًّا ومنفتحًا على كلِّ تفسيرٍ. في الوقت نفسه، لا يعود هناك تجميدٌ لنصٍّ في الدين ولا الإيديولوجيا، والذي، كما نعلم، يشكل نقطة البداية لكل التفكير المجمد حتى الآن. وتنفتح إمكانية توظيف الخطابات حول النصوص الدينية بشكلٍ ديمقراطيٍّ. والنتيجة الجيدة هي أنّ الحياة الدينية للبشرية تصبح، نسبيًّا، نقديةً، تعدديةً، وديناميكيةً.

استفاد أركون من الطريقة التفكيكية هذه من أجل إعادة بناء التراث العلمي الإسلامي الكلاسيكي. ومن خلال طريقة الكشف هذه سوف تُبَان طبقات المعرفة التي غطتها المعتقدات التقليدية المتزمتة. بعد هذه الخطوة، سيكون هناك تمييزٌ بين الجزء المهم والجزء غير المهم في الدراسات الاسلامية.

إنّ الدراسة التفصيلية التي قدّمها أركون لا تختلف كثيرًا عمّا قدمه مفكرون إسلاميون آخرون. ففكره مصبوغٌ بالبنيوية، وما بعد البنيوية، والتفكيكية، وكلها تؤكد على التحليلات اللغوية. ويستخدم أركون في العديد من أعماله النماذج

(215)

الثلاثة المذكورة أعلاه لقراءة وفهم الإسلام، والأهم من ذلك، إعادة صياغة الإسلام.

من الجيد الاشارة إلى أنّ الطريقة التفكيكية لا يمكن توظيفها بدون الاطلاع على التاريخ والاعداد المعرفي عنه، وكذلك عن التقاليد الإسلامية الخفية والتراث الذي فسد أيضا بسبب عناصرَ خارجيةٍ. في هذه العملية، حاول أركون إعادة التأكيد على المعنى المهمش أو المنسيّ بسبب العديد من عمليات التغطية والتجميد التي خضع لها الفكر الاسلامي. فمن جهةٍ، وإذا ما كان دريدا قد أكد على تلك التفكيکية، فإنّ من الواضح أنّ أركون فعل ذلك بحيث تتبع التفكيكية إعادة صياغة الخطاب الذي تخلى عن القيود، والجمود، وانحراف الخطابات السابقة لمعرفة العلاقة بين النص الإسلامي والتفكيكية فإنّ ذلك يكون بالبحث عن نصوص دريدا أو تتبّعها، وعلى وجه التحديد، تلك التي لها صلةٌ بالتحليلات حول النصوص الاسلامية على وجه الخصوص. وقد حاول أركون قلب أعلى التسلسل الهرمي بين المفاهيم ثنائية القطب. إنّ قلب المفهوم الأعلى بين مفاهيم ثنائية القطب رأسًا على عقبٍ هو أحد الخصائص المميزة للتفكيكية.

لكن وعلى العكس من ذلك، لا يزال أركون يُصرّ على الدالّة المتعالية[1]. وقال أن اللغة الشفهية تعتبر شكل اللغة الأقدم والأكثر أصالةً من اللغة المكتوبة. ويماثل أركون التحول من اللغة الشفهية إلى المكتوبة بالتحول من لغة النبي إلى الخطاب التلقيني. فلغة النبي تناقش وتخاطب الوضع المحدود لظرف الإنسان، الذي ينفتح على سياقاتٍ مختلفةٍ. في حين أن الخطاب التلقيني قد شرح وصنف وفقا لمفهومٍ جامدٍ وكان ميّالًا إلى إغلاق المعنى في تفسيرٍ جامدٍ يرفض التفسير الآخر.

قال أركون أنه ينبغي لنا أن نكون نقديين حول نماذج التفكير الإسلامي

(216)

التقليدي، التي تحدث الفوضى للتفسير التقليدي، والذي تأصّل في التاريخ مع مضمون رسالات الله. واقترح أن يقوم المسلمون بتفكيك طريقة التفكير الماضية وتفاسير النصوص المقدسة. فعادة التفكير الإسلامي، الذي تولد دون تمحيص أو تسجيل أي اعتراضاتٍ، يجب تفكيكه ويجب فتح النصوص المقدسة للتحقيق اللغوي التاريخي والحديث. ولهذا السبب، استخدم أركون طريقة التفكيك هذه لإعادة بناء تراث علمي للإسلام الكلاسيكي. فباعتقاده أنه من دون تحفيز وانضباط الانفتاح مع تلبية نتائج التفكير الحديثة، فإنّ مستوى المعارف الإسلامية في أوساط الاسلاميين والخبراء الاسلاميين التقليديين سوف ينحدر .

تقييمٌ نقديٌّ لفكرة أركون ومدى أهمية التحقيقات

إنّ اركون، كمفكرٍ من مفكري ما بعد الحداثة، لديه وجهات نظرٍ التي يصعب فهمها، فضلًا عن إبستمولوجيته. ولفهم تفكيره بشكلٍ كاملٍ، يجب علينا فهم العلوم المعاصرة، على وجه الخصوص الموضوعة باللغة الفرنسية، مثل علم اللغويات[1] ، علم الإنسان[2] ، علم الرموز[3] ، وكذلك مختلف وجهاتِ نظرِ ونهجِ خطابِ ما بعد الحداثة الملم به أركون جدًّا.

يستخدم أركون لغةً معقدةً في أعماله. فبحسب تعبيره، يكاد يكون من المستحيل التعبير عن الأفكار باللغة التي لم يفكر فيها مستخدموها بعد. وفي هذه الحالة، فإنّ أركون مخلصٌ لتقليدٍ فرنسيٍّ معيَّنٍ. وأحد جوانب صعوبة اللغة لدى أركون هو ميله لتوظيف مصطلحاتٍ وتعابيرَ مختلفةٍ دون صياغةٍ واضحةٍ

(217)

أو ظهورها في معنًى مختلفٍ. والسبب هو أنه يشير إلى الكثير من المراجع، التي يستخدمها دائمًا. وأحد الأمثلة على ذلك هو استخدامه مصطلحيْ langue و language  (اللغة) من عالم اللغويات دي سوسور، لكنه يستخدمهما بمعنًى مختلفٍ. فما يقدمه لنا يجعلنا نفكر بصعوبةٍ للتوصل إلى فكره الصحيح.

كان لدريدا التأثير الحقيقي على أركون. فقد جعل أركون من المضمار غير المرغوب (المغفل)[1] والمتعذر (غير الوارد) [2]بمثابة مجالٍ لتحليلاته. وقد شرح بالتفصيل قائلًا أنّ نصوص المفكر الإسلامي الكلاسيكي قد انبثقت من ثقافةٍ معينةٍ وبأن طريقة التفكير، بدورها، قد عززتها.  ومن خلال العملية التفكيكية لدريدا، حاول أركون إعادة اكتشاف المعنى الذي تم تهميشه وتناسيه بسبب طبقات الأغطية العديدة والتجميد التي خضع لها التفكير الإسلامي.

على الرغم من أن أركون يرجع بالكثير من الأمور إلى دريدا، لكنه في الحقيقة على عكس رؤية دريدا، وذلك في نقطتين؛ إذ لم يتبع أركون دريدا بطريقة تطرفه (أي دريدا) في رأيه حول عدم وجود شيءٍ في الواقع خارج النص. إذ قال دريدا بأنه لا يوجد مرجعيةٌ على الإطلاق خارج النص. فالخطاب أو ما ذكره الفلاسفة السابقون بأنه هو الواقع، تم بناؤه من خلال النص أو فيه أو بين بعض النصوص المتداخلة مع بعضها البعض. وقد صاغ دريدا ذلك بأن ليس هناك دالةٌ متعاليةٌ. هذا يعني، لا شيءَ خارجًا، لا شيءَ خارجَ النصوص. ولو طبقت افتراضات دريدا على النص المقدس، فإن المعنى الضمني هو أنه ليس هناك من حقيقةٍ إلهيةٍ، لا يوجد الله وراء النص المقدس.

(218)

أما أركون فهو على تناقضٍ مع حجة ديريدا أعلاه، إذ قال بأن خطاب القرآن، الذي أصبح في النهاية مغلقًا ومجمَّدًا في المدونة الشرعية المغلقة[1] ، والذي أنشأت مجموعته التفسيرية مختلفُ كتب التفسير، الفقه، واللاهوت، منشؤه كلام الله. فالخلافات القائمة على الدين تكمن في مجال الاشارات (العلامات) اللغوية والطقوس والتاريخ والفن، والتي تشير إلى المتعاليات نفسها. وقد وضع أركون فرضيةً من ثلاثة عناصرَ مهمةٍ، هي: أوّلًا، أنه يربط بين عمليات التجميد والانغلاق في تفسير القرآن مع التحول من الصيغة الشفهية إلى المكتوبة؛ ثانيًا، أنه يفترض مسبقًا أنّ تفكير العقل البشري يمرّ بتحوّلٍ بين طريقتين لاستخدامات اللغة؛ ثالثًا يقول أركون بأن اللغة الشفهية هي شكلٌ سابقٌ للغة المكتوبة.

لقد جعل أركون من عمليات التجميد في تفسير القرآن الكريم مشكلةً. وقال أنّ التحوّل من الشكل الشفوي إلى الشكل المكتوب جانبٌ مهمٌّ جدًّا. فتقديس التفكير البشري في نصٍّ مدوَّنٍ هو أحد العوامل الهامة في تجميد النص. ففي ذهن الانسان يتم الخضوع إلى التحوّل من كلمات النبي إلى الخطابات التلقينية أو الأكاديمية. فقد تحدثت كلمات النبي عن وجود حالة الحب والاهتمام وعن الحياة والموت. في حين أنّ خطاب التلقين شرح وصنف كل ذلك ضمن مفاهيمَ جامدةٍ. الأول (كلام النبي) منفتحٌ على أيِّ سياقٍ. أما الثاني (خطاب التلقين) فيميل إلى تجميد المعنى في تفسيرٍ ثابتٍ، يعترض على أيِّ تفسيرٍ آخرَ. بنتيجة هذا التحول، النص يصبح حجةً، تكون عبارةً عن فكرٍ مكرَّرٍ لا فكرٍ عميقٍ أبدًا وتؤدي وظيفتها بالمصادقة على مجموعةِ سلطةٍ معينةٍ. أخيرًا، يربط أركون التحول من كلمات النبوة إلى الخطابات الأكاديمية مع التحول من اللغة الشفوية إلى اللغة المكتوبة.

(219)

وتماشيًا مع ذلك، يقول أركون في كتبه دائمًا بأن اللغة الشفوية سابقةٌ وأكثرُ أصالةً من اللغة المكتوبة..

شدد دريدا على أولوية اللغة المكتوبة على اللغة الشفوية بموجب اعتراضه على وجهات النظر الفلسفية التقليدية، والتي تؤكد على أولوية الفاعل (المستخدم، المتحدث، الكاتب، المستمع، قارئ النص) في مقابل النص وأولوية المدلول على الدالّ. لكن أركون ربط المسائل الفلسفية أعلاه بالمسائل الأنثروبولوجية، التي افترضت أنّ مجتمع اللغة المكتوبة يأتي بعد مجتمع اللغة الشفوية.

رفض دريدا الدالة الأخيرة، إذْ إن اللغة، وفقًا لدريدا، تعبيرٌ مجازيٌّ (استعارةٌ) لا مرجعيةٌ نهائيةٌ لها. فالمعنى يبرز بسبب تغيُّر المجاز. والمعنى سيتغير مع تغيُّر العامل. فالمعنى  ديناميكيٌّ وعلائقيٌّ دائمًا. هذا هو السبب في أن المراجع غيرُ محدودةٍ.

هنا، لم يرفض أركون الدالة المتعالية أو التعالي النهائي، وهو ما يتعارض مع دريدا. ولاكتشاف هذه الدالة النهائية، اتخذ أركون خطوةً بالكشف عن سورة الفاتحة والتي تقرأ بطريقة كان قد اقترحها (سوناردي، 1996: 76-77). وباستخدام نظرية تفكيك النص، يؤمل بأن يتم كشف النقاب عن التخطيط الإسلامي واستكشافه. فإذا ما عرف التخطيط، سوف نكون قادرين على التفريق بين الإسلام وما ليس باسلامٍ. إلى جانب ذلك، ومن خلال تفكيك النص يمكننا أيضا تضمين الموضوع الذي لم يكن واردًا من قبل والموضوع  الذي كان من المستحيل أو ممنوعا التفكير فيه في دين الإسلام.

على الرغم من أن أركون يرجع في الغالب إلى دريدا، إلّا أن لديه وجهةَ نظرٍ

(220)

متناقضةً مع دريدا في شيئين. أوّلًا، في افتراضه أنّ اللغة الشفوية سابقةٌ وأكثرُ أصالةً من المكتوبة. في هذه الحالة، العالم الإنكليزي الأنثروبولوجي، جاك غودي، يؤثّر عليه. ووفقا لميولمن، لقد ناقش دريدا مسائلَ فلسفيةً، في حين تحدّث غودي عن مسائلَ أنثروبولوجيةٍ. ثانيًا، وجهة نظره المناقضة بشأن الدالة النهائية. ولمعرفة دالةٍ نهائيةٍ، اتخذ أركون خطوتين، هما: الاستكشاف التاريخي والأنثروبولوجي. وبالنسبة للاستكشاف التاريخي، فقد اختار كتاب فخر الدين الرازي لإعادة قراءة إحدى مجالات التفاسير الكلاسيكية واكتشاف الدالة النهائية فيها. وعبر الاستكشاف الأنثروبولوجي، قال بأنه يود أنْ يعرف الدالة النهائية من خلال نظرياتٍ حول الأساطير، ما يدل على الكيفية التي استخدمت فيها اللغة في مجموعةٍ من الرموز، التي أشارت إليها سورة الفاتحة التي تقرأ بالطريقة التي اقترحها. على ما يبدو فإن أركون حاول – عن إدراك أو غيرِ إدراكٍ- الجمع بين العديد من النظريات في توظيف منهجيته، وكانت النتيجةُ مربكةً.

التقييم النقدي الممنوح لأركون هو أنه يريد أن يهيم في أيِّ مكانٍ ليجعل مشروعه حقيقةً. هذا يربك المعلقين عليه، وخاصةً بالنسبة للمبتدئين. وفي الوقت نفسه، لم يفكر في حدوده كناقدٍ إسلاميٍّ، إلى جانب مجاله ووقته المحدودين.

نشر أركون العديد من الأعمال حول الإبستمولوجيا (نظرية المعرفة) والمنهجية. ويمكن التعامل مع أعماله على أنها مقدمةٌ، ولكنها لم تُقدّم لاهوتًا إسلاميًّا جديدًا. إنّ مساهمته مثيرةٌ للجدل بالنسبة للخطاب الإسلامي الداخلي.

لقد ركّزت معظم أعماله على نصوصٍ مختلفةٍ لمفكرين كلاسيكيين ولكنها ركّزت أيضًا على نصوصٍ لمفكرين معاصرين، تمثل موروثًا عظيمًا معيَّنًا. فمن جهةٍ، يمضي أركون الى ما هو أبعد من حدود تقاليد الدراسات الإسلامية، لأنه استعار

(221)

العديد من العناصر من العلوم الفلسفية، العلوم الاجتماعية، والعلوم الإنسانية الغربية، التي لم يكن قد تم تطبيقها بعدُ في دراساتٍ إسلاميةٍ في الماضي.

إنّ التفكيكية بالنسبة لنصٍّ تعني فتح الإمكانية أمام العديد من التفسيرات حول النص. وقد استخدم أركون هذا النهج لإعادة قراءة الخطاب الإسلامي. ما قام به يُقدّم مساهمةً مهمةً جدًّا يوصل إلى جوٍّ جديدٍ من أجل التطور في التفكير الإسلامي في إندونيسيا، بصفتها دولةً ذاتَ غالبيةٍ اسلاميةٍ من السكان. ما قام به يمكن تحقيقه لاعادة بناء تقليدٍ علميٍّ في مختلف التحقيقات والدراسات الدينية الأخرى (المسيحية، اليهودية، البوذية، والهندوسية).

للتوفيق والتركيز على مختلف المدارس والأديان، يقترح أركون تجنب الخلط بين الحقيقة الاجتماعية (رأي الأغلبية) وحقيقة الحقيقة (النقاش واستكشاف العقل). والطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك هي الأساليب العلمية والتقنية.

استنتاجُ

وضعت أسس الأسباب الأساسية للأزمة العالمية الإسلامية، ما يعني التراث الفلسفي الباهت وفهم الإسلام دوغماتيًّا بدون تحقيقٍ نقديٍّ بحيث يتطور التفكير الإسلامي الذي يعتبر مجمَّدًا، منغلقًا، ومُمِلًّا في الوقت الحاضر.

في هذه الأثناء، وفي مرحلة ما بعد الحداثة في الفكر الغربي الذي طوره كلٌّ من دريدا وميشيل فوكو، ظهرت وسيلةٌ تحليليةٌ لانتقاد الحداثة. ومن خلال التموضع كفكرٍ ناقدٍ، حاول فكر ما بعد الحداثة الوقوف ضد الحداثة، على الرغم من أنه لا يُقدّم مخطَّطًا لبناء مجتمعٍ جديدٍ. أما ما ينبغي أنْ يكون موضع تقديرٍ في ما قدمه دريدا وفوكو فهو تماسكهما لتحقيق منظومةِ تفكيرٍ علائقيٍّ في كتبهما.

(222)

في اتباعه تفسير دريدا وفوكو، يناقش أركون النصوص الإسلامية في المقام الأول بقدرٍ من الزخم بما يتعلق بعمليات التجميد والقيود والإنغلاق، التي مر بها الفكر الإسلامي على أمد تاريخه. ومن خلال استراتيجياه التفكيكية، حاول أركون معرفة المعنى مجدَّدًا، المعنى الذي همّشته العديد من عمليات التجميد والانغلاق في التفكير الإسلامي.

مع ذلك، يرغب أركون في جعل الإسلام موضوعَ تحقيقٍ متعدِّدِ الاختصاصات، لكنه لا يزال محققًا في التفكير الإسلامي. إنّ عمله غنيٌّ بالمراجع النظرية، المأخوذة من بعض شعارات العلوم الغربية المعاصرة. ومن حيث المبدأ، يعتبر تنوع المراجع شيئًا إيجابيًّا. لكن أركون لا يدرك دائمًا حالة الشد والتأزم الموجودة بين مختلف تلك المراجع أو بين مثل هذه العناصر من المرجع ومن وجهة نظره الخاصة.

مشكلةٌ أخرى حول عمل أركون هي أنّ الكثير من المسائل فيه تبقى دون حلٍّ. فهو لم يقم بشرح رأي ما قدمه. ولم يقدم الحل والمذهب النهائي الجاهز للتطبيق. لن يفحمنا أركون، حتى ولو ارتجينا ذلك منه.

نحن بحاجةٍ إلى قوةٍ حادةٍ ونقديةٍ لفهم فكر أركون، لأنه يستخدم منهجياتٍ مختلفةً من الكثير من العلوم الاجتماعية، التاريخ، السياسة، علم الاجتماع، الأساطير، الفلسفة، السيميائية، واللغوية، للتحقيق في المخطوطات والنصوص الدينية الإسلامية التي تُعتبر معيارًا حتى الآن.

فكره متطوِّرٌ ومعقَّدٌ بحيث يحتاج إلى مراحلَ من الفهم للدخول في تفكيره. وحتى الآن، ولفهم فكرٍ مثل فكره، يتعيّن علينا فهم الثقافة العربية الإسلامية. لكن بالنسبة لـ أركون، لا يكفي أن نفهم الثقافة العربية الاسلامية فحسب، بل علينا،

(223)

في الوقت نفسِه، أن نفهم الثقافة الفرنسية ومجموعةً من نتائج طرق العلوم الاجتماعية المعاصرة والفلسفة أيضًا.

إنّ أركون في الموقف الذي يحاول فيه أنْ يُحرز تقدُّمًا في فهم الإسلام عن طريق الاستفادة من تطوّر العلوم الاجتماعية الحديثة الغربية، وفي المقام الأول من النقد التاريخي والنقد الأدبي، اللذيْن تطورا في التراث الفكري الفرنسي والألماني.

أما مزايا أركون، الذي نشأ في الجزائر، فهي قربه من التراث الإسلامي الكلاسيكي والتراث الفكري الفرنسي، وهو قويٌّ جدًّا في النقد الأدبي والفلسفة. هذا هو السبب في أن من الصعب على فكر أركون أن يحوز على تقديرٍ وردودٍ حواريةٍ من جانب مفكرين عربٍ أكثرَ تحفُّظًا.

إنّ دعوة أركون لتمثيل جوٍّ خطابيٍّ نبويٍّ منفتحٍ وديناميكيٍّ له علاقةٌ بباحثين إسلاميين يعيشون في الغرب أو بالمجتمع الأكاديمي الذي درس الإسلام ومهتمٌّ بنظرية النقد الفكري الذي فرضه التراث الفكري الغربي. لكن بالنسبة للناس في الشارع أو لمن يستمتعون بحياةٍ مسالمةٍ وبمعنى الحياة من خلال فهمهم الإسلام الذي منحهم اليقين دون تفكيرٍ نقديٍّ، فسوف يتم التعامل مع فكره باعتباره بدعةً لاهوتيةً. أما بالنسبة للناشطين في مؤسسةٍ اسلاميةٍ ضخمةٍ الذين يعطون الأولوية للأعمال الدينية ويهتمون بإيديولوجيا النشاط (الفاعلية)، بدلًا من قراءة أعمال أركون، ومعظمها بالفرنسية، فهم يفضلون أعمال المودودي (المفكر الإسلامي الهندي، 1903-1979)، حسن البنا (مفكر ومؤسس حركة الاخوان المسلمين في مصر، 1906-1949)، علي شريعتي (عالم الاجتماع الإيراني، 1933-1977)، سيد قطب (زعيم الحركة الإسلامية المتشددة في مصر، 1906-1966)، أو آية الله الخميني (قائد الثورة الإيرانية 1902-1989)، والعديد غيرهم (هداية، 1996: 33).

(224)

تقدم المنهجية المقترحة مساهمةً قيّمةً من أجل الاستعداد للتقدم. فمشروعه عبارةٌ عن محاكمةٍ جماعيةٍ، ذاتِ جوٍّ عابرٍ، وليس إفصاحًا عن وجهةِ نظرٍ نهائيةٍ.

هناك العديد من الأسباب التي جعلت أركون أقلَّ شهرةً مما ينبغي. أولًا، بصفته خبيرًا يعمل في الإطار الأكاديمي الغربي وفي مجال مكانة الاسلام، فإن العديد من أعماله تظهر أولا  في المجلة  بنسخٍ محدودةٍ، مع استثناء واحد هو كتابه الأول الذي هو عبارةٌ عن كتاباتٍ تم جمعها. ثانيًا، إنّ الطريقة التي بناها تستخدم  العديد من المصطلحات العلمية الاجتماعية، وأبحاثه حول التراث الإسلامي، التي أجراها بعنايةٍ، تحتاج إلى تفاصيلَ تتجاوز جمهور القراء. فالمرء بحاجةٍ إلى أن يكون على اطّلاع على الكتب المعاصرة في مجال العلوم الإنسانية وأن يكون على درايةٍ بالتاريخ الإسلامي كما أنّه بحاجةٍ أيضا إلى معرفة اللغة الفرنسية لتقييم العديد من أعماله (لي ،1994: الثامن).

الاستنتاج الذي يمكننا استخلاصه هو أنّ أركون قد خسر التواصل مع المجتمع الإسلامي في العالم العربي أو في أندونيسيا. وهو يُقدّم مساهمةً معرفيةً قيمةً للغاية، إلا أنه يذهب بفكره بعيدًا جدًّا، في الوقت الذي لا يزال الفكر الإسلامي، بشكلٍ عامٍّ، محدودًا للغاية. وفي رأيي، إنّ المهمة التي تولّاها في تقديم الطريقة الجديدة لاستخدام العقل التي علّمنا إياها ليست مهمته فقط، وإنما هي بحاجة أيضًا إلى الدعم من مفكرين إسلاميين آخرين.

 بالنسبة لي، إذا ما اعتبرنا بأن ما يقدمه لنا هو أمرٌ مسلَّمٌ به، فإن ما بناه يعتبر إخفاقًا، لأن أركون نفسه اقترح أن نكون نقديين إزاء كلِّ موضوعٍ، حتى فكره.

(225)

المصادر

1. ر. هـ. علم، منظور ما بعد الحداثة في الدراسات الاسلامية (Perspective of Post-Modernism in Religious Studies)، في مجلة علوم القرآن (Journal Ulumul Qur`an)، العدد 1، المجلد الخامس، 1994، ص. 33.

2. محمد أركون. 1987. الفكر الإسلامي: القراءات العلمية، ترجمة هاشم صالح . بيروت: مركز الإنماء القومي، ص. 17-24.

3. محمد أركون. 1990. كيف نحلل التفكير الاسلامي؟ (How to analyze Islamic Thinking?)، في العقل الاسلامي (Islamic Reasoni).

4. محمد أركون. 1990. نحو نهج جديد للإسلام، في مجلة علوم القرآن (Journal Ulumul Qur`an)، العدد 7، المجلد الثاني، 1990/ 1411 هـ.، أكتوبر/ تشرين أول- ديسمبر/كانون أول 1990، جاكارتا: LSAF.

5. محمد أركون. 1990. قراءة متنوعة للقرآن (Various of Reading of Al-Qur’an)، ترجمة محمد ماشاسين (Muhammad Machasin)، جاكرتا، INIS، ص. 185-186.

6. محمد أركون. 1990. الفكر الإسلامي: النقض والاجتهاد. ترجمة هاشم صالح. لندن: دار الساقي.

7. لطفي أسياوكاني (Assyaukanie, A.L)، 1998. تصنيف وخطاب التفكير العربي المعاصر (Typology and Discourse of the Contemporary Arab Thinking)، في مجلة بارامادينا (Journal of Paramadina)، المجلد الأول، العدد 1، 1998، يوليو/ تموز - ديسمبر/ كانون أول، 1998، ص. 61-65.

8. رولاند بارث. 1996. العناصر السيميائية: اللغة والخطاب (The Elements of Semiotics: Langue and Parole)، ترجمة أوكي صالحة ك. سومانتري زيمر (Okke Saleha K. Sumantri Zaimar) في كتاب Panuti Sudjiman dan Aart van Zoest، تنوع السميائيات، (Various of Semiotics)، جاكارتا: Gramedia Pustaka Utama، ص. 80-88.

9. فريدريك كوبليستون. 1968. تاريخ الفلسفة (A History of Philosophy) المجلد السادس. وولف إزاء كانط (Wolf to Kant). لندن: Burn and Oats lmt.، ص. 216-217.

10. جوناثان كولر. 1987. في التفكيكية: النظرية ونقد ما بعد البنيوية (On Deconstruction: Theory and Criticism after Structuralism). لندن: Routledge و Kegan Paul, Ltd.

(226)

11. س.ر. س. هيردي (Herdi, S.R.S) و أوليل أبشر عبد الله (Ulil-Abshor-Abdalla)، هدم هيمنة التفسير الإسلامي، إحياء النصوص (Demolishing The Hegemony of Islamic Interpretation, Receiving the Texts)، في مجلة علوم القرآن (Journal Ulumul Qur`an) العدد 3، المجلد السابع، 1994، ص. 84-85.

12. قمر الدين هداية،1996. أركون والتقليد الهرمنيوطيقي (Arkoun and Hermeneutical Tradition)، إصدار ج. هـ. ميولمن (J.H. Meuleman)، التراث، التحديث، وما بعد الحداثة (Traditions, Modernisation, and Metamodernism)، يوجياكرتا: LkiS.

13. ر.د. لي (Lee, R.D.). تمهيد (Preface)، في إعادة النظر بالإسلام: أسئلةٌ شائعةٌ، إجاباتٌ غيرُ مألوفةٍ (Rethinking Islam:Common Questions, Uncommon Answers)، أوكسفورد، Westview Press، ص. 8.

14. جاين مكوليف (Jane Mc. Mauliffe). 1988. التأويل القرآني: آراء الطبري وابن كثير (Qur’anic Hermeneutics:The Views of al-Tabari and the Ibn Katsir) في إصدار  أ. ريبين (A. Rippin)،  نهجٌ لتاريخ القرآن (Approach to the History of the Quran). أكسفورد:  Clarendon، ص. 46-62.

15. ج. هـ. ميولمن (J.H. Meuleman)، 1993. العقل الإسلامي والعقل الحديث: عرض تفكير محمد أركون (Islamic Reason and Modern Reason: Introducing the Thinking of Mohammed Arkoun) في مجلة علوم القرآن (Journal Ulumul Qur’an)، العدد 4، المجلد الرابع، ص. 9-103.

16. ج. هـ. ميولمن (J.H. Meuleman)، بعض الملاحظات النقدية حول أعمال محمد أركون (Some (Critical Notes on Mohammed Arkoun’s Works في إصدار ج. هـ. ميولمن (J.H. Meuleman)، التراث، التحديث، وما بعد الحداثة (Traditions, Modernisation, and Metamodernism)، يوجياكرتا: LkiS.

17. كريستوفر نوريس (Christopher Norris) و أندرو بنجامين (Andrew Benjamin). 1988. ما هو التفكيك (What is Deconstruction). نيويورك: الاصدار الأكاديمي (Academy Edition): Martins’s Press.

18. سانت سوناردي (St. Sunardi). 1996.  قراءة القرآن مع محمد أركون (Reading Quran with Mohammed Arkoun) في اصدار ج. هـ. ميولمن (J.H. Meuleman)، التراث، التحديث،

(227)

وما بعد الحداثة (Traditions, Modernisation, and Metamodernism)، يوجياكرتا: LkiS.

19. تاريخية الفكر الاسلامي، 1986. بيروت: ص. 14.

20. روبرت يونغ (Robert Young). 1981. ما بعد البنيوية: مقدمة (Post Structuralism: An Introduction)، في إصدار روبرت يونغ (Robert Young) تفكيك النص: قارئ ما بعد البنيوية (Untying the Text: A Post-Structuralism Reader). بوسطن، Routledge و Kegan Paul, Ltd. ص. 15.

(228)

محمد أركون والتفكيكية[1]

 

عثمان خليل[2] - الآنسة عبيدة خان

 

ملخص

ترتبط الإيديولوجيات مباشرةً، ولكن لا بشكلٍ ملحوظٍ دائمًا، بالموضوعات المنهجية والابستمولوجية (المعرفية). ويكشف علم النفس الاجتماعي أيضًا عن أنّ المعرفة تعتمد على سياسة رفض أو دمج الفلسفات المختلفة. وفي مسيرة الفكر البشري بزغ عصر المنطق مع حقبة التنوير. وتدريجيًّا، حازت القيم العالمية والأسلوب العلمي على التفوق والغلبة. ثم أصبحت كل السرديات العظيمة لا لزوم لها ومرفوضةً، ما أدى إلى الحاجة إلى إعادة البحث، وإعادة التحليل، وإعادة النظر في كل العمل المنجز حتى الآن بهدف تفكيك ما هو مهمَلٌ في الوقت الحاضر. ويتطرق هذا البحث إلى نظرية التفكيكية ما بعد البنيوية المثيرة للإعجاب وأنصارها

(229)

في الحضارات الاسلامية لتقييم تأثيرها على فكر المسلمين المعاصرين. أما الأساس المنطقي لهذه الدراسة فهو تقييمٌ نقديٌّ للمفاهيم النظرية في العالم الإسلامي ردًّا أو تفاعلًا مع التأثيرات الإبستمولوجية الراهنة من الغرب. هذا الاستقراء أدّى إلى استنتاجٍ مفاده أنّ الباحثين في العالم الإسلامي غابت عنهم هذه النقطة من خلال المضيّ بعيدًا قليلًا بما أن القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة تذكر بشكلٍ صريحٍ ما يجب على المسلمين رفضه أو دمجه. ويشمل العلاج تحديث الطريقة التقليدية في التفكير وتفسير الأشياء واكتساب القدرة على التفكير في المُحال وما أُغفل سابقًا، والكلمة الصادقة الحازمة، والسعي المتواصل من أجل التميز، وكذلك التخلّص من طغيان الشيوع، أيا يكن، في الفكر الغربي المندفع والعفوي إلى حدٍّ كبيرٍ.

منذ بداية القرن التاسع عشر، كان يبدو أنّ الحركات النهضوية، الإصلاحية، والأصولية إلى جانب القومية والاشتراكية الإسلامية هي الحركات والميول الأكثر أهميةً في الفكر الإسلامي في العالم الإسلامي المعاصر. وعلى مر السنين، كانت الهيمنة المقيدة لطريقة التفكير العلمية الغربية «المنطبقة على ثقافاتٍ أو مفاهيمَ أجنبيةٍ لا تقع ضمن دائرة أوروبا المسيحية والحضارة الغربية العلمانية»[1] قد توسعت لتشمل مجال الدراسات الإسلامية كذلك. ولطالما فرضت التجريبية «تصنيفاتها، فئاتها، تعاريفها، تمييزاتها، مفاهيمها ونظرياتها على»[2]  تخصصاتٍ وأفكارٍ فلسفيةٍ أخرى دون الخشية من أيِّ إستنكارٍ أو إلغاءٍ. في الواقع، هذا الاعتماد المفرط على العقل والفهم كأداةٍ وحيدةٍ للتعلم أو مركزية اللغة – logocentricism (مصطلحٌ يشير إلى تقاليد العلم والفلسفة الغربية التي تعتبر الكلمات واللغة تعبيرًا أساسيًّا

(230)

عن واقعٍ خارجيٍّ)/ عالم الكلمات - logosphere (تفسير معاني الكلمات على أساس اللغة والسياق) أي التركيز فقط على العقل، وتجاهل أو إهمال مواردَ أخرى للفهم والتفكير، على سبيل المثال، الأخلاقيات (المناقب)، الميثوس (الأساطير/ التاريخ) والباثوس (الانفعالات والعواطف) مع تجاهلٍ تامٍّ للمصادر الإلهية للإرشاد البشري. من ناحية أخرى، العالم الإسلامي «لم يخرج بعد برؤيته المفاهيمية الخاصة لتاريخه وثقافته وديانته لتحدي منظور الهيمنة»[1]  من الغرب بحيث يجعله يرى (أي الغرب) وجهة النظر الفعلية.

إنّ الفروق الدقيقة الشاملة والكامنة في التحقيقات العلمية تجعل من الجنس البشري الغاية فضلًا عن السبب في التحقيق. أما في الوقت الحاضر، فإنّ التفسير العقلاني، المدعوم بالمعرفة التجريبية والعملية والإبداعية وبدافعٍ من أسبابٍ ماليةٍ، قد حاز على مكانةٍ وهيمنةٍ تعادلان المنطق اللاهوتي- الشرعي في العصور الوسطى أو منطق التنوير بسبب الأحكام والمندرجات الملحة للدول الصناعية. فالمتخصصون السياسيون في العصر الحديث الذين يعبّرون عن التهديد لـ القيم الغربية الذي يتسبب به مسلمون متعصبون دينيًّا نادرًا ما يتحدثون عن القيم الاقتصادية لـ الخبراء العلميين [2].

بالتالي، فإنّ تحقيقاتهم لم تبحث أبدًا في طريقة التفكير المهيمنة الرئيسة التي تواصل التركيز على المخاوف الرئيسة القائمة على منطقٍ علميٍّ ولا ترقى إلى مستوى تأييدِ أساليبَ أو خططٍ بحثيةٍ، تُعتبر جزءًا لا يتجزّأ من العلوم الاجتماعية. ومع استمرار تزايد التجاهل في الدول ذات السيادة السياسية المفترضة في العالم

(231)

الإسلامي، فإنّ علم الإنسان والمجتمع في الغرب يواصل مهمته في تقسيمه النزوي للعالم وتفتيته للواقع.

وبالتأكيد، تلحظ الهرمنيوطيقا (علم التأويل الفلسفي ) الدور المركزي للتاريخ واللغة في أيِّ فهمٍ. وحيث إن اللغة إلى جانب فحواها الفكري ليست مجردَ طريقةِ تواصلٍ، وبالتالي فقد أثّرت سلسلةٌ من نماذج تأويل العالم الطبيعي على لغة كلِّ عصرٍ/ إبستميةٍ. وبدورها بينت اللغة الدينية تأثير هذا التغيير، لينتهي الأمر بتصاعد ذهنيةٍ عَلمانيةٍ. ومن هنا كان لدرجة لغة اللاهوت الإسلامي تأثيرٌ كما أنها «تأثّرت بمفرداتٍ ومصطلحاتٍ في استخدامات أكاديميةٍ أخرى، على سبيل المثال، الفلسفة اليونانية، الفارسية ما قبل الثقافة الإسلامية، التغير المستمر في الاتجاهات الغربية، وما إلى ذلك خلال التاريخ الماضي وكذلك الزمن الحاضر اعتمادًا على مسألة الأسلمة واللا أسلمة وذهنية المسلم»[1].

مع الغياب الواضح لعلمٍ محايدٍ أو خالٍ من قيم الغرب، يمكن للقيم الإسلامية بفهمها الحكمي للمسؤولية أن تكون ذاتَ أهميةٍ كبيرةٍ على طول الحد الفاصل بين العلم والمسؤولية الأخلاقية. ويجب التركيز على المعرفة الرئيسة لسمات التفكر والثقافة الإسلامية، وجهات النظر، وسبل العيش لدى أهم الديانات والحضارات العلمانية الحديثة في العالم لغرس معرفةٍ إسلاميةٍ أصيلةٍ.

على عكس هذا الاعتقاد لما بعد الحداثة بأّن الكلمات متهالكةٌ ومعكوسةٌ مرارًا وتكرارًا عن معناها الأصلي، فإن التصورات وكذلك الكلمات المفاهيمية هي في الواقع عبارةٌ عن حاوياتِ حقائقَ لمعانٍ «أعلى» وأكثرَ «أصالةً» يستجيب لها الإنسان بمرونةٍ إزاء حقيقةٍ موضوعيةٍ أسمى. فإذا اختفى المعنى في الواقع كما

(232)

يتجلى في التنويع الحديث للمعاني وفي نظريات ما بعد البنيوية المختلفة، عندها يكون هذا العالم على شفير الاستسلام إلى العشوائية.

«إنّ أصول الدين- التقليد أو الدين- هي القنوات التي يستطيع الإنسان من خلالها إصلاح غرائزه الحيوانية ونفسه  ويصبح في النهاية خليفة الله في هذا العالم لتبرير كونه إنسانًا حقًّا. وفي عالم الآخرة سوف يُخلق الانسان على هيئةٍ وشكلٍ متماثلَيْن مع نواياه وأفعاله في الحياة الدنيا، والحكم سيكون لله وحده. وقد كانت فلسفة الحق إلزاميةً ومشروعةً في الأيام الخوالي من العصور الذهبية. وهذه التعاليم صالحةٌ اليوم، سواء أسُميّت الحداثة أم ما بعد الحداثة، وفي الزمن الذي نعيش فيه»[1]، وسوف تظل كذلك حتى نهاية الزمن بصرف النظر عمّا تقوله أيٌّ من النظريات البشرية المتحولة، إذ يجب أن تكون القضية الرئيسة اليوم هي العيش وفق أفضل مقدرات المرء وقدرته كمؤمنٍ حقيقيٍّ وكمسلمٍ في العالم الحديث (وما بعد الحداثة)، بالسير على الصراط القويم (الإسلام)، الصادق والأمين، سعيًا وراء رضا الله جل جلاله فقط[2].

لا يوجد أيُّ «عودةٍ إلى الوراء، إلى العصور الوسطى أو لتغيير كلِّ من الشرق والغرب مجدَّدًا إلى مجتمعاتٍ ذاتِ ميولٍ دينيةٍ تقليديةٍ. لكن عزو العقائد التقليدية إلى جذورها الميتافيزيقية، ثم محاولة تطبيقها»[3]  مجدَّدًا بحيويةٍ جديدةٍ لتدارس كل جانب من جوانب الحداثة بشكلٍ منفصلٍ في هذا الضوء، هو الشيء الأكثر إلحاحا الآن، إذْ من المؤكد أنّ الانسان قد خسر الكثير نسبيًّا مقارنةً بما كان

(233)

يُفترض أنّه قد حاز عليه من خلال عملية التحديث. فالحرية والاستقلال وسيادة القانون وحقوق الإنسان وحرية التعبير والرعاية الصحية هي المكاسب المذكورة غالبًا للانسانية على الرغم من أنّها مصحوبةٌ بـ«الفردية السلبية والاستهلاكية من أجل القلة المحظوظة في هذا العالم»[1].

يتم تصوير العلوم المعاصرة أو التجريبية، التي غالبًا ما يتم سلخها عن الدين، «كواحدة من الأدوات الرئيسة للتخلي عن الأديان القديمة في العالم الحالي. فمن القرن السابع عشر فصاعدًا، استسلمت المقدسات والروحانيات إلى»[2]  رؤيةٍ عالميةٍ مكتفيةٍ ذاتيًّا ومجردةٍ من أيِّ نوعٍ من أنواع عامل التدخل الإلهي. وعلى وجه الخصوص، قام الفلاسفة وعلماء النفس والباحثون الألمان والفرنسيون بإلزام الدين، تدريجيًّا، إعطاءَ تفسيرٍ لنفسه وعقلنته بصفته تقليدًا اجتماعيًّا وكذلك بصفته مجموعةً من العناصر الايمانية والمعتقدات الأساسية عن العالم ووظائفه المختلفة. وبالتالي، لقد تطورت العلمنة كأجندةٍ فلسفيةٍ في الروح الغربية ما أدى «إلى علمنة المجتمع وانفصاله عن قضاياه الروحية»[3].

لعبت أيضا الاستفسارات التابعة عن النزاهة، الانسجام، علم النفس، السياسة، وما إلى ذلك، دورًا أساسيًّا في هذه المعضلة. فتجسد الذهنية الحديثة ومأزق ما بعد الحداثة، على وجه الإجمال، ليس بالتالي حدثًا محليًّا ولا معزولًا؛ إنه يستلزم تعديلًا نظريًّا كاملًا. فالضغط المبالَغ فيه واعتماد مرحلة ما بعد الحداثة على الفكر والعقل والفهم أدى إلى التقليل من أهمية الأخلاق والتصوّف وأخلّ بالتوازن بين

(234)

مختلف جوانب تركيبة الإنسان (البدنية، الحسية، الفكرية، النفسية، العقلية، العاطفية، الروحانية، الخ) الضرورية للنمو الشامل للانسان وتطوره.

من ناحيةٍ أخرى، فإنّ المرتبة الملوكية للدين تكمن في تعهّده البحث عن أعمق وأعلى مستوًى ممكنٍ من المدارك. إنّ الباعث الإنساني الأشد في السجية الفطرية هي القدرة على تقدير التجربة، لتحقيق معرفةٍ متماسكةٍ ومَرْضِيَّةٍ بالعالم، وربط كلٍّ من العلم واللاهوت كمحاولةٍ للاكتشاف والتحقق من الخصائص المميزة لكلِّ شيءٍ ملموسٍ وَوَاهٍ، إذ يستعرض كلٌّ من الدين والعلم عالم التجربة من وجهة نظرهما الخاصة. وبالتالي، من المحتمل أن يكون هناك وجودٌ لمساحات اتصالٍ بين الاثنين، بيد أنّ بمجرد أنْ نصبح واعين بأنْ ليس علينا أنْ نتفق مع النظرة الميتافيزيقية للعالم المرتبطة في كثيرٍ من الأحيان )بالعلم، فإنه يمكن ملاحظة الصلة بين علم الإنسان وعلم الوحي الالهي([1]من منظورٍ جديدٍ كليًّا. هذا التفاعل المتبادل بين العلم المكتسب وعلم الوحي يمكن اعتباره مدخلًا مستقبليًّا عوضًا عن صراعٍ. إلى جانب ذلك، وعلى أيِّ حالٍ من الأحوال، فإنّ اللاهوت والعلم، وعلى الرغم من مستويات الانجاز المختلفة  )في معرفتهما للواقع القطعي والحقيقة، فإنهما مخلوقاتٌ خلقها الخالقُ نفسُه. لذلك، فإن أهمّ مسؤولية في الفكر الديني في الوقت الحاضر هي تحليل ونقد الأساس الميتافيزيقي للعلوم الإنسانية الحديثة([2].

من وجهة النظر الإسلامية، يبدو المأزق أكثرَ تعقيدًا، إذ يفتقد العالِم الإسلامي الحالي إلى الثقة بالنفس بسبب ضعف مكانته الاجتماعية - الاقتصادية. فالتأثير والاختبارات والتجارب التي أحدثها بزوغ مرحلة ما بعد الحداثة لم تؤدِّ إلى إضعاف

(235)

المثقفين المسلمين وحسب، بل ووضعتهم في خطرٍ كبيرٍ. وبالتالي، فإنّ ردًّا سريعًا مناسبًا ونهجًا ملائِمًا لمواجهة ھذا اﻟﺗﺣدي أﻣرٌ ﺿروريٌّ. إن )الانعزالية( اليوم غيرُ ممكنةٍ ولا هي مطلوبةٌ لأنّ سرعة وتواتر طرق التواصل الحديثة لم تترك لنا أيَّ مكانٍ للاختباء.

فضلا عن ذلك، إن الإسلام يفرض على كلِّ واحدٍ منّا تدبُّر الحكمة الكاملة والتي تتضمن أنْ يكون كلُّ شيءٍ في مكانه المعقول والمناسب. فالسعي وراء منظورٍ أوسعَ للعالَم يستدعي مراعاة كلِّ نوعٍ من أنواع المعرفة ودمجها جميعًا في منظومةٍ واحدةٍ رائعةٍ خاصةٍ. ولجعل الإسلام جزءًا أساسيًّا من العمل الاجتماعي والفكري ولعب الدور الذي كان عليه في الماضي في تاريخ العالم[1]، يجب التحضير والاستعداد بأفضلَ ما لدينا من القدرات لمواجهة الظروف المتحولة دائمًا في حياة وفكر مرحلة ما بعد الحداثة وجهًا لوجهٍ.

التفكيكية

إنّ التقنية التحليلية التي يستخدمها  المتخصصون في مرحلة ما بعد البنيوية لتحليل نصٍّ ما يُطلق عليها اسم التقنية التفكيكية. وربما يكون أفضلُ وصفٍ لـ (التفكيكي) هو أنها نظريةُ قراءةٍ تهدف إلى تقويض منطق المعارضة ضمن النصوص[2]. وفي حين أنّ التفكيكية لا تتقصد اكتشاف المعنى الحقيقي للنص إلا أنّها تتضمّن شيئين، هما:

1. النظر في ما هو مفقودٌ من النص،

(236)

2. الإبراز في النص، الغائب أو المفقود.

إنّ مصطلح التفكيكية يعني رؤية الطريقة التي يجري بها تضليل أو زعزعة الرسالة الأساسية للنص من خلال السمات العرضية لنصٍّ. وتتعامل التفكيكية، كفلسفةِ معانٍ، مع الطرق التي يبني فيها الكُتّاب، و/ أو النصوص، و/ أو القراء المعنى. في اللغويات والفلسفة والنظرية الأدبية، هذا يعني فضح وتقويض الافتراضات الميتافيزيقية المعنية بالمحاولات المنهجية لتعليل المعرفة، لا سيما في التخصصات الأكاديمية[1]، إذ تعرض التفكيكية، وهي نظريةٌ رئيسةٌ ترتبط مع البنيوية، بأنّ المنطق البشري يفرض تناقضاتٍ تخمينيةً ومجردةً، مرتَّبةً في نصٍّ. على سبيل المثال، (الأزواج الثنائية من التنوير / الرومانسية، الذكر / الأنثى، الكلام / الكتابة، العقلاني / العاطفي)[2] ، الدالّ / المدلول، الرمزي / التصوري، إلخ.

وباعتبارها نظريةً فلسفيةً راسخةً لكن لا تزال بعدُ مثيرةً للجدل، تهدف التفكيكية إلى قراءة (إعادة قراءة) جميع الأعمال النظرية. وفي ممارسةٍ مقبولةٍ، تصور النظرية التفكيكية المسألة التحليلية بأنّها تجري بعيدًا عن الأعراف وعن النهج التقليدي في التفكير.

وتعتبر التفكيكية كلَّ عملٍ مدوَّنٍ بمثابة عمليةٍ معقدةٍ وتاريخيًّا وثقافيًّا متجذرةٍ في صلات النصوص مع بعضها البعض وكذلك في بناء وأعراف الكتابة[3].

بشكلٍ عامٍّ، التفكيكية عبارةٌ عن سلسلةٍ من الإستراتيجيَات ومستودَعٍ من

(237)

البيانات النظرية عن الكلمات ودلالاتها ونصوص القراءة. ويستخدم الفعل يفكك[1] بشكلٍ متكرِّرٍ كمرادفٍ للنقد أو لإظهار تناقض نقطةٍ ما في النص.

«كمدرسةٍ للفلسفة، كان للتفكيكية أثرٌ هائلٌ على النقد الأدبي وعلم النفس والفلسفة الأنكلو-أميركية. فهي تقلب التقاليد الميتافيزيقية الغربية وتمثل استجابةً معقدةً لمجموعةٍ متنوعةٍ من الحركات النظرية والفلسفية في القرن العشرين، على سبيل المثال الفلسفة الهوسرلية، المبادئ البنيوية السوسورية (نسبة إلى مؤسسها فردينان دي سوسور) والفرنسية، والتحليل النفسي الفرويدي واللاكاني»[2].

صاغ جاك دريدا مصطلح التفكيكية في الستينيات من خلال البناء على حجة فرديناند دي سوسور عن اعتباطية العلامات اللفظية[3]. ففي كتابه فی علم النحو[4]، طبق مفهوم مارتن هايدغر عن التدمير[5]، أو التقويض[6] على القراءة  النصية[7]، في إشارةٍ إلى عملية استكشاف التصنيفات والمفاهيم التي فرضها التراث على كلمةٍ، والتاريخ الذي يقف وراءها[8].

ترتبط الحجج والتقنيات التفكيكية أيضا مع نظرياتٍ أخرى مثل البراغماتية

(238)

أو النسوية أو النظرية النقدية. وكونها فرعًا من المرحلة ما بعد البنيوية، فإن التفكيكية ليست فقط میتا-لغةً[1] بحد ذاتها ولكن هي أيضا كاشفةٌ لكل اللغات والخطابات. والطريقة الوحيدة لفهم المعاني بشكلٍ صحيحٍ تتطلب تفكيك الفرضيات ونظم المعلومات التي تُحدث سوء الفهم لمغزًى غريبٍ. هذه العملية التفكيكية يمكن أن تحول ذكرًا إلى أنثى، وتغيِّر الخطابة إلى كتابةٍ، وتقلب العقلاني إلى عاطفي.

تحقق التفكيكية في أساسيات الفكر الغربي لكن ليس من أجل القضاء على التناقضات والمفارقات ولا للابتعاد عن الحجج والدعاوى التقليدية ولا لإعداد منظومتها الخاصة. وقد وصف دريدا التفكيكية بأنّها مجموعةٌ غيرُ مغلقةٍ وغيرُ مقصورةٍ، وغيرُ رسميةٍ من القواعد للقراءة والتفسير والكتابة[2].

إنّ نقد التنوير، والأدب والميتافيزيقا، وخاصةً المؤلفات الأصلية لأفلاطون وروسو وهوسرل هو الشغل الشاغل للتفكيكية دون العمل على جعل أيٍّ من هذه المؤلفات كتبًا لا طائلَ منها. وإلى حدٍّ ما، تُظهر التفكيكية بأنّ هذه المؤلفات الكلاسيكية تعجّ بمفاهيمَ متعددةٍ وأحيانا غيرَ متوافقةٍ. فضلًا عن ذلك، فإنّها لا تجزم بكون المفاهيم أشياءَ لا حدود لها؛ إنّها تنص، وببساطةٍ، على أنّ بالامكان تفسير هذه المفاهيم بطرقٍ متنوعةٍ من خلال وضعها في وجهاتِ نظرٍ مبتكرةٍ، إذْ تؤكّد التحليلات التفكيكية على أنّ هناك خصوصياتٍ واختلافاتٍ معينةً لا تتمتع بأيِّ توافقٍ معياريٍّ ما يفتح التناقضات المفاهيمية على إعادة التفسير بحيث

(239)

يكون لكلِّ من المصطلحين في الوقت نفسه تبعيةٌ مفاهيميةٌ أو تشابهٌ بالإضافة إلى اختلافٍ أو تمايزٍ مفاهيميٍّ[1].

تستكشف الحجة التفكيكية طرق إخفاء أو تجاهل هذا التشابه أو الاختلاف، وتؤكد على أهمية الموقف في النطق بحكمٍ (قرارٍ) بالإضافة إلى دراسة الآثار الإيديولوجية لاستخدام التناقضات المفاهيمية، وتنظر في ما إذا كان اهتزازها المقنَّع أو المكبوت يضفي معقوليةً لا لزوم لها على الحجج والمذاهب القانونية والفلسفية والدينية والأدبية؛ إذْ نادرًا ما استجلبت نظريةٌ ناقدةٌ هذا النوع من الفزع والهستيريا اللذيْن أثارتهما التفكيكية منذ ظهورها عام 1967[2].

كنوعٍ خاصٍّ من مزاولة القراءة، تقنيةِ تحليلٍ وشكلٍ من أشكال التحقيق النقدي، توضّح باربرا جونسون المصطلح في كتابها، الاختلاف النقدي[3]  (1981): بيد أنّ التفكيك ليس مرادفًا للتدمير، بل هو في الواقع أقرب إلى المعنى الأصلي لكلمة التحليل نفسها، والتي تعني اشتقاقيًّا فك (نقض، إبطال، حل) (to undo) - المرادف الافتراضي لكلمة de-construct (فك).

إذا ما تم هدم أيِّ شيءٍ في القراءة التفكيكية، فإنه لا يكون النص، وإنما الزعم بهيمنةٍ مطلقةٍ لإحدى طرق الدلالات على حساب أخرى. إنها قراءةٌ تحلل خصوصية الاختلاف النقدي للنص انطلاقًا من ذاتها[4].

(240)

وتنتقد فلسفة دريدا البنيوية أيضًا. لذلك يقول دريدا:

« ارتبطت فكرة التفكيكية مع فكرة ما بعد البنيوية على الرغم من أنها كانت كلمةً غيرَ معروفةٍ في فرنسا إلى حين استحضارها من الولايات المتحدة الأميركية»[1].

في الواقع، إنّ دريدا متحيزٌ لتحوير وتحريف أصولٍ غيرِ مدنّسةٍ من خلال مباني اللغة وعامل الزمن، حتى أن مانفريد فرانك أشار إلى كتاب ديريدا بـالبنيوية الجديدة (Neostructuralism)[2]، المصطلح الذي حوى مخاوفه المبدئية حول مبنى النصوص. في الواقع، يتم ربط التفكيكية بالبنيوية ومناهضة البنيوية، على حدٍّ سواءٍ، وهو ما وصفه دريدا بـ الإشكالية البنيوية. فهو يعتبر أنّ أوّل استخدام له لكلمة التفكيكية كان خلال ذروة البنيوية والتلويح المناهض للبنيوية، لأنه كان سيتم إلغاء وتفكيك وتدمير المباني. كما يعتقد بأنّ التكوين[3] والبنية[4] هما من الأشكال الضرورية للتفسير وبأنّ صعوبة التوفيق بين الاثنين هو الأزمة في المشكلة البنيوية. وبالتالي:

«بعض الأشياء تحتاج إلى وصفٍ من حيثُ البنيةُ بينما يحتاج البعض الآخر إلى الوصف من حيث التكوينُ »[5]،

(241)

فالإشكالية البنيوية هي أنه:

 «بظل الاستخدام الهادئ لهذه المفاهيم [التكوين والبنية] يكمن جدلٌ... يجعل الاختزالات والتوضيحات الجديدة ضروريةً إلى أجلٍ غيرِ مسمًّى»[1].

أما في التراث الفلسفي الغربي، فإن الاستراتيجيا التفكيكية تحدّد وتستهدف:

ميتافيزيقيا الحضور، أو مركزية اللغة [2] أو المركزية الذکوریه [3] التي تفترض بأنّ الخطاب-الفكر (الشعارات) عبارةٌ عن كيانٍ متميِّزٍ، مثاليٍّ، وحاضرٍ، منه يُستمدُّ كلُّ خطابٍ ومغزًى[4].

إنّ مارتن هايدغر في ما يتعلق بالفلسفة هو بمثابة المهمة التدميرية لمفاهيمَ أنطولوجيةٍ بما في ذلك مضامينُ اعتياديةٌ لعباراتٍ مثل الوقت، التاريخ، الكينونة، النظرية، الموت، العقل، الجسد، المادة، المنطق، وما إلى ذلك:

«عندما يصبح التراث مسيطِرًا ومتبوعًا فإنّ إحالته تتم باحترازٍ للغاية، بل ويصبح أقربَ، بالنسبة إلى الجزء الأكبر منه، باطنيًّا. فالتراث يتناول ما هبط إلينا ويحوّله إلى دليلٍ ذاتيٍّ. إنّه يمنع وصولنا إلى تلك المصادر البدائية التي منها انطلقت التصنيفات والمفاهيم التي توارثناها وكانت، في جزءٍ منها، مستمدَّةً منها بشكلٍ حقيقيٍّ تمامًا. في الواقع إنها تجعلنا ننسى أنّ لديها مثل هذا الأصل، وتجعلنا نفترض أنّ الحاجة إلى العودة إلى هذه المصادر أمرٌ لا نحتاج حتى إلى فهمه»[5].

(242)

يعتقد هايدغر أن العرف يمكن أن يصبح متحجِّرًا:

«إذا كانت مسألة الكينونة هو جعل تاريخها الخاص شفّافًا، عندها يجب التخفيف من هذا التراث المتشدد، وحل ما سبّبه من تعميةٍ. نحن نفهم هذه المهمة على أنه من خلال تناولنا لمسألة الكينونة[1] كمفتاحٍ لنا فإننا نكون بصدد هدم الفحوى التقليدي (السماعي النقلي) للأنطولوجيا القديمة إلى أن نصل إلى تلك التجارب البدائية التي فيها حققنا أول طرقنا بتحديد طبيعة الكينونة - الطرق التي وجهتنا منذ ذلك الحين»[2].

في أوروبا، ولكون التفكيكية ردَّ فعلٍ على البنيوية، فانها تُعتبر فلسفةَ ما بعد البنيوية. ومع التشكيك باستقلالية الموضوعات في تحديد المعاني الثقافية، يدّعي المتخصصون البنيويون بأنّ البنى اللغوية قد شكّلت التفكير الشخصي، ما يفكك بالتالي موضوع البحث إلى قوًى عليا للحضارة. فالتفكيكية تضرب ما يطلق عليه اسم الافتراضات الثابتة، أو الشاملة، أو غير التاريخية حول مباني المعنى. وكغيرها من الفلسفات الجماعية (التي تؤكد على الرابط بين الفرد والمجتمع) التي تحاول التقليل من شأن التأمل الفردي والإنجاز لإثراء الثوابت، يُعتقد بأن التفكيكية هي أيضا نظريةٌ معاديةٌ للإنسانية، لا سيما في الولايات المتحدة حيث إن التأكيد الذاتي تمامًا عليها يجعل النصوص تشير إلى أيِّ شيءٍ يرغب الفرد بأن تمثّله.

د. محمد أركون

الباحث والفيلسوف الفرنسي الجزائري البربري (الأمازيغي) الأصل، الأستاذ

(243)

محمد أركون (1928 - 2010) هو باحثٌ عَلمانيٌّ بارزٌ جدًّا في الدراسات الإسلامية تستكمل إعادة البنيوية الإسلامية العقلانية الحديثة. وقد ظل، لمدة ثلاثين عامًا، ناقدًا ومعلّقًا على المخاوف حول الإسلام والإسلاميات[1]، وداعما للحداثة الإسلامية، فضلًا عن تعزيز العلمانية والحركة الإنسانية.

وعند تناوله في المقام الأول إمّا كمفكِّرٍ إسلاميٍّ أو كمنتقصٍ متحرِّرٍ للغاية لأسلوب حياة المسلمين، نجد أن محمد أركون حاز تدريجيًّا على مكانةٍ له بين أهم المفكرين المعاصرين في العالم الإسلامي. وقد تجاهل الألمان والعالمين العربي والشرق أوسطي، بغالبيتهم، آراء ونظريات محمد أركون المثيرة حول الثقافة الإسلامية المعاصرة وشككوا بها إلى أن قام هاشم صالح بترجمة كتبه الفرنسية.

يستخدم د. أركون أدوات ومنهجيات التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا لاجراء تقييمٍ نقديٍّ لمنظومة المعتقدات وتراث وتقاليد التفسير، واللاهوت والفقه المختلفة لتحرير العقل من الثوابت العقائدية. ويقوم أركون باستكشاف الخيارات الابستمولوجية الكامنة وراء الخطابات المختلفة، وتطور الحقائق، والأحداث، والأفكار والمعتقدات والأداء والسلوك، والمؤسسات والأشغال الفنية والسِّيَر الذاتية الفردية استنادًا إلى محفوظاتٍ موثوقةٍ. وباعتبار الإسلام دينًا وتراثًا فكريًّا عريقًا، يحاول أركون التغلّب على القيود المفروضة على التعامل الوصفي الصرف والتسلسل الزمني للتاريخ من خلال الدعوة إلى تحليلٍ نقديٍّ للفكر الاسلامي بأسره، وذلك من وجهة النظر القرآنية إزاء المجموعة المتنوعة من الخطابات المعاصرة.

(244)

أركون والتفكيكية

إنّ الدراسة التفصيلية التي يُقدّمها أركون تختلف نوعًا ما عن عمل باحثين ومفكرين إسلاميين آخرين. فبتأثّره بالبنيوية، وما بعد البنيوية، والتفكيكية التي تركّز هي جميعا على التحليلات اللغوية، يحاول أركون إعادة التأكيد على المعنى المهمش، أو على المعاني الخفية أو المنسية أو التي أفسدتها عواملُ خارجيةٌ بسبب العديد من التغطيات وعمليات التجميد التي مر بها التفكير الإسلامي. بيد أنّ أركون يعتقد أنّ عملية إعادة بناء خطابٍ ينبغي أنْ تتبع التفكيكية بعد جعل الخطاب خاليًا من القيود، والجمود، والتشوهات التي تغطيه.

وفي إصراره على الدلالة المتعالية للغة الشفهية، يقيم أركون علاقةً سببيةً بين الانتقال من الصيغة اللفظية للخطاب إلى الصيغة المدونة بصفته تحوُّلًا من لغة النبي صلّی اللّه علیه وآله وسلّم  إلى خطاب تدريسيٍّ في الظروف المحدودة للحالة الإنسانية المفتوحة على مجموعةٍ متنوعةٍ من السياقات. وقد بيّن التصورُ غيرُ المرن مع الميل نحو تفسيرٍ منغلقٍ يرفض تفسيراتٍ أخرى، خطابَ تعاليم النبي صلّی اللّه علیه وآله وسلّم وصنفه. بناءً على ذلك، فإنّ  نصًّا ضمن ذريعةٍ (حججٍ)، وتكراره ببساطةٍ في كثيرٍ من الأحيان دون إعمال الفكر فيه كثيرًا قد ساهم في فاعلية سلطةٍ جماعةٍ معينةٍ[1].

مع الطلب منه بأن يكون ناقدًا بشأن نماذج المنطق الإسلامي التقليدي وفتح النصوص الإسلامية المقدسة أمام التحقيق اللغوي التاريخي والعصري، اقترح أركون على المفكرين الإسلاميين تفكيك التفكير الماضي وكذلك التفسيرات الكلاسيكية

(245)

للنصوص المقدسة. وقد استخدم الطريقة التفكيكية لإعادة بناء تقاليدَ علميةٍ للإسلام الكلاسيكي، فبحسب اعتقاده فإنه من دون الحافز وانضباط الانفتاح على معايير البحث الغربي الحديث، لا يمكن لمعايير المعرفة أنْ تصل حتى إلى الدرجة المتوخاة في نظر الخبراء الإسلاميين التقليديين، المستشرقين، والعالم بأسره.

أوضح أركون، عن طريق منهجه النقدي، بأنّ الاتجاهيْن اللذَيْن حَكَمَا تاريخ الفكر الإسلامي كانا الميل نحو جعل النص والتراث مقدسيْن والميل للكشف عن قدسيتهما. إنّ التفاعل بين الشمولية والتعددية مطلوبٌ من أجل فكرٍ إسلاميٍّ محدَّثٍ. فأزمات المؤسسات الدينية تشير بقوةٍ إلى أنّ الدين يجب أنْ يكون موضعَ ثقةٍ ومبتكِرًا، لا ضائعًا ومشوَّهًا بالسيرورات التاريخية المعمول بها على مرّ القرون من أجل تحريره. لقد أفضى انقلاب الدين إلى مؤسسةٍ هرميةٍ حيث كان المفوض عبارةً عن سلطةٍ تملك حق التحدث عن الحقيقة نيابةً عن السلطة المطلقة، سواءً أكان اللهَ، أم المتسلِّطَ أم آخرين، إلى الحد من التفسيرات المتعددة[1].

وبعيدا عن التفسير الرسمي المشرَّع والمصدّق عليه من قبل المؤسسة المخولة، فإنّ حقيقة التفسيرات الأخرى التي تتم من المستحيل التسليم بها. فالكتاب المقدس الذي انفتح للتفسيرات المتعددة سابقًا أصبح تفسيرًا واحدًا (تفسيرًا أحاديًّا) الامر الذي أدى إلى إنشاء مؤسسةٍ للتحقيق (المحنة (محنة خلق القرآن)) في عهد الخليفة المأمون في الإسلام وفي عصر الاصلاح في المسيحية[2].

(246)

عندما يصبح الدين مؤسسةً تحتكرها سلطةٌ معينةٌ، يفقد طبيعته كدينٍ تحرُّريٍّ، إذْ يُصبح الحصول على تفسيرٍ جديدٍ وحديثٍ بشكلٍ متواصلٍ من أجل إبقائه منفتحًا على الزمن المتغير وإحراز تقدُّمٍ أمرًا صعبًا للغاية، ما يجعل المجتمع بكامله راكدًا. فهيمنة خطابٍ دينيٍّ يُسفر عن هيكلٍ هرميٍّ، وذلك بوضع المسيطر في الموضع المركزي والآخر (الآخرين) في الموقع الهامشي (المحيط) وذلك بإقصاء بعض الخطابات الدينية، أو قهرها وإخضاعها وقمعها[1].

إنّ الاستراتيجيا المطلوبةَ لإعادة تفسير بنية التفسير الهرمية هذه حول السيرورات الدينية المؤسسية ونزع الشرعية عن المزاعم المركزية والأساسية والأولية للخطاب السائد هي الطريقة التفكيكية.

وقد أعلن أركون أنّ استخدام استراتيجيا دريدا التفكيكية بطريقةٍ تكميليةٍ في الخطابات الدينية يمكن أْن تُشكّل وجهةَ نظرٍ جديدةً لدراسة الإسلام وخطاباته بشكلٍ نقديٍّ من خلال التحقيق التاريخي في الممارسات الدينية بشكلٍ غيرِ مباشرٍ وكذلك على الصعيد الاجتماعي لكشف مجال عمل علاقة السلطة. إلى جانب ذلك، فإنّ الجانب العملي لهذه العائدات المنظورة إزاء الأنطولوجيا التاريخية في مجال علاقة السلطة (القوة)، هو أن تكون أساسًا جزءًا من النضال لتحويل الأنواع القمعية من علاقة السلطة (القوة) إلى أنواعٍ إيجابيةٍ.

ولتطبيق استراتيجيا تفكيكيةٍ على نصٍّ دينيٍّ، يقترح أركون ما يلي:

1. «فصل العلاقة الخطية الطولية الأحادية بين النص والمعنى (التفسير)،

(247)

2. جلاء الاعتقاد بوجود علاقةٍ نهائيةٍ بين النص والمعنى،

3. فتح الإمكانية أمام مجموعةٍ واسعةٍ من التفسيرات للنص،

4. اكتشاف طبقات المعرفة التي تغطيها المعتقدات التقليدية المتشددة، و

5. التمييز بين المهم وغير المهم»[1].

النتيجة الاجتماعية الأخرى لتفكيك النص هي كشف احتكار التفسير عن سلطةٍ معينةٍ تتحدث عن حقيقةٍ واحدةٍ باسم الله، أو الدولة أو الحاكم. فالاعتقاد بسلطةٍ معينةٍ يعني أيضًا افتراض الأنا المتعالية[2]  والتي إذا وضعت جانبًا يمكن أنْ تُفسح المجال لكثيرٍ من الاحتمالات بتفسيراتٍ مختلفةٍ ما يجعل العملية ديمقراطيةً ولا يعود هناك من احتكارٍ لأيِّ تفسيرٍ واحدٍ يتمتع بالرعاية.

قام أركون بفصل الأنا المتعالية من خلال مفهوم تاريخية الشعارات. عندما تفقد إحدى السلطات دعمها، تظهر تعددية البدائل التفسيرية. بالتالي، فبتجريده من سيادة وتفوق تفاسيرَ معينةٍ، يصبح النص حيًّا ومنفتحًا على جميع أنواع التفسيرات، حيث إنّ جمود النص في كلِّ من الدين والإيديولوجيا يلد كلَّ أنواع التفكير المجمدة الأخرى في المجتمع.[3]

(248)

إنّ انفتاح الخطابات على النصوص الدينية يؤدي، وبشكلٍ ديمقراطيٍّ، إلى حياةٍ دينيةٍ تحليليةٍ، تعدديةٍ، وديناميكيةٍ تمامًا  للإنسانية.

هذا النهج يختلف عن التحليل لدى عددٍ كبيرٍ من الإسلاميين وعلماء السياسة. وعوضًا عن الالتفات إلى انضباط الإسلام الذي لا يمكن إنكاره كسلطةٍ هرميةٍ، أي كنوعٍ من الشرور الدائمة لقرون والمسيطرة على مصير كل من يعتنق الدين، فإنّه يركّز كليًّا على الإسلام. ويتيح هذا البناء للإسلاميين التحقيق في القوى التي تفرض الأدوار القيادية على كل المستويات في المجتمع، على سبيل المثال الطبقات والجماعات الاجتماعية، المميزون في مقابل الأقل حظًّا، وكذلك النقاشات البينية (داخل المجموعات) الناشئة في الميادين الاجتماعية وكذلك السياسية[1].

وبالتالي يتم تحرير المثقف بشكلٍ متزامنٍ من الروابط الإيديولوجية الضيقة الجوهرية في اختيار دراسة الحضارة على الصعيد الدولي من خلال الأدبيات الذي يتم إنشاؤها وتعديلها من قِبل مجموعةٍ من النخبة أو حصر بحث الشخص بدراسةٍ معمقةٍ عن مجموعةٍ إثنيةٍ- ثقافيةٍ معينةٍ مفصولةٍ عن النهج التاريخي –الاجتماعي الكبير[2]. وللأسف، فإن الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية الساعية للتعامل مع نقاط الضعف والتهديدات الفطرية في كلٍّ من هذيْن النهجين لا تزال نادرةً.

يحاول أركون مواءمة التقليد والحداثة من خلال طريقةٍ جديدةٍ، إذْ يستخدم العديد من المعلقين في أوساط المستشرقين، كما يستخدم باحثون إسلاميون في القرآن نقدًا تاريخيًّا ولغويًّا (ألسُنِيًّا). على سبيل المثال، تؤكّد جاين دامن مكوليف، الباحثة في الدراسات الإسلامية والخبيرة في التفسير القرآني المعروفة دوليًّا، في

(249)

كتابها التأويل القرآني: آراء الطبري وابن الأثير[1]  على طريقة التفسير والأفق الاجتماعي. وقد تحدث المفكر الاسلامي المعاصر الدكتور فضل الرحمن عن ذلك في تفسير الحركة المزدوجة، بينما تحدث عنه أركون في دائرته عن التفكير اللغوي- التاريخي، إذْ يعلن أركون أنّ التفسير المتكامل يربط اللغة والتفكير بجانبهما التاريخي. والمرحلة الأولى من هذا التفسير الهرمنيوطيقي (التأويلي) هي التمييز بين الحقيقة والتزييف والتأكيد على النص الأصلي الأول وكذلك على النص الهرمنيوطيقي. وبتقصده استحضار الفكر الإسلامي إلى الخطاب القرآني، يريد أركون إبقاءَه كله منفتحا على مختلف القراءات بقدر انفتاحه على إحاطاتٍ مختلفةٍ في الوقت نفسِه[2].

إنّ التفكير الإسلامي في أنواعٍ مختلفةٍ من الأدبيات، كنصٍّ ثانٍ أو كنصٍّ هرمنيوطيقيٍّ (تأويليٍّ( يحيط بالنص الأول أو الحدث الأول للقرآن، هو العقبة الرئيسة في مشروع أركون بالإضافة إلى سلوك الطريق لفهم القرآن كما هو[3]. وقد تجاوز أركون هذه المشكلة باستخدام عملية دريدا التفكيكية أو الاستجلاء فضلًا عن استخدام التحليل الأثري لدراسة الآثار التاريخية. وخلال هذه التوضيحات التاريخية بشأن النصوص الهرمنيوطيقية انطلاقًا من تراثٍ فكريٍّ معيَّنٍ، حاول أركون التوضيح ونفض غبار المكان والزمان الذي يغطيها بحيث تصبح العلاقة بين نصوصٍ من مراحلَ تاريخيةٍ معيَّنةٍ، وسياقاتٍ اجتماعيةٍ، وأجيالٍ ومختلف الحركات الفكرية والتاريخية في الوقت نفسِه، واضحةً[4].

(250)

أظهر أركون العلاقة التي لا يمكن فصلها بين التفكير والتاريخ، وبين التفكير واللغة، إذ إن كلَّ فكرٍ إسلاميٍّ لم يعكس الجهود الحية لواقعٍ اجتماعيٍّ- تاريخيٍّ فحسب، وإنما صِيغ وصُمِّم وكُتِب بلغةٍ معينةٍ أيضًا. وأعطى أركون مثالًا على تدبّر القرآن مع تركيز أدوات الهرمنيوطيقا على ثلاثة جوانبَ: النص والسياق ووضع السياق في حلقةٍ متواصلةٍ أثناء التحقيق وفي الوقت نفسه إعادة إنتاج المغزى[1].

وحاجج أركون قائلًا بأنّه يجب إقامة صلةٍ بين اللغة والتفكير والتاريخ ويجب على المجتمعات الإسلامية والدينية أن تكون يقِظةً تمامًا إزاء هذه العلاقة الجدلية. ويؤكد على أنّ القرآن الكريم هو كلماتٌ ولغةٌ وظاهرةٌ ثقافيةٌ ودينيةٌ ناشئةٌ من أوضاعه وظروفه الخاصة: لذلك، لا يمكن أنْ يُسفر عن مغزًى خارجٍ عن سياقه يُحدث وعيًا بنيويًّا[2].

في عام 2002، وفي برنامج مناقشاتٍ على شاشة التلفزيون مع ماري-جاين ديب، المتخصصة بمنطقة العالم العربي، وبرنارد لويس، أحد المستشرقين المعاصرين البارزين، قال أركون:

هناك مثلث أنثروبولوجيٌّ يتضمن انحلال تقاليد الفكر الإسلامية، استخدام القرآن كأداةٍ للنضال من أجل التحرر واستخدام الدين من قبل الحكومات كوسيلةٍ لإضفاء الشرعية على سلطتها. هذه العناصر الثلاثة معًا أدت إلى العنف الموجود اليوم في العالم الإسلامي: يجب استعادة الإسلام كتراثٍ في التفكير، وهو تراثٌ ظهر منذ أكثر من ألف عامٍ في منطقة البحر الأبيض المتوسط[3].

(251)

في وقتٍ لاحقٍ، وبدافع التزامه المستمر بالحوار بين الأديان وكذلك خيبة أمله من المقاربات المؤسفة، أو المجاملة أو المراعية جدًّا لمشاعر الآخرين التي تحكم مثل هذه المؤتمرات، وسّع أركون اهتمامه ليطال الظواهر الدينية واسعة النطاق. ومع امتعاضه من عدم وجود لاهوتيةٍ ناقدةٍ لاستخدام العقل الديني بشفافيةٍ وبصورةٍ صارمةٍ، يطرح أركون مفهوم العقل الناشئ. وتكمن السمة الإيجابية لاستخدام الدين في احتمال وجود تقييمٍ نقديٍّ ثابتٍ لـ أوضاع الفكر الإنساني الثلاثة، أي:

I. الموقف الديني بأشكاله اللاهوتية والأخلاقية والفقهية من التفكير؛

II. الأساليب العلمية والتكنولوجية للتفكير الموجِّه لخطاب العولمة الحالية؛ و

III. المواقف الفلسفية العقلانية أو التجريبية التي ما زالت محبوسةً ومجمدةً في فرضيات الحداثة للعصر الكلاسيكي.

هذا الفهم الناشئ يمكن أنْ يساعدنا في تبيان تاريخ مقارن للاهوتيات الديانات الإبراهيمية الثلاث، وإعطاء الفرصة لحقل العلوم الانسانية والاجتماعية بكامله، وحتى العلمية الدقيقة، إزاء اللاهوت[1].

أصر أركون على أنّ إعادة صياغة الخطاب يجب أنْ تتبع كل عمليةٍ تفكيكيةٍ.

(252)

وبتخليه عن قيود وعدم مرونة الماضي، يقترح أركون طريقتين للإصلاح، أي الاجتهاد والعقل النقدي الإسلامي. ووفقا لأركون، فإنّ قبول التراث الفلسفي الإسلامي والفكر العربي-الإسلامي بدون التحليل النقدي قد أدى إلى أصوليةٍ إسلاميةٍ جامدةٍ صارمةٍ ودوغماتيةٍ. إنّه (أركون) يوظف الأساليب والتقنيات المستخدمة في العلوم الاجتماعية ومفاهيم ما بعد الحداثة كذلك.

إنّ الأسس الابستمولوجية والمنهجية عند أركون والمستعارة من عقلانية ديكارت، ونقد كانط، وبنيوية سوسور، وسيميائية بارتيس وهغيمسليف وغريماس، المدرسة الباريسية، ومفهوم الأسطورة عند بول ريكور، وخطاب وإبستمية ميشيل فوكو وتفكيكية جاك دريدا، قد جمعت الفكر الاسلامي الإلهي بمعظمه إلهيّ (العقل الإسلامي) والفكر الأكثر أهميةً في التفكير الغربي الحديث (الفكر الحديث)[1].

عدَّل أركون أفكار فوكو حول الابستمية والخطاب وعلم الآثار عن طريق تقسيم تطور الفكر العربي الإسلامي إلى ثلاث مراحل تاريخية، أي،  المرحلة الكلاسيكية، الدراسية، والحديثة. على الرغم من أنه لم يأخذ بكل آراء فوكو الفلسفية، إلا أن المصطلح حاز على المعنى المحدد منه، وكثيرًا ما اُستخدم في كتاباته[2].

في كتابيه قراءاتٌ متنوعةٌ في القرآن[3]، الطبعة الثانية، 1991 ونقد العقل

(253)

الإسلامي[1]، 1998، توضح المسائل التالية الموقف:

1. الظاهرة القرآنية والتجربة التاريخية للمدينة المنورة؛

2. الجاهلية، العلم، والإسلام كنماذجَ أنثروبولوجيةٍ؛

3. جيل صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأجيال اللاحقة (الصحابة والتابعون) كشخصياتٍ رمزيةٍ من الذاكرة الأسطورية؛

4. التراث الحي والتقاليد الإثنوغرافية وتشرُّب الموروث كاستراتيجيا إيديولوجيةٍ؛

5. السلطة، والقوة، والبحث عن الشرعية؛

6. العنف والقدسية والحقيقة في الخطابات الدينية والممارسة الجماعية؛

7. النسيان والحذف والقمع كأبعادٍ للتاريخ الثقافي والفكري. و

8. التشدد (في المعتقد التقليدي) بصفتها معالجةً إيديولوجيةً[2].

في مناقشةٍ أخرى عن الإسلام مع بيفرلي غراي، رئيسة القسم الآسيوي والشرق أوسطي، وماري- جاين ديب، المتخصصة بمنطقة العالم العربي، وشارلين سبنسر باين، أعلن أركون أنّ من المهم أنْ نُراجع أوّلًا مفاهيم الإسلام والغرب. وقد أوصى بوجوب أنْ يدوّن الباحثون تاريخًا متعلقًا بحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقال أنّ:

«حوادث 11 سبتمبر/ أيلول عبارةٌ عن عنصرٍ من سلسلةٍ من الكوارث المتأصلة في تاريخ ما بعد الحرب في العالم العربي. على سبيل المثال، إنّ حرب

(254)

الاستقلال في الجزائر (1954-1962) قد استحدثت الطريقة التي استخدم بها المسلمون الدين لا كبنية إيمانٍ وفكرٍ، وإنما كإيديولوجيا معارضةٍ وصراعٍ. وأكد على أن الجزائر مازالت تدفع ثمن تسييسها للدين عقابًا لها».

أشار أركون إلى أنّ المثلث الأنثروبولوجي القائم من العناصر الثلاثة التي وَجّهت بشكلٍ جماعيٍّ سلوك العنف اليوم في العالم الإسلامي يشمل انحلال شعائر الفكر الإسلامي، وذلك باستخدام القرآن الكريم كوسيلِة إبداعٍ من أجل جهود التحرر واستخدام الدين من قِبل الحكومات كوسيلةٍ لإضفاء الشرعية على السلطة.

يجب إستعادة الإسلام كتقليدٍ فكريٍّ، وهو تقليدٌ ظهر قبل أكثرَ من ألف عامٍ في الفضاء المتوسطي. فالإسلام هو جزءٌ من التقاليد اليونانية - الرومانية والتقاليد اليهودية - المسيحية التي ظهرت على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، إذ قام علماء مسلمون بإحياء أعمال الفلاسفة اليونانيين من خلال ترجمة وتدريس مؤلفات أرسطو وأفلاطون، وبالتالي ساهموا في النهضة الأوروبية[1].

كما يحاجج أركون بقوله أنّ الكثير من الكتب عن الأصوليين الإسلاميين لا تسلّط أيَّ نوعٍ من الضوء على الإسلام، بل وتدفع الناس إلى الاعتقاد بأنّ العنف متأصلٌ في الإسلام. فالناس الذين يؤمنون بأن دينهم هو الدين الحقيقي الوحيد غالبًا ما يلجأون إلى العنف ضد آخرين ممن يحملون معتقداتٍ مختلفةً.

خلال لقاء له مع أعضاء الكونغرس الأميركي في 11 أكتوبر/ تشرين أول، ناقش البروفسور أركون مسألة استخدام الإسلام كأداةٍ سياسيةٍ وبعض الأسباب التي تقف وراء صعود الحركات الإسلامية المتشددة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. والتقى

(255)

أركون أيضا مع أعضاء مجلس علماء مكتبة  الكونغرس[1]، خلال اجتماعه الأول لتقديم المشورة للدكتور بيلينغتون حول التعيينات المستقبلية لخمسة مناصبَ رئاسيةٍ رفيعةٍ في مركز مكتبة جون دبليو كلوغ[2]، وردًّا على سؤالٍ من قِبل أمين المكتبة: ما هو الشيء الوحيد الذي تريد أن يعرفه الأميركيون عن الإسلام؟ أجاب أركون بأنّ الإسلام جزءٌ من الأديان التوحيدية الإلهية، وأنّ العلم بأن الشرق الأدنى كان مهد الأديان التوحيدية الثلاث جميعًا (اليهودية والمسيحية والإسلام) يجب أن يمنعنا عن فصل الإسلام، مفاهيميًّا، عن التراث الفكري الغربي.

طرح برونيسلاف غيريميك، العضو في مجلس علماء المكتبة ووزير الخارجية الأسبق في بولندا والباحث في التاريخ الأوروبي في العصور الوسطى في كلية فرنسا، السؤال التالي: إذا كان هناك من عدم ازدراءٍ للحياة البشرية في القرآن، فلماذا يبدو فعلًا أنّ المسلمين لا يقدرون الحياة كثيرًا؟. وأجاب البروفيسور أركون على ذلك بالقول:

«في جميع الأديان والحضارات هناك فصلٌ بين الذين ينتمون إلى التقاليد المتشددة وأولئك الذين هم خارجها. فعلى الرغم من أن محاكم التفتيش الاسبانية[3]» قدّرت عاليًا حياة الكاثوليك ككلٍّ، إلا أنها بخست حياة الكاثوليك الذين اعتبرتهم مهرطقين أو منتمين إلى جماعاتٍ دينيةٍ أخرى. حتى أرسطو، الذي أيد مبادئ الديمقراطية في اليونان القديمة، تقبل مفهوم العبودية لشعبٍ محتلٍّ[4].

(256)

وفي عرضٍ مشتركٍ مع ماري- جاين ديب حول استخدام وسوء استخدام المفاهيم الدينية: الحرب والجهاد في الإسلام ناقش الدكتور أركون

«الطريقة التي تحولت فيها مجموعةٌ من التقاليد الدينية التي لدينا اليوم مع مرور الوقت. فالشعارات الإلهية (كلمة الله) قد تم إحالتها إلى النبي محمد (صلّی اللّه علیه وآله وسلّم) وجُمعت في مجلدٍ يعرف بالقرآن، وذلك بعد وفاته فقط. ولم يتم تنسيق القرآن وفق أيِّ ترتيبٍ زمنيٍّ وكان يفتقر إلى أحرف العلة الأساسية وعلامات التشكيل التي أضيفت في وقتٍ لاحقٍ. كما أن الأحاديث النبوية، أو أقوال النبي (صلّی اللّه علیه وآله وسلّم) ، وهي جزءٌ من اللوازم الدينية التي تشكل التقاليد الإسلامية، قد تم جمعها واختيارها بعد وفاة محمد (صلّی اللّه علیه وآله وسلّم). بالتالي، لقد تأثرت النصوص الأساسية في الإسلام بالأشخاص الذين عملوا على جمعها معا. وبعبارةٍ أخرى، إن التفسير المقدس للنصوص قد تم منذ فجر الإسلام واستمر لعدة قرونٍ»[1].

بعد ذلك قال أركون:

«لقد تم إغلاق مجال التفسير (أو الاجتهاد)، إذ قررت الهيئات الرسمية، مثل الدول، بأنه لن يتم تفسير هذه النصوص بعد اليوم. مع ذلك، استمرت هذه التفسيرات لأن الإسلام  بروتستانتيٌّ من الناحية اللاهوتية  وكاثوليكيٌّ من الناحية السياسية، وهذا يعني أنه في حين أنّ

(257)

الإسلام يمكن تفسيره من قِبل كلِّ شخصٍ يقرأ القرآن، إلّا أنّ الدولة وضعت حدًّا لهذه التفسيرات وسمحت فقط بإصدارٍ واحدٍ للتدريس والنشر»[1].

نقد محمد أركون

كانت أوروبا والغرب مقر إقامة أركون الدائمة في القسم الأكبر من حياته كما كانت مكانا للعلم والعمل، وكانت الفرنسية لغته الثانية بعد الأمازيغية، لغته الأم، والعربية كلغةٍ أولى. وبالتالي فقد تأثر تفكيره ومشاعره وعقله، بشدةٍ، بالفكر والثقافة الغربيين. وفي محاولته حيازة القبول والموثوقية، يبدو أنه أخذ جانب الشرق والاستشراق على حدٍّ سواءٍ. فمن جهة، أصبح صوتًا معبِّرًا عن الاحتجاجات الإسلامية ضد الأحكام المسبقة للفكر الغربي وأبحاثه، في حين يتهم الشرق بظلمٍ مماثلٍ من ناحيةٍ أخرى. فهو يتهم كليهما بمصادرةٍ ظالمةٍ لما يُسمّى الحقائق الشاملة وبتجاهل التاريخ. فما يطلق عليه اسم البعد الإسلامي في فكر أركون يظهر بأنّه واعٍ بشكلٍ خجولٍ لتفوّق الخطاب الغربي ومستترٌ وخاضعٌ له. الى جانب ذلك، يبدو أنّ خبرته الابستمولوجية المعرفية تزدري العمل التقليدي المقرر لباحثين إسلاميين دون أيِّ سببٍ أو رويّةٍ.

على الرغم من كونه مفكرًّا إسلاميًّا، يسعى أركون إلى مساعدة غير المسلمين وغير المتخصصين على إعادة تقييم علاقة الفكر الإسلامي بالنص واللغة والجماعات والسلطة والزمان والمكان لاكتشاف الإيجابيات التي يمكن أن تؤكد فهمًا موضوعيًّا لمجموع التراث الإسلامي. فمشروع تفكيره بما هو محالٌ وما تم إغفاله يهدف إلى إلغاء جميع الإيجابيات في الفكر التقليدي، ما يستلزم تفكيكًا حتى العدم.

(258)

يستخدم أركون أيضًا هذا الانحياز لـ البحث العلمي والتحقيق التجريبي كمنصة قدحٍ وذمٍّ للتراث الإسلامي. فبالنسبة له، يتطلب فهم الإسلام تحليل الطريقة التي تم بها تجاوز الحقيقة القرآنية، أو الاعتراف بها كأساسٍ للشريعة الإلهية وأعلانها حقيقةً عالميةً (شاملةً). وهو يتساءل عن السبب الكامن وراء القبول  النهائي لهذه التفسيرات عن الوحي ونبذ كلِّ فهمٍ بديلٍ. ويَخْلُص أركون إلى أنّ الدولة / الحكومة قد بذلت قصارى جهدها للتقليل من التفسيرات القرآنية وحصرها بمجموعةٍ واحدةٍ من الرموز لا فقط لإضفاء الشرعية على سلطتها السياسية ولكنْ أيضًا لفرض وحدة الإسلام وانتظامه.

موقف أركون من تاريخ الإسلام هو كشف النقاب عما يتم إغفاله من عالم الكلمات[1] والتحقيق في الأوضاع الحدودية للمحيط المختلط عرقيًّا من منطقة البحر الأبيض المتوسط​​. كما يشارك أركون أيضًا طموح حنفي لتطبيق هذه الاكتشافات على التحقيق في الظاهرة الدينية بشكلٍ عامٍّ، وبالتالي الإضافة إلى أنثروبولوجيا الدين.

 استرشادًا بالتاريخ والمنهجية، عوضًا عن الإيمان، يريد بحث أركون المتطرف التخلص من كل التراث الإسلامي وكذلك البنى المقدسة والبنى الغيبية الموروثة وإعادة طرحها في قالب العلوم الاجتماعية الحديثة. وباهتمامه أكثر بمسائل المنهجية والإبستمولوجيا، يريد أركون الموثوقية من أجل أسسٍ جديدةٍ في الذاكرة الجماعية المُعاد بناؤها للمجتمع. وهذا يجبر زميله والمترجم روبرت د. لي على استنتاج ما يلي:

«هناك، من خلال عمل أركون، تتردد أصداء إيمانٍ أساسيٍّ بالقدرات التي تُسفِر

(259)

عن الحقيقة - إن لم يكن في هذه المرحلة، ففي المرحلة التالية إذا – مرحلة العلوم الاجتماعية الحديثة»[1].

هذا الالتزام من أركون لمفهومٍ تجديديٍّ للحقيقة يُضعف أبحاثه التاريخية التي تعتمد بشكلٍ كبيرٍ على تقنية التفكيكية وما بعد الحداثة. ولهذا، فإنّ حتى هاشم صالح، المترجم لدى أركون، ينتقده أيضًا بطريقةٍ ثاقبةٍ وقاسيةٍ:

 كان العلم يعني، عادةً، مؤثِّرًا خارجيًّا وفكرةً غامضةً، وكرست العلوم الاجتماعية الحديثة ذاتها لترجمةٍ خارجيةٍ - وبالتالي، مفهومةٍ في زمانٍ ومكانٍ مختلفيْن - ما هو في البداية داخليٌّ ومحدَّدٌ زمنيًّا. ويدعو أركون العلوم الاجتماعية إلى فهم ما هو متخيَّلٌ ومتصوَّرٌ[2] – ما يعني ترسبات الوعي والقناعة التي تحكم الكثير من السلوك في أيِّ مجتمعٍ - ولتحقيق، إنْ أمكن ... قراءةٍ مباشرةٍ وإجماليةٍ للواقع[3].

في الواقع، إنّ العلم، الذي أقيم بحد ذاته على إجراءاتٍ عابرةٍ للتاريخ وبديهياتٍ، عرضةٌ بالقدر نفسِه لدراسةٍ نقديةٍ للنوع التأريخي. وعلى الرغم من كل حنكته المنهجية وإلمامه بالفكر التقليدي والحديث، يبدو أركون إما ساذجًا بخصوص مشكلة النسبية المرتبطة بالتاريخية، أو أنه يتظاهر بذلك ببساطةٍ لاتخاذ واجهةٍ خادعةٍ عن طريق التنصل التالي:

 «لا يوجد شيءٌ اسمه خطابٌ بريءٌ أو أسلوبٌ بريءٌ»[4].

(260)

«بالعمل من منظورٍ محدّدٍ في التاريخ، فإن طريقة أركون عرضةٌ أيضًا للتمييع المتحلل للتاريخانية (النزعة التاريخية). وبالتالي، فإنّ ابستمولوجيا أركون وتأصيل الوعي بالحداثة وما بعد الحداثة، على حدٍّ سواءٍ، في مأزقٍ مشتركٍ. وبعد الإطاحة بالموضوع الإسلامي الغيبي، يُخفق بحث أركون الابستمولوجي، وببساطةٍ، في العثور على أيِّ فكرةٍ معياريةٍ في التاريخانية الراديكالية. وهكذا يبدو أركون مفتونًا برأيه الشخصي»[1].

إنّ تأثير الفلسفة الفرنسية الكبير على كتابات أركون نجده بشكلٍ خاصٍّ في تطبيقه فكر ميشيل فوكو لدراسة الشريعة الإسلامية والتقاليد الفلسفية. فهو يعتقد أن دراسة الإسلام يجب أن تتحرر من احتكار التفسير المحافظ للإسلام الذي  تمارسه المؤسسة الدينية برعاية الدولة. وبدعوته إلى التفكير الجريء، الحر، والمثمر، يحبذ أركون تفاسيرَ متعددةً للتراث والنص، ويقترح، وبقوةٍ، التعددية الثقافية والعلمانية، وإن كان بدون استخدام كلمة العلمانية/ الكفر.

في خريف عام 2003، مثّل أركون المسلمين جنبًا إلى جنبٍ مع عالمة الاجتماع حنيفة الشريفي، في لجنة ستاسي الرئاسية المؤلفة من عشرين شخصًا والمعيَّنة من قبل الرئيس الفرنسي جاك شيراك لاقتراح خطواتٍ من أجل حماية اللا دينيين في مقابل الحضور المتنامي للرموز الدينية في المدارس والمباني العامة الرسمية. وكان أن تعرضت توصية اللجنة بحظر ارتداء أيِّ رمزٍ دينيٍّ واضحٍ في المدارس والمباني العامة الرسمية لهجومٍ في البلدان الإسلامية، واتُّهم أركون بالاخفاق في الدفاع عن الموقف الاسلامي من هذه القضية.

(261)

يبدو أنّ المنهجية هي مصدر القلق الرئيس لدى أركون. فهو لا يشكك فحسب في أصالة (موثوقية) القرآن بل ويشكك أيضا بادعائه الحقيقة. واستنتاجًا من نماذج خطابية ما بعد الحداثة، فإنّه مصمِّمٌ على اكتشاف آليةٍ تفسيريةٍ لا تفرز تاريخ القرآن فحسب، بل وتعزّز أيضًا تاريخ الأفكار عن طريق إنتاج فهمٍ أفضلَ للقرآن. إنّ خطاب أركون النقديّ حول تاريخ الوحي هو الأكثر تطرُّفًا بين المفكرين المسلمين المعاصرين. وبوضعه القرآن الكريم على قدم المساواة مع الكتب المقدسة للديانات الأخرى كتراث للإنسانية بأكملها، فإنه يعتبر الطريقة التاريخية جزءًا لا يتجزأ من اللا فكر (الإغفال) في البحث الإسلامي. وهو يعلن أنّ مثل هذا الممارسة التي هي بالفعل عنصرٌ من عناصر الأنشطة  الاجتهادية لزعزعة طريقة التفكير التقليدية لن تضر بالقرآن بأيِّ طريقةٍ[1].

يعمل أركون على حادثة الوحي من وجهةِ نظرٍ عامةٍ، إذ تطرح نظرية تفسير القرآن الكريم التي يُقدمها سؤالين هرمنيوطيقيين رئيسيين. السؤال الأول هو السؤال الأنطولوجي الذي يتساءل عما هو القرآن أو ما الذي يجب تفسيره. والسؤال الثاني هو عن المنهجية التي تبحث كيفية القيام بتلك المهمة.

وبالمثل، وفي ما يتعلق بأنبياء الله، يقارن أركون ظهورهم في العالم بـ إنتاج الرجال العظماء في التاريخ[2]. وهو يعتبر الدافع النفسي الاجتماعي الذي استخدمه الأنبياء لتنظيم وتحفيز دولهم أكثرَ أهميةً من مضمون وروحية رسالتهم. وبالفصل

(262)

بين البطولة والكاريزما والقداسة من عصور النبوة، يحاول أركون أن يجعل الله غيرَ فعّالٍ في التاريخ بحيث إنه لا يتمكن فحسب من التهرب من الالتزام بالخضوع لمراده، بل ويُبقي أيضا على استقلالية عقل الإنسان. لهذا السبب يُشيع ويُروّج إلى أنّ الأنبياء لم يحملوا أيَّ معاييرَ من السماء تجعل الناس يمارسونها ويرددونها إلى ما لا نهاية، وإنما جاؤوا فقط لـ طرح معاني الوجود، وهي بالتأكيد مفتوحةٌ للتعديل والمراجعة ضمن تركيبة العقل الموعود والممنوح للإنسان. في هذا السياق، يرتكب أركون خطأ نقل مثال النسخ / الإلغاء لدعم فكرته عن ذاتية المعنى في التاريخ[1].

في محاولته للحد من تأثير الوحي الإلهي وكذلك من دور أنبياء الله في تشكيل مصير البشرية، يقوم أركون بإسقاط تأثيرهم العظيم وإلهامهم على مفهومه عن التزام المعنى تجاه رسالة الله، ورسله والصالحين المتدينين الذين اتبعوهم في كل العصور والأزمنة. وبالتالي فإنّ هذه الثلاثية كلها يتم تحويلها إلى مصادرَ رئيسةٍ ومحترمةٍ للإلهام بالإضافة إلى اعترافٍ أخلاقيٍّ بكونهم ملتزمين بعملهم العظيم بإصلاح المجتمع المتحلل[2]. بيد أنّ، وعلى عكس اعتقاد أركون بأن الأنموذج النبوي كان صالحا فقط ضمن أبسمتية تفضل الأسطورة على التاريخ، والروحانية على الفلسفة الواقعية، والخيال على العقلانية، كان المسلمون في جميع أنحاء العالم، ينظرون، وعلى الدوام، إلى حدث النبوة وإنجازات النبي محمد صلى الله عليه

(263)

وسلم نظرةَ تقديرٍ عاليةً مع القناعة بأن اتّباع خطاه سيؤدي بهم إلى التقدم والازدهار بينما الابتعاد عن تقاليده سيزيد من سوء حالهم.

وفي تناقضٍ مع نفسه، يعترف أركون، في محلٍّ ما وهو يعطي وصفًا لظاهرة الوحي، بالتالي:

«الوحي عبارةٌ عن خطابٍ موجَّهٍ نحو العمل والتطبيق. إنه يؤثّر بفعاليةٍ واستمرارٍ على التاريخ البشري لأنّه يقدّم حلولًا عمليةً للهواجس النهائية لوضع الانسان. ونعني بـ الهواجس النهائية الحياة، الموت، العدالة، الحب، السلطة الشرعية (أو الهيبة)، السلطة الظالمة، العلاقات الاجتماعية، السمو (الغيبي)، وما إلى ذلك. ويفي القرآن بجميع الاحتياجات ويملأ هذه الوظائف بأفضلِ طريقةٍ. وقد انتشر بين مختلف الشرائح والمجتمعات حيث برهن عن سلامة حلوله وأنموذجه المثالي، وقوة حججه ضد القيم الزائفة والسلطات الاستبدادية والسلوك الخاطئ»[1].

يرى أركون أنّ القرآن يعيد تأسيس رموزٍ قديمةٍ متعارضةٍ بمنظومةٍ بديلةٍ، في حين أنّ العقلانية الوضعية (الواقعية) تنتقد جميع أنواع الرموز والأساطير وتبدلها بمفاهيمَ علميةٍ. وهذا سببٌ آخرُ يُقدّمه لاستحالة العودة إلى الزمن والأنموذج النبوي. وبالتالي، فهو يعتقد أن علمنة الرسالة النبوية أمرٌ لا مفرَّ منه.

يقسم أركون الوحي الإلهي إلى مستويَيْن. ووفقًا له، المستوى الأول هو أنموذجٌ من الكتب يشار إليه باسم أمّ الكتاب في القرآن الكريم [2] في حين أن المستوى

(264)

الثاني هو الإصدارات الدنيوية بما في ذلك الكتاب المقدس، القرآن، إلخ. وعلى المستوى الأول، يحمل الوحي الأبدي والخالد / أم الكتاب / الكتاب السماوي الحقيقة المطلقة وإن كانت بعيدة المنال بالنسبة للإنسان، آمنةً في اللوح المحفوظ مع الله وحده. ويعرف بها البشر فقط من خلال المستوى الثاني الذي غالبًا ما يمرّ بالعديد من التعديلات، المراجعات، والبدائل.

من ثمّ فإن الكتاب السماوي متيسرٌ للمؤمنين فقط من خلال النسخة المدونة من الكتب أو الكتب المقدسة ... ثم يتم إخضاع هذا الجانب الثاني من الكتاب لجميع قيود التاريخ التعسفية، [1] الذي بدوره جعل الحقيقة في القرآن نسبية وقولبها. ووفقًا لأركون، يتحمل المؤرخون الحديثون مسؤولية الكشف عن تاريخية قدسية الأحداث القرآنية من أجل تأْريخ ما لم يتم تأْريخه بشكلٍ منظَّمٍ[2].

أما المجموعات الثلاث لقواعد قراءة / تفسير القرآن أركون فهي:

1.  التفسير الأنثروبولوجي التاريخي

2.  التفسير اللغوي-السيميائي والأدبي

3.  التفسير اللاهوتي- التأويلي أو الديني

 يعني أركون بالتفسير الأنثروبولوجي التأريخي أن يربط القرآن بخلفيته في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع. فالحقيقة الراسخة عن الوحي هي أنّ القرآن كان قد تنزّل شفويًّا أوّلًا وبأنّه طوال فترة حياة النبي صلّی اللّه علیه وآله

(265)

وسلّم لم يتم جمعه في شكل كتاب على الرغم من أنّه كان مدوَّنًا في مسوداتٍ وكان يتلوها ويحفظها غالبيةٌ كبيرةٌ من المسلمين. لكنْ لدى أركون تاريخٌ مختلفٌ تمامًا، فهو يقسّم تاريخ القرآن مرةً أخرى إلى فترتين: الفترة التكوينية للوحي عندما تم نشر القرآن شفويًّا في مكة المكرمة والمدينة المنورة والفترة اللاحقة من الجمع والتثبيت التي تمتد من زمن وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصولًا إلى القرن الرابع الهجري والقرن العاشر الميلادي (4/ 10) حتى جمع كامل القرآن. ويشير أركون إلى القرآن في فترته الأولى باسم الخطاب القرآني والخطاب النبوي بينما يشير إليه في عمليته الانتقالية الثانية وانتقاله الثاني باسم المتون (المدونات) الرسمية المقفلة[1].

يعرّف أركون القرآن بأنّه متنٌ كاملٌ ومفتوحٌ باللغة العربية لا يمكننا الوصول إليه إلّا من خلال النص المثبت بعد القرن الرابع الهجري أو القرن العاشر الميلادي (4/10)[2]

ويُعلن أركون أنّ القرآن الكريم ككتابٍ مقدَّسٍ هو أكثرُ أصالةً وموثوقيةً في صيغة خطابه ممّا كان عندما اتخذ شكْلًا مدوَّنًا ككتابٍ دنيويٍّ مجرَّدٍ. لقد اعتبره منفتحًا على جميع المعاني في شكله الشفوي. وهو لا يعتقد أنّ المصحف / الكتاب الرسمي المدون يستحق المكانة المقدسة الممنوحة له بصفته خطابًا إلهيًّا صادرًا عن الله.

مع ذلك، وفي تحوُّلٍ مفاجئٍ في الكتاب نفسِه فإنه يصرح بأنّ تمييزه بين

(266)

الصيغتين الشفوية والمدونة للقرآن لا تجعل إحدى الصيغتين أكثرَ أصالةً وموثوقيةً من الأخرى. هذا يعني فقط أنّ شهود العيان للوحي كان لديهم امتياز الوصول الشامل والسهل إلى معناه أكثر من المتلقين اللاحقين له في صيغته المدونة.

في الواقع، إن أركون مربكٌ ومشوَّشٌ للغاية حول كلِّ شيءٍ بحيث إن هاشم صالح، وهو أفضلُ مترجِمٍ شفويٍّ لديه، يعترف بأنه غيرُ واثقٍ مما كان يقصده، إذ كان على هاشم صالح، مترجمه الشفوي المفضل، أن يضيف تعليقاتٍ موسعةً لتوضيح أفكار أركون. في الحقيقة إن حاشية الكتاب التي وضعها هاشم عن الفكر الأصولي واستحالة التأصيل: نحو طريق آخر للفكر الاسلامي تستهلك حوالي ثلث الكتاب.

يُروّج أركون لـ التفسير اللغوي- السميائي والأدبي للقرآن الكريم للكشف عن تاريخ لغة القرآن ومحتواه على حدٍّ سواءٍ. فهو يتساءل ويشكّك بما هو منسوبٌ إلى القرآن من قدسيةٍ وروحيةٍ وغيبيةٍ لأنّ كلماته تخضع لتأثير التاريخية[1].

فهو لا يوافق على الممارسة العامة للمسلمين في مرجعيتهم إلى القرآن الكريم في حياتهم الروتينية ويدعوه بـ  التطويع السيميائي والأصولية ما يجعل المسلمين يفصلون القرآن عن سياقاته الاجتماعية والتاريخية واللغوية ويفرضون سياقاتهم ذات الصلة لجعل القرآن الكريم ملائمًا لوضعهم/ وقائعهم.

وبما أن اللغة القرآنية تتكون أيضًا من علاماتٍ ورموزٍ، فإنها تشير أيضًا إلى الأشياء والمواضيع من خلال الأحكام المتقلبة والتقليدية ضمن مجتمعٍ بلا رابطٍ

(267)

طبيعيٍّ مع المدلول[1]. وبتشكيكه في صحة وفائدة القراءات التقليدية المختلفة أيضًا، فإن أركون يتناولها لتكون مجرد قواعدَ ومعاييرَ للمجتمع المسلم لا على أنها المعنى الحقيقي للقرآن. هذا هو السبب في أنه يرى أن من المطلوب حاليًّا، في ظل الاحتياجات ومعايير المجتمع المعاصر المتغيرة، وجود قراءةٍ جديدةٍ وتفسيرٍ جديدٍ (للقرآن).

تؤكد المؤلفات العلمية القديمة أنّ القراءاتِ الأصيلةَ إلهيةٌ كما قال عنها النبي صلّی اللّه علیه وآله وسلّم. وتعدد الخيارات يجعل التطبيق أو القراءة أسهلَ عوضًا عن كونها إشارةً عن خياراتٍ غيرِ محدودةٍ لقراءاتٍ بديلةٍ. وفي حين أنّ العديد من التعليقات على القرآن الكريم وكذلك العديد من العلماء يسلمون بحتمية إعادة تفسير القرآن الكريم في ضوء التغييرات التاريخية[2]، يريد أركون تفكيكًا جديدًا لإشارات ورموز القرآن لأن المسلمين الأوائل، بحسب تعبيره، كانوا قد فكوا رموزها من خلال القرءات والتعليقات. في هذا الصدد، يقول أركون بأن القرآن عبارةٌ عن عملٍ مؤلَّفٍ من علاماتٍ ورموزٍ تصور المعاني اللا نهائية، المفتوحة للجميع ويمكن تفسير نصه بطرقٍ لا حصر لها[3].

وبالتالي يشير التحليل السيميائي الهرمنيوطيقي لأركون إلى:

«فهم مجموعةٍ من الإشارات المرتبة في مجموعةٍ نصيةٍ متماسكةٍ. هذا

(268)

الفهم سوف يكشف عن جوانبِ نصٍّ معيَّنٍ أو تنصيصٍ ولكن دائما في ما يتعلق (أو في سياق) نصوصٍ أو تنصيصٍ بديلٍ»[1].

وفقًا لأركون، فإنّ النوع الأخير من القراءة، التفسير اللاهوتي- التأويلي أو الديني للقرآن، يجب أنْ يستند بشكلٍ حصريٍّ إلى نتائج أوّلَ نوعين من أنواع القراءات. لأن المشاكل اللاهوتية لا بد وأن تظهر إذا استمر الشخص بقراءة القرآن كنصٍّ إلهيٍّ.

إن الايمان العقلاني الذي يستند إلى الصراع بين الإبسمتية (النظام المعرفي) في نقطةٍ معينةٍ والمشاكل التي يطرحها النص الديني، أي بين التراث والتاريخ، أمرٌ مطلوبٌ للقيام بهذا التفسير الثالث للقرآن. وكما كل أنواع القراءات ذات المنحى الإيماني، تشكّل القراءات سياجًا عقائديًّا، وبالتالي، فإنّ التأويل البدائي للتحفة الملحمية يشكّل إضافةً للتطور التاريخي لـ التراث الحي. ويصفها أركون بأنها «قراءةٌ طقوسيةٌ» ويعتبر أول قراءتين مقترحتين أكثرَ أكاديميةً وتعقيدًا[2].

ويقدّم أركون توصيته فقط بـ اللاهوت العلماني المحبذ لديه لهذا التفسير الديني. كما أنه لا يقبل اعتقاد الأغلبية بأن الإسلام لا يفصل الروحانية عن التجديف. عوضًا عن ذلك، يعلن بأن العلمانية مدمجةٌ في الإسلام. وتمامًا كما استمد هارفي كوكس تبريراته للعلمانية من الكتاب المقدس، [3] يصرّح أركون أيضًا

(269)

بأن العلمانية متضمنةٌ في القرآن وفي تجربة المدينة المنورة [1]، وهذا ليس استنتاجًا منطقيًّا يستند إلى الحقائق التاريخية وإنما فكرةٌ مسبقةٌ ومتحيزةٌ للمؤلَّف. وفي مقال الإسلام والعلمانية، يعلن أركون عن نواياه وأهدافه في هذا الصدد بوضوحٍ تامٍّ.

من الضروريّ لنا أن نفكّك العقيدة المغلقة من الداخل. هذا الأمر غيرُ ممكِنٍ حتى نبحث عن تاريخٍ حرٍّ يمكن وحده أنْ يقودنا إلى مدخل علمنة الإسلام [2].

أما الدكتور عبد الكبير صالح من الجامعة الدولية في ماليزيا فيتهم أركون بحرف وتشويه الحقائق التاريخية لتتناسب مع أهدافه. ويبدي الملاحظة التالية:

إذا نجح أركون في تجنّب القراءة ذات المنحى الإيماني من أجل التهرّب من عقائد السنة والشيعة فقد وقع باالتأكيد فريسةً للاهوتية العلمانية بعقائدها الخاصة[3].

تعليقًا على نظرية أركون التفكيكية لـ العقل الإسلامي والإغفال (اللا فكر)، يكتب جون وانسبرو فيقول: للأسف، إنّ المرء لم يتعرف بعدُ إلى أيِّ مجالٍ عمليٍّ[4]. ويقول علي حرب، في إشارة إلى هاجس أركون الرئيس، أي أسلوبه، ما يلي:

«أسلوب أركون يفتقر إلى الإبداع والترابط، وقراءاته لا تثري تاريخ الفكر سواءً عند المسلمين أو المستشرقين»[5].

(270)

وفي إبداءٍ لرأيه حول قراءات أركون السيميائية للقرآن، يقول أحمد العلوي ساخرًا:

«لو بذل كل الإنس والجن جهودًا متضافرةً لتطبيق قراءة أركون السيميائية، فإنّ ذلك لن يؤدي إلى تطور المسلمين»[1].

حتى أركون نفسه شعر بخيبة أملٍ كبيرةٍ عندما اعترف قائلًا:

«لم يشاركه أيُّ باحثٍ من المستشرقين أو أيٌّ من الدراسات الإسلامية المفهوم الذي ابتدعه منذ فترة طويلة للقرآن، باسم المتون المنغلقة الرسمية وأن نقاشاته المنهجية قد تم إهمالها إلى حدٍ كبيرٍ»[2].

وفوق كلِّ شيءٍ، فإنّ العلماء المسلمين والمعلقين على القرآن يُقرّون بالإجماع بأنّه لا يحقّ لأحدٍ أن يفسّر آيات القرآن بحسب وجهة نظره وآرائه الشخصية المنحرفة عن المبادئ والمعايير المقبولة للقيام بذلك. ويتم سرد العديد من الأحاديث/ الموروثات الموثوقة حول هذا الموضوع. فمثلًا:

وفقا لمصادرَ موثوقةٍ، يُعتقد أن النبي الكريم صلّی اللّه علیه و آله وسلّم  قد روى:

1. من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار [3] .

2. من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ.

(271)

ويقال بأن أبَا بكرٍ قال: «أَيُّ أَرض تُقِلُني، وأَيُّ سماءٍ تُظِلُّنِي، إذا قلْتُ فِي الْقرآن ما لا أَعلم!»[1].

يشرح العالم الإسلامي الكبير الإمام الغزالي حرمة تفسير القرآن بالرأي من حيث إنه محرمٌ على الرسول صلّی اللّه علیه وآله وسلّم  نفسه. فيقول:

هناك سببان لتحريم تفسير القرآن بالرأي:

1. كلُّ شخصٍ له رأيه الشخصي في ما يتعلق بكلِّ مسألةٍ وفي الواقع هو يميل إلى هذا الرأي.

2. كلُّ مفسِّرٍ يشرح القرآن حسب رغبته ومشيئته خدمةً لغاياته الخاصة[2].

استنتاج

يشير الإرث الفكري للعالم الإسلامي بجلاءٍ بأن هذه المغامرة ليستْ فريدةً. فبمواجهتهم الأفكار الجديدة والمعارضة الناشئة من باكورة الثقافة الإغريقية والثقافات الأخرى، أظهر الباحثون المسلمون بالفعل كفاءةً مذهلةً في المواجهة فضلًا عن استيعاب تلك الأفكار، وشرح أرضيةٍ ميتافيزيقيةٍ جديدةٍ من أجل فهمٍ شاملٍ للإنسان والعالَم[3].

(272)

هذا هو السبب في أنّ المداولات الجارية في يومنا هذا عن عصر ما بعد الحداثة يجب أن تتم بالتوافق مع السياق التاريخي للممارسة العلمية الإسلامية. بادئ ذي بدءٍ، إنّ المعرفة الحديثة يجب أنْ تقع في سياقها التاريخي لأنّ مغزى المعرفة نفسها قد جرى التعمية عليه من زمنٍ تاريخيٍّ إلى آخرَ وتم تشكيل أصل هذا المغزى من خلال الرؤية الخاصة لكلِّ شخصٍ وعلاقته بالعالَم. بالإضافة إلى ذلك، لقد أسفرت التفسيرات الغربية ما بعد الحداثية وتطبيقات الأفكار حول المعرفة والتقدم والتطور[1] عن اختلاط الإنجازات المدهشة مع الكوارث الشديدة التي لا تُغتفر، إذْ يجب على الحضارة الغربية في مرحلة ما بعد الحداثة معاودة الحوار مع الإسلام لاحياء نفسها والإنسانية بشكلٍ عام. بهذه الخلفية يجب أنْ نفكّر ونتأمّل بالطرق التي يمكن فيها لوجهات النظر العالمية للغرب والإسلام أنْ تتداخل ببعضها بحثًا عن موقعٍ مناسبٍ يجعل تفاعلها مثمرًا وديناميكيًّا.

ينبغي الإلمام بالتنوع التقليدي للفلسفة الإسلامية وكذلك بالأفكار الفلسفية المعاصرة للغرب؛ لا يرفض الفلاسفة المسلمون المعاصرون وجهة نظر الغرب بالكامل، كما أنهم ليسوا غارقين بالغرب تماما[2].

المسلمون جميعهم مستعدون لدراسة الرؤية الغربية مع معالجةٍ نقديةٍ تعتمد نهجًا بعيدَ الأمد لتطوير ثقافةٍ وإبداعٍ غيرِ غربيٍّ إلى جانب التخلص من عقدة التفوّق في الغرب. وبدلًا من اعتبار الفكر والحضارة الغربية مصدرًا للمعرفة، فإنّه يجب رصده، وتأريخه، ودراسته كغايةٍ معرفيةٍ لوضعها في حدودها الجغرافية

(273)

الصحيحة. ومع ذلك، يجب توخّي الحذر من أنه في محاولة التحرّر من هذا النيِّر القديم وكي لا نصبح محاصرين بالفكر والثقافة الغربيين، قد نقع فريسةَ فخٍّ جديدٍ أو نِيرٍ آخرَ.

يجب تأسيس علاقةٍ جديدةٍ ومباشرةٍ مع الواقع دون أيِّ وسيطٍ، وتحدي الاحتكار الغربي للتنظير، وإجبار الآخرين على تفسير عملهم ببساطةٍ، ورؤية الواقع من خلال الفكر والبنية الفلسفية الغربية. نحن بحاجةٍ إلى طرح نسختنا الخاصة من الواقع؛ الحالية والعملية، وتحويلها إلى نصٍّ/ خطابٍ جديدٍ ليكون قادرًا على التخلّص من الاستعمار، والأسر، والشقاق، والحالة غير المتطورة لرأس المال البشري والاجتماعي، والغربة، والفساد، والتلوث، والدمار الشامل للموارد المادية والأخلاقية، والدمار الشامل للقيم والمعتقدات.

يقاوم المسلمون فكرة ما بعد الحداثة بأنّ كلَّ شيءٍ عبارةٌ عن بناءٍ اجتماعيٍّ لأنّه إذا كانت تلك هي الحال عندها لا يعود القرآن الكريم إلهيًّا وسوف تصبح كل مفاهيمنا الأساسية التي تشكّل رؤيتنا للعالم بلا معنًى لأنّها كلها ما هي إلا بنًى اجتماعيةٌ أنشأها أولئك الذين كانوا في السلطة في ذلك الوقت من التاريخ. وبالمثل، فإنّ المفهوم بأنه لا توجد حقيقةٌ موضوعيةٌ، وأنّ جميع الأديان بما في ذلك الإسلام هي، وببساطةٍ، عبارةٌ عن بنًى اجتماعيةٍ، وحقائقَ من صنع الإنسان مستكمَلةٍ بأفكارٍ وأيديولوجيَاتٍ أخرى خلقها الإنسان، وأنّ الإسلام ليس الحقيقة المطلقة لكل الأزمنة الآتية حتى يوم القيامة، لا أساس لها أيضا.

بقدر شعورنا بالقلق من إنكار الحداثيين لجميع الروايات الكبرى، فإنّنا نعلن وحدانية الله وحقيقة دينه وأنبيائه ووحيه. لذلك، وبصرف النظر عن القرآن الكريم والمجموعات الموثوقة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم،

(274)

وهما المصدران الذاتن تُعتبر حقيقتهما ونهائيتهما راسختيْن ومعترفًا بهما بلا شكٍّ، فإنّ ما تبقّى من المجموعة الكبيرة من الأدبيات الإسلامية المستندة إلى تفسيرات/ تفكير الإنسان يمكن وضعها في سياق الصرامة التفكيكية و/ أو غيرها من التحليلات النصية في إطارٍ فلسفيٍّ وسِيَرٍ ذاتيةٍ أكبرَ باستخدام الأنثروبولوجيا، وعلم النفس، وعلم الاجتماع والتاريخ، وما إلى ذلك. فضلًا عن ذلك، يجب على الباحثين المتحمسين، والمستعدين، والمبدعين في الدراسات الإسلامية أنّ يواصلوا تقييم عمل بعضهم البعض من خلال نهجٍ متعددِ التخصصات.

لقد طلب النبي الكريم صلّی اللّه علیه وآله وسلّم  بالفعل من جميع الحاضرين، بما في ذلك كبار صحابته، خلال خطابه بمناسبة موسم الحج الأخير، تمرير رسالته إلى كل الذين لم يكونوا هناك في ذلك اليوم، مضيفًا أنّ هؤلاء قد يثبتون بأنّهم أفضلُ لجهة الاستماع إلى أوامره وفهمها وتنفيذها. وهذا يعني إمكانية وجود تفسيراتٍ متعددةٍ وأفضلَ لأقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. فالتحديات الثقافية التي تفرضها مرحلة مابعد الحداثة في شكل الاستعمار، والنشوئية (نظرية النشوء والارتقاء)، والعقلانية، والتجريبية، والوجودية، واللاأدرية، والفردانية، والعَلمانية، والرأسمالية، ومذهب الإنسانية، والعدمية، والتفكيكية وما شابه، هي مسائلُ لا يمكن الإجابة عليها إلّا فكريًّا وفلسفيًّا فقط.

في الختام، يمكن تلخيص النتائج الرئيسة حول تأثر المسلمين المعاصرين بالفكر الغربي مع إشارةٍ خاصةٍ إلى عملِ وفكرٍ أركون كرمزٍ تمثيليٍّ لهذا الفكر على النحو التالي:

· كونه طالبًا ومعلِّمًا في جامعة السوربون بباريس مع إقامةٍ دائمةٍ في فرنسا، فإنّ فكر أركون وعمله ليسا منفتحَيْن ولا محايدَيْن.

(275)

· تبنّى أركون وجهةَ نظرٍ غربيةً بسلخ نفسه عن أصوله.

· أعماله الفرنسية الغزيرة غيرُ معروفةٍ أو غيرُ مترجَمةٍ بغالبيتها.

· فكرهُ إبَاحِيٌّ وعَلمانيٌّ.

· لا يزال هدفُه غيرَ واضحٍ بخصوص ما إذا كان يريد التركيز على الدراسات القرآنية أم على الدراسات المنهجية.

· يدرس القرآن فقط من أجل المنهجية.

· هو على استعدادٍ لتطبيق الأساليب/ النظريات القاصرة وغير الناضجة الموضوعة في الغرب على التراث الاسلامي.

· يريد ويتوقّع من القرآن أن يعطيَ مفاهيمه المسبقة شكلًا صلبًا.

· يقدم سرديةً جديدةً تمامًا عن تاريخ القرآن.

· لا يتورع عن ليّ التاريخ أينما كان ذلك يناسب غايته.

· يجرؤ على التشكيك بصحة القرآن، ورواية القرآن عن ذاته وصدقه.

· يعترف بحقيقة أمّ الكتاب/ الوحي ولكن فقط على مستوًى أبعدَ من متناول الإنسان.

· يعترف بصحة ومصداقية القرآن الشفوي فقط الذي ضاع إلى الأبد ولا يمكن استرداده.

· في هرمنوطيقيته، هناك شعورٌ عميقٌ بالغموض الذي يُربك القارئ أيضا.

· معظمُ أعماله جافةٌ بالنسبة للقارئ بسبب الاستخدام المفرط للغة الصعبة،

(276)

التعبير الغامض، العديد من الكلمات / المصطلحات الأجنبية ومجموعةٍ أخرى من المصطلحات غيرِ المألوفة/ التقنية، التكرار، التناقضات، والغموض.

· القراء غير الملمين بالسيميائية / التفكيكية يعتبرون كتاباته مؤلَّفًا رياضيًّا لا تحليلًا نصيًّا.

· عمومًا، يسود الانطباع السلبي عن عمله حيث إن المبتدئين والخبراء في هذا المجال يخيب ظنهم من عمله.

· بدأ هو نفسه في نهاية المطاف يشعر بأنّ المثقفين والباحثين إمّا قد تجاهلوا أو أنهم قد رفضوا أفكاره وكُتبه حيث إنه لا قيمة لها.

قال الفيلسوف الدنماركي، سورين آبي كيركيغارد، «إن الناس يطالبون بحرية التعبير للتعويض عن حرية الفكر التي يتجنبونها»[1].

إذًا، الأمر يتعلق أساسًا بحرية التفكير أكثرَ من أيِّ شيءٍ آخرَ ضروريٍّ للتحرّر من الطريقة التقليدية في التفكير وتفسير الأشياء بالإضافة إلى اكتساب القدرة على التفكير في ما هو محالٌ وغيرُ واردٍ سابقًا وكذلك التخلص من  الشعور بالاستغراق جدًا بكلِّ ما يحصل حاليًّا في الفكر الغربي المندفع إلى حدٍّ كبيرٍ.

(277)

المصادر

كتب

1. بيري أندرسون، أصول ما بعد الحداثة (The Origins of Postmodernity). لندن: Verso، 1998.

2. محمد أركون، مؤامرة بين الغرب والخطاب الإسلامي المعتدل حول علم الإسلام التطبيقي (A Conspiracy between the West and the Moderate Islamic Discourse on the Science of ‘Applied Islamics). Leiden، نيويورك، E. J. Brill.، 2007.

3. محمد أركون،  العلمنة والدين. بيروت: دار الساقي، 1990.

4. محمد أركون، الفكر الاسلامي: قراءاتٌ علميةٌ. ترجمة هاشم صالح، بيروت: مركز الإنماء القومي، 1987.

5. محمد أركون، الفكر الاسلامي: النقد والاجتهاد. ترجمة هاشم صالح. لندن: دار الساقي، 1990.

6. محمد أركون، الفكر العربي (Arab Thought) ، تحرير س. شاند، نيودلهي: OUP، 1988.

7. محمد أركون، طبعة العالم الاسلامي والغرب؛ مقدمة في الثقافات السياسية والعلاقات الدولية (The Islamic World and the West; an Introduction to Political Cultures and International Relations)، بوسطن: Kai Hafez، 2000. معهد الدراسات الإسماعيلية، 2011.

8. محمد أركون، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي (From Ijtihad to a Critique of Islamic Reason).لندن: دار الساقي، 1999.

9. محمد أركون، من الحوار بين الأديان إلى التعرف على ظاهرة ديوجين الدينية (From Inter-Religious Dialogue to Recognition of the Religious Phenomenon’ Diogenes). ليدن: E. J. Brill، 2000.

10. محمد أركون، كيف  نحلل التفكير الإسلامي؟ (How to analyze Islamic Thinking?). Dalam Islamic Reasoni، بيروت: مركز الإنماء القومي، 1990.

11. محمد أركون، الإسلام: للإصلاح أم للتخريب؟ (Islam: To Reform Or To Subvert?). لندن: Saqi Books، 2006.

(278)

12. محمد أركون، تحديد الدراسات الاسلامية: الجينولوجيا، الاستمرارية، والتغيير (Mapping Islamic Studies: Genealogy, Continuity and Change). برلين ونيويورك: Mouton de Gruyter، 2002.

13. محمد أركون، الشرق والغرب، القرابة المنسية (Orient and Occident, the Forgotten Kinship). لندن ونيويورك: Routledge، 2008.

14. محمد أركون، العلمانية المعتدلة الإيجابية والعلمانية المتطرفة السلبية (Positive Moderate Secularism and Negative Extremist Secularism )، كلية كليرمونت للدراسات العليا. كاليفورنيا: E. J. Brill، 1988.

15. محمد أركون،  إعادة النظر في الإسلام: أسئلةٌ شائعةٌ، إجاباتٌ غيرُ مألوفةٍ (Rethinking Islam: Common Questions, Uncommon Answers). ترجمة أولى وتحرير روبرت د. لي. بولدير: Westview Press، 1994.

16. محمد أركون، إجابات الإسلاميات التطبيقية: نظرية الثقافة والمجتمع (The Answers of Applied Islamology: Theory Culture & Society). نيويورك:  Cambridge U. P.، 2007.

17. محمد أركون، مفهوم الوحي: من أهل الكتاب إلى مجتمعات الكتاب (The Concept Of Revelation : From The People Of The Book To The Societies of The Book). كليرمونت، كاليفورنيا: كلية الدراسات العليا  (Claremont Graduate University)، 1988.

18. محمد أركون، تاريخانية الفكر العربي الإسلامي (The Historicism of Arab Islamic Thought). ترجمة هاشم صالح، الطبعة الثانية. بيروت: مركز الإنماء القومي، 1996.

19. محمد أركون القرآن الكريم في ضوء فلسفة التنوير الحديثة (The Holy Quran in Light of the Modern Enlightenment Philosophy). لندن: دار الساقي، 2002.

20. محمد أركون، ضرورة تطبيق المنهجية التاريخية لتحديد القاسم المشترك للأديان الثلاثة المتآلفة (The Necessity of Applying the Historical Methodology to Identify the Common Denominator of the Three Monolithic Religions). لندن: Routledge، 2002.

21. محمد أركون، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني (The Quran from

(279)

The Inherited Exegesis To An Analysis Of Religious Discourse). ترجمة هاشم صالح، بيروت: دار الطليعة، 2001.

22. محمد أركون، ما غاب عن الفكر الإسلامي المعاصر (The Unthought in Contemporary Islamic Thought)، لندن: Saqi Books بمشاركة معهد الدراسات الاسماعيلية (The Institute of Ismaili Studies)، 2002.

23. محمد أركون، قراءاتٌ متنوعةٌ للقرآن (Various Readings of Al- Qur’an). ترجمة ماجاسين، جاكارتا: INIS، 1990.

24. محمد أركون، الاسلاميات التطبيقية  (The Applied Islamology). لندن: Croom Helm Ltd، 1973.

25. محمد أيوب، القرآن ومفسّروه (The Qurān and its Interpreters). نيويورك: Vinatge، المجلد رقم 1، 1984، المجلد رقم 2، 1992.

26. جاك م. بالكين، التفكيكية، رفيق فلسفة القانون والنظرية القانونية (Deconstruction, A Companion to Philosophy of Law and Legal Theory). تحرير دنيس باترسون الطبعة الثانية. المملكة المتحدة: Wiley- Blackwell، 2010.

27. رولاند بارثيس، وفاة المؤلف، الفن والتفسير: مختاراتٌ من القراءات في علم الجمال وفلسفة الفن (The Death of the Author. Art and Interpretation: An Anthology of Readings in Aesthetics and the Philosophy of Art). تحرير إريك دايتون. بيتربره اونتاريو: Broadview، 1998.

28. أندرو بنجامين، س. دان نوريس، ماهي التفكيكية (What is Deconstruction). نيويورك: إصدار أكاديمي: St. Martins’s Press، 1988.

29. جون د. كابوتو، التفكيكية بإيجازٍ: حوار مع جاك دريدا (Deconstruction in a Nutshell: A Conversation with Jacques Derrida). نيويورك: Fordham University Press، 1997.

30.  فكري كريسون، محمد أركون. مرفوضٌ من المسلمين ومن الغرب- مقالاتٌ نقديةٌ (Arkoun, Mohammed. Rejected from Muslims and the West – Critical Essays). لندن: The Athlone Press، 1972.

(280)

31. جوناثان كولر،  في التفكيكية: النظرية والنقد بعد البنيوية (On Deconstruction: Theory and Criticism after Structuralism). لندن: Routledge  و  Kegan Paul Ltd.، 1987.

32. فوزان صالح كورزون،  الاتجاهات الحديثة في الخطاب اللاهوتي الإسلامي في إندونيسيا في القرن العشرين: دراسةٌ نقديةٌ (Modern Trends in Islamic Theological Discourse in 20th Century Indonesia: A Critical Survey). ليندن/بوسطن/كولن: Brill، 2011.

33. جاك دريدا،  مقدمةٌ في الخطاب والظواهر: ومقالاتٌ أخرى عن نظرية العلامات لهوسرل (Introduction to Speech and Phenomena: And Other Essays on Husserl’s Theory of Signs). نيويورك: Northwestern University Press، 1989.

34. جاك دريدا، هوامش الفلسفة (Margins of Philosophy). ترجمة ىلان باس. شيكاغو: Chicago University Press، 1984.

35. جاك دريدا، من علم النحو (Of Grammatology ). ترجمة غاياتري شاكرافورتي سبيفاك. بلتيمور ولندن: Johns Hopkins University Press، 1978.

36. جاك دريدا، مواقفُ (Positions) ترجمة أ. باس الطبعة الثانية، مقدمة س. نوريس. لندن ونيويورك: Continuum، 2002.

37. جاك دريدا،  قرارة النفس: اختراع الآخر (Psyche: Invention of the Other). نيويورك: Routledge، 1984.

38. جاك دريدا، signeponge-Signsponge. كولومبيا: Columbia University Press، 1985.

39. جاك دريدا، الخطاب والظواهر: ومقالاتٌ أخرى عن نظرية العلامات لهوسرل (Introduction to Speech and Phenomena: And Other Essays on Husserl’s Theory of Signs). ترجمة ديفيد ب. أليسون. إيفانستون: Northwestern University Press، 1973.

40. جاد دريدا، الكتابة والاختلاف (Writing and Difference)، شيكاغو: University of Chicago Press، 1980.

41. أومبرتو إيكو، العمل المفتوح (The Open Work)، نشر لأول مرة عام 1962، ترجمة آنا كانكوغني، ديفيد روبي، هارفارد: Harvard University Press، 1989.

(281)

42. جين إدوارد فيث، جونيور، زمن ما بعد الحداثة: دليلٌ مسيحيٌّ للفكر والثقافة المعاصرة (Postmodern Times: A Christian Guide to Contemporary Thought and Culture)، لندن: Routledge، 1994.

43. سهى تاجي فاروقي و م. نافي بشير، محرران، الفكر الاسلامي في القرن العشرين (Islamic Thought in the (Twentieth Century لندن ونيويورك: I. B. Tauris، 2004.

44. سهى تاجي فاروقي، المفكرون الحديثون والقرآن (Modern Intellectuals and the Qur’an). لندن: Oxford University Press، معهد الدراسات الاسماعيلية (Institute for Ismaili Studies)، 2004.

45.  غاري غاتينغ، طبعة 2005، دليل كامبريدج إلى فوكو (The Cambridge Companion to Foucault) (دليل كامبريدج إلى الفلسفة [Cambridge Companions to Philosophy] )، الطبعة الثانية. كامبريدج: Cambridge University Press، 2005.

46. قمر الدين هداية،  أركون والتقالييد التأويلية (Arkoun and Hermeneutical Tradition). dalam J. H. Meuleman (طبعة) التقاليد، العصرنة، ميتا الحداثية. يوغيكارتا: LkiS، 1996.

47. ابراهيم محمد أبو ربيع، الفكر العربي المعاصر: دراساتٌ في التاريخ الفكري العربي بعد عام 1967 (Contemporary Arab Thought: Studies in Post-1967 Arab Intellectual History). لندن وسترلينغ: Pluto Press، 2004.

48. ابراهيم محمد أبو ربيع، دليل بلاكويل للفكر الإسلامي المعاصر (The Blackwell Companion to Contemporary Islamic Thought). ماساشوستس، الولايات المتحدة الأميركية: Blackwell Publishing، 2006.

49. اليزابيث سوزان كساب،  الفكر العربي المعاصر: النقد الثقافي في وجهات النظر المقارنة (Contemporary Arab Thought: Cultural Critique in Comparative Perspectives). نيويورك: Columbia University Press، 2009.

50. كارول كريستين، الكوزموبوليتيون والمهرطقون: المفكرون ودراسة الإسلام (Cosmopolitans and Heretics: New Muslim Intellectuals And The Study Of Islam). نيويورك:

(282)

Columbia University Press،  2011.

51.  كارول كريستين،  الهجين الثقافي: المفكرون المسلمون الجدد ودراسة الإسلام (Cultural Hybridity: New Muslim Intellectuals and the Study of Islam). لندن ونيويورك: Routledge، 2008.

52. برويز مورويدج،  مقالاتٌ في الفلسفة الإسلامية ، اللاهوت والتصوف (Essays in Islamic Philosophy, Theology and Mysticism). نيويورك: Oneonta Philosophy Series، 1995.

53. ألون مونسلو، تاريخ التفكيكية (Deconstructing History). 1997، الطبعة الثانية. لندن/نيويورك: Routledge، 1997.

54.  جوزيف ناتولي، تمهيدٌ لما بعد الحداثة (A Primer to Postmodernity). لندن: Routledge، 1997.

55. كريستوفر نوريس، التفكيكية: النظرية والتطبيق (لهجاتٌ جديدةٌ) (Deconstruction: Theory and Practice (New Accents. لندن: Routledge، 2002.

56. مايكل أ. بيترز و غيرت بيستا،  تفكيكية دريدا وسياسة البيداغوجيا (Derrida Deconstruction and the Politics of Pedagogy). نيويورك: Peter Lang، 2009.

57. هاشم صالح، شرحٌ وتعليقٌ على عليه‌السلام الفكر الأصولي واستحالة التأصيل نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي (بيروت: مركز الإنماء القومي، 199665.

58. هيو جي. سيلفرمان، طبعة الفلسفة القارية الجزء الثاني (Continental Philosophy II;)؛ دريدا والتفكيكية (Derrida and Deconstruction ). نيويورك، نيويورك: Routledge، 1989.

59. هيو ج. سيلفرمان، النصوصيات بين الهيرمونيطيقا والتفكيكية (Textualities between Hermeneuitcs and Deconstruction). نيويورك: Routledge، 1994.

60. ستيوارت سيم، قاموس روتلدج النقدي لفكر ما بعد الحداثة (The Routledge Critical Dictionary of Postmodern Thought). لندن: Routledge، 1999.

61. تيم وودز، بداية ما بعد الحداثة (Beginning Postmodernism). مانشستر: Manchester University Press، 1999، (اعيد طبعه بـ 2002).

(283)

فصولٌ من كتبٍ

1. محمد أركون، مسكويه (Miskawayh)، في مؤلف المؤرخ الإسكوتلندي H. A. R. Gibb، في موسوعة الإسلام (The Encyclopaedia of Islam) (طبعةٌ جديدةٌ). ليدن، نيويورك: E. J. Brill، 1993، 29-31.

2. محمد أركون، الإسلام في الوقت الحاضر بين تقاليده والعولمة (Present Day Islam between Its Tradition and Globalization)، في التقليد الفكري في الإسلام (In Intellectual Tradition In Islam)، تأليف فرهاند دفتري (لندن: I.B. Tauris، 2000)،  153-161.

3. محمد أركون، الدين والمجتمع (Religion and Society) ، في الإسلام في عالمٍ من المعتقدات المتنوعة (Islam in a World of Diverse Faiths) تأليف دان كوهن شربوك. لندن: Macmillan، 1991، 111-121.

4. محمد أركون، إعادة النظر في الإسلام (Rethinking Islam Today)، في الإسلام الليبرالي: كتابٌ مرجعيٌّ (Liberal Islam: A Sourcebook). لندن: Oxford University Press، 1988، 205-222.

5. محمد أركون، مفهوم السلطة في الفكر الإسلامي (The Concept of Authority in Islamic Thought)، في  الإسلام: الدولة والمجتمع (Islam: State and Society)، تأليف كلاوس فرديناند ومهدي مظفري. لندن: Curzon Press، 1988. 113-119.

6. محمد أركون، التراث: محتواه وهويته – خصائصه الإيجابية والسلبية (The Heritage: Its Content and Identity- Its Positive And Negative Characteristics)، في التراث وتحديات العصر في الوسط العربي، الطبعة الثانية. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1987. 170-181.

7. ديريك آرتيدج، محرر، هذا الوضع الغريب المدعو أدبيات: مقابلةٌ مع جاك دريدا (This strange institution called literature: an interview with Jacques Derrida). 63. في  جاك دريدا: أعمال الأدب (Acts of Literature). لندن:  Routledge، 1992. 121- 125.

8. دريدا، علم اللغة وعلم النحو (Linguistics and Grammatology)، في  من علم النحو. بلتيمور: Johns Hopkins University Press، 1976. 27-73.

(284)

9. جاك دريدا، رسالةٌ إلى صديقٍ يابانيٍّ (A Letter to a Japanese Friend)، دريدا والاختلاف (Derrida and Difference)، تأليف ديفيد وود وروبرت برنسكوني (وورويك: Parousia Press 1995)، 1.

10. جاك دريدا،  البنية والاشارة واللعب في خطاب العلوم الإنسانية (Structure, Sign, and Play in the Discourse of the Human Sciences) في  الكتابة والاختلاف (Writing and Difference) (لندن: Routledge، 1978)، 278.

11. جاك دريدا، وفيات رولان بارتيس (The Deaths of Roland Barthes)، في الحالة النفسية: إبداعات الآخر (Psyche: Inventions of the other)، المجلد رقم 1، تأليف بيغي كاموف وإليزابيث ج. روتنبرغ. ستانفورد: Stanford University Press، 2007.

12. جاك دريدا،  بعض التصريحات والحقائق البديهية عن التعابير الجديدة، والعقائد، والموضعية، والطفيلية، وغيرها من الظواهر المزلزلة الصغيرة  (Some Statements and Truisms about Neologisms, Newisms, Postisms, Parasitisms, and Other Small Seismisms’.). ترجمة آن توميش، في حالة النظرية: التاريخ، والفن والخطاب النقدي (The States of ‘Theory’: History, Art, and Critical Discourse). نيويورك: Columbia University Press، 1990.

13. أورسولا غانثر، :محمد أركون، نحوَ إعادةُ نظرٍ جذريةٌ بالفكر الاسلامي (Mohammed Arkoun: towards a radical rethinking of Islamic thought) في المفكرون المسلمون المعاصرون والقرآن (Modern Muslim Intellectuals and the Qur’ān). 125-169. لندن: Oxford University Press بالمشاركة مع معهد الدراسات الاسماعيلية (The Institute of Ismaili Studies)، 2006.

14. جاين ماكاليف، الهيرمونيطيقا القرآنية: آراء الطبري وابن الأثير (Qur’anic Hermeneutics: The Views of al-Tabari and IbnKathir) 46-62. في مقاربةٌ لتاريخ القرآن (Approche to the History of the Qur’an) تأليف أ. ريبين. أوكسفورد: Clarendon، 1988.

15. ج. ه. ميولمان (Meuleman, J. H)،  بعض الملاحظات النقدية على أعمال محمد أركون (Some Critical Notes on Mohammed Arkoun’s Works) في مؤلف ج. ه. ميولمان التقاليد، التحديث، والميتا الحداثوية (Tradition, Modernisation and Metamodernism).

(285)

يوغيكارتا: LkiS. 1996.

16. كاريل مورفي، الفصل 11: التفكير الجديد في الإسلام (Chapetr 11: New Thinking in Islam) في شغف الإسلام: تشكيل الشرق الأوسط الحديث: التجربة المصرية (Passion for Islam: Shaping The Modern Middle East: The Egyptian Experience)، نيويورك: Scribner، 2002،  220-235.

مقالاتٌ المجلات

1. ر. ه. علم. منظور ما بعد الحداثة في الدراسات الدينية (Perspective of Post-Modernism in Religious Studies). في مجلة علوم القرآن العدد 1، المجلد الخامس، 1994، جاكارتا: LSAF. 33.

2. آن كال،  التقوى والسياسة: نورشوليش مجيد وتفسيره للإسلام في إندونيسيا الحديثة (Piety and Politics: Nurcholish Madjid and His Interpretation of Islam in Modern Indonesia). PrajñâVihâra مجلة الفلسفة والدين  7:1، ، 182-187.

3. محمد أركون،  الإجابات على الإسلاميات التطبيقية (The Answers of Applied Islamology)، في النظرية، التاريخ، والمجتمع. مارس/ آذار 2007، المجلد 24، العدد 2، 21-38. DOI: 10.1177/0263276407074993.

4. محمد أركون،  نحو المقاربة الجديدة للإسلام (Towards the New Approach of Islam)،  في مجلة علوم القرآن. العدد 7، المجلد الثاني 1411 H، أكتوبر- ديسمبر 1990. جاكارتا: LSAF. 121.

5. محمد أركون،  مراجعة القرآن كنصٍّ (Review of the Quran as Text)، باللغة العربية (Arabica)، العدد 2، يوليو/ تموز 1998. 274-275. (Mohammed Arkoun, Rezension von The Quran As Text, in Arabica 45, Nr. 2 (Juli 1998): S. 274-75.)

6. جون إ. إسبوزيتو، مستقبل الإسلام (The Future of Islam). The Maghreb Review 3:35، 2010، 368-371.

7. جون ك. إسبوزيتو، الحرب غير المقدسة: الإرهاب باسم الاسلام (Unholy War: Terror in the Name of Islam). Religious Studies Review 3-4: 31، 2005، 233.

8. الإمام الغزالي، الفصل الرابع: كتاب آداب تلاوة القرآن، المجلد الثامن في إحياء علوم الدين.

(286)

ترجمةٌ أولى: محمد أبو القاسم، تنقيح وتحرير: أبو إبراهيم الحنفي، كوالا.

9. عنايات حميد، الفكر السياسي الاسلامي الحديث. رد المسلمين الشيعة والسنة على القرن العشرين (Modern Islamic Political Thought. The Response of the Shī’ī and Sunnī Muslims to the Twentieth Century). Asian Affairs 2:73، يوليو/ تموز 2006، 241-242.

10. كاري فوت آت اول (Kari Vogt et al)،  اتجاهاتٌ جديدةٌ في الفكر الإسلامي: استكشاف الإصلاح والتقليد الإسلامي (New Directions in Islamic Thought: Exploring Reform and Muslim Tradition). Middle Eastern Studies 4: 46، يوليو/ تموز 2010، 619-624.

11. كارول كيرستن، من برودل إلى دريدا: إعادة النظر في الإسلام والدين لدى محمد أركون (From Braudel to Derrida: Mohammed Arkoun’s Rethinking of Islam and Religion). Middle East Journal of Culture and Communication، المجلد الرابع، الإصدار 1، Middle East & Islamic Studies، 2011، 23-43.

12. هشام صالح،  محمد أركون والمكونات الكلاسيكية للعقل الإسلامي (Mohammed Arkoun And The Constituents Of The Classical Islamic Reason) في الوحدة: الفكرية، الثقافية، الشريعية، المجلد الثالث، الرباط: المجلس القومي للثقافة العربية، 1984، 117.

13. عبد الكبير حسين صالح،  نظرية محمد أركون للتأويلات القرآنية: خطابٌ فكريٌّ نقديٌّ (Mohammad Arkoun’s Theory of Quranic Hermeneutics: a Critique, Intellectual Discourse)، قسم الدراسات العامة، كلية علوم الوحي والمعارف الإسلامية والعلوم الإسلامية. الجامعة الإسلامية الدولية في ماليزيا. 2006. المجلد الرابع عشر ، العدد 1، 19-32.

14. شابير أخطار،  القرآن والعقل العَلماني (The Qur’an and the Secular Mind)، صوفيا: المجلة الدولية لفلسفة الدين، اللاهوت الميتافيزيقي، والأخلاق. 3: 49، 2010. 447-450. [DOI: 10.1007/s11841-010-0194-4]

15. سيتي رحمة سوكاربا،  نقد الفكر العربي: الطريقة التفكيكية لمحمد أركون (The Critique Of Arab Thought: Mohammed Arkoun’s Deconstruction Method)، العلوم الإنسانية والاجتماعية (Sosial Humaniora) المجلد العاشر، العدد 2، ديسمبر/ كانون أول 2006: 79-87، كلية العلوم الانساني، جامعة أندونيسيا، ديبوك 16424، أندونيسيا. 31/3/2012.  http://i-

(287)

epistemology.net/philosophy/807-the-unthought-in-contemporaryislamic-thought-.html

16. سهى تاجي فاروقي و بشير  م. نافي (محرران)، الفكر الإسلامي في القرن العشرين (Islamic Thought in the Twentieth Century). المجلة الأميركية للعلوم الاجتماعية الإسلامية (American Journal of Islamic Social Sciences) 2: 23، 2006، 90-92.

17. جون وانسبرو،  الدراسات القرآنية: مصادر وأساليب التفسير الروحي (Quranic Studies: Sources and Methods of Scriptural Interpretation). المجلة الأميركية للعلوم الاجتماعية الاسلامية (American Journal of Islamic Social Sciences) 1: 23، 2006، 118-120.

أطروحة ماجستير/ دكتوراه

1. رايمون ك. مايير،  دريدا والتفكيك في أطروحة الدكتوراه. تحليلٌ إنجيليٌّ للواقعية النقدية والديناميات الطبيعية في المدرسة اللاهوتية المعمدانية الجنوبية الشرقية (Derrida and Deconstruction in Ph.D. dissertation An Evangelical Analysis of the Critical Realism and Corollary Hermeneutics at Southeastern Baptist Theological Seminary). وايك فوريست، نورث كارولينا، 2007، 21-35.

2. أحمد ناصر المالكي،  تلقي العلماء الأندونيسيين لفكرة أركون: قضية طريقته في تفسير النص القرآني (Indonesian Scholars’ Reception of Arkoun’sThought: A Case of His Method of Interpreting the Quranic Text). أطروحة ماجستير، جامعة ماليزيا الدولية، 2004.

أوراقُ مؤتمراتٍ

1. مسلمو إندونيسيا الكوزموبوليتانيين وتحكيم الإسلام الثقافي (Indonesia’s Cosmopolitan Muslims and the Mediation of Cultural Islam).

2.  الإسلاميون ما بعد التقليديون والمسلمون الليبراليون: الخطاب الإسلامي البديل في إندونيسيا  (Islamic Post-Traditionalists and Liberal Muslims: Alternative Islamic Discourse in Indonesia). المؤتمر الخمسي الخامس والعشرون للرابطة الدولية لحقوق الإنسان تاريخ الأديان (IAHR). تورنتو (كندا)، جامعة تورنتو، 15-21، أغسطس/ آب 2010.

(288)

3. الخليفة بصفته النائب البشري الرسمي للحاكم: التقوى والسياسة في فكر نورشوليش مجيد.  ورشة عمل استكشافي لـ ESF لإزالة الغموض عن الخلافة: المناصرون والمعارضون والآثار المترتبة على أوروبا (Khilafa as Human Vicegerency: Piety and Politics in the Thought of Nurcholish Madjid ESF Exploratory Workshop Demystifying the Caliphate:Advocates, Opponents and the Implications for Europe). كلية كينغز لندن (King’s College London)، المملكة المتحدة، 12-13 نوفمبر/ تشرين الثاني، 2010.

4.  دروسٌ من الطّرف؟ المجتمع المدني في الفكر الإسلامي المعاصر (Lessons from the Periphery? Civil Society in Contemporary Muslim Thought).

5.  محمد عبد الجابري، محمد أركون، ونصر حامد أبو زيد في إندونيسيا: دراسةٌ في نظرية التلقّى (Mohammed Abed al-Jabiri, Mohammed Arkoun, and Nasr Hamid Abu Zayd inIndonesia: A Study in Reception Theory)، الاجتماع السنوي للأكاديمية الأمريكية للدين (Annual Meeting of the American Academy of Religion). سان فرانسيسكو (الولايات المتحدة الأميركية)، 19-22 تشرين الثاني، 2011.

6. الإسلاميات التطبيقية لمحمد أركون، الأديان على الحدود: تحدياتٌ جديدةٌ في الدراسة الأكاديمية للدين (The ‘Applied Islamology’ of Mohammed Arkoun Religions on the Borders: New Challenges in the Academic Study of Religion). ستوكهولم (السويد)، الرابطة الدولية لدراسة الأديان  (IAHR) (International Association for the Study of Religions)، كلية سودرترن الجامعية (Södertörn University College)، 19-22 أبريل/ نيسان، 2007.

7. ورقة مركز التعددية الثقافية، الهجرة، والأقليات  IMMC---5 (ورقة عمل) ما مدى التقدمية (التفكيكية) التي يمكن أن يكون عليها المسلم الغربي؟ مناقشاتٌ نظريةٌ حول باحثين مسلمين وشبكاتهم العرقية (How progressive (deconstructive) can a Western Muslim be? Theoretical discussions on Islamic scholars and their ethnic networking ) تييري ليمبينس، مايو/ أيار 2011.

8. كارول كيرستن  الهجين الثقافي: المفكرون المسلمون الجدد ودراسة الإسلام  (Cultural Hybridity: ‘New Muslim Intellectuals’ and the Study of Islam) كيرستن— فكري-

(289)

مؤتمر-أوراق-وثائق (أبريل/ نيسان 2008) من الحوار بين الأديان إلى الاعتراف بظاهرة ديوجين الدينية (From Inter-Religious Dialogue to Recognition of the Religious Phenomenon’ Diogenes) 186 (2: 46)، 140-141.

9.  الاستشراق و الآخر نحو أنثروبولوجيا جديدةٍ في الشرق الأوسط (Orientalism and the Other Towards a New Anthropology of the Middle East)، جامعة كيفن وولكر بايب، معهد دراسات الدين والثقافة (Kevin Walker Payap University, Institute for the Study of Religion and Culture) 27 يوليو/ تموز - 2 أغسطس/ آب 2003.

10. الدفع  إلى الحدود - مقدمةٌ لأفكار وأساليب محمد أركون مع اعتبارٍ خاصٍّ لتفسيره للوحي (الرؤيا) (Pushing the limits – Introduction to the ideas and methods of Mohammed Arkoun With special regard to his interpretation of Revelation) (Pdf). أرشيف المؤتمر الدولي تفكيك التقليد والمحاكاة-فيليب لاكو لا بارت (Deconstructing Mimesis - Philippe Lacoue-Labarthe) عن عمل لاكو لابارت ونسخته المقلدة عن التفكيكية، المعقود في جامعة السوربون في يناير/ كانون الثاني 2006.

11. سيتي رحمة سوكاربا، جلسة فريق كلية جامعة سوديرتون (Södertörn University College) 246: التاريخ والفكر الاسلامي 1، سيتي رحمة سوكاربا: نقد الفكر العربي: طريقة التفكيكية لدى محمد أركون (The Critique of Arab thought: Mohammed Arkoun’s deconstruction method). في ماكارا، العلوم الانسانية الاجتماعية (Sosial Humaniora) المجلد العاشر، الرقم 2، ديسمبر/ كانون أول 2006: 79-87.

12.  انحلال المجتمع المدني: الدين في صنع وإخفاق العالم الحديث (The Unraveling of Civil Society: Religion in the Making and Unmaking of the Modern World). سنغافورة: جامعة سنغافورة الوطنية ، معهد آسيا للبحوث (ARI)، 22-24 مارس/ آذار 2006.

13. ورشةُ عملٍ حول الدور العام للمفكرين المسلمين: وجهاتُ نظرٍ تاريخيةٌ للتحديات المعاصرة (The Public Role of Muslim Intellectuals: Historical Perspectives to Contemporary Challenges). كلية سانت أنتوني ومركز الشرق الأوسط، جامعة أكسفورد، 30 أبريل/ نيسان 2012.

(290)

مصادرُ الكترونية

1.  التفكيكية. موسوعة بريتانيكا. موسوعة بريتانيكا اونلاين. Encyclopædia Britannica، 2011. على شبكة الانترنت 18 اكتوبر/ تشرين أول 2011.

http://www.britannica.com/EBchecked/topic/155306/deconstruction

2. تعريف المصطلحات: التفكيكية. PBS: خدمة البث العامة (Public Broadcasting Service). على شبكة الإنترنت. 5 ديسمبر/ كانون أول 2010.

http://www.pbs.org/faithandreason/gengloss/decon-body.html

3. تعري ما بعد الحداثة مجلة  Nature 394، راجع الصفحات 141-143، 9 يوليو/تموز 1998.

4. ما بعد البنيوية. موسوعة بريتانيكا. موسوعة بريتانيكا اونلاين. Encyclopædia Britannica، 2011. على شبكة الانترنت 25 أكتوبر/ تشرين أول 2011.

http://www.britannica.com / EBchecked/topic/472274/poststructuralism

5. نظرةٌ عامةٌ على ما قبل الحداثة، الحداثة، وما بعد الحداثة. علم نفس ما بعد الحداثة. N.p.، n.d.، على شبكة الانترنت، 22 فبراير/ شباط 2012.

6. أندرس أ. أرازولا، تفكيك الأرشيف الديني ومكونه العلماني وعلاقته بالعنف (2011). الرسائل الالكترونية والأطروحات الجامعية العلمية الإلكترونية لجامعة فلوريدا الدولية FIU. الورقة 472.

http://digitalcommons.fiu.edu/etd/472          

7. أغسطس/ آب 2007، أسقف بريدا (Bishop of Breda)، تيني ماسكينز: http://www.worldnetdaily.com/staticarticles/article 57178.html تاريخ الدخول 15 نوفمبر/ تشرين الثاني، 2007.

8. أليكس كالينيكوس، ضدّ لما بعد الحداثة: نقدٌ ماركسيٌّ (Against Postmodernism: A Marxist Critique). جامعة يورك، 199022 يوليو/ تموز 2008.

9. جون د. كابوتو، قراء على شبكة الانترنت جاك دريدا (1930-2004) Jacques Derrida (1930 - 2004))  (pdf).

(291)

10. آرثر كولمان دانتو . 1990. الفرط الفكري (The Hyper-Intellectual). مؤسسة New Republic، 203، 11/12، راجع الصفحات 44-48، البحث الاكاديمي الممتاز (Academic Search Premier)، برنامج EBSCO host,، تمت معاينته في 2 أبريل/ نيسان 2012.

11. التفكيكية ويكيبيديا ، الموسوعة الحرة. http://en.wikipedia.org/wiki/Deconstruction . آخر تعديل في 13 يناير/ كانون الثاني2013، الساعة 18:09.

12. قسم اللغة الإنكليزية وآدابها- دورات- تفكيك بعض الفرضيات لجون لي 1996. http://www.brocku.ca/english/courses/4F70/deconstruction.php ، آخر تحديث في 30 أبريل/ نيسان، 2008.

13.  دريدا والاختلاف (Derrida and Différance) (إيفانستون، إلينوي: Northwestern University Press، 1988). راجع الصفحات 1-5. http://www.elsewhere.org/cgi-bin/postmodern

14. جاك دريدا، رسالة إلى صديقٍ يابانيٍّ (Letter to A Japanese Friend) (http://lucy.ukc.ac.uk/Simulate/Derrida_deconstruction.html )، دريدا والاختلاف (Derrida and Différance)، تحرير ديفيد وود وروبرت برنسكوني، وورويك: Parousia Press 1985، الصفحة 1.

15. الدكتور س. برويز منظور، ردًّا على البروفسور  أركون (Responding to Professor Arkoun) http://www.answers.com/topic/mohammed-arkoun#ixzz2M4VoGIGc تاريخ الدخول1/2/2013.

16. جون م. أليس، ضد التفكيكية (Against Deconstruction). برينستون: Princeton University Press،  ويكيبيديا، الموسوعة الحرة، إصدار  Stormie، 20 أبريل/ نيسان 2004.

17. ريتشارد رورتي (1995)،  نطرية التفكيكية (Deconstructionist Theory). Cambridge University Press. تمت استعادتها من الرابط http://en.wikipedia.org/w/index.php?title=Postmodernism&oldid=455135748

18. سمير أبو زيد، جائزة ابن رشد للفكر الحر (IbnRushd-Prize for Freedom of Thought)، صامويل زويمر:   http://en.wikipedia.org/wiki/Samuel_Marinus_Zwemer:Zugriffvom :  تاريخ الدخول 15 نوفمبر /تشرين الثاني 2007.

(292)

19. جيف شويتزر، نهايةُ دينٍ (The End of Religion) 25أغسطس/ آب 2010، http://richarddawkins.net/articles/505248-the-end-of-religion (تاريخ الدخول 3/1/ 2010).

20. آلان سوكال (مايو/ أيار 1996)، تجاربُ فيزيائيةٌ مع الدراسات الثقافية

(A Physicist Experiments With Cultural Studies)، Lingua Franca: http://www.physics.nyu.edu/faculty/sokal/lingua_franca_v4/lingua_franca_v4.html تمت استعادته بتاريخ 3 أبريل/ نيسان 2007.

21. برنار ستيغلر، دريدا والتكنولوجيا: الأمانة في حدود التفكيكية والتقويم الإيماني (Derrida and technology: fidelity at the limits of deconstruction and the prosthesis of faith) في إصدار طوم كوهن جاك دريدا والعلوم الإنسانية: قارئٌ ناقدٌ (Jacques Derrida and the Humanities: A Critical Reader) (كامبريدج: Cambridge University Press، 2001) صفحة 263. مستعادة:   

http://en.wikipedia.org/w/index.php?title=Deconstruction_and_religion&oldid= 421922838

22.   عشرُ طرقٍ للتفكير حول التفكيك (Ten ways of thinking about deconstruction) (http://www2.arts.gla.ac.uk/SESLL/EngLit/ugrad/hons/theory/TenWays.htm) ويلي مايلي (التفكيكية تجعل الحقيقة قصيرة) (deconstruction made real short).

23. فرانك ووكو، قانون الشريعة: ما هو قديمٌ هو جديدٌ (Shari’ah Law: What is Old is New) http://www.glennbeck.com/content/articles/article/198/47676/، 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2010 (تاريخ الدخول 3/1/2011)

24. ك. يلماز، مرحلة ما بعد الحداثة وتحديها لانضباطية التاريخ: الآثار المترتبة على تعليم التاريخ (Postmodernism and its Challenge to the Discipline of History: Implications for History Education)، الفلسفة التعليمية والنظرية (Educational Philosophy & Theory)، 42،7، راجع الصفحات 779-795، البحث الأكاديمي الرائد (Academic Search

(293)

Premier)  EBSCO host. تمت مشاهدته في 15 أبريل/ نيسان 2012.

25. يوآف دي كابوا، مراجعة. (قسم التاريخ ، جامعة تكساس في أوستن). إعادة التفكير في التقليد. الفكر الإسلامي وتحديات الحداثة (Rethinking Tradition. Islamic Thought and the Challenges of Modernity). تمت استعادته على الرابط التالي :

 http://en.wikipedia.org/w/index.php?title=Roland_Barthes&oldid=456698172، 2003.

(294)

نقد نظرية محمد أركون في هرمنيوطيقا القرآن[1]

 

عبد الكبير حسين صالح[2]

 

الخلاصة

 كان لمحمد أركون الفضل في الاهتمام بالهرمنيوطيقا القرآنية (التأويل القرآني)، ويدل التحليل النصي لكتاباته على أن مصدر اهتمامه الرئيس هو منهجية التفسير وأنه درس القرآن من أجل هذه المنهجية. فهو يشكك في صحة القرآن فضلًا عن دعوى حقيقته. ويُقرأ عرضه كما لو أنه رياضياتٌ أكثر منه كتحليلٍ نصّيٍّ. وبناءً على ذلك، فقد كانت مناقشته المنهجية موضع إهمالٍ إلى حدٍّ كبيرٍ.

محمد أركون مفكِّرٌ مسلمٌ عصريٌّ منشغل بالهرمنيوطيقا القرآنية (التأويل القرآني) التي تشتد الحاجة إليها. وباعتماده على النماذج الخطابية لمرحلة ما بعد الحداثة، فهو مصممٌ على استنباط آليةٍ تفسيريةٍ من شأنها كشف تاريخية القرآن

(295)

وإثراء تاريخ الفكر من خلال تقديم فهمٍ أفضلَ للقرآن. وهو يضع منهجيته ضمن ضوابط الاجتهاد. وبعد التحليل النصي، تشرح هذه المقالة تأويله، بما في ذلك نظريته عن الوحي وبروتوكولاته الثلاثية لتفسير القرآن. كما  تتثبت من صحة وسلامة تفسير أو هرمنيوطيقا أركون للقرآن.

لمحةٌ موجَزةٌ

لقد كان دور التاريخ واللغة في أيِّ فهمٍ أمرًا معترفًا به على نطاقٍ واسعٍ من خلال العديد من التفاسير. فالآلية التي يتحرك بها فهمنا في التاريخ، والتي يتم فيها نقل الماضي إلى الحاضر وترحيله إلى المستقبل، هي اللغة. وبسبب مركزية التاريخ واللغة في أيِّ فهمٍ، ينشأ هنا سؤالٌ هرمنيوطيقيٌّ (تأويليّ) مهمٌّ في ما يتعلق بالكيفية التي يتمكن بها نص الوحي من الأيام العابرة من مخاطبة الناس الذين يعيشون في سياقٍ بعيدٍ ومختلفٍ جدًّا عن الوسط الأصلي لهذا النص؟ بمعنًى آخرَ، كيف يمكن للمرء أن يفهم ما يُعتقد بأبديته في ضوء التاريخ المتغير؟

محمد أركون هو أحد المفكرين المسلمين القلائل الذين تناولوا مسألة الهيرمنيوطيقا القرآنية (التأويل القرآني) ضمن الإطار المرجعي لما بعد الحداثة. وكونه ولد لعائلةٍ من منطقة بربريةٍ (أمازيغيةٍ) في تاوريرت ميمون، في منطقة القبائل، الجزائر في عام 1928، فقد أكمل أركون تعليمه الابتدائي والثانوي والعالي في وطنه. ثم انتقل إلى جامعة السوربون حيث حصل على الدكتوراه في عام 1969. وهو الآن بروفسورٌ فخريٌّ في الدراسات الإسلامية في جامعة السوربون، في باريس، فرنسا. ويعتبر الخطاب النقدي الذي قدمه أركون عن تاريخ الوحي أكثرَ تطرّفًا من خطاب الكثير من المفكرين المسلمين المعاصرين الآخرين.

(296)

منذ البداية، يعترف أركون بأنه سوف يتبع النهج التاريخي، المعزز بالفضول الحديث[1]. ومع وضعه  القرآن على قدم المساواة مع بقية الكتب المقدسة في العالم، يكرر أركون القول بأن التاريخ ينطبق بالتساوي على تراث جميع البشر وبأن ليس هناك من طرقٍ بديلةٍ لتفسير أيِّ نوعٍ أو أيِّ مستوًى من الوحي إلّا من خلال ربطه بسياقه التاريخي. وبالتالي، فهو مصممٌ على تفسير تاريخية القرآن [2] ومع أخذه بالاعتبار هذه المنهجية التاريخية لتكون جزءًا مما يسميه لامفکر فیه [3] (تُترجم حرفيًّا بـ ما يتم إغفاله أو تغييبه[4]) في المباحث الإسلامية، فإنه يؤكد أنه ليس له تأثيرٌ ضارٌّ على القرآن[5].

بالأحرى، إنّه جزءٌ من أنشطةٍ اجتهاديةٍ قد تهزّ، بطريقةٍ ما، طرق التفكير التقليدية، ولكنها مع ذلك قد تُثري تاريخ الفكر وتعطي فَهْمًا أفضلَ للقرآن[6].

(297)

تدور نظرية أركون عن التفسير القرآني  حول سؤالين هرمنيوطيقين رئيسيين:

السؤال الأول أنطولوجيٌّ (وجوديٌّ): ما هو القرآن أو ما الذي يجب تفسيره فيه؟ والثاني منهجيٌّ: كيفية تفسير القرآن؟ أما نوع الإجابة المناسبة  فيحدده نوع الجواب المقدم للسؤال الأول.

الرسالة والرسول في التاريخ

يقارب أركون ظاهرة الوحي من منظورٍ عامٍّ. ونقطة انطلاقه بالطبع هي القرآن، إلا أنه يدمج الكتب المقدسة المعروفة في المجتمعات الأخرى، مثل الكتب المقدسة في الديانتين الهندوسية والبوذية، والأهم من ذلك، العهد القديم والعهد الجديد. وهو يضع طبيعة النبي، من منظورٍ أنثروبولوجيٍّ تاريخيٍّ، بما يتماشى مع ظاهرة ما يشير إليه باسم إنتاج الرجال العظماء في التاريخ[1]. هذا المنظور يشير إلى أن النبي عبارةٌ عن قائدٍ حكيمٍ، تحلى بروحٍ جبّارةٍ وخيالٍ جريءٍ. وبفضل إلهامٍ مستمرٍّ من الله، فإنّ هذا النبي قادرٌ على اختراق المجهول وأفق المعارف البشرية. هذه التراكيب النفسية الخاصة، المتجسدة في شخصية النبي، تتجلى وتتمظهر من وقتٍ لآخرَ في التاريخ. وهكذا، كانت هناك سلسلة من الأنبياء والرسل من الله، الذين كانوا مكلفين بتوجيه أممهم إلى الطريق القويم. ووفقا لأركون، فإنّ ما يميز الأنبياء عن الأبطال الآخرين لا يكمن في جوهر رسالتهم ومضمونها، بقدر ما يكمن في الدوافع النفسية والاجتماعية المستخدمة لتعبئة جماهيرهم. وتُعرف هذه الأدوات، تقليديًّا، باسم الوحي[2].

(298)

بعد إدراجه طبيعة النبي تحت تسمية إنتاج الأبطال العظماء، يقوم أركون بتجريد حقبات الأنبياء التي تتصف بالكاريزما والبطولة من أيِّ إحساسٍ بالقداسة، التي تَعتبر اللهَ حيًّا فعلا في التاريخ. فالإقرار بتاريخٍ مقدَّسٍ يتطلب من المرء الخضوع لمتطلب هذا التاريخ. مثل هذا الخضوع، بحسب رأيه، يشكّل انتهاكًا لاستقلالية العقل البشري.

في محاولةٍ لتبرير الرسائل النبوية في الوقت الذي يصر فيه على حرية العقل البشري، يتمسك أركون بالقول أنّ الأنبياء جاؤوا لإرشاد الناس دونما إكراهٍ أو إجبارٍ. فالأنبياء لم يجلبوا معهم معيارًا من السماء يُجبر الناس على ممارسة وتكرار طقوسٍ معينةٍ إلى ما لا نهاية[1]، وإنما جاؤوا فقط  لـعرض معاني الوجود. هذه المعاني قابلةٌ للتعديل والتفسير في إطار ميثاق العقل الممنوح للبشر. ويستشهد أركون بمفهوم النسخ (الإلغاء) لدعم ذاتية المعنى في التاريخ[2].

مع ذلك ، فإن مجرد عرض هذا المعنى للوجود لا يمكن أن يبرر بشكلٍ كافٍ الأثر الطاغي الذي يحدثه الأنبياء. فأيُّ نوعٍ من القوى هي تلك التي رفعت مهمتهم من مجرد عرضٍ لمعنى الوجود إلى تشكيل مصير البشرية منذ زمنٍ سحيقٍ؟ لا يعتقد أركون أنّ هذه القوة هي بسبب طبيعة الوحي وحده وإنما ترجع أيضًا إلى نفسية الجمهور. وبما أن الوحي لعب دوره بوصفه أداةَ تحفيزٍ للدوافع النفسية لدى جمهوره، فإنّ الناس بدورهم اتبعواالأنبياء من خارج التكليف بالمعنى لدى الأنبياء تجاه القرآن[3]. ففي السياق الإسلامي، هذا المفهوم عن التكليف بالمعنى

(299)

تجاه القرآن والنبي والسلف الصالح (الأجداد المتدينين في الأجيال الإسلامية الأولى) قد استحوذ على المسلمين لدرجة أنهم غيرُ مستعدين لتبني أيِّ فكرةٍ أو ابتداعٍ لا يمكن دمجه في تلك المصادر المعظمة المسيطرة الثلاثة[1].

إنّ مفهوم التكليف بالمعنى هو طريقةٌ أخرى لتحييد الوحي. ليس هناك شكٌ في أنّ تأثير المصلح أو النبي يكون أكثرَ وضوحًا في زمن الأزمات والكوارث منه في زمن الهدوء والازدهار. ففي الحالة الأخيرة، لا يكون هناك حاجةٌ إلى تغيير الكثير من الأمور، لكن عندما تغرق الأمة كلها في التفكك ويحدث أنّ قائدًا قد نجح في استعادة النظام، فإنّ الناس عندئذٍ سيشعرون بأنّهم مَدينون له فيتبعون تعاليمه وأوامره بامتنانٍ. ومن ثَمّ تحدث عملية الإصلاح الناجح واستعادة النظام اعترافًا معنويًّا بـ الديْن (التكليف) لدى الوعي الفردي لكلِّ إنسانٍ، وبالتالي الالتزام بجميع وصايا القائد. وإذا كان مفهوم التكليف بالمعنى يتم تطبيقه بدقةٍ، فإنّ الرسالة النبوية سيظل لها معنًى في العصر الحديث. فالمسلمون عمومًا يقدرون تجربة الرسول صلّی اللّه علیه وآله وسلّم  ونجاحه العظيمين، إذْ يعتقدون بأنّهم كلما تقيّدوا بتعاليمه أكثر، كلما تحسن وضعهم بشكلٍ أكبرَ؛ وعلى العكس، كلما ابتعدوا عن تعاليمه أكثرَ كلما تدهورت حالتهم أكثر. في الواقع ، وفي تبريرٍ غيرِ عاديٍّ لظاهرة الوحي، يقرّ أركون بأنّ:

«الوحي عبارةٌ عن خطابٍ موجَّهٍ نحو العمل والتطبيق. إنه يؤثّر بشكلٍ فعّالٍ ومستمرٍّ على التاريخ البشري لأنّه يقدم حلولًا عمليةً لأهم اهتمامات الشأن الإنساني. ونعني بـأهم الاهتمامات (الاهتمامات

(300)

النهائية) الحياة والموت، والعدالة، والحب، والسلطة الشرعية (أو التعظيم والاجلال)، والسلطة الظالمة، والعلاقات الاجتماعية، والتعالي (الغيب)، وما إلى ذلك. ويفي القرآن بكل هذه الاحتياجات ويعبئ هذه الوظائف بأفضلِ طريقةٍ. وقد انتشر هذا بين طبقاتٍ مختلفةٍ وبين مختلف المجتمعات حيث أظهر سلامة القرآن حلوله وأنموذجه المثالي، وحججه القوية ضد القيم الزائفة، والسلطات الاستبدادية والسلوك الخاطئ[1].

وبقدر ما يغرق التاريخ الحديث في الفوضى الكاملة مع انهيار النظام العالمي، بقدر ما تظل الرسالة النبوية ذات مغزًى كما كانت، ليستمر بذلك إنتاج (التكليف بالمعنى)»[2].

   مع ذلك، لا تمثّل وجهة النظر هذه وجهة نظر أركون العامة عن الهرمنيوطيقا القرآنية (التأويل القرآني) أو كونها مدعومةً بها[3]. على العكس، إنّه يدّعي بأنّ الأنموذج النبوي يمكن أنْ يؤديَ دوره فقط ضمن إبستميةٍ تُؤْثر الأسطورة على التاريخ والروحانية على الواقعية والخيال على العقلانية. ووفقًا لأركون، فإنّ القرآن يحل مكان الرموز القديمة المنافسة برمزٍ بديلٍ، في حين أنّ عقلانيتنا الواقعية تنتقد جميع أنواع الرموز والأساطير وتقترح، كبديلٍ، المفاهيم العلمية. وبالتالي، يعتقد أركون بأنّه بما أن الإنسان الحديث قد أدرك تاريخية الأنموذج النبوي في العملية

(301)

العامة والطبيعية لإنتاج المعنى في التاريخ، فإنه لا يمكنه العودة إلى ذلك الأنموذج النبوي. وبناءً على ذلك، فإنّ علمنة الرسائل النبوية أمرٌ لا مفرَّ منه في نهاية المطاف. هذا هو الاستنتاج الوحيد الذي يمكن للهرمنيوطيقيا الأركونية أنْ تدعم فيه تفسير التأويل- اللاهوتي، كما سنرى أدناه.

فضلًا عن ذلك، يناقش أركون العلاقة الديناميكية بين الوحي والحقيقة والدور الذي يلعبه التاريخ في الوصول إلى الحقيقة الواردة في الوحي. أوّلًا، يقسم أركون مستوى الوحي إلى قسمين. على المستوى الأول هناك الأنموذج الأصلي للكتب أو ما يشير إليه القرآن في كثيرٍ من الأحيان باسم أمّ الكتاب (القرآن، الآية 39 من سورة الرعد والآية 4 من سورة النساء)، وعلى المستوى الثاني هناك النسخه الدنيوية وتضم الكتاب المقدس (العهد القديم) والإنجيل (العهد الجديد) والقرآن. أما أمّ الكتاب فهوالكتاب السماوي، الذي يمثّل الوحي بامتيازٍ، الذي منه انبثق الكتاب المقدس والإنجيل والقرآن[1].

في مستواه الأول، الوحي أبديٌّ، خالدٌ، ويحوي الحقيقة المطلقة.  مع ذلك، فإنّ هذه الحقيقة المطلقة، وفقًا لأركون، بعيدةٌ عن متناول فهم الإنسان، لأنّ هذا الأنموذج من الوحي مَصونٌ في اللوح المحفوظ وظل مع الله وحده. ولم يصبح معروفًا للإنسان إلّا من خلال المستوى الثاني الذي، مع ذلك، خضع لتعديلاتٍ ومراجعاتٍ وبدائلَ:

(302)

«ثم إنّ الكتاب السماوي هو في متناول المؤمنين فقط من خلال النسخة المدوَّنة من الكتب أو الكتب المقدسة ... هذا الجانب الثاني من الكتاب خاضعٌ إذًا لجميع قيود ومحددات الصفة التاريخية الاعتباطية [1]، التي بدورها نسبت إليها نوع الحقيقة الواردة في القرآن وصبغتها (قولبتها). ويدّعي أركون أنّ قوة التاريخ متعارف عليها، ليس فقط في الفهم الإنساني للقرآن، ولكن أيضا في مفهوم القرآن لنفسه. فهو يعتبر هذه القوة عبئًا على علماء التاريخ الحديثين الذين يتعين عليهم كشف تاريخ الأحداث القرآنية التي ألبسها القرآن نفسه ثوب القداسة. بعبارةٍ أخرى، على المؤرخ المعاصر تأْريخ ما لم يتم تأْريخه بشكلٍ منهجيٍّ[2]. ولتحقيق هذه الغاية، يقترح ثلاث بروتوكولات لقراءة/ تفسير القرآن: التفسير الأنثروبولوجي-التاريخي، التفسير اللغوي-السيميائي والأدبي، وتفسير التأويل - اللاهوتي (أو الديني). ويتم ترتيب مناقشة هذه البروتوكولات وفقا لأولوياتها».

التفسير التاريخي- الأنثروبولوجي

الهدف الرئيس من هذه القراءة هو ربط القرآن ببيئته في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع[3]. هذه القراءة تبدأ بتاريخٍ جديدٍ للقرآن. فالقرآن تنزّل أوّلًا

(303)

شفويًّا ومِن ثَمّ تمّ تدوينه على الموادّ المتاحة، وإنْ كان في شكل خربشاتٍ، وذلك خلال فترة حياة النبي محمد صلّی اللّه علیه وآله وسلّم. وبعد أقلّ من ثلاثة عقودٍ من وفاته، تم تدوين سور(فصول) القرآن في مصحفٍ. وهذا المصحف لا يزال كما كان، حتى الوقت الحاضر. مع ذلك، وقبل أن يأتي المصحف إلى الوجود، كان فن حفظ جميع سور القرآن وتلاوتها فنًّا راسخًا.

ومع عدم رضاه عن هذه الحقيقة التاريخية، يقدّم أركون روايةً مختلفةً عن تاريخ القرآن. فهو يقسمه عمومًا إلى فترتين زمنيتيْن: فترة الوحي أو الفترة التكوينية وفترة الجمع والتثبيت. وقد غطت الفترة التكوينية الوحي المكي والمدني عندما كان القرآن يتم تعميمه شفويًّا بين الصحابة. أما فترة التثبيت والتدوين فتمتد من زمن وفاة النبي وحتى القرن الرابع الهجري/ القرن العاشر الميلادي. ووفقًا لأركون، فإنّ التكوين النهائي للقرآن لم يتم إنجازه قبل القرن الرابع عشر[1]. ويؤثر أركون الإشارة إلى القرآن في فترته الانتقالية الأولى باسم الخطاب القرآني والخطاب النبوي وفي فترته الانتقالية الثانية باسم المدونات الرسمية المغلقة[2]. وبالبحث في كلٍّ من هذين التحوُّلين،  يعرّف أركون القرآن بأنّه مدونةٌ كاملةٌ ومفتوحةٌ تم التعبير عنها باللغة العربية، والتي لا يمكننا الدخول إليها إلّا من خلال النص الثابت بعد القرن الرابع الهجري/ العاشرالميلادي[3].

(304)

بمقارنته الأشكال الشفوية والكتابية للقرآن، يؤكد أركون على أنّ القرآن كان أكثر قداسةً وموثوقيةً عندما كان خطابًا مما كان عندما اتخذ شكلًا مدوّنًا. والسبب في هذا، وفقًا لأركون، هو أنّ القرآن كان مفتوحًا على جميع المعاني في شكله الشفويّ لا في شكله المدوَّن. في المقابل، فإنّ الاستخدام لأدوات الكتابة، أي القلم، الورق، إلخ ، قد هبطت بالمنزلة الإلهية للقرآن إلى مستوى كتابٍ دنيويٍّ. باختصارٍ، لا يعتقد أركون أنّ المصحف يستحق منزلة القداسة، إلّا أنّ العقيدة المسلمة المتشددة رفعت هذه المدونة إلى منزلة الخطاب الإلهي من عند الله[1].

بيد أنه، وفي تحوُّل مفاجئٍ في الكتاب نفسِه، يشير أركون إلى أنّ التمييز الذي أجراه بين الشكلين الشفوي والمدوَّن للقرآن ليس له أيُّ تأثيرٍ على صحة أحدهما أكثر من الآخر، إذْ هناك امتيازٌ فقط لمعنًى معمَّقٍ يمكن الوصول إليه بسهولةٍ بالنسبة لأولئك الذين شهدوا الوحي أكثر من أولئك الذين تلقّوا الوحي في شكله المدوَّن. وفكرة أركون في هذه المسألة مربكةٌ جدًّا لدرجة أنّ أفضل مترجمٍ لديه، وهو هاشم صالح، غيرُ واثقٍ من أنه قد فهمه بشكلٍ صحيحٍ[2].

تفسيراتٌ لغويةٌ - سيميائيةٌ وأدبيةٌ

في علم السيميائية (علم الاشارات أو العلم الذي يدرس حياة الإشارات ضمن مجتمعٍ)، يحاول أركون إثبات تاريخيّة اللغة القرآنية ولاحقًا، إثبات تاريخية

(305)

محتواه. إنه يدعو إلى التحليل السيميائي للقرآن وذلك لهدفين بشكل رئيس: أوّلًا، كشف تاريخية اللغة القرآنية. وثانيا، إظهار الكيفية التي يمكن فيها الحصول على المعنى الجديد من النص القرآني دون أن يقتصر ذلك على النمط التقليدي للقراءة. في الهدف الأول، يشرح أركون بأنّ القرآن يتألف من كلماتٍ تشير إلى شخصياتٍ تاريخيةٍ معينةٍ. والسؤال الهرمنيوطيقي الأول الذي يطرحه هو: كيف يمكننا التعامل مع المقدس، الروحي، المتعالي، وهي الصفات المفترضة المنسوبة إلى القرآن، عندما تكون كل مفرداته عرضة لتأثير التاريخية؟

وفقا لذلك، فإنه يمقت الممارسة الشائعة الاسلامية بالاستشهاد بالقرآن في مناسباتٍ واحتفالاتٍ معينةٍ. ويصنّف أركون هذه الممارسة بـ التلاعب السيميائي والأصولية، لأنّها تساعد المسلمين على عزل القرآن عن طبيعته الاجتماعية- التاريخية وعن سياقه اللغوي والإعداد، عمدًا، لسياقهم الخاص وجعل القرآن ذا صلةٍ بهذا السياق.

   في الهدف الثاني من السيميائية، يشرح أركون تلك اللغة بشكلٍ عامٍّ، وتتكون اللغة القرآنية بشكلٍ خاصٍّ من علاماتٍ ورموزٍ. هذه العلامات والرموز، عند تحليلها سيميائيًّا، فإنّها تَرجع إلى الأشياء من خلال قراراتٍ اعتباطيةٍ وتقليديةٍ داخل مجتمع، أي ليس لديها صلةٌ طبيعيةٌ مع ما تُشير إليه (الأشياء)[1]. واللغة العربية، كلغةٍ قرآنيةٍ، ليست استثناءً في هذا الصدد. على هذه الأسس، يشكّك أركون بكل القراءات التقليدية (القراءات المختلفة)، مُدّعيًا أنها أكثرُ ارتباطًا بقواعد المجتمع المسلم الأول منه بالمعنى الحقيقي للقرآن. وحيث إنّ احتياجات

(306)

وقواعد ومفاهيم عصرنا في هذا القرن قد تغيّرت وتبدّلت بشكلٍ كبيرٍ عن تلك التي كانت سائدةً لدى الأجيال المسلمة الأولى، فإنّ أركون يدعو إلى قراءةٍ جديدةٍ متبوعةٍ بتفسيرٍ جديدٍ للقرآن وفقًا لاحتياجاتنا المعاصرة.

كما هو مسجَّلٌ في العديد من المؤلفات البحثية، فإنّ القراءات الحقيقية منسوبةٌ بدقةٍ إلى النبي صلّی اللّه علیه وآله وسلّم  الذي أثبت صحة كونها إلهيةً. إنّ وجود قراءاتٍ متعددةٍ لا يعود إلى اجتهاد المسلمين الأوائل. فكما يصرح الإمام أبو عمرٍ الداني (توفي عام 444 هـ./ 1052 م.)، الأمر يشبه الخيارات المنصوص عليها في الكفارة عن الحنث باليمين: إطعام 10 مساكين، أو كسوتهم، أو عتق رقبة[1]. وكما أنه لا يجوز القيام بخلاف ما نص عليه الشرع، فإنه، وبالمثل، لا يجوز إبدال هذه القراءات، إذْ إنّ وجود خياراتٍ متعددةٍ هو من أجل جعل التنفيذ أو القراءة أمرًا سهلًا على البشر، وليس مؤشّرًا على إمكانية قراءاتٍ بديلةٍ مطلقةٍ.

بيد أننا، وفي تفسير القرآن من خلال هذه القراءات، نتوصّل إلى استنتاجٍ مختلفٍ. فقد شدد باحثون مسلمون، عمومًا، على ضرورة إعادة تفسير القرآن في ضوء التغيير التاريخي[2]، وفي الواقع لقد نشر هؤلاء تعليقاتٍ متنوعةً عن القرآن. أما هدف أركون الرئيس في قراءته المقترحة فيمكن النظر إليه بشكلٍ أفضلَ من الطريقة التي يُقدّم بها طبيعة اللغة القرآنية. ولأن اللغة القرآنية بمثابة علاماتٍ ورموزٍ، تمّ فكّ رموزها من قِبل المجتمعات الاسلامية الأولى من خلال قراءاتها وتعليقاتها، فإنّه، بالتّالي، يدعو إلى فكِّ رموزٍ جديدةٍ لتلك العلامات والرموز. من

(307)

هذا المنظور، يصف القرآن بأنّه بمثابةِ تركيبةٍ من مجموعةٍ من العلامات والرموز التي توفّر كل المعاني وتنفتح على الجميع، وأنّه ليس هناك من تفسيرٍ يمكن أن يستنفد نص القرآن[1].

وهكذا، يمكن النظر إلى تحليل أركون، بمعنى من المعاني، باعتباره نوعًا من السيميولوجيا (علم الرموز) الهرمنيوطيقية، يشير إلى فهم مجموعةٍ من العلامات المرتبة في مجمعٍ نصّيٍّ متماسكٍ. إنّ مثل هذا الفهم سوف يكشف عن جوانبِ نصٍّ معيَّنٍ أو عن تنصيصٍ ولكن دائما في ما يتعلق (أو في سياق) نصوصٍ بديلةٍ أو تنصيصٍ بديلٍ[2].

تفسير التأويل - اللاهوتي (او الديني)

يصرّ أركون على أنّ هذه القراءة يجب أن تأتي كخطوةٍ أخيرةٍ، بعد القراءتين الأولى والثانية، وأنّ نوع اللاهوت المتوخَّى يجب أنْ يكون مستندًا إلى نتائج القراءتين الأولى والثانية، خاصةً القراءة التاريخية الأنثروبولوجية. وهذا لأنّه إذا استمر المرء بالنظر إلى القرآن كنصٍّ مقدَّسٍ لله المتعالِ والقريب، فسوف ينتهي الأمر، وببساطةٍ، بالمزيد من المشاكل اللاهوتية[3]. أما نوع اللاهوت المطلوب هنا، كما يقول أركون، فهو الإيمان العقلاني على أساس المواجهة بين الإبستمية السائدة في مرحلةٍ معينةٍ والمشاكل التي يفرضها نصٌّ دينيٌّ، ما يعني، بين التراث والتاريخ. وهو يشير إلى اثنين من خصائص هذا النهج. أوّلًا، أيّ نوعٍ من القراءة

(308)

ذات المنحى الايماني الذي يندرج تحت مسمى القوقعة العقائدية المتزمتة. ثانيا، مساهمة كتب التفسير البارزة في التطور التاريخي لـ التراث الحي. وقد وصف أركون بالفعل هذه القراءة بـ القراءة الطقسية، وبأن القراءتين الأولى والثانية هما أكثرُ أكاديميةً وأشدُّ تعقيدًا[1]. ليس هناك نوعٌ من القراءة اللاهوتية معترفٌ به هنا باستثناءٍ ما يمكن الإشارة إليه على أنّه لاهوتٌ عَلمانيٌّ، الذي ينتمي إليه أركون بحماسٍ شديدٍ. فبرفضه الاعتقاد السائد بأنّ الإسلام لا يفصل الروحاني عن المدنس، يؤكد أركون لقرّائه بأنّ العلمانية متأصلةٌ في دين الاسلام. وتماما كما استمد هارفي كوكس مبرراته للعلمنة من الكتاب المقدس[2] ، يقول أركون أيضا،  أنّ العلمانية متضمَّنةٌ في القرآن وفي تجربة المدينة (نسبة إلى المدينة المنورة)[3]. وهذا ليس استنتاجًا منطقيًّا يستند إلى حقائقَ تاريخيةٍ، وإنما هي فكرةٌ مسبقةٌ. فقد أعلن عن هدفه النهائي في مقالٍ عن الإسلام والعَلمانية حيث نصّ المقال على أنّ من الضروري لنا تفكيك العقيدة المغلقة من الداخل. وهذا غيرُ ممكنٍ إلّا إذا بحثنا عن تاريٍخ حرٍّ يمكن أن يقودنا وحده إلى مدخل العلمنة في الاسلام [4].

فالعلمانية إذًا عقيدة ذات تصوُّرٍ مسبقٍ تحتاج إلى تعزيزٍ وإثباتٍ بأيِّ ثمنٍ، حتى لو تطلّب ذلك تحريف الحقائق التاريخية. وإذا كان أركون قد نجح في تجنّب القراءة ذات المنحى الإيماني من أجل التهرب من عقائد السنة أو الشيعة، إلا أنه قد وقع بالتأكيد فريسةً للاهوتٍ علْمَانيٍّ له عقائده الخاصة.

(309)

ملاحظاتٌ ختاميةٌ

يعود الفضل لأركون لاهتمامه بأهمية المنهجية في الدراسات القرآنية. فقد أثنى على استخدام منهجياتٍ متعددة التخصصات لفهم القرآن تشمل العلوم التاريخية والعلوم الاجتماعية. مع ذلك، من غير الواضح ما إذا كان الشغل الشاغل لأركون هي الدراسات القرآنية أم الدراسات المنهجية. فكتاباته تدعم فكرة كونه أكثرَ اهتمامًا بمشكلة الأسلوب إلى الحد الذي يكون فيه القارئ في حيرةٍ من أمره حول ما إذا كان يقرأ كتابًا عن النقد النصي والتفسير، أم كتابا عن المنهجيات.

ليس من الصعب أنْ نرى بأنّ أركون لم يدرس المنهجيات من أجل القرآن، وإنما درس القرآن من أجل المنهجيات. فكلما تم تطوير أسلوبٍ ما في الغرب، فقد كان لا يقتنع بصحته حتى يثبت أنه ينطبق على التراث الإسلامي. وفي حين أنه كان يدرك جيدًا أنّ هذه العلوم، وعلى وجه الخصوص السيميائية، لا تزال قيد التطوير وبأنه ليس هناك من صياغةٍ محددةٍ حتى الآن قد أثبتت قطعيّتها، فإنّه، مع ذلك، استند في قراءاته للقرآن عليها. وحتى في هذا الجزء المعطى للتفسير النصي، فإنّ ما يقصده أركون ليس قول ما يقوله القرآن بقدر ما يريد أو يتوقع هو من القرآن أنْ يقوله (والتي هي إحدى خصائص النقد التفكيكي). ومع اطّلاعه التام على دور التاريخ في الفهم، يُقدّم أركون روايةً جديدةً لتاريخ القرآن. فهو لم يشكك فحسب في صحة تاريخ القرآن، بل وشكك أيضًا في رواية القرآن عن نفسه وعن دعوى حقيقته. إنّ أركون على استعدادٍ للاعتراف بحقيقة الوحي، ولكن فقط على مستوًى يتعدى متناول فهم البشر. هو سيعترف بحقيقة أمّ الكتاب، لكن هذا النوع من الحقيقة موجود عند الله وحده. كما أنه يعترف بصحة ومصداقية الصيغة الشفوية للقرآن، ولكن هذه الصيغة أيضًا ضاعت إلى الأبد، ويتعذّر

(310)

استرجاعها. أما ما تبقّى في شكلِ مصحفٍ فلن يحوز المصداقية. وبحسب تأويله، هناك شعورٌ عميقٌ بـ غموضٍ أنطولوجيٍّ، وهو موضوعٌ يعتبره الكثيرون السمة الغالبة لنظرية ما بعد الحداثة[1]. إذًا، إنّ البحث عن الحقيقة/ اليقين في القرآن من خلال هرمنيوطيقا أركون عبارةٌ عن مثاليةٍ طوباويةٍ. أخيرًا، إنّ الاستخدام المفرط للعديد من المصطلحات الأجنبية وغيرها من المصطلحات الجديدة غير المبررة، والتكرار، والتناقضات والغموض[2] يجعل كتاباتِ أركون جافةً، خاصّةً بالنسبة لكثيرٍ من المفكرين المسلمين. أما بالنسبة للقُرّاء الذين ليس لديهم إلمامٌ بكيفية عمل السيميائية، فسيبدو عرض أركون أكثرَ شبهًا بالرياضيات منه بتحليلٍ نصيٍّ. مع ذلك، ليس المبتدئون فقط هم المحبطين من مشروع  أركون، بل هناك العديد من الخبراء في هذا الميدان المحبطين أيضا.

في مراجعته لـ قراءات في القرآن لأركون، يصف جون ونسبرو مشروع أركون بأنه مشروعٌ لم يحقق بعد أيَّ حدٍّ عمليٍّ[3]. وعلى الرغم من توجهه الليبرالي، يحاجج علي حرب أيضا ويقول بأنّ طريقة أركون تفتقر إلى الإبداع والتماسك، وأنّ قراءاته لم تُثْرِ تاريخ الفكر لا عند المسلمين ولا عند المستشرقين[4]. ويعلق أحمد العلوي ساخرًا أيضا فيقول بأنّه لو تضافرت جهود الجن والإنس لتنفيذ

(311)

قراءة أركون السيميائية، فإنّ ذلك لن يؤديَ إلى تطور المسلمين. فتطورهم سيكون مضمونًا عندما يقودهم علمهم وتأويلهم إلى أنْ يحصلوا من القرآن على ما هو مفيدٌ لاحتياجاتهم الدنيوية والآخروية[1]. ويسود هذا الانطباع السلبي على الرغم من أنه ليس لدى أركون عددٌ كبيرٌ من المعجبين في الغرب، العالَمَ العربي/ وأندونيسيا[2]. ويسجّل أركون خيبة أمله من أن ليس هناك من مستشرقٍ أو باحثٍ في الدراسات الإسلامية يشاركه المفهوم الذي ابتدعه للقرآن منذ فترةٍ طويلةٍ (المدونة الرسمية المغلقة) وأن مناقشاته المنهجية أهْمِلتْ إلى حدٍّ كبيرٍ[3].

(312)

المصادر

11 - المصادر العربية:

1. القرآن الكريم.

2. ابن عاشور أ. صليحة، الخطاب القرآني والمناهج الحديثة في تحليله دراسةٌ نقديةٌ، مندرجٌ ضمن «أعمال الملتقی الدولي الثالث في تحليل الخطاب»، ورقلة: جامعة قاصدي مرباح ورقلة، بلاتاریخ.

3. أركون، محمّد، الإسلام، أوربا، الغرب رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، بيروت: دارالساقي، 2001 م.

4. ، الأنسنة والإسلام؛ مدخلٌ تاريخيٌّ نقديٌّ، بيروت: دارالطليعة، 2010.

5. ، تحرير الوعي الإسلامي: نحو الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة، بيروت: دارالطليعة، 2011.

6. ، نحو نقد العقل الإسلامي، ترجمة: هاشم صالح، بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 2009 م.

7. ، نحو تاريخٍ مقارنٍ للأديان التوحيدية، بيروت: دار الساقي، 2001 م.

8. ، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل: نحو تاريخٍ آخرَ للفكر الإسلامي، هاشم صالح، بيروت: دار الساقي، 2003 م.

9. ، الفكر الإسلامي قراءةٌ علميةٌ، المترجم: هاشم صالح، بیروت: مركز الإنماء القومي، 1996 م، أ.

10. ، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، المترجم: هاشم صالح، بیروت: مركز الإنماء القومي 1996 م، ب.

11. ، العلمنة والدين: الإسلام المسحية الغرب، بيروت: دارالساقي، 1996 م، ج.

12. ، نافذةٌ علی الإسلام، المترجم: صياح الجهيم، بيروت: دار عطية للنشر، 1996 م، د.

13. ، نزعة الأنسنة في الفكر العربي جيل مسكويه والتوحيدي، المترجم: هاشم صالح، بيروت: دارالساقي، 1997 م.

(313)

14. ، قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟، المترجم: هاشم صالح، بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، بلا تاريخ.

15. ، الفكر الإسلامي نقدٌ واجتهادٌ، المترجم: هاشم صالح، بيروت: دار الساقي، 2007 م.

16. ، القرآن من التفسير الموروث إلی تحليل الخطاب الديني، بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 2005 م.

17. ، من فيصل التفرقة إلی فصل المقال: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟، المترجم: هاشم صالح، بیروت: دار الساقي، 1999 م.

18. جبور، عبد النور، المعجم الأدبي، بيروت: دار العلم للملايين، 1984 م.

19. حرب، علي، نقد النص، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2005 م.

20. الحر العاملي، محمّد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلی تحصيل مسائل الشريعة، ج 9، قم: منشورات ذوي القربي. 1387 هـ. ش.

21. حمزة، محمّد، إسلام المجددين، بيروت: دارالطليعة للطباعة والنشر، 2007 م.

22. الصدر، محمّد باقر، بحوث في علم الأصول، بيروت، ط 1، 1417 هـ.

23. ، دروس في علم الأصول، الحلقة الثالثة، بيروت: دار التعارف للمطبوعات، 1410 هـ.

24. الطباطبائي، السيد محمّد حسين، الميزان، قم: دفتر انتشارات إسلامي جامعه مدرسين حوزه علميه، 1417 هـ، ج 19.

25. العراقي، ضياء الدين، الاجتهاد والتقليد، قم: نويد إسلام، 1388 هـ ش.

26. عبد الرحمن، طه، روح الحداثة المدخل إلی تأسيس الحداثة الإسلامية، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2006 م.

27. الفجاري، مختار، نقد العقل الإسلامي عند محمّد أركون، بيروت: دار الطليعة، 2005 م.

28. فاضل السعدي، أحمد، القراءة الأركونية للقرآن: دراسةٌ نقديةٌ، بيروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2012 م.

(314)

29. الكليني، محمّد بن يعقوب، الكافي، قم: دار الحديث، ج 2، 1429 هـ.

30. مرزوق، العمري، إشكالية تاريخية النص الديني في الخطاب الحداثي العربي المعاصر، بيروت: منشورات ضفاف، 2012 م.

31. مصطفی، كيحل، الأنسنة والتأويل في فكر محمّد أركون، الرباط: منشورات الاختلاف، 2011 م.

32. نايله، أبي نادر، التراث والنهج بين أركون والجابري، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2008 م.

33. هاني، إدريس، خرائطُ إيديولوجيّةٌ ممزَّقةٌ: الإيديولوجيا وصراع الإيديولوجيَات العربية والإسلامية المعاصرة، بيروت: الانتشار العربي، 2006 م.

12 - المصادر الفارسية:

1. أحمدي، بابك، مدرنيته و انديشۀ انتقادي، طهران: نشر مركز، 1373 هـ ش.

2. أركون محمّد، از اجتهاد به نقد عقل إسلامي، ترجمه إلى اللغة الفارسية: مهدي خلجي، مؤسسة توانا، 2015 م.

3. ، «قرآن را چگونه بخوانيم»، ترجمه إلى اللغة الفارسية ونقحه: سيد علي آقائي، مجلۀ خردنامه، العدد: 21، 1386 هـ ش.

4. پارسانيا، حميد، حديث پيمانه: پژوهشي در إنقلاب إسلامي، قم: دفتر نشر معارف، 1389 هـ ش.

5. ، جهان‌هاي اجتماعي، قم: كتاب فردا، 1392 هـ ش، أ.

6. ، «نظريه و فرهنگ»، راهبرد فرهنگ، العدد: 23، 1392 هـ ش، ب.

7. ، علم و فلسفه، طهران: پژوهشگاه فرهنگ وانديشه اسلامي، 1385 هـ ش.

(315)

8. ، تحمل اجتماعي و پلوراليسم ديني، كتاب نقد، العدد: 23، 1381 هـ ش.

9. ، روش ‌شناسي انتقادي حكمت صدرائي، قم: كتاب فردا، 1390 هـ ش.

10. ، و إسلامي تنها، أصغر، «عقلانيت سكولار و قدسي در ساحت جهان ‌داني، جهان ‌داري و جهان‌ آرائي»، فصل ‌نامۀ آيين حكمت، السنة الخامسة، العدد: 16، صيف عام 1392 هـ ش.

11. ،  بيکي ملك ‌آباد، هادي، «شرق ‌شناسي پست ‌مدرن؛ زمينه‌ها و پيامد‌ها»، مطالعات انديشۀ معاصر مسلمين، العدد: 2، 1394 هـ ش.

12. پور علي، حسين، «نقش عقل در فرايند استنباط احكام شرعي از ديدگاه شيعه و أهل سنت»، تحقيقات جديد در علوم إنساني، السنة الثانية، العدد: 6، صيف عام 1395 هـ ش.

13. پيران، پرويز، «مقدمة» كتاب سرمايه داري و حيات مادي 1800 - 1400، لمؤلفه: فرنان برودل، ترجمه إلى اللغة الفارسية: بهزاد باشي، طهران: نشر ني، 1372 هـ ش.

14. توكلي، غلام حسين، «أومانيسم ديني و أومانيسم سكولار»، پژوهشهاي فلسفي كلامي، العددان: 1 و 2، السنة الخامسة، خريف عام 1382 هـ ش.

15. جوادي آملي، عبد الله، دين شناسي، قم: مركز نشر إسراء، 1388 هـ ش.

16. ، شريعت در آينۀ معرفت، قم: مركز نشر إسراء، 1386 هـ ش، أ.

17. ، منزلت عقل در هندسۀ معرفت ديني، قم: مركز نشر إسراء، 1386 هـ ش، ب.

18. حجتي، سيد محمّد باقر، پژوهشي در تاريخ قرآن كريم، طهران: دفتر نشر فرهنگ إسلامي، 1386 هـ ش.

19. خاتمي، محمود، مدخل فلسفۀ غربي، طهران: نشر علم، 1386.

20. خلجي، مهدي، «ديرينه شناسي اخلاق و سياست در إسلام»، نقد و نظر، العددان: 13 و 14، شتاء وربيع عامي 1376 و 1377 هـ ش.

21. ، «محمّد أركون و فرايند روشنفكري»، مجلة كيان، العدد: 20، 1373 هـ ش.

22. ، آرا و انديشه‌هاي دكتر محمّد أركون، مركز مطالعات فرهنگي ـ بين ‌المللي (مديريت

(316)

مطالعات إسلامي)، 1377 هـ ش.

23. خير خواه، كامل، پژوهشي در آيين مسيحيت، قم: بوستان كتاب، 1388 هـ ش.

24. دريفوس هيوبرت و رابينو پل، ميشل فوكو فراسوي ساختارگرائي وهرمنوتيك، ترجمه إلى اللغة الفارسية: حسين بشيريه، طهران: نشر ني، 1392 هـ ش.

25. روشن، أمير و آذركمند، فرزاد، «مقايسه آراء حسن حنفي ومحمّد أركون دربارۀ علل انحطاط مسلمانان وراه رهائي از آن»، حكمت وفلسفه، العدد: 4، شتاء عام 1393 هـ ش.

26. رضائي آدرياني، إبراهيم، «نقد ديدگاه محمّد أركون دربارۀ زبان قرآن»، مجلۀ قرآن پژوهي خاورشناسان، العدد: 21، 1395 هـ ش.

27. رجبي، مهدي، عليت و تبيين از ديدگاه رئاليسم انتقادي و حكمت صدرائي، طهران: أمير كبير، 1395 هـ ش.

28. زيبائي نژاد، محمّد رضا، درآمدي بر تاريخ و كلام ميسيحيت، قم: انتشارات إشراق، 1375 هـ ش.

29. ساراپ، مادان، راهنمائي مقدماتي بر پساساختار‌گرائي وپسامدرنيسم، ترجمه إلى اللغة الفارسية: محمّد رضا تاجيك، طهران: نشر ني، 1382 هـ ش.

30. سليماني أردستاني، عبد الرحيم، مسيحيت، قم: كتاب طه، 1395 هـ ش.

31. طباطبائي، سيد محمّد حسين، شيعه در إسلام (الشيعة في الإسلام)، قم: دفتر انتشارات إسلامي، 1376 هـ ش.

32. عرب صالحي، محمّد، تاريخي‌نگري و دين، طهران: پژوهشگاه فرهنگ وانديشۀ إسلامي، 1391 هـ ش.

33. علي ‌أكبر زادة، حامد، «محمّد أركون و كاربست پساساختارگرايي در نقد عقل إسلامي»، دو فصلنامۀ پژوهش‌هاي معرفت شناختي، العدد: 10، خريف وشتاء عام 1394 هـ ش.

34. كريمي، بهزاد، «مكتب تاريخ ‌نگاري آنال»، مجلۀ تاريخ و تمدن إسلامي، السنة السادسة، العدد: 11.

(317)

35. كرمي، موسي و اژدريان شاد، زليخا، «تبار شناسي از نيچه تا فوكو»، روش شناسي علوم إنساني، 1391 هـ ش.

36. مدد پور، محمّد، بحران نيهيليسم فكري و هنري نيچه، طهران: أمير كبير، 1387 هـ ش.

37. مدقق، محمّد داود، «معرفي انتقادي نقد عقل إسلامي و إسلام ‌شناسي تطبيقي محمّد أركون»، مطالعات انديشۀ معاصر مسلمين، العدد: 4، 1395 هـ ش.

38. معرفت، محمّد هادي، تاريخ قرآن، طهران: نشر سمت، 1386 هـ ش.

39. نكونام، جعفر، «نقد نظريه أبو زيد در زمينه گفتاري بودن قرآن»، ماهنامۀ پژوهشي ـ تحليلي گلستان قرآن، العدد: 2، 1394 هـ ش.

40. وارد، گلن، پست ‌مدرنيسم، ترجمه إلى اللغة الفارسية: قادر فخر رنجبري و أبوذر كرمي، طهران: نشر ماهي، 1393 هـ ش.

41. وصفي، محمّد رضا، نومعتزليان، طهران: نگاه معاصر، 1388 هـ ش.

42. ويور، مري ‌جو، درآمدي به مسيحيت، ترجمه إلى اللغة الفارسية: حسن قنبري، قم: مركز مطالعات وتحقيقات أديان ومذاهب، 1381 هـ ش.

 

 

(318)
محمد أركون دراسة النظريات ونقدها يتضمن هذا الكتاب مباحث تحليلية في مختلف جوانب مشروع محمد أركون الفكري ، وهو حصيلة لجهود عدة باحثين تطرقوا إلى بيان واقع الفكر العربي الإسلامي المعاصر ، وقد دوّن مؤلفوها دراسات نقدية في مختلف آراء محمد أركون ونظرياته . ويتكون من فصلين : الفصل الأول : ميثودولوجيا بنيوية لمشروع محمد أركون (نقد العقل الإسلامي) . الفصل الثاني : دراسات نقدية حول مشروع محمد أركون (نقد العقل الإسلامي) . المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية http://www.iicss.iq info@iicss.iq islamic.css.lb@gmail.com
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف