فهرس المحتويات

(1)
(2)
(3)
(4)

فهرس الكتاب 

مقدِّمة المركز7

المقدِّمة9

المدخل19

الباب الأوّل:  التفسير الاستشراقيّ للآيات التي تتحدّث عن النبيّ عيسى عليه‌السلام والسيدة مريم عليها‌السلام

الفصل الأوّل: التفسير الاستشراقيّ للآيات التي تتحدّث

عن النبيّ عيسى عليه‌السلام 35

المبحث الأوّل: التفسير الاستشراقيّ

لقوله -تعالى-: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ) 37

المبحث الثاني: التفسير الاستشراقيّ

لقوله -تعالى-: (وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ) 82

المبحث الثالث: التفسير الاستشراقيّ لقوله -تعالى-:

(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) 92

المبحث الرابع: التفسير الاستشراقيّ للآيات التي أشارت إلى وفاة

المسيح عليه‌السلام ورفعه إلى السماء 96

المبحث الخامس: التفسير الاستشراقيّ للآيات القرآنيّة الدالّة على

موت النبيّ عيسى عليه‌السلام 129

المبحث السادس: التفسير الاستشراقيّ للآيات الدالّة على القيامة و

نزول المسيح عليه‌السلام إلى الأرض  أو رجعته 156

الفصل الثاني: التفسير الاستشراقيّ للآيات التي تتحدّث

عن السيّدة مريم عليها‌السلام 179

المبحث الأوّل: مريم عليها‌السلام بنت عمران وأخت هارون185

المبحث الثاني: نقاشاتٌ تفسيريّةٌ حول ولادة أنثى198

المبحث الثالث: نقاشاتٌ تفسيريّةٌ حول مصطلح (مِحراب)200

المبحث الرابع: التفسير الاستشراقيّ

لقوله -تعالى-: (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ) 205

المبحث الخامس: التفسير الاستشراقيّ

لقوله -تعالى-: (يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ)211

المبحث السادس: التفسير الاستشراقيّ لكلمة (أقلام) في

الآية 44 من سورة آل عمران 217

(5)

فهرس الكتاب 

الباب الثاني: التفسير الاستشراقيّ لمصطلحَي (الكتاب) و(التفصيل) في النصّ القرآنيّ

الفصل الأوّل: التفسير الاستشراقيّ

لمصطلح "الكتاب" في النصّ القرآنيّ227

المبحث الأوّل: "الكتاب"؛ بمعنى

التوراة والإنجيل (على نحو الاقتباس، لا التناصّ)229

المبحث الثاني: "الكتاب" عبارةٌ عن رمزٍ لنصٍّ

موازٍ يقابل "الكتاب"؛ بمعنى المصحف279

الفصل الثاني: التفسير الاستشراقيّ لمصطلح

"التفصيل" في النصّ القرآنيّ321

المبحث الأوّل: التفصيل بمعنى التعريب323

المبحث الثاني: التفصيل؛ بمعنى النصّيّة الموازية343

الباب الثالث: التفسير الاستشراقيّ للآيات التي تتحدّث عن رسالة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وشخصيَّته

الفصل الأوّل: التفسير الاستشراقيّ للآيات التي تتحدّث عن

رسالة النبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله 403

المبحث الأوّل:التفسير الاستشراقيّ لعبارة "خاتم النبيّين"405

المبحث الثاني:التفسير الاستشراقيّ لكلمة (درَسْتَ) أو (دارَستَ)445

المبحث الثالث:التفسير الاستشراقيّ لعبارة "فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ"460

الفصل الثاني:التفسير الاستشراقيّ للآيات التي

تتحدّث عن شخصيّة النبيّ محمّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله 475

المبحث الأوّل:التفسير الاستشراقيّ للآية 7 من سورة الضحى477

المبحث الثاني:التفسير الاستشراقيّ للآيات الأولى

من سورتي المزمّل والمدثّر490

المبحث الثالث: التفسير الاستشراقيّ لكلمتَيْ (أمّيّ) و(أمّيّون)496

نتائج ومقترحات515

المصادر والمراجع522

(6)

مقدمة المركز 

الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وبعد...

لم تتوقّف حركة البحث العلميّ التخصّصيّ والموسوعيّ عند المستشرقين منذ القدم وحتّى عصرنا الراهن حول مصادر التراث الإسلاميّ، ولا سيّما القرآن الكريم والسنّة الشريفة وسيرة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وتاريخه، ولطالما اتّصف نتاجهم البحثيّ والعلميّ بمناهجه وبتناوله لمواضيع وقضايا دقيقة وحسّاسة، تنعكس آثارها في فهم الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة.

وقد تميّز القرآن الكريم من بين التراث الإسلاميّ كلّه بمحوريتّه في كتابات أغلب المستشرقين، حيث كثرت الدراسات والكتب المتعلّقة بمصدريّة القرآن الكريم، وعلومه، وتفسيره، والكثير من القضايا والبحوث الموضوعيّة المتعلّقة به، وهذا ما يُثقل المسؤوليّة على مراكز الدراسات والمؤسّسات العلميّة والبحثيّة عند المسلمين، وتصويب دراسات أخرى وتوجيهها، وإزالة التباسات وشبهات تفرزها دراسات المستشرقين.

ويأتي هذا الكتاب؛ النصّ القرآنيّ (التفسير الاستشراقيّ للنصّ القرآنيّ في النصف الثاني من القرن العشرين)، ليتناول بالبحث والتحقيق والدراسة النهج التفسيريّ الذي اتّبعه المستشرقون خلال النصف الثاني من القرن العشرين في تفسير آيات القرآن وعباراته وألفاظه، ضمن إطارٍ تحليليٍّ نقديٍّ، مبيّنًا الوجهة التفسيريّة التي تبنّاها هؤلاء إبّان الفترة التأريخيّة المشار إليها، ومسلّطًا الضوء على الخلفيّات التي نشأت هذه الوجهة على أساسها، ومقوِّمًا للبحث وفق مداليل ظاهر الآيات وسياقاتها وسياقات الآيات المشابهة.

ويشمل نطاق البحث جميع التفاسير المدوّنة من قِبَل المستشرقين خلال العقود الخمسة الثانية من القرن المنصرم والسنوات اللاحقة؛ بغضّ النظر عن المعتقد الدينيّ أو النهج الفكريّ للمفسّر.

(7)

وتمتاز هذه الدراسة التي بين أيدينا عن غيرها من الدراسات في شمولّيتها التحليليّة لشتّى المشارب الفكريّة ووجهات النظر التي تبنّاها المستشرقون على صعيد تفسير القرآن الكريم، حيث سلّطت الضوء على باحثين تقليديّين؛ أمثال: ريتشارد بيل، ويوسف درّة الحدّاد، وجون وانسبرو،  وباحثين تجديدييّن؛ أمثال: أوري روبين، وأنجيليكا نويورث، ونيل روبنسون، وغابريال سعيد رينولدز، وقدّمت استعراضًا عامًّا لرؤى المستشرقين في تفسير الآيات والعبارات والمصطلحات القرآنيّة وبيانًا لخلفيّاتها في إطار نقدي تقويمي يفكّكك بين التفاسير المنسجمة مع القرائن التفسيريّة وتلك التي هي مجرّد تفسيرات بالرأي وتخميناتٍ وفرضيّاتٍ منبثقة من إسقاطات أيديولوجيّة ورؤى اختزاليّة.

 

والحمدلله ربّ العالمين
المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة

 

(8)

المقدمة

حينما نستطلع الدراسات التفسيريّة المدوّنة من قِبَل المستشرقين، نستشفّ بوضوحٍ أنّ الرؤية التفسيريّة التي ارتكزوا عليها تختلف بالكامل عمّا ذهب إليه المفسّرون المسلمون، ونقصد من التفسير -هنا- صورته العامّة؛ من حيث شموله لكلّ إيضاحٍ مرتبطٍ بالآية، ونعني بالمستشرق ذلك المفهوم السائد الدالّ على كلّ مفكّرٍ غربيٍّ سخّر حياته العلميّة لاستقصاء عالم الشرق بالبحث والتحليل في أحد المجالات الدينيّة والتأريخيّة واللغويّة والأدبيّة وغيرها[1]، بحيث دوّن بحوثه العلميّة وفق المعايير المعتمدة في الدراسات الغربيّة[2]. والبحوث التفسيريّة المدوّنة من قِبَل المستشرقين بطبيعة الحال جزءٌ من النشاطات الاستشراقيّة؛ لكونها ترتكز على المعايير البحثيّة والأكاديميّة ذاتها المعتمدة في الجامعات والأوساط الفكريّة الغربيّة، ولا فرق بين أنْ يكون كاتبها مسلمًا أو غيرَ مسلمٍ.

ويعدّ تفسير القرآن الكريم من قِبَل المستشرقين ظاهرةً جديدةً من نوعها، لكنّ التفاسير التي دوّنوها قليلة جدًّا، والميزة الفارقة لها أنّ أساليب البحث المعتمدة فيها على نسق الأساليب المتّبعة في تفسير الكتاب المقدّس، فضلًا عن ذلك، فالآثار الاستشراقيّة المدوّنة حول القرآن الكريم في الحقبة الأخيرة قامت بشكلٍ أساس على منهجيّة العلوم الإنسانيّة والمعطيات التي تمّ التوصّل إليها في مضمار هذه العلوم

(9)

من قِبَل العلماء والمفكّرين الغربيّين، وهذا الأمر جليٌّ بوضوحٍ في غالبيّة البحوث التفسيريّة الاستشراقيّة، وخلاصة كلامهم أنّ القرآن الكريم عبارةٌ عن نصٍّ أدبيٍّ -لغويٍّ يمكن أن تطبّق عليه جميع الأساليب المعرفيّة المتّبعة في الثقافة الغربيّة من شتّى الجوانب المادّيّة والاعتباريّة؛ سواءً كانت هذه الأساليب أسطوريّةً أو واقعيّةً أو تأريخيّةً أو فلسفيّةً، فهي قابلةٌ للتطبيق على النصّ القرآنيّ، وعلى هذا الأساس أكّدوا على عدم وجود اختلاف بين تفسير الآيات القرآنيّة وشرح مقاطع التوراة والإنجيل وسائر النصوص الأدبيّة غير الدينيّة.

وحينما نمعن النظر في تفاسير المستشرقين للآيات التي تطرّقت إلى الحديث عن النبيّ عيسى عليه‌السلام، نستشفّ منها أنّ أصحابها غالبًا ما طرحوها على ضوء ما يلي:

    • توجّهاتٍ عقديّةٍ ورؤًى دينيّةٍ؛ بغضّ النظر عن السّياق القرآنيّ.

    • طبيعة الظروف الاجتماعيّة والثقافيّة التي كانت حاكمةً على مجتمع عصر النزول.

   • التشابه الكائن بين المعطيات القرآنيّة والنصوص القانونيّة وسائر النصوص غير الرسميّة في العرف المسيحيّ.

    • فرضيّاتٍ تأريخيّةٍ وتخميناتٍ وهميّةٍ لا أساس لها من الصحّة.

   • ادّعاء وجود تشابهٍ بين بعض الآيات، وطرح مقارناتٍ غيرِ منطقيّةٍ بين آياتٍ واردة بخصوص قدرة الله عزّ وجلّ.

    • طرح قراءةٍ مشتّتةٍ وغيرِ متناسقةٍ؛ اعتمادًا على ظواهر الآيات.

هذا في حين أنّ السّياق هو مرتكز المعنى الدلاليّ لهذه الآيات، إذ إنّ المفسّر في غنًى عن اللجوء إلى أيِّ مدلولٍ استعاريٍّ، في ما لو أمعن النظر بطريقة البيان القرآنيّ وأسلوبه الثابت.

ويمكن تسليط الضوء على التفاسير القرآنيّة المطروحة من قِبَل المستشرقين ضمن وجهتيْ نظرٍ أساسيّتيْن تختلف التفريعات المنبثقة من كلّ واحدةٍ منهما مع التفريعات المنبثقة من الأخرى، أي أنّهما غير منسجمتين، لكنّهما بشكلٍ عامٍّ تعكسان الأساليب والتوجّهات التفسيريّة المتعارفة بين هذه الشريحة الفكريّة، وهما كما يلي:

1. وجهة النظر الأولى: تبنّى بعض المستشرقين وجهاتِ نظرٍ تفسيريّةً تتّسم بنوعٍ من الاحتياط؛ بحيث لم تكنْ لديهم رؤيةٌ إبستيمولوجيّةٌ تشاؤميّةٌ متطرّفةٌ مثلما هو حال جون

(10)

وانسبرو[1]، وقد اعتمدوا في تفسيرهم للآيات والعبارات والألفاظ القرآنيّة على النظريّات اللغويّة والنحويّة، ولا سيّما تلك النظريّات الموروثة من علماء اللغة والنحو المسلمين القدامى، وكذلك اعتمدوا على تفاسير العلماء المسلمين؛ لكن اللافت للنظر أنّهم في معظم الأحيان سلّطوا الضوء عليها في إطارٍ نقديٍّ، وفي هذا السّياق أكّدوا على إمكانيّة دراسة الدلالات القرآنيّة وتحليلها؛ اعتمادًا على النصّ القرآنيّ ذاته في الكثير من الحالات، لكنّ هناك بعض الأمور غامضةٌ برأيهم وتوضيحها يقتضي اللجوء إلى شواهدَ ووسائلَ توضيحيّةٍ من خارج النصّ القرآنيّ.

وقد اعتمد المستشرقون في التفسير الاستشراقيّ الذي يقوم على تفسير القرآن بالقرآن، على النصّ القرآنيّ ذاته؛ بدل اللجوء إلى القضايا الفرعيّة في التأريخ الإسلاميّ وخلال عهده الأوّل بالتحديد، حيث استندوا إلى منهج تشذيب النصّ وتغيير ترتيب حروفه وآياته، كما لجأوا إلى أساليبَ لغويّةٍ أثمرت في بعض الحالات نفي الطابع العربيّ للقرآن الكريم، كذلك صاغوا استنتاجاتهم التفسيريّة على أساس سياق معيّنٍ يتّسم بطابعٍ مسيحيٍّ يهوديٍّ؛ بحيث تكرّرت إرجاعاتهم إلى الكتاب المقدّس بشكلٍ ملحوظٍ.

وفي معظم الأحيان نلمس قراءةً لفظيّةً وجزئيّةً للنصّ القرآنيّ من قِبَل بعض المستشرقين، إلى جانب طرح تفسير نمطيٍّ -طوبولوجيٍّ- وموضوعيٍّ لعددٍ من الآيات؛ ويمكن وصف أصحاب هذه التفاسير بأنّهم مستشرقون تقليديّون.

2. وجهة النظر الثانية: في مقابل الوجهة الفكريّة التقليديّة هناك تيارٌ استشراقيٌّ يوصف بالإصلاحي تعامل أتباعه مع النصّ المقدّس على ضوء منهجيّةٍ ورؤيةٍ تحليليّةٍ لغويّة ليشكّكوا به من الناحية التأريخيّة، وفي هذا السّياق نأوا بأنفسهم عن الفرضيّات المتعارفة في تأريخ الفكر الإسلاميّ، حيث لم يطرحوا قراءةً لغويّةً تأريخيّةً للقرآن الكريم، بل كانت قراءتهم لغويّةً بحتةً اتّسمت بالتخمين والتعصّب المبالغ فيه.

(11)

وجدير بالذكر أنّ القراءة اللغويّة البحتة للنصّ القرآنيّ من قِبَل هذه الشريحة من المستشرقين، فحواها أنّ هذا الكتاب السماويّ لم يظهر في منطقة الحجاز إبّان القرن السابع الميلاديّ بشكله المتعارف اليوم، وإنّما تبلور في العراق خلال القرن التاسع الميلاديّ، لذا فهو بحسب هذه الرؤية ليس تأريخًا بحدّ ذاته، بل انعكاسًا لمرحلةٍ تأريخيّةٍ؛ ولدى تحليلهم مداليل النصّ القرآنيّ استندوا في غالبيّة الأحيان إلى الكتاب المقدّس والتعاليم اليهوديّة.

وهناك اختلافاتٌ واضحةٌ غاية الوضوح بين القرآن الكريم ونصوص العهدين في بعض القضايا المشتركة، لكنّ هؤلاء عند التعامل معها انحازوا واعتمدوا على منهجيّةٍ إبستيمولوجيّةٍ يهوديّةٍ لاستنباط المدلول النصّيّ القرآنيّ، وفي هذا المضمار ادّعوا أنّه نشأ وترعرع في بيئةٍ تطغى عليها النزعات الطائفيّة وهو متأثّر برؤىً يهوديّةٍ. واللافت للنظر أنّ هذه الشريحة ينضوي تحت مظلّتها مستشرقون انتقدوا أقرانهم المستشرقين القدماء الذين ادّعوا أنّ القرآن الكريم ليس تبلورًا تأريخيًّا لأمّةٍ كانت تمرّ في مراحل التكوين، واعتمدوا في بيان مداليله على فرضيّاتٍ مسيحيّةٍ ويهوديّةٍ؛ حيث تبنّوا فكرة أنّ النصّ القرآنيّ شفويٌّ ذو طابعٍ دينيٍّ والأسلوب الأمثل لفهم مضامينه يجب أن يقوم على مبدأ التحليل اللغويّ؛ أي أنّه بحسب هذا التوجّه الفكريّ أشبه بالنصّ المسرحي، فأطـراف الحوار فيه هم النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ومخاطبوه، ومن ثمّ فهو ليس نصًّا منبثقًا من رؤىً فكريّةٍ مسبقةٍ تتناغم مع توجّهات الأسلاف، لذا فكلّ آيةٍ وعبارةٍ فيه بحاجةٍ إلى تحليلٍ زمانيٍّ مستقلٍّ على غرار العرض المسرحيّ الذي يكون كلّ مشهدٍ فيه مرتبطًا بفترةٍ زمنيّةٍ محدّدةٍ؛ بحيث تتوالى المشاهد لتصوغ الأحداث ضمن مراحلَ زمنيّةٍ متواليةٍ ترتبط السابقة منها مع اللاحقة. وعلى أساس هذه الرؤية التفسيريّة تطرّق هؤلاء المستشرقون إلى دراسة الارتباط النصّيّ للسور الأولى من القرآن الكريم والسور اللاحقة بها وتحليلها، وكذلك تطرّقوا إلى بيان التناصّ -التعالق النصّيّ- بين السور القرآنيّة ومضمون الكتاب المقدّس.

ولا شكّ في أنّ التحليل الدقيق والمعمّق للمنهجيّة الإبستيمولوجيّة المتّبعة في الدراسات الاستشراقيّة التي تتمحور حول تفسير المضمون القرآنيّ، يتيح لنا الاطّلاع على النواقص الكامنة في هذه المنهجيّة، وفي الحين ذاته يتسنّى لنا على ضوئه التعرّف على مزايا هذه الدراسات؛ ومن هذا المنطلق تطرّقنا بإسهابٍ إلى بيان الفرضيّات التي أسفرت عن تعدّد الرؤى الاستشراقيّة واختلاف استنتاجات المستشرقين حول أحد المواضيع ضمن بحوثهم القرآنيّة.

(12)

وقد تبنّى الباحثون التقليديّون -الذين يشكّلون التيار الأوسع نطاقًا في مضمار البحوث العلميّة الغربيّة-، في معظم الأحيان وجهاتِ نظرٍ تأريخيّةً لدى تسليطهم الضوء على النصّ القرآنيّ، واعتمدوا على فقه اللغة في بيان معاني الألفاظ إلى جانب تحليلاتٍ لغويّةٍ، وراموا من وراء ذلك استكشاف العلاقة الرابطة بين القرآن الكريم والمنهج المعتمد في التعامل مع مداليل الكتاب المقدّس في فترة ظهوره والفترة التي تلتها؛ وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ هؤلاء الباحثين تطرّقوا إلى بيان معاني النصوص على أساس أسلوب التحليل النصّيّ المرتكز على شواهدَ غيرِ نصّيّةٍ، وقد تعاملوا مع النصّ القرآنيّ وفق هذا الأسلوب أيضًا. وعلى الرغم من أنّ هذا الأسلوب يتيح للباحث استكشاف معانٍ جديدةٍ وواضحةِ الدلالة للألفاظ والعبارات القرآنيّة، إلا أنّه في معظم الأحيان يسفر عن صياغة الرؤية المطروحة بشكلٍ مقتبسٍ، ومن ثمّ يتزايد احتمال الخطأ في فهم المضمون؛ وهذا يعني أنّ فهم مدلول النصّ القرآنيّ في رحاب الكتاب المقدّس أو على أساس البحوث التي دُوّنت بخصوص هذا الكتاب، يسفر عن طرح آراء اختزاليّةٍ بطبيعة الحال؛ أي تقليص نطاق المعنى القرآنيّ ضمن مفاهيمَ ضيّقةٍ تدور في فلك عبارات العهدين؛ وهناك العديد من المحاولات البحثيّة التي لجأ المستشرقون فيها إلى تخميناتٍ وتصوّراتٍ غيرِ واقعيةٍ قائمةٍ على رؤيةٍ وضعيّةٍ، هادفين من ورائها بيان غرض كاتب النصّ القرآنيّ، وفي هذا السّياق برّروا عدم اتّساق بعض مفاهيم النصّ القرآنيّ مع مفاهيم نصّ الكتاب المقدّس بأسبابٍ عدّة، من جملتها ما يلي:

ـ وقوع النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطأٍ.

ـ عدم امتلاكه فهمًا تامًّا بمضمون الكتاب المقدّس.

ـ رواج تصوّراتٍ ومعتقداتٍ خاطئةٍ بين عوامّ اليهود والنصارى في المدينة (يثرب).

ـ الفراغ العقديّ الذي واجهه المسلمون خلال الفترة التي تلت صدر الإسلام.

إضافةً إلى أسباب أخرى، حيث اعتبروها عواملَ أساسيّةً في الاختلاف الكائن بين القرآن والعهدين.

وأمّا أهمّ نقاط الضعف التي يؤاخذ عليها هؤلاء، فيمكن تلخيصها بما يلي:

ـ تبنّي رؤيةٍ تفسيريّةٍ محدودةِ الأطر.

(13)

ـ عدمِ الاهتمام كما ينبغي بسياق الكلام.

ـ خضوعٍ غيرِ مبرّرٍ لفرضيّاتٍ منبثقةٍ من توجّهاتٍ اعتقاديّةٍ وتحليل النصّ على أساسها؛ مثل: الاعتقاد بأفضليّة الكتاب المقدّس على القرآن الكريم.

فضلاً عن نواقصَ ونقاطِ ضعفٍ أخرى.

3. وجهة النظر الثالثة: في مقابل هؤلاء، هناك تيارٌ فكريٌّ تعديليٌّ (تنقيحيٌّ) Revisionist يتبنّى المنضوون تحت قوام مظلّته استنتاجاتٍ لمفاهيم الكتاب المقدّس والتعاليم اليهوديّة في أغلب الأحيان، ويتطرّقون إلى تحليل المضمون القرآنيّ بأسلوبٍ لغويٍّ بحتٍ، ومعظم آرائهم عبارةٌ عن تخميناتٍ وفرضيّاتٍ ظنّيّةٍ تتّسم بالتعصّب.

وجدير بالذكر أنّ بعض الاختلافات العجيبة الموجودة بين النصّ القرآنيّ ونصوص العهدين أثّرت على المتبنّيات الفكريّة للمستشرقين الغربيّين؛ بحيث تجاهلوا الفرضيّات والأسس الفكريّة المتعارفة في العالم الإسلاميّ على مرّ التأريخ، واعتمدوا على أسسٍ إبستيمولوجيّةٍ يهوديّةٍ في استنباط الدلالات القرآنيّة على ضوء شواهدَ خارجةٍ عن النصّ؛ فحواها أنّ القرآن الكريم ولد وترعرع في بيئةٍ طائفيّةٍ تطغى عليها النزعة اليهوديّة؛ لدرجة أنّهم أنكروا بعض الحقائق الثابتة التي لا يشوبها أدنى شكٍّ أو تردّدٍ.

ويأتي هذا الكتاب ليبيّن الرؤية التي تبنّاها المستشرقون في تفسير الآيات والعبارات القرآنيّة، ويستقصي الفرضيّات التي ارتكزوا عليها في هذا المضمار، ويوضّح الأطر العامّة لاختلاف تفاسيرهم مع سائر التفاسير الاستشراقيّة المنسجمة مع التفاسير الإسلاميّة والتي هي في الحقيقة قائمةٌ على أدلّةٍ قطعيّةٍ من خارج النصّ القرآنيّ؛ إلى جانب مقارنتها مع التخمينات والآراء الظنّية المستندة إلى فرضيّاتٍ أو قراءاتٍ مرتبطةٍ بأسلوب تحليل مضمون الكتاب المقدّس أو المرتكزة على رؤيةٍ اختزاليّةٍ.

ومحور البحث في هذا الكتاب هو تسليط الضوء على تفاسير القرآن الكريم المدوّنة من قِبَل المستشرقين في العقود الماضية، وبالتحديد خلال العقود الخمسة الأخيرة من القرن العشرين والفترة التي تلتها، والمقارنة بين توجّهاتهم الفكريّة في هذا المضمار ضمن دراسةٍ نقديّةٍ تحليليّةٍ؛ ومن الواضح أنّ بيان تفاصيل الموضوع بشكلٍ دقيقٍ ومسهبٍ يتيح لنا بيان

(14)

نقاط القوّة والضعف في البحوث التفسيريّة الاستشراقيّة، إذ يتمّ تقويم فرضيّاتهم الدخيلة في تفسير آيات القرآن الكريم وعباراته في بوتقة النقد والتحليل.

ويمكن تلخيص محاور الكتاب بما يلي:

ـ استعراضٍ عامٍّ لرؤية المستشرقين في تفسير الآيات والعبارات القرآنيّة، وبيان خلفيّاتها في إطارٍ نقديٍّ.

ـ تحليل فرضيّاتهم في بيان معاني بعض المصطلحات القرآنيّة.

ـ التفكيك بين التفاسير المنسجمة مع الوجهة التفسيريّة الإسلاميّة والقائمة على شواهدَ قطعيّةٍ ومبدأ التناصّ، عن تلك التفاسير التي تستند إلى تخميناتٍ وفرضيّاتٍ مرتكزةٍ على النهج التفسيري المتّبع في الكتاب المقدّس أو المنبثقة من رؤيةٍ اختزاليةٍ.

وتتمحور أبواب الكتاب بشكلٍ أساس حول بيان نماذج من التفاسير التي طرحها الباحثون الغربيّون التقليديّون الذين يشكِّلون أكبر تيارٍ تفسيريٍّ في العالم الغربيّ، كذلك ضُمِّنت بعض التفاسير الفرعيّة التي دوّنت بأقلام عددٍ من الباحثين التجديديّين حول ألفاظٍ وعباراتٍ قرآنيةٍ معيّنةٍ، حيث سلّطنا الضوء عليها بمهنيّةٍ بحثيّةٍ وحياديّةٍ في رحاب مداليل النصّ القرآنيّ.

وقد طرحت هذه التفاسير الاستشراقيّة للنقد والتحليل في إطار دقيقٍ وشاملٍ قدر المستطاع؛ من خلال إثبات أنّها لم تكترث بالتفاسير التقليديّة الإسلاميّة كما ينبغي، واعتمدت على مضامينها بأدنى مستوى ممكنٍ وبأسلوبٍ انتقائيٍّ.

وتتبلور حياديّة البحث في هذا الكتاب في طرح التفاسير المشار إليها دون الحكم عليها مسبقًا؛ وفق الأصول العقديّة للمسلمين المنبثقة من مبادئ الوحي والشريعة الإسلاميّة، وفي هذا السّياق تطرّقنا إلى بيان الحدّ الأدنى من المرتكزات الفكريّة التي طرح المستشرقون نظريّاتهم وآراءهم التفسيريّة على أساسها، والسبب في اعتمادنا على الحدّ الأدنى -هنا- هو أنّ معظم المستشرقين لا يذكرون النهج الفكريّ الذي يرتكزون عليه في بحوثهم، لذلك لا نجد خطّة بحثٍ علميٍّ واضحةَ المعالم في أطروحاتهم التفسيريّة، وإنّما غاية ما في الأمر أنّنا نواجه أحيانًا فوضًى منهجيّةً في أحد البحوث العلميّة على ضوء المقتضيات العقديّة والإيديولوجيّة للمستشرق.

(15)

وغالبًا ما تكون البحوث التفسيريّة المطروحة من قِبَل المستشرقين، عاريةً من الانسجام والترابط، وما أكثر تلك الحالات التي تسفر الخلفيّة الدينيّة والعقديّة أو الفكريّة والفلسفيّة للباحث عن تشكيكه بالمعنى المتعارف للآية أو العبارة القرآنيّة وتُرغمه على البحث عن معنًى آخرَ لها؛ لذلك لا نجد عددًا كبيرًا من البحوث التفسيريّة ولا نلاحظ تفاسيرَ متعدّدةً للآيات والعبارات القرآنيّة من قِبَل هؤلاء، بل غاية ما في الأمر أنّ هناك مدوّناتٍ مشتّتةً أو مقالاتٍ تفسيريّةً غيرَ ممنهجةٍ وهي بشكلٍ عامٍّ منبثقةٌ من مشاربَ فكريّةٍ متنوّعةٍ؛ بحيث يمكن اعتبارها بالمعنى الكلّي للمفهوم التفسيريّ نافذةً لبيان أحد الألفاظ أو العبارات القرآنيّة فحسب.

وقد اتّسع نطاق هذه الظاهرة لدرجة أنّ بعض الكتب التي نشروها بعنوان تفاسيرَ قرآنيّةٍ لا تستقطب نظر المخاطب؛ باعتبارها مصادرَ تفسيريّةً، وإنّما تطرح بين يديه بوصفها تنظيمًا جديدًا وأرخنةً من نمطٍ معيّنٍ للآيات، أو باعتبارها تحليلًا نصّيًّا ودراسةً منهجيّةً للتفاسير التي دوّنها العلماء المسلمون، أو ينظر إليها وكأنّها كتاباتٌ دوّنت بغية تقويم هذه التفاسير.

إذًا، لا نبالغ لو قلنا إنّ تفسير القرآن في كتابات المستشرقين هو جديدٌ من نوعه، ويحتلّ آخر مرتبةٍ من حيث الدلالة النصّيّة، ويحظى بأدنى نصيبٍ وحجمٍ فيها.

مع أنّ عنوان الكتاب يتمحور حول بيان معالم تفسير القرآن الكريم من وجهةٍ استشراقيّةٍ إبّان النصف الثاني من القرن العشرين والفترة التي تلتها في إطارٍ نقديٍّ تحليليٍّ، لكنّنا اضطررنا أحيانًا إلى الحديث عن بعض الآراء المطروحة في هذا المضمار قبل الفترة المشار إليها، وبادرنا أحيانًا أخرى إلى شرحها وتحليلها؛ لأجل بيان مختلف جوانب الموضوع، ومعرفة المشارب الفكريّة التي انبثقت هذه الأطروحات الاستشراقيّة منها.

وقد اعتمدنا في فهرسة أبواب الكتاب وفصوله على مواضيعَ مطروحةٍ في البحوث التفسيريّة الاستشراقيّة الأكثر شهرةً في الأوساط الفكريّة والتي يمكن لكلّ مجموعةٍ منها أنْ تطرح محورًا للبحث في نطاق بابٍ متكاملٍ، وفي بوتقة موضوعٍ واحدٍ؛ وذلك لعدم وجود تفاسيرَ منسجمةٍ يمكن الارتكاز عليها لتحليل موضوع البحث ونقده. وعلى هذا الأساس ترجمنا مئات المقالات التفسيريّة وشبه التفسيريّة إلى جانب مراجعة عشرات الكتب التي تطرّق مؤلّفوها إلى الحديث عن الآيات والعبارات القرآنيّة، وارتأينا من المناسب أن نسلّط الضوء في الأبواب الثلاثة التي تلي

(16)

المدخل، على ثلاثة محاورَ أساسيّةٍ هي التالية:

الباب الأوّل: التفسير الاستشراقيّ للآيات التي تتحدّث عن النبيّ عيسى عليه‌السلام والسيدة مريم عليها‌السلام.

الباب الثاني: التفسير الاستشراقيّ لمصطلحي "الكتاب" و"القرآن" في النصّ القرآنيّ.

الباب الثالث: التفسير الاستشراقيّ للآيات التي تتحدث عن رسالة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وشخصيَّته.

ويتمحور موضوع البحث في الباب الأوّل حول بيان فهم المستشرقين للآيات القرآنيّة المرتبطة بالنبيّ عيسى عليه‌السلام؛ من حيث صلبه، ووفاته، ورفعه إلى السماء، ونزوله مرّةً أخرى إلى الأرض، والسيّدة مريم عليها‌السلام، وكلّ ما ذكرته الآيات القرآنيّة بخصوصها قبل ولادتها، وفي سنّ طفولتها، وحين اصطفائها وحملها، إضافةً إلى مباحثَ أخرى.

والجدير بالذكر -هنا- أنّ المستشرقين في هذا المضمار اتّبعوا مناهج بحث تأريخيّة ذات طابع نقديّ، لذلك طرحوا العديد من الآراء التي ادّعي فيها التحريف والحذف والإضافة وتغيير ترتيب الآيات، وما إلى ذلك من آراء أخرى. ومنهم من تبنّى نهجًا بحثيًّا أدبيًّا ولغويًّا لتحليل الآيات؛ اعتمادًا على نصوصٍ قرآنيّةٍ وغيرِ قرآنيّةٍ، وهذا النهج شائعٌ بينهم أيضًا.

ويتمحور الباب الثاني حول المعنى المقصود من مصطلح "الكتاب" في الآيات القرآنيّة من وجهة نظر المستشرقين، وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ قراءتهم المطروحة بخصوص مفهوم الكتاب لا تتّصف بالتناسق والاتّزان التفسيريّ، فهي مرتكزةٌ بشكلٍ أساس على التعامل مع الموضوع، في ظلّ تحليلٍ نصّيٍّ قائمٍ على الرجوع إلى نصوصٍ أخرى؛ مثل: التوراة والإنجيل، وعلى ضوء تحليلٍ غيرِ نصّيٍّ عبر تفسير الموضوع؛ وفق دلالته الذاتيّة، بحسب منشئه السماويّ، وارتكازه على العلم الإلهيّ.

كما أنّ المستشرقين ضمن تفسيرهم هذا المصطلح القرآنيّ، سلّطوا الضوء -أيضًا- على مصطلحاتٍ قرآنيةٍ أخرى ذات ارتباطٍ به؛ مثل مصطلح "التفصيل" الذي هو على غراره من حيث شموله لمعنييْن؛ أحدهما: نصّيٌّ؛ يتمثّل بالتعريب، والآخر: غيرُ نصّيٍّ؛ يتمثّل بتفسير الكتاب.

وأمّا محور البحث في الباب الثالث فهو تحليل تفاسير المستشرقين للآيات المرتبطة بالنبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والتي تحكي عن خصائصه الفريدة؛ مثل: خاتميّة نبوّته، وكونه أمّيًّا، وكذلك الآيات التي

(17)

يمكن الاستدلال منها على ميّزاتٍ خاصّةٍ به دون غيره؛ وفي هذا السّياق ادّعى بعض المستشرقين وضع هذه الآيات من قِبَل المسلمين بعد عهده؛ مستدلّين على ذلك بأنّها غيرُ متناسقةٍ مع سياق سائر الآيات، وبعضهم استند إلى مضامينها وسياقاتها ففسّرها على غرار تفسير العلماء المسلمين.

وبعد أن تطرّقنا في كلّ بابٍ إلى وجهات النظر التفسيريّة التي تبنّاها كلّ واحدٍ من المستشرقين إزاء موضوع الآية المطروحة للبحث، سلّطنا الضوء عليها في ما بعد في إطارٍ نقديٍّ.

وهناك قضايا عدّة تتبادر إلى ذهن كلّ مسلمٍ يؤمن بإعجاز القرآن الكريم؛ من منطلق اعتقاده بكونه كتابًا سماويًّا حينما يلاحظ تلك التفاسير العجيبة التي طرحها المستشرقون؛ ومن جملتها: الأسباب التي دعت هؤلاء إلى طرح قراءاتٍ متباينةٍ حول مداليل الآيات القرآنيّة.

ولدى تحليلنا التفاسير بحسب الترتيب الزمنيّ، توصّلنا إلى نتيجة فحواها أنّنا كلّما تدرّجنا في البحث واقتربنا من أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، نجد أنّ التفاسير والقراءات التي تبنّاها المستشرقون إزاء ألفاظ القرآن الكريم وعباراته تتّسم بواقعية وانسجام أكثر ممّا سبق.

وتجدر الإشارة إلى أنّ إحدى المعضلات الأساسيّة التي واجهتها هذه الدراسة تكمن في الأساليب الإنشائيّة التي اتّبعها المسشرقون في تدوين بحوثهم التفسيريّة، فهي ليست على نسقٍ واحدٍ بطبيعة الحال، وتتباين من حيث الأسلوب البياني؛ بحسب قلم كلّ واحدٍ منهم، فبعضهم تبنّى منهجًا واضحًا وسلسًا لبيان مقصوده في النصّ المدوّن؛ بعيدًا عن التعقيدات الإنشائيّة؛ مثل: غابريل سعيد رينولدز، لذلك لم نواجه صعوباتٍ جمّةً في بادئ البحث؛ لكنّ الأسلوب الكتابي المغلق والمعقّد الذي اتّبعه آخرون زاد من صعوبة مواصلة البحث، فهؤلاء تأثّروا بأساليبَ فلسفيّةٍ وصوفيّةٍ أو أدبيّةٍ، لذلك اضطررنا في بعض الحالات إلى تخصيص الكثير من الوقت لأجل استكشاف المرادفات الدقيقة للعديد من الجمل والعبارات وحتّى بعض الألفاظ؛ اعتمادًا على المعاجم والمصادر اللغويّة وغير اللغويّة، فضلًا عن أنّنا تأمّلنا في بعضها وأمعنّا النظر كي نتمكّن من استيعاب المقصود بواقعه، ولربّما استغرق ذلك أيامٍ عدّة كي نتمكّن من شرحه وتحليله، ثمّ طرحه في بوتقة النقد.

والله ولي التوفيق
فاطمة سروي
(18)

 

 

 

 

 

 

المدخل

 

(19)
(20)

منذ مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، شاع بين المستشرقين الاعتماد على مناهج البحث العلمي الخاصّة بالعلوم الإنسانيّة، حيث استندوا إلى هذه المناهج ضمن البحوث والدراسات التي دوّنوها بخصوص الكتاب المقدّس، كما كانت منطلقًا لهم في التعامل مع النصّ القرآنيّ حينما تطرّقوا إلى تفسير مضامينه من آياتٍ وعباراتٍ وألفاظٍ.

وفي ما يلي نذكر أهمّ الأساليب المعتمدة من قِبَل المستشرقين في تفسير القرآن الكريم:

1. الأسلوب التفسيريّ التقليديّ:

المنهج التفسيريّ التقليديّ هو أهمّ أسلوب بحثٍ اعتمد عليه المستشرقون في تفسير القرآن الكريم، لذلك شاع في الأوساط الاستشراقيّة على نطاقٍ واسعٍ، فقد دوّنوا بحوثهم ودراساتهم التفسيريّة على ضوء وجهةٍ تأريخيةٍ نقديةٍ بالاعتماد على المصادر الإسلاميّة التقليديّة؛ مثل: التفاسير، وكتب السيرة، والمصادر الغربيّة التقليديّة؛ مثل: كتاب تأريخ القرآن لثيودور نولدكه، ومؤلّفات شيفالي، وجوتهلف برجشتريسر، وأوتو برتزل.

وجدير بالذكر أنّهم لم يتّبعوا النهج التفسيريّ ذاته الذي سار عليه العلماء المسلمون، لكنّهم مع ذلك اعتمدوا على ذات الأسلوب الإبستيمولوجي التحليلي في عمليّة التفسير؛ من منطلق اعتقادهم بضرورة تفسير القرآن الكريم واستنباط مداليله في رحاب السيرة والتفاسير[1].

2. الأسلوب التفسيريّ التجديديّ:

المنهج البحثيّ الآخر الذي اعتمد عليه المستشرقون في تفسير القرآن الكريم، هو عبارةٌ عن أسلوبٍ تجديديٍّ قوامه بيان المداليل القرآنيّة بشكلٍ مغايرٍ لما هو متعارفٌ في التفاسير التي دوّنها العلماء المسلمون، بل لا بدّ وأنْ تجرى عمليّة التفسير وفق المنهج الهرمنيوطيقيّ، وذلك من منطلق اعتقادهم بعدم وجود ارتباط بين سيرة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن الكريم.

وقد اتّهم هؤلاء المستشرقون أقرانهم الذين اتّبعوا نهجًا تفسيريًّا تقليديًّا بعدم إذعانهم بوجود مفاهيمَ يهوديّةً ومسيحيّةً في القرآن الكريم، لذلك طالبوا بضرورة تفسيره بأسلوبٍ

(21)

جديدٍ يختلف بالكامل عن الأسلوب المتّبع في المصادر الإسلاميّة؛ لأنّ سياقه مستوحًى من العهدين وينمّ عن أنّه تتمّةٌ للتعاليم المسيحيّة.

والتفاسير القرآنيّة المطروحة على لسان هذه الشريحة من المستشرقين حافلةٌ بمختلف الآراء ووجهات النظر التفسيريّة؛ لدرجة أنّها تثير الاستغراب في بعض الأحيان[1]، حيث أكَّد بعضهم على أنّ سياق العهدين الموجود في القرآن الكريم لا يعني أنّ الاعتماد على الهرمنيوطيقا في تفسيره يُراد منها تجريده من اعتباره، وإنّما يوجب على الباحث اتّباع أصولٍ تفسيريّةٍ غربيّةٍ ذاتِ طابعٍ مسيحيٍّ في معظم الأحيان؛ لأجل طرح تفسيرٍ جديدٍ له يتناغم مع الإيديولوجيا المسيحيّة والسّياق التأريخيّ للقرآن[2].

3. الأسلوب التفسيريّ التناصّيّ (وفق مبدأ التعالق النصّيّ):

التناصّ أو التعالق النصّيّ (Intertextuality) هو أحد المصطلحات المعاصرة الشائعة في مجال الدراسات الأدبيّة والفنّية[3]، وعلى الرغم من أنّ المستشرقين لم يشيروا إليه بشكلٍ صريحٍ بوصفه أسلوبًا تفسيريًّا، إلا أنّهم اعتمدوا عليه في بحوثهم التفسيريّة.

وقد أكّد الباحث بهمن نامور مطلق، ضمن بحوثه التي دوّنها حول مسألة التناصّ، على أهمّيّة الأخذ بنظر الاعتبار طبيعة التعالق النصّيّ بين مختلف النصوص والحوارات الشفهيّة، فهو أمرٌ ضروريٌّ وسائغٌ -برأيه-؛ لكون النصوص ليست منظوماتٍ لغويّةً مغلقةً، وإنّما يمكن فهم مداليلها ضمن النطاق الإيديولوجيّ لنصوصٍ أخرى[4].

وتجدر الإشارة إلى وجود تناصٍّ بين كافّة الجمل والنصوص التي نصوغها، فهي إمّا أنْ تكون منبثقةً من نصٍّ تمّت صياغته سلفًا، أو أنّها جزءٌ من نصٍّ سابقٍ؛ لذلك قيل: إنّ النصّ يضمّ في طيّاته عباراتٍ كثيرةً مستوحاةً من نصوصٍ أخرى مترابطةٍ في ما بينها، ويفنّد بعضها البعض، ولا فرق في ذلك بين النصوص المدوّنة في العصر الحديث والنصوص القديمة، ولا اختلاف بين النصوص التأريخيّة والاجتماعيّة -أيضًا-.

(22)

ومن ميّزات التناصّ أنّه يسفر عن تحرير النصّ من مدلوله الرتيب والمغلق، ومن ثمّ يضفي عليه معانيَ متنوّعةً[1].

ويؤكِّد هذا المفكّر الإيرانيّ على أنّ: «المباحث الخاصّة بالتناصّ والمدوّنة من قِبَل الباحثة جوليا كريستيفا قد استوفت تحليل جميع جوانب الآثار التي تترتّب على السرقات الأدبيّة، واعتبرت التعالق النصّيّ سببًا لحدوث ترابطٍ بين مكوّنات أحد النصوص مع نصوصٍ أخرى، لذا لا تطرح في هذا المضمار مسألة أصالة النصّ وهويته»[2]. ويضيف أنّ: «الأصل هو حدوث تغيّرٍ في النصوص، فأحد النصوص يتضمّن الكثير من المداليل المستوحاة من نصوصٍ أخرى؛ بحيث تنصهر في رحابه، وبالتالي يهمّش كلّ واحدٍ منها الآخر، فالنصّ الحاصل ينشأ على ضوء تناصٍّ؛ كما أنّ التعالق النصّيّ يعدّ عاملًا أساسيًّا في صياغة أحد النصوص؛ وخلاصة الكلام: أنّ طبيعة النصّ تناصّيّةٌ»[3].

ويقول أيضًا: «جوليا كريستيفا اعتبرت التناصّ ارتباطًا متداخلًا بين النصوص ضمن علاقةٍ متزامنةٍ، لكنّها ليست مختصّةً بزمنٍ محدّدٍ»[4]، وعلى هذا الأساس يؤكِّد على عدم وجود نصٍّ مستقلٍّ عن نصوصٍ أخرى فـ: «لا وجود لأيّ نصٍّ مستقلٍّ عن نصٍّ سابقٍ له، فالنصوص دائمًا ما تقوم على أخرى سابقةٍ لها»[5].

ويوضّح الباحث علي قائمي نيا التعالق النصّي بقوله: «التناصّ يعني وجود ارتباطٍ بين عدم تعيّن معنى النصّ وبين تعيّنه الكامل، وهذا يعني أنّ النصّ ليس فارغًا بالكامل من المعنى، كذلك لا يمكن ادّعاء اشتماله على جميع المداليل بشكلٍ مستقلٍّ عن سائر النصوص»[6].

(23)

وأمّا الباحثة فاطمة مدرّسي فقد اعتبرته أمرًا مستقلًّا عن الصناعات اللغويّة، حيث تقول: «التعالق النصّيّ بحسب المعنى المشار إليه أعلاه ليس مرتبطًا مطلقًا بما هو متعارفٌ في فنّ البديع من صورٍ بلاغيّةٍ؛ مثل: التلميح، والاقتباس، والاستقبال، وما إلى ذلك»[1].

وممّا ذكره بهمن نامور مطلق في هذا السّياق: «كلّ باحثٍ بإمكانه الاعتماد على نمطٍ خاصٍّ من التعالق النصّيّ ضمن قراءته لأحد النصوص؛ استنادًا إلى المرتكزات النصّيّة في ذهنه، وحتّى من شأنه الاعتماد على نمطين متباينين من التعالق النصّيّ ضمن قراءته لنصٍّ واحدٍ»[2]، وعلى هذا الأساس استنتج ما يلي: «التناصّ يتّسم بطابعٍ شخصيّ (فرديّ)، حيث تطرأ على النصّ تغيّراتٌ؛ وفقًا لشتّى الظروف الثقافيّة والشخصيّة لكلّ إنسانٍ، وهذه الميزة أسفرت عن ظهور قراءاتٍ شتّى لأحد النصوص؛ وكلّ قراءة بطبيعة الحال تتناسب مع تعالقها النصّيّ الشامل للآثار السالفة واللاحقة التي يعتقد قارئ النصّ بكونها مرتبطةً به»[3].

وتحدّث علي قائمي نيا عن مسألة التعالق النصّيّ المطروحة من قِبَل الباحثة جوليا كريستيفا بقوله: «كريستيفا صوّرت النصوص في إطار محورين أساسيّين، أحدهما: أفقيّ؛ٌ باعتبار وجود ارتباطٍ بين مؤلّف النصّ وقارئه، والآخر: عموديٌّ؛ باعتبار ارتباط النصّ بسائر النصوص؛ وعلى هذا الأساس اعتبرت الرموز المشتركة –في ما بين هذه النصوص- واحدةً، إذ كلّ نصٍّ وقراءةٍ مرتبطٌ برموزٍ مسبقةٍ، لذا فهما في الواقع خاضعان منذ لحظة صدورهما إلى نفوذ الخطابات النصّيّة السابقة لهما»[4].

وأشار الباحث أحمد باكتشي إلى ضربٍ من التناصّ بقوله: «التعالق النصّيّ يحدث ضمن نطاقٍ شاملٍ وتأريخانيٍّ تترابط في رحابه الرؤى مع النصوص التي تطرح على ضوئها»[5]، وقال:

(24)

إنّ هذا التعالق يصدق -أيضًا- على النصوص الشفهيّة -غير المدوّنة- حتّى؛ وإنْ كان النصّ الشفهيّ عبارةً عن نقلٍ لحدثٍ جديدٍ شاهده المتكلّم وذكر تفاصيله على لسانه، فهو في هذه الحالة -أيضًا- متأثّرٌ بالنصوص السابقة التي اطّلع عليها؛ حيث يسعى خلال كلامه إلى صياغة صورةٍ نصّيةٍ بحسب النماذج السابقة التي شهدها في حياته، فهو على هذا الأساس يصوغ نصّه؛ كي ينقل مراده لنا.

وخلاصة كلام باكتشي: أنّ كلّ كلامٍ منتظمٍ؛ سواءً أكان مدوّنًا أو شفهيًّا، يعتبر نصًّا، ومن ثمّ يصدق عليه مفهوم التعالق النصّيّ[1].

هذا وتحكي النصوص اللاحقة في الحقيقة عن المضامين والبُنى النصّيّة السابقة لها، وكذلك نلمس عناصر النصوص السابقة موجودةً في النصوص اللاحقة[2]، وقد وضّحت الباحثة جين ماك أوليف هذه الحالة قائلةً: «القارئ أو المستمع يشهد تحوّلًا إدراكيًّا خلال هذا الحدث، وبالتالي يصوغ الفهم المتحوّل على هيئة نصٍّ؛ وهذه السلسلة المتبادلة من التحوّلات تتوالى وتتواصل».[3]

وعلى الرغم من أنّ القول بالتناصّ؛ باعتبار أنّ كلّ نصٍّ يجب أن يكون منبثقًا من نصٍّ آخرَ، ومن ثَمّ يصبح بحدّ ذاته منطلقًا لصدور نصٍّ جديدٍ، يتسبّب إلى حدٍّ ما في زعزعة أركان النصّ؛ لكنْ مع ذلك هو أمرٌ متحقّقٌ، ولا محيص من الإذعان به[4]، إلا أنّ الباحث دانيال تشاندلر ذهب إلى أبعد من ذلك معتبرًا التعالق النصّيّ أكثر تأثيرًا على واقع النصّ؛ بحيث يفوق تأثير أصحاب النصوص على بعضهم[5]، حيث نقل عنه الباحث علي محمّد حق شناس قوله: «معظم هذه الاشتراكات قبل أن تكون مؤثّرةً ومتأثّرةً، هي ضربٌ من التلاحم والتناسق في رحاب ثقافةٍ مشتركةٍ»[6].

(25)

ويقول الباحث بهمن نامور مطلق في هذا الصدد: إنّ «التعالق النصّيّ يعني أنّ النصّ بأسره متأثّرٌ بنصوصٍ أخرى، لذا ليس من الممكن بمكانٍ معرفة مصادره، وفي الواقع لا أهمّيّة لذلك من الأساس. التناصّ برأي بعض المفكّرين من أمثال: جوليا كريتسيفا، وبارت؛ هي عمليّةٌ تسفر عن ولادة أحد النصوص ومن ثمّ تفعيله »[1].

ويضيف في السّياق ذاته أنّ: «المفكّرة جوليا كريستيفا لم تعتبر التعالق النصّيّ حركةً يساهم أحد النصوص من خلالها في إنتاج نصٍّ آخر لاحقٍ له، وإنّما اعتبرته عمليّةً غيرَ متعيّنةٍ يتمّ على ضوئها تفعيل النصّ»[2].

ويذكر الباحث علي قائمي نيا في هذا الصدد -أيضًا- أنّ: «المفسّر حينما يعتمد على التعالق النصّي في تفسير أحد النصوص، هو يتعامل معه على ضوء تبلور نصوصٍ أخرى في باطنه من الناحية السيمنطيقيّة؛ باعتبار أنّه متأثّرٌ بها من شتّى النواحي، والنتائج التي يتوصّل إليها من هذه النصوص ومن قضايا أخرى تعدّ ضروريّةً في هذه الحالة لتفسير نصّه؛ والجدير بالذكر أنّ هذه المعلومات المتحصّلة خاصّةٌ من نوعها، فهي تتناسب مع ذات النصّ؛ لكونها تعين المفسّر على تفسير نصّه، لذا ينبغي له الرجوع إلى كلّ نصٍّ آخرَ مرتبطٍ بالنصّ الذي يفسّره لكي يتسنّى له تفعيل القضايا الكامنة فيه»[3]. ويبيّن المقصود من التناص بقوله: «نقصد من التناصّ في تفسير القرآن الاعتماد على العلاقات السيمنطيقيّة والسيميولوجيّة بين النصّ القرآنيّ وسائر النصوص. العلاقة بين النصوص تتمحور حول الهدف أو البنية أو اللغة، أو غير ذلك، أو تتبلور في رحاب الانطباق والتساوي في الهدف والخصائص البنيويّة والنتائج العمليّة واللغويّة، أو تظهر من حيث التأثير المتبادل، أو من حيث التداخل الذي يحدث ضمن نطاقٍ خاصٍّ، أو من حيث كون النصّيْن متوازييْن مع بعضهما أو مستقلّين عن بعضهما، أو من حيث انفكاكهما عن بعضهما وطرحهما في أجواء متباينةٍ عن بعضها بالكامل»[4]. ويضيف -أيضًا- أنّ: «كلّ نصٍّ ذو ارتباطٍ بخلفيّاتٍ متنوّعةٍ؛ فلسفيًّا، وفقهيًّا، وسياسيًّا، وإلخ، لذا فهو يحتوي على معلوماتٍ

(26)

عديدةٍ، وإنْ أردنا فهم دلالته فلا بدّ لنا من امتلاك معلوماتٍ في المجالات التالية:

1. معلومات لغويّة وأدبيّة: لا شكّ في أنّ معرفة اللغة تتيح لنا الولوج في عالم النصّ الذي هو في الواقع عبارةٌ عن مجموعةٍ من الرموز اللغويّة؛ لكونه ذا هويّةٍ لغويةٍ؛ ومعرفة هذه الرموز هي المستوى الأدنى من المعلومات التي يجب على مفسِّر النصّ امتلاكها.

2. معلومات نصّيّة: يجب على المفسِّر أن يعتبر آيات القرآن الكريم قاطبةً نصًّا كلّيًّا، فالكلّيّ يدلّ بوضوحٍ أكثر على أجزائه وفي بعض الأحيان يصحّح مكامن الخلل الموجودة فيها. إذًا، لا بدّ أن ننظر إلى النصّ القرآنيّ؛ وكأنّه شبكةٌ متكاملةٌ من الآيات؛ بحيث إنّ كلّ آيةٍ فيه لها مكانتها الخاصّة ضمن مستوًى نصّيٍّ موحّدٍ مع سائر الآيات، وعندما يخوض المفسّر في غمار النصّ عليه المقارنة بين الآيات وإثراء معلوماته النصّيّة على ضوء البنية القرآنيّة التي تمثّل منظومةً متناسقةً من الآيات.

3. معلومات سياقيّة: الالتفات إلى سياق الكلام ضروريٌّ إلى حدٍّ ما، لذا ينبغي على المفسِّر الالتفات إليه والتعرّف على طبيعته.

4. معلومات تناصّية: المعلومات التي يكتسبها المفسّر من النصوص وقضايا أخرى، تعدّ ضروريّةً لفهم النصّ وتفسيره، والمعلومات التناصّيّة هي تلك التي تتناغم مع طبيعة النصّ، إذ لا يقصد منها كلّ معلومةٍ يمكن للمفسّر تحصيلها من سائر النصوص والقضايا، وإنّما هي فقط تلك المعلومات التي تتناسب مع النصّ؛ بحيث تعينه في عمليّة التفسير»[1].

وممّا قاله في هذا الصدد -أيضًا-: «كلّ نصٍّ يجسّد في الحقيقة جزءًا ممّا ذكره المتكلّم أو الكاتب، وجزؤه الآخر متروكٌ لفهم المخاطب أو القارئ؛ لكي يتمكّن من فهمه على أساس معلوماته ومرتكزاته المعرفيّة؛ ومن هذا المنطلق، يمكن القول: إنّ كلّ نصٍّ عبارةٌ عن عمليّة ادّخارٍ للمعنى؛ أي أنّ صاحبه لا يبادر إلى بيان جميع تفاصيله ضمن ظواهر عباراته وألفاظه، بل يضمر الكثير منها لينيط فهمها إلى القارئ الذي يعتمد على معلوماته في هذا الصعيد»[2].

(27)

والمسألة الجديرة بالذكر على صعيد الشخصيّات الاستشراقيّة التي وقع عليها الاختيار؛ بوصفها محاور للبحث في هذا الكتاب، أنّنا حينما جمعنا المعلومات الخاصّة في قصاصات البحث العلميّ لاستقصاء النماذج التفسيريّة لكلّ واحدٍ من المستشرقين، لمسنا أنّهم غالباً ما تطرّقوا إلى تفسير المضامين القرآنيّة بشكلٍ ضمنيٍّ ومحدودٍ، حيث اكتفوا بتسليط الضوء على بعض العبارات والألفاظ، لذلك واجهنا صعوبةً في تصنيفها وإدراج كلّ مجموعةٍ منها في فصلٍ يتمحور حول موضوعٍ معيّنٍ[1]، فقد اضطررنا لمراجعة كلّ مقالةٍ على حدةٍ وترجمتها بدقّةٍ متناهيةٍ[2]، ثمّ تقويمها؛ لكي يُتّخذ القرار اللازم في إدراجها ضمن الكتاب

(28)

أو تركها، لذا لم نأخذ بنظر الاعتبار أحد المفسّرين بالتحديد، وإنّما ارتكزت عمليّة البحث على تحليل التفاسير المطروحة من قِبَل مختلف المستشرقين ضمن خلفيّاتٍ ومناهجَ علميّةٍ وتطبيقيّةٍ متنوّعةٍ؛ وبهذا فنطاق البحث يشمل عددًا من المسشترقين على اختلاف توجّهاتهم ونظريّاتهم، حيث تتراوح أفكار بعضهم بين التقليديّة والتجديد؛ وقد ذاع صيتهم في العقود الخمسة الأخيرة من القرن المنصرم؛ من أمثال: يوسف درّة الحدّاد[1]

(29)
(30)

وريتشارد بيل[1]، ومنهم من تبنّى نهجًا تجديديًّا؛ مثل: أنجليكا نويورث[2]، وغابريال سعيد رينولدز[3]، ونيل روبنسون[4].

(31)

ونودّ الإشارة -هنا- إلى أنّ بعض مصطلحات البحث -غالبًا- ما تمّ تدوينها في مصادرَ بلغاتٍ أخرى غير الإنجليزية؛ مثل: مصطلح "الكتاب"، لكنّنا لم نستطع ترجمتها بشكلٍ مباشرٍ، فهذه الترجمة بطبيعة الحال تكلّف نفقاتٍ طائلةً، الأمر الذي أرغمنا على غضّ النظر عنها[1].

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(32)

 

 

 

 

 

 

الباب الأوّل

 التفسير الاستشراقيّ للآيات التي تتحدّث عن

النبيّ عيسى عليه‌السلام والسيدة مريم عليها‌السلام

(33)
(34)

 

 

 

 

 

 

الفصل الأوّل

 التفسير الاستشراقيّ للآيات

 التي تتحدّث عن النبيّ عيسى عليه‌السلام

(35)
(36)

حظيت الآيات القرآنيّة التي تطرّقت إلى الحديث عن النبيّ عيسى عليه‌السلام باهتمام المستشرقين، حيث تطرّقوا إلى تفسيرها وتحليل مضامينها ضمن رؤًى وتوجّهاتٍ خاصّة.

وسلّط هؤلاء الضوء بشكلٍ أساس على ما ذكره القرآن الكريم حول صلب المسيح ووفاته ورفعه، وإلى جانب ذلك تطرّقوا إلى الحديث عن مواضيعَ أخرى ترتبط بشخصيّته، وفي المباحث التالية نذكر الآيات المشار إليها وآراءهم التفسيريّة بالتفصيل:

المبحث الأوّل: التفسير الاستشراقي لقوله -تعالى-: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ) في الآية 157 من سورة النساء:

استنتج المستشرقون من الآية القرآنيّة التي تمحورت حول مسألة صلب النبيّ عيسى عليه‌السلام والآيات المرتبطة بها مسائلَ تختلف عمّا استنتجه المفسّرون المسلمون، لأنّ الصلب يعدّ من الأصول الارتكازيّة في العقيدة المسيحيّة، لذا فإنّ تفنيده يعني نقض العقيدة المسيحيّة من أساسها[1]؛ ومن هذا المنطلق تأثّرت تفاسيرهم بعقيدتهم هذه لدرجة أنّ بعضهم حاول إثباتها بأيّ ذريعةٍ كانت حتّى، وإن اضطرّ إلى طرح تفسيرٍ غريبٍ وجديدٍ من نوعه للنصّ القرآنيّ، بينما بادر بعضهم إلى تفسيره في رحاب رؤيةٍ دينيّةٍ مشتركةٍ.

إذًا، ما هي القراءة التي طرحها المستشرقون لظاهر هذه الآية والآيات المرتبطة بها؟ هل فسّروا مداليلها؛ وفقًا لما تقتضيه عقيدتهم المسيحيّة أو هل إنّهم اعتبروها دليلًا على وجود نقصٍ في القرآن الكريم أو عدم ارتكاز مضامينه على معلوماتٍ وافيةٍ؟

المستشرقون الذين ذاع صيتهم في النصف الثاني من القرن العشرين والسنوات اللاحقة له، ابتداءً من ريتشارد بيل وصولًا إلى يوسف درّة الحدّاد والمستشرق الأحدث عهدًا غابريال سعيد رينولدز، فسّروا هذه الآيات بشتّى ألفاظها وجوانبها على أساس خطاباتٍ طرحت قديمًا.

قال تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن

(37)

شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا 157 بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا 158)[1]. إذا أمعنّا النظر في المساعي التي بذلها المستشرقون طوال نصف قرنٍ من الزمن لتفسير هاتين الآيتين، نستشفّ منها أنّ معظمهم سلّطوا الضوء على بعض عباراتهما استنادًا إلى فرضيّاتٍ خاصّةٍ، وبعضهم ادّعى أنّهما تدلان على تأريخ عمليّة الصلب، في حين منهم من رفض هذا الرأي وزعم أنّ مضمونهما مستوحًى من المعتقدات الغنوصية، وعددٌ منهم استنتج من ألفاظهما كون النبيّ عيسى عليه‌السلام ليس حيًّا كما يعتقد المسلمون، بينما حلّل آخرون النظريّة القرآنيّة وفق تعاليم الديانة المسيحيّة متجاهلين التفاسير الإسلاميّة؛ بحيث اعتبروا مسألة الصلب في القرآن الكريم مقتبسةً بالكامل من الديانة المسيحيّة، وعلى هذا الأساس قالوا إنّه يمكن الاستدلال منها على أنّ المسيح قد مات.

وجدير بالذكر أنّ بعض المستشرقين المتأخّرين عهدًا عن هؤلاء، تطرّقوا إلى تفسير الآيات الخاصّة بالمسيح على ضوء توجّهاتٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ.

وعلى الرغم من أنّ التفاسير الاستشراقيّة المطروحة بخصوص هذه الآيات -غالبًا- ما تتضمّن نقدًا، وتدوّن وفق توجّهاتٍ خاصّةٍ، لذلك نادرًا ما نلاحظ فيها انسجامًا مع ما هو مطروحٌ في التفاسير الإسلاميّة المتعارفة، وضمن تحليل المستشرقين لمضمون كلّ آيةٍ، فإنّهم عادةً ما يبادرون في بادئ الأمر إلى البحث عن تلك العوامل التي يعتبرونها سببًا في صدورها؛ بادّعاء أنّ النبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله قد تأثّر بها، ثمّ يتطرّقون إلى بيان ترتيبها بالنسبة إلى سائر الآيات، وتحديد الأسلوب الذي يعتبرونه مناسبًا في فهم مداليلها من الناحية الزمانيّة؛ لكي يتبيّن كيف يمكن تفسيرها؛ تناسباً مع مضمون آياتٍ أخرى. وفي الختام يسلّطون الضوء عليها؛ بحسب سياقها في السورة وطبقًا للبنية القرآنيّة.

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ أوّل مؤاخذةٍ يطرحها المستشرقون عادةً على المفسّرين المسلمين، تتمثّل بما يلي: عدم تطرّقهم إلى تفسير الآية ضمن البيّنة الشاملة لها -أي في المنظومة القرآنيّة الشاملة- الأمر الذي جعلهم يرفضون تأريخيّة صلب المسيح، أي أنّهم يعتبرونه حيًّا ولم يمت في عمليّة الصلب، فهو ليس جزءًا من التأريخ الماضي برأيهم؛ وإنّما حياته جاريةٌ.

(38)

وفي هذا السّياق ادّعوا أنّ الأمر لا يختلف؛ سواءً أبادر المفسّرون المسلمون إلى تفسير الآية على ضوء نظريّات الفرقة الغنّوصيّة، أم في ظلّ تأثّرهم بالخلافات الطائفيّة المحتدمة في ما بينهم أو بخلافاتهم مع أتباع سائر الأديان.

إذًا، لا نلمس في تفاسير المستشرقين أيّ تأييدٍ للآراء الشائعة بين المفسّرين المسلمين، وإنّما وجهة نظرهم المشتركة هي تأريخيّة الصلب -موت المسيح مصلوبًا- أو على أقلّ تقديرٍ بطلان النظريّة القرآنيّة حول هذا الموضوع، فقد استنتج بعضهم أنّ الوجهة التي تبنّاها القرآن الكريم إزاء هذا الموضوع تتناسق مع سائر أطروحاته في مختلف آياته التي أشارت إلى المسيح؛ من حيث كونها ذات طابعٍ دينيٍّ لا تأريخيٍّ.

ومن الواضح أنّ المستشرقين لدى تفسيرهم الآيات القرآنيّة تبنّوا الوجهة ذاتها التي تبنّاها باحثون آخرون في العالم الغربيّ والتي تنبثق من مرتكزاتٍ فكريّةٍ مسبقةٍ، فحين قيامهم بعمليّة التفسير تأثّروا بما يكتنف أذهانهم من معلوماتٍ ومعتقداتٍ وطباعٍ متأصّلةٍ فيها، وهذه الأمور لها تأثيرٌ ملحوظٌ على نظريّاتهم التفسيريّة بطبيعة الحال، إذ إنّ المعتقدات الدينيّة والمرتكزات الذهنيّة والفرضيّات المسبقة لها دورٌ ملحوظٌ في صياغة الاستنتاج الاستشراقيّ من مضمون القرآن الكريم، وهذه الوجهة ملموسةٌ -أيضًا- بين الذين اعتنقوا الإسلام منهم، وأخذوا بعين الاعتبار القواعد اللغويّة والدلاليّة؛ لكونهم تأثّروا في معظم الأحيان بالفرضيّات المرتكزة في أذهانهم مسبقًا، ومن هذا المنطلق اعتبروا مسألة الصلب أمرًا مفروغًا منه ولا نقاش فيه؛ مستندين في ذلك إلى منهجيتهم التأريخيّة في تحليل المضمون القرآنيّ، فأتباع الديانة المسيحيّة كما هو معلومٌ يعتقدون بأنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام مات بعد أنْ صُلب.

وجدير بالذكر أنّ عقيدة موت المسيح كانت وازعًا أساسًا في رواج بعض التعاليم والمعتقدات المسيحيّة الأساسيّة في الأناجيل المنسوبة إلى تلامذته؛ مثل: بشارة الخلاص والنجاة، وكفّارة خطيئة الإنسان، والفداء[1].

(39)

وتدلّ الاستنتاجات التفسيريّة المطروحة من قِبَل المستشرقين على عدم إمكانيّة نفي مسألة الصلب من القاموس الدينيّ المسيحيّ، أي أنّها تعدّ حدثًا تأريخيًّا وأمرًا بديهيًّا؛ بحيث لا يمكن ادّعاء غير ذلك، والطريف أنّ هذه العقيدة راسخةٌ بشكلٍ كبيرٍ لدرجة أنّها أثّرت -أيضًا- على آرائهم الظاهراتيّة[1] التي اعتمدوا عليها في بيان مضامين مسألة الصلب في القرآن الكريم.

وكانت هذه الرؤية الخاصّة بصلب المسيح سببًا أساسًا في حدوث منافسة بين الأديان، وحتّى بين المذاهب والطوائف الدينيّة، ومن هذا المنطلق نتطرّق في ما يلي إلى تحليل أطروحاتهم وبيان تفاصيلها في إطارٍ نقديٍّ ضمن المباحث التالية:

1. الإذعان بكون القرآن الكريم نفى صلب المسيح، وتوجيه مضمون الآية القرآنيّة الدالّة عليه؛ وفقًا للبيئة التأريخيّة والاجتماعيّة الحاكمة في عصر النزول:

تبنّى المستشرق ريتشارد بيل -باعتباره الحلقة الأولى في سلسلة الباحثين الذين تمحور موضوع- البحث حول آرائهم بخصوص مسألة الصلب في القرآن الكريم ضمن الآيتين المشار إليهما، فكرة تأريخيّة الصلب -ثبوت صلب المسيح في تلك الحقبة من التأريخ- وقبل أن يتطرّق ريتشارد بيل إلى شرح مضمون آية الصلب -156 من سورة النساء- وتحليلها، تحدّث أوّلًا عن الآية السابقة لها، أي الآية 155؛ وفي هذا السّياق ادّعى أنّ السور القرآنيّة القصيرة والكبيرة، مركّبةٌ ومتداخلةٌ مع بعضها، لذلك اعتبر الآية المذكورة ملحقةً بالآية 155 ومضافةً إليها، حيث ألحقت لها بعد عصر النزول، كما ذكر احتمالًا آخر فحواه أنّ هذه الآية أضيفت إلى سورة النساء في العهود اللاحقة لعصر النزول. وفحوى نظريّته[2]: يبدو أنّ الرؤية التي طرحها هذا المستشرق مستوحاةٌ من الروايات المنقولة حول كيفيّة جمع القرآن الكريم من قِبَل المسلمين أنفسهم، حيث أشارت هذه الروايات إلى أنّ الحفّاظ كانوا يتلون الآيات، والكتّاب بدورهم

(40)

يدوّنونها[1]، أو أنّه استوحى هذه الرؤية من الروايات المنقولة حول أسباب النزول المتناقلة بين المسلمين، حيث تشير إلى زمان نزول الآيات والسور[2].

والصنفان اللذان أشرنا إليهما أعلاه من الروايات هما في الواقع مرتكزان للمستشرقين، حيث اعتمدوا عليهما في طرح آراء من هذا القبيل، وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ ريتشارد بيل قد تأثّر إلى حدٍّ كبيرٍ بنظريّة المستشرق بارت (Barth) الذي زعم أنّ القرآن الكريم يعاني من خللٍ في نظمه وترتيبه منذ لحظة جمعه من قِبَل المسلمين[3]. كذلك اعتبر الآية 157 من سورة النساء والآيات اللاحقة لها متناسقةً مع الآية 156 من هذه السورة[4].

ولا شكّ في أنّ ادّعاء ريتشارد بيل بكون الآيات اللاحقة من سورة النساء مضافةً إلى ما قبلها قد ألحقت بها في ما بعد، هو احتمالٌ صِرفٌ وفرضيّةٌ لا غير، لذا فهو لا يحظى بأيّ اعتبارٍ علميٍّ؛ لكونه يتعارض مع صريح الآيات، إذ قال -تعالى-: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‎155 وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ‎156 وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ‎157‏ بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [5]. استنادًا إلى ظاهر هذه الآيات يبطل مدّعى ريتشارد بيل ومن حذا حذوه، وبيان ذلك وفق التالي:

- أنّ الآية 156 استهلّت بحرف عطف.

- أنّ الضمير "هم" في كلمتي "كفرهم" و"قولهم"، يرجع إلى الآية السابقة.

(41)

فهاتان القرينتان ظاهرتان غاية الظهور في الدلالة على أنّ الآية المذكورة قد نزلت تزامنًا مع الآية السابقة لها، كذلك تزامنًا مع سائر الآيات السابقة واللاحقة لها، لذا فهي لم تنزل لوحدها وبشكلٍ مستقلٍّ؛ كي يمكن ادّعاء أنّها أضيفت إلى ما قبلها لاحقًا؛ وريتشارد بيل بدوره اعتبر الآية 157 والآيات اللاحقة لها تفنّد مقتل النبيّ عيسى عليه‌السلام، لكنّه تأثّر بما ذكر في روايات جمع القرآن الكريم وروايات أسباب النزول؛ ليؤكّد على أنّ كبر حجم هذه الآية وتكرار عبارة (وَمَا قَتَلُوهُ) فيها دلالة على الإلحاق والاستبدال الذي حدث في ما بعد[1]. كما أشرنا آنفًا، فإنّ ادّعاء الإلحاق الذي حدث بعد عصر النزول هو مجرّد زعمٍ بلا دليلٍ، لذا لا اعتبارَ علميٍّ له، وتكرار عبارة (وَمَا قَتَلُوهُ) يمكن أنْ يكون تأكيدًا على مضمون الجزء الأوّل من الآية.

إنّ هاتين الآيتين تحكيان عن كون النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله تبنّى وجهاتِ نظرٍ على غرار ما تبنّاه أتباع الفرقتين الغنّوصيّة والمانويّة[2]، الأمر الذي يعني أنّه تأثّر ببيئة الجزيرة العربيّة وثقافة أهلها آنذاك.

هذه الرؤية انعكست -أيضًا- في القراءات التي تبنّاها مستشرقون آخرون إزاء مدلول الآيتين المشار إليهما، ومن جملتهم المستشرقة دنيز ماسون التي اعتبرت تفنيد صلب المسيح في القرآن دليلًا على التناغم الفكريّ بين النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأتباع الفرقة الغنّوصيّة، أي أنّه تأثّر بمعتقداتهم[3].

وجدير بالذكر أنّ الغنّوصيّة عبارةٌ عن حركةٍ التقاطيّةٍ ظهرت في القرنين الثاني والثالث الميلاديّين، حيث تبنّى أتباعها فكرًا يتناغم مع ما ذهب إليه أصحاب الفكر المانوي إزاء مضامين الكتاب المقدّس، فقد تطرّقوا إلى تحليل نصوصه وفق رؤيةٍ باطنيّةٍ، وفسّروها بشكلٍ كنائيٍّ وتخمينيٍّ؛ وبعض الفرق الغنّوصيّة في القرن الثاني الميلادي اعتقد أتباعها أنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام عبارةٌ عن روحٍ مرسَلةٍ من قِبَل الله -عزّ وجلّ- لأجل إنقاذ البشر من عبوديّة الآلهة المزيّفين، كما اعتقدوا أنّه لم يُقتل، بل صُلب بدلًا عنه شخصٌ آخرُ شبيهٌ له[4]؛ إلا أنّ ريتشارد بيل ربّما تأثّر ببعض الآيات القرآنيّة حينما طرح في أحد مباحثه فكرة نجاة الأنبيّاء، واستنتج من ذلك

(42)

عدم إمكانيّة تصوّر أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان له اطّلاعٌ على تعاليم فرقٍ مسيحيّةٍ مجهولةٍ، وعلى هذا الأساس أكّد على نجاته كسائر الأنبيّاء[1].

المسألة التي يجب أن تتّضح للقارئ الكريم في هذا المضمار هي أنّ الإسلام يرفض العقيدة الغنّوصيّة؛ جملةً وتفصيلًا، فما نلاحظه جليًّا في الآيات التي تحدّثت عن المسيح عيسى عليه‌السلام في القرآن الكريم من أنّها اعتبرته إنسانًا، وكذا هو الحال بالنسبة إلى سائر الأنبيّاء، فهم بشر بحسب الرؤية القرآنيّة الثابتة[2]. وأشارت الآيات القرآنيّة مرارًا إلى أنّ المسيح هو عبد الله وابن مريم عليها‌السلام، حيث تؤكّد في نهاية المطاف على كونه إنسانًا كسائر البشر[3]، وهذا الأمر يتعارض بالكامل مع ما ذُكِرَ من عباراتٍ وألقابٍ في تعاليم الفرقة الغنّوصيّة، لذلك أقرّ بعض المستشرقين في ما بعد بأنّ إنكار الصلب في القرآن الكريم؛ حتّى وإنْ كان منبثقًا من العقيدة الغنّوصيّة، إلا أنّه يحكي في الواقع عن شيءٍ آخر[4]؛ فقد أدركوا أنّ التشابه الكائن بين الفكر الغنّوصيّ والوجهة القرآنيّة بهذا الخصوص مجرّد صدفةٍ[5]، وهذا التشابه يتبلور ضمن ثلاثة معتقداتٍ وفق التالي:

1. اليهود لم يتمكّنوا من قتل النبيّ عيسى عليه‌السلام.

2. اليهود تصوروا أنّهم تمكّنوا من قتله.

3. الله -سبحانه وتعالى- رفعه إلى السماء.

إذًا، نستنتج من ذلك أنّ ما ذكره المستشرقون بكون المعتقدات الغنّوصيّة أثّرت على المضمون القرآنيّ بخصوص مسألة صلب المسيح، ليس سوى زعمٍ لا أساس له من الصواب، ولا دليل عليه[6]،

(43)

لأنّه ناشئٌ من مرتكزاتهم الفكريّة والفرضيّات التي قامت عليها؛ بحسب نظريّة تأريخيّة الصلب، ومن منطلق عدم إذعانهم بكون آيات القرآن الكريم وحيًا نزل على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقد أكّد القرآن الكريم على أنّ الوحي هو منشأ الحقائق الغيبيّة التي اطّلع عليها خاتم الأنبيّاء، وتأكيده على عدم صلب المسيح عيسى عليه‌السلام من قِبَل أعدائه هو انعكاسٌ لحقيقةٍ ثابتةٍ، فهو على صعيد بيان الحقائق يعدّ أفضل من علم التأريخ، إذ لا يتسنّى للمؤرّخ استكشاف الحقائق إلا عن طريق الأساليب المعاصرة المتعارفة في البحث العلميّ، لذا لا يمكن لأحدٍ إدراك حقيقة عدم نجاح اليهود في قتل المسيح عليه‌السلام سوى المسلم الذي يؤمن بحقّانيّة كلام الله -عزّ وجلّ- على ضوء إيمانه بما ذكر في كتابه الحكيم. فضلًا عن ذلك ينبغي الإشارة -هنا- إلى أنّ المستشرق وليام أرشيبالد روبرتسون استنتج في دراساته رواج معتقداتٍ غنّوصيّةٍ مشوبةٍ بالشرك والفكر اليهوديّ على نحوٍ متكافئٍ بين أبناء المجتمعات المسيحيّة الفقيرة التي كانت تقطن في المناطق المحاذية للبحر المتوسّط، حيث كانوا يعتقدون أنّهم بعد معاناتهم وابتلائهم العظيم، سوف يعينهم الله -تعالى- ويؤازرهم ويرشدهم إلى السبيل الذي يضمن لهم نيل السعادة الأبديّة في عالم النور عن طريق منقذٍ يرسله لهم[1]؛ لكنّ روبرتسون اعترف بكلّ صراحةٍ قائلاً: «لا يوجد أيّ دليلٍ قطعيٍّ على رواج المعتقدات الغنّوصيّة في الجزيرة العربيّة إبّان القرن السابع الميلادي»[2].

وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض المستشرقين طرحوا الموضوع بأسلوبٍ آخر لإثبات تأثّر القرآن الكريم بمعتقدات سائر الفرق على صعيد مسألة الصلب[3]، ومن جملتهم بومان الذي ادّعى أن المقصود من هذه الآيات القرآنيّة هو حلحلة الخلافات المحتدمة بين النسطوريّين والمونوفيزيّين، فأتباع العقيدة النسطوريّة يؤكّدون على أنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام قد مات من حيث طبيعته الإنسانيّة، إلا أنّ طبيعته الإلهيّة عرجت إلى السماء؛ بينما أتباع العقيدة المونوفيزية يعتبرونه مركّبًا من طبيعتين؛ إحداهما: إلهيّة، والأخرى: إنسانية، وهاتان الطبيعتان برأيهم صلبتا معًا.

(44)

ويقول بومان إنّ القرآن الكريم رفض هذين الرأيين معًا؛ وأكَّد أنّ المسيح عيسى عليه‌السلام مجرّد إنسانٍ كسائر البشر، لكن غاية ما في الأمر أنّه لم يمت[1]. وهناك سؤالان يطرحان على رأيه، وهما: هل تزول الخلافات العقديّة بين الفرقتين المونوفيزيّة والنسطوريّة في ما لو فنّدنا كلا الرأيين المطروحين من قبل أتباعهما؟ وعلى فرض أنّ القرآن الكريم قد فنّد كلا الرأيين المشار إليهما، لكنْ كيف تمكّن في نهاية المطاف من إنهاء الخلافات بينهما؟

وكذلك اعتبر الباحث هنري غريغور نظريّة الصلب المطروحة في القرآن الكريم امتيازًا منحه النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لجماعةٍ من المونوفيزيّين المرتدّين والجوليانيّين، فهؤلاء برأيه أنكروا معاناة المسيح والعذاب الذي تعرّض له[2]؛ لكن ما هو ملموسٌ من ظاهر الآيات القرآنيّة، أكثر من مجرّد إنكار هذه المآسي التي تعرّض لها[3].

وأهمّ مؤاخذةٍ تَرِد على الآراء التي طرحها هؤلاء المستشرقون على صعيد مسألة صلب المسيح عليه‌السلام هي عدم تأريخيّة فرضيّاتهم، ولا شكّ في أنّ ادّعاء تأريخيّة الصلب لا يمكن إثباته؛ لأنّ الآيات القرآنيّة وصلتنا متواترةً؛ وهذا التواتر متحقّقٌ منذ عصر النزول، وفي جميع العصور، لذا اعتقد به المسلمون في جميع الأجيال وأعاروه اهتمامًا كبيرًا، ومن ثمّ بات مرتكزًا دينيًّا للآلاف منهم والملايين واليوم لأكثر من مليار شخصٍ منهم؛ حيث حفظه القرآن الكريم لهم مرتكزًا عقديًّا في كلّ عصرٍ.

وقد ولدت هذه الرؤية منذ عهد خاتم الأنبيّاء محمّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله، وسادت بين المسلمين، وبقيت شائعةً بين جميع أجيالهم[4]، بينما الأناجيل ليست سوى نصوصٍ منقولةٍ تمّ تداولها بين الأجيال المسيحيّة عن طريق ما يسمّى في علم الفقه بخبر الواحد، ضمن روايات عددٍ من الشخصيّات

(45)

المسيحيّة؛ مثل متّى، ومرقس، ويوحنّا[1]؛ وهؤلاء كانوا تلامذة النبيّ عيسى عليه‌السلام أو تلامذةً لتلامذته، والطريف أنّ الأناجيل بنفسها تؤكّد على أنّهم فرّوا وتركوه وحيدًا؛ حينما هجم عليه الأعداء.

والمسألة الأخرى الهامّة على هذا الصعيد هي أنّ أخبار تأريخ الديانة المسيحيّة لم يتمّ تناقلها بشكلٍ متواترٍ، لذا لا يمكن لأحدٍ ادّعاء أنّ الحوادث التي تعرّض لها النبيّ عيسى عليه‌السلام متواترةٌ في نصوصهم، ومن ثمّ ليس من الصواب اعتبارها من الثوابت التأريخيّة؛ فليس لديهم أيّ مصدرٍ مخطوطٍ أو وثيقةٍ تأريخيّةٍ، فضلًا عن أنّ نصوص الأناجيل نفسها ليست كذلك، لذا يقال إنّه ليست هناك أخبارٌ تأريخيّةٌ واضحةٌ بخصوص مؤسّس الديانة المسيحيّة، وهو ما أكّد عليه باحثون ومستشرقون غربيّون؛ بمن فيهم: وليام أرشيبالد روبرتسون الذي أكّد قائلًا: «عيسى في التعاليم المسيحيّة عبارةٌ عن تركيبٍ من الأسطورة والتأريخ»[2]، ولا توجد لدينا شواهدُ تأريخيةٌ مستقلّةٌ منذ عهد عيسى عليه‌السلام»[3]. إضافةً إلى ذلك، فقد رأى البعض أنّ السنة التي وُلِدَ فيها النبيّ عيسى عليه‌السلام غير محددةٍ، وما ذكر في التقويم ليس سوى افتراضٍ، كما أنّه من المستحيل إثبات وجوده ووجود سائر الأنبيّاء؛ من أمثال: موسى، وداوود عليهم‌السلام، وسائر الأنبيّاء الذين سبقوهم؛ لذا فوجودهم محفوفٌ بغموضٍ مطبقٍ وما هو موجودٌ بين أيدينا مجرّد قصصٍ مشتّتةٍ منقولةٍ في الكتاب المقدّس[4]. واللافت للنظر -أيضًا- هو أنّ هويّات كُتّاب الأناجيل غامضةٌ أيضًا، إذ نسبة الإنجيل إلى كلّ واحدٍ منهم قائمةٌ على ظنٍّ وتخمينٍ[5]، وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ أقدم النسخ المخطوطة للأناجيل والموجودة اليوم بين أيدينا، يعود تأريخها إلى القرن الثالث الميلادي، في حين أنّ النسخ الأصلية تمّ تدوينها خلال الأعوام 60م إلى 120م حسب ما يبدو، لذا فهي حتّى القرن الثالث -أي طوال قرنين من الزمن- كانت عرضةً للخطأ

(46)

في النسخ ويحتمل حدوث تغييرات في مضامينها جرّاء رغبة مدوّنيها في إقحام المعتقدات اللاهوتيّة لفرقتهم أو أنّ هذه التغييرات حدثت جرّاء الظروف السائدة في حقبة تدوينها[1].

ونقل صاحب تفسير المنار عن البروفسور الألماني أوكهارن أنّ المسيحيّين إبّان القرن الثاني الميلادي غيّروا ثلاثة أو أربعة أناجيل[2]، وفي تلك السنوات بلغ عددها مئة إنجيلٍ تقريبًا، لكنّ الكنيسة لم تقبل منها سوى أربعةٍ[3].

والأناجيل المشار إليها اعتُرف بها مصادرَ شرعيةٍ في نهاية القرن الثاني الميلادي على ضوء الأصول العقديّة واللاهوتية لمجمع القساوسة، وليس على ضوء الأصول التأريخيّة، وكما هو معلومٌ، فقد تمّ تدوينها بعد فترةٍ طويلةٍ من عهد النبيّ عيسى عليه‌السلام، واللافت للنظر فيها -أيضًا- أنّها دُوّنت باللغة اليونانيّة، في حين أنّ لغة النبيّ عيسى عليه‌السلام وأتباعه كانت آراميةً، وهذا الأمر ينمّ عن الفترة الزمنيّة المتمادية بين عهد ظهورها والعهد الذي دُوّنت فيه، ومن هذا المنطلق قال أحد الباحثين: «لا يمكن لأحدٍ تصوّر أنّ العبارات اليونانيّة المدوّنة في الأناجيل صدرت بحدّ ذاتها من لسان عيسى  عليه‌السلام، فضلًا عن أنّ ذات الأسلوب اللغويّ اليونانيّ المعتمد في تدوينها ليس راقيًا من الناحية اللغويّة، وقد وصف فريدريتش نيتشه ضعفه من الناحيتين اللغويّة والبلاغيّة؛ قائلًا: إنّ روح القدس يتحدّث بلغةٍ يونانيّةٍ ضعيفةٍ!»[4].

أضف إلى ذلك، فقد أكّد على أنّ هذه الأناجيل فيها اختلافاتٌ كبيرةٌ حول بيان سيرة النبيّ عيسى عليه‌السلام؛ ما يدلّ على وجود بونٍ شاسعٍ بين مضامينها وبين الحقائق التي شهدها التأريخ المسيحيّ في عهده الأوّل، كذلك اعتبر الأوضاع في ذلك العهد بلغت درجةً من التأزّم؛ بحيث جعلت أتباع المسيح عليه‌السلام يتخلّون عنه؛ بحيث لم يجرؤ أحدٌ في تلك الآونة على أن يعلن اعتناقه الديانة النصرانيّة[5].

(47)

إن تتبّع الشواهد التأريخيّة، يقود المتتبّع إلى التشكيك بوثاقة الأناجيل الأربعة ومصداقيّتها فلا يمكنه تجاهل الغموض الكائن فيها، ومن ثمّ لا يجد أيّ مسوّغٍ لادّعاء أنّ مضامينها عبارةٌ عن حقائقَ تأريخيةٍ ثابتةٍ[1]، وتجدر الإشارة إلى أنّ الباحث موريس بوكاي اعتبرها على غرار الأحاديث والروايات الموجودة في المصادر الإسلاميّة[2].

2) الإذعان بنفي القرآن الكريم صلب المسيح واعتبار مضمون الآية الدالّة عليه موهمًا لكونها من المتشابهات:

يوسف درّة الحدّاد هو أحد الباحثين الذين يعتقدون بكون صلب المسيح حقيقةٌ تأريخيّةٌ متواترةٌ، ومن أولئك الذين يدّعون أنّ القرآن الكريم مثل التوراة؛ لأنّ النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أجرى عليه تغييراتٍ وأضاف إليه ما شاء[3]؛ فضلًا عن أنّه استنتج من الآيات القرآنيّة وقوع عمليّة الصلب والقتل بشأن النبيّ عيسى عليه‌السلام، لكنْ غاية ما في الأمر أنّه صلبٌ وهميٌّ وليس واقعيًّا، وبرّر هذا الرأي بأنّ المسيح في لحظة قتله أحياه الله -عزّ وجلّ- مرّةً أخرى ورفعه إلى السماء؛ بحيث تمّ تصوير الحدث؛ وكأنّه لم يُقتل من الأساس؛ واعتبر هذا الاستنتاج وكأنّه سرٌّ قال على أساسه: «بما أنّهم رفعوك إلى السماء، فأنا اعتبرك كالمتوفّى»[4].

والنتيجة التي نستخصلها من كلامه أنّ القتل تحقّق بشأن المسيح للحظةٍ، لكنّ الله -سبحانه وتعالى- أحياه مباشرةً بعد أن توفّي ورفعه إلى السماء، وعلى هذا الأساس وصف العقيدة الإسلاميّة القائلة بعدم حدوث الصلب بشأنه بالخرافة[5]؛ مستدلًّا على رأيه هذا بالتواتر الموجود في التأريخ المسيحيّ الذي دام ستّة قرونٍ حتّى عهد نزول القرآن الكريم. وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ النتائج التي توصّل إليها على صعيد مسألة صلب المسيح، منبثقةٌ من توجّهاتٍ ذوقيّةٍ ومعتقداتٍ مسيحيةٍ؛ بحيث لا تقوم على منهج البحث العلميّ المحايد الهادف إلى استكشاف الحقائق، لذلك استنتج في نهاية المطاف أنّ المسلمين تبنّوا الفكرة ذاتها

(48)

التي تبنّاها النصارى بالنسبة إلى مسألة رفع النبيّ عيسى عليه‌السلام إلى السماء، وأكّد على عدم وجود اختلافٍ بين الطرفين في طبيعة وفاته ورفعه؛ واللافت للنظر أنّه خالف نهجه المتعارف في استقطاع العبارة القرآنيّة التي يطرحها للبحث والتحليل من سياق الآية وبنيتها، حيث لجأ إلى أسلوب البيان اللغويّ والبلاغيّ والموضوعيّ[1] والكلاميّ للآية؛ لأجل إثبات رأيه القائل بأنّ مفهوم الصلب في القرآن الكريم مجرّد أمرٍ وهميٍّ، والصلب الحقيقيّ هو ما ذكر في الكتاب المقدّس؛ أي إثبات أنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام قد صلب بالفعل ومات جرّاء ذلك. وفي هذا السّياق أكّد على أنّ الأسلوب الموضوعيّ في الآيتين القرآنيّتين الدالّتين على الصلب والرفع، يدلّ على أنّ القرآن الكريم في صدد تقبيح تكبّر اليهود وتبخترهم، لذلك أهانهم في قوله -تعالى-: (بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)؛ وقد حرّف كلام البيضاوي؛ لأجل إثبات رأيه هذا[2]؛ فقد فسّـر البيضاوي هذه العبارة القرآنيّة بأنّ الله -عزّ وجلّ- قصد فيها نقض جرأة اليهود وتكبّرهم عليه، إلى جانب ذمّهم على نيّتهم في قتل نبيًّ مؤيَّدٍ بمعجزاتٍ بيّنةٍ، والطريف أنّه قبل هذا الكلام لم يستبعد أنّ عدوّ النبيّ عيسى عليه‌السلام جعله الله -تعالى- شبيهًا له قبل الصلب[3]؛ لكنّ يوسف درّة الحدّاد اقتبس القسم الأوّل من كلامه فقط بشكلٍ انتقائيٍّ بعيدٍ عن سياق مجمل الكلام؛ بهدف إثبات رأيه الشخصيّ بالنسبة إلى صلب المسيح. وضمن المبحث ذاته بادر إلى ذِكْر توضيحاتٍ أكثرَ حول الأسلوب الموضوعيّ؛ معتبرًا سياق آيتَيِ الصلب على غرار سياق الآيتين 54 و55 من سورة آل عمران[4] باعتبارها تمتاز بالبنية الموضوعيّة نفسها، لكنّه مع ذلك تبنّى رأيًا مخالفًا لما تبنّاه غالبيّة المفسّرين المسلمين، وبدل أنْ يعتبر هاتين الآيتين مؤيّدتين لعدم تحقّق الصلب بشأن النبيّ عيسى عليه‌السلام، ادّعى دلالتهما على مجرّد بطلان مكر القوم بواسطة مكر الله -سبحانه وتعالى-، وهذا البطلان لا يعني عدم الصلب، وإنّما يراد منه رفع المسيح حيًّا إلى السماء بعد أنْ صُلِب وتحقّق القتل بشأنه[5]. لا شكّ في أنّ استنتاجه فيه تكلّفٌ ملحوظٌ، فضلًا عن أنّه

(49)

لم يثبت تفسيره للآيتين المذكورتين وفق قواعدَ عقليّةٍ أو قرائنَ نصّيّةٍ، ومن المؤكّد أنّ بطلان مخطّطات اليهود ومكرهم المشار إليه في القرآن الكريم لا يتحقّق إلا بعدم قتل المسيح عليه‌السلام، فلو تحقّق الصلب والقتل بحقّه، لا يمكن عندئذٍ تحقّق مكر الله عزّ وجلّ.

وكذلك استشهد بالعبارة التالية من الآية 157 في سورة النساء: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ..)؛ لإثبات أنّ صلب المسيح عيسى عليه‌السلام أدّى إلى موته لكنّه لم يهلكه، وإنّما بقي حيًّا عند الله -سبحانه وتعالى-. هذه العبارة القرآنيّة تدلّ في الحقيقة على أنّ المسيح لم يُقتل من الأساس، فهو حيٌّ وشاهدٌ على بطلان مكر اليهود، ودليلٌ ساطعٌ على حكمة الله -تعالى- حينما رفعه إليه حيًّا؛ والغريب أنّ الحدّاد نفسه اعتبرها تدلّ على المعنى ذاته للآية 169 من سورة آل عمران: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [1] فهذه الآية تؤكّد بصريح العبارة على كرامة القتل في سبيل الله -تعالى-، في حين أنّ الآية 157 من سورة النساء تدلّ بصراحةٍ على عدم تحقّق القتل بشأن المسيح عليه‌السلام.

ويمكن أنْ يُقال: لو أنّ الله -عزّ وجلّ- أراد في هذه الآية الإشارة إلى سموّ مقام النبيّ عيسى عليه‌السلام واستشهاده في سبيل الحقّ فقط، لِمَ أكّد بصريح العبارة -أيضًا- على نفي صلبه وقتله؟! فما الداعي لأن نتكلّف ونتصوّر أنّ العبارة التالية في قوله -تعالى-: (وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ) تفنّد تصوّر من يعتقد بعدم موت المسيح أو قتله[2] في حين أنّ العبارة السابقة لها تثبت بضرسٍ قاطعٍ عدم تحقّق الصلب والقتل بشأنه؟! إذًا، كيف نفسّر هذا التكلّف في الاستدلال؟! فلا يبقى إلا أنْ يكون تحميلًا وافتراضًا على النصّ القرآنيّ بغير دليل!!

ولدى تسليطه الضوء على الأسلوب اللغويّ للآية 157 من سورة النساء، فسّر عبارة (وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ) بنحوٍ يختلف عن التفسير الشائع بين العلماء المسلمين، ونقض رأيهم القائل بتحوّل عدوّ النبيّ عيسى عليه‌السلام إلى شبيهٍ له، ومن ثمّ صلبه على يد القوم بدلًا عنه؛ ليثبت أنّ أحدًا لم يُقتل بدلًا عنه؛ لذلك أيّد رأي الزمخشري الذي فسّر التشبيه المذكور في الآية بـ"خُيّل لهم"، أي أنّهم تصوّروا صلب المسيح وقتله، حيث بقي حيًّا ورفعه الله -تعالى- إليه[3].

(50)

ولكنّ فحوى رأي الزمخشري أنّ أعداء المسيح عليه‌السلام تصوّروا أنّهم نجحوا في صلبه، لذا كيف يمكن ادّعاء كون هذا الرأي يدلّ على وقوع الصلب حقًّا؛ كما قال الحدّاد؟!

إضافةً إلى تكلّف هذا المستشرق في تفسير الآية ولكي يجعل دلالاتها متطابقةً مع مرتكزاته العقديّة المسيحيّة، وضّح الأسلوب البياني للآية بالتالي: "القرآن اعتمد في هذه الآية على أسلوب المقابلة البلاغيّ وأسلوب النفي والإثبات، فالمقابلة هي بين المسيح وشبيهه، حيث تتبلور في قتله وصلبه، ثمّ رفعه حيًّا إلى السماء؛ وأحد أطرافها ذكر بأداة نفي؛ ما يعني أنّه لم يبطل القتل والصلب، بل أراد بيان فضل أحد الطرفين (رفع عيسى) على الطرف الآخر (القتل والصلب)؛ ما يعني أنّ رفعه يحظى بأهمّيّةٍ بالغةٍ، لذلك يُخيّل للبعض أنّه لم يُصلب. بناءً على ما ذكر، يمكن القول إنّ العبارتين المكمّلتين للآية (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا)، (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) تدلان على كون هذه المقابلة ليست واقعيةً». وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ المقابلة في الآية ليست حقيقيّةً برأيه، وإنّما هي أسلوبٌ لغويٌّ سامِيٌّ وعبريٌّ وعربيٌّ متواترٌ في القرآن الكريم[1].

وتتضمّن الآية المشار إليها تقابلًا بين تبختر اليهود بقتلهم المسيح عيسى عليه‌السلام وبين العقيدة القرآنيّة برفعه إلى السماء حيًّا، لذلك أشارت إلى تبخترهم هذا بأسلوب النفي وذكرت عقيدة الرفع في سياق التوكيد؛ كي تعلن عن أفضليّة الله -تعالى- في رفعه المسيح على مكر اليهود الذين تصوّروا أنّهم تمكّنوا من صلبه وقتله[2].

ويمكن اعتبار كلام يوسف درّة الحدّاد في ما يخصّ أسلوب المقابلة في الآية صحيحاً، ويؤكّد ذلك ذِكْر حرف الإضراب "بل" في الجزء الذي يتضمّن أسلوب الإثبات والذي يشير إلى مفهوم

(51)

مضادّ لأسلوب النفي في عبارة: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا‎)؛ لكن على الرغم من ذلك يرد عليه ما يلي:

المؤاخذة الأولى: تبختر اليهود لم يتمّ نفيه في الجزء الأوّل من المقابلة، وإنّما تمّ نفي صلب النبيّ عيسى عليه‌السلام من قبلهم.

المؤاخذة الثانية: ما السبب الذي يسوّغ لنا اعتبار النفي في هذه الآية غير حقيقيٍّ والقول بواقعيّة الجزء الإثباتيّ فقط؟! لِمَ يُنظر إلى النفي مجرّد ظاهرٍ للكلام ويُجرّد الباطن منه ويتمادى القائل في تحريف الكلام؛ بحيث يدّعي أنّ هذا النفي يدلّ على الإثبات؟! فهل توجد في الآية قرينةٌ تلزمنا بالعدول عن ظاهرها الصريح ومعناها الحقيقيّ؛ بحيث تضطرّنا لأنْ نحملها على معنًى غيرِ حقيقيٍّ؟!

لا ريب في أنّ القرينة الوحيدة التي يمكن اعتبارها -هنا- صارفةً عن المعنى الحقيقيّ هي الفرضيّات الإيديولوجيّة التي تبنّاها هذا المستشرق بخصوص صلب المسيح عليه‌السلام، حيث يعتبره من الحقائق التأريخيّة الثابتة، لذلك قال إنّه لا ينبغي العمل وفق المعنى الظاهريّ في هذه الآية كي لا يحدث تعارضٌ بين القرآن والأناجيل الأربعة؛ ولأجل إثبات رأيه هذا، طرح فكرةً عجيبةً على صعيد مسألة رفع المسيح عليه‌السلام حيًّا إلى السماء بحسب مفهوم الآية، فقد أكّد على أنّ القرآن الكريم في جميع آياته التي سبقت وتلت الآية 157 من سورة النساء اعتبر المسيح قد مات ثمّ رُفع حيًّا إلى السماء[1]؛ وادّعى أنّ الآية تدلّ على قبح تبختر اليهود في صلب النبيّ عيسى عليه‌السلام وقتله، والنفي فيها ليس حقيقيًّا، بل هي في صدد بيان فضل الاعتقاد بنبوّة المسيح؛ ونفي النفي ليس حقيقيًّا، إلا أنّ إثبات الإثبات حقيقيٌّ بحسب القاعدة[2].

حتّى وإن تنزّلنا وأذعنّا بصوابيّة ما ادّعاه الحدّاد؛ بكون القرآن الكريم أشار إلى موت النبيّ عيسى عليه‌السلام في آياته الأخرى غير الآية 157 من سورة النساء، لكنْ ما هو الدليل على أنّ موته كان جرّاء صلبه؟ فإذا افترضنا إمكانيّة إثبات موته من هذه الآيات، ألا يُحتمل أنّه مات في زمانٍ ومكانٍ آخرين؛ لكونها لم تحدّد طبيعة موته؟

(52)

وهناك مسائل عدّة تجدر الإشارة إليها في هذا الصدد، وهي التالية:

أ. لا يوجد مسوّغ يدعونا للمقارنة بين الأسلوبين البيانيّيْن المتّبعين في الآية المذكورة والمقطع الثامن من الإصحاح الخامس والأربعين في سفر التكوين، فهذا المقطع يتضمّن كلامًا للنبيّ يوسف عليه‌السلام يؤكّد فيه على حتميّة تحقّق المشيئة الإلهيّة، وحينما نمعن النظر في كلامه نلاحظ أنّه يقصد معنًى استعاريًّا، ولا سيّما في قوله «قد جعلني أبًا لفرعون»[1]، فهذه العبارة تدلّ على معنًى مجازيٍّ كنائيٍّ؛ في حين أنّ الآية 157 من سورة النساء فيها قرائنُ تدلّ على كون النفي المذكور حقيقيًّا وليس مجازيًّا، وكما ذكرنا آنفًا فالتصريح المؤكّد فيها يقطع الطريق على ادّعاء أيّ شكلٍ من المعاني المجازية، فضلًا عن عدم وجود أيّ قرينةٍ ظاهريّةٍ فيها تلزم القارئ بالعدول عن ظاهرها ومعناها الواقعيّ لحملها على معنًى كنائيٍّ ومجازيٍّ، لذا لا يمكن ادّعاء تناسق دلالتها مع ما تضمّنته الأناجيل.

ب. لا يوجد أيّ ارتباطٍ بين صلب المسيح عيسى عليه‌السلام والتلميح إلى وفاته في سائر الآيات القرآنيّة.

ج. لو صحّ ادّعاء يوسف درّة الحدّاد بكون مضمون الآية المذكورة يدلّ على منزلة المسيح عيسى عليه‌السلام وخذلان اليهود فقط، ففي هذه الحالة يرد عليه أنّ مضمون بعض الآيات الأخرى مثل الآية 169 من سورة آل عمران يعدّ أكثر وضوحًا[2].

وقد استند هذا المستشرق إلى الأسلوب الخطابيّ في الآية وطريقة استدلالها؛ ليدّعي أنّ ظاهرها يدلّ على عدم موت المسيح عليه‌السلام، لذلك يجب أن تدرج ضمن الآيات المتشابهة في القرآن الكريم، ومن ثمّ لا بدّ من عرضها على الآيات المحكمة لإزالة الغموض عنها. وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ الآيات المحكمة في هذا السّياق عددها ستّةٌ يدّعي الحدّاد كونها تدلّ بصريح العبارة على موت المسيح، ومن هذا المنطلق اقترح اللجوء إلى مداليلها حين تفسير الآية المشار إليها[3].

(53)

ولا شكّ في أنّ ادّعاءه بكون الآية المذكورة -157 من سورة النساء- من المتشابهات، واستنتاجه من ذلك عدم جواز العمل بظاهرها، هو قولٌ بلا دليلٌ، ومنبثقٌ من توجّهاته العقديّة والإيديولوجيّة المسيحيّة، إذ لم يتبنّ أيّ مفسّرٍ مسلمٍ هذا الرأي مطلقًا؛ والسبب في إصراره غير المبرّر واضحٌ، لأنّها تدلّ في ظاهرها الصريح على عدم وقوع الصلب بحقّ المسيح عيسى عليه‌السلام، لكنْ ما يدعو للأسف أنّ الأمر لا يقتصر على هذا المستشرق فحسب، بل إنّ الكثير من المستشرقين قد استدلّوا من ظاهرها على عدم تحقّق الصلب.

إذًا، اعتبر الحدّاد تلك الآيات التي تشير إلى موت المسيح بأنّها محكمةٌ، لذلك رأى ضرورة تفسير الآية 157 من سورة النساء على أساسها، وفي هذا السّياق ادّعى أنّ الخطأ الذي وقع به المفسّرون المسلمون سببه تفسير كلّ واحدةٍ من الآيات التي أشارت إلى موت المسيح على حدةٍ، الأمر الذي أسفر عن حدوث تعارضٍ بينها وبين الآية المذكورة[1].

لكنّ الحقيقة على خلاف هذا التصوّر، إذ ليس من اليسير بمكانٍ الربط بين كلّ هذه الآيات، والحدّاد بنفسه عجز عن فعل ذلك، وكلامه بكلّ تأكيد زعمٌ محضٌ لم يتمكّن من تطبيقه على أرض الواقع. صحيحٌ أنّ الآيات 33 من سورة مريم و55 من سورة آل عمران و117 من سورة المائدة وغيرها تدلّ على موت المسيح؛ بحيث استند إليها هذا المستشرق لادّعاء وقوع عمليّة الصلب، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هي العلاقة بين ذِكْر موت المسيح وبين عدم صلبه؟ فآية البحث هي في مقام بيان فشل اليهود في قتل النبيّ عيسى عليه‌السلام وصلبه، وليست في مقام بيان عدم موته، لذا لا بدّ لنا من الالتفات إلى الغرض من البيان، وعدم تحميل مداليل آيات أخرى عليها؛ فضلاً عن ذلك، فالآية 117 من سورة المائدة -على سبيل المثال- والتي سنتطرّق إلى الحديث عنها بشكلٍ مستقلٍّ في هذا الباب، في مقام بيان أنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام لم يكنْ موجودًا بين بني إسرائيل بعد تنفيذ عمليّة الصلب، ولا يراد منها بيان ما إنْ كان قد مات في تلك الآونة أو لا؛ أي إنّها لا تتضمّن ما يدلّ على موته ورفعه إلى السماء.

والمعروف عن هذا الباحث أنّه لم يتخلّ في نظريّاته وآرائه عن مرتكزاته العقديّة، فكلّ آيةٍ أو عبارةٍ تعامل معها، حاول إثارة جدلٍ تفسيريٍّ حولها؛ استنادًا إلى أسسه الفكريّة، وقد لجأ في

(54)

هذا المضمار إلى أساليبَ ماكرةٍ ورؤًى يشوبها التمويه؛ لذكر النتيجة التي يتبنّاها إزاء هذا الجدل، حتّى إنّه ادّعى في بعض الموارد تحريف الآية من قِبَل كَتَبَة القرآن الكريم، وفي بعض الموارد رفض المعنى المتبادر من بعض الكلمات وبادر بنفسه إلى تحميل معنًى يتناسق مع آرائه عليها، وأحيانًا أخرى كان يدرج بعض الآيات ضمن المتشابه من القرآن، ومن ثمّ يرفض دلالتها الظاهريّة؛ تأييدًا لرأيه؛ إلا أنّ هذه الحيلة التفسيريّة -ادّعاء أنّ الآية متشابهةٌ- لم تُعِنْه على إثبات رأيه بشكلٍ قاطعٍ؛ لكون التشابه يطلق على العبارات المتشابهة مع بعضها من الناحية الدلاليّة؛ بحيث يشتبه الناس في تشخيص الدلالة المقصودة منها، ويعجزون عن تحديد مصداقها[1]. وجدير بالذكر -هنا- أنّ الآيات المتشابهة هي التي لا يمكن للمخاطب معرفة مداليلها من ظاهرها، لذا لا يعرف المقصود منها بمجرّد قراءة ألفاظها أو الاستماع لها، ومن ثمّ يَحتمل لها معانيَ عديدةً، ومن هذا المنطلق لا محيص -هنا- من عرضها على الآيات المحكمة؛ كي يتّضح المراد منها[2].

هذا هو المراد من التشابه في القرآن الكريم، لكنْ هل يمكن اعتبار الآية 157 من سورة النساء بكونها من المتشابهات؟ يبدو أنّ البنية اللغويّة للآية ومضمونها ليسا هما السبب في ادّعاء يوسف درّة الحدّاد بكونها من المتشابهات، وإنّما متبنّياته الفكريّة والأهداف التي طمح إليها هي التي حفّزته على استنتاج كهذا، لذا لو أنّه التزم جانب الحياد، وتخلّى حين عمليّة الاستدلال عن مرتكزاته العقديّة المسيحيّة التي تقوم على تأريخية الصلب، فحينئذٍ هل من الممكن أن يتبادر إلى ذهنه أمرٌ آخرُ غير نفي صلب المسيح عيسى عليه‌السلام وعدم تمكّن اليهود من قتله؟! إذًا، اعتقاده بتأريخيّة الصلب هو الذي جعله يتصوّر كون الآية المذكورة من المتشابهات وادّعاء أنّ ظاهرها يتعارض مع تلك الآيات التي أشارت إلى موت المسيح؛ مثل: الآيتين 33 من سورة مريم، و117 من سورة المائدة، وغيرهما[3].

وبناءً على الرأي الصحيح؛ وفحواه عدم وجود تعارضٍ بين الآيات التي تحدّثنا عنها، فإنّ زعم أيّ تعارضٍ يعني تحميل القرآن الكريم رأيًا لا يمتّ له بصلةٍ؛ ولو قارنّا بين الآية 157 من سورة النساء

(55)

التي أشارت بصريح العبارة إلى عدم نجاح اليهود في صلب النبيّ عيسى عليه‌السلام، وبين تلك الآيات التي قال الله -عزّ وجلّ- فيها بأنّه مثل سائر البشر ومصيره عليه‌السلام الموت مثلهم، سوف لا نستنتج أنّ موته قد تحقّق إبّان عمليّة الصلب، إذ التصريح المؤكّد في آية الصلب ينمّ عن كونها من جملة الآيات المحكمة، وبالتالي ليس من الممكن تحميل أيّ رأيِ آخرَ عليها؛ بغية تحقيق مآربَ خاصّةٍ.

إنّ رأي الحدّاد[1] بكون الصلب حقيقةً متواترةً هو مجرّد ادّعاءٍ صرفٍ لا يقوم على أيّ مرتكزاتٍ تأريخيةٍ أو حقائقَ موثّقةٍ؛ على الرغم من أنّه استند في مدّعاه هذا إلى رأي المفسّر المسلم الفخر الرازي، حيث نقل عنه أنّ إنكار قتل المسيح وصلبه يعدّ طعنًا في التواتر، والطعن في التواتر يعني الطعن في نبوّة خاتم الأنبيّاء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ونبوّة عيسى عليه‌السلام وسائر الأنبيّاء والرسل[2]. هذا الكلام لا يتناغم في الواقع مع الرأي الواقعيّ الذي تبنّاه الرازي، فقد دوّن ما أشار إليه الحدّاد -هنا- بوصفه مجرّد احتمالٍ، ثمّ بادر بنفسه إلى تفنيده؛ معتبرًا إياه شبهةً، حيث قال: «والجواب عن الخامس أنّ الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين، ودخول الشبهة على الجمع القليل جائزٌ، والتواتر إذا انتهى في آخر الأمر إلى الجمع القليل، لم يكن مفيدًا للعلم»[3]، فضلًا عن أنّ عيسى عليه‌السلام لم يكنْ يخالط الناس كثيرًا، لذا لا يمكن اعتبار خبر صلبه متواترًا، لكن مع ذلك ادّعى هذا المستشرق أنّ الرازي أيّد الرأي القائل بتواتر خبر صلبه، بينما صريح كلام هذا المفسّر المسلم يفنّد زعمه الواهي، لأنّه حاول تحريف مدلوله الصريح.

وجدير بالذكر أنّ أحد الباحثين اعتبر الاختلاف بين النصارى في العهد الأوّل دليلًا بارزًا على عدم تواتر قتل المسيح عيسى عليه‌السلام، فقد أنكر بعضهم مقتله[4]؛ وأكّد في دراساته على أنّ النصارى أنفسهم كانوا مختلفين في ما بينهم حول مقتله؛ على الرغم من اتّفاقهم في العهود المتأخّرة على ذلك، إذ منهم من يعتقد بفشل أعدائه في قتله؛ والنتيجة لهذه الحقيقة هي أنّ تواتر خبر قتله ليس مرتبطًا بالعهد الذي حدث فيه الصلب، ومن ثمّ لا يمكن اعتباره خبرًا

(56)

صحيحًا مفيدًا للعلم واليقين[1]. وفي هذا السّياق أكّد قائلًا: «يعتقد اليهود والنصارى بأنّ خبر صلب النبيّ عيسى متواترٌ، وعقيدتهم هذه صحيحةٌ؛ لأنّهم شاهدوا إنسانًا معلّقًا على الصليب، ونحن أيضًا لا ننكر ذلك، لكنّهم وقعوا في خطأٍ هنا لكون المصلوب ليس النبيّ عيسى عليه‌السلام. إذًا، الصواب هو الاكتفاء بما ذكر في القرآن الكريم وعدم التكلّف في الموضوع»[2]. لو أخذنا هذا الكلام بنظر الاعتبار إلى جانب ما أثبتناه في المباحث الآنفة، على صعيد عدم تأريخيّة الصلب، سوف لا يبقى أيّ مجالٍ لادّعاء وجود تواترٍ بهذا الخصوص.

3. الإذعان بكون القرآن الكريم نفى صلب المسيح وتبريره على ضوء فرضيّاتٍ تأريخيّةٍ:

حاول المستشرق البريطانيّ وليام مونتغمري واط[3] التقريب بين وجهات النظر الإسلاميّة والمسيحيّة على صعيد صلب المسيح عيسى عليه‌السلام، وعلى هذا الأساس أذعن بكون الآية 157 من سورة النساء تدلّ بصريح القول على عدم وقوع الصلب بشأنه، وبالتالي تتعارض مع المرتكزات العقديّة المسيحيّة، لذلك حاول توجيهها وفق أسسٍ تأريخيّةٍ؛ قائلًا: إنّه ربّما يمكن للمسيحيّ الإذعان بما طرحه القرآن الكريم بالنسبة إلى صلب النبيّ عيسى، وذلك من منطلق أنّه حدث بفعل الجنود الرومان؛ وفحوى النصّ القرآنيّ أنّ الصلب لا يمكن اعتباره نصرًا لليهود؛ بناءً على العقيدة القائلة ببعث عيسى عليه‌السلام من قبره.

واتّبع هذا المستشرق البريطاني نهجًا معتدلًا في التعامل مع مضمون الآية المذكورة؛ محاولًا تأييد الموقف القرآنيّ الرافض لوقوع الصلب بشأن المسيح عليه‌السلام، لكنّه مع ذلك اعتبرها غير دالّةٍ بشكلٍ قاطعٍ على التفسير الذي تبنّاه المسلمون لها، حيث أيّد الرأي القرآنيّ القائل بفشل اليهود في قتل النبيّ عيسى عليه‌السلام وعدم تمكّنهم من صلبه، لكنّه مع ذلك حاول توجيه التعارض الموجود بين هذا الرأي ومعتقداته المسيحيّة القائمة على الإيمان بصلب المسيح، بادّعاء أنّ الرومان هم الذين صلبوه لا اليهود، حيث تمّت عمليّة الصلب في منطقةٍ يقطنها اليهود؛ ويؤيّد ذلك أنّ الأحداث التأريخيّة اللاحقة دلّت على عدم صوابيّة مزاعم اليهود التي لوّحوا فيها إلى أنّهم انتصروا على عيسى عليه‌السلام.

(57)

وجدير بالذكر أنّه التزم جانب الحياد، وحاول جاهدًا التقريب بين وجهات النظر الإسلاميّة والمسيحيّة على صعيد ما ذكر؛ لدرجة أنّه وافق على بعض التفاسير الإسلاميّة المطروحة في تفسير قوله -تعالى-: (وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ) ؛ معتبرًا إياها غير متعارضةٍ مطلقًا مع الرؤية المسيحيّة[1].

وتطرّق الفيلسوف واللاهوتي الأمريكي توماس ماك إيلوين، ضمن افتراضه تأريخية الصلب، إلى تفسير الآية المذكورة، حيث قال: «الآيات التي تحدّثت عن الصلب، يتمّ تفسيرها بشكلٍ عامٍّ على ضوء إنكار موت عيسى، لكنْ بدل أن تفسّر هكذا ينبغي القول بكونها في صدد إنكار مزاعم اليهود الباطلة في قتلهم إيّاه»[2]. وبعد ذلك احتمل صوابيّة كلا التفسيرين، لكنّه اعتبر كلّ واحدٍ منهما عرضةً لبعض المؤاخذات.

والمؤاخذة التي طرحها هذا المفكّر على التفسير التقليديّ للآية القائم على إنكار صلب المسيح منبثقة من اعتقاده بتأريخيّة الصلب، فقد حذا حذو الكثير من المستشرقين واعتبرها دالّةً على سخرية اليهود بالمسيحيّين، لذلك قال إنّها لا تحكي عن موت عيسى عليه‌السلام أو بقائه حيًّا، لكنّه مع ذلك أقرّ بكون ألفاظها دالّةً بشكلٍ قاطعٍ على نفي صلب المسيح؛ وعلى هذا الأساس رفض التفسير الذي طرح من قِبَل المستشرق وليام مونتغمري واط، حيث قال: «التصريح القاطع الموجود في الآية يثير شكوكًا حول الرأي القائل بكون الرومان هم الذين قتلوا عيسى لا اليهود، فلو صحّ ادّعاء أنّ الرومان هم الذين قتلوه لذُكِر في القرآن ذلك ولما تمّ التأكيد فيه على أنّ اليهود لم يتمكّنوا من قتله»[3].

وقد طرح الفكرة التالية لتفسير الآية المذكورة ضمن مساعيه الرامية إلى التنسيق بين مضامين الأناجيل والقرآن الكريم بخصوص النبيّ عيسى عليه‌السلام: «الرومان هم الذين قتلوا عيسى لا اليهود»[4]، لكنّ بعض المستشرقين يعتبرون هذا التوجيه ينمّ عن مساعٍ فكريّةٍ غيرِ صادقةٍ هدفها التحايل على حقيقة الصلب؛ كما أشار إليها القرآن الكريم،[5] لذلك قالوا: «لو كان

(58)

الهدف المقصود في الآيات 157 إلى 159 من سورة النساء هو أنّ المسيح لم يصلب على يد اليهود، بل على يد الله أو الرومان؛ لذكر هذا الأمر فيها بشكلٍ صريحٍ»[1].

 4) تفنيد النظريّة القرآنيّة القائلة بعدم صلب المسيح عليه‌السلام استناداً إلى سياق الآية:

كلّما ابتعدنا عن أوائل النصف الثاني من القرن العشرين نلاحظ تزايد الادّعاءات الاستشراقيّة الرافضة للرأي القرآنيّ القائل بعدم نجاح القوم في صلب النبيّ عيسى عليه‌السلام، كما نجد الكثير من المحاولات الرامية إلى تفنيد الروايات المنقولة في المصادر الإسلاميّة بخصوص آية الصلب.

فقد سلك محمود مصطفى أيوب النهج ذاته الذي اتّبعه وليام مونتغمري واط وحاول التقريب بين وجهات النظر المسيحيّة والإسلاميّة بالنسبة إلى صلب المسيح، ولم ينتهج ما ذهب إليه ريتشارد بيل الذي زعم أنّ النظريّة القرآنيّة متأثّرةٌ بالفرق العرفانيّة المسيحيّة؛ مثل الفرقة الغنّوصيّة، لكنْ مع ذلك لم تطاوعه نفسه في التخلّي عن فكرة تأريخيّة الصلب ووقوعه بشأن النبيّ عيسى عليه‌السلام.

وقد بادر في إحدى مقالاته[2] إلى التنسيق بين الرؤية التقليديّة التي تبنّاها المفسّرون المسلمون بخصوص مسألة الصلب، وبين الرؤية التقليديّة المسيحيّة، وفي هذا السّياق اقترح القول بعدم تأريخيّة آية الصلب، حيث اعتبرها كسائر الآيات التي تطرّقت إلى الحديث عن النبيّ عيسى عليه‌السلام، فهي برأيه تتضمّن إيضاحًا لاهوتيًّا في رحاب أوسع نطاقٍ دلالي.

ومن جملة آرائه الأخرى بهذا الخصوص أنّ النظريّة القرآنيّة بخصوص صلب المسيح على غرار النظريّة القرآنيّة بخصوص أمّه السيّدة مريم عليها‌السلام التي وصفت بعبارة (يَا أُخْتَ هَارُونَ)[3]؛ كما ردّ على اعتراض المؤرّخين وقال إنّ القرآن عرّف الأنبيّاء والرسل وكأنّهم حلقاتٌ في سلسلةٍ مترابطةٍ.

وكذلك أكّد على إنّ القرآن الكريم ليس في صدد ذكر أخبارٍ كاذبةٍ أو الإشارة إلى أباطيلَ

(59)

تأريخيّةٍ، بل سياقه في صدد بيان جهل البشر وحماقتهم إزاء الله -تعالى- والأنبيّاء؛ وقد اعتمد في رأيه هذا على الأوصاف التي ذكرت للنبيّ عيسى عليه‌السلام في مختلف الآيات التي أكّدت على أنّ اليهود أرادوا قتل عيسى البريء والمسيح وكلمة الله ورسوله، فهذه الأوصاف القرآنيّة أريد منها بيان واقع شخصيّته للبشريّة ضمن خطابٍ موجّهٍ لليهود. والألقاب التي ذكرها الله -تعالى- للنبيّ عيسى عليه‌السلام في هذه الآية تدلّ على أنّه -تبارك شأنه- ليس في صدد الحديث عن رجلٍ كسائر الرجال، وإنّما يتحدّث عن كلمته التي أرسلها إلى الأرض، ثمّ عادت إلى السماء، وقد أيّد بذلك تفنيد الآية مقتله، لكنّه لم يفسّر مفهومها بإنكار قتله، بل بإنكار قدرة البشر في القضاء على كلمة الله عزّ وجلّ، تلك الكلمة التي لها الغلبة دائمًا [1].

ويبدو أنّ محمود مصطفى أيوب حذا حذو المستشرقين غابريل سعيد رينولدز، ونيل روبنسون؛ حيث اعتبر قوله -تعالى-: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ) مترسّخةً بعمقٍ في نفس كلّ إنسانٍ وضميره، ووصف قوله -تعالى-: (وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ) بأنّه حكم الله -سبحانه وتعالى- قبال غرور الإنسان وجهله[2].

وجدير بالذكر أنّ عددًا من المفسّرين المسلمين يعتقدون بأنّ القصص القرآنيّة التي تسرد فيها أحداث وتتمحور حول أشخاص؛ هي ذات طابعٍ أدبيٍّ وفنّيٍّ، وليست في صدد الإخبار عن حقائق تأريخيّة[3]، لكنّ السؤال الذي يطرح عليهم، وعلى محمود مصطفى أيوب؛ هو: هل يمكن تسرية هذا الرأي على جميع القصص القرآنيّة، أو أنّ الأمر يقتصر على تلك الموارد التي يمكن للنصّ أنْ يتيح فيها استنتاج دلالة رمزيّة أو مجازيّة كهذه؟ لا شكّ في أنّ الحقيقة هي المبدأ الأساس في تفسير المصطلحات والعبارات القرآنيّة؛ إلا إذا دلّت قرينةٌ عقليّةٌ أو نقليّةٌ على غير ذلك؛ بحيث يمكن الاستناد إليها لاستنباط معنى مجازي، فالعدول عن المعنى الظاهريّ للقرآن الكريم واللجوء

(60)

إلى التأويل يُسوَّغ حينما توجد حجّة ثابتة ومعتبرة تشير إليه، وفي غير هذه الحالة فهو مرفوضٌ؛ جملةً وتفصيلًا[1]؛ إذ هناك مواردُ خاصّةٌ يمكن الاعتماد فيها على ظواهر الآيات لطرح آراء تتعارض مع الأصول الارتكازيّة؛ عقلًا واعتقادًا، على ضوء مسائل الحقيقة والمجاز.

والعبارات القرآنيّة التي سبقت الآية المذكورة، والتي اعتبرها أيوب سياقًا وأنموذجًا على جهل الإنسان، لا نستشفّ منها أيّ دلالةٍ ظاهريةٍ على العدول عن المعنى الحقيقيّ بتاتًا، ومن جملتها عبادة العجل الذي صنعه بنو إسرائيل من الذهب (سورة النساء، الآية 153) وقتلهم الأنبيّاء (سورة النساء، الآية 155) وقذفهم السيّدة مريم عليها‌السلام بالزنا (سورة النساء، الآية 156)،[2] وفي النهاية جرأتهم في الإقدام على قتل النبيّ عيسى عليه‌السلام.

ومن المؤكّد أنّ عبادة العجل، واتّهام السيّدة مريم عليها‌السلام، وقتل الأنبيّاء من قِبَل بني إسرائيل؛ هي حقائقُ تأريخيّةٌ ثابتةٌ يُقرّ بها اليهود أنفسهم، كما أنّ مسألة قتل المسيح وصلبه ذُكرت في هذا السّياق نفسه، ومن الواضح بمكانٍ عدم صوابيّة طرح أيّ استنتاجٍ غيرِ تأريخيٍّ منها، ولا يمكن تصوّر تناسب سياقها مع قضايا عاطفيّةٍ؛ بحسب ادّعاء البعض. أضف إلى ذلك أنّ الألقاب التي ذكرتها الآية للنبيّ عيسى عليه‌السلام يمكن إثباتها بدليلين، فهي إمّا أن تكون ألقابًا تنمّ عن استهزاء اليهود به[3]؛ من منطلق عدم اعتقادهم مطلقًا بمثل هذا الشأن الرفيع له، إذ رفضوا نبوّته بصريح القول، وما قبلوا بها مطلقًا، لذا لم يكنْ هناك ما يدعوهم لأنْ يصفوه بالنبيّ أو الرسول، حيث كانوا ينتظرون المسيح المنقذ لهم؛ وهو حسب اعتقادهم ليس عيسى بن مريم. إذًا هل يوجد سببٌ يدعوهم لأنْ يعتقدوا بكونه المسيح المرتقب ظهوره؟! من الواضح أنّهم كانوا يقولون مستهزئين: لقد قتلنا ذلك الرجل الذي ادّعى أنّه نبيّ الله أو المسيح المنتظر. ولربّما ذكر الله -تعالى- هذه الألقاب للتعريف بشخصيّته، وبيان حقيقة رسالته؛ أي إنّه ردّ على قبح كلام اليهود بشأن هذا النبيّ المرسل عبر التذكير بمحاسنه، وفي هذا السّياق أكّد

(61)

على أنّهم ما قتلوه وما تمكّنوا من صلبه: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ). هذه الآية تفيد أنّ اليهود لم يتمكّنوا من قتله، بل عجزوا حتّى عن صلبه، وفي المقطع الأخير منها تمّ التأكيد مرّةً أخرى على توهّمهم في أنّهم حقّقوا مرادهم: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا)، وقد وصف محمود مصطفى أيوب قوله -تعالى-: (وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ) بأنّه صحيحٌ ومنطقيٌّ، وضمن رفضه للروايات الإسلاميّة التي نقلت في تفسيره[1]، اعتبره ذا دلالةٍ غامضةٍ وغيرِ محدَّدةٍ[2]، وبرّر هذا الاستنتاج بكون مرجع الضمير (هم) في قوله(لَهُمْ) هو اليهود الذين ادّعوا أنّهم تمكّنوا من قتل المسيح بعد أنْ صلبوه أو أنّهم صلبوه بعد أن قتلوه، وعبارة (شُبِّهَ لَهُمْ) تدلّ على وقوع فعلٍ مجهولٍ لا شخصيٍّ، فهي تعني اشتبه الأمر عليهم، أي إنّ أمرًا قد التبس عليهم وتخيّلوا إنجازهم المهمّة والقضاء على النبيّ عيسى عليه‌السلام.

وتجدر الإشارة -هنا- إلى عدم تطرّق النصّ القرآنيّ إلى ذِكْر أيّ توضيحٍ حول نوعيّة هذا الاشتباه الذي طرأ على أذهان اليهود، لكنّ هناك قصصٌ وسيناريوهاتٌ عديدةٌ ذُكرت في مختلف المصادر التفسيريّة على صعيد تفسير هذه الآية أريد منها بيان واقع هذا الالتباس الذي أوقع اليهود في خطأٍ؛ لكنّ كلّ هذه القصص والسيناريوهات باطلةٌ؛ نظرًا لعدم اتّساقها مع بعضها وتنوّعها، فضلًا عن عدم نقلها من مصادرَ موثّقةٍ، لذا فهي لا تمنح القارئ أيّ اطمئنانٍ بمضامينها.

إذًا، طبقًا لما صرّح به كلٌّ من محمود مصطفى أيوب، وغابريال سعيد رينولدز، لا يمكن الإذعان بوجود تطابقٍ بين مضمون قوله -تعالى-: (شُبِّهَ لَهُمْ) وما ذُكر من قصصٍ في تفسيره، وقال أيوب في هذا السّياق إنّ العبارة اللاحقة: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) تعدّ توضيحًا للعبارة المذكورة قبلها (وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ) ؛ ما يعني أنّ الله -عزّ وجلّ- أكبرُ من كلّ قدرةٍ إنسانيّةٍ وأعظمُ من جميع المخطّطات والمؤامرات البشريّة الخاوية أمام اقتداره.

وقوله -تعالى-: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا)، وما تلاه في الآية اللاحقة: (بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ

(62)

عَزِيزًا حَكِيمًا) [1] فيهما تأكيد على جهل البشر، وإمكانيّة وقوعهم في أخطاء وأوهامٍ تبعدهم عن الحقيقة، والسبب في ذلك -برأي محمود مصطفى أيوب- هو عدم امتلاكهم إيمانًا راسخًا؛ بعد ذلك أشار الله -تعالى- إلى عظمة ذاته واقتداره وكماله المطلق أمام عجز البشر وضيق نطاق قابليّاتهم؛ حينما قال: (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [2].

ولو ألقينا نظرةً على الخلفيّات الأساسيّة للأحداث التي تطرّقت هذه الآيات إلى ذكرها، نستشفّ منها أنّ الذين اختلفوا في ما بينهم هم يهودٌ بكلّ تأكيدٍ؛ أي أولئك اليهود المعاصرين للأحداث التي سردت في الآيات التي أشرنا إليها، حيث اختلفت آراؤهم حول ما حدث؛ لكنّ بعض الباحثين يعتقدون بأنّ الاختلاف المذكور قد وقع في الحقيقة بين المسيحيّين حول النبيّ عيسى عليه‌السلام، إذ التأريخ المسيحيّ منذ بداياته كان زاخرًا بخلافاتٍ ونزاعاتٍ محتدمةٍ ومعقّدةٍ تمحورت بشكلٍ أساس حول شخصيّته وتكوينه وارتباطه بالله -تعالى-؛ أي العلاقة بين فطرته الإنسانيّة وصبغته الإلهيّة، كذلك اشتدّ الجدل بين المسيحيّين حول كونه إنسانًا؛ كسائر البشر أو لا.

العبارة المطروحة للبحث -هنا- تدلّ بشكلٍ صريحٍ ومؤكّدٍ على أنّهم لم يتمكّنوا من فعل أيّ شيءٍ للمسيح عيسى عليه‌السلام، وكلّ ما لديهم هو الظنّ والتوهّم لا غير، وقوله -تعالى-: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) في الآية 157 من سورة النساء، فيه قطعٌ ويقينٌ على ذلك، دون أيّ قيدٍ أو شرطٍ؛ أي أنّ اليهود لم يتمكّنوا من قتله مطلقًا، وهذا هو مغزى الموضوع وفحواه بكلّ تأكيدٍ، فلا اليهود ولا غيرهم فعلوا ذلك؛ وإنّما رفعه الله -تعالى- إليه[3].

واستنادًا إلى ما ذُكِرَ لا يمكننا اتّباع الرأي الذي تبنّاه محمود مصطفى أيوب؛ باحتمال كون الآية المشار إليها تدلّ على مضمونٍ أدبيٍّ مجازيٍّ، فقد قال إنّ روح المسيح عيسى عليه‌السلام بقيت حيّةً، لكنّ جسمه فنى جرّاء صلبه، في حين أنّ القرآن الكريم أكّد بصريح العبارة وببيانٍ هو الغاية في الدلالة والوضوح على عدم صوابيّة هذا الكلام، حيث قال -تعالى- إنّ اليهود قد شُبّه لهم أنّهم قتلوا المسيح عيسى عليه‌السلام وصلبوه، لكنّه لم يوضّح طبيعة هذا الاشتباه، لا في هذه الآية، ولا في آياتٍ أخرى.

(63)

والنتيجة النهائيّة التي توصّل إليها أيّوب في بحثه؛ فحواها: أنّ القرآن الكريم في هذه الآيات يرفض موت المسيح عيسى عليه‌السلام عن طريق صلبه، ولم يشرِ إلى كيفيّة وفاته؛ وكما أشرنا آنفًا، فعدم الصلب المذكور في القرآن هو تعبيرٌ استعاريٌّ برأيه[1].  لكنْ ما نلمسه بكلّ وضوحٍ من الآية أنّ اليهود لم يفلحوا في صلب المسيح، لذا لا يمكن ادّعاء أنّها تدلّ على موته بشكلٍ آخرَ غير الصلب، ومن ثمّ لا يمكن الارتكاز على مضمونها؛ لاحتمال أنّه مات ولم يُرفَع إلى السماء؛ وهو حيٌّ.

واستند بعض المستشرقين المتأخّرين إلى سياق هذه المجموعة من الآيات، وطرحوا ذات الرأي الذي تبنّاه محمود مصطفى أيوب؛ ليستنتجوا أنّ القرآن الكريم أبقى مسألة صلب النبيّ عيسى عليه‌السلام مطلقةً ولم يحدّد مصيره، كذلك رفض المستشرق غابريال سعيد رينولدز تفسير العلماء المسلمين لآية الصلب؛ مبرّرًا ذلك بأنّ السّياق يقتضي غير ذلك، واعتبر الروايات المنقولة في تفسير الآيات المشار إليها مجرّد سيناريوهاتٍ مقتبسةٍ من النصوص الإنجيليّة التي تتمحور حول بيان المصائب التي تعرّض لها المسيح عليه‌السلام، والاختلاف الوحيد بين الأناجيل والروايات الإسلاميّة في هذا المضمار يكمن في أنّ الأخيرة تؤكّد على كون اليهود لم يصلبوه؛ وإنّما صلبوا شخصًا آخرَ شبيهًا به، لأنّ الله -عزّ وجلّ- رفعه إليه. بما أنّ هذا المستشرق مسيحيّ المنشأ فهو بطبيعة الحال يؤمن بالصلب ويعتبره من الوقائع التأريخيّة الثابتة، فهذه العقيدة موثّقةٌ ومحترمةٌ للغاية لدى أتباع الديانة المسيحيّة، وتحظى باهتمامٍ بالغٍ، مثلما تحظى واقعة كربلاء باهتمامٍ ووثاقةٍ لدى الشيعة، لذا فإنّ إنكارها يعني مخالفة واقعٍ تأريخيٍّ يقينيٍّ؛ ومن هذا المنطلق قلّل المستشرقون والعلماء المسيحيّون من شأن الروايات الإسلاميّة المنقولة في بيان مدلول آية الصلب واعتبروها مجرّد ظنونٍ وتخميناتٍ تفسيريّةٍ لا صوابيّة لها؛ باعتبار أنّ المسلمين صاغوها من عند أنفسهم؛ لأجل طرح صورةٍ لدينهم؛ وكأنّه مختلفٌ عن الديانة المسيحيّة[2]؛ في حين أنّ المفكّر ويل ديورانت قال في كتابه الشهير «قصّة الحضارة» إنّ الإسلام في تلك الآونة لم ينتشر في الشرق الأوسط فقط، بل اجتاح قارّتي إفريقيا وأوروبا، لذا لم يكنْ المسلمون بحاجةٍ إلى صياغة سيناريوهاتٍ معيّنةٍ لأجل تصوير

(64)

دينهم؛ وكأنّه ذو شخصيّةٍ مستقلّةٍ ويختلف عن سائر الأديان[1].

وبحسب الحقائق التأريخيّة المتداولة هناك إنجازاتٌ عظيمة وفريدة من نوعها للنبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، فالمسلمون خلال جيلٍ واحدٍ انتصروا في مئة معركةٍ وأسّسوا خلال قرنٍ واحدٍ إمبراطوريةً عظيمةً، فضلًا عن أنّ الأسلوب القرآنيّ المتّبع في بيان رسالات الأنبيّاء والمبادئ اللاهوتيّة الخاصّة التي ساقها حول الأنبيّاء والرسل، ولا سيّما بخصوص النبيّ عيسى عليه‌السلام، تعدّ بحدّ ذاتها مرتكزًا لطرح الإسلام؛ بوصفه دينًا مستقلًّا ومختلفًا عن غيره، لذا لم تكنْ هناك حاجةٌ لأن يتمّ تمييزه عن غيره من الأديان، بعد قرنٍ ونصفٍ، على ضوء ظنٍّ وتخمينٍ.

واعتبر المستشرق غابريال سعيد رينولدز ظهور الفرق التي تشعّبت من مذهبَي الشيعة والسنة عاملًا أساسيًّا لنشأة الإسلام بهذا الشكل، لكنّ ادّعاءه هذا لا يستند إلى أيّ مرتكزٍ تأريخيٍّ، حيث يَرِد عليه ذات الإشكال الذي طرحه بنفسه على التفاسير الإسلاميّة، فما وصفه بالتراصف الشيعي والسني في الواقع ليس سوى تخمينٍ تفسيريٍّ من قٍبله ولا يقوم على حقائقَ تأريخيةٍ؛ وكما أشرنا سابقًا فنحن لسنا مضطرّين لتقبّل مثل هذه الروايات فضلًا عن أنّ نصّ الآية يُعتبر كافيًا لإثبات القضايا التي دار الحديث عنها.

نستشفّ من كلام رينولدز وسائر المستشرقين الذين تبنّوْا النهج ذاته -مثل نيل روبنسون الذي اعتنق الإسلام بعد المسيحيّة- أنّ السّياق القرآنيّ هو السبب الأساسيّ في عدم قبول النظريّة القرآنيّة التي فنّدت صلب المسيح عيسى بن مريم عليها‌السلام من قبل اليهود[2].

رينولدز بذل كلّ ما بوسعه لإثبات رأيه الذي أكّد فيه على تأريخية صلب المسيح معتمدًا على سياق الآيات 153 إلى 159 من سورة النساء والتي اعتبرها مفتاحًا للطرح القرآنيّ بهذا الخصوص، وفي هذا المضمار أكّد على أنّ المفسّرين المسلمين من خلال تجزئتهم الآيات وتحليل كلّ واحدةٍ

(65)

منها على حدةٍ، ساهموا في طرح مضامينها بحسب المعنى التقليديّ المتعارف بينهم.[1] وقد اعتبر حرف الواو الواقع في بادئ الآية 157 من السورة المذكورة دليلًا على العطف الشائع في اللغة العربيّة والذي يعني ارتباط المعنى السابق باللاحق، أي اتّصال الجملة الأولى بما بعدها؛ وقال في هذا الصعيد أنّ المسألة الأساسيّة التي تمحورت بحوث معظم المفسّرين المسلمين حولها ضمن تفسيرهم سورة النساء، تتمثّل في تفنيد تهم اليهود وذمّ طغيانهم وتصرّفاتهم المنحرفة مثل عبادة العجل (سورة السناء/ الآية 153) وقتل الأنبيّاء (سورة النساء/ الآية 155) واتّهام السيّدة مريم عليها‌السلام بالزنا (سورة النساء/ الآية 156) وقتل النبيّ عيسى عليه‌السلام؛ وعلى هذا الأساس قالوا إنّه كما أنّ الآية السابقة دافعت عن طهارة السيّدة مريم عليها‌السلام وعفّتها، فهذه الآية بدورها دافعت عن حقّانيّة النبيّ عيسى عليه‌السلام مقابل مزاعم اليهود[2].

وقد كان للفرضيّات الارتكازيّة في أذهان المستشرقين تأثيرٌ بالغٌ إلى أقصى حدٍّ على توجّهاتهم الفكريّة؛ لدرجة أنّهم أنكروا الظاهر القرآنيّ الصريح في الدلالة، والذي تمّ التأكيد فيه على أنّ اليهود عجزوا عن قتل المسيح وصلبه، لذا نجد رينولدز وأمثاله استندوا إلى مسألة السّياق، وزعموا أنّ الآية لا تنكر صلبه، وبرّروا رأيهم هذا بكون البنية الخطابيّة فيها تدلّ على عدم امتلاك اليهود القابليّة على فعل ذلك؛ بما لديهم من قدرةٍ[3]؛ لأنّ الخطاب المطروح فيها يحكي عن الطبيعة الشيطانيّة لبعض البشر الذين تصوّروا أنّهم قادرون على إلحاق الهزيمة بالربّ وقتل نبيّه عيسى عليه‌السلام [4]. واعتبر رينولدز هذه الآيات أنّها تؤكّد على عجز البشر عن قبض روح إنسانٍ؛ بداعي أنّ الحياة والممات بيد الله عزّ وجلّ[5].

(66)

وأصاب رينولدز حينما اعتبر سياق هذه الآيات يتمحور حول الكفر ونقض العهد من قِبَل بني إسرائيل وقتلهم الأنبيّاء بغير حقٍّ، حيث قال إنّه صحيحٌ أنّ الخطاب فيها موجّهٌ لأهل الكتاب، لكنّنا نستشفّ من بنيتها العامّة أنّ اليهود هم من وجَّه لهم الخطاب بالتحديد، لا أهل الكتاب قاطبةً؛ أي أنّ الخطاب فيها ليس موجّهًا للنصارى؛ لأنّ المقطع الأوّل من الآية 153 فيه إشارةٌ إلى النبيّ موسى عليه‌السلام والوعد الإلهيّ في جبل سيناء. ومضافًا إلى كلامه فإنّ المقطع الأوّل من الآية 155 يتضمّن نقدًا وتوبيخًا لليهود جرّاء قتلهم الأنبيّاء وارتكابهم جرائمَ أخرى[1]؛ والآية 156 وجّهت نقدًا لاذعًا لهم إثر افترائهم على السيّدة مريم عليها‌السلام​ [2]. وأمّا الآية 157 فهي في مقام توبيخهم بشكلٍ عامٍّ، فهم لا يدّعون فقط أنّهم قتلوا الأنبيّاء السابقين - وهذا ما حدث بالفعل- بل يدّعون -أيضًا- قتل النبيّ عيسى عليه‌السلام -وهذا الأمر لم يحدث كما تصوّروا- حيث كانوا يقولون متهكّمين أنهم قد تمكّنوا من قتل شخصٍ يدّعي النبوّة، إلا أنّ الله -سبحانه وتعالى- ردّ عليهم مفنّدًا مزاعمهم بأنّكم لم تتمكّنوا من قتله ولا صلبه، والآية التي تضمّنت هذا الردّ تؤكّد كما ذكرنا على أنّهم لم يعجزوا عن قتل النبيّ عيسى عليه‌السلام فقط، بل عجزوا أيضًا عن صلبه، لذا فهو لم يصلب مطلقًا في أيّ زمانٍ كان؛ سواءً أكان إهانةً له أم عقابًا[3].

إذًا، هذه الآية تثبت بصريح العبارة عدم موت المسيح عيسى عليه‌السلام مقتولًا بيد اليهود الذين قتلوا بعض الأنبيّاء والرسل ظلمًا وعدوانًا مثل زكريا ويحيى، لذا لو صحّ ما ادّعاه رينولدز بكون النفي في الآية 157 من سورة النساء يراد منه إثبات أنّ الحياة والموت بيد الله تبارك شأنه، يطرح عليه السؤال التالي: لِمَ لَمْ يستخدم هذا الشكل من النفي في القرآن الكريم ضمن آيات أخرى؟!

ولا يختلف اثنان في أنّ التأريخ اليهوديّ حافلٌ بقتل البشر وحرقهم وصلبهم، لذا ما السبب الذي يدعو البعض لأنْ ينكر هذه الحقيقة بشأن المسيح عيسى عليه‌السلام، على الرغم من تصريح

(67)

القرآن الكريم بذلك؟! فهل من المنطقي زعم أنّ اليهود حينما يتفاخرون بصلبه يجيبهم الله -عزّ وجلّ- قائلًا: إنّكم لستم بقادرين على صلبه وقتله، بل أنا الذي صلبته وقتلته؟! ألا يراد من هذه الآية شجب تكبّرهم وذمّ تبخترهم جرّاء فعلتهم النكراء هذه، والتأكيد على فشلهم الذريع في تحقيق مآربهم؟!

وحاول رينولدز إثبات صوابيّة استنتاجه من مضمون الآية المشار إليها على ضوء تفسيرها بأنّها تدلّ على كون الموت والحياة بيد الله -سبحانه وتعالى-، وفي هذا السّياق استدلّ بالآيات 17 من سورة الأنفال و145 من سورة آل عمران و17 من سورة المائدة؛ لكنّ استدلاله هذا غير صائبٍ لكونه مجرّد قياسٍ مع الفارق، وذلك لأنّ الآية 157 من سورة النساء في صدد تفنيد صلب المسيح وليست في مقام بيان قدرة الله -عزّ وجلّ- على الخلق والإماتة، إذ ادّعاء مثل هذه الدلالة فيه تكلّفٌ ظاهرٌ وتحميل للنصّ مدلولاً غير محتمل منه.

ولو راجعنا سياق الآيات التي استند إليها هذا المستشرق لإثبات مدّعاه، نستدلّ منها على بعض المؤاخذات التي ترد عليه لا محالة، فالآية 145 من سورة آل عمران -مثلًا- في مقام الردّ على أولئك الذين وهنوا وتزعزعوا في غزوة أحد جرّاء خشيتهم من الموت، حيث كانوا يتصوّرون أنّهم سيبقون أحياء؛ في ما لو تخلّفوا عن الحرب؛ والآية بدورها تفنّد تصوّرهم الباطل هذا وتؤكّد على كون الأمر والنهي في الحياة والموت لله تبارك شأنه -فقط-؛ باعتبار ذلك سنّةً إلهيّةً ثابتةً؛ والآية 17 من سورة الأنفال تدرج في سياق الآيات التي تطرّقت إلى الحديث عن غزوة بدر[1]، حيث قال الله -تعالى- فيها إنّكم لم تقتلوهم ولكنّ الله هو الذي قتلهم، وما أنت الذي رميت لكنّ الله هو الذي رمى؛ فالنصر الذي حقّقه المسلمون في هذه الحرب لم يكنْ أمرًا طبيعيًّا؛ نظرًا لعدم توازن معادلة القوة بين طرفَيِ الصراع، حيث أكرمهم الله -سبحانه وتعالى- بمددٍ غيبيٍّ وأرسل إليهم ملائكته؛ لتؤازرهم ضدّ الكفّار والمشركين بشكلٍ مباشرٍ؛ وهذا هو السبب في تأكيده تبارك شأنه على أنّ المسلمين لم يقضوا عليهم بأيديهم؛ وإنّما القدرة الغيبيّة هي التي أبادتهم.

والموضوع الأساس الذي تمحورت حوله الآية 157 من سورة النساء هو فشل اليهود في قتل النبيّ عيسى عليه‌السلام وصلبه، لذا فهي لم تشر إلى أنّ الله -عزّ وجلّ- هو الذي قتله وصلبه،

(68)

وظاهرها الصريح لا يتّسق مع ما ذهب إليه رينولدز الذي اتّصف استنتاجه بتكلّفٍ واضحٍ؛ ومن هذا المنطلق قال أحد الباحثين: «كما أنّ القرآن الكريم فنّد كون المسيح ابنًا لله -تعالى- واعتبر هذه العقيدة (...) غيرَ منطقيةٍ، فقد فنّد -أيضًا- فكرة صلبه»[1].

وتجدر الإشارة إلى أنّ نيل روبنسون حذا حذو رينولدز ورفض الروايات التي تناقلتها المصادر الإسلاميّة بخصوص هذه الآيات التي اعتبرها في صدد إثبات كون الصلب ليس السبب في وفاة المسيح عيسى عليه‌السلام[2]، ومّا تبنّاه -أيضًا- أنّ القرآن الكريم في هذه الآيات طرح بحثًا جدليًّا لبيان مسألة صلب المسيح وعروجه إلى السماء[3] والهاجس الأساس لطرح هذا الجدل هو تفنيد تفاخر اليهود وتبخترهم؛ حينما زعموا أنّهم تمكّنوا من صلب النبيّ عيسى عليه‌السلام[4]. وعلى الرغم من اعتناق هذا المستشرق الإسلام دينًا؛ إلا أنّنا نستشفّ من استنتاجاته عدم تخلّيه عن معتقداته التي رافقته منذ نعومة أظافره، ومن تبعات هذه الحالة أنّه لم يؤيّد نجاة المسيح من الصلب بحسب المضمون الصريح للآية القرآنيّة، إذ حاول توجيه الدلالة القرآنيّة نحو معنًى آخرَ؛ لكون هاجسه الوحيد هو إثبات تحقّق الصلب مهما كلّف الأمر، ومن هذا المنطلق ادّعى أنّ مضمون الآية يوحي بكون الله -عزّ وجلّ- لم يترك المسيح وحيدًا وهو معلّقٌ على الصليب؛ كي لا يئنّ ويتأوّه جرّاء تعذيبه وعجزه عن مواجهة أعدائه[5]؛ لكنّ هذا الادّعاء غير مدعومٍ بأيّ عبارةٍ قرآنيةٍ، فقد أكّدت هذه الآيات على أنّ اليهود فشلوا في قتل النبيّ عيسى عليه‌السلام ولم يتمكّنوا من صلبه، بل إنّهم لم يستطيعوا أن يفعلوا أقلّ من ذلك؛ ومن المؤكّد أنّ فشلهم الذريع في تحقيق مآربهم يعود إلى ضعفهم أمام القدرة الإلهيّة وعجزهم عن فعل ما يشاؤون جرّاء عنادهم ولجاجهم، فالمسيح كان مؤيَّدًا من الله -تبارك شأنه- ولم يضاهِئه أحدٌ في هذا المقام آنذاك؛ وهو ما أكّد عليه القرآن الكريم في قوله -تعالى-: ( إِذْ

(69)

أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) [1]، ولا شكّ في أنّ هذا التأييد الإلهيّ يمكن أنْ يصدق في نجاته من القتل والصلب.

وأعداء النبيّ عيسى عليه‌السلام تحدّوه ودعوه إلى المواجهة، وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار عجزهم عن قتله نصرًا إعجازيًّا له في هذه المنازلة غير المتكافئة، ومن المؤكّد أنّ أبرز مؤشّرٍ على كفر اليهود هو سعيهم إلى قتله وتحدّيهم الإرادة الإلهيّة التي هدفها نصرة جميع الأنبيّاء والرسل، حيث تجلّت بشأن المسيح في رحاب نصرته وعجز أعدائه عن تحقيق مآربهم[2]؛ لذا، فالآية تنكر الصلب من أساسه.

5) رفض العقيدة الإسلاميّة بخصوص مسألة الصلب بداعي وجود تشابه بين المضامين القرآنيّة والمعتقدات المسيحيّة:

من منطلق اعتقاده بتأريخيّة صلب المسيح واعتباره القرآن الكريم نصًّا أدبيًّا، سعى المستشرق غابريل سعيد رينولدز في دراساته الاستشراقيّة إلى استكشاف التناصّ -التعالق النصّيّ- بين الآيات القرآنيّة التي تطرّقت إلى الحديث عن المسيح عيسى بن مريم عليها‌السلام، ولا سيّما مسألة صلبه، وبين التعاليم المسيحيّة، حيث اعتبر توالي الآيات 153 إلى 159 من سورة النساء يحاكي بعض مقاطع الكتاب المقدّس، وفي هذا السّياق -أيضًا- أكّد على أنّ الآيتين 157 و168 من هذه السورة تنطبقان بالكامل مع ما ذكر في العهد الجديد الذي أكّد في العديد من مقاطعه على رفع المسيح عيسى عليه‌السلام إلى السماء[3]. ونستشفّ من رأيه هذا أنّ الآيات المشار إليها تثبت وقوع الصلب ولا تنفيه، واختتم كلامه بالإشارة إلى إحدى عبارات سِفر أعمال الرسل، ثمّ قال: «اليهود كانوا يتباهون بقتلهم عيسى عليه‌السلام، إلا أنّ ما حدث في الواقع هو بإرادة الله، الإله الذي نصره وبعثه من القبر ليرفعه إلى السماء»[4].

لم يقتصر رأي رينولدز على كون الآيات المذكورة تحاكي مقاطع من العهد الجديد، فقد

(70)

اعتبرها -أيضًا- تحاكي التعاليم الجدليّة المناهضة لليهود؛ مثل: وعظ النبيّ يعقوب عليه‌السلام الموجّه لهم، واعترف في هذا المضمار بأنّ الكتاب المقدّس لم يُشِرْ إلى نقدهم للسيّدة مريم عليها‌السلام وادّعاءهم أنّهم تمكّنوا من قتل النبيّ عيسى عليه‌السلام، فهذان الموقفان انعكسا في كتاب يعقوب سروق (memre) والذي وصف اليهود بـ: «أنّهم قوم يفتخرون بأنفسهم ويتباهون بكونهم صلبوا رجلًا...».؛ وهما مستوحيان -أيضًا- من بعض مقاطع التلمود التي أساءت إلى قدسيّة السيّدة مريم عليها‌السلام وكالت التهم الباطلة لها؛ وهذا هو السبب في دفاع القرآن الكريم عنها، كذلك نسب مسألة قتل المسيح عليه‌السلام إلى ما ذكر[1].

وقد تقدّم أنّ بعض الباحثين يعتبرون البيان اللغويّ خطابًا قائمًا على التناصّ الذي يعني التلاحم بين النصوص وتداخلها مع بعضها، وجدير بالذكر -هنا- أنّنا ضمن التناصّ الحقيقيّ في صدد فهم كيف يمكن للنصّ الجديد صياغة رؤيتنا بالنسبة إلى النصوص الأخرى المرتبطة به؛ ومن البديهي أنّ فهم معنى النصوص الأدبيّة وغير الأدبيّة على هذا الأساس من الممكن أن يتحقّق على ضوء فهم سلسلةٍ متداخلةٍ من التعالقات النصّيّة. ويبدو أنّ غابريال سعيد رينولدز استند إلى مسألة التناصّ في تفسير الآيات القرآنيّة، وفي هذا السّياق سعى إلى إثبات وجود بعض محتويات الكتاب المقدّس في القرآن الكريم على ضوء بحثه واستقصائه عن أوجه التشابه بين نصّيهما، لكنّنا حينما نتحرّى في الاستنتاجات التي طرحها ضمن تحليله للآيات التي تطرّقت إلى الحديث عن صلب المسيح عليه‌السلام نستشفّ منها أنّه سعى إلى تفسيرها طبقًا للنصوص المسيحيّة، وعلى الرغم من أنّه لم يذكر في مدوّناته هذه مصطلحاتٍ تدلّ بشكلٍ مباشرٍ على الوجهة التفسيريّة التي تبنّاها؛ مثل: الاقتباس والتأويل والتأثير، لكنّه في الحقيقة تطرّق إلى بيان المضامين القرآنيّة؛ وكأنّها تحكي عن تعاليمَ طرحتها قَبل ذلك النصوص المقدّسة لدى اليهود والنصارى، وهذا ما نلمسه جليًّا في رؤيته الخاصّة بصلب المسيح، حيث فسّر آية الصلب القرآنيّة في رحاب تعاليم الكتاب المقدّس، وقد بالغ في بيان المداليل القرآنيّة ضمن نطاق الكتاب المقدّس؛ لدرجة أنّه جرّد ألفاظ النفي الصريحة في الآية 157 من سورة النساء عن دلالاتها الحقيقيّة المؤكّدة في نفي الموضوع، وزعم أنّها تدلّ على معنًى استعاريٍّ.

لا شكّ في أنّ هذا النهج التفسيري للقرآن الكريم يعاني من النقص ذاته الذي تعاني منه

(71)

الدراسات والبحوث الغربيّة القديمة، حيث لا يتطرّق الباحث على ضوئه إلى تحليل المضمون القرآنيّ من زاويةٍ قرآنيةٍ، وإنّما يعتمد على النصوص المقدّسة لدى اليهود والمسيحيّين، ومن هذا المنطلق يجعل كتاب المسلمين المقدّس شاهدًا نصّيًّا آخرَ على ما يستنتجه من الكتاب المقدّس؛ وهذا ما بدر من رينولدز[1].

(72)

إنّ القرآن الكريم بحسب اعتقاد المسلمين ذو منشأٍ إلهيٍّ، وقد اقتضت ظروف عصر النزول أن يشير إلى بعض الرؤى التي كانت سائدةً آنذاك؛ بحيث أيّد جانبًا منها، وفنّد عددًا منها، في ما عدّل بعضها؛ والعلائم المستخدمة فيه -بوصفه نصًّا جديدًا- لها خلفيّةٌ سابقةٌ وبيئةٌ أخرى، لكنّها شهدت تغيُّرًا في هذا النصّ الجديد.

إذًا، القرآن الكريم، بناءً على ما ذكر، استفاد من الوقائع السابقة، وأجرى عليها تغييراتٍ تتناسق مع وجهته، لذا طرح قصّة النبيّ عيسى عليه‌السلام بشكلٍ مختلفٍ بالكامل، فقد وصف الله -عزّ وجلّ- الشخصيّة الحقيقيّة لهذا النبيّ المرسَل وذكر الأحداث التي واجهها، وممّا قيل في هذا الصدد: «لقد بُعث نبيًّا لتأييد شريعة التوراة مرّةً أخرى، وقد أعلن عن ظهور آخر نبيًّ للملأ وسعى إلى تشذيب بعض مضامينها، وهو لم يقتل بتاتًا ولم يصلب. نظرًا للتحريف الذي طرأ على الأناجيل، يمكننا القول بكلّ ثقةٍ إنّ القرآن كتابُ وحيٍ، وهو المصدر القطعيّ والحقيقيّ الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه لمعرفة شخصيّة النبيّ عيسى»[1].

استنادًا إلى ما ذُكِرَ لا نبالغ لو قلنا إنّ ظاهر الآية لا يتحمّل ما ذهب إليه رينولدز؛ لو كان قصده من التعالق النصّيّ بين القرآن الكريم والعهدين هو توحيد نظريّة صلب المسيح

(73)

عيسى عليه‌السلام، إذ إنّ جميع المؤشّرات الخاصّة بهذا الموضوع في أناجيل متّى ومرقس ولوقا وسِفر أعمال الرسل تشير إلى الجانب الإيجابيّ لعمليّة الصلب، لا الجانب السلبيّ الذي تطرّق إليه القرآن الكريم؛ فضلًا عن وجود اختلافاتٍ جذريّةٍ عديدةٍ حول الموضوع، وعلى الرغم من وجود أوجه شبهٍ كثيرةٍ بين القرآن والعهدين حول شخصيته، لكنْ هناك اختلافاتٌ ملحوظةٌ بينهما أيضًا[1]. وتجدر الإشارة إلى أنّ القرآن الكريم في عصر نزوله والعصور اللاحقة أصبح مرتكزًا أساسًا للمسلمين في كلّ استدلالٍ واقتباسٍ على الصعيد الثقافي[2].

6) القرآن الكريم لم يفنّد صلب المسيح ولم يؤيّده بحسب مقتضى سياق آياته:

المستشرق تود لوسون هو أحد الباحثين الذين تبنّوْا نهجًا تقريبيًّا بين الإسلام والمسيحيّة، وفي هذا المضمار سلّط الضوء على الآيات التي تحدّثنا عنها في المباحث السابقة؛ وبما أنّه مسيحيٌّ فقد أصرّ على تأريخيّة الصلب، وبذل كلّ ما بوسعه لإقناع المخاطب باستنتاجاته المتكلّفة من النصّ القرآنيّ، حيث حلّل آيات البحث على ضوء سياق الآيات السابقة ومضمونها؛ لذا حذا حذو الباحثين غابريال سعيد رينولدز، ونيل روبنسون فجعل السّياق القرآنيّ محورًا لبحوثه، ودمج بين الآيات؛ معتبرًا آيات البحث جزءًا من البقية؛ فضلًا عن أنّه اعتبر توبيخ اليهود موضوعًا أساسًا في هذه الآيات، لكنّ هذا التوبيخ برأيه لا ارتباط له بمسألة تأريخيّة الصلب ولا بسائر المعتقدات المسيحيّة.

إذًا، الموقف القرآنيّ إزاء صلب المسيح عيسى عليه‌السلام غيرُ محدّدٍ برأي هذا المستشرق، فالقرآن الذي هو كتاب المسلمين المقدّس لم يؤيّده ولم يفنّده[3]، ومن خلال استناده إلى سياق الآيات المذكورة أكّد على أنّ ذِكْر أحداث الصلب في هذا الكتاب يُراد منه إكمال التعاليم الدينيّة

(74)

المذكورة فيه حول المسيح؛ لكنّه مع ذلك أذعن بأنّ طريقة ترتيب الكلمات في هذه الآيات تتناسب مع فكرة عدم تحقّق الصلب بشأن المسيح. وممّا قاله في هذا السّياق إنّ مفهوم النجاة المرتبط بالصلب جعل المفسّرين المسلمين في حيرةٍ من أمرهم لدى تفسيرهم الآية 157 من سورة النساء، إذ القرآن الكريم عزا نجاة البشر إلى أعمالهم، في حين أنّ تعاليم الديانة المسيحيّة تعتبر الصلب أساسًا لنجاتهم؛ لذلك تبنّى هذا المستشرق فكرةً فحواها أنّ الظاهر اللغويّ للقرآن يحكي عن تفنيد مسألة الصلب، والهدف من هذا الرفض هو التقليل من شأن عقيدة النجاة المسيحيّة[1].

وقد تطرّق في بحوثه إلى تحليل حادثة الصلب ضمن إطارٍ تأريخيٍّ على ضوء النصوص غير القرآنيّة، وفي هذا السّياق استنتج أنّ أوّل نصٍّ ذُكِرَ فيه رفض الإسلام لصلب المسيح عيسى عليه‌السلام هو ما دوّنه يوحنّا الدمشقيّ الذي حاول إدراج هذه الوجهة القرآنيّة إلى جانب وجهات النظر الارتداديّة التي تبنّاها الغنّوصيّون والظاهرانيّون؛ لكنّه رفض هذا الرأي معتبرًا كلام الدمشقيّ غير مؤكّدٍ؛ لأنّ القرآن الكريم -بزعم هذا المستشرق- يشير فقط إلى أنّ اليهود لم يصلبوا المسيح، وهذا الأمر يختلف مع القول بأنّه لم يصلب بالفعل[2].

كما أشرنا آنفًا، فالآيات المطروحة للبحث والتحليل -هنا- تتناسب من حيث البنية اللغويّة والسّياق مع تفنيد تحقّق الصلب بشأن النبيّ عيسى عليه‌السلام، وطريقة طرح الموضوع فيها تنمّ عن عدم إمكانيّة ادّعاء أنّ الرأي القرآنيّ غير محدّدٍ بالنسبة إلى تأييد الصلب أو تفنيده، فالآية 157 من سورة النساء تؤكّد مرّتين بالقطع واليقين على عدم تمكّن القوم من قتله:(وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ.... وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا)، ومن المؤكّد أنّ تصريحًا كهذا ليس فيه أيّ غموضٍ، ولا يمكن اعتباره غير محدّدٍ إزاء صلب المسيح؛ لذا يثبت لنا أنّ ما ذهب إليه هؤلاء المستشرقون يتعارض بالكامل مع النظريّة القرآنيّة وظاهر النصّ القرآنيّ الواضح في الدلالة، فهل من المعقول ادّعاء أنّ القرآن الكريم يصرّح بالقطع واليقين مؤكّدًا على فشل اليهود في قتل عيسى عليه‌السلام؛ لأجل أن يتّخذ موقفًا محايدًا وغير محدّدٍ إزاء صلبه؟! هذه الآيات تدلّ أوّلًا، وقبل كلّ شيءٍ، على

(75)

نجاته من ذلك المصير الذي أراده اليهود له، حيث تصرّح الآية بكلّ وضوحٍ أنّه لم يصلب ولم يقتل لكنّهم توهّموا وتصوّروا ذلك، والذين اختلفوا حول هذه الحقيقة هم في شكٍّ وتردُّدٍ، إذ يتّبعون الظنّ ولا علم لهم بالواقع، وهناك تأكيدٌ في خاتمة هذه الآية ومستهلّ الآية اللاحقة على عدم مقتل المسيح من قِبَل أعدائه، بل على أنّ الله -تعالى- رفعه إليه.

إذًا، مع كلّ هذا التأكيد الصريح كيف يمكن ادّعاء أنّ القرآن الكريم اتّخذ موقفاً غير محدّد إزاء صلب المسيح؟! لِمَ لَمْ يتطرّق المفسّرون القدماء في نصوصهم التفسيريّة إلى الحديث عن الفرق بين مسألتي «اليهود لم يصلبوا النبيّ عيسى عليه‌السلام» و«النبيّ عيسى عليه‌السلام لم يصلب من الأساس»؟! فهل كانوا على علمٍ بحقيقة الأمر، لكنّهم تعاملوا مع الموضوع بشكلٍ تحفّظيٍّ؟![1].حينما نمعن النظر في مؤلّفاتهم لا نجد فيها أيّ إشارةٍ إلى الرأي المعارض للنظريّة القرآنيّة بخصوص مسألة الصلب؛ الأمر الذي يعزّز من فكرة أنّ الرأي القرآنيّ الرافض لتأريخية صلب المسيح كان بديهيًّا ومتّفقًا عليه في تلك الآونة. فضلًا عن ذلك فالنصّ الذي دوّنه يوحنّا الدمشقيّ يعتبر أقدم نصٍّ غيرِ إسلاميٍّ[2] تطرّق إلى النظريّة القرآنيّة بهذا الخصوص، حيث جاء فيه: «المسلمون يقولون إنّ اليهود بعد أن تعدّوا على أحكام الشريعة، حاولوا صلب المسيح، وبعد أنْ اعتقلوه صلبوا ظلّه؛ لذا فهو لم يصلب ولم يمُت؛ لأنّ الله أحبّه ورفعه إلى السماء»[3]. هذا الكلام يعود تأريخه إلى القرن الأوّل الهجري، ويدلّ على أنّ الشائع بين المسلمين آنذاك رفض قول من ادّعى أنّ المسيح عيسى عليه‌السلام قد صلب من قِبَل أعدائه، ويوحنّا الدمشقي كان على علم بهذه العقيدة الإسلاميّة، لذا لا نجد في كتابه أيّ محاولةٍ لطرح نقاش مع المسلمين في ما يخصّ آية الصلب؛ على الرغم من أنّه كان يعتبر الإسلام دينًا باطلًا وارتدادًا عن شريعة السماء، ومن منطلق هذا التصوّر كان ينقض الآراء القرآنيّة؛ باعتبارها قضايا باطلةً تتضمّن مسائلَ عبثيّةً تثير السخرية.

وبعد ثلاثة عقودٍ من عهد يوحنّا الدمشقي جرى نقاشٌ بين زعيم الكنيسة النسطوريّة

(76)

القسّيس النصرانيّ تيموثي الأوّل[1] والخليفة العبّاسيّ أبي عبد الله المهدي[2]، وأحد أهمّ الأسئلة التي وجّهها هذا الخليفة لتيموثي تمحور حول ما إنْ كان النبيّ عيسى عليه‌السلام قد مات جرّاء صلبه أو لا؟ وجدير بالذكر أنّه استهلّ نقاشه مع هذا القسّيس بالسؤال التالي احتجاجًا على ألوهية المسيح عيسى بن مريم عليها‌السلام: هل يمكن للإله أنْ يموت؟ تيموثي أجاب عن السؤال مشيرًا إلى الاختلاف التقليديّ بين شخصيّة المسيح الإنسانيّة والإلهيّة برأي النصارى، وفي هذا الصدد أكّد على أنّ شخصيّته الإنسانيّة هي التي ماتت، لكنّ المهدي اعترض عليه بالآية 157 من سورة النساء. من المؤكّد أنّ استشهاد المهدي بهذه الآية ينمّ عن اعتقاده بدلالتها على عدم موت المسيح، لأنّ تيموثي ردّ عليه محتجًّا بالآيتين 33 من سورة مريم و55 من سورة آل عمران بزعم أنّهما تدلان على موته ورفعه إلى السماء؛ لكنّ المهدي أجابه بأنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام لم يمت؛ وإنّما سيموت لاحقًا، وتيموثي بدوره فنّد هذا الكلام قائلًا بأنّه ما لم يمت لا يمكن أنْ يرفع إلى السماء، إذ لا بدّ أن يموت أوّلًا لكي يرفع إليها، ومن هذا المنطلق أكّد على أنّه قد مات حقًّا؛ وفقًا لما تنبّأ به العهد القديم؛ وهنا -أيضًا- لجأ المهدي إلى الآية 157 من سورة النساء وأكّد على أنّ اليهود قد توهّموا قتلهم المسيح وصلبه بحيث شبّه لهم ذلك فحسب[3].

ويؤكِّد المستشرق تود لوسون في دراساته الاستشراقيّة على أنّ الطرح القرآنيّ لمسألة صلب المسيح منبثقٌ في الأساس من هاجسٍ آخرَ، ألا وهو عدم ارتباط الصلب بمفهومي الفداء وتطهير النفس من أدران الخطيئة؛ بحسب المعتقدات المسيحيّة[4]؛ إلا أنّ السؤال الذي يطرح عليه فحواه ما يلي: كيف تفسّر ما تبنّاه بعض العلماء المسلمين في العهود اللاحقة للعهد الإسلاميّ الأوّل؛ حينما أيّدوا تأريخيّة صلب المسيح عيسى عليه‌السلام دون أيّ محذورٍ لاهوتيٍّ، وفي الحين ذاته لم يذكروا له أيّ مفهومٍ خاصٍّ حول تكفير الخطيئة والنجاة من العذاب؟! مثال ذلك: القاسم بن إبراهيم

(77)

الرسّي المتوفّى سنة 246هـ والذي يعتبر واحدًا من أبرز علماء الطائفة الزيديّة، كذلك أبو حاتم الرازي، والسجستاني؛ اللذان سلكا نهج الطائفة الإسماعيليّة؛ فهؤلاء اعتبروا مسألة الصلب حدثًا تأريخيًّا[1]. وتجدر الإشارة إلى أنّ العالم الألماني توبياس ماير[2] أشار في بحوثه إلى عددٍ من الباحثين المسلمين الذين تبنّوا في بادئ الأمر مسألة الصلب؛ من أمثال: وهب بن منبه[3].

ولا يستبعد أنّ هؤلاء المفكّرين المسلمين؛ كإبراهيم الرسّيّ ووهب بن منبّه[4] قد تأثّروا بالرواية المسيحيّة في مسألة الصلب أو أنّهم تأثّروا بالأجواء المسيحيّة التي كانت سائدةً في بيئتهم الاجتماعيّة، كما ليس من المستبعد تأثّرهم بالنقاشات الجدليّة التي دارت بينهم وبين المشكّكين الذين رفضوا قدسيّة الكتب المقدّسة لدى الأديان؛ وبما فيها القرآن الكريم، وشكّكوا بكونها سماويّة المنشأ؛ لذلك أعربوا عن عدم تفاعلهم مع نظريّة الصلب القرآنيّة، كما أنّ أبا حاتم الرازي المتوفّى سنة 322هـ فنَّد رأي زكريا الرازي الذي أكّد على عدم وجود تشابهٍ بين العهدين والقرآن الكريم، حيث اتّخذهما دليلًا لتفنيد كون القرآن الكريم وسائر الكتب المقدّسة سماويّة المنشأ، وعلى هذا الأساس فسّر إنكار القرآن الكريم لصلب المسيح عيسى عليه‌السلام بكونه يدلّ على أنّه حيٌّ وقائمٌ في السماء قرب الله -عزّ وجلّ- بعد أنْ استشهد على يد أعدائه. يبدو أنّ أبا حاتم الرازي قصد من رأيه هذا بيان معنًى عميقٍ على خلاف ظاهر آية الصلب، فهو ليس في صدد تفنيد معناها الظاهر. هذا المعنى الدقيق الذي لا يستدعي تجاهل المعنى الظاهر في الآية، يمكن بيانه وفق التالي: (اليهود أرادوا قتل نبيّ الله، لكنّه تبارك شأنه لم يشأ ذلك، فأنقذه من أيديهم؛ لذا عجزوا عن قتله بدنيًّا ولم يتمكّنوا من صلبه، فضلًا عن أنّ الله -عزّ وجلّ- أكّد على خلوده). هذا الكلام ينمّ عن اعتراضٍ على الكفر وذمٍّ له إلى جانب التأكيد على خوائه وعدم نجاعته، إذ إنّ اليهود لم

(78)

يعجزوا -فقط- عن إلحاق الأذى ببدن نبيّ الله أو قتله أو صلبه، وإنّما لم يفلحوا -أيضًا- في طمس اسمه وتهميش تعاليمه؛ ولو كان الأمر غير ذلك؛ فهذا يعني عدم تأريخية الأخبار التي نقلتها الأناجيل وعبثيّتها؛ وفقًا للقواعد والأصول المنطقيّة، والشاهد على ذلك أنّ أبا حاتم الرازي غيّر رأيه وتخلّى عن موقفه ليؤيّد ما ذهب إليه عالم الإسماعيليّة الشهير النسفيّ الذي أيّد النظريّة القرآنيّة التي رفضت صلب المسيح عيسى عليه‌السلام؛ وقد برّر بعض الباحثين هذا التحوّل الفكريّ؛ بكونه تعصّبًا وموقفًا مناهضًا لخصومه[1].

وحتّى لو أقررنا بمثل هذا التبرير، مع ذلك لا يمكن اعتبار الموقف القرآنيّ غامضًا إزاء صلب المسيح عليه‌السلام، كما يثبت لنا أنّ ادّعاء تأريخيّة الصلب من قِبَل المسشترق تود لوسون منبثقً من مرتكزاته العقديّة المسيحيّة.

والمسألة الهامّة المطروحة للبحث والتحليل هنا والتي تحظى باهتمام بعض المستشرقين[2]، هي أنّ الآية القرآنيّة المذكورة قد وبّخت اليهود جرّاء تفاخرهم وتبخترهم في قتل النبيّ عيسى عليه‌السلام وعصيانهم الأمر الإلهيّ، حيث استهلّها الله -سبحانه وتعالى- بعبارة: (وَقَوْلِهِمْ) التي تدلّ على أنّ كلام اليهود هو محور الآية لا ما فعلوه، أي أنّها ترتبط بما قالوا لا بما فعلوا، لذا لو كان الهدف منها إثبات تأريخيّة الصلب، لِمَ استهلّت بالعبارة المذكورة التي تحكي عن كلام اليهود ومباهاتهم؟[3] إذًا، لا بدّ من الإذعان إلى أنّ الآية تدلّ في ظاهرها على كون اليهود زعموا نجاحهم في قتل المسيح عيسى عليه‌السلام وصلبه، كذلك تؤكّد على أنّ زعمهم هذا مجرّد ظنٍّ ناجمٍ عن عدم معرفتهم بواقع قصّة نبيّ الله، ولم يكن أمامهم سبيلاً سوى اتّباع الظنّ؛ جرّاء جهلهم[4] بحقيقة الأمر[5].

(79)

كما أنّ الآية في صدد تفنيد مزاعم اليهود، ومن هذا المنطلق أشارت إلى الوحي الإلهيّ الذي أكّد على فشل أعداء المسيح في قتله وصلبه، ومن المؤكّد أنّ الوحي يتضمّن أخبارًا قطعيّةً لا غبار عليها؛ وكما أشرنا آنفًا، فقد تطرّقت الآيات التي يتمحور حولها البحث -هنا- إلى بيان عدد من القضايا؛ أهمّها ما يلي:

ـ اتّهام اليهود السيّدة مريم عليها‌السلام ظلمًا وبهتانًا.

ـ تفاخرهم بقتل الأنبيّاء؛ مثل: يحيى، وزكريا، وغيرهما الكثير.

ـ توهّمهم بأنّهم نجحوا في قتل المسيح عليه‌السلام وصلبه.

وتؤكّد آية الصلب على كذب اليهود في زعمهم أنّهم نجحوا في تحقيق مآربهم، وأنّهم قتلوا المسيح، فهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، ولا شك في أنّ ذِكْر عدم القتل وعدم الصلب إلى جانب بعضهما يوحي بوجود اختلافٍ بينهم حول طريقة قتله، لذلك أشارت إلى هذين الموضوعين؛ كي لا يبقى أدنى شكٍّ في هذا المضمار، ولأجل التأكيد على أنّ عيسى عليه‌السلام لم يفارق الحياة مقتولًا ولا مصلوبًا[1].

وإضافةً إلى ما ذُكِرَ، فإنّ ادّعاء لوسون بكون المفسّرين المسلمين لم يؤيّدوا فكرة صلب المسيح لكي يمتاز دينهم الجديد عن غيره، هو في الحقيقة مرفوضٌ جملةً وتفصيلًا؛ فالإسلام كما ذكرنا آنفًا قد امتاز عن سائر الأديان وأرسيت دعائمه منذ عهوده الأولى بعد أن اتّسع نطاقه بشكلٍ متسارعٍ، وترسّخ بين الناس على ضوء معتقداته الدينيّة الفريدة من نوعها، ولا سيّما ما طرحه بالنسبة إلى النبيّ عيسى بن مريم عليها‌السلام وطريقة دفاعه عنه.

واستدلّ المستشرقون من هذه الآيات على أنّ القرآن الكريم بشكلٍ عامٍّ اعتبر النبيّ عيسى عليه‌السلام قد مات حقًّا؛ كما يموت سائر البشر؛ وذلك قبل عهد النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، وعلى هذا الأساس ادّعوا أنّ المفسّرين المسلمين أخطأوا ولم يفسّروا الآيات 157 إلى 159 من سورة النساء بشكلٍ صائبٍ، لأنّهم قبل تطرّقهم إلى تحليلها وتفسير مضامينها اعتبروا النظريّة القرآنيّة القائلة بفشل اليهود في قتل المسيح وصلبه مرتكزًا ثابتًا؛ فهذا الرأي يرفضه المستشرقون من أساسه؛ نظرًا لتعارضه مع مبدأ تأريخية الصلب وفق التعاليم المسيحيّة، لذلك ادّعوا أنّ القرآن الكريم ليس في صدد تفنيد ذلك. وكما ذكرنا آنفًا فإنّ أوّل مسألةٍ وأهمّها يمكن أنْ تطرح لتفنيد الاستنتاج الاستعاريّ والمجازيّ لهذه الآيات، وكذلك لدحض سائر الاستدلالات

(80)

الاستشراقيّة المشار إليها، تتمثّل في تعارض هذه الآراء مع ظاهر آيات البحث وصراحة عباراتها، حيث أكّدت بالقطع واليقين على أنّ المسيح عليه‌السلام لم يصلب مطلقًا.

وقد زعم اليهود أنّه كاذبٌ، وإنّه ليس نبيًّا مرسلًا من قِبَل الله -تعالى-، لذا كان من الطبيعيّ أن يتظاهروا بالنجاح في قتله وصلبه، ومن ثمّ فهم لا يطيقون -آنذاك- قول من قال أنّه نجا من براثنهم، إذ لم يكنْ هناك سوى عددٍ قليلٍ من النصارى الذين تركوه وحيدًا؛ حينما اعتدي عليه[1].

ويفنّد القرآن الكريم في الآية 54 من سورة آل عمران مكرهم: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ )، ولا شكّ في أنّ المكر الأوّل أُريد منه مؤامرة قتل النبيّ عيسى عليه‌السلام من قِبَل اليهود، لذا لا بدّ من مواجهته بمكرٍ إلهيٍّ؛ لإحباطه، والحيلولة دون تحقيق أهدافه، ومن هذا المنطلق يمكن القول إنّ الآية 157 من سورة النساء تنمّ عن الرأي الإلهيّ القطعيّ لإنهاء الجدل حول أسطورة قتل المسيح وصلبه، وهذا الأمر نستوحيه من مداليل ألفاظها وظاهر معانيها، ومن البديهي أنّ كلّ معنًى عميقٍ ودقيقٍ يستوحى من اللفظ لا بدّ أن يقوم على ظاهره؛ بحيث لا يتعارض معه، فضلًا عن أنّ فحوى التفسير الإسلاميّ للآيات المذكورة يتلخّص بما يلي: الله -سبحانه وتعالى- أنقذ بقدرته وإعجازه نبيّه عيسى عليه‌السلام من براثن أعدائه، وجعل شخصًا آخر يُصلَب بدلًا عنه، وآية الصلب تعدّ دليلًا بيّنًا وثابتًا على رفض زعم مَنْ قال إنّه قُتِلَ مصلوبًا. آراء المفسّرين المسلمين هذه قائمةٌ على البنية اللغويّة للآيات القرآنيّة وأصولها النحويّة، وليست مرتكزةً على الأحاديث والروايات[2]، لأنّ القرآن الكريم استخدم أسلوب النفي المطلق لتفنيد قتل المسيح وصلبه.

(81)

المبحث الثاني: التفسير الاستشراقيّ لقوله -تعالى-: (وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ) في الآية 157 من سورة النساء:

تضمّنت تفاسير المسلمين؛ شيعةً وسنّةً، لقوله -تعالى-: (وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ) في الآية 157 من سورة النساء، كثيرًا من الآراء والتخمينات التفسيريّة على ضوء رواياتٍ نقلها العديد من الرواة[1].

والباحث محمود مصطفى أيوب هو من جملة الذين سلّطوا الضوء على التفاسير الإسلاميّة لهذه العبارة القرآنيّة وسائر العبارات التي تحدّثنا عنها، حيث دوّن مقالةً خاصّةً في هذا الصدد[2] حاول فيها وضع حلٍّ للتعارض الكائن بين العقيدة الأرثوذكسيّة المسيحيّة؛ بخصوص صلب، المسيح، والمفهوم الإسلاميّ المستوحى من الروايات التي تمحورت مواضيعها حول القصص القرآنيّة التي تمّ التأكيد فيها على فشل اليهود في صلب النبيّ عيسى عليه‌السلام؛ لكّنه لم يقبل بمضمونها؛ معتبرًا إياها موضوعةً مستندًا في تفنيد وثاقتها إلى تنوّعها وتطوّر الأحداث فيها؛ ضمن ثلاث مراحل، ففي المرحلة الأولى أشارت إلى شخصٍ تلاقفه اليهود؛ ظنًّا منهم أنّه المسيح، وفي المرحلة الثانية أضيفت إليها أحداثٌ مستوحاةٌ من الإنجيل، وفي المرحلة الثالثة نفّذ اليهود عقوبتهم على هذا الشخص؛ بدلًا عن المسيح[3].

(82)

وفي ختام كلامه حول هذه الروايات نوّه على أنّ المفسّرين المسلمين من منطلق رغبتهم الشديدة في إثبات عدم صلب النبيّ عيسى عليه‌السلام وقتله، لجأوا في الكثير من الأحيان إلى مثل هذه المضامين؛ لذلك بدل أنْ تصبح الروايات المشار إليها مرتكزًا يعتمد عليه الباحثون لبيان حقيقة الأمر، باتت سببًا لتعقيد الموضوع؛ ومن المؤكّد أنّ هذا التعقيد الذي تحدّث عنه محمود مصطفى أيوب لا يتناغم مع المعتقدات التأريخيّة المسيحيّة، حيث قال في هذا السّياق: «هذه الروايات تعتبر المسيحيّة دينًا باطلًا، وهذا البطلان انكشفت حقيقته بعد قرونٍ من الزمن؛ حينما نزل القرآن»[1]. واعتبر الروايات التي تحكي عن إبدال النبيّ عيسى عليه‌السلام بشخصٍ آخر، مزيجًا من القصص الإنجيليّة وتفاسير التلمود؛ وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا الكلام هو في الواقع وجهةُ نظرٍ مشتركةٌ بين المستشرقين بشأن هذه الروايات الإسلاميّة[2]، وضمن مساعيه الرامية إلى تفنيد مضامينها، استند إلى مسألة تأريخيّة الصلب واستدلّ بأدلّةٍ لغويّةٍ؛ كما ذكر شبهاتٍ نحويةً ترد على التفاسير الإسلاميّة في هذا المضمار، وقال معترضًاً: «القول بأنّ الله بادر حقًّا إلى تعليق شخصٍ آخرَ على الصليب بدلًا عن المسيح، يتعارض مع مبدأ عدم صدور الظلم منه»[3]، ثمّ أكّد على أنّ الاستبدال المذكور في الروايات الإسلاميّة توضيحٌ لقوله -تعالى-: (وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ)

(83)

وأمّا قوله -تعالى-: (مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) ؛ فقد فسّرها قائلًا: "تدلّ على أنّ قدرة الله [أعظم] من قدرة الإنسان، وتحكي عن هزال مكر البشر"[1]. لكنّ السؤال الذي يُطرَح عليه في هذا الصدد: كيف تفسِّر الاختلاف المذكور في العبارة السابقة؟ ولدى تفسيره قوله -تعالى-: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ) اكتفى بالتوضيح التالي: «الذين اختلفوا حول المسيح، من المؤكّد أنّهم في شكٍّ بـ (الحقيقة) إذ ليس لديهم أيّ علمٍ، وإنّما يتّبعون الظنّ والتخمين»[2]. و(الحقيقة) باعتقاده هي ضعف قدرة البشر وهشاشتها أمام اقتدار الله -عزّ وجلّ-، وبذلك نجده بذل كلّ ما بوسعه للالتفاف على المعنى اللفظيّ الظاهر من الآية، لكنّه على الرغم من ذلك لم يفلح في تحقيق مراده بعد أنْ عجز عن إثبات المطلوب.

وقد ذكرنا في المباحث السابقة التي طرحناها حول مسألة صلب المسيح عيسى عليه‌السلام أنّ المستشرق غابريال سعيد رينولدز حاول إثبات المعنى الاستعاريّ الذي تبنّاه لهذه الآية، ومن هذا المنطلق سلّط الضوء على قوله -تعالى-: (شُبِّهَ لَهُمْ) تناسبًا مع استنتاجه حول مضمون مستهلّ الآية، ولم يؤيّد التفسير الشائع بين المسلمين، بل حتّى إنّه رفض رأي الزمخشري، حيث قال موضّحًا رأيه: «لقد وقعت هذه الحادثة بالفعل؛ لأجل أن تتجلّى على هيئةٍ أخرى غير هيئتها الحقيقيّة»[3]، ونستشفّ من آراء هذا المستشرق التفسيريّة القائمة على السّياق أنّ

(84)

مقصوده من هذا الكلام هو المعنى الاستعاريّ الذي تبنّاه لآية الصلب، حيث اعتبرها تدلّ على بيان قدرة الله تبارك شأنه، وتؤكّد على أنّ موت النبيّ عيسى عليه‌السلام مصلوبًا دليلٌ على كفر اليهود.

وأمّا يوسف درّة الحدّاد فقد فسّر مستهلّ هذه الآية بـ «شِبه الصلب» و«الصلب الوهميّ»، ولدى تفسير قوله -تعالى-: (شُبِّهَ لَهُمْ) تبنّى رأي الزمخشري الذي فسّرها بـ «خُيّل لهم»[1] وكأنّ المراد من الآية أنّ هذه الحالة قد انطبعت في أذهانهم على هيئة تصوّرٍ. كذلك تطرّق الحدّاد إلى بيان احتمالٍ آخرَ طرحه الزمخشري في هذا المضمار حول فاعل كلمة (شُبِّهَ)، إذ اعتبر هذا الاحتمال مؤيّدًا لرأيه القائل ببطلان الروايات التي تناقلها المسلمون في تفسير قوله -تعالى-: (شُبِّهَ لَهُمْ)[2]، وفي هذا السّياق اعتبر القصص المذكورة لبيان المراد من قوله -تعالى- (شُبِّهَ لَهُمْ) متناقضةً وأسطوريّةً وتتعارض مع حكم العقل؛ فضلًا عن عدم سنديّتها الروائية[3].

وقال المستشرق تود لوسون إنّه لا ينبغي تفسير قوله -تعالى-:(وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ) بحسب معناه اللفظيّ الظاهر، وعلى هذا الأساس وصف عبارة: (وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ) بأنّها غامضة الدلالة، ولا يمكن الاتّكاء عليها لتأييد الرأي القائل بإبدال النبيّ عيسى عليه‌السلام بشخصٍ آخرَ أو لرفض ذلك؛ وبرأيه لا ضير في الاستغناء عن جميع الروايات التي تؤكّد على إبدال المسيح في حادثة الصلب بشخصٍ آخر[4]، لأنّ منشأها المسيحيون الغنّوصيّون، أو لأنّها مستوحاة من معتقدات الشيعة الخاصّة بأئمتهم[5].

وفي ما يلي نذكر بعض التفاصيل التي يمكن طرحها لفهم المقصود من قوله -تعالى-: (وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ):

(85)

-"لكن" أداة استدراكٍ تدلّ على حقيقة ما حدث، وكيف اشتبه الأمر على القوم؛ بحيث تصوّروا أنّهم حقّقوا هدفهم، واستطاعوا قتل المسيح عليه‌السلام؛ إلا أنّ الحقيقة شيءٌ آخر.

- (شُبِّهَ)لا شكّ في أهمّيّة بيان معنى هذه الكلمة في تفسير الآية، وهذه الأهمّيّة تتجلّى للعيان في رحاب وجود الكثير من الروايات التي أكّدت على إبدال المسيح عليه‌السلام بشخصٍ آخر؛ والمسألة النحويّة التي تحدّث عنها الزمخشري في هذا السّياق فحواها أنّ عيسى مشبَّهٌ به، لذا لا بدّ من وجود شخصٍ أو شيءٍ شبيهٍ له؛ مّا يعني أنّه ليس مشبّهاً؛ كذلك لا يمكن أن تُنسب كلمة (شُبِّهَ) لشخصٍ أو لشيءٍ؛ لكون الآية لم تشر إليهما؛ وعلى هذا الأساس يجب أن تنسب إلى ذلك الشيء القريب الذي هو في متناول اليد، وهو (لَهُمْ) أو إلى ضمير المقتول في عبارة (إِنَّا قَتَلْنَا) [1].

ولو ألقينا نظرةً نقديّةً على الروايات التي تطرّقت إلى بيان مدلول هذه العبارة والمنقولة في مختلف التفاسير، سوف نتوصّل إلى نتيجة؛ فحواها: أنّها متناقضةٌ حقًّا مع بعضها، ولا يمكن الاستناد إليها في إصدار أيّ رأيٍ، ولربّما هذا التناقض هو الذي دعا محمّد بن إسحاق لأن يقول في خاتمة تفسيره للآية المذكورة ما يلي: «الله يعلم بحقيقة ما حدث». كذلك الفخر الرازي بعد أن نقل مختلف الروايات التي تطرّقت إلى مسألة الشبه المذكور في الآية دون ذكر أسانيدها، أكّد على تناقضها وقال: «الله أعلم بالحقيقة»[2]، فضلًا عن أنّه انتقد نظريّة الاستبدال -إبدال المسيح بشخصٍ آخر- من أساسها، حيث تطرّق في هذا المضمار إلى تحليل مختلف الآراء المطروحة، دون أن يؤيّد أحدها؛ من منطلق كونها تخميناتٍ وتصوّراتٍ انتقلت من جيلٍ إلى آخر، لذا فإنّ قبولها عبارةٌ عن مسألةٍ ذوقيّةٍ لا أكثر[3].

ولا يستبعد احتمال تأثّر هذه الروايات بالأساطير المسيحيّة، ولا سيّما أنّ الكثير من رواتها؛ مثل: وهب بن منبّه، وكعب الأحبار، هم من علماء أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام في ما بعد؛ فضلًا عن ذلك، فقد اعتمد بعض المفسّرين الأوائل على المصادر اليهوديّة والمسيحيّة لتأييد مضامينها؛ لذلك أدرج بعض الباحثين عددًا منها ضمن ما يسمّى بالروايات الإسرائيلية[4].

(86)

إذًا، لا بدّ من التزام جانب الاحتياط عند تبنّي مشتركاتٍ مع أهل الكتاب، ومن المؤكّد بشكلٍ قطعيٍّ لا يقبل الشكّ أنّ كلام الله -عزّ وجل-ّ ينفي مقتل النبيّ عيسى عليه‌السلام بصريح العبارة[1].

ومهما يكنْ معنى العبارة القرآنيّة التي تحدّثنا عنها، فهي ليست وازعًا لإيجاد اختلاف على صعيد الدلالة العامّة للآية التي فحواها إنكار صلب المسيح عيسى عليه‌السلام، فاليهود بحسب هذه الآية تصوّروا أنّهم نجحوا في تنفيذ المهمّة وتمكّنوا من قتله، لكنّ الله -سبحانه وتعالى- رفعه إلى السماء بشكلٍ فريدٍ من نوعه. وبالطبع يمكننا -هنا- عدم إمعان النظر بدقّةٍ متناهيةٍ لمعرفة حقيقة هذا الأسلوب، أي لا ضير في أنْ نتعامل معه؛ كتعاملنا مع سائر الأسرار القرآنيّة، على ضوء الإيمان بواقعيّتها، فالأمر الحتمي الذي لا شكّ في حدوثه على صعيد موضع البحث، هو(وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ) إذ تتضمّن هذه العبارة القرآنيّة خبرًا قطعيًّا جاءنا من الله عزّ وجلّ؛ وكما هو واضحٌ فالقرآن الكريم لم يتحدّث عن تفاصيل إبدال النبيّ عيسى عليه‌السلام بشخصٍ آخرَ ولم يُشِرْ إلى ما امتاز به هذا الشخص؛ واللافت للنظر أنّ كثيرًا من المفسّرين المتأخّرين أكّدوا بضرسٍ قاطعٍ على أنّ هذه الآية تنكر صلب المسيح؛ على الرغم من عدم اكتراثهم بالتفاسير المطروحة ضمن الروايات التي تطرّقت إلى تفسيرها.

وحينما نلقي نظرةً على التفاسير الإسلاميّة للقرآن الكريم؛ بغية استكشاف مدلول العبارة التي سلّطنا الضوء عليها في هذا المبحث، نستشفّ منها أنّ كلمة "شُبِّه" هي المصطلح الأساس فيها؛ وتجدر الإشارة إلى أنّ كلمة "شِبه" حسب المعنى اللغويّ تدلّ على أمرٍ مختلفٍ عن

(87)

الأصل، لكنّه يماثله ويحاكيه، وفي ما يلي نذكر عددًا من الاحتمالات التي ذكرها المفسّرون المسلمون في بيان معنى قوله -تعالى-: (وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ) :

1) المشهور بين المفسّرين المسلمين أنّ عبارة(وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ) تدلّ على واقعةٍ إعجازيّةٍ مضمونها أنّ الله -سبحانه- و-تعالى-: صوّر شخصًا على هيئة النبيّ عيسى عليه‌السلام، لذلك اعتقله اليهود؛ ظنًّا منهم أنّه عيسى حقًّا ثمّ صلبوه.

وهذا الرأي المشهور قائمٌ على ظاهر الدلالات القرآنيّة، وقيل على أساسه إنّ القرآن الكريم لم يتطرّق إلى بيان منشأ الشبه الذي جعل اليهود في التباسٍ من أمرهم[1]، ومن المؤكّد أنّ عبارة (شُبِّهَ لَهُمْ) -هنا- لا تعني تخيّلهم، فهي تدلّ على المعنى الحقيقيّ لنوع المماثلة بين النبيّ عيسى عليه‌السلام والشخص الذي وقع عليه الصلب، ولا تعني أنّه حقًّا يشبهه، وهذا التماثل كان بشكلٍ يجعل الإنسان يتصوّر أنّ المصلوب هو المسيح ذاته؛ لذا تمّ تفسير كلمة (شُبِّهَ) بكونها تدلّ على أنّ القتل والصلب وقع على شبيه النبيّ عيسى عليه‌السلام[2]، لكنّ هؤلاء المفسّرين ربّما تأثّروا بالروايات المنقولة في تفسير العبارة المذكورة، وإثر ذلك استنتجوا أنّ التشبيه الذي حصل هو من فعل الله -سبحانه وتعالى-، فهو فعّالٌ لما يريد ويشبّه كيفما يشاء[3].

2) التفسير الآخر لعبارة (شُبِّهَ لَهُمْ) هو أنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام تغيّرت هيئته فأصبح شبيهًا لشخصٍ آخرَ، وأصحاب هذا الرأي استندوا إلى ما ذكر في الأناجيل وفسّروا قوله -تعالى-: (وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ)؛ كما يلي: المسيح وهو على الصليب جعل نفسه، كالميت أمام أنظار الحاضرين[4]، فتصوّر أعداؤه أنّهم تمكّنوا من قتله مصلوبًا، لكنّه في الواقع بقي حيًّا.

وتوصّل أصحاب هذا الرأي إلى هذه النتيجة على ضوء تحليل نصوص الأناجيل، ولم يكتفوا بالقول إنّه تظاهر بالموت، بل أضافوا إلى ذلك عدمَ كسر رجله وبقاءَه على الصليب لفترةٍ قصيرةٍ جدًّا، فضلًا عن أنّهم اعتبروا خروج الدم من خاصرته؛ دليلًا على كونه حيًّا.

(88)

وأكّد الباحث بيلوت؛ هو الآخر، على عدم وفاة النبيّ عيسى عليه‌السلام، ووصف طريقة دفنه بغير المتعارفة بين الناس آنذاك، حيث تولّى ذلك أحد أتباعه؛ كما أكّد على حدوث تغيّرات على قبره بعد أنْ رفع الحجر الذي كان موضوعًا عليه، ومن ثمّ تغيّرت هيئته ليظهر عليهم بشخصيّة أحد المزارعين، وكان يشعر بالجوع مثل تلامذته، وحينما كان فوق الصليب سعى إلى تغطية نفسه. هذه القضايا برأيه تدلّ على أنّه لم يُقتَل، وتشير أيضًا إلى عدم وفاته مصلوبًا، وإنّما تغيّرت هيئته على شكل ميّتٍ، ومن ثمّ نجا من براثن أعدائه[1].

وهذا الاستنتاج لا يبدو صائبًا، لأنّ الإنسان حينما يواجه حالة نزع الروح وهو معلّقٌ، عادةً

(89)

ما يرتعش بدنه ولا يستطيع السيطرة على نفسه، ومن ناحيةٍ أخرى نستشفّ من ظاهر النصّ القرآنيّ أنّ المسيح لم يصلب من الأساس؛ وكما هو معلومٌ فالقرآن الكريم نزل بوحي السماء ووثاقته ثابتةٌ بالقطع واليقين، لذا لا يمكن مقارنة وثاقته مع الأناجيل التي دوّنت بواسطة الذين تتلمذوا عند تلامذة النبيّ عيسى عليه‌السلام بعد عشرات السنين.

3) ادّعى البعض وجود مسيحيْن في التأريخ، أحدهما هو الحقيقيّ الذي عرج إلى السماء، وأمّا المزيّف فهو الذي صلبه اليهود؛ لكنّ الناس تصوّروا أنّهما واحدٌ مع مرور الزمان[1].

ومن البديهي أنّ إثبات هذا الرأي ليس بالأمر الهيّن؛ لكون الكثير من الغربيّين شكّكوا بتأريخيّة شخصيّة المسيح، كما أنّ معتقداتنا الدينيّة ومعلوماتنا القرآنيّة لا تؤيّد هذا الكلام.

4) هناك تفسيرٌ آخرُ لقوله -تعالى-: (شُبِّهَ لَهُمْ) لا يرد عليه الإشكال النحويّ الذي طرحه الزمخشري، كذلك يقوم على تحليل بسيطٍ لحادثة الصلب؛ بحيث يجعلها مقبولةً؛ وفحواه أنّ اليهود الذين كُلّفوا باعتقال النبيّ عيسى عليه‌السلام، لم يمتلكوا معرفةً كافيةً به، لذلك اعتقلوا شخصًا آخرَ يشبهه فصلبوه؛ ظنًّا منهم أنّهم أنجزوا المهمّة بنجاحٍ.

وجدير بالذكر أنّه لا يستبعد اشتباه القوم في تشخيص المجرم عن غيره، واعتقال شخصٍ آخرَ ملاحقٍ من قِبَل الجنود الرومان؛ كما أشير في العهد الجديد[2]، ومن هذا المنطلق فسّر الداعية الإسلاميّ أحمد ديدات قوله -تعالى-: (وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ) بأنّهم اشتبهوا -أخطأوا- حيث قال: «لقد وقعوا في اشتباهٍ بشخصيّة المسيح، وهذا الأمر ممكنٌ؛ لأنّ الإنسان عرضةٌ للخطأ ويمكن أن يشتبه بشخصيّة المسيح عليه‌السلام فيلقى القبض على شخصٍ آخر؛ بدلًا عنه»[3].

فضلًا عمّا ذكر نستشفّ من الأناجيل أنّها تؤيّد التشكيك بهويّة المسيح عليه‌السلام، وهذا التشكيك كائنٌ لدى الحواريين أيضًا، فقد ذكر في إنجيل متّى ما يلي: «كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ،

(90)

لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ خِرَافُ الرَّعِيَّة»[1]. نلاحظ من هذه الآية الإنجيليّة أنّ الحواريّين مع قربهم إلى المسيح، لكنّهم شكّوا به، لذا لا يستبعد مطلقًا بمكان اشتباه القوم بهويته[2]، ويؤيّد هذا الرأي امتناعه عن تعريف نفسه لهم بصريح القول وعدم دفاعه عنها أمام حاكم أورشليم[3] حينما سأله عمّـا إنْ كان ابن الربّ حقًّا أو لا[4]، كذلك يدلّ عليه اختلاف المسيحيّين أنفسهم حول مسألة الصلب.

ويقول المفسّر المسلم الفخر الرازي في هذا السّياق إنّه حينما رفع النبيّ عيسى عليه‌السلام إلى السماء ربّما اعتقل اليهود شخصًا آخر فقتلوه، وادّعوا أنّه المسيح، وبما أنّ علاقاته الاجتماعيّة كانت محدودة جدًّا، لذلك لم يكنْ يعرفه سوى عددٌ قليلٌ من أتباعه، فضلًا عن أنّ عددًا قليلًا من المسيحيّين متّفقون على نقل حادثة الصلب، ولا يستبعد أنْ يكون اتّفاقهم هذا مرتكزًا على خبرٍ كاذبٍ [5].

ويستند محمود مصطفى أيوب كما ذكرنا آنفًا إلى تفسير الزمخشري لهذه العبارة ويفسّر كلمة (شُبِّهَ) قائلًا: «يبدو هكذا»، وأضاف: «هذا الأمر غيرُ محدّدٍ وغامضٌ»[6]. وينقل الشيخ الطوسي -أيضًا- روايةً عن الجبائي بهذا الخصوص، ويوضّحها قائلًا: «قال أبو علي الجبّائي إنّ رؤساء اليهود أخذوا إنسانًا فقتلوه وصلبوه على موضع عالٍ ولم يمكّنوا أحدًا من الدنوّ إليه، فتغيرت حليته، وقالوا: قد قتلنا عيسى؛ ليوهموا بذلك على عوّامهم؛ لأنّهم كانوا أحاطوا بالبيت الذي فيه عيسى؛ فلمّا دخلوه كان عيسى قد رفع من بينهم، فخافوا أن يكون ذلك سببًا لإيمان اليهود به، ففعلوا ذلك، والذين اختلفوا فيه هم غير الذين صلبوه، وإنّما باقي اليهود. وقيل إنّ الذي دلّهم عليه وقال: هذا عيسى أحد الحواريّين أخذ على ذلك ثلاثين درهماً وكان منافقاّ، ثمّ إنّه ندم على ذلك واختنق حتّى قتل نفسه وكان اسمه بودس زكريا بوطا وهو ملعونٌ في النصارى، وبعض النصارى يقول أن بودس زكريا بوطا

(91)

هو الذي شبّه لهم فصلبوه، وهو يقول: لست بصاحبكم، أنا الذي دللتكم عليه، وقيل إنّهم حبسوا المسيح مع عشرةٍ من أصحابه في بيتٍ، فدخل عليهم رجل من اليهود، فألقى الله -تعالى- عليه شبه عيسى، ورفع عيسى، فقتلوا الرجل»[1].

إذًا، نزاع اليهود في ما بينهم حول صلب المسيح عليه‌السلام هو حقيقةٌ تأريخيّةٌ ثابتةٌ، كذلك لا يمكن إنكار نزاع النصارى حول ما إنْ مات وهو مصلوب ثمّ رفع إلى السماء أو الأمر ليس كذلك[2]؛ وعلى هذا الأساس قال البعض إنّ اليهود والنصارى - دون أن يعرفوا حقيقة ما جرى في حادثة الصلب- صادقون في خبرهم القائل بأنّ الذي عُلِّقَ على الصليب هو شخصٌ على هيئة المسيح[3]؛ ما يعني أنّ عبارة (شُبِّهَ لَهُمْ) مهما كان تفسيرها، فهي حتّى إنْ لم تؤيّد الرأي القائل بعدم صلب المسيح ونجاته من القتل، لكنْ مع ذلك لا يمكن لأحد ادّعاء أنّها تثير شبهةً حول هذا الرأي، والقرآن الكريم؛ كما هو معلومٌ نفى مقتله وصلبه، لذا من القطعي أنّ قوله -تعالى-: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ) ليس فيه أدنى شكٍّ والتباسٍ من حيث الدلالة الظاهريّة القائمة على نفي تحقّق القتل والصلب بشأنه.

المبحث الثالث: التفسير الاستشراقيّ لقوله -تعالى-: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) [4]:

هناك احتمالٌ بأنّ المستشرق ريتشارد بيل تأثّر بمرتكزاته العقديّة لدى تفسير قوله -تعالى-:(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) واعتبرها تحكي عن الاختلاف بين مختلف الطوائف والفرق المسيحيّة التي تبنّت آراء متباينةً إزاء صلب المسيح عيسى عليه‌السلام، لكنّه احتمل في ما بعد أنّ هذه الآية تشير إلى الاختلاف بين اليهود والمسيحيّين [5].

ولتفنيد ما ذهب إليه هذا المستشرق يمكن القول:

(92)

1. إنّ سياق الآيات التي من ضمنها هذه الآية لا يتناسق مع الرأي الأوّل، ففيه عبارة (وَمَا قَتَلُوهُ) فإنّ المراد منها اليهود لا المسيحيّين؛ أي إنّ الضمير في الفعل "قتلوه" يرجع إلى اليهود؛ والمسيحيون هم ليسوا مقصودين من قوله -تعالى-: (الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) .

2. ظاهر الآية وسياقها لا يتناسقان مع الرأي الثاني، حيث يدلّ سياقها على أنّ هذا الاختلاف قد حدث بين اليهود أنفسهم، فقد ظنّ بعضهم أنّهم تمكّنوا من قتل المسيح عليه‌السلام، في حين اعتقد عددٌ منهم أنّهم لم يتمكّنوا من ذلك، بل قتلوا شبيهه؛ ويؤيّد ذلك أنّ ظاهر هذه العبارة القرآنيّة يدلّ على هاتين الفئتين من اليهود، كما أنّ سياقها يساند هذا الاستنتاج، وقوله -تعالى-: (لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ) يشير إلى أنّ (الَّذِينَ اخْتَلَفُوا) كانوا في شكٍّ من أمرهم، فهم لم يكونوا على يقينٍ بأنّهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم عليها‌السلام، والضمير في كلمة "قتلوه" يرجع إلى (الَّذِينَ اخْتَلَفُوا)؛ وأيًّا كان المقتول، فالقتلة هم اليهود قطعًا.

أضف إلى ذلك أنّ القرينة المقاميّة وما يحفّها؛ وقوله -تعالى-:(وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) [1]، وكذلك قوله -تعالى-: (بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) [2] هي شواهدُ تدلّ على أنّ موضوع الاختلاف هو صلب المسيح عليه‌السلام؛ بقرينة قوله -تعالى-: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ) الذي أدرجت فيه عبارة عدم القتل إلى جانب عبارة عدم الصلب؛ إذ اختلف اليهود في ما بينهم حول الطريقة التي قتلوه بها، فهل مات وهو مصلوبٌ -وافته المنية على الصليب- أو قُتِلَ ثمّ صلب جسمه؟ الآية كما هو واضحٌ في مقام الردّ عليهم وتفنيد مدّعاهم، وعلى ضوء العبارتين القرآنيّتين اللتين أشرنا إليهما -عدم القتل وعدم الصلب- يدحض كلّ ادّعاء لهم غير المفهوم من هاتين العبارتين؛ وتجدر الإشارة إلى أنّ القرآن الكريم لو ذكر عبارة (وَمَا قَتَلُوهُ) فقط، ربّما يفسّرها اليهود قائلين: نعم، نحن لم نقتل المسيح؛ كما هو متعارفٌ في القتل؛ وإنّما علّقناه على الصليب؛ لذا أدرجت إلى جانب عبارة(وَمَا صَلَبُوهُ)؛ كي يكون النصّ القرآنيّ صريحاً في بيان الحقيقة وتفنيد مزاعم اليهود؛ أي أنّه يثبت فشل اليهود في قتل النبيّ عيسى عليه‌السلام وصلبه، إذ اشتبه الأمر عليهم فقتلوا شخصًا آخرَ غيره ظنًّا منهم أنّهم حقّقوا مآربهم وقتلوه[3].

(93)

ويفسّر محمود مصطفى أيوب كلمة الظنّ في قوله -تعالى-: (مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) بظنّ البشر حول النبيّ عيسى عليه‌السلام [1]، ويدافع عن رأيه بقوله: نحن مطلقًا لم نحمّل القرآن أيّ معنًى خارج عن مدلول نصّه. لكنّ سياق الآية -كما أشرنا آنفًا- يدلّ على أنّ المسألة التي اختلف فيها اليهود تتمحور حول قتلهم المسيح أو شبيهه، إذ ظنّ بعضهم أنّهم قتلوا المسيح نفسه، إلا أنّ آخرين اعتبروا المقتول شبيهه؛ لذا ليس من الممكن نسبة الظنّ في الآية إلى جميع البشر.

وحينما نمعن النظر في سياق الآية لا تبقى عندئذٍ حاجة لتأويل محمود مصطفى أيوب الاستعاريّ. وما قاله ابن قتيبة في تفسيرها: أنْ لا علم لهم بذلك إلا اتّباع الظنّ؛ وهم لم يقتلوه يقينًا [2]، وأمّا الطبري فقد عزا الاختلاف في الآية إلى عدم اتّفاق القوم حول تحقّق القتل بشأن النبيّ عيسى عليه‌السلام، حيث اختلفوا حول شخصيّة الرجل الذي قتله اليهود، فهل هو المسيحُ حقًّا أو رجلٌ آخرُ غيره؟ وقوله -تعالى-: (إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) يدلّ على أنّ اليهود لم يكونوا على علمٍ بالشخص الذي قتلوه، فقد ظنّوا نجاحهم في تنفيذ مهمّتهم، وتصوّروا أنّهم قضوا على عيسى الذي أرادوا قتله، لكنّ ظنّهم هذا ليس له حظٌّ من الصواب، فالمقتول ليس المسيح عيسى بن مريم عليها‌السلام[3].

إذًا، نستشفّ ممّا ذُكِرَ أنّ مسألة مقتل النبيّ عيسى عليه‌السلام بواسطة اليهود ليست سوى ظنٍّ، والعلم واليقين بخلافه، فالآية أكّدت قائلةً: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) ؛  أي أنّهم لم يمتلكوا أيّ يقينٍ بقتله أو أنّ الأمر المتيقّن هو عدم تمكّنهم من قتله أساساً، فالله -عزّ وجلّ- بهذه التعابير المؤكّدة ينفي مقتل المسيح عليه‌السلام [4]. وعبارة (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) تدلّ على تفنيد زعم من ادّعى أنّه قد قُتِلَ وتؤكّد على كون المقتول شخصًا آخر غيره.

(94)

ونستنتج من جملة ما ذُكِرَ أنّ القرآن الكريم فنّد بقطعٍ ويقينٍ زعم اليهود والنصارى بخصوص قتل المسيح عيسى عليه‌السلام وصلبه، فسياق الآية ينفي ادّعاءهم، وظاهرها ينفي ادّعاء النصارى؛ حيث أكّد على أنّهم - اليهود، أو اليهود والنصارى معًا - قد اشتبه الأمر عليهم، لكنّه لم يحدّد نوع هذا الاشتباه وكيفيّته، فهذه هي العقيدة القرآنيّة بخصوص حادثة الصلب، وفحواها التأكيد على اشتباه القوم؛ ما أسفر عن ظنّهم أنّ المقتول هو المسيح نفسه.

وتؤكّد الأناجيل والمصادر التأريخيّة، كذلك الروايات الإسلاميّة، بأجمعها على وجود خلفيّةٍ مناسبة لاحتمال وقوع القوم في خطأ كهذا، فالعسكر الذين كُلّفوا باعتقاله بادروا إلى ذلك ليلًا، ولم يكونوا قد رأوه سابقًا؛ الأمر الذي يؤيّد إمكانيّة حدوث هذا الخطأ؛ وحتّى الذين اختلفوا في الإجراء الذي يجب أن يُتّخذ بشأنه قد انتابهم الشكّ حول مقتله، وما امتلكوا يقينًا بما حدث، إذ ليس لديهم سوى الظنّ[1]. وقد فنّد القرآن الكريم مقتله بالقطع واليقين، وأكّد على أنّ الله -عزّ وجلّ- رفعه إلى السماء، وهذا الأمر يسيرٌ عليه تبارك شأنه، فهو العالم القادر على كلّ شيءٍ؛ وعلى هذا الأساس قيل: «من عظمة القرآن الكريم أنّه نفى مقتل رجلٍ تبعد مدينته عن مدينة نزوله -نزول القرآن - مسافةً بعيدةً، وتفصله عنه مئات السنين؛ فهو ينكر ذلك؛ وكأنّه حاضرٌ هناك ومشرفٌ على أعمالهم -أعمال أعداء النبيّ عيسى عليه‌السلام - وخبره يختلف عن الخبر الذي شاع بين أنصار عيسى وأتباعه الذين تصل سلسلتهم إلى زمان وقوع القتل، فالحقيقة هي أنّ منزّل القرآن الكريم عالمٌ بحقائق الأمور [وقدرته] تفوق نطاق الزمان والمكان، ولا يخبر إلا الصدق»[2].

(95)

المبحث الرابع: التفسير الاستشراقيّ للآيات التي أشارت إلى وفاة المسيح عليه‌السلام ورفعه إلى السماء:

بذل المستشرقون الذين حاولوا إثبات صلب المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام دون غيره، جهوداً حثيثةً في هذا المضمار لدى تفسيرهم الآية 157 من سورة النساء، وكذلك استقصوا مختلف الآيات القرآنيّة؛ للعثور على ما ينصبّ في هذا المجرى، ويمكن في رحابه التعرّف على حقيقة ما حدث للمسيح؛ ومن هذا المنطلق نسلّط الضوء في ما يلي على أساليبهم التفسيريّة للآيات التي تتضمّن كلمتَيْ "وفاة" و"رفع"، ولا سيّما الآية 55 من سورة آل عمران وطبيعة ارتباطها بالآيتين 157 و158 من سورة النساء، وبالآية 117 من سورة المائدة؛ فهناك دراساتٌ استشراقيةٌ ملموسةٌ تقوم على تفسير الآية 55 من سورة آل عمران ضمن سياقٍ لغويٍّ، ونصّها التالي: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) .

وكثير من الدراسات الاستشراقيّة التي دوّنت لتفسير هذه الآية، تتمحور بشكلٍ أساس حول شرح كلمتَيْ "متوفيك" و"رافعك" وتحليلهما، ولا شكّ في أنّ تفسيرهما يعين الباحث على امتلاك رؤيةً واضحةٍ ومتكاملةٍ عن شخصيّة المسيح القرآنيّة، كما يمنحه فهمًا أفضل بالنسبة إلى مدلول آية الصلب وسائر الآيات التي تتحدّث عن موت المسيح عليه‌السلام.

وتجدر الإشارة إلى أنّ كثيرًا من القراءات الاستشراقيّة لهذه الآية دارت في فلك سياقها، والأسلوب القرآنيّ المتّبع في طرح الكلمتين المذكورتين، إذ ليس من المتعارف فيها اقتطاع كلمةٍ من سياق الآيات وتفسيرها بمعناها المستقلّ؛ بل جرت وفق مبدأ تسليط الضوء على مواقع الكلمات في كلّ آيةٍ، وترتيبها؛ مقارنةً مع الكلمات المحاذية لها، إلى جانب الأخذ بعين الاعتبار أساليب استعمالها في سائر النصوص القرآنيّة المشابهة. كذلك انتهج المستشرقون أسلوبًا ظاهراتيًّا لتقويم التفاسير المطروحة من قِبَل العلماء المسلمين لهذه الآيات؛ ومن أبرز هؤلاء المستشرقين: يوسف درّة الحدّاد، ونيل روبنسون، وغابريال سعيد رينولدز، حيث دوّنوا دراساتٍ مسهبةً ودقيقةً في هذا المضمار[1].

(96)

وفي ما يلي نتطرّق إلى بيان أسلوبهم التفسيري للآية المذكورة:

1. "إذ" هي أوّل كلمة استقطبت أنظار المستشرقين نحوها على صعيد سياق الآية وبنيتها، فهي الكلمة الأولى في الآية، وهذه الخصوصيّة جعلت استنتاجاتهم تتناسب مع ما استنتجه المفسّرون المسلمون؛ باعتبار أنّ هذه الآية تقع في سياق الآيات السابقة لها، لذا حاولوا إيجاد ارتباطٍ في ما بينها، وبعد تأييدهم لهذا الارتباط سعوا إلى بيان طبيعته وتفاصيله.

واعتبر غالبيّة المفسّرين المسلمين، ضمن تأكيدهم على مسألة السّياق[1]؛ لدى بيانهم طبيعة الارتباط بين الآيتين 54 و55 من سورة آل عمران، أنّ الآية 55 هي أنموذج جليّ للمكر الإلهيّ في قضية النبيّ عيسى عليه‌السلام؛ وممّا قيل في هذا الصدد ما يلي: «إذ قال الله (ظرف لخير الماكرين أو لمكر الله)، إني متوفّيك (أي مستوفي أجلك، معناه إنيّ عاصمك من أنْ يقتلك الكفّار، ومؤخّرك إلى إجل كتبته لك، ومميتك حتف أنفك لا قتيلًا بأيديهم) ورافعك إليَّ (إلى سمائي ومقرّ ملائكتي) ومطهّرك من الذين كفروا (من سوء جوارهم، وخبث صحبتهم)»[2]. واعتبر بعض المفسّرين هذه الآية مثالًا على التدخّل الإلهيّ في حياة البشر، إذ إنّ الله -سبحانه وتعالى- أحبط بلطفه وعنايته مؤامرات اليهود التي حاكوها ضدّ النبيّ عيسى عليه‌السلام[3]؛ في حين أنّ عددًا منهم اعتبروها تجسيدًا حيًّا للسخط الإلهيّ ضدّ اليهود؛ مؤكّدين على أنّها تحكي

(97)

عن تشديد للعقاب الإلهيّ الذي طال المجتمع اليهوديّ، وعلى أساس هذا التفسير فاليهود يئسوا من قتل المسيح عليه‌السلام؛ والظاهر منها أنّ هذا المكر الإلهيّ عاد بنفعٍ كبيرٍ على المسيح، وكان سببًا في رفعه إلى السماء.

ولم يستسغ المستشرق نيل روبنسون هذا التفسير من منطلق تعارضه مع ما ذُكِرَ في الأناجيل، وأثار شكوكًا حول عقيدة الصلب المسيحيّة التي يعتبرها هذا المستشرق وأقرانه بأنّها من المعتقدات الموثَّقة التي لا غبار عليها، ولا يمكن التشكيك بها بتاتًا. ومن المعلوم أنّ لديه إلمامًا بالأساليب المتّبعة في الأناجيل، لذلك طرح تفسيرًا يتناسق مع المكر المذكور في الآية 54 من السورة ذاتها (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) ، حيث أضاف إلى مسألة المكر بالنبيّ عيسى عليه‌السلام والتخطيط لقتله، مسائل أخرى؛ مثل: تخطيطهم لزعزعة أركان رسالته[1]؛ ولدى بيانه المقصود من مكر الله -سبحانه وتعالى-، أكّد على عدم وجود اختلافٍ بين قضيّة نجاة المسيح من الموت، وقضيّة عقاب اليهود عن طريق تدمير مدينة أورشليم، وقضيّة الحفاظ على التعاليم التوحيديّة التي جاء بها هذا النبيّ؛ فهذه القضايا برأيه متكافئةٌ وتنسجم مع المنطق[2].

لا شكّ في أنّ الله -عزّ وجلّ- لا يُخلف الوعد الذي قطعه على نفسه لنصرة أنبيّائه ورسله، لذا فهو لا يحرمهم مؤازرته مطلقاً، وهذه المؤازرة يمكن أن تتحقّق بأشكالٍ عدّة على المستوى النفسيّ، وفي مجال الحفاظ على تعاليم السماء التي جاؤوا بها، إلى جانب صيانتهم من أيّ ضررٍ يلحق بهم؛ وتجدر الإشارة إلى أنّ الله -عزّ وجلّ- أكرم النبيّ عيسى عليه‌السلام بلطفٍ بالغٍ، وهذا الأمر يعدّ أنموذجًا على التدخّل الإلهيّ لإعقام مؤامرات الكفّار واليهود[3].

وفسّر كثير من المفسّرين المسلمين على ضوء القرائن الموجودة في الآيات السابقة للآية 55 من سورة آل عمران، المكر الإلهيّ بإنقاذ المسيح عليه‌السلام من القتل، وقال الفخر الرازي إنّ مكر اليهود بالنسبة إلى المسيح هو التخطيط لقتله[4]، وأكّد الآلوسي على أنّ الآية 54 من سورة

(98)

آل عمران وصفت مؤامرة بني إسرائيل بالمكر، وأمّا العقبات التي وضعها الله عزّ وجلّ في طريقهم وجعلتهم في يأسٍ وإحباطٍ؛ فقد اعتبرتها مكرًا إلهيًّا، كما عدَّ مضمونها تأكيداً على كونه -تعالى- خير الماكرين؛ باعتبار أنّه يرجع مكر الماكرين عليهم[1]. يؤيّد هذا الرأي مضمون قوله -تعالى-: (مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ) [2]، إذ إنّ استنصار النبيّ عيسى عليه‌السلام سببه اعتقال اليهود له وسعيهم إلى قتله، ومراده من هذا السؤال هو الإيمان بالله عزّ وجلّ، ومن الطبيعي أنّ نصرة أنبيّائه ورسله تعدّ ركيزةً أساسيّةً لإيمان البشر[3].

أضف إلى ذلك أنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام لم يكنْ مكلّفًا بالحرب، لذا فالسبب الذي دعاه للاستنجاد بالأنصار هو الدفاع عن نفسه مقابل الكفّار الذين أرادوا قتله[4].

ونستلهم من بنية الآية أنّ الكثير من الناس لم يؤمنوا بنبوّة المسيح عيسى عليه‌السلام؛ على الرغم من المعجزات العديدة التي جاء بها، وعندما يئس من إيمانهم سألهم: (مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ)؛ وذلك لإتمام الحجّة عليهم، ولتمييز المؤمنين عن الكافرين، لكن لم يجبه إلا القليل منهم[5]. والآية 54 -كما أشرنا- تطرّقت إلى الحديث عن الكفّار، وأكّدت على مكرهم إزاء إرادة الله -عزّ وجلّ-، وهذه الكلمة لغةً تعني التآمر والتحايل خفيةً، فقد اتّخذ اليهود آنذاك إجراءاتٍ ماكرةً وتآمروا ضدّ المسيح عليه‌السلام؛ لدرجة أنّهم تمكّنوا من إقناع الحاكم بأنّه ارتكب جريمةً، لذلك أمر باعتقاله[6].

وبناءً على هذه الشواهد، ومضمون الآية اللاحقة التي تتضمّن عبارة (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ)، ومضمون الآية 157 من سورة النساء التي أكّدت على فشل اليهود في قتل المسيح عليه‌السلام وصلبه، كذلك استنادًا إلى القرائن الموجودة في الأناجيل والتي تثبت خيانةَ أنصاره وإفشاءَهم مكان

(99)

اختفائه، إلى جانب شواهدَ عدّة أخرى؛ فإنّ أفضل تفسيرٍ للمكر المذكور في القرآن الكريم هو تآمر اليهود لقتله، لذا ليس من الصواب بمكانٍ تفسيره بالحفاظ على التعاليم التوحيديّة التي جاء بها، أو بتخريب مدينة أورشليم. وكما هو ظاهرٌ من الآية فالله -عزّ وجلّ- قد أفشل مكرهم، وخاطب المسيح عليه‌السلام مواسيًا له: (يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) ، أي إنّهم لن يتمكّنوا من قتلك، بل سوف أرفعك إلى السماء أو أتوفّاك بموتٍ طبيعيٍّ[1].

ويبدو أنّ المستشرق نيل روبنسون لديه اقتناعٌ راسخٌ بموت المسيح عليه‌السلام مصلوبًا على ضوء المبادئ اللاهوتيّة المسيحيّة التي تقوم عليها منظومته الفكريّة والعقديّة، وفي هذا السّياق اعتبر الرأي الذي تبنّاه المفسّرون المسلمون في هذا المضمار والذي فحواه عدم مقتله وعدم صلبه من الأساس، منبثقًا من ظاهر بعض الآيات القرآنيّة؛ مثل: الآيتين 46 و47 من سورة إبراهيم[2]، حيث تؤكّد هاتان الآيتان وسائر الآيات المماثلة لهما على أنّ الله -عزّ وجلّ- لا يخلف وعده، وسينصر أنبيّاءه ورسله على الكفّار قطعًا[3].

(100)

ولا شكّ في عدم صوابيّة ادّعاء وجود ارتباط كهذا؛ للتشكيك في الرأي القرآنيّ القائل بعدم مقتل المسيح عيسى عليه‌السلام على يد أعدائه، فالحقيقة هي أنّ الكافرين وعبدة الأوثان كانوا على مرّ العصور أشدّ الخصوم لرسالات السماء ومن جاءهم بها، إذ أشار إليهم القرآن الكريم في العديد من آياته[1]، لذا كيف يمكن اعتبار تفسير المسلمين للآية المذكورة؛ بكونه متأثّرًا بالآية التي أشارت إلى عدم خلف الله -تعالى- وعده في نصرة أنبيّائه؟

وبما أنّ عقيدة نيل روبنسون الراسخة هي استحالة نجاة المسيح عليه‌السلام من الموت، فقد بذل قصارى جهوده لإثباتها؛ مستعينًا ببعض آراء المفسّرين المسلمين لعددٍ من الآيات القرآنيّة؛ وفي هذا السّياق ادّعى أنّ المكر الإلهيّ المشار إليه في القرآن الكريم لا يُراد منه نجاة المسيح من القتل والصلب، لذا استدلّ بالآية 144 من سورة آل عمران[2]؛ ليثبت أنّه مات مقتولًا، إذ إنّ هذه الآية تشير إلى إمكانيّة موت النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أو قتله، وفي السورة آية أخرى تطرّقت إلى الحديث عن المسلمين الذين قُتِلوا في حرب أُحد والذين وصفتهم بكونهم أحياءً عند ربّهم يرزقون.

كما استخرج من الآية 144 في السورة المذكورة تفسيرًا للآية 54 منها[3]، حيث قال: لا يمكن الاعتماد على مدلولها لتفنيد مقتل النبيّ عيسى عليه‌السلام بيد أعدائه[4].

وتجدر الإشارة إلى أنّ الآية المشار إليها تقع في سياق الآيات التي تتحدّث عن حرب أُحد والأحداث التي وقعت إثرها، ومنها الشائعة التي بثّها الكفّار والمشركون بمقتل النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، إذ كانت سببًا في تشرذم المسلمين، وتشتّت صفوفهم، وضعفهم في مواجهة الأعداء، بعد أن انتشرت بينهم بسرعةٍ؛ ومن هذا المنطلق فهي في مقام عتابهم وتذكيرهم بأنّ نبيّهم ليس سوى رسولٍ وواسطةٍ بينهم وبين الله عزّ وجلّ، وقد بعث رسلٌ قبله وانقضى عهدهم.

(101)

إذًا، الآية بصدد تحذير المسلمين ألّا يجعلوا دينهم قائمًا على إنسانٍ -حتّى وإنْ كان نبيًّّا- كي لا يتخلّوا عنه حينما يحلّ الموت عليه بأيّ شكلٍ كان، وهذا التمسّك بالعقيدة يجب بطبيعة الحال على المسلمين كافّةً، إذ لا ينبغي لموت النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أنْ يكون سببًا في وهنهم أو خروجهم عن دينهم. هذا ما أكّدت عليه الآية، وفي ختامها وعد الله -سبحانه وتعالى- المتمسّكين بدينهم؛ مهما كانت الظروف، بأنْ يمنحهم خير الجزاء.

واستنادًا إلى ما ذُكِرَ، فالآية ليست في صدد بيان أنّ منْ قُتِلَ في حرب أُحد حيٌّ عند الله يرزق، وليست في مقام بيان عدم استحالة وفاة الأنبيّاء والرسل أو مقتلهم؛ بل نستشفّ من سياق العتاب والتوبيخ اللذين فيها أنّها في مقام تحذير المسلمين من التراجع عن دينهم والتأكيد عليهم بألّا يكونوا كالأمم السابقة التي تخلّت عن دينها بعد وفاة أنبيّائها؛ لذا لا يراد منها قطعًا بيان ما إن كان الأنبيّاء والرسل السابقون قد ماتوا أو ما زالوا أحياءً، ولا يدلّ مضمونها على ذِكْر ما حدث من معاجز لبعضهم؛ مثل: رفع النبيَّيْن عيسى وإلياس عليهما‌السلام إلى السماء.

وخلاصة الكلام هي: عدم صوابيّة تحميل الآية معنًى خارجًا عن نطاقها، وادّعاء أنّها تدلّ على وفاة جميع الأنبيّاء والرسل السابقين؛ وبمن فيهم المسيح عيسى عليه‌السلام.

2. "متوفّيك" يصف المستشرقون قراءة المسلمين لوفاة النبيّ عيسى عليه‌السلام المشار إليها في القرآن الكريم، بأنّها عدولٌ عن حقيقة المعنى القرآنيّ للكلمة؛ وبهذا يتّضح عجزهم عن التنسيق بين فكرة عدم موت المسيح مصلوبًا وبين نظريّتهم المسيحيّة المعهودة، حيث يتصوّرون أنّ القراءة الإسلاميّة لهذه الكلمة منبثقةٌ في أساسها من آراء المفسّرين المسلمين؛ أي أنّ النظريّة الإسلاميّة في هذا المضمار من صياغتهم، وليست لها جذور في القرآن الكريم، ولا في الأحاديث النبويّة.

وهؤلاء الباحثون الاستشراقيّون -بحسب نهجهم الاستشراقيّ- عادةً ما يعجزون عن طرح تحليلٍ خاصٍّ لأحد المفاهيم القرآنيّة، لذا حينما يتطرّقون إلى تفسير بعض آيات القرآن الكريم؛ فإنّهم يتعاملون معه بأسلوبٍ معجميٍّ؛ وكأنّه قاموسٌ شاملٌ لسلسلةٍ من المفردات والمصطلحات، دون أنْ يطرحوا أيّ تحليلٍ دقيقٍ يثبت مدّعاهم، ويمكن التخمين بأنّ القراءة التي تبنّاها أكثرهم لكلمة "متوفّيك" فحواها الموت فقط، بينما القراءة التي تبنّاها المفسّرون

(102)

المسلمون منبثقةٌ من توجّهاتهم الإيديولوجيّة، لا من موارد استعمال هذه الكلمة في النصّ القرآنيّ، ولإثبات رأيهم هذا ذكروا أدلّةً عدّة؛ منها ما هو مقنعٌ.

ولاحظنا في المباحث الآنفة أنّ المستشرقين تبنّوا توجّهاتٍ تثير استغراب كلّ متتبّعٍ إزاء بعض التعابير القطعيّة الثابتة الدلالة والبيّنة بكلّ ما للكلمة من معنًى؛ كما هو الحال في الآية 157 من سورة النساء، فقد انصاعوا لمرتكزاتهم العقديّة المسيحيّة وتوجّهاتهم الفكريّة التي تميّزهم عن غيرهم، ومن هذا المنطلق لم يقبلوا النظريّة القرآنيّة القائلة بأنّ اليهود فشلوا في صلب المسيح عيسى بن مريم عليها‌السلام؛ لذا من المتوقّع أنّهم يتبنّون توجّهاتٍ أكثرَ صرامةً، ويصرّون عليها بتطرّفٍ بخصوص مفهوم الآية 55 من سورة آل عمران؛ نظرًا لتعدّد مداليل كلمة "متوفّيك" ومصاديقها وعدم قطعيّتها في إثبات معنًى واحدٍ.

وطرح غابريال سعيد رينولدز مسألة ترتيب الكلمات وتواليها في النصّ القرآنيّ، وعلى هذا الأساس قال إنّ الله رفع النبيّ عيسى عليه‌السلام إلى السماء حقًّا، لكنْ بعد أن مات[1]؛ حيث اعتبر كلمة "متوفّيك" في آية البحث تدلّ في استعمالها القرآنيّ على أنّ البشر عاجزون عن قبض روح أيّ إنسانٍ؛ كعجزهم عن خلقه، فالله -تعالى- هو الذي يخلق البشر ويميتهم[2]. ولا يُستبعَدَ أنّ هذا المستشرق قد توصّل إلى النتيجة المذكورة عبر إلقائه نظرةً عابرةً على سائر موارد استعمال هذه الكلمة في القرآن الكريم، إذ حاول دائبًا تفسيرها بشكلٍ ينسجم مع معتقداته الدينيّة ونظريّاته التأريخيّة، لذا لم يسلّط الضوء عليها بشكلٍ يتعارض معها أو يثير الشكوك حولها.

وأمّا نيل روبنسون فقد سلّط الضوء على كلمة "متوفّيك" من جهة استعمالها القرآنيّ، لكنّه -أيضًا- تأثّر إلى حدٍّ ما بمعتقداته الموروثة وأفكاره اللاهوتيّة المرتكزة في نفسه منذ نعومة أظافره، ومن هذا المنطلق اعتبر المسيح عليه‌السلام قد مات وهو على الصليب؛ مبرِّرًا ذلك بأنّ الفاعل في كلمة "متوفّيك" هو الله -سبحانه وتعالى-، لذا فهي تشير إلى الإماتة. على ضوء هذا الرأي قارن بين طريقة استعمال الكلمة في الآية المذكورة والآية 193 من سورة آل عمران؛ ليستنتج أنّ قوله -تعالى-: (مُتَوَفِّيكَ) يعني مشيئة الله عزّ وجلّ في إماتة المسيح عليه‌السلام ورفعه إلى السماء[3].

(103)

وطبعًا لا يمكن لهؤلاء وأمثالهم البتّ بصوابيّة نظريّتهم على نحو القطع واليقين، إذ يمكن للباحث الاعتماد على سياق الكلام لاستنباط المعنى المراد من كلمة "متوفّيك" في الآية، لكنّهم سلّطوا الضوء على الموضوع وفق مبادئ فقه اللغة؛ بحيث تعاملوا مع النصّ القرآنيّ بأسلوبٍ معجميّ، ففسّروا الكلمة المشار إليها وسائر مشتقّاتها؛ بحسب دلالاتٍ معجميّةٍ بحتةٍ، والطريف أنّهم يعترضون على التفاسير الإسلاميّة بداعي تفسيرها النصّ القرآنيّ بأسلوبٍ معجميٍّ[1].

وبدوره تطرّق يوسف درّة الحدّاد إلى بيان معنى كلمة "متوفّيك" على ضوء دلالاتها الحقيقيّة والمجازيّة، وكما ذكرنا في المبحث الذي تمحور حول التفسير الذي طرحه للآيتين 157 و158 من سورة النساء، فقد اعتبر موت المسيح عليه‌السلام مصلوبًا من الحقائق المتواترة تأريخيًّا؛ لذا من الطبيعيّ أنّه يعتبر الآية 55 من سورة آل عمران سندًا يدعم رؤيته التأريخيّة ليدّعي أنّ التفسير الشائع بين المسلمين لها متأثّرٌ بمعتقداتهم اللاهوتيّة؛ وعلى الرغم من إذعانه بأنّ المعنى اللغويّ لهذه الكلمة يشير إلى "الاستيفاء"؛ إلا أنّه قال: ما دامت كلمة الوفاة في القرآن مطلقةً ولا توجد قرينةٌ لفظيّةٌ أو دلاليّةٌ تشير إلى الاستيفاء، فهي تعني الموت قطعًا[2]. هذا الكلام ينمّ عن أنّه على علمٍ بالمعنى الحقيقيّ للكلمة المذكورة، وحين تحليله مضمون الآيتين 54 و55 من سورة آل عمران، أكّد على حتميّة موت النبيّ عيسى عليه‌السلام، ثمّ رفعه إلى السماء[3]، واعتبر سياق الآيات 54 إلى 56 من هذه السورة يشير إلى أنّ اليهود كادوا للمسيح ومكروا به، فقتلوه، لكنّ الله -تعالى- مكر بهم، فقبض روحه، ثمّ رفعه إلى السماء، فهو خير الماكرين؛ وفقًا للتعبير القرآنيّ[4].

وللردّ على ما قاله يوسف درّة الحدّاد، نقول: السّياق المذكور أُشير فيه إلى أنّ اليهود مكروا بالمسيح عليه‌السلام ولو اعتبرنا التآمر عليه لقتله هو المقصود من هذا المكر، فهذا يقتضي أنْ يكون مكر الله -عزّ وجلّ- مدعاةً لإبطال مكرهم والحيلولة دون تحقيق هدفهم المشؤوم لا إماتته،

(104)

ثمّ إحياؤه ورفعه إلى السماء، إذ الآية ليس فيها ما يدلّ على إحيائه -بعثه-؛ وإنّما تشير -فقط- إلى أنّ الله -سبحانه وتعالى- توفّاه ورفعه إلى السماء.

إذًا، ادّعاء الحدّاد عارٍ عن الصحّة، ويبدو أنّه فسّر الآية بحسب أسطورةٍ تجول في مخيّلته[1].

كما أنّه ابتدأ تفسير كلمة "متوفّيك" في الآية المشار إليها على ضوء بيان معاني مشتقّاتها في سائر الآيات، وبعد ذلك قارن بين القرائن اللفظيّة الموجودة في آية البحث وتلك الآيات، وبالتالي استنتج أنّ هذه الكلمة ومشتقّاتها في القرآن الكريم تدلّ على الموت لكونه هو المعنى الحقيقيّ لها؛ وكما ذكرنا آنفًا فقد أكّد على أنّ كلمة التوفّي في الاستعمال القرآنيّ يجب أن تُفسّر بمعنى الموت؛ ما لم توجد قرينةٌ لفظيّةٌ أو معنويّةٌ تصرف دلالتها إلى معنًى آخرَ[2].

وحينما نمعن النظر في طريقة استدلال الحدّاد بخصوص هذا الموضوع، نلمس فيه تناقضًا صريحًا، حيث يقوم استدلاله على أنّ مشتقّات كلمة الوفاة التي تكرّرت 25 مرّةً في القرآن الكريم قد سيقت للدلالة على المعنى الحقيقيّ للموت؛ نظرًا لعدم وجود أيّ قرينةٍ تصرف المعنى إلى دلالة أخرى؛ وتجدر الإشارة إلى أنّه طرح هذا الادّعاء وفسّر الكلمة المذكورة مستندًا إلى القرائن اللفظيّة الموجودة في كلّ آيةٍ تتضمن مشتقّاتها، بينما المعروف في اللغة العربيّة أنّ المعنى الحقيقيّ في غنى عن اللجوء إلى القرائن اللفظيّة وحتّى المعنويّة؛ لكي تثبت دلالته، ومثال ذلك الآية 117 في سورة المائدة، حيث قال -تعالى-: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). حيث اعتبر الحدّاد أنّ عبارة (مَّا دُمْتُ فِيهِمْ) تشير إلى فترة حياة النبيّ عيسى عليه‌السلام  -قبل موته- وجَعَلَها قرينةً ليفسّر كلمة (تَوَفَّيْتَنِي) بالمعنى المقابل لها؛ أي أنّها تدلّ على الموت؛ لكنْ يرد عليه أنّه لو كان هذا المعنى هو الدلالة الحقيقيّة لكلمة الوفاة، فلا حاجة عندئذٍ للاعتماد على قرينةٍ؛ كي يثبت.

والمثال الآخر الذي تجدر الإشارة إليه في هذا المضمار، الآية 70 من سورة النحل: (وَاللَّه

(105)

خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ۚ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ). حيث اعتبر الحدّاد مدلول كلمة (يَتَوَفَّاكُمْ) مقابلًا للولادة، ومن هذا المنطلق استنتج أنّها تشير إلى الموت؛ ما يعني اتّباعه أسلوبًا في تفسير هذه الآية يتعارض مع نظريّته التفسيريّة، حيث جعل كلمة (خَلَقَكُمْ) قرينةً على استنتاجه هذا؛ وقد تكرّر الأسلوب ذاته لدى تحليله مضمون الآية 11 من سورة السجدة[1]، فقد اعتبر كلمة (يَتَوَفَّاكُمْ) فيها تشير إلى الموت؛ بقرينة عبارة (مَلَكُ الْمَوْتِ).

واتّبع يوسف درّة الحدّاد هذا الأسلوب نفسه لدى تفسيره سائر الآيات التي تتضمّن مشتقّات كلمة الوفاة، حيث اعتمد على قرائنَ؛ ليثبت أنّها تدلّ على الموت، وقد شرح مضمون الآية 15 من سورة النساء بهذا الشكل، وهي قوله -تعالى-: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ ۖ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ‎). حيث اعتبر كلمة(الْمَوْتُ) في هذه الآية قرينةً ظاهرةً في تفسير كلمة (يَتَوَفَّاهُنَّ)؛ وعلى هذا الأساس فسّرها بالموت أيضاً، لكنّ رأيه -هنا- ترد عليه شبهةٌ لغويّةٌ؛ وهي: أنّ العبارة تصبح في هذه الحالة (يميتهنّ الموت)، إذ من المؤكّد عدم صوابيّة تركيبٍ من هذا القبيل. وكذا هو الحال في الآية 32 من سورة النحل[2]، فقد فسّر كلمة (تَتَوَفَّاهُمُ)؛ اعتمادًا على ما ذُكِـرَ في تفسير الجلالين الذي قـال مؤلّفـه: هناك قرينةٌ معنويةٌ تثبت أنّ هذه الكلمة تشير إلى الموت. وهكذا تكرّر استدلاله في جميع الآيات التي تتضمّن مشتقّات كلمة الوفاة، حيث لجأ إلى قرائنَ لفظيّةٍ أو معنويّةٍ[3].

فعلى أيّ أساسٍ ادّعى يوسف درّة الحدّاد أنّ كلمة الوفاة ومشتقّاتها في النصّ القرآنيّ تدلّ على معناها الحقيقيّ حين وجود قرائنَ معنويّةٍ أو لفظيّةٍ فقط؟! ونستشفّ من آرائه التي طرحها في هذا الصدد أنّه استشهد بالاستدلالات ذاتها التي طرحها العلماء والمفسّرون المسلمون؛ على الرغم من رفضه لها، لذا يمكن اعتبار استدلاله مصادرةً للموضوع وباطلًا من

(106)

الناحية المنطقيّة[1]. وفسّر ريتشارد بيل هو الآخر كلمة "متوفّيك" في الآية 55 من سورة آل عمران بالموت؛ قائلًا: إنّها تدلّ بطبيعتها على موت النبيّ عيسى عليه‌السلام[2].

وجدير بالذكر أنّ المفسّرين المسلمين اختلفوا في تفسير مشتقّات كلمة الوفاة التي ذكرت بخصوص النبيّ عيسى عليه‌السلام،[3] ولو ألقينا نظرةً عابرةً عليها، نستنتج أنّها حينما ترتبط بضمير؛ٍ فهي غالبًا ما تستبطن معنى الموت، لكنّها حينما تضاف إلى الأعمال أو الثواب أو ما شاكل ذلك، فهي تدلّ على العطاء ومنح الأجر والاستيفاء التامّ وتسديد ما في الذمّة بالكامل[4]؛ لذلك قد يكون تعدّد دلالاتها هو السبب في طرح الرأي المشار إليه من قِبَل غالبيّة المستشرقين، ومن ثمّ تأكيدهم على أنّ القرآن الكريم يثبت مقتل المسيح عليه‌السلام وصلبه. هذا الاستنتاج في مقابل الاستنتاج المشهور بين المفسّرين المسلمين، ولتقويم مدى صوابيّته أو سقمه من الضروري أوّلًا بيان المعنى اللغويّ لكلمة الوفاة.

توفّى لغةً مشتقّةٌ من الجذر اللغويّ "وفى"، وكلمة "متوفّى" اسم فاعلٍ لتُوفّي، وهي من باب (تفعيل)؛ والخليل بن أحمد الفراهيدي قال: «إنّ "وفى" تعني بلوغ الشيء التمام والكمال»[5]، وابن منظور أيضًا عزا جذر الكلمة إلى "وفى"؛ بمعنى استيفاء الشيء بالتمام والكمال[6].

(107)

واعتبر بعض المفسّرين الموت هو المعنى المتبادر من كلمة "توفّى" ومشتقّاتها، وقد استعملت بهذه الدلالة في القرآن الكريم ضمن العديد من الآيات، وهي بطبيعة الحال لا تدلّ على معنًى آخرً؛ إلا إذا وُجِدَت قرينةٌ تصرفها إلى ذلك؛ لذا قالوا إنّها استعملت بشأن النبيّ عيسى عليه‌السلام على هذا الغرار[1]، وممّا أكّدوا عليه في هذا السّياق أنّ توفّـي الأنفس حين نومها؛ يعني -أيضًا- موت الإنسان إذا كان يعني الإمساك، لكنْ لو أريد منه الإرسال فهو يعني اليقظة[2]. وتجدر الإشارة إلى أنّ كلمة "متوفّيك" في الآية المشار إليها ضمن معظم التفاسير الإسلاميّة القديمة والحديثة، فُسّرت بكونها تدلّ على الموت[3]، لذا أكّد مفسّروها على أنّها تشير

(108)

في ظاهرها إلى موت النبيّ عيسى عليه‌السلام، وكذا الآية 55 من سورة آل عمران، حيث أشارت إلى موته، لكنّ هذا الموت ليس قتلًا أو صلبًا.

وتطرّق بعض المفسّرين إلى تفسير الكلمة على ضوء دلالة الجذر اللغويّ "وفى"، واعتبروا نطاق استعمالها الدلاليّ يعمّ جميع أقوال الإنسان وأفعاله، فالوفاة برأيهم تستخدم لشأنٍ تامٍّ من شؤون الإنسان لا يشوبه أيّ نقصٍ، ومن ثمّ تستكمل أجزاؤه غير التامّة؛ كما اعتبروا الوفاة غير دالّةٍ على مفهوم الموت؛ وإنّما تختلف عنه لكونه يحلّ على كلّ إنسانٍ[1] وله صورةٌ واحدةٌ لا غير؛ باعتبار أنّه حالةٌ في مقابل الحياة في الدنيا؛ بينما الوفاة تشمل جميع الأفعال والسلوكات والأقوال الإنسانيّة، والجمل التالية مثال على ذلك: "من عاهد وفی"، "من صدق القول وفی"، "من أخلص في عمله وفی"، "من أتمّ رسالته وفی". كلمة "وفى" في هذه الأمثلة تعني إتمام الأمر المطلوب بأمثل شكلٍ وأفضلها[2].

والتوفية تعني أداء الأعمال والسلوكات وتنفيذ الأقوال بالتمام والكمال، ولو أنّ الشخص أنجز عمله بجدٍّ وأرضى نفسه وغيره بهذا العمل، ففعله هذا يعتبر توفيةً، لذلك يوصف بهذه الكلمة.

وأمّا كلمة الموت فهي تشير -فقط- إلى انتهاء فترة حياة الإنسان في الدنيا، لذا لا يمكن اعتبار كلّ وفاةٍ بأنّها إماتة، ومن ثمّ ليس كلّ موتٍ وفاةً؛ إذ التوفّي -كما ذكرنا- ذو ارتباطٍ أيضًا بمن أتمّ عمله وأنجز واجبه الدينيّ الثابت في ذمّته، دون أيّ نقصٍ أو خللٍ[3].

واستنتج هؤلاء المفسّرين من مجمل الآيات القرآنيّة التي تشير إلى الموت أنّه مختصٌّ بالبدن، بينما التوفّي مرتبطٌ بروح الإنسان وذاته، فحين الموت يتوقّف البدن عن الحركة، وتنعدم نشاطات جميع أعضائه، بعد أن تقبض روحه بالكامل من قِبَل ملك الموت؛ وفي المرحلة التالية يواصل حياته الروحيّة في نشأةٍ أخرى، وهو التوفّي.

(109)

قال العلامة محمّد حسين الطباطبائي في هذا السّياق: «قوله -تعالى-: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) بيان لتمام التدبير الإلهيّ؛ وأنّ الموت من المراحل التي من الواجب أن يقطعها الإنسان في مسير التقدير، وأنّه حقٌّ كما تقدّم في قوله -تعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) الأنبيّاء: 35»[1].

وبناءً على ما ذكر نقول: إنّ الآية 66 من سورة الحجّ ناظرة[2] إلى موت الأبدان، والآية 11 من سورة السجدة ناظرةٌ إلى وفاة الأرواح[3]، وهذا يعني أنّ الوفاة عبارةٌ عن مرحلة تلي الموت وحالة تشبهه، مثل النوم والإغماء وبعض الحالات التي تطرأ على الإنسان؛ بحيث يعود إلى الحياة عن طريق التنفّس الاصطناعي أو الصعقات الكهربائيّة.

وتطرّق آية الله عبد الله جوادي الآملي لدى تفسيره الآية 60 من سورة الأنعام إلى بيان الفرق بين الوفاة والموت قائلًا: «التوفّي يختلف عن الموت، فالأخير يعني انفصال الروح عن البدن، بينما الأوّل يعني رحلة الروح وخضوعها إلى اختيار الله -تعالى- والملائكة المكلّفين»[4].

وقد فسَّر العلامة محمّد حسين الطباطبائي إطلاق الوفاة على الموت بأنّ: الإنسان حين الموت يُؤخذ بالكامل من قِبَل الله عزّ وجلّ وتنتهي حياته، ويطلق على النوم توفّي لأنّ الإنسان حينها يُقبض من قِبَله -عزّ وجلّ-[5]. إذًا، هؤلاء العلماء يعتبرون الوفاة بمعنى القبض، فالتوفّي في القرآن الكريم ليس بمعنى الإماتة برأيهم، وفي جميع مواضع استعماله القرآنيّ يدلّ على القبض والإمساك، والمراد من إطلاقه على حالة الإنسان حينما يحلّ عليه الموت هو الإشارة إلى أنّ الإنسان بعد الموت لا يفنى ولا ينعدم، بل يقبض الله -تعالى- روحه ويحفظها حتّى يبعثها عندما تحين الساعة[6].

(110)

وأمّا مكمن الاختلاف بين الوفاة والموت برأيهم، فهو دلالة الموت على توقّف حركة البدن بالكامل، ودلالة الوفاة على مرحلةٍ تقبض فيها الملائكة روح الإنسان لتواصل حياتها في نشأةٍ أخرى؛ ولكنّ هناك أسئلة تطرح عليهم في هذا الصدد، وهو: هل إنّ الموت وتوقّف أعضاء البدن عن الحركة يعني انفصال الروح عنه، بعد قبضها من قِبَل الملائكة؟ هل يمكن ادّعاء وجود فاصلةٍ زمنيّةٍ بين لحظة توقّف حركة أعضاء البدن عن الحركة حين انفصال الروح عنه وبين قبضها من قِبَل الملائكة؟

لا شكّ في وجود ارتباطٍ مباشرٍ بين البدن والروح، وهذا ما ثبت حتّى في الأمثلة التي أشرنا إليها؛ أي حين النوم والإغماء وسائر الحالات الشبيهة بالموت، إذ يحدث في حالات انفصالٍ بين البدن والروح كهذه، والانفصال بينهما يتراوح بين الشدّة والضعف؛ بمقدار زوال علائم الحياة، وقد يكون انفصالًا تامًّا؛ ما يعني أنّ الوفاة التي تحدث أثناء النوم تُعدّ ضربًا من الموت أيضًا، لكنّه موت قصير الأمد، ويبدو أنّ الرأي الذي تبنّاه الشيخ عبد الله جوادي الآملي يتمحور -فقط- حول الفرق بين الموت والوفاة على ضوء فاعلهما ومن يقع عليه الفعل، حيث قال إنّه يطلق على الموت موتاً؛ لكونه يسفر عن انقطاع الارتباط بين روح الإنسان وبدنه، وبما أنّ الله -سبحانه وتعالى- يجعل هذه الروح تحت اختياره، ففي هذه الحالة يُطلق على هذا الأمر وفاة؛ أي انتقال الإنسان من عالم المادّة إلى عالمٍ آخرَ؛ ويطلق على هاتين الظاهرتين عنوانان من جهتين، لذا لا يراد منهما فعلين مختلفين ولا يقصد منهما

(111)

النسبة بين العامّ والخاصّ، ولربّما هذه هي المسألة المحوريّة في قوله -تعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)،[1] وقوله -تعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)[2]، فالواضح فيهما أنّ الإنسان يذوق طعم الموت ويرجع إلى الله تبارك شأنه؛ أضف إلى ذلك هناك العديد من الآيات أكّدت على أنّ الموت لا يحدث إلا بإذن الله -تعالى-[3]؛ كذلك الأنفس لا تتوفّى إلا بمشيئته، ومنها قوله -تعالى-: (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا)[4]؛ وهناك الكثير من الآيات استهلّت بنقل سؤالٍ على لسان الكفّار ومنكري المعاد بهذا الخصوص؛ ومنها قوله -تعالى-: (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)[5]، فهؤلاء لا يؤمنون بتوفّي الروح من قِبَل الله عزّ وجلّ، لذا استخدموا كلمة الموت في سؤالهم، بينما نحن باعتبارنا مسلمين؛ ومن منطلق رغبتنا في حسن العاقبة نستخدم كلمة الوفاة تأسّيًا بالقرآن الكريم: (تَوَفَّني مُسْلِماً)[6]، (تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ)[7]، ونقتدي بالأئمّة عليهم‌السلام طلبًا للخير، فنقول: "وَأَمِتْني مَسْرُوراً"[8]، وهذه هي سيرتنا المتعارفة[9].

(112)

إذًا، لا يمكن إثبات هذا الاختلاف بين الموت والوفاة، ولا يمكن اعتبار أنّ النسبة الكائنة بينهما من طراز العامّ والخاصّ، لكنّ الاستعمال القرآنيّ لكلمة الوفاة ومشتقّاتها يدلّ على استبطانه لمفهومٍ من الإتمام والإكمال[1]، لذا من الطبيعي أن يتحقّق هذا المعنى في كلمة "توفّي" أيضًا[2].

والدليل الآخر الذي ساقه هؤلاء العلماء لإثبات دلالة كلمة الوفاة ومشتقّاتها على القبض في مختلف الحالات، هو استعمالها إلى جانب كلمة الموت في الآية 15 من سورة النساء: (وَٱلَّٰتِى يَأْتِينَ ٱلْفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةًۭ مِّنكُمْ ۖ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى ٱلْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًۭا). كما هو واضحٌ من نصّ هذه الآية، فهي تتحدّث عن النساء اللواتي يفعلن الفاحشة، والموت هو الفاعل للفعل "يتوفّى"، لذا تدلّ عبارة (يَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلْمَوْتُ) على أنّ الموت يقبضهنّ، فلو قيل إنّ التوفّي -هنا- بمعنى الموت، يرد على القائل تكرار المعنى مرّتين بشكلٍ متوالٍ، وهو أمرٌ غيرُ مناسبٍ[3]. إذًا، يمكن اعتبار المعنى المستبطن في هذا التعبير بكونه على غرار التعبيريْن الموجودين في الآية 11 من سورة السجدة والآية 36 من سورة فاطر؛ أي إنّ الملائكة هي التي تتوفّاهنّ، فيكون التقدير النحويّ وفق التالي: (يَتَوَفَّىٰهُنَّ) -ملائكة- (ٱلْمَوْتُ).

وكذلك استدلّوا على رأيهم هذا بالآيات التي تتحدّث عن الموت فقط؛ أي التي استخدمت فيها كلمة موت؛ بدلًا عن كلمة وفاة، مثل الآية 144 من سورة آل عمران، والآية 36 من سورة فاطر، وحتّى الآية 33 من سورة مريم، حيث تحدّثت عن موت النبيّ عيسى عليه‌السلام [4]؛ فهذه

(113)

الآيات ذُكِرَت فيها كلمة موت، لا كلمة وفاة[1].

 وصحيحٌ أنّ الموت في الآية 144 من سورة آل عمران[2] يشير إلى انتهاء حياة بدن النبيّ محمّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله، إلا أنّها ليست في مقام بيان القبض والإماتة من قِبَل الله عزّ وجلّ، إذ لم تستخدم فيها مشتقّات كلمة الوفاة، كذلك لم تستخدم فيها عبارةٌ تدلّ على تدخّل الله -عزّ وجلّ-؛ مثل: "أماته الله"؛ وفي الآية 33 من سورة مريم -أيضًا- ذَكَر السلام على النبيّ عيسى عليه‌السلام ضمن ثلاث مراحل؛ الأمر الذي يعني سلامته في هذه المراحل الثلاثة. كما أنّ الآية ليست بصدد بيان فعل الله -عزّ وجلّ- لإماتة المسيح، ويبدو أنّها -وكذلك الآيات المشابهة لها- استخدَمت كلمة الموت للدلالة على فناء الإنسان، وليس للدلالة على القبض من قِبَله -تعالى-.

إذًا، لا بدّ من الالتفات إلى الملاحظات التالية بخصوص استعمال كلمة الوفاة ومشتقّاتها في القرآن الكريم:

ـ الله -تعالى- هو فاعل "متوفّيك" في الآية 55 من سورة آل عمران[3].

ـ جميع مشتقّات هذه الكلمة في القرآن الكريم تدلّ على أنّ الله -تعالى- فاعل، والإنسان مفعول به، لذا ليس من الصواب بمكانٍ ادّعاء أنّ المفعول به هو الأجر وما شاكله.

(114)

ونستشفّ ممّا ذُكِرَ أنّ الوفاة في الآيات القرآنيّة تعني القبض مع الموت أو إماتة إنسان[1]، وإلى جانب هذا المعنى؛ سواءً في الآيات التي تحدّثنا عنها أو الآيات الأخريات[2]، هناك معنًى يدلّ على الموت المفاجئ[3].

ـ إذا اعتبرنا الوفاة المشار إليها في الآيتين 55 من سورة آل عمران و 117 من سورة المائدة؛ بمعنى الاستيفاء التامّ، لا بمعنى القبض مع الموت، ففي هذه الحالة تصبح وفاة النبيّ عيسى عليه‌السلام من النوع الثالث لاستعمالات هذه الكلمة ومشتقّاتها في القرآن الكريم (القبض غير المتعارف، قبض الإنسان من المجتمع البشريّ، نقله إلى عالمٍ آخر). ويقول المستشرق أوليفر ليمان في هذا الصدد: «حينما لا يؤمن الناس بأحد الأنبيّاء بعد أنْ يشاهدوا معجزاته، فالردّ الإلهيّ هو هلاكهم إثر بلاءٍ طبيعيّ؛ كما حدث لأقوام عادٍ، وثمودَ، ولوطٍ، وهودٍ، وصالحٍ؛ أو يكون الردّ مطالبة النبيّ بالهجرة من منطقة بعثته إلى منطقةٍ أخرى؛ لكي يجد من يتّبعه، وهذا ما حدث لإبراهيم الذي هاجر من العراق، وموسى الذي هاجر من مصر. وأمّا رفع النبيّ عيسى إلى السماء فقد كان بهدف إنقاذه من مؤامرات اليهود الخطيرة، ويمكن اعتباره بحكم الهجرة، لكنّها هجرةٌ مختلفةٌ عمّا هو متعارفٌ لدى البشر»[4]. ومن جملة التفاسير التي طرحها كلٌّ من الطبري والرازي؛ تناسبًا مع تفسير كهذا لوفاة النبيّ عيسى عليه‌السلام هو أنّ الله -عزّ وجلّ- أراد نقله من الأرض إلى مكانٍ قريبٍ منه[5]، لذا، إنْ كانت كلمة الوفاة تعني الاستيفاء التامّ المتزامن مع الموت، ولو افترضنا أنّ صلب المسيح قد حدث إبّان شبابه، ففي هذه الحالة يمكن تفسير وفاته بإماتته في ما بعد حينما بلغ نضوجًا أكثر من حيث السنّ، أو عندما اكتملت رسالته التي حملها للبشر.

(115)

وممّا قاله الزمخشري في تفسير هذه الآية: «(إِنِّى مُتَوَفِّيكَ) أي مستوفي أجلك؛ معناه إنّي عاصمك من أنْ يقتلك الكفّار، ومؤخّرك إلى أجلٍ كتبته لك، ومميتك حتف أنفك، لا قتيلاً بأيديهم»[1].

مضافًا إلى ما ذُكِرَ فالآية 117 من سورة المائدة تتضمّن أحد مشتقّات الفعل "توفّى" ضمن كلمة (مُتَوَفِّيكَ)، والآية 55 من سورة آل عمران تدلّ على العلاقة الرابطة بين النبيّ عيسى عليه‌السلام وقومه وسائر أهل زمانه، حيث وعده الله -عزّ وجلّ- فيها وفي آياتٍ أخرى بأن يتمّ حياته القصيرة ويرفعه إلى السماء؛ إلا أنّ بعض المستشرقين أكّدوا على عدم انسجام هذا المعنى مع صيغة الماضي في الفعل "تَوَفَّيتني"، واعتبروه دليلًا واضحًا على موته في الزمان الماضي[2]. وهذا هو مضمون سورة المائدة: (وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِىٓ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُۥ فَقَدْ عَلِمْتَهُۥ ۚ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلَآ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ ٱلْغُيُوبِ 116 مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَآ أَمَرْتَنِى بِهِۦٓ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًۭا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ شَهِيدٌ 117 إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ) [3].

ومن البديهي أنّ المستشرقَيْن غابريال سعيد رينولدز، ونيل روبنسون؛ لديهما اطّلاعٌ كامل على الأصول العقديّة في الكتاب المقدّس بخصوص موت المسيح عليه‌السلام وعروجه إلى السماء، حيث يعتبرانها قطعيّةً، ولا يمكن التشكيك بها، لذلك بادرا إلى تفسير الآيات القرآنيّة المذكورة؛ وفق هذه الرؤية العقديّة؛ والنتيجة التفسيريّة التي توصّلا إليها؛ فحواها: أنّ نطاق شهادته على الناس محدودٌ بزمان حضوره في ما بينهم، ولكنّه بعد أنْ مات أصبح الله -تعالى- هو الشاهد عليهم[4].

وقال نيل روبنسون في تفسير الفعل (تَوَفَّيتني) المذكور في الآية 117 من سورة المائدة إنّه

(116)

يدلّ على موت النبيّ عيسى عليه‌السلام أو قبضه قبل صعوده الجسماني إلى السماء، وهو صعود قد تحقّق في الماضي؛ وهذا الحوار فيه مضامين سوف تتحقّق في يوم القيامة، لذا لا يمكن ادّعاء أنّ هذه الكلمة تدلّ على موته المستقبليّ، بعد هبوطه إلى الأرض؛ للقضاء على الدجّال[1].

وذكرنا -آنفًا- في المباحث التي طرحناها حول مسألة صلب المسيح عليه‌السلام أنّ مفسّر القرآن الكريم يجب أن يستقصي مقام نزول كلّ آيةٍ وسبب نزولها، لذا لا يسوّغ له استنباط معنًى آخرَ خارج هذا النطاق، والآية التي يدور البحث حولها -هنا- في مقام بيان أنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام لم يكنْ موجودًا بين بني إسرائيل بعد حادثة الصلب، وعلى هذا الأساس نقول إنّها ليست في صدد بيان ما إنْ كان قد توفّي إبّان صلبه أو لا؛ وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ عدم وجوده بينهم يمكن تصوّره ضمن حالاتٍ عدّة؛ مثل: وفاته، أو اختفائه، أو صعوده إلى السماء حيًّا، كما أنّ عدم استمرار شهادته على الناس يقتضي انقطاعه عن قومه، لكنّ هذا الانقطاع لا يعني موته بالحتم واليقين، فالموت يمكن أنْ يكون عاملًا له؛ إلا أنّه غير ملازمٍ له.

والمسألة الأخرى التي تجدر الإشارة إليها في هذا المضمار أنّ الآيات 112 إلى 120 من سورة المائدة[2] تتضمّن موضوعًا آخرَ ذا ارتباطٍ بعهد المسيح عيسى بن مريم عليهما‌السلام؛ وهو اعتقاد بعض الناس بألوهيّته وألوهيّة أمّه[3]؛ لذا أكّد الله -عزّ وجلّ- فيها على أنّهما مجرّد عبديْن له، وليسا شريكين في الألوهيّة.

(117)

إذن هذه الآيات لا تتضمّن مدلولًا يشير إلى موته، وحتّى إنْ ادّعي غير ذلك، فلا يمكن تحديد زمان موته من مضمون الآية 117 التي يتمحور الكلام فيها حول يوم القيامة، وبهذا التفصيل لا يسوّغ لأحدٍ تحديد زمان موته.

وربّما يكون موت المسيح عليه‌السلام بعد نفخة الصور الأولى، وبالتالي صيغة الماضي للفعل (تَوَفَّيْتَنِي) تدلّ على حتميّة يوم القيامة؛ لأنّ استخدام الفعل الماضي للدلالة على المستقبل في اللغة العربيّة يراد منه التأكيد على القطع والبتّ في حدوث أمرٍ ما، لذا نلاحظ الكثير من الآيات القرآنيّة استخدمت صيغة الماضي للإشارة إلى أحداث يوم القيامة.

واعتبر المستشرق يوسف درّة الحدّاد هذه الكلمة في كلا الآيتين تدلّ بصراحةٍ على موت المسيح في نهاية رسالته، لا في نهاية العالم - آخر الزمان - وقد عدَّ هذا المعنى قطعيًّا غيرَ قابلٍ للبحث والجدل، والسبب الذي دعاه لأنْ يصرّ على ذلك هو أنّ عبارة (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِ) ذُكِرَت في القرآن الكريم؛ مقابل عبارة (مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ )، حيث أكّد على أنّها تشير إلى موته في نهاية عهد رسالته، لا في نهاية حياته الدنيويّة وقبل يوم القيامة. وكذلك تبنّى فكرة عدم صوابيّة ادّعاء أنّ الموت قبل يوم القيامة هو المراد من وفاة عيسى عليه‌السلام في القرآن الكريم، فهذا المعنى

(118)

برأيه لا يتناغم مع الاستفسار الإلهيّ حول ما إنْ كان المسيح عليه‌السلام طلب من الناس أن يتّخذوه وأمّه إلهين أو لا[1]. ومن جملة الأمور التي تبنّاها -أيضًا- أنّ المعنى الحقيقيّ للعبادة لا يتبلور على أرض الواقع؛ إلا حينما يُتاح التعبّد للناس، لكنّ هذا الأمر غير متاحٍ لهم قبل يوم القيامة.

وتوصّل يوسف درّة الحدّاد إلى استنتاجين أساسيّين من الآيات المذكورة، هما:

ـ وفاة المسيح عليه‌السلام تعني موته مصلوبًا، لا موته بعد حادثة الصلب، أو رفعه إلى السماء بجسمه؛ وبعد موته يُتاح للناس أن يتعبّدوا لفترةٍ طويلةٍ؛ أي منذ لحظة موته حتّى حلول آخر الزمان.

ـ تصوّر أنّ كلمة "توفَّيتني" المذكورة في الآية تعني موت المسيح عليه‌السلام في آخر الزمان برأي المفسّرين المسلمين؛ ما يعني أنّ الفترة الزمنيّة الواقعة بين وفاته في آخر الزمان -قبل يوم القيامة- هي فترةٌ قصيرةٌ جدًّا، لذا لا تتاح للناس فرصةٌ للعبوديّة؛ حتّى يتبيّن ما إنْ كانوا يؤلّهونه وأمّه حقًّا، أو يعبدون الله -تعالى- فقط.

وكلمة "توفَّيتني" المذكورة في الآية لا ارتباط لها بموت المسيح عليه‌السلام في آخر الزمان؛ كما ذكرنا آنفًا، فهي نقلت في القرآن الكريم على لسانه حينما كان يتحدّث عمّا شهده وهو حاضرٌ بين الناس؛ لذا سواءً أدلّت على موته، أم على رفْعه إلى السماء حيّاً، أم على أيّ شكلٍ آخرَ يجسّد اختفائه عن أنظار الناس، فالفرصة متاحةٌ لهم لأنْ يتعبّدوا.

والدليل الآخر الذي استند إليه الحدّاد لإثبات رأيه، ما قاله البيضاوي في تفسير التوفّي؛ بكونه أخذ الشيء وافيًا -تامًّا- وعلى أساس هذا الكلام ادّعى أنّ الموت يعتبر ضربًا من الاستيفاء التامّ[2]. ومن المحتمل أنّ استنتاجه هذا متأثّرٌ بمعتقداته الدينيّة المسيحيّة؛ بوصفه قسّيسًا ملتزمًا بتعاليم دينه، حيث له إلمامٌ كاملٌ بالنظريّة الإنجيليّة الثابتة القائلة بصلب المسيح عليه‌السلام وانبعاثه من قبره، وهو بالطبع ملتزمٌ بها إلى أقصى حدٍّ؛ لكونها من الأساسيّات التي أكّدت عليها الأناجيل.

وأمّا محمود مصطفى أيوب فقد استنتج من كلمة "توفّيتني" كون المسيح عليه‌السلام بشرًا في

(119)

مقابل وحدانيّة الله عزّ وجلّ؛ أي أنّه إنسانٌ عرضةٌ للفناء كسائر البشر[1]، ويبدو أنّه يقصد من الفناء -هنا- دلالة الكلمة على صلب المسيح عليه‌السلام وموته؛ لكنْ بحسب ما أشرنا سابقًا فهذه الآيات تنفي الألوهية عنه، وتؤكّد على عدم كونه شريكًا لله عزّ وجلّ.

ونستشفّ من سياق هذه الآيات أنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام يتحدّث عن أحواله في الحياة الدنيا، ويعترف بأنّه وأمّه ليسا في مقام التأليه، ولا يحقّ لهما ادّعاء ذلك مطلقاً، فهو مجرّد عبدٍ ولم يقلْ للناس إلا ما أمره الله تبارك شأنه؛ وعبارة (ٱتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَٰهَيْنِ) تدلّ على أنّ ولادته من غير أبٍ جعلت أتباعه يؤلّهونه[2].

هذه الحقائق يمكن إثباتها عن طريق قرائن أخرى؛ منها أنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام ابتدأ كلامه بكلمة سُبحانَك" التي تحكي عن تسبيح الله -تعالى- وتقديسه؛ الأمر الذي يدلّ بصراحة على عبوديّته الخالصة له، وفي الحين ذاته أكّد على استحالة تجرّئه وادّعائه الألوهيّة: (مَا يَكُونُ لِىٓ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ ۚ)، فضلًا عن أنّه على يقينٍ بكون علم الله -تعالى- هو الأصل والأساس لكلّ ما يعرفه البشر: (إِن كُنتُ قُلْتُهُۥ فَقَدْ عَلِمْتَهُۥ ۚ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلَآ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ ٱلْغُيُوبِ)؛ ثمّ أقرّ بالربوبيّة المطلقة لله -تعالى- على جميع البشر؛ كي لا يبقى أدنى شكٍّ لدى الناس في كونه عبدًا ونبيًّّا يدعو أقرانه البشر إلى توحيد الله الواحد وعبادته وحده، بلا شريكٍ: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَآ أَمَرْتَنِى بِهِۦٓ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ ۚ).

ومضمون هذه الآيات يدلّ بصريح العبارة على أنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام لم يتجاوز حدود رسالته السماويّة، فقد كان شاهدًا عليهم، وناظرًا على أعمالهم؛ ما دام موجودًا بينهم، لذا فهو منزّهٌ من المعتقدات المحرّفة التي سادت بين الناس بعد ذلك: (وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًۭا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ). وعبارة (وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ شَهِيدٌ) تشير إلى أنّه أدرج شهادته على أعمال أمّته في رحاب شهادة الله -سبحانه وتعالى- العامّة، وعلى هذا الأساس نزّه ألوهيّته من كلّ شركٍ.

والآية التالية تحكي عن تأكيده على عبوديّته وعبوديّة سائر الناس لله الذي هو مولاهم، ولا يصدر أيّ حكمٍ بشأنهم؛ إلا ما كان عدلًا ومتناسبًا مع أعمالهم، فالأمر بيده، وباستطاعته

(120)

أن يعذّبَهم أو يعفوَ عنهم: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ).

واستنادًا إلى ما ذُكِرَ، فالآيات 112 إلى 120 من سورة المائدة لا تؤكّد على وفاة النبيّ عيسى عليه‌السلام أو موته؛ كما ادّعى محمود مصطفى أيوب، بل إنّ محورها الأساس هو نفي ألوهيّته على لسانه، وإقراره بعدم إشرافه على أتباعه بعد وفاته[1].

وخلاصة الكلام: أنّنا حتّى إذا افترضنا أنّ الموت ملازمٌ للتوفّي؛ نظرًا لكون الكلمة الثانية

(121)

تعني الاستيفاء التامّ، يبقى سؤالٌ أساس بحاجةٍ إلى إجابةٍ شافيةٍ، وهو: هل هناك مانعٌ من وجود استثناءٍ في هذا المجال؟ وتتجلّى أهمّيّة هذا السؤال أكثر حينما نأخذ بعين الاعتبار تلك الشواهد الواضحة الموجودة في العديد من الآيات.

وممّا قاله أحد رجال الدين المسلمين في هذا المضمار: «الآية 157 من سورة النساء تفيد بأنّ الله -تعالى- أكرم النبيّ عيسى عليه‌السلام بنعمةٍ ما أنعمها على غيره، لذا إنْ اعتبرنا توفّيه؛ بمعنى موته ورفع روحه إلى السماء بعد أنْ مات، فالآية يصبح معناها أنّ الله أماته ورفع روحه إليه بعد أن انتشلها من مجتمعٍ يشوبه الكفر. من المؤكّد أنّ هذا المعنى لا يدلّ على أيّ خصوصيةٍ فريدةٍ للمسيح، لأنّ جميع الأنبيّاء وكذلك المؤمنون كافّةً يحدث لهم ذلك حينما يحين أجلهم.

إذًا، هذه الآية تدلّ على أنّ حياة المسيح عليه‌السلام منذ نشأته [في رحم أمّه] كانت ممتزجةً بالمعاجز، لذا فإنّ بقاءه ووفاته كانا متقارنين مع هذه المعاجز؛ وعلى هذا الأساس نقول إنّ هاتين الآيتين لا تدلّان في ظاهرهما على موته»[1].

أضف إلى ذلك، فقوله -تعالى- في الآية 158 من سورة النساء: (بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) ابتدأ بكلمة "بل" التي هي للإضراب من الناحية البلاغيّة، وهذا المعنى لا يتناغم مع الموت وصعود الروح إلى السماء بشكلٍ يميّزها عن غيرها إثر القتل والصلب[2].

والقرينة الأخرى التي تدلّ على كون وفاة المسيح عليه‌السلام استثناءً عن غيرها تتمثّل في الخطاب القرآنيّ الموجّه إليه؛ بوصفه إنسانًا ذا روحٍ وبدنٍ، أي إنّه عبارةٌ عن كائنٍ موجودٍ على أرض الواقع تلقّى خطابًا إلهيًّا بصيغة متوفّيك ورافعك ومطهّرك؛ وإذا اعتبرنا كلمة "متوفّيك" بمعنى قبضه وإنقاذه من براثن اليهود، ففي هذه الحالة سوف تتحقّق فيه الخصائص اللازمة الموجودة ضمن الكلمات الثلاثة المشار إليها؛ ما يعني أنّ الله -سبحانه وتعالى- قد أنقذه من الناس ورفعه إلى السماء. لكنْ إنْ اعتبرناها تعني الموت - أي مميتك - فهذا يعني بكلّ تأكيد أنّ بدنه لا يرفع إلى السماء بعد الموت، بل روحه فقط هي التي تعرج إليها.

(122)

إذًا، في الحالة الأولى تكون خصوصيّة المسيح عليه‌السلام التي امتاز بها عن غيره كامنةً في روحه وبدنه، بينما في الحالة الثانية تقتصر هذه الخصوصيّة على روحه فحسب، ويكون معنى الآية: يا عيسى، سوف أُميتك وأرفع روحك إلى السماء، وهذا التفسير يقتضي الفصل بين الصفة والموصوف، لأنّ شخصيّة هذا الإنسان المكرَّم من قِلَ الله -عزّ وجلّ- لا تقتصر على روحه؛ حتّى وإنْ اعتبرت بأنّها تجسّد حقيقة الإنسان، فالخطاب القرآنيّ في الواقع موجّهٌ لكيانه بالكامل، لذا لا بدّ أن يتحقّق الفعل على ضوء هذا الكيان بأكمله[1]. وبناءً على هذا التحليل، اعتبر بعض المفسّرين وفاة المسيح عليه‌السلام آخر مرحلةٍ من حياته على الأرض وليست موته[2].

إذًا، يمكن تلخيص الاحتمالات المطروحة من قِبَل المفسّرين حول دلالة الكلمة القرآنيّة "متوفّيك" التي ذُكِرَت بشأن النبيّ عيسى عليه‌السلام ضمن النقاط التالية:

ـ إخفاؤه عن أنظار الناس.

هذا المعنى لا يتناسب بطبيعة الحال مع المعنى المراد من كلمة الوفاة ومشتقّاتها.

ـ أغرقه الله -عزّ وجلّ- في نومٍ عميقٍ؛ مثلما فعل بأصحاب الكهف.

في هذه الحالة لا بدّ من وجود بدنه على الأرض، لكنّه في الحقيقة غير موجودٍ.

ـ توفّي إثر موتٍ طبيعيٍّ في منأًى عن أنظار الناس، ومن ثمّ فإنّ رفعه إلى السماء ليس سوى أسطورة لا واقع لها؛ أي إنّ القرآن الكريم اقتبس هذا السرد القصصيّ من المعتقدات المسيحيّة التي كانت سائدةً في الجزيرة العربيّة إبّان ظهور الإسلام.

والتوفّي على أساس هذا الكلام هو الموت الطبيعيّ ذاته، ولا يعني كون المسيح عليه‌السلام رُفِعَ إلى السماء وهو حيٌّ؛ لكنْ ليس هناك أيّ دليلٍ يثبت ذلك.

ـ وفاته ليست كوفاة سائر الناس؛ لكونها حالةً استثنائيّةً.

هذه الفكرة يمكن استنباطها من خلال المقارنة بين الآيات القرآنيّة التي تحدّثت عن النبيّ

(123)

عيسى عليه‌السلام والآيات التي تمحورت حول قصّة أبي البشر آدم عليه‌السلام الذي كانت ولادته تختلف عن ولادة سائر البشر، فقد ولد من غير والدين، وعيسى هو الآخر ولد بإعجازٍ؛ بحيث كانت ولادته تختلف عن جميع الناس.

وجدير بالذكر أنّ حياة النبيّ عيسى عليه‌السلام اكتنفتها أحداثٌ ووقائعُ كثيرةٌ وفريدةٌ من نوعها؛ ما جعل أتباع دينه يقعون في مغالطةٍ كبيرةٍ ويؤلّهونه، وهذا الأمر في الواقع يعدّ واحدًا من المواضيع القرآنيّة الهامّة، حيث انتقد الله -عزّ وجلّ- النصارى جرّاء هذا الخطأ العقديّة الفادح.

إذًا، هل هناك محذورٌ في قولنا إنّ وفاة المسيح كانت خارجةً عن نطاق القواعد المتعارفة في حياة البشر؟

بما أنّ كلمة الرفع ذكرت في الآية 55 من سورة آل عمران بعد التوفّي، فقد ادّعى غالبيّة المستشرقين أنّها تعدّ سندًا داعمًا للرأي القائل بأنّ التوفّي -هنا- بمعنى الموت؛ وفيهم من تأثّر بتعاليم الكتاب المقدّس إلى أقصى حدٍّ ليفسّرها بالانبعاث بعد الموت عبر مقارنتها مع كلام المسيح عليه‌السلام؛ وهو في المهد؛ حينما قال: (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّۭا)، وبعضهم اعتبرها إشارةً إلى الرفع الروحاني أي رفع الروح -فقط- دون البدن[1].

وقد جعل المستشرق غابريال سعيد رينولدز التوالي اللغويّ في الآية معيارًا لتفسيره لهذه الكلمة، وعلى هذا الأساس اعتبرها بمعنى الرفع الروحاني بعد الموت على الصليب، وذلك من منطلق اعتقاده بأنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام قد صُلِبَ هو نفسُه لا شبيهُه؛ كما يعتقد المسلمون، ومن هذا المنطلق اعتبر التوالي الموجود في الآية المذكورة شاهدًا على استنتاجه التفسيريّ الذي طرحه في تفسير الآية 157 من سورة النساء، وممّا قاله في هذا الصدد: «القرآن ينكر قتل

(124)

المسيح على يد اليهود، وفي الآية التالية (بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) يؤكّد على أنّ الله رفعه إلى السماء، وهذا التوالي الموجود في الآية 55 من سورة آل عمران موجودٌ أيضًا في الآية 157 من سورة النساء، أي إنّ الله هو الذي أمات عيسى أوّلًا –لا اليهود- ثمّ رفعه إلى السماء»[1].

ويصف المفسّرون المسلمون الرفع المذكور بعد التوفّي في الآية بأنّه ليس رفعًا مختصًّا بمكانٍ معيّنٍ، لأنّ المكان من خصائص الجسم، ومن المستحيل على الله -عزّ وجلّ- أن يكون جسمًا ويستقرّ في موضعٍ خاصٍّ؛ لذا فهو ليس مقيمًا في مكانٍ مرتفعٍ - كما يزعم البعض- لكي يرفع النبيّ عيسى عليه‌السلام إليه[2]، وعلى هذا الأساس فحرف الجرّ (إلى) المذكور في الآية مع الضمير (الياء)، لا يشير إلى جهةٍ معينةٍ كامنةٍ في مكانٍ محدّدٍ، وإنّما مفهومه ومفهوم الضمير المتّصل به على غرار ما ذُكِرَ في بعض الآيات؛ مثل: قوله -تعالى- على لسان النبيّ إبراهيم عليه‌السلام (إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّى)، وقوله -تعالى-: (ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ)، وبالتالي يمكن تفسير قوله -تعالى-: (وَرَافِعُكَ إِلَىَّ)؛ بمعنى (إنّي رافعك إلى محلّ كرامتي)، والسبب في ذكر مشتقّ كلمة (الرفع) هنا هو الإكرام والإجلال، فالمراد هو رفعه إلى مكانٍ ليس فيه سوى حكم الله عزّ وجلّ[3].

(125)

إذن، المقصود بحسب هذا الرأي هو التقرّب المعنويّ الذي أشير إليه ضمن تعبيرٍ يحكي عن مقام الرضوان الإلهيّ، إلا أنّ المسألة الجديرة بالذكر -هنا- هي أنّ القرآن الكريم لم يصرّح في هذه الآيات برفع المسيح عليه‌السلام من الأرض بروحه وجسمه من قِبَل الله -تعالى- ،ثمّ عروجه إلى السماء، كما لا نجد فيه تصريحًا بكونه توفّي جرّاء موتٍ طبيعيٍّ ثمّ عُرِجَ بروحه إلى السماء؛ بل نستشفّ من النصّ القرآنيّ عدم نفي هاتين الحالتين أو إثباتهما؛ ولكنّ الواضح من الأسلوب البيانيّ القرآنيّ أنّ رفعه إلى السماء لم يكنْ بحسب القواعد المتعارفة[1].

وتفيد الآية 158 من سورة النساء في سياقها وظاهرها ودلالة حرف الإضراب "بل" الواقع في مستهلّها، أنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام رُفِعَ إلى السماء بروحه وجسمه، لذا فهي كأنّما تستبطن ردًّا على السؤال التالي الذي يخطر في ذهن المخاطب: لو أنّ المسيح لم يُقتل وبقي حيًّا، لِمَ لَمْ يره أحدٌ بعد تلك الليلة؟ لقد أنقذه الله -تعالى- من أعدائه ورفعه إليه ليأخذه من هذا العالم ويُودِعَه في عالمٍ آخرَ أعلى وأفضلَ[2]. كما أنّ سياق الآية بعد تفنيد ادّعاء اليهود الذين زعموا أنّهم نجحوا في قتله وصلبه، يفيد بأنّه الشخص نفسه الذي حفظه الله -تعالى- من القتل والصلب، ثمّ رفعه بجسمه وروحه إليه، ولم يرفع روحه فقط.

وتجدر الإشارة إلى أنّ الإضراب في قوله -تعالى-: (بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) والذي يراد منه إنكار القتل والصلب إلى جانب إثبات الرفع، لا يتناسب مع رفع الروح وحدها دون الجسم، إذ ينتفي مناط استعمال "بل" في هذه الآية بحسب هذا المعنى المقرّر للرفع، لأنّ كلّ إنسانٍ يجب وأن ترفع روحه بعد أن يموت؛ مهما كانت طريقة موته.

إذًا، كلمة "بل" في الآية تشير إلى أنّ المسيح عليه‌السلام رفع إلى السماء بروحه وجسمه، وهذا الرفع في الواقع عبارةٌ عن وسيلةٍ لإنقاذه من براثن اليهود، ولا فرق في كيفيّة تحقّقه، فسواءٌ أتحقّق

(126)

على ضوء موت المسيح -دون قتل وصلب– أم عن طريق لقائه الله -تعالى-؛ وهو حيٌّ، أم بجسمه الإنسانيّ؛ فضلًا عن أنّ هذا الأمر ليس مستحيلًا من الناحية العقلية، فالعقل لا يقول باستحالة رفعه من قِبَل الله -تعالى- إلى السماء بشكلٍ غير متعارفٍ بين البشر.

ولا شكّ في أنّ رفع النبيّ عيسى عليه‌السلام إلى السماء حيًّا إنْ اعتبرناه معجزةً، فهو ليس بأهمّ من سائر المعجزات التي اكتنفت حياته، فقد وُلِدَ من والدةٍ عذراء، وتحدّث مع الناس؛ وهو في المهد بعد وقتٍ قصيرٍ من ولادته، وأحيا الموتى، وما إلى ذلك من معجزات أخرى. لا شكّ في أنّ هذه المعجزات قاطبةً تنصبّ في هدفٍ واحدٍ، والقرآن الكريم هو برهاننا على وجود معاجزَ كهذه، وهذا ما أكّد عليه صاحب تفسير الميزان قائلًا: «والتأمل في سياق الآيات يوضّح الوجه في عدّ ما ذكره من الآيات المختصّة -ظاهرًا- بالمسيح نعمة عليه وعلى والدته جميعًا، كما تشعر به آيات آل عمران؛ فإنّ البشارة إنّما تكون بنعمة، والأمر على ذلك، فإنّ ما اختصّ به المسيح عليه‌السلام من آيةٍ وموهبةٍ؛ كالولادة من غير أبٍ، والتأييد بروح القدس، وخلق الطير، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله سبحانه، فهي بعينها كرامةٌ لمريم؛ كما أنّها كرامةٌ لعيسى عليه‌السلام، فهما معًا منعّمان بالنعمة الإلهيّة، كما قال -تعالى-: (ٱذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ). وإلى ذلك يشير -تعالى- بقوله: (وَجَعَلْنَٰهَا وَٱبْنَهَآ ءَايَةً لِّلْعَٰلَمِينَ) -(الأنبيّاء: 91-)، حيث عدّهما معًا آيةً واحدةً لا آيتين»[1].

والإشارة القرآنيّة إلى هذا الرفع غير المتعارف طُرِحَت بالمصطلح نفسه الذي استخدمه النصارى للإشارة إلى رفع روح المسيح وجسمه إلى السماء، وهو في اللغة الإنجليزية (Ascension) حيث نستنتج منه أنّ القرآن الكريم لا يروم تفنيد هذه العقيدة، بل استخدم لفظًا يساهم في ترسيخها والتأكيد عليها؛ لذا لو كان في صدد نفيها لاستخدم مصطلحًا آخرَ غير الرفع[2]، وإذا كان القرآن الكريم في مقام نقض العقيدة المسيحيّة، لقال الله -تعالى- في هذا المجال: ما قتلوا المسيح يقينًا، وإنّما أنقذه الله حيًّا، ثمّ أماته؛ كما يموت سائر البشر.

لقد أراد اليهود إهانة النبيّ عيسى عليه‌السلام، لكنّ الله -سبحانه وتعالى- رفعه إلى أعلى الدرجات، ومن الواضح أنّ كلمتَيْ عزيز وحكيم في نهاية الآية: (وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) تؤيّدان هذا

(127)

الرأي، إذ استعمالهما بعد أحد الأحداث الهامّة يراد منه إظهار غلبة الله -تعالى- وقدرته وقهره وحكمته البالغة[1].

والعزيز هو الشريف الذي لا يخرج أيّ شيءٍ عن نطاق قدرته، وهو قادرٌ على فعل كلّ ما يشاء وهو القاهر والغالب فوق كل شيء؛ والحكيم هو الذي لا يصدر منه خطأٌ مطلقًا ويجعل كلّ شيءٍ في موضعه؛ لذا فهو قادرٌ على رفع كلّ من أنزله من السماء بحكمته، وكلّ حفظ وإزالة لا يبدران منه إلا بداعي حكمته البالغة[2]. لقد عاد المسيح عليه‌السلام إلى المكان نفسه الذي جاء منه، فقد بدأ حياته بنزوله إلى هذا العالم عن طريق نفخ الروح في أمّه مريم عليها‌السلام من قِبَل الله -سبحانه وتعالى-، ثمّ عاد إلى مبدئه؛ لكي يبقى في أمانٍ من القتل والصلب؛ لذا نستنتج من هذه الآية أنّ الله قد رفعه بجسمه وروحه إليه، ولم يرفع روحه وحدها، وهذا الرفع في الحقيقة يعدّ أكبر بشارةٍ للمسيح ومؤشّرًا جليًّا على مقامه الرفيع عن ربّه.

ويقول العلامة محمّد حسين الطباطبائي واصفًا شخصيّة المسيح عليه‌السلام: «وكيف يتصوّر في مَنْ آمن بالمسيح عليه‌السلام أنْ لا يعثر منه على آيةٍ؛ وهو عليه‌السلام بنفس وجوده آيةٌ، خلقه الله من غير أبٍ، وأيّده بروح القدس يكلّم الناس في المهد وكهلًا، ولم يزل مكرمًا بآيةٍ بعد آيةٍ؛ حتّى رفعه الله إليه، وختم أمره بأعجب آيةٍ»[3].

ومن المؤكّد أنّ المسيح عليه‌السلام رُفِعَ إلى السماء من قِبِلَ الله عزّ وجلّ، لكنْ لا نعلم كيف تمّ ذلك؛ فالكثير من المواضيع القرآنيّة واضحة المفهوم؛ إلا أنّها غامضةٌ علينا من حيث الدلالة التفصيلية؛ مثل: استوائه تبارك شأنه على العرش، ونزول الملائكة إلى الأرض، وكذا هو الحال بالنسبة إلى رفع المسيح عليه‌السلام؛ لذا لا يمكن لأحد ادّعاء أنّ الموت هو السبيل الوحيد للوفاة والرفع بحيث لا يوجد سبيلٌ أخرى غيرها، إذ هناك أساليبُ وطرقٌ أخرى تتحقّق على إثرها؛ على الرغم من أنّها غيرُ واضحةٍ لنا.

ومضافًا لما ذُكِرَ فإنّ مسألة الوفاة والرفع عن طريق الموت الطبيعيّ أو غير الطبيعيّ هي

(128)

الأخرى غيرُ واضحةٍ لنا، والنبيّ عيسى عليه‌السلام كما -ذكرنا آنفًا- يُعدّ من عجائب الخِلْقة في نشأته وحياته، ووفاته، ورفعه، فكلّ هذه الأمور تُعدّ إعجازيةً وخارجةً عن النطاق المتعارف لنا بوصفنا بشرًا؛ وكلّ إنسانٍ يعتقد بأنّ الأنبيّاء لديهم معاجزُ، لا يجد ضيرًا في تصديق هذه الأمور التي اكتنفت شخصيّة المسيح؛ والمسألة الهامّة في هذا الصدد هي ضرورة ارتكاز معتقداتنا على براهينَ ثابتةٍ وقطعيّةٍ؛ سواءً في مجال القضايا الإعجازية أو غيرها.

وجدير بالذكر أنّ النوم والموت كليهما يحكيان عن سكون البدن وتجرّده عن الحركة بنحوٍ تامٍّ أو جزئيٍّ، إلا أنّ توفّي النفس حين منامها وموتها لا نعرف عنه تفاصيلَ كثيرةً؛ لذا إنْ امتلكنا برهانًا قطعيًّا من الكتاب والسنّة والعقل يثبت وجود مصاديقَ أخرى للتوفّي غير المصاديق التي نعرفها، ففي هذه الحالة سوف نؤمن بأنّ وفاة النبيّ عيسى عليه‌السلام ورفعه إلى السماء حدثا بشكلٍ يختلف عمّا نحن على علمٍ به، وهذا الاعتقاد يضاهئ اعتقادنا بخلقة آدم وحواء عليهما‌السلام بشكلٍ يختلف عن المتعارف في خلقة سائر البشر، وكذلك اعتقادنا بولادته من أمٍّ عذراء[1].

المبحث الخامس: التفسير الاستشراقيّ للآيات القرآنيّة الدالّة على موت النبيّ عيسى عليه‌السلام:

أشار القرآن الكريم إلى موت النبيّ عيسى عليه‌السلام في آيات عدّة، لذا اتّخذها بعض المستشرقين مرتكزًا لإثبات عقيدتهم القائلة بموته؛ وهو على الصليب، أو بعد مدّةٍ من صلبه؛ فهذه التلميحات القرآنيّة برأيهم تُعدّ دليلًا واضحًا على عدم إنكار القرآن موته على ضوء إشارته إلى أنّ هذا الأمر قد طرأ عليه في الماضي؛ ما يعني تأريخيّة موته.

وفي ما يلي نذكر تفاصيل البحث ضمن الآيات المقصودة:

1) الآية 33 من سورة مريم:

قال -تعالى-: (وَٱلسَّلَٰمُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [2]. كما أشرنا آنفًا فالنبيّ عيسى عليه‌السلام يبارك في هذه الآية ولادته وموته وبعثه.

(129)

ويستنتج المستشرق نيل روبنسون، بناءً على تأثّره بعقيدته المسيحيّة القائمة على موت المسيح مصلوبًا، وعلى ضوء ما ذكر في عدد من الروايات التي روي فيها أنّه مات لعدّة أيامٍ وساعاتٍ، أنّه قد مات في الماضي، ولا صوابيّة لقول من يقول إنّه سيموت في آخر الزمان؛ وبعد أنْ قارن هذه الآية مع الآية 15 من السورة ذاتها والتي أشارت إلى موت النبيّ يحيى عليه‌السلام؛ ادّعى أنّ موت المسيح كان على غرار موت هذا النبيّ؛ أي أنّه حدث في الماضي[1].

وممّا أكّد عليه في هذا الصدد أنّ الآيات اللاحقة للآية 33 تدلّ على المضمون ذاته؛ لكونها تتحدّث عن الحشر والقيامة، وهذه الآية تتحدّث بدورها عن بعثه مستقبلًا في يوم القيامة؛ كما ادّعى أنّ القرآن الكريم ليست فيه أدنى إشارةٍ إلى موت المسيح عليه‌السلام مستقبلًا[2].

واعتبر غابريال سعيد رينولدز معجزة المسيح عليه‌السلام وهو في المهد تستبطن تلويحًا إلى أنّ موته على غرار موت سائر الناس[3]، وبطبيعة الحال لا ضير في قوله إنّ الآية في صدد بيان كون المسيح كسائر البشر؛ لأنّ كلامه المذكور في الآية يُعدّ تتمّةً لأوّل كلامٍ له حينما كان في المهد[4] والذي أخبر الناس فيه أنّه عبدٌ من عباد الله -تعالى-: (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ)، لذا فإنّ -قوله-: (وَٱلسَّلَٰمُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدتُّ) يشير إلى أنّ ولوجه في الحياة الدنيا حدث ضمن مسيرةٍ نزيهةٍ وقويمةٍ ملؤها العفاف والطهارة، حيث أراد من ذلك تنزيه أمّه من تهمة الفحشاء والمنكر التي طالتها، وقوله: (وَيَوْمَ أَمُوتُ) يحكي عن مصيره المستقبليّ. وفي الآية 35 من السورة ذاتها[5] نزّه الله -سبحانه وتعالى- من أنْ يكون له ولدٌ، وأشار إلى قدرته على خلق كلّ شيءٍ بمجرّد أنْ يشاء ذلك. وعلى هذا الأساس، فالآية في مقام بيان أنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام؛ كسائر البشر، ومثل النبيّ يحيى عليه‌السلام الذي تحدّثت عنه الآية 15 من هذه السورة[6]، ونقلت سلام الله عليه حين ولادته وموته وبعثه؛ لذا نستنتج منها أنّه ليس ابنًا لله -تعالى-، وحاله حال سائر أقرانه البشر في طيّ ثلاث مراحل؛ هي: الولادة، والموت، والبعث.

(130)

ومن البديهي أنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام يموت لكونه ليس أزليًّا؛ مثل: الله -سبحانه وتعالى-، لكنْ لا نعلم زمان موته من فحوى الآية المذكورة، فهي تتضمّن الفعل المضارع "أموت" الذي لا يمكننا تحديد المستقبل القريب أو البعيد من دلالته دون قرينة، فضلًا عن وجود احتمال بأنّه قد مات في الزمان الماضي، فهذا الاحتمال لا يقلّ شأناً عن احتمال موته مستقبلًا؛ كذلك ليس هناك ما يدلّ على كون الآية تثبت صلبه بذاته دون غيره؛ وذلك لأنّ الصلب قتل وليس موتًا[1].

ويؤكِّد محيي الدين بن عربي على أنّ المسيح عيسى بن مريم ألقى بالسلام على نفسه؛ قائلاً (وَيَوْمَ أَمُوتُ)؛ لكي يفنّد مزاعم من افترى عليه وادّعى أنّه قُتِل، لذا لم يقلْ (يوم أُقتل)؛ أي أنّه قصد تكذيب قولهم: (إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ)[2]، وهذه الآية تشير بوضوحٍ إلى أنّه سوف يموت موتًا طبيعيًّا وليس قتلًا[3].

إذًا، هذه الآية مع تصريحها بموت المسيح عليه‌السلام وبعثه، إلا أنّها لا تحدّد زمان موته، واستنتاج نيل روبنسون بكونه قد وقع في الماضي على غرار موت النبيّ يحيى عليه‌السلام، ليس سوى ادّعاءٍ بحتٍ؛ إذ لو أمعنّا النظر في الآيتين 15 و33 من سورة مريم سنلاحظ فيهما وجود ضربٍ من التشابه الطبيعيّ بين شخصيتَيْ هذين النبيَّيْن، فكلاهما خلقا في مجرًى يختلف عمّا هو متعارَفٌ في حياة البشر، لأنّ يحيى ولد من أبٍ طاعنٍ في السنّ وأمٍّ عاقرٍ، والمسيح ولد من أمٍّ عذراء، وكلاهما على مرتبةٍ عليا من طهارة النفس والرأفة بالوالدين والتواضع والطاعة التامّة لله -تعالى-، وكلاهما نال مقام النبوّة في سنّ الطفولة[4].

(131)

وهذه الآيات؛ كما هو ظاهرٌ في ألفاظها وتعابيرها، تشير إلى أنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام يذوق طعم الموت؛ حاله حال سائر البشر، لكنّها لم تذكر زمان حلوله، وما إنْ كان قد حدث في الماضي أو سيحدث مستقبلًا.

مضافًا إلى ما ذُكِرَ لو قارنّا بين سلام الله -تعالى- على يحيى: (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ) وسلام عيسى على نفسه: (وَٱلسَّلَٰمُ عَلَىَّ)، فالنتيجة المنطقيّة للمقارنة بين بقيّة مضمون الآيتين هي وجود اختلافٍ بين ولادة كلّ واحدٍ منهما، واختلاف موت عيسى عن يحيى وسائر البشر؛ فكلاهما ولد من أمٍّ لكنّ ولادة النبيّ عيسى عليه‌السلام كانت خارجة عن القوانين الحاكمة على حياة البشر؛ لكونها حدثت بنفخٍ من الله -تعالى-، لذا ما الضير في كون موته -أيضًا- مختلفًا عن موت النبيّ يحيى عليه‌السلام وسائر البشر؟!

ويتبنّى يوسف درّة الحدّاد رؤيةً إزاء هذه الآية تختلف عمّا ذهب إليه سائر المستشرقين، فقد تطرّق إلى تفسير مضمونها بوصفه قسّيسًا ملتزمًا بتعاليم دينه المسيحيّ. والمثير للدهشة أنّه طرح في بادئ الأمر مسألة أفضليّة النبيّ عيسى عليه‌السلام على سائر الأنبيّاء والرسل، ثمّ تحدّث عن موته؛ وفي هذا السّياق ادّعى أنّ السلام الذي ذُكِرَ بشأنه في ثلاث مراحلَ مختصٌّ به فقط، ولدى إثباته تأريخيّة صلبه قال إنّ القرآن أشار تصريحًا مرّتين وتلميحًا مرّتين -أيضًا- إلى موته وقتله، قبل أنْ يشير إلى ذلك في سورة النساء.

وقول المسيح عليه‌السلام: (وَيَوْمَ أَمُوتُ) برأي الحدّاد يدلّ على موته وبعثه الحقيقيّين؛ أي  إنّهما يشابهان مراد القرآن من الولادة في هذه الآية، أي التي تحقّقت على أرض الواقع؛ لذا فالإشارة إلى موته -هنا- تعني الموت الذي تحقّق في واقع الحال بعد الولادة، والله -تعالى- هو الذي أنهى حياته؛ وهذا الأمر يشابه ما ذكره القرآن بشأن النبيّ يحيى.

إذًا، كما أنّ يحيى مات، فالمسيح مات -أيضًا- برأي يوسف درّة الحدّاد[1].

والردّ على هذا الاستدلال هو النقض ذاته الذي قرّرناه بالنسبة إلى ما ادّعاه نيل روبنسون، فضلًا عن أنّ هذه الآية ليست بصدد بيان ما إنْ كان موت هذين النبيَّيْن حقيقيًّا أو مجازيًّا، فغاية ما تدلّ عليه هو أنّهما يموتان كما يموت كلّ إنسانٍ، أي من الممكن أن يموت المسيح بأيّ

(132)

شكلٍ كان؛ سواءً جرّاء صلبه -برأي يوسف درّة الحدّاد- أو بعد ذلك، أو حتّى في آخر الزمان وقبل وقوع القيامة الكبرى.

والسلامان المذكوران في الآيتين 15 و33 من سورة مريم اعتبرهما الحدّاد حادثتين تأريخيّتين متشابهتين، فكما أنّ النبيّ يحيى عليه‌السلام لم يتكلّم مع الناس بشكلٍ مجازيٍّ، كذلك النبيّ عيسى عليه‌السلام؛ وكذا هو الحال بالنسبة إلى موت الأخير، فهو حقيقيٌّ قد حدث؛ وبالتالي ليس من المنتظر أنّه سيتحقّق في آخر الزمان وقبل وقوع القيامة[1].

والسؤال الذي يُطرح على الحدّاد بخصوص ما ذكر؛ هو: هل إنّ موت النبيّ عيسى عليه‌السلام في زمانٍ لاحقٍ لحادثة الصلب يُعدّ وازعًا لادّعاء أنّه موتٌ غيرُ حقيقيٍّ؟ لا ريب في أنّ هذا التفسير قائمٌ على تكلّفٍ واضحٍ، وينمّ عن عمق تأثّر قائله بالفرضيّات الإيديولوجيّة المرتكزة في ذهنه، ومن ثمّ عدم تورّعه عن تحميلها على النصّ القرآنيّ، حيث ادّعى أنّ القول بعدم موت المسيح على الصليب يستلزم القول ببطلان نظريّة تكلّمه وهو في المهد؛ أي تكذيب معجزته؛ لأنّه حينما تكلّم وهو طفلٌ أكّد للقوم بكون الموت مصيره، لذا إنْ ادّعى أحد أنّ موته سيقع في آخر الزمان؛ فهذا يعني عبثيّة كلامه لمن حوله، فالناس ليسوا على علم بالزمان الذي سيعودون فيه[2].

لقد أكّدنا -آنفًا- على أنّ الآية ليست في مقام بيان طبيعة موت المسيح عليه‌السلام وزمان وقوعه، فهي -فقط- بصدد بيان أنّه كسائر بني آدم؛ يولد، ويموت، ثمّ يبعث؛ كذلك هي ليست في مقام بيان كيفيّة ولادته، وموته، وبعثه، بل تؤكّد على أنّه أخبر الناس بعدم ألوهيّته، وعدم بنوّته لله عزّ وجلّ.

وقد أراد يوسف درّة الحدّاد من هذا الكلام إثبات عقيدة الصلب والبعث المسيحيّة من باطن الآية القرآنيّة، لكنّه لم يُفلح ولم يستطع إثبات المطلوب؛ وممّا قاله في هذا الصدد: «هذه الآية تعدّ شاهدًا صريحًا على حقيقة موت المسيح وبعثه بإعجازٍ، وهذا هو نفس المعتقد المرتكز في الفكر المسيحيّ»[3].

(133)

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الآية في الحقيقة تشير إلى بعث النبيّ عيسى عليه‌السلام في عالمٍ آخرَ، لا في الحياة الدنيا؛ كما يتصوّر المسيحيّون، والآيات اللاحقة لها تؤيّد ذلك، وهو ما أكّد عليه نيل روبنسون أيضًا؛ فالآية 37 من السورة ذاتها تطرّقت إلى الذين اختلفوا في المسيح وذكرت مصيرهم المشؤوم في يوم القيامة: (فَٱخْتَلَفَ ٱلْأَحْزَابُ مِنۢ بَيْنِهِمْ ۖ فَوَيْلٌۭ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، والآية 38 أكّدت على هذا المصير وحتميّة انجلاء الغبش عمّا اختلفوا فيه ومعرفته سمعًا ورؤيةً: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ۖ لَٰكِنِ ٱلظَّٰلِمُونَ ٱلْيَوْمَ فِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍۢ)، والآية 39 طلبٌ من النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنْ ينذرهم من ذلك اليوم الذي لا رجعة لهم فيه؛ لكون الحكم الإلهيّ سيصدر بشأنهم حينه: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ ٱلْأَمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍۢ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ).

والرأي الآخر الذي استنتجه الحدّاد من هذه الآية هو دلالتها على أفضليّة المسيح عليه‌السلام على سائر الأنبيّاء والمرسلين، وهذا الاستنتاج غير صائبٍ طبعًا؛ لأنّ الآية 15 من السورة نفسها ذكرت السلام على النبيّ يحيى عليه‌السلام بصيغةٍ خبريةٍ: (وَسَلَٰمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّۭا). كما هو واضحٌ من ظاهر الآية؛ فالسلام فيها ذُكِرَ على لسان الله -عزّ وجلّ-، لا على لسان يحيى؛ كما هو الحال في سلام عيسى على نفسه، ومن هذا المنطلق يمكن اعتباره دليلًا على مكانته الرفيعة التي تفوق مكانة عيسى عند الله، لذا لا صوابيّة لما ادّعاه الحدّاد[1].

2) الآية 17 من سورة المائدة:

ألقت مسألة تأريخيّة موت النبيّ عيسى عليه‌السلام في العقيدة المسيحيّة، بظلالها على تفسير المستشرقين للآية 17 من سورة المائدة: (لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ ۚ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْـًٔا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُۥ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًۭا ۗ وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌۭ).

ويؤكدِّ المستشرق غابريال سعيد رينولدز على أنّ صلب المسيح عليه‌السلام يُعدّ من الحقائق التأريخيّة الثابتة التي لا شكّ ولا ترديد فيها، وعلى هذا الأساس فسّر الآية قائلًا: «هذه الآية تلوّح إلى أنّ موت النبيّ عيسى عليه‌السلام؛ كموت سائر البشر، أي أنّه بواسطة الله»[2].

(134)

وارتكز رينولدز لدى تفسيره الآية على فكرة أنّ المسيح عليه‌السلام مات مصلوباً، لذلك ادّعى أنّها تؤيّد هذه العقيدة المسيحيّة؛ لكن يرد عليه أنّ استدلاله يتعارض مع السّياق الذي ذُكِرَت الآية في رحابه، ولا يتناغم مع الأصول اللغويّة والنحويّة الموجودة فيها، لذا لا صوابيّة لما قاله؛ وبالتالي لا صحّة لادّعاء أنّها تؤيّد موت المسيح مصلوبًا.

وتؤكِّد الآيات التي سبقت هذه الآية على ضرورة الوفاء بالعهد والميثاق[1]، وتشير إلى الميثاق الذي أخذه الله -سبحانه وتعالى- من بني إسرائيل، وكيف إنّه وعدهم بأجرٍ عظيمٍ في ما لو التزموا بالأحكام الشرعيّة، لكنّهم إن لم يلتزموا سوف يطالهم عذاب أليم[2]، والآية 13 أشارت إلى نقضهم هذا الميثاق وتحريفهم كلام الله -تعالى-[3]. وأمّا الآية 14 فقد ذكّرت بالميثاق الذي أخذه الله -تعالى- من النصارى الذين لم يلتزموا به[4]، والآية 15 دعت أهل الكتاب إلى اتّباع خاتم الأنبيّاء والمرسلين محمّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله [5]؛ بينما الآية 17 تمّ التأكيد فيها على أنّ أهل الكتاب تنصّلوا -أيضًا- ممّـا أُقرّ لهم من معتقداتٍ وسلكوا نهج الكفر؛ بتأليههم المسيح عليه‌السلام، حيث زعموا أنّه ابن الله وثالث ثلاثةٍ. وجدير بالذكر، أنّ تكرار لفظ الجلالة في هذه الآية أربع مرّاتٍ يدلّ على أنّ محورها الارتكازيّ هو التوحيد، وتفنيد جميع أنماط الشرك.

وهناك دليلان ساقتهما الآية لتفنيد ألوهيّة المسيح عيسى عليه‌السلام؛ هما:

أ- هو ابن السيّدة مريم عليها‌السلام، والإله يجب ألّا يكون ابنًا.

إنّ هذه القاعدة الارتكازيّة يبطل على أساسها أمران؛ أحدهما: غلوّ المسيحيّين المتطرّفين الذين ألّهوا النبيّ عيسى عليه‌السلام، والأخرى: تطرّف اليهود ومبالغتهم في اتّهامه بأنّه ابن زنا.

(135)

ب- المسيح وأمّه لا يملكان من الأمر شيئًا ومصيرهما الموت، وهما عبدان مملوكان لله عزّ وجلّ، فهو الذي خلقهما، لذلك لديهما قابليّاتٌ محدودةٌ؛ في حين أنّه -تبارك شأنه- مالك كلّ شيءٍ وخالقه، ولا حدّ لقدرته.

وكلمة "شَيئاً" في هذه الآية وردت بصيغة التنكير، وضمن سياق النفي في نهاية عبارةٍ؛ بصيغة الاستفهام الإنكاريّ، وهذا الأسلوب يدلّ على أنّ الملك لله وحده ولا مالك غيره، وبما أنّ المسيح وأمّه لا يملكان من الأمر شيئًا ومصيرهما الموت لا محالة، فهما ليسا بإلهين، بل هما كسائر البشر؛ من حيث كونهما مفتقرين إلى ربٍّ يحييهما ويميتهما متى ما شاء.

إذًا، هذه الآية بصدد بيان أنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام خاضعٌ للقانون العامّ الحاكم على البشر؛ ألا وهو الموت المحتوم؛ وهذا المصير إمّا أنْ يكون قد حلّ عليه بالفعل، أو أنّه سيحلّ عليه آجلًا، وفي كلا الحالتين يصدق عليه أنّه عُرضةٌ للموت.

قوله -تعالى-: (وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًۭا) فيه تأكيدٌ على نفي ألوهية النبيّ عيسى عليه‌السلام واعتباره إنسانًا كسائر البشر.

بعد ذلك ذكّر الله -عزّ وجلّ- بني آدم بأنّه قادرٌ على أن يخلق كلّ شيء: (يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ)؛ ما يعني نفي ألوهيّة هذا النبيّ أيضًا؛ وختمت الآية بقوله -تعالى-: (وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ)؛ وهذا الكلام -أيضًا- يستبطن تأكيدًا على الأمر ذاته؛ وذلك ضمن بيان عدم محدوديّة قدرة الربّ تبارك شأنه؛ إذًا ليس هناك إلهٌ سوى الله -تعالى-، والألوهيّة ليست شأنًا لأيّ كائنٍ كان -وبما في ذلك المسيح-، وفي الآية اللاحقة فنّد القرآن الكريم مزاعم اليهود والنصارى بعد أن تجرّأوا وقالوا نحن أبناء الله وأحبّاؤه[1].

وبعد هذا البيان، هناك سؤالٌ هامٌّ يُطرَح على غابريال سعيد رينولدز، وهو: أيّ عبارةٍ من الآية المذكورة تدلّ على أنّ المسيح عيسى عليه‌السلام قد مات في الماضي؟ لا يختلف اثنان في أنّ غاية ما يدلّ عليه قوله -تعالى-: (أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُۥ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًۭا...) هو التأكيد على عدم صلاحيّة النبيّ عيسى عليه‌السلام لأنْ يكون إلهًا، فلو كان كذلك حقًّا؛

(136)

لما أمكن أن يحلّ عليه الموت؛ لكنّه في الواقع ليس سوى عبدٍ لو أراد الله -سبحانه وتعالى- أنْ يهلكه فهو لا يملك من الأمر شيئًا، ولا يمكنه الحيلولة دون هذا المصير المحتوم لكلّ إنسانٍ؛ لكونه خاضعًا للمشيئة الإلهيّة؛ وعلى هذا الأساس نقول إنّ هذه العبارة لا تحكي مطلقًا عن موته في الماضي حينما صلب.

والمستشرق جفري بارندر هو أحد المستشرقين الذين اعتبروا هذه الآية ردًّا على نصارى نجران بهدف تفنيد معتقدهم في ألوهيّة عيسى بن مريم عليهما‌السلام، لكنّه مع ذلك لم يتمكّن من تجريد نفسه عن معتقداته المسيحيّة؛ الأمر الذي جعله يسلك ذات المسلك الذي اتّبعه غابريل سعيد رينولدز؛ لذلك فسّر الآية قائلاً: «الربّ لا يمكن أنْ يموت، في حين أنّ عيسى عليه‌السلام مات، حيث يعتقد المسيحيّون أنّه صلب، لذا يثبت أنّه إنسانٌ كسائر البشر؛ لكونه مات حقًّا؛ بحسب العقيدة المسيحيّة. المسيح ليس الله، لأنّ الله قادرٌ على إهلاكه لو شاء ذلك»[1]. والجزء الأخير من هذا الكلام ينطبق -فقط- على مضمون الآية، بينما جزؤه الأوّل ليس سوى انعكاسٍ لعقيدته المسيحيّة التي حمّلها على الآية، فهو في الحقيقة حمّل رأيه على النصّ القرآنيّ.

وجدير بالذكر أنّ نصارى نجران كانوا يعتبرون المسيح إلهًا، وقوله -تعالى-: (قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْـًٔا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُۥ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًۭا) فيه تأكيدٌ على أنّ الله -عزّ وجلّ- قادرٌ على إهلاك المسيح وأمّه إنْ اقتضت مشيئته ذلك، لذا لا صوابيّة لاستنتاج من استدلَّ بهذا المقطع من الآية للقول بأنّ المسيح قد مات في الماضي.

فالآية في صدد تغيير الرؤية المسيحيّة؛ عبر تعريف النبيّ عيسى عليه‌السلام بأنّه مجرّد عبدٍ من عباد الله -تعالى-، وليست في مقام بيان زمان موته، وقولُه -تعالى-: (وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًۭا) معطوفٌ على -قوله-: (ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُۥ)؛ حيث يراد منه إثبات أنّ المسيح وأمّه من جنس البشر في شتّى أرجاء الأرض، إذ لا فرق بينهم في كونهم خلقوا من قِبَل الله -تعالى-[2].

(137)

3) الآية 75 من سورة المائدة:

غالبيّة المستشرقين يعتقدون بأنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام قد مات مصلوبًا، لذلك تشبّثوا بكلّ نصٍّ فيه إشارةٌ أو تلميحٌ إلى موته؛ كي يستدلّوا به لإثبات رأيهم هذا، وبما في ذلك الآية 75 من سورة المائدة (مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌۭ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُۥ صِدِّيقَةٌۭ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ ٱلطَّعَامَ ۗ ٱنظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلْءَايَٰتِ ثُمَّ ٱنظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ).

وقال غابريال سعيد رينولدز إنّ عيسى بن مريم؛ طبقًا لهذه الآية مجرّد نبيًّ قد بُعِثَ قبله أنبيّاء آخرون وماتوا؛ ما يعني أنّه قد مات مثلهم[1].

وكذلك حذا نيل روبنسون؛ حذو رينولدز، حيث قارن هذه الآية مع الآية 144 من سورة آل عمران[2]؛ ليستنتج من هذه المقارنة أنّ المسيح عليه‌السلام قد مات في الماضي حقًّا، أي أنّ موته عبارةٌ عن حدثٍ تأريخيٍّ[3].

واتّخذ جفري بارندر هو الآخر الآية ذريعةً لإثبات عقيدته المسيحيّة القائمة على أنّ المسيح عليه‌السلام قد مات مصلوبًا، وبعد أنْ نقل كلامًا لريتشارد بيل، قال: «المسيح؛ استنادًا إلى مضمون هذه الآية، ليس سوى نبيًّ بُعِثَ قبله أنبيّاء آخرون ماتوا، وهو -أيضًا- قد مات مثلهم»[4].

(138)

وحينما نمعن النظر في تعابير الآية ونتابع السّياق الذي ذُكِرَت فيه، نستنتج عدم صوابيّة رأي من استدلّ على موت النبيّ عيسى عليه‌السلام من مضمونها، فهناك ثلاث آياتٍ قبلها أكّدت على بطلان المعتقدات المسيحيّة في هذا الخصوص، وبيان ذلك في ما يلي:

أ- الآية 72 فنّدت زعم من ادّعى أنّ عيسى عليه‌السلام ابن الله، وأكّدت على أنّه مجرّد عبدٍ من عباده (لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ ۚ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْـًٔا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُۥ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًۭا ۗ وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌۭ). فعبارة: (ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ) واضحة الدلالة على أنّه مخلوقٌ لكونه ابنًا ولدته امرأةٌ، والإله ليس كذلك.

ب- الآية 73: (لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلَٰثَةٍۢ ۘ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّآ إِلَٰهٌۭ وَٰحِدٌۭ ۚ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) تحكي عن اعتقاد بعض النصارى بالتثليث، حيث فنّده القرآن الكريم وتوعّدهم بعذابٍ أليمٍ.

ج- الآية 74: (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُۥ ۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌۭ) طالبتهم بالتوبة والاستغفار من هذه العقيدة الباطلة.

ومن ثمّ فالآية 75 أشارت إلى إحدى الخصائص البشريّة للمسيح عيسى بن مريم عليهما‌السلام، ورفضت زعم من ادّعى أنّه إلهٌ.

إذًا، هذه الآية في مقام تفنيد ألوهية النبيّ عيـسى عليه‌السلام والتأكيد على الطبيعة البشريّة له ولأمّه السيّدة مريم عليها‌السلام، فهو إنسانٌ يموت؛ كما يموت البشر، لكنْ غاية ما في الأمر أنّه كان نبيًّّا وأنّ أمّه كانت صدّيقةً عفيفةً.

والمسيح وأمّه مثل غيرهما من الناس، يأكلان الطعام، وبحاجة إلى ما يحتاجه سائر الناس؛ كي يبقيا على قيد الحياة، وقد نوّهت الآية على هذه الحقيقة بهدف تفنيد ألوهيّته، ونقض كلّ عقيدةٍ متطرّفةٍ تجاهه وتجاه أمّه، ومن جملة ما قاله الزمخشري في هذا السّياق: «... (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ ۚ) صفة لرسولٍ؛ أي ما هو إلا رسولٌ من جنس الرسل

(139)

الذين خَلَوْا من قبله، جاء بآيات من الله؛ كما أتوا بأمثالها أنْ أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى على يده، فقد أحيا العصا وجعلها حيةً تسعى وفلق بها البحر وطمس، على يد موسى، وأنْ خلقه من غير ذَكَرٍ، فقد خلق آدم من غير ذكرٍ ولا أنثى.

(وَأُمُّهُۥ صِدِّيقَةٌ)؛ أي وما أمّه -أيضًا- إلا صدّيقةٌ؛ كبعض النساء المصدّقات للأنبيّاء المؤمنات بهم، فما منزلتهما إلا منزلة بشريْن؛ أحدهما: نبيٌّ، والآخر: صحابيٌّ؛ فمن أين اشتبه عليكم أمرهما حتّى وصفتموهما بما لم يوصف به سائر الأنبيّاء وصحابتهم، مع أنّه لا تميّز ولا تفاوت بينهما وبينهم بوجه من الوجوه؟

ثمّ صرّح ببعدهما عمّا نسب إليهما في قوله: (كَانَا يَأْكُلَانِ ٱلطَّعَامَ)؛ لأنّ من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنفض، لم يكنْ إلا جسمًا مركَّبًا من عظمٍ ولحمٍ وعروقٍ وأعصابٍ وأخلاطٍ وأمزجةٍ مع شهوةٍ وقرمٍ وغير ذلك؛ ما يدلّ على أنّه مصنوعٌ مؤلَّفٌ مدبَّرٌ؛ كغيره من الأجسام»[1].

وختمت الآية بقوله -تعالى-: (ٱنظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلْءَايَٰتِ ثُمَّ ٱنظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ). ومضمون هذا الكلام أنّ الله -عزّ وجلّ- قدّم لهم أوضح الأدلّة والبراهين؛ لتفنيد ألوهيّة المسيح عليه‌السلام؛ ومن ذلك: ما ذكره في الآية نفسها، فهو وأمّه يأكلان الطعام، في حين أنّ الربّ غنيٌّ عن كلّ شيءٍ، وليس بحاجة إلى أن يتغذّى مطلقًا، فكيف يمكن للعقل أن يؤمن بكون الإنسان المفتقر للطعام إلهًا؟!

وأكّدت الآيات اللاحقة لهذه الآية هي الأخرى على أنّ الألوهيّة مختصّةٌ بالله -سبحانه وتعالى- ولا يمكن لأيّ كائنٍ آخرَ نيل هذا المقام بتاتًا، لذا فالآية ليست في صدد بيان موت النبيّ عيسى عليه‌السلام في الماضي، بل هدفها إثبات أنّه لا يختلف عن سائر الأنبيّاء والرسل؛ لكون مصيره المحتوم هو الموت، حيث حلّ عليهم الموت في نهاية حياتهم[2]؛ وتؤكّد الآية بصريح

(140)

العبارة على أنّه من جنس البشر ولا ينبغي لأحدٍ تأليهه؛ وبالتالي ليس من الصواب بمكانٍ الاستناد إليها لإثبات تأريخيّة موته؛ لأنّها في سياق بيان عدم كونه إلهًا. وأمّا قوله -تعالى-: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ) لا يمكن الاستدلال منه إلا على كون موت المسيح عليه‌السلام أمرًا ممكنًا لا مستحيلًا؛ إذ يراد منه ومن التأكيد على كونه ابنًا ولد من رحم السيّدة مريم عليها‌السلام بأنّهما كانا مفتقريْن إلى الطعام. وقوله -تعالى-: (وَأُمُّهُۥ صِدِّيقَةٌۭ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ ٱلطَّعَامَ) يُراد منه تفنيد عقيدة تأليهه وأمّه؛ بوصفهما بشرًا بحاجةٍ إلى الطعام؛ كي يبقيا على قيد الحياة.

وبناءً على ما ذُكِرَ يبطل رأي رينولدز الذي ادّعى على أساسه وجود نقصٍ في تفسير المسلمين للنصّ القرآنيّ وخللٍ في أسلوبهم التفسيريّ، بل هذا النقص يرد في الحقيقة على تفسيره وأسلوبه التفسيريّ؛ فقد زعم أنّ السبب في وقوع المفسّرين المسلمين في أخطاء تفسيريّةٍ لدى بيانهم مدلول الآيتين 157 و158 من سورة النساء يعود إلى رؤيتهم المحدودة وضيق نطاق أفقهم الفكريّ[1]، لكنّ هذه المؤاخذة ترد عليه؛ لكونه تجاهل سياق الآية 75 من سورة المائدة، وتبنّى رؤية محدودة وأسلوبًا تفسيريًّا ضيّق النطاق، بعد أن استدلّ منها على ما يثبت مرتكزاته العقديّة المسيحيّة؛ أي تأريخيّة موت النبيّ عيسى عليه‌السلام؛ حينما عُلِّقَ على الصليب.

إنّ الاستنتاج الكلّيّ الذي يمكن تحصيله من الآيات التي تشير إلى موت النبيّ عيسى عليه‌السلام في سورة النساء، فحواه محوريّة هذه الآيات حول نفي ألوهيّته بأساليبَ متنوّعةٍ، فتارةً تؤكّد على خضوعه للمشيئة الإلهيّة؛ بحيث لا يملك الخيار في حياته وموته ولا في حياة أمّه وموتها، وتارةً أخرى تثبت عبوديّته لله -تعالى- وتنفي عقيدة التثليث وتنهى عنها.

4) الآية 144 من سورة آل عمران وطبيعة ارتباطها بالآية 75 من سورة المائدة:

اعتبرت الآية 144 من سورة آل عمران هي الأخرى من قِبَل المستشرقين دليلًا يثبت تأريخيّة صلب المسيح وموته: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌۭ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ ۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰٓ أَعْقَٰبِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْـًۭٔا ۗ وَسَيَجْزِى ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ).

(141)

ويقول غابريال سعيد رينولدز في تفسير هذه الآية إنّها نزلت بشأن النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وتؤكّد على بعثة أنبيّاء ورسل قبله، والعبارة: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ) في الآية 75 من سورة المائدة قد تكرّرت بذاتها في هذه الآية[1]؛ وأمّا نيل روبنسون فقد ادّعى أنّها تشير إلى موت النبيّ عيسى عليه‌السلام [2].

ونستشفّ من استنتاجات هذين المستشرقَين أنّهما تطرّقا إلى تفسير النصّ القرآنيّ؛ وفقًا لمرتكزاتهما الاعتقاديّة المسيحيّة، وهو ما ثبت لنا في المباحث السابقة، حيث اتّبعا النهج ذاته في تفسير العبارتين المشار إليهما، وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ روبنسون اعتنق الإسلام دينًا، لكنّه على الرغم من ذلك لم يتخلّ بالكامل عن خلفيّاته الدينيّة المسيحيّة في التعامل مع الآيات القرآنيّة.

وحينما نسلّط الضوء على مضمون الآية والسّياق المرتبط بها، يتبيّن لنا أنّ مراده -تعالى- من قوله: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ) لا يتناسب مع ما طرحه رينولدز وروبنسون من تفسير، فهذه العبارة في كلا الآيتين لا تدلّ على ما ادّعاه الأوّل؛ بكونها تثبت موت النبيّ أو قتله، كذلك لا يمكن الاعتماد عليها لادّعاء صلب المسيح أو موته.

ونستشفّ من ظاهر الآية ومن واقع الحياة الاجتماعيّة بأسرها أنْ لا وجود لنبيّ بقي بين قومه إلى الأبد، ومن هذا المنطلق استدلّ بعض المفسّرين المسلمين من ظاهرها على موت جميع الأنبيّاء[3]؛ إلا أنّ المسألة التي تُطرَح في رحابها؛ فحواها أنّ كلمة (خَلَتْ) لا تعني الموت، فهي مشتقّةٌ من الخلوّ الذي يعني الانتهاء والمضي ومرور الزمان، والموت ليس ملازمًا لهذا المعنى[4]. أضف إلى ذلك فحرف التعريف "الـ" في كلمة (ٱلرُّسُلُ) ليس للاستغراق، بل للجنس؛ لكون الاستغراق ليس له ارتباطٌ بالمطلوب إثباته -هنا- والآية في صدد بيان وجود أنبيّاء قبل النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قد ولّى عهدهم؛ وذلك لأنّ دين الله ليس قائمًا على أشخاصٍ؛ وكما ذكرنا -آنفًا- فهذه العبارة بذاتها ذُكِرَت في الآية 75 من سورة المائدة، لذا إنْ قيل: أنّ "الـ""في هذه الآية للاستغراق، فلا محيص من تفسيرها؛ كما يلي: قد خلت الرسل جميعًا قِبل المسيح، وسوف لن يُبعث نبيٌّ بعده.

(142)

إذًا، هذه الآية لا تتعارض مع القول بكون بعض الأنبيّاء أحياءً، وذلك لما يلي:

أ- أنّها تشير إلى أنّ الأنبيّاء قد رحلوا من بين أقوامهم، لذا فهي تعمّ من مات منهم ومن يحتمل بقاؤه حيًّا، لكنّه ليس بين قومه.

ب- حتّى لو افترضنا أنّ كلمة (خَلَتْ) يراد منها الموت، أو قلنا إنّ القرآن الكريم قد صرّح في موضعٍ آخرَ بموت جميع الأنبيّاء؛ ففي هذه الحالة يمكن استثناء أحدهم أو حتّى بعضهم من ذلك.

ومن البديهي أنّ استثناء شخصٍ أو عدّة أشخاصٍ من أحد الألفاظ العامّة لا يُعدّ سببًا لنقض دلالة هذا اللفظ؛ ما دام غيرَ مؤثّرٍ في تغيير المعنى العامّ لهذا اللفظ، وهذه الحالة نلمسها جليّةً في اللغة العربيّة ومختلف الحوارات الشائعة بين البشر، إذ إنّ المفهوم الشامل الذي يجري على الألسن -غالبًا- ما تخرج من نطاق مدلوله مصاديق عدّة؛ بوصفه حكمًا عامًّا.

ونستنتج من هذا التقرير الموجز أنّ كلمة (خَلَتْ) في الآية قد تدلّ على موت جميع الأنبيّاء السالفين؛ باستثناء واحدٍ أو أكثرَ، وهذه الدلالة لا تنمّ عن أيّ تناقضٍ مطلقًا؛ لكونها تستبطن حكمًا عامًّا قوامه أنّ الغالبيّة العظمى من الأنبيّاء قد ماتوا؛ وهذا المعنى متعارفٌ في اللغة وشائعٌ في الحوارات العرفيّة قاطبةً، وكما هو معلومٌ فالقرآن الكريم اتّبع الأسلوب العرفيّ العربيّ في الخطاب.

ج- حتّى وإنْ اعتبرنا كلمة (خَلَتْ) في الآية تدلّ على الموت، فهذا المعنى لا يُعدّ تأييدًا لما ادّعاه رينولدز وروبنسون، إذ نستفيد من مضمون الآية في هذه الحالة أنّها في مقام نفي استحالة موت الأنبيّاء، وهذا الأمر قطعًا يصدق على النبيّ عيسى عليه‌السلام أيضًا؛ وعلى هذا الأساس يكون معناه أنّ الله اختاره للنبوّة، وقد خلا من قبله أنبيّاء أتمّوا رسالاتهم وماتوا، وبعضهم قتلوا، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كسائر الأنبيّاء السابقين؛ لكونه سيموت، فالموت ليس مستحيلًا بالنسبة إليه[1].

إذًا، موضوع الآية يتمحور -فقط- حول بيان عدم استحالة موت الأنبيّاء، وهي ليست في مقام الاستدلال على موتهم؛ بالاضافة إلى أنّها في سياق تلك الآيات التي تطرّقت إلى الحديث عن موقعة أُحد والأحداث التي رافقتها، ولا سيّما تزعزع المسلمين، حيث أنّبتهم على موقفهم

(143)

هذا، وأكّدت لهم بأنّ النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله رسولٌ وواسطةٌ يبلغهم دين الله -تعالى- وعلى غرار سائر الأنبيّاء والمرسلين السابقين الذين بعثوا وانتهى عهدهم؛ لذا لا ينبغي لهم التزعزع عن دينهم في ما لو مات أو قتل.

والآية لا تقصد مطلقًا إثبات ما إنْ كان الأنبيّاء السابقون قد ماتوا جميعًا أو لا، ولا يراد منها التأكيد على رفع بعضهم إلى السماء؛ مثل: إلياس، وعيسى عليهما‌السلام، وعلى هذا الأساس لا صوابيّة للاستدلال المطروح من قِبَل رينولدز وروبنسون، إذ لا يمكن الاستدلال منها على موت المسيح عليه‌السلام في الماضي؛ بداعي شمولها له ضمن إشارتها إلى موت جميع الأنبيّاء الذين سبقوه.

5) الآية 54 من سورة آل عمران:

ونصّ الآية 54 من سورة آل عمران هو: (وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ ۖ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَٰكِرِينَ). وقد تطرّقنا في المباحث الآنفة إلى ذِكْر آراء بعض المستشرقين في تفسير هذه الآية[1]، لذا، نكتفي -هنا- بذِكْر سائر آرائهم في هذا الصدد.

وقد أكّدنا -أيضًا- على أنّ يوسف درّة الحدّاد يتمسّك بكلّ ما من شأنه إثبات تأريخيّة صلب المسيح عليه‌السلام وقتله، لذا ادّعى أنّ مضمون هذه الآية يوحي بذلك، وممّا قاله تأييدًا لرأيه هذا: «نستشفّ من سياق الآيات 54 إلى 56 من سورة آل عمران أنّ اليهود قد مكروا بالمسيح وقتلوه، لكنّ الله مكر بهم، فأماته، ورفعه إلى السماء، فهو خير الماكرين»[2].

وجدير بالذكر أنّ قراءة هذا المستشرق للآية تتعارض بالكامل مع القراءة المطروحة من قِبَل المفسّرين المسلمين، حيث اعتبروا مكر الله -تعالى- يتمثّل في إحباط مساعي اليهود الرامية إلى قتل النبيّ عيسى عليه‌السلام وصلبه، ومن ثمّ إنقاذه من براثنهم، فهو كسائر الأنبيّاء السابقين قد واجه عداءً من قومه، حيث تعاملوا معه بقسوةٍ وضغينةٍ؛ كما أنّه سار على نهج أسلافه الأنبيّاء، والتجأ إلى الله؛ حينما واجه كيدهم، فوقاه -تعالى- هذا الكيد؛ بعزّته وحكمته؛ لأنّه أشدّ مكرًا منهم، وبمكره هذا أنقذه من كيدهم، وبشّره بما هو خيرٌ له.

والبشارة -هنا- هي رفعه إليه أو قبض روحه بموتٍ طبيعيٍّ، دون قتلٍ أو صلبٍ، ثمّ رفعه

(144)

إلى السماء، وقد وصفت الآية مكر الله بأنّه خيرٌ من مكر الكافرين، وقد تحقّق -هنا- في مقابل مكرٍ آخرَ، ضمن أسلوب غير متعارف؛ ومن أمثلته: خروج النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله خفية من مكّة ولجوئه إلى الغار، حيث أمر الله -تعالى- حمامةً بأنْ تجعل عشّها على باب هذا الغار؛ كي يموّه على المشركين؛ ومن أمثلته الأخرى: أصحاب الكهف الذين جعلهم يغطّون بنومٍ عميقٍ؛ كي يحفظهم من كيد أعدائهم.

ويوحي مكر الله -تعالى- في هذه الآية بتحقّق وعدٍ قطعه للنبيّ عيسى عليه‌السلام في الآية 55 من السورة ذاتها، حيث وعده بأنْ يتوفّاه ويرفعه إليه؛ حفظًا له من مكر الكافرين؛ وقد تحقّق ذلك بالفعل؛ بحيث لم يُقتَل ونجا من الصلب.

إذًا، كلام يوسف درّة الحدّاد باطل؛ لأنّ اليهود مكروا بالمسيح عليه‌السلام؛ لأجل أنْ يقتلوه، وعلى هذا الأساس، فإنّ مقتضى مكر الله -الذي هو في مقابل مكرهم- هو دحض مكرهم والحيلولة دون تحقيق أهدافهم؛ وفي غير هذه الحالة لا موضوعيّة لمكر الله هنا، إذ لو قتل المسيح حقًّا فما الفائدة منه؟! هذه الآية تنمّ بمضمونها عن معارضة الناس للنبيّ عيسى عليه‌السلام، وتحكي عن الإرادة الإلهيّة التي شاءت ألّا يطاله أذًى من جانب أعدائه.

6) الآيتان 87 من سورة البقرة و183 من سورة آل عمران:

يوسف درّة الحدّاد هو الباحث الوحيد الذي استند إلى هاتين الآيتين لإثبات صلب المسيح عليه‌السلام، وكما هو واضحٌ من كتاباته، فقد طرح الكثير من الاستنتاجات الجزئيّة من الآيات القرآنيّة، إلا أنّ ما استنتجه من هاتين الآيتين يختلف بالكامل عمّا طرحه سابقًا، بعد أنْ بالغ في تجاهل سياقهما واتّكأ على مرتكزاته الذهنية والعقديّة إلى أقصى حدّ؛ٍ لدرجة أنّه حمّل رأيه على القرآن الكريم بشكلٍ صريحٍ.

قال -تعالى- في سورة البقرة: (وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَٰبَ وَقَفَّيْنَا مِنۢ بَعْدِهِۦ بِٱلرُّسُلِ ۖ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدْنَٰهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ ۗ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌۢ بِمَا لَا تَهْوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًۭا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًۭا تَقْتُلُونَ)[1].

وقال في سورة آل عمران: (ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَآ أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ

(145)

يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍۢ تَأْكُلُهُ ٱلنَّارُ ۗ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌۭ مِّن قَبْلِى بِٱلْبَيِّنَٰتِ وَبِٱلَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ)[1].

وتوصَّل الحدّاد، على ضوء سعيه لإثبات معتقداته المترسّخة في ذهنه؛ وقوامها تأريخية صلب النبيّ عيسى عليه‌السلام وموته وهو على الصليب، إلى استنتاجٍ غيرِ مألوفٍ لدى تفسيره الآية 87 من سورة البقرة، حيث قال: «التقابل المطروح في هذه الآية حول موسى وعيسى نتيجته واضحةٌ، فالناس كذّبوا موسى وقتلوا عيسى، إذ لم تذكر سواهما؛ وقوله: (وَقَفَّيْنَا مِنۢ بَعْدِهِۦ بِٱلرُّسُلِ) يُراد منه إثبات وجود ارتباطٍ بينهما.إذًا، الآية تشير إلى مقتل عيسى»[2].

ثمّ صنّف الأنبيّاء بحسب مضمون هذه الآية إلى صنفين؛ هما:

أ- الأنبيّاء الذين كذّب الناس نبوّتهم دون أنْ يقتلوهم.

ب- الأنبيّاء الذين قتلهم الناس بعد أنْ كذّبوا نبوّتهم.

وأشار إلى أنّ الصنف الثاني عددهم قليلٌ، ومن جملتهم -بحسب زعمه- عيسى ويحيى وزكريا[3]؛ وقد تصوّر صوابيّة قراءته للآيات القرآنيّة بكلّ ثقةٍ وطمأنينةٍ؛ لدرجة أنّه اعتبر الآية 183 من سورة آل عمران أدلّ آيةٍ على مقتل المسيح عليه‌السلام[4]، لذلك صرّح قائلًا: «قطع الله ميثاقًا مع اليهود في التوراة بواسطة موسى فحواه تقديم قربانٍ من المواشي، وكلّ أنبيّاء الكتاب كانوا على شريعته؛ ويفيد المدلول القرآنيّ أنّ المسيح هو النبيّ الوحيد الذي جاء بأدلّةٍ واضحةٍ (بيّناتٍ) وبالمائدة التي هي (القربان)؛ [إذًا، عيسى عليه‌السلام هو المقصود من قوله (يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍۢ)]، لذا فهو النبيّ الذي قتلوه. وذكر كلمة [رسُول] في الآية بصيغتها العامّة المطلقة للدلالة على مصداقٍ خاصٍّ، هو أحد الأساليب المتّبعة في اللغة العربيّة والنصّ القرآنيّ. إذًا، الآية تشير إلى مقتل المسيح»[5].

وجدير بالذكر -هنا- أنّ الأسلوب الذي اتّبعه في تفسير الآية 87 من سورة البقرة يوحي

(146)

بأنّه تجاهل بعض تعابيرها؛ أي أنّه لم يكترث بدلالة عبارة: (وَقَفَّيْنَا مِنۢ بَعْدِهِۦ بِٱلرُّسُلِ)، وكلمة (وَفَرِيقًۭا)، والفعل (تَقْتُلُونَ).

ويعاتب الله -تبارك شأنه- بني إسرائيل في هذه الآية، ومن هذا المنطلق يذكّرهم بإيتاء نبيّهم موسى عليه‌السلام الكتاب وإرسال الأنبيّاء لهم بعده؛ واحدًا تلو الآخر: (وَقَفَّيْنَا مِنۢ بَعْدِهِۦ بِٱلرُّسُلِ)، وهذا التوالي في بعثة الأنبيّاء يُعدّ حجّةً عليهم؛ كي لا يتذرّعوا بعدم وجود نبيًّ بينهم، فيقطعوا ارتباطهم بعالم الغيب، وقد أشير في آياتٍ أخرى إلى أسماء عددٍ من هؤلاء الأنبيّاء الذين تلوْا موسى عليه‌السلام وسبقوا عيسى عليه‌السلام؛ مثل: داوود، وسليمان، وإلياس، واليسع، وذي الكفل، ويونس، وزكريا، ويحيى؛ فكلّهم كانوا مرسلين إلى أقوامهم، وعملوا بتعاليم التوراة.

وبعد أن لـمّحت الآية إلى هؤلاء الأنبيّاء، ذكرت النبيّ عيسى عليه‌السلام؛ بوصفه آخر حلقةٍ في سلسلتهم، وقد أكّدت على أنّه جاء ببيناتٍ لقومه، وبشريعةٍ مستقلّةٍ عن شرائعهم، فضلًا عن أنّ الله -عزّ وجلّ- أيّده بروح القدس؛ ثمّ وضّحت الأسلوب الذي اتّبعه بنو إسرائيل في التعامل مع أنبيّائهم، حيث أكّدت على أنّهم كانوا يكذّبونهم ويتمرّدون عليهم أو حتّى يقتلونهم عندما يأمرونهم بما لا يعجبهم: (أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌۢ بِمَا لَا تَهْوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًۭا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًۭا تَقْتُلُونَ).

ونستشفّ من كلمة "فَريقاً" في الآية أنّ بني إسرائيل قد ارتكبوا أفعالًا شنيعةً؛ من تكذيبٍ، وقتلٍ بحقّ عددٍ من الأنبيّاء الذين بُعثوا لهم، إلا أنّ يوسف درّة الحدّاد استنتج من الآية ما يتناغم مع مشاربه الفكريّة، دون أن يستند إلى أيّ دليلٍ يذكر، حيث فسّر هذه الكلمة؛ وكأنّها تشير إلى صيغة المفرد؛ في حين أنّ المضارع (تَقْتُلُونَ) يحكي عن المعنى الظاهر والحقيقيّ لهذه الكلمة، لذلك لم يقلْ (قتلتموهم)؛ وكما هو ثابتٌ في علم اللغة فالفعل المضارع يفيد الاستمرار والدوام؛ ما يعني استمرار العمل الشنيع الذي ارتكبه بنو إسرائيل وداومه بشكلٍ مكرّرٍ إزاء كلّ نبيًّ يُبعَث إليهم[1].

وتأريخ اليهود حافلٌ بقتل الأنبيّاء، وهذه الظاهرة الذميمة كانت عادةً لهم على مرّ التأريخ، لكنّها بلغت الذروة خلال القرون الأربعة عشر الواقعة بين عهدي موسى وعيسى عليهما‌السلام،

(147)

وكلمة "رَسول" ذُكِرَت في الآية بصيغة التنكير؛ بهدف بيان الأسلوب الذي اتّبعه هؤلاء في التعامل مع تعاليم الأنبيّاء، لذا فهي ليست لفظًا عامًّا أُريد منه الخاصّ.

وكذلك تكرار كلمة "فَريقاً" مرّتين يدلّ على أنّ سلوكهم القبيح إزاء رسالات السماء لم يكنْ يقتصر على أحد الأنبيّاء فحسب، كما أنّ تقدّمها؛ باعتبارها مفعولًا به للفعلين "كَذّبتم" و(تَقْتُلُونَ) يشير إلى بلوغهم الذروة في التمرّد والطغيان ضدّ الأنبيّاء الذين عبّرت عنهم الآية بـ"الرُّسل"، ولم تذكر إلا أسماء عددٍ قليلٍ منهم؛ ما يعني أنّ البنية اللغويّة في قوله -تعالى-: (فَفَرِيقًۭا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًۭا تَقْتُلُونَ) يُراد منها بيان أنّ بني إسرائيل لم يتعاملوا مع الأنبيّاء إلا بالتكذيب والقتل، لذا لم يكنْ لهم أيّ شأنٍ عند هؤلاء القوم[1].

إذًا، لا يمكن الاستدلال من هذه الآية إلا على أنّ اليهود كانوا قتلة للأنبيّاء ومكذّبين لهم، أي أنّها تثبت أسلوبهم البشع هذا في التعامل مع أنبيّاء الله -تعالى- على مرّ العصور، لكنّها لم تذكر أسماء من قُتِل منهم؛ وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ الآية 157 من سورة النساء تؤكّد على فشلهم في قتل النبيّ عيسى عليه‌السلام وصلبه، لذا فما ادّعاه الحدّاد بكون المسيح من زمرة الذين قتلهم اليهود -الفئة الثانية في الآية- هو زعمٌ بلا دليلٍ، ومن المؤكّد أنّه قائمٌ على مرتكزاته الإيديولوجيّة والمبادئ اللاهوتيّة التي يتبنّاها.

وربّما يكونأسلوب الخطاب القرآنيّ الموجّه إلى اليهود في كلمة "تَقتلونَ" هو أحد الأسباب التي دعته لأن يطرح تفسير كهذا للآية، لكنْ إنْ أمعنّا النظر في الآية ومفرداتها -كما ذكرنا آنفًا-، سوف يتّضح لنا أنّ القرآن الكريم -هنا- في مقام بيان دأب اليهود وأسلوبهم الثابت ورذائلهم الأخلاقيّة في التعامل مع الأنبيّاء الذين بُعِثُوا إليهم، وهي لا تشير مطلقًا إلى مقتل النبيّ عيسى عليه‌السلام من قبلهم.

ولنقض ما ادّعاه بخصوص الآية 183 من سورة آل عمران وزعمه تصريحها بمقتل المسيح عليه‌السلام، وكذلك سائر ما طرحه في تفسير مختلف عباراتها؛ ينبغي لنا أوّلًا بيان المقصود من قوله -تعالى-: (حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍۢ)، وتحديد الهدف من قوله -تعالى-: (ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ)،

(148)

(وَبِٱلَّذِى قُلْتُمْ)، ثمّ التطرّق إلى مضمون كلمة (لِرَسُولٍ)، ثم قوله -تعالى-: (قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌۭ مِّن قَبْلِى)، والمراد من عبارة: (بِٱلْبَيِّنَٰتِ).

أ- كلمة "قُرْبان" تعني النعمة أو الشيء الذي يُقدَّم إلى مَنْ له مقامٌ أعلى، حيث يراد منه التقرّب إلى هذا المقام[1]؛ أو أنّه يعني كلّ فعلٍ فيه خيرٌ يوجب التقرّب إلى الله -سبحانه وتعالى-.

وهذه الكلمة في الخطاب العرفي تعني الذبيحة أو النسيكة التي يتمّ تقديمها في عيد الأضحى[2].

إذًا، ما الدليل الذي استند إليه يوسف درّة الحدّاد ليدّعي أنّ قوله -تعالى-: (حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍۢ) يدلّ على قربان المائدة؟ مضمون الآية التي وردت فيها هذه العبارة هو في الواقع استمرارٌ لبيان خصائص الذين تحدّثت عنهم الآيات السابقة[3].

ب- عبارة (ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ) في محلّ بدلٍ أو عطفِ بيانٍ لعبارة (ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ) في الآية 181 (لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌۭ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ ۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ ٱلْأَنۢبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّۢ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ 181 ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍۢ لِّلْعَبِيدِ 182)[4]، كما هو واضحٌ في هذه الآية؛ فهي تؤكّد على بطلان مزاعم اليهود بكون الله -تعالى- فقيرًا، وتثبت خلاف ذلك، ثمّ تشير إلى فعلهم القبيح المتمثّل بقتل الأنبيّاء؛ والآية 183 هي الأخرى ذكرت إحدى الحجج التي تذرّعوا بها، أي إنّهم -وفقًا لما عاهدهم الله به- لا يؤمنون بأيّ نبيًّ؛ إلا حين يأتيهم بمعجزةٍ على هيئة قربانٍ تأكله النار. ويمكن إثبات هذا الأمر على ضوء عطف عبارة (وَبِٱلَّذِى قُلْتُمْ) على "الْبَيِّنَاتِ"؛ فهو عطفٌ يدلّ على ذِكْر الخاصّ بعد العامّ.

ج- عبارة (تَأْكُلُهُ ٱلنَّارُ) هي قرينةٌ أخرى تدلّ على ما أراده اليهود من معجزةٍ على هيئة قربانٍ، حيث طلبوا ذلك من النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، لذا فالمقصود من كلمة "قُربان" -هنا- هو القيام

(149)

بعملٍ إعجازيٍّ يتمثّل بذبيحٍ تأكله النار، وهذا الإعجاز بمثابة عهدٍ إلهيٍّ، لذا يجب على الذين طلبوا ذلك أن يؤمنوا بالنبيّ الذي يأتيهم به، لكنّ اليهود خالفوا هذا العهد ولم يؤمنوا؛ ومن هذا المنطلق جاء الاستفسار في الآية: (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ)؟

إذًا، ما السبب الذي دعا الحدّاد لادّعاء أنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام هو المقصود في هذه الآية، على الرغم من كلّ هذا الوضوح في دلالتها؟! وهو لم يكتفِ بذلك، بل بالغ أكثر وأكّد على أنّه النبيّ الوحيد الذي تقصده الآية لا غير! فكيف يمكنه تبرير كلّ تلك المعاني والمداليل الموجودة في الآية في قوله -تعالى-: (لِرَسُولٍ) و(جَآءَكُمْ رُسُلٌ)، و(قَتَلْتُمُوهُمْ)؟! فهل يمكن ادّعاء أنّ هذه التعابير تشير إلى صيغة المفرد؛ مع وضوحها في الجمع والشمول؟! أو هل يمكن زعم أنّها يمكن أن تخصّص لفردٍ واحدٍ لا غير؟!

وعبارة "بِالْبَيّناتِ" هي الأخرى اتّخذها ذريعةً لإثبات رأيه، حيث ادّعى أنّ المسيح عليه‌السلام هو النبيّ الوحيد الذي جاء ببراهينَ بيّنةٍ وبقربانٍ تمثّل بالمائدة؛ لكنّ الواقع على خلاف هذا المدّعى، فالقرآن الكريم لم يصرّح بكونه النبيّ الوحيد الذي جاء بالبينات.

والبيّنة تعني الدليل العقليّ أو الحسّيّ الواضح[1]؛ وهي شاهد على صِدْق رسالة النبيّ، والمعجزة تعدّ أحد مصاديقها[2]؛ لذا ليس هناك ما يدعو لتخصيص كلمة "البيِّنات" في الآية بالنبيّ عيسى عليه‌السلام؛ فضلًا عن ذلك لو كان مقصود يوسف درّة الحدّاد من المائدة هو المائدة ذاتها المذكورة في القرآن الكريم، لا التي أشار إليها المستشرقون في تفاسيرهم والمستوحاة من

(150)

تعاليم الكتاب المقدّس[1]؛ فهي في الحقيقة مائدةٌ طلبها الحواريّون من المسيحِ[2]، لا اليهودُ الذين اشترطوا في إيمانهم بالأنبيّاء أنْ يأتوهم بقرابينَ؛ والطريف أنّهم لم يلتزموا بهذا الشرط؛ بحيث كفروا بأنبيّائهم على الرغم من تنفيذ ما طلبوه منهم.

وبحسب القرائن الموجودة في سائر الآيات المرتبطة بالموضوع، فالمائدة[3] التي طلبها الحواريّون من المسيح ليست قربانًا تأكله النار، بل مائدةَ طعامٍ؛ كما تفيد مضامين هذه الآيات أنّها معجزةٌ تختلف عن سائر المعاجز الإلهيّة، فهي فريدةٌ من نوعها وغيرُ مسبوقةٍ، إذ جاء بها المسيحُ؛ استجابةً لطلبٍ غيرِ ضروريٍّ تقدّم به الحواريّون، وقد دعا اللهَ -تعالى- بأن يجعلها عيدًا له ولأتباعه، والله بدوره استجاب له؛ بشرط أن يعذّب الذين يكفرون بها عذابًا لا يطال غيرهم من العالمين: (قَالَ ٱللَّهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّىٓ أُعَذِّبُهُۥ عَذَابًا لَّآ أُعَذِّبُهُۥٓ أَحَدًا مِّنَ ٱلْعَٰلَمِينَ)[4].

ونستشفّ من الآيات التي تطرّقت إلى الحديث عن المائدة أنّ الحواريّين كان لديهم إيمانٌ راسخٌ بالمسيح عليه‌السلام، لكنّهم طلبوا منه أن يسأل الله -تعالى- إنزال مائدةٍ من السماء؛ لكي يزدادوا إيمانًا، لذا لا يمكن اعتبار هذه المعجزة درءًا للتشكيك بنبوّته، وإنّما يراد منها تحقيق يقينٍ أكثر وبلوغ مراتبَ أعلى من الإيمان وطمأنينة القلب[5].

والمسألة الأخرى التي يمكن طرحها في نقض ما ذهب إليه الحدّاد، هي العموم الموجود في مدلول كلمة "لِرَسولٍ"، والآية اللاحقة تؤيّد هذا الأمر؛ عبر تعميمها كلمتَيْ "بَيّنات"

(151)

و"رُسُل"، وهي قوله -تعالى-: (فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُو بِٱلْبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِ وَٱلْكِتَٰبِ ٱلْمُنِيرِ)[1].

كما أنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام ليس هو المقصود -فقط- من عبارة "لِرَسول"؛ وفقًا لما ادّعاه الحدّاد، فكلمة "رُسُل" لا تدلّ على الجمع -هنا-، ولا يراد منها المرسلون جميعًا، بل المراد هو التكذيب بنبوّة النبيّ موسى عليه‌السلام فقط؛ في حين أنّ هذا الكلام باطلٌ ولا مسوّغ له، والحدّاد نفسُه لا يمكنه ادّعاء ذلك، ولم يدّعِه.

واللافت للنظر أنّ عبارة "بِالْبَيِّنَاتِ" ذُكِرَت في هذه الآية -أيضًا-: (فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُو بِٱلْبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِ وَٱلْكِتَٰبِ ٱلْمُنِيرِ) لكنّ الموضوع المطروح فيها هو تكذيب الأنبيّاء فقط.

ويبدو أنّ الحدّاد لو التزم جانب الحياد، وتجرّد عن معتقداته المسيحيّة، وتخلّى عن فكرة قتل المسيح مصلوبًا حين تفسيره مضمون هذه الآية، فهو بكلّ تأكيدٍ لا يطرح استنتاج كهذا، ولا يتكلّف في بيان مدلولها، إذ إنّها تتمحور حول بيان الظاهرة الشائعة التي شهدها التأريخ اليهوديّ في تكذيب الأنبيّاء وقتلهم، والله -عزّ وجلّ- أراد من ذِكْر هذه الحقيقة مواساة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إزاء ما يواجهه من مشقّةٍ في تبليغ رسالته؛ وكأنّه يخاطبه قائلًا: لا تحزن، إنّ هؤلاء كذّبوا الأنبيّاء الذين بعثتهم قبلك؛ على الرغم من بيّناتهم ومواعظهم وكتبهم السماويّة.

وكما هو معلومٌ، فالمواساة تتحقّق عبر ذِكْر نماذجَ عديدةٍ، لا أنموذجٍ واحدٍ، وهذا ما يصدق على العادة المعهودة لدى اليهود طوال قرونٍ متماديةٍ وفي شتّى المناسبات ومختلف الأحداث، لا في مناسبةٍ واحدةٍ؛ مثل: حادثة قتل المسيح وصلبه التي فنّدها القرآن الكريم بصريح العبارة.

فهل هناك مسوّغٌ يتيح لنا الخروج عن القواعد اللغويّة الثابتة، واعتبار كلّ تلك الكلمات والتعابير، التي ذُكِرَت بصيغة الجمع ضمن الآيات 181 إلى 184 من سورة آل عمران، مفردةً وذاتَ دلالةٍ خاصّةٍ؟! لا يوجد أيّ دليلٍ يسوّغ لنا الخروج عن القواعد اللغويّة والأدبيّة الثابتة، والدليل الوحيد الذي استند إليه الحدّاد في ادّعائه هذا هو فهمه الخاطئ لكلمة "قربان".

(152)

وجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم حينما أشار إلى اشتراط اليهود بأنْ يأتيهم النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بقربانٍ، اعترض عليهم بأنّ الأنبيّاء السابقين جاؤوا ببيّناتٍ وقرابينَ لأسلافهم، لكنّهم قتلوهم، وهذا ما حدث في الواقع ليحيى وزكريا عليهما‌السلام، كذلك أرادوا قتل عيسى عليه‌السلام، لكنّهم فشلوا؛ لذا رفض خاتم الأنبيّاء طلبهم هذا.

لذا، فالآية في صدد بيان أنّ طلب اليهود لم يكنْ بداعي البحث عن الحقيقة، ومن منطلق السعي لاتّباع الحقّ إنْ ثبت لهم من قِبَل النبيّ، بل هو مجرّد ذريعةٍ، وينمّ عن عنادٍ ولجاجةٍ، حيث كانوا في كلّ يومٍ يتقدّمون بطلبٍ جديدٍ، لذا حتّى لو استجاب لهم النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، فهم قطعًا لم يكونوا ليؤمنوا بنبوّته، على الرغم من أنّهم اطّلعوا على جميع صفاته في كتبهم، لكنّهم لم يؤمنوا به.

إذًا، الآية في صدد بيان أنّ الأنبيّاء استجابوا لما طلبه بنو إسرائيل منهم، لكنّهم مع ذلك كُذِّبوا وقُتِلوا، لذا هناك سؤالٌ يطرح نفسه على يوسف درّة الحدّاد، وهو: ما الدليل الذي استند إليه في ادّعاء أنّ المسيح عليه‌السلام هو المقصود من هذه الآية؟ لقد قُتل الكثير من الأنبيّاء على يد اليهود؛ مثل: زكريا، ويحيى، وأشعيا، وأرميا، إلا أنّ القرآن الكريم لم يقلْ إنّ المسيح من ضمنهم؛ ما يعني أنّ الآية لا تنطبق عليه بتاتًا.

7) الآية 50 من سورة المؤمنون:

سعى محمود مصطفى أيوب إلى التقريب بين المعتقدات اللاهوتيّة المسيحيّة والإسلاميّة على ضوء وقائعَ تأريخيّةٍ، ومن هذا المنطلق استند إلى ما قاله العالم المسلم محمّد بن علي بن حسن الحلّي في تفسيره بخصوص الآية 50 من سورة المؤمنون: (وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُۥٓ ءَايَةًۭ وَءَاوَيْنَٰهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍۢ ذَاتِ قَرَارٍۢ وَمَعِينٍۢ).

والرأي الذي طرحه الحلّي في هذا السّياق؛ فحواه: أنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام لم يُصلب بعد أن تمكّن من الهرب، وقد أمضى بقيّة حياته في انزواءٍ عن الناس، ثمّ مات بشكلٍ طبيعيٍّ، فدفن جسده فوق تلٍّ[1]. واستنتج أيوب من هذا التفسير أنّ المسيح قد مات حقًّا، لذلك روحه فقط

(153)

هي التي رفعت إلى السماء[1]، وكما أشرنا -آنفًا- فهو يقصد -هنا- موت المسيح مصلوبًا.

وجدير بالذكر أنّ الحلّي في بادئ تفسيره للآية المذكورة أعلن بصريح العبارة فشل اليهود في صلب النبيّ عيسى عليه‌السلام، حيث وقعوا في خطأٍ كبيرٍ وصلبوا شخصًا آخرَ؛ ظنًّا منهم أنّه المسيح، لكنّ ما استدلّ به من الآية المذكورة لا يبدو منطقيًّا؛ وذلك لما يلي: عبارة (ٱبْنَ مَرْيَمَ) في الآية يُراد منها التأكيد على أنّ المسيح عليه‌السلام قد وُلِدَ بإذن الله -تعالى- من أمٍّ فقط، ولم يكنْ له أبٌ، والآية بدورها أشارت إلى أمرٍ لا يمكن أن يتحقّق إلا بوجودهما معًا؛ ألا وهو ولادته، لذا فهي لا تحكي عن المعاجز التي جاء بها بنفسه بوصفه شخصًا مستقلًّا عن أمّه، مثل كلامه؛ وهو في المهد.

إذًا، السبب في وصفه بكونه (ءَايَةً) يكمن في ولادته دون أبٍ، والسبب في وصف أمّه -أيضًا- بهذه الصفة هو حملها؛ وهي عذراء، دون أن يمسّها زوجٌ.

ويؤكِّد الله -عزّ وجل-ّ في هذه الآية على أنّ المسيح وأمّه مشتركان في هذه الولادة الإعجازيّة، وهناك دليلان لإثبات؛ هذا التفسير؛ هما:

أ- قوله -تعالى-: (وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُۥٓ ءَايَةً) يدلّ على أنّ الإعجاز الإلهيّ قد تحقّق في شخصيتَيِ المسيح وأمّه؛ أي أنّه لم يحدث بفعلٍ منهما؛ لأنّ ولادته دون أبٍ من خلال حمل أمّه به دون زوجٍ تُعدّ معجزةً له.

ب- ذكر الله -عزّ وجلّ- كلمة (ءَايَةً) ولم يقل (آيتين)، لذا فالكلمة تدلّ على أمرٍ لا يمكن أن يتحقّق إلا بوجود هذين الشخصين معًا، وهذا الأمر هو الولادة، لا تلك المعجزات التي جاء بها المسيح بشكلٍ مستقلٍّ عن أمّه[2].

ونستشفّ ممّا ذُكِرَ أنّ وصف النبيّ عيسى والسيّدة مريم عليها‌السلام بكونهما آيةً؛ يعني ترجيح

(154)

القول بارتباط كلمة" آيَة"  بولادته، وعلى هذا الأساس من المنطقيّ اعتبار الأحداث التي شهدتها حياته بعد ولادته مباشرةً مرتبطةً بهذه الآية، بينما الأحداث التي وقعت بعد عمليّة الصلب لا ينبغي اعتبارها مرتبطةً بها. وبعبارةٍ أخرى: من الأفضل -هنا- تفسير قوله -تعالى-: (وَءَاوَيْنَٰهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍۢ ذَاتِ قَرَارٍۢ وَمَعِينٍ)؛ بكونها تذكيرًا بالنِّعم التي أفاضها الله -عزّ وجلّ- على هذه الأمّ ورضيعها لكي يحفظهما في مكانٍ آمنٍ مصونٍ من أذى الأعداء وظنونهم السيّئة؛ حتّى يتمكّنا من أداء واجباتهما بأمثل شكلٍ؛ وعلى الرغم من أنّ الآية لم تحدّد هذا المكان، لكنّه على كلّ حالٍ موضعٌ بعيدٌ عن أنظار الأعداء الذين اطّلع بعضهم على خبر ولادته؛ وهم على علمٍ بشأنه مستقبلًا، لذلك أرادوا القضاء عليه، لكنّ الله -عزّ وجلّ- حفظه من مكرهم في مكانٍ آمنٍ ومباركٍ.

فضلًا عن ذلك، فالآيات السابقة لهذه الآية تطرّقت إلى الحديث عن قصّة إرسال النبيّ موسى عليه‌السلام إلى فرعون وقومه بالآيات والبراهين الدامغة، إلا أنّهم خالفوه وكذّبوه باستدلالاتهم الواهية، فأهلكهم الله جميعًا، لذا يمكن الجمع بينها وبين هذه الآية لإثبات أنّ الله -عزّ وجلّ- يحفظ أنبيّاءه ورسله في جميع المواقف والأحداث؛ وقال أحد الباحثين في هذا الصدد: «نستنتج من الآية أنّها [مريم] وولدها كانا يعيشان لوحدهما بأمنٍ وطمأنينةٍ؛ بعيدًا عن صخب الناس، لكنّها لم تشِرْ إلى عدد السنوات التي أمضياها في عزلتهما»[1]. ويذكر أنّ بعض الروايات فسّرت الآية بالإشارة إلى زمان ولادة المسيح عليه‌السلام وهروب والدته برفقته إلى مصر[2].

(155)

المبحث السادس: التفسير الاستشراقيّ للآيات الدالّة على القيامة ونزول المسيح عليه‌السلام إلى الأرض أو رجعته:

يؤكّد المستشرقون على أنّ أحد الأسباب التي دعت المفسّرين المسلمين إلى القول بفشل اليهود في صلب المسيح عليه‌السلام هو تأثّرهم بالروايات التي تحدّثت عن موته في آخر الزمان، حيث نقلوها ضمن تفسيرهم لبعض الآيات؛ كي يثبتوا أنّه ما زال على قيد الحياة؛ والمؤاخذة التي طرحوها على هذه الروايات أنّها لا تنتهي في سلسلتها السنديّة إلى النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، كما ادّعوا أنّ الآيات بحدّ ذاتها لا تستبطن هذا المعنى.

وبطبيعة الحال فالمستشرق غابريال سعيد رينولدز قد تبنّى هذه الفكرة، ولدى سعيه إلى إثبات صوابيّة رأيه بخصوص حادثة الصلب ضمن النصّ القرآنيّ، وصف تفسير المسلمين للآيات التي أشارت إلى موت النبيّ عيسى عليه‌السلام بأنّه قائمٌ على فكرة ظهوره مرّةً أخرى في آخر الزمان، وهذا الظهور برأيه قد لـمّح إليه القرآن الكريم في عدّة مواضعَ[1].

وأمّا جفري بارندر فقد اعتبر الفرضيّة الإسلاميّة القائلة بظهور المسيح عليه‌السلام مرّةً أخرى، قائمةً على أحاديثَ ضعيفةٍ وآراء تفسيريّةٍ مطروحةٍ من قِبَل المفسّرين المسلمين، وعلى الرغم من رواج هذه القصص بين الناس طوال قرونٍ متماديةٍ[2]، لكنّها في الواقع ليست سوى أساطيرَ حبكت بعد ظهور النصّ القرآنيّ[3].

وفي ما يلي نذكر الآيات المطروحة للبحث والتحليل بخصوص ما ذكر:

1) الآية 159 من سورة النساء:

غابريال سعيد رينولدز لدى تفسيره الآية 159 من سورة النساء: (وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِۦ قَبْلَ مَوْتِهِۦ ۖ وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) قال إنّ التفسير الذي طرحه المفسّرون المسلمون منبثقٌ من استنتاجهم الخاطئ لمضمون الآية السابقة لها، حيث فسّروا هذه الآية -الآية 158- بأنّها تدلّ على رفع الله -تعالى- المسيح إليه حيًّا، ثمّ استنتجوا من الآية 159 أنّ

(156)

أهل الكتاب يؤمنون به قبل موته في آخر الزمان؛ وعلى هذا الأساس فالضمير الهاء في عبارة " مَوْتِهِ" يرجع إلى المسيح برأيهم.

ولم يقبل رينولدز بهذا التفسير، واعتبر الضمير المشار إليه لا يرجع إلى المسيح، لذلك أكّد على أنّ الآية تشير إلى دوره في يوم القيامة؛ بوصفه شاهدًا على الناس، لا في آخر الزمان الذي هو في الحقيقة عهد نهاية حياة البشر على الأرض والفترة الزمنيّة التي تسبق يوم القيامة[1].

وحذا نيل روبنسون حذو رينولدز ليؤكّد على أنّ المسيح عليه‌السلام قد مات مصلوبًا وأصبح جزءًا من التأريخ الذي مضى، وضمن تفسيره آية البحث وصف عبارة " مَوْتِهِ"  بالغامضة، ورأى أنّ التفسير الأوّل المطروح من قِبَل المسلمين لهذه الآية أصحّ من التفاسير اللاحقة؛ نظرًا لانسجامه مع القواعد النحويّة.

والاستدلال النحويّ الذي طرحه في هذا المضمار؛ فحواه: أنّ الآية بأسرها تفيد القسم والتهديد، لذا من الأنسب إرجاع الضمير الهاء في عبارة " مَوْتِهِ"  إلى أهل الكتاب؛ وقد استند في ذلك إلى قراءة أُبَـي الذي قرأها "مَوْتِهِم"  واعتبرها سندًا لإثبات رأيه[2].

ويؤمن جفري بارندر هو الآخر بموت المسيح مصلوبًا؛ كما ذكرنا آنفًا، وعلى هذا الأساس رفض رأي من ادّعى رجوع الضمير إليه في العبارة المذكورة، حيث طرح فكرةَ نيل روبنسون نفسَها؛ معتبرًا عبارة " أهل الكتاب"  مرجعًا للضمير؛ وإلى جانب ذلك أشار إلى أنّ عبارة " يَوْم القِيامَة"  تستبطن إشارةً إلى الزمان الكائن بعد الموت، ولا تدلّ على نزول المسيح إلى الأرض مرّةً أخرى[3].

وأهمّ تفسيرين طرحهما المسلمون لقوله -تعالى-: (إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِۦ قَبْلَ مَوْتِهِۦ) قرّرهما العلامة الطبرسي؛ بقوله: «... ثمّ أخبر -تعالى- أنّه لا يبقى أحدٌ منهم إلا ويؤمن به، فقال:

(157)

(وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِۦ قَبْلَ مَوْتِهِۦ). اختلف فيه على أقوالٍ؛ أحدها: أنّ كلا الضميرين يعود إلى المسيح، أي ليس يبقى أحد من أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلا ويؤمنن بالمسيح قبل موت المسيح إذا أنزله الله إلى الأرض وقت خروج المهدي في آخر الزمان لقتل الدجال، فتصير الملل كلّها ملّةً واحدةً؛ وهي ملّة الإسلام الحنيفية؛ دين إبراهيم...

وثانيها: أنّ الضمير في (بِهِ) يعود إلى المسيح، والضمير في (مَوْتِهِ) يعود إلى الكتابي، ومعناه: لا يكون أحدٌ من أهل الكتاب يخرج من دار الدنيا إلا ويؤمن بعيسى قبل موته إذا زال تكليفه وتحقّق الموت، ولكن لا ينفعه الإيمان حينئذٍ، وإنّما ذكر اليهود والنصارى لأنّ جميعهم مبطلون»[1].

وبيان مضمون هذا الكلام كما يلي:

أ- مرجع الضمير في التركيب " بِهِ"  إلى المسيح عليه‌السلام وفي عبارة " مَوْتِهِ"  إلى كلّ واحدٍ من أهل الكتاب؛ أي بتقدير كلمة (أحد)[2]؛ ما يعني أنّ كلّ واحدٍ من أهل الكتاب يؤمن بالمسيح حينما يزول تكليفه لحظة حلول الموت عليه، فاليهوديّ يدرك أنّه نبيٌّ صادقٌ وليس كاذبًا، والنصراني يدرك أنّه عبدٌ لله -تعالى- ونبيٌّ وليس ابنًا له؛ وهذا ما ذكره صاحب تفسير المنار محمّد رشيد رضا حينما قال: «وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْ: وَمَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ أَيْ: لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى إِيمَانًا صَحِيحًا، وَهُوَ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَآيَتُهُ لِلنَّاسِ قَبْلَ مَوْتِهِ أَيْ قَبْلَ مَوْتِ ذَلِكَ الْأَحَدِ الَّذِي هُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَيُفِيدُ الْعُمُومَ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، عِنْدَمَا يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ يَنْكَشِفُ لَهُ الْحَقُّ فِي أَمْرِ عِيسَى وَغَيْرِهِ مِنْ أَمْرِ الْإِيمَانِ فَيُؤْمِنُ بِعِيسَى إِيمَانًا صَحِيحًا؛ فَالْيَهُودِيُّ يَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولٌ صَادِقٌ غَيْرُ دَعِيٍّ وَلَا كَذَّابٍ، وَالنَّصْرَانِيُّ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، فَلَا هُوَ إِلَهٌ، وَلَا ابْنُ اللهِ»، والمعنى ذاته نُقل عن محمّد عبده الذي قال إنّ الأسلوب المتّبع في هذه الآية هو ذِكْر النكرة في سياق النفي، لذا فهي تفيد العموم، ولو قيل إنّ الضمير الهاء يرجع إلى عيسى عليه‌السلام، ففي هذه الحالة يراد من أهل الكتاب المشار إليهم في الآية فقط الذين يتواجدون أثناء نزوله من السماء، لكنّ هذا الادّعاء لا دليل عليه؛ لأنّ الهاء تشير إلى أهل الكتاب بشكلٍ عامٍّ دون تحديد زمنٍ محدّدٍ، ولا شكّ في أنّ تخصيص مضمون الآية بالذين هم أحياءٌ في عهد المسيح

(158)

لا نجد له أيّ دليلٍ في الآيات الأخرى[1].

وهذا الاستنتاج يشابه مضمون الآية 91 من سورة يونس التي ذكرت أنّ فرعون اضطرّ لأن يؤمن بالنبيّ موسى عليه‌السلام حين غرقه[2].

ب- كلا الضميرين يرجع إلى المسيح عليه‌السلام[3]، وعلى هذا الأساس فالمقصود من إيمان أهل الكتاب به قبل موته هو إيمانهم به عند نزوله من السماء[4].

واستند أصحاب هذا الرأي إلى سياق الآيات السابقة واللاحقة لهذه الآية؛ مؤكّدين على التناسق الموجود بين الضمائر.

إذًا، لو أخذنا بعين الاعتبار مسألة الانسجام بين ضمائر الآية مع ما هو مذكورٌ في الآيات السابقة واللاحقة لها[5]، إلى جانب منح الأولويّة لرجوع الضمير المصرّح به والمحدّث عنه[6]، سوف نتوصّل إلى نتيجة؛ فحواها: صواب الرأي الثاني[7].

(159)

والرأي الأوّل القائل بعودة الضمير الهاء في تركيب"بِهِ" إلى المسيح عليه‌السلام، والضمير الهاء في عبارة (مَوْتِهِۦ) إلى أهل الكتاب، غيرُ صائبٍ من الناحيتين اللغويّة والدلاليّة، وذلك لما يلي:

ـ يتعارض مع قاعدة وجوب انطباق الضمائر في الكلام، لذا لو قيل إنّ الضمير (الهاء) يرجع إلى أهل الكتاب، فالفصاحة تقتضي أنْ يُذكَر هذا الضمير بصيغة الجمع ويقال (موتهم)؛ كي لا تبقى شبهةٌ باحتمال إرجاعه إلى المسيح الذي هو بصيغة المفرد؛ كما أنّ عبارة (وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ) من الناحية الدلاليّة تقتضي ذِكْر الضمير بصيغة الجمع، لأنّها تحكي عن جميع أهل الكتاب، وهنا لا يمكن استخدام الضمير المفرد لهم بطبيعة الحال.

ـ المسيح عليه‌السلام هو المرجع الأقرب الذي يمكن أنْ يعود إليه هذا الضمير، فهو مستترٌ في التركيب (بِهِۦ)، لذا من المرجّح رجوع الضمير في عبارة (مَوْتِهِۦ) إليه -أيضًا-؛ نظرًا لقربه منه.

ـ المسيح عليه‌السلام هو محور الكلام في هذه الآية، لذا حتّى وإنْ لم يذكر التركيب (بِهِۦ) على مقربةٍ من عبارة (مَوْتِهِۦ)، ففي هذه الحالة -أيضًا- يكون الضمير في موته عائدًا إلى المسيح.

ـ حينما نمعن النظر في سائر الضمائر الموجودة في الآية، نستشفّ منها أنّ إرجاع الضمير في عبارة (مَوْتِهِۦ) إلى المسيح أكثر انطباقًا مع القواعد المنطقيّة، فضمن ثلاث آياتٍ متواليةٍ في سورة النساء جاء الضمير المفرد (الهاء) للدلالة على المسيح، فضلًا عن أنّه مستترٌ في كلمة (يَكُونُ)؛[1] وعلى هذا الأساس نتساءل ما الداعي لاعتبار الضمير في عبارة (مَوْتِهِۦ) مرتبطًا بمرجعٍ آخرَ؟!

وجدير بالذكر أنّ هذه الآية صوّرت المسيح عليه‌السلام بالشاهد على أهل الكتاب في يوم القيامة، لذا إنْ اعتبرناه شاهدًا على إيمانهم جميعًا في القيامة وأذعنّا بأن لا فائدة من إيمان الإنسان لحظة حلول الموت عليه، ففي هذه الحالة لا يمكن ادّعاء أنّ عبارة (مَوْتِهِۦ) تفيد الجمع وتعني (موتهم)؛ لأنّه سوف يشهد على إيمانهم، ولا صوابيّة للشهادة على إيمان شخصٍ قد آمن قبل موته، ويدعم هذا الكلام أنّ عبارة (لَيُؤْمِنَنَّ) تدلّ على الإيمان المؤكّد والثابت لا الإيمان الطارئ الذي يلجأ إليه الإنسان لحظة حلول أجله.

والمسألة الأخرى المثيرة للجدل في هذا الصدد، هي أنّنا لو قلنا برجوع الضمير إلى أهل الكتاب، فهذا يعني الإقرار بكون جميع اليهود آمنوا بالمسيح عيسى عليه‌السلام قبل بعثه وقبل موتهم؛

(160)

في حين أنّ الواقع ليس كذلك، فهم لم يؤمنوا به حتّى بعد بعثه فكيف بذلك قبل بعثه؟! إضافة إلى أنّهم أرادوا قتله وصلبه، وتصوّروا أنّهم نجحوا في ذلك. إذًا، هذا الرأي يُسفر عن حدوث تناقضٍ بين مفهوم الآية والحقائق الثابتة على أرض الواقع والتي أثبتها التأريخ بالبراهين القطعيّة، فاليهود لم يؤمنوا بنبوّة المسيح مطلقًا، كذلك عبارة (لَيُؤْمِنَنَّ) فيها تأكيدان هما اللام والنون، وعلى هذا الأساس فالإيمان لحظة حلول الموت لا يعدّ إيمانًا بتاتًا، ومن البديهي أنّه حتّى وإنْ حدث لدى الإنسان؛ فهو ليس بالإيمان المؤكّد عليه في هذه العبارة قطعًا.

ولا شكّ في أنّ إيمان أهل الكتاب الهشّ قبل موتهم ليس له أيّ دورٍ أو تأثيرٍ من الناحية العقديّة والدينيّة؛ أي لا حاصل منه لهم ولا للنبيّ عيسى عليه‌السلام، ومن هذا المنطلق لا يراد منه ذلك الإيمان الذي يتحقّق لهم جميعًا قبل موتهم.

مضافًا إلى ما ذُكِرَ، من المؤكّد أنّ الضمير (هم) الملحق بحرف الجرّ (على) في قوله -تعالى-: (وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا)[1] يرجع إلى أهل الكتاب الذين أشير إليهم في بادئ الآية، لأنّ هذه العبارة من الآية واقعةٌ في سياق قوله -تعالى-: (وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِۦ قَبْلَ مَوْتِهِۦ)، لذا لو قيل إنّ الضمير في كلمة (مَوْتِهِۦ) يرجع إلى أهل الكتاب، فالنتيجة هي صيرورة المسيح شاهدًا عليهم جميعًا في يوم القيامة؛ لكونهم آمنوا به قبل موته؛ لكنّ هذا الاستنتاج يتعارض مع مضمون الآية 117 من سورة المائدة وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ شَهِيدٌ) فالشهادة في هذه الآية تقتصر على زمان كونه بينهم قبل أن يتوفّاه الله، وهنا يطرح السؤال التالي على أصحاب هذا الرأي: كيف يسوّغ للمسيح عليه‌السلام أن يشهد على إيمان جميع أهل الكتاب في يوم القيامة على الرغم من أنّه لم يكن بينهم؟!

إذًا، لو قارنّا بين تفسير أصحاب الرأي الأوّل لقوله -تعالى-: (وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِۦ قَبْلَ مَوْتِهِۦ) ومضمون الآية 117 من سورة المائدة، نستنتج أنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام شاهدٌ على كلّ من آمن به؛ ولو قيل إنّ هؤلاء المؤمنين به هم جميع أهل الكتاب، فهذا يقتضي موته بعد موتهم جميعًا، لكنْ ما يثبت لدينا من هذه المقارنة هو ضرورة كونه حيًّا.

(161)

كما أنّ الآية 14 من سورة المائدة: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ) تشير إلى أنّ اليهود والنصارى باقون على دينهم إلى يوم القيامة، لذا كيف يقال إنّهم يؤمنون بعيسى عليه‌السلام قبل موتهم؟!

والمسألة الأخرى التي تجدر الإشارة إليها في هذا الصدد، هي أنّنا إذا اعتبرنا الضمير في عبارة "مَوْتِهِ" متعلّقًا بأهل الكتاب ويحكي عن إيمانهم الاضطراري بالمسيح، فهذا الكلام في الواقع لا يتناغم مع سياق الآية؛ لكون هذه الكلمة واقعةً ضمن الآية 159 من سورة النساء التي جاءت بعد عباراتٍ انتقدت اليهود وفنّدت تصوّرهم بأنّهم قتلوا المسيح وصلبوه: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكٍّۢ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِۦ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًۢا 157 بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًۭا 158).[1] فالتأكيد في هذه الآية على فشل اليهود في قتل المسيح وصلبه يدلّ على أنّه لا يموت؛ ما لم يؤمن به أهل الكتاب بإرادتهم ورغبتهم؛ وهذا يعني أنّ الأنسب لسياق الآية هو اعتبارها في مقام بيان كون المسيح حيًّا، لأنّ إيمان أهل الكتاب الاضطراري به لحظة حلول الموت عليهم، لا ارتباط له بتأكيد عدم قتله وصلبه[2].

إذًا، بما أنّ سياق الآية يدعونا إلى ترجيح الرأي الثاني، فالموت في عبارة (قَبْلَ مَوْتِهِ) يراد منه موت النبيّ عيسى عليه‌السلام، فضلًا عن أنّ عبارة (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًۢا) تقتضي استنتاج ما يلي:

ـ بطلان مزاعم اليهود بقتلهم المسيح عليه‌السلام وصلبه.

ـ المسيح عليه‌السلام لم يمت ميتةً طبيعيّةً؛ وإنّما رفعه الله إليه؛ ولو اُدُّعِي أنّه مات ميتةً طبيعيّةً لوجب أن تكون الآية ما يلي: (وما قتلوه يقينًا، بل مات)[3].

وهناك إشكالٌ طرحه بعض الباحثين على الرأي الثاني، وتقريره أنّ: العموم الذي تتضمّنه عبارة (وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ) يقتضي عدم قبول هذا الرأي، إذ لو اعتبرنا الضمير (الهاء) في

(162)

عبارة (مَوْتِهِۦ) عائدًا إلى النبيّ عيسى عليه‌السلام، ففي هذه الحالة يقتصر مدلول الآية على أهل الكتاب الذين هم أحياءٌ إبّان نزوله إلى الأرض، لكن ليس هناك دليلٌ يثبت هذا المدّعى؛ لذا من الأفضل بمكانٍ إرجاع هذا الضمير إلى أهل الكتاب؛ كي لا تبقى ضرورةٌ لتخصيص الأمر بزمان حياته، وهو ما لا دليل عليه أيضًا[1].

وللردّ على هذا الإشكال، نقول: تخصيص العموم لا يُعتبر تخصيصًا في الحقيقة؛ وإنّما هو مجرّد تسامحٍ وتوسيعٍ لنطاق التعبير، فأحيانًا يوجّه الخطاب للآباء جرّاء ما فعله أبناؤهم، وأحيانًا يعاتب الأبناء على ما ارتكبه آباؤهم؛ وهذا الأسلوب مشهودٌ في القرآن الكريم[2].

إذًا، على ضوء التفاصيل التي ذكرناها في نقد الرأي الأوّل، نستنتج أنّ قراءة أُبـَيّ التي استند إليها المستشرق نيل روبنسون في تفسيره آية البحث، مخالفةٌ لظاهر الآية وسياقها؛ كذلك لا صوابيّة لقوله بأنّ الآية 159 من سورة النساء تتضمّن ضربًا من الوعيد والقسم؛ تهديدًا لأهل الكتاب؛ ولا صحّة لاعتباره الضمير (الهاء) في عبارة (مَوْتِهِ) عائدًا إلى أهل الكتاب بادّعاء أنّ الآية ترغّب الكفّار في الإيمان بنبوّة المسيح عليه‌السلام.

وهذه الآية في الحقيقة معطوفةٌ على الآيات السابقة لها التي نستشفّ من سياقها أنّ آية البحث تعدّ استدامةً لها في التأكيد على عدم موته وبطلان مزاعم أعدائه اليهود في قتله وصلبه. والأمر الهامّ الذين نستنتجه -أيضًا- من هذا السّياق أنّ الآيات في مقام إثبات حقّانية النبيّ عيسى عليه‌السلام وليست في صدد بيان إيمان أهل الكتاب به، لذا لا يمكن القول إنّ الآية 159 يراد منها بيان أنّهم كفروا به؛ لكي يقال إنّها تشير إلى إيمانهم به في ما بعد، وهو إيمانٌ لا نفع منه، لذا ليس من المناسب أن يستدلّ القرآن الكريم بإيمانٍ ضعيفٍ كهذا لإثبات حقّانية النبيّ عيسى عليه‌السلام.

2) الآية 61 من سورة الزخرف:

الآية الأخرى التي تطرّق المستشرقون إلى تحليل مضمونها بداعي ارتباطها بمسألة موت النبيّ عيسى عليه‌السلام أو بقائه حيًّا، هي الآية 61 من سورة الزخرف: (وَإِنَّهُۥ لَعِلْمٌۭ لِّلسَّاعَةِ فَلَا

(163)

تَمْتَرُنَّ بِهَا وَٱتَّبِعُونِ ۚ هَٰذَا صِرَٰطٌۭ مُّسْتَقِيمٌۭ)، حيث تناولوها بالبحث والتحليل من جانبين؛ أحدهما: الارتباط الدلالي بينها وبين الآيات السابقة واللاحقة لها، والآخر: بيان مدلولها على ضوء الروايات التي تناقلها المسلمون في تفسيرها؛ وفي ما يلي نذكر تفاصيل البحث ضمن المحورين التاليين:

أ- الارتباط الدلالي للآية بالآيات السابقة واللاحقة لها:

تبنّى المستشرقون وجهتين فكريّتين متباينتين لتفسير مضمون هذه الآية وبيان معاني عباراتها وألفاظها، وطرحوا أحيانًا آراءً متناقضةً في هذا الصدد.

فغابريال سعيد رينولدز ومن حذا حذوه في القول بتأريخيّة موت النبيّ عيسى عليه‌السلام، استندوا إلى عقيدتهم هذه ليرفضوا الرأي الشائع بين المفسّرين المسلمين بخصوص مضمون الآية المذكورة والذي يقوم على بقائه حيًّا، فرينولدز لم يؤيّد ما قاله هؤلاء المفسّرون بكون الضمير (الهاء) في عبارة (وَإِنَّهُۥ) يرجع إلى المسيح، وإنّما نقل كلامهم فقط وقال في هذا الصدد: «يبدو أنّ هذه الآية تصف عيسى بالعِلْم -المعرفة والإدراك- بقيام الساعة، أو تعتبره علَماً -علامةً- على قيام الساعة؛ أو لو تمّ تعديل مصحف القاهرة قليلًا، يمكن أن نقول بأنّها تصفه بالعالِم بقيام الساعة».[1] هذا الكلام يعني أنّ رينولدز اعتبر الآية دالّةً على كون المسيح عيسى عليه‌السلام علامةً على قيام الساعة ولا تحكي عن نزوله إلى الأرض؛ بينما ذهب مستشرقون آخرون إلى القول بصوابيّة التفسير الشائع بين المسلمين؛ وفحواه: أنّ الضمير (الهاء) المشار إليه عائدٌ إلى المسيح عليه‌السلام، ومن جملتهم نيل روبنسون؛ وذلك لسببين:

ـ السبب الأوّل: الفاعل في الآيتين 59 و63 من هذه السورة[2] هو النبيّ عيسى عليه‌السلام، لذا من المحتمل أن يكون هو الفاعلَ في هذه الآية أيضاً.

ـ السبب الثاني: محوريّة الآيات 65 إلى 78 من هذه السورة[3] في بيان أحداث عالم الآخرة

(164)

وما سيناله المؤمنون من ثوابٍ وما سيطال الكافرين من عقابٍ آنذاك، تعدّ وازعًا للقول بأنّ آية بحثنا تحكي عن نزول المسيح عليه‌السلام إلى الأرض مستقبلًا، ومن ثمّ لا صوابيّة لقول من ادّعى أنّها تحكي عن معجزة إحيائه الموتى.

ولم يتّفق نيل روبنسون بالكامل مع المفسّرين المسلمين في تفسير هذه الآية، حيث خالفهم في إحدى المسائل التي طرحوها ليؤكّد على عدم وجود أيّ مؤشّرٍ نثبت على أساسه أنّ نزول المسيح عليه‌السلام إلى الأرض مستقبلًا مشروطٌ بعدم موته على الصليب[1]. ونلمس من هذا الكلام أنّ روبنسون يعتبر صلب المسيح من الثوابت التي لا يمكن التشكيك بها، فهذه هي عقيدته المسيحيّة الارتكازيّة، لكنّه مع ذلك حاول الجمع بينها وبين آراء المفسّرين المسلمين؛ وعلى هذا الأساس أيّدهم؛ باستثناء قولهم بنجاة المسيح من براثن اليهود.

وادّعى غابريال سعيد رينولدز في هذا السّياق أنّ المفسّرين المسلمين طرحوا استنتاجاتٍ لا تقوم على استدلالاتٍ منطقية، ووصف تفاسيرهم بأنّها تنمّ عن تخميناتٍ وظنونٍ بحتةٍ؛ نظرًا لغموض مدلول الآيات 157 إلى 159 من سورة النساء، حيث قال: «هذه الآيات تنفي مقتل النبيّ عيسى عليه‌السلام بيد اليهود، كما أنّها تؤكّد على رفعه إلى السماء؛ لذا فإنّ عدم وضوح مداليلها جعل الباحثين المسلمين يعتقدون بعدم صلبه من قِبَل أعدائه على ضوء عقيدتهم حول دوره في آخر الزمان»[2].

كما أنّ الرأي الذي طرحه رينولدز بخصوص التفسير الإسلاميّ لهذه الآية، متأثّرٌ بعقيدته المسيحيّة من ناحيتين؛ فهو من ناحيةٍ ادّعى وجود غموضٍ في بعض آيات سورة النساء؛ كما ذكرنا سابقًا، وهذا الغموض لا يتناسق مع إيمانه الراسخ بتأريخية صلب المسيح عليه‌السلام؛ ومن ناحيةٍ أخرى فهو بصفته باحثاً مسيحيًّا لا يمكنه كتمان عقيدته المسيحيّة القائمة على رجعة المسيح في آخر

(165)

الزمان، وهذه الرجعة من جملة المعتقدات الثابتة في الديانة المسيحيّة[1]، وعلى هذا الأساس رفض وجود ارتباطٍ بين نزول عيسى في آخر الزمان ونجاته من الصلب.

ويمكن بيان مدلول الآية بشكلٍ أوضحَ على ضوء النقاط التالية:

أ- المكث الموجود في سياق هذه الآية يدلّ على أنّها تتمّة لكلام الله -تعالى- في الآية 57 والآيات السابقة التي تحدّثت عن الجدل المحتدم بين النبيّ موسى عليه‌السلام وفرعون، والتي أكّدت أيضًا على كون المسيح عيسى عليه‌السلام عبدًا من عباد الله -تعالى- وتفنيد ألوهيّته؛ والهدف من ذلك تحذير جميع المشركين في عهد النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي كلّ عهدٍ.

وموضوع الآية 57 من سورة الزخرف والآيات الستّة التالية لها، هو الجدل الذي احتدم بين الناس حول طرح المسيح عليه‌السلام مثلًا لهم، حيث وُصِفَ بالعبد الذي أنعم الله عليه وجعله قدوةً لبني إسرائيل[2]؛ ومن المؤكّد أنّ المعجزات التي اختصّ بها؛ مثل: ولادته دون أبٍ، وتكلّمه في المهد، تعدّ أدلّةً واضحةً على قدرة الله -تعالى- وعلى مقام نبوّته الرفيع.

واستهلّت الآية 59 من هذه السورة بالردّ على المشركين الذين قالوا (وَقَالُوٓاْ ءَأَٰلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) وكلامهم هذا يوحي بأنّهم يعتقدون بكون المسيح عليه‌السلام إلهًا للنصارى، لذلك ردّ الله -سبحانه وتعالى- عليهم بأنّه عبدٌ كسائر العباد: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ).

إذًا، ظاهر الآية يدلّ على أنّها مرتبطةٌ بالآية السابقة لها وأنّها في صدد تفنيد رأي من لا يعتقد بقدرة البشر على نيل جميع الكمالات، والآية اللاحقة لها تؤكّد على عدم حاجة الله عزّ وجلّ لعبادة الناس وقدرته على استخلاف المشركين بكائناتٍ من جنس الملائكة[3].

وأمّا الآية 64 فقد جاءت على لسان النبيّ عيسى عليه‌السلام حيث أقرّ فيها بعبوديّته لله -سبحانه وتعالى- ليؤكّد لهم بأنّه ليس بإلهٍ: (إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَٰطٌۭ مُّسْتَقِيمٌۭ).

(166)

وكلّ عاقلٍ حينما يتأمّل بالمثل الذي أشارت إليه الآية 57 يدرك أنّ المسيح عيسى عليه‌السلام شاهدٌ على الإيمان بيوم القيامة ومرتكزٌ لإزالة كلّ شكٍّ به.

وتتحدّث الآية 65 عن اختلاف أبناء أمّته فيه، فبعضهم لم يؤمن به، بل كفر به، ومنهم من آمن، لكنّه أصبح مغاليًا في إيمانه، في حين أنّ عددًا منهم التزم جانب الإيمان المعتدل؛ وقد ألحقت هذه الآية بقوله -تعالى-: (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ)؛ حيث أنذر الله -سبحانه وتعالى- الفئتين الأولى والثانية بعذاب أليم.

وتتضمّن الآية 66 استفهامًا إنكاريًّا حول الذين غفلوا عمّا ذكر في الآيات السابقة، والآية 67 على ضوء تذكير الآية السابقة بوقوع الساعة، أنذرت الكافرين وبشّرت المتّقين حينما استثنتهم من العذاب الإلهيّ[1].

إذًا، على ضوء مضمون الآيات السابقة واللاحقة لهذه الآية التي تمحور الحديث فيها حول النبيّ عيسى عليه‌السلام، يبدو من الأفضل بمكانٍ إرجاع الضمير (الهاء) في عبارة (وَإِنَّهُۥ) إليه، وهذا الرأي طرح -أيضًا- من قِبَل نيل روبنسون، ويوسف درّة الحدّاد[2]؛ فالآية تؤكّد على أنّ هذا النبيّ يُعدّ سببًا ووسيلةً للعلم بقيام الساعة، لذا فالناس عن طريقه يتسنّى لهم العلم بيوم القيامة؛ كما أنّهم يدركون إمكانيّة الحياة بعد الموت على ضوء المعجزات التي اكتنفت حياته؛ مثل ولادته دون أبٍ باعتبار أنّ خلقته مثالٌ للقدرة الإلهيّة التي لا نظير لها، حيث يثبت لهم بهذه المعجزات أنّ الله -سبحانه وتعالى- على كلّ شيءٍ قديرٌ ولا يُعجزه شيءٌ مطلقًا، ومثالٌ -أيضًا- لسائر معجزاته التي جاء بها إليهم؛ كإحياء الموتى.

(167)

إذًا، الآية في صدد بيان أنّ الله -تعالى- قادرٌ على كلّ شيءٍ وبما في ذلك قيام الساعة[1].

قوله -تعالى-: (فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا) يشير إلى وقوع الساعة بالقطع واليقين[2].

إن اعتبرنا كلمة "عِلْم" هي القراءة الصحيحة للآية، ففي هذه الحالة يُقال إنّ إطلاقها على المسيح  عليه‌السلام هو من باب التأكيد والمبالغة، وفيه إشارةٌ إلى أنّه قطعًا من علامات يوم القيامة[3]؛ واستعمالها -هنا- جاء في سياق مجازٍ مرسَلٍ وعلاقتها بالحقيقة هي السببيّة، حيث أطلق اسم السبب -عيسى عليه‌السلام- على المسبَّب، أي ذكر المسبَّب -العلم- وأريد السبب الذي هو عيسى.

ولو اعتبرنا القراءة الصحيحة للكلمة هي "عَلَم" ففي هذه الحالة يصبح المعنى أنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام؛ مثل الجبل الذي يهتدي به كلّ ضالٍّ عن الطريق، لذا يمكن اعتباره مثلًا يستدلّ به لإثبات واقعيّة قيام الساعة وكيفيّة حدوثها[4].

وسواءٌ أقرأنا هذه الكلمة عِلْماً أم قرأناها عَلَمًا، فالمعنى في كلا الحالتين يكون متقاربًا إلى حدٍّ كبيرٍ؛ باعتبار أنّ المسيح عليه‌السلام من علامات قيام الساعة، والآية أكّدت في هذا السّياق على كون وقوعها قريبًا وحتميًا لا شكّ فيه ولا تردّد، لذلك طلبت من الناس ألّا ينخدعوا بوساوس الشيطان؛ كي لا يغفلوا عنها[5].

(168)

وجدير بالذكر -هنا- أنّ بعض المستشرقين[1] والمفسّرين المسلمين اعتبروا الضمير (الهاء) عائداً إلى القرآن[2]، إذ لو أرجعناه إلى المسيح عليه‌السلام؛ فهذا الإرجاع يقتضي تقدير مضافٍ محذوفٍ

(169)

هو (نزول) وهذا التقدير في الحقيقة لا ضرورة له؛ لذلك رجّحوا إرجاعه إلى القرآن، وعزّزوا رأيهم هذا قائلين إنّ الآية اللاحقة -رقم 63- فيها كلمة "عِيسى" لا (نزول عيسى)[1].

ولكن حينما نأخذ السّياق بنظر الاعتبار، نستلهم منه أنّ عيسى عليه‌السلام بخلقته الإعجازية يعدّ علامةً على قيام الساعة أو سببًا للعلم بذلك، لا أنّ نزوله هو العلامة عليها أو السبب في العلم بها؛ لذا بما أنّ هذه الآية جاءت في سياق الآيات المرتبطة بعيسى، فالأنسب عقلًا هو إرجاع الضمير (الهاء) له لا للقرآن الذي ذكر قبل آياتٍ عديدةٍ سابقةٍ لهذه الآية، أي في الآية رقم 43، والقاعدة المنطقية تقتضي أنّ الأقرب يمنع الأبعد.

وإذا أرجعنا الهاء إلى القرآن، فهذا لا يسوّغ لنا القول بأنّ العبارة (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) متعلّقةٌ بالعبارة الأولى من الآية[2].

وطرح باحثون آخرون؛ من أمثال يوسف درّة الحدّاد رأيًا يختلف عمّا تبنّاه من أشرنا إليهم، فرؤيته الإيديولوجيّة للقرآن الكريم هي أنّه نسخةٌ عربيّةٌ للإنجيل، كما يعتبر المسيح عليه‌السلام أفضل من النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، وعلى هذا الأساس سعى إلى العثور على ما يؤيّد توجّهاته الفكريّة هذه من باطن النصّ القرآنيّ؛ وهذا ما نلمسه جليًّا في تفسيره لآية البحث هنا، حيث ادّعى أنّها تتضمّن تلميحاتٍ تدلّ على الأفضليّة التي أشرنا إليها.

(170)

ربّما الروايات التي تناقلتها المصادر الإسلاميّة حول نزول المسيح عليه‌السلام في آخر الزمان، جعلت الحدّاد يستنتج من هذه الآية أنّه أفضل من النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، فالآية بحسب هذه الروايات تشير إلى ظهوره بين الناس مرّةً أخرى قبل يوم القيامة وأنّه شرطٌ من شروط الساعة؛ لذلك أكّد على أنّها تصرّح بظهوره من جديدٍ في آخر الزمان[1]، واعتبر هذا البيان القرآنيّ انعكاسًا للمعتقدات المسيحيّة، حيث قال: «المسيح سوف يظهر في آخر الزمان، لكنّه لا يأتي لغسل الذنوب، بل لخلاص من ينتظره»[2].

لكن حتّى وإنْ أذعنّا بهذه الروايات، فهي لا تُعدّ وازعًا للقول بأفضليّة المسيح عليه‌السلام على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، ولا تشير إلى أنّه النبيّ الخاتم[3].

وقد ذكرنا -آنفًا- أنّ غابريال سعيد رينولدز يقول إنّه: لو تمّ تعديل نصّ مصحف القاهرة قليلًا، لأمكن تغيير مضمون الآية؛ لتدلّ على أنّ النبيّ عيسى عليه‌السلام عالمٌ بالقيامة[4].

ولو كان مراد هذا المستشرق أنّ المسيح عليه‌السلام عالمٌ بزمان قيام الساعة، فهذا التعديل لا داعي له في الحقيقة، فضلًا عن أنّه يتعارض مع المضمون القرآنيّ، فالله -عزّ وجلّ- أكّد فيه على أنّ زمانها يُعدّ من الأمور الغيبيّة التي لا يعلمها إلا هو[5]، حيث قال: (يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَىٰهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى ۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةًۭ ۗ يَسْـَٔلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[6]. كذلك قال: (يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَىٰهَا 42 فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَىٰهَآ 43)[7].

ومن المؤكّد أنّ الأنبيّاء لم يُبعَثوا ليخبروا الناس بزمان قيام الساعة، وإنّما جاؤوا لإخبارهم بحتميّة وقوعها.

(171)

ب- الروايات المنقولة حول الآية: اعتبر غابريال سعيد رينولدز هذه الروايات موضوعةً من قِبَل المفسّرين المسلمين، والسبب في ذلك -برأيه- يعود إلى النزعات الدينيّة والطائفيّة - المسيحيّة والإسلاميّة، السنّية والشيعيّة - فهذه النزعات هي التي أسفرت عن التأكيد على دور النبيّ عيسى عليه‌السلام في آخر الزمان ضمن التفاسير الإسلاميّة؛ لأنّ الروايات التي نقلت في هذا المضمار تتضمّن توجّهاتٍ مناهضةً للتوجّهات الدينيّة المسيحيّة، حيث تؤكّد على أنّه سيكسر الصليب حين نزوله إلى الأرض، ويجبر المسيحيّين على اعتناق الإسلام بقوّة السيف، وما إلى ذلك من تفاصيلَ أخرى تدلّ على أنّ آخر الزمان سيصبح ميدانًا لصراعٍ مسيحيٍّ إسلاميٍّ.

وكثير من هذه الروايات -برأيه- ليست سوى محاكاةٍ للقصص المسيحيّة التي تناقلها النصارى لبيان الدور العظيم الذي سيقوم به النبيّ عيسى عليه‌السلام في آخر الزمان[1]، حيث اقتبسها المفسّرون المسلمون وسخّروها سلاحًا ضدّ النصرانيّة[2].

وأمّا الأجواء الطائفيّة السنّيّة الشيعيّة فهي عاملٌ آخرُ لرواج الروايات المذكورة بزعمه، فما تناقله أهل السنّة من رواياتٍ حول علامات الساعة وآخر الزمان، وما فيه من تأكيدٍ على دور النبيّ عيسى عليه‌السلام في تلك الآونة من حياة البشر، هو في الحقيقة ردٌّ على ما تناقله الشيعة من رواياتٍ حول الدور المحوريّ لإمامهم المهديّ في آخر الزمان.

إذًا، شخصيّة النبيّ عيسى عليه‌السلام في روايات أهل السنّة اتُّخذت مرتكزًا للردّ على عقيدة إمام آخر الزمان الذي ينتظره الشيعة؛ ونتيجة ذلك هي التأكيد على أنّه نجا من الصلب والموت.

وخلاصة الكلام أنّ السنّة والشيعة يؤكّدون في رواياتهم التي نقلوها حول أحداث آخر الزمان على أنّ المسيح والمهدي ناجيان من الموت؛ نظرًا لما ينتظرهما في آخر الزمان من دورٍ هامٍّ[3].

ويبدو أنّ أسلوب التحليل الفينومينولوجي الذي اتّبعه هذا المستشرق في التعامل مع الروايات المذكورة قائمٌ على أصول نظريّة جون وانسبرو الشكوكيّة، فالأخير شكّك بوثاقة النصوص الإسلاميّة القديمة، ومن هذا المنطلق ادّعى أنّ جميع الروايات والمعلومات المنقولة فيها غيرُ معتبرةٍ؛ كما رفض وثاقة جميع مصادر علم الرجال والفهارس التي دوّنها العلماء

(172)

المسلمون في هذا المضمار؛ وذهب إلى أبعد من ذلك ليزعم أنّ القرآن الكريم ليس سوى عباراتٍ وألفاظٍ من صياغة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ حيث روّجها في بيئةٍ طائفيّةٍ، ثمّ طوّرها المسلمون على مرّ الزمان[1]، وأمّا تفسير القرآن من قِبَل المسلمين فقد وصفه بأنّه ردّة فعلٍ بدرت من المفسّرين جرّاء تأثّرهم بمجتمعاتهم؛ أي أنّه شأنٌ اجتماعيٌّ برأيه[2].

وأمّا نيل روبنسون؛ فهو على الرغم من عدم تأييده لشكوكيّة وانسبرو، لكنّه اعتبر الروايات المشار إليها قد صيغت؛ تلبيةً لما يستحسنه عامّة الناس، وعلى هذا الأساس قلّل من شأنها[3]؛ وفي هذا السّياق قال إنّ المسلمين تعرّفوا على شخصيّة الدجّال الشرّيرة -المسيح الدجّال- التي هي في مقابل شخصيّة المسيح عن طريق المسيحيّين الناطقين باللغة السريانيّة[4].

ويُردّ على ذلك أنّ التشابه في بعض الرؤى الدينيّة المسيحيّة والإسلاميّة بخصوص أحداث آخر الزمان وشخصيّاتهم، يعود إلى أنّ التعاليم الدينيّة عادةً ما تكون متكافئةً مع بعضها في شتّى المجالات، لذا لا يستبعد أنْ يكون هذا التشابه من باب التلاقح الفكريّ[5].

(173)

وهناك ملاحظاتٌ بخصوص الروايات المذكورة لا نرى بأسًا من ذكرها هنا، وهي:

ـ اعتبرت الروايات الإسلاميّة نزول المسيح عيسى عليه‌السلام في آخر الزمان من علامات قيام الساعة، حيث أكّدت على أنّه سيظهر تزامنًا مع ظهور الإمام المهدي عليه‌السلام، وقد رُويت من قِبَل الفريقين؛ سنّةً وشيعةً، وبتعبير العلّامة: هي مشهورة ومستفيضة[1].

ـ البخاري ومسلم لم يذكرا المهدي عليه‌السلام في صحيحيهما، ولربّما امتناعهما عن ذلك سببه ضعف الروايات المنقولة بخصوصه[2]؛ لكنّهما أفردا بابًا مستقلًّا للأحاديث الخاصّة بنزول النبيّ عيسى عليه‌السلام بعنوان: «نزول عيسى بن مريم».

والمسألة المجمع عليها بين المسلمين هي أنّ نزول هذا النبيّ عبارةٌ عن علامةٍ من علامات قيام الساعة، حيث سيقوم بدورٍ مشهودٍ في تشييد مجتمعٍ إسلاميٍّ مثاليٍّ في آخر الزمان.

ومع أنّ الفِرقَ الإسلاميّة مختلفةٌ في ما بينها حول شخصيّة المهدي الذي سيظهر في آخر الزمان، لكنّ الرأي السائد بين علماء السنّة المتأخّرين أنّه من أهل بيت النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله[3].

إذًا، هذا الموضوع لا يختصّ بالمعتقدات الشيعيّة، بل هو جزءٌ هامٌّ من المعتقدات الإسلاميّة المشتركة بين جميع المسلمين، والأحاديث التي تطرّقت إلى مسألة نزول المسيح عليه‌السلام في آخر الزمان تؤكّد غالبيّتها على أنّه سيظهر بعد مدّةٍ قصيرةٍ من ظهور الإمام المهدي عليه‌السلام في آخر الزمان؛ وغالبيّة الروايات المنقولة في المصادر الشيعيّة حول ظهور المسيح هي في الحقيقة منقولةٌ من مصادرَ سنّيةٍ، حيث حظيت بتأييدٍ من قِبَل علماء الشيعة، إلا أنّها تتمحور بشكلٍ أساس حول ظهور المهدي[4]. ونستشفّ من هذه الحقيقة أنّ الفئتين من

(174)

الروايات موجودتان قطعًا لدى الفريقين سنّةً وشيعةً[1]، لكنْ غاية ما في الأمر أنّ كلّ طائفةٍ أكّدت بشكلٍ أساس على مجموعةٍ خاصّةٍ منها، لذا لا يمكن اعتبارها موضوعةً جرّاء نزاعاتٍ دينيّةٍ أو طائفيّةٍ؛ وما ادّعاه رينولدز في هذا الصدد هو في الواقع زعمٌ بلا دليلٍ ولا يقوم على أيّ مستنداتٍ تأريخيّةٍ.

ولا ننكر أنّ عددًا ضئيلًا من المسلمين ولأسباب واهيةٍ، رفضوا فكرة ظهور المهدي في آخر الزمان؛ زاعمين أنّ الموضوع مجرّدُ نظريّةٍ شيعيّةٍ، ومن المحتمل أنّ رينولدز قد استند إلى هذه المزاعم الهشّة وغير الشائعة بين المسلمين ليتّهم الروايات الدالّة على ظهور المسيح والمهدي في آخر الزمان بأنّها ثمرةٌ للرؤى الطائفيّة الإسلاميّة[2].

ـ المهدي لم يُذْكَر في القرآن الكريم باسمه، لكنّ الفكر المهدويّ يضرب بجذوره في التعاليم

(175)

القرآنيّة[1]، كذلك هو موجود في سائر الأديان بنحوٍ آخرَ؛ لأنّ جميع الأديان الإبراهيميّة متّفقةٌ على ظهور مصلحٍ في آخر الزمان، فهو بحسب العقيدة اليهوديّة (The Messiah) أي المسيح الموعود الذي ينحدر من نسل النبيّ إسحاق عليه‌السلام[2]؛ وهو يسوع بحسب العقيدة النصرانيّة، أي المسيح الموعود[3]، وأمّا المسلمون فرواياتهم تؤكّد على حتميّة ظهور المهدي الموعود الذي سيملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد أنْ ملئت ظلمًا وجورًا، وهذا الظهور حتميٌّ؛ بحيث لو لم يبقَ من الحياة الدنيا إلا يومٌ واحدٌ أو ساعةٌ واحدةٌ لأطالهما الله -عزّ وجلّ- حتّى يظهر.

وشخصيّة الدجّال الظالم المفسد في الأرض؛ وفق مضمون الروايات الإسلاميّة، تقابل شخصيّة المهدي رمز الإصلاح والعدل؛ وقد عبّرت عنه النصوص المسيحيّة بالمسيح الدجال (Antichrist).

ويقول نيل روبنسون في هذا السّياق إنّ المسلمين تعرّفوا على شخصيّة المسيح الدجّال من المسيحيّين السريانيّين؛ لأنّ هذه الكلمة مقتبسةٌ من الكلمة السريانيّة (Daggala) التي تعني الكذّاب أو الكذب[4]؛ ويؤيّد ذلك أنّ المعنى اللغويّ لهذه الكلمة في العربيّة هو الكذّاب، ومن ثمّ فالمسيح الدجّال؛ بمعنى المسيح الكذّاب، لذلك فنّد ما قاله البعض بأنّ كلمة "دَجَل" بمعنى طلاء الجرب بالقطران وطلاء البعير به[5]. وكذلك فنّد هذا المستشرق

(176)

الرأي القائل بأنّ كلمة الدجّال على نسق فعلٍ يعني الشخص الذي له عينٌ واحدةٌ وحاجبٌ واحدٌ، لأنّها ذكرت في الروايات على هيئة اسمٍ يدلّ على معنًى يوحي بشخصيّةٍ مناهضةٍ للمسيح الحقيقيّ؛ وضمن تحليله اللغويّ لهذه الكلمة وصف المعنى المنسوب إلى كونها مشتقّةً من كلمة «دَجَل» في اللغة العربيّة التي أشرنا إليها مسبقًا، بأنّه أقرب إلى المعنى الاصطلاحيّ السريانيّ الذي تنسب إليه هذه الكلمة، فالمسيح الدجّال يخدع البشريّة عن طريق تغطيته على الحقائق[1].

وقد انعكست بعض خصائص المسيح الدجّال الشائعة بين المسيحيّين في التراث الإسلاميّ؛ حسب ما ادّعاه روبنسون، وفي الترجمة البسيطة للعهد الجديد Peshitta[2] ترجمت بعض المصطلحات اليونانية للدلالة على الدجّال والمسيح الدجّال على شكل(Daggala وMashiha daggala)؛ حيث اعتبرهما ترجمتين لكلمة الدجّال في اللغة العربيّة[3].

ويؤيّد رأي روبنسون وجود تشابهٍ كبيرٍ بين شخصيّة الدجّال في الروايات الإسلاميّة والمسيح الدجّال في عقيدة النصارى، لكنْ مع ذلك لا يمكن ادّعاء أنّ المسلمين اقتبسوا هذه الشخصيّة منهم؛ لمجرّد وجودها في الفكر المسيحي الذي يضرب بجذوره في عهد ما قبل الإسلام؛ أي لا صوابيّة لقول من قال إنّه شخصيّةٌ غريبةٌ على الثقافة الإسلاميّة؛ وكما ذكرنا آنفًا فإنّ مصطلحَيِ الدجّال وآخر الزمان يجسّدان مفهومين مشتركين بين جميع الأديان الإبراهيمية، إلا أنّ خلفياتهما وما سيحدث على ضوئهما مستقبلًا، يختلفان نوعًا ما من دينٍ إلى آخرَ؛ مع كون المحور المشترك في ما بينها هو إقامة العدل وإصلاح المجتمع[4].

وأكدّ كثير من علماء اللغة على الجذور اللغويّة العربيّة لهذه الكلمة، حيث تعني برأيهم

(177)

الخلط بين الحقّ والباطل[1]، ويوصف بها كلّ مَنْ يُبالغ في الغشّ والمكر والخداع وتضليل الناس بأيّ وسيلةٍ كانت بأنّه دجّالٌ؛ وعرّفها محمد بن مكرم بن منظور في كتابه الشهير لسان العرب قائلًا: «كُلُّ كَذَّاب فَهُوَ دَجَّالٌ، وَجَمْعُهُ دَجَّالون، وَقِيلَ: سُمِّي بِذَلِكَ لأَنه يَسْتُرُ الْحَقَّ بِكَذِبِهِ. والدَّجَّال والدَّجَّالَة: الرُّفقة الْعَظِيمَةُ. ورُفْقة دَجَّالَةٌ: عَظِيمَةٌ تُغَطِّي الأَرض بِكَثْرَةِ أَهلها، وَقِيلَ: هِيَ الرُّفْقة تَحْمِلُ الْمَتَاعَ لِلتِّجَارَةِ... سُمِّي دَجَّالًا لِتَمْوِيهِهِ عَلَى النَّاسِ وَتَلْبِيسِهِ وَتَزْيِينِهِ الْبَاطِلَ، يُقَالُ: قَدْ دَجَلَ إِذا مَوَّه ولَبَّس»[2]. كلّ هذه المعاني تحكي بطبيعة الحال عن نمطٍ متشابهٍ من السلوك البشريّ، لذا فهي متقاربةٌ مع بعضها إلى حدٍّ كبيرٍ[3].

وعرّف الخليل بن أحمد الفراهيدي هذا المصطلح بأنّه ذو معنًى مضادٍّ لمفهوم المسيح عليه‌السلام، حيث قال: «والدَّجّال: المسيح الكذّاب، ودَجلُه سحره وكذبه؛ لأنّه يدجُل الحقَّ بالباطل؛ أي يخلطه، وهو رجلٌ من اليهود يخرج في آخر هذه الأمةِ»[4].

وخلاصة الكلام أنّ الروايات الإسلاميّة التي تطرّقت إلى بيان أحداث آخر الزمان وما سيجري من وقائعَ غيرِ معروفةٍ سابقًا بين البشر، نُقلت في كثير من المصادر، لكنْ لحدّ الآن لم يبادر أحد الباحثين إلى تدوين دراسةٍ موسَّعةٍ حول وثاقة أسانيدها، كما لا يوجد اتّفاقٌ بين المسلمين على ما طُرِح فيها من مواضيعَ متنوّعةٍ[5].

(178)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

التفسير الاستشراقيّ للآيات
 التي تتحدّث عن السيّدة مريم  عليها‌السلام

(179)
(180)

يلاحظ في تعامل المستشرقين مع الآيات القرآنيّة التي تتحدّث عن سيرة السيّدة مريم عليها‌السلام وما شهدته من أحداثٍ في حياتها أنّهم اعتمدوا بشكلٍ أساس على مرتكزاتهم العقديّة المسيحيّة، ومن هذا المنطلق بادروا حين تفسيرها وبيان مداليلها إلى المقارنة بين المضمون القرآنيّ ومضمون الكتاب المقدّس، حيث طرحوا آراءهم في هذا الصدد؛ وفقًا لما لديهم من معلوماتٍ إنجيليّةٍ مقتبَسةٍ من الأناجيل القانونيّة الشائعة بين أتباع الديانة المسيحيّة ومن معلوماتٍ مستبطنةٍ في النصوص الدينيّة غير المعتبرة -وبما فيها الأناجيل المنتحلة- التي يطلق عليها أبوكريفا (Apocrypha).

هذا هو الأسلوب المتّبع من قِبَلهم، والهدف منه تفعيل معطيات نصوصهم المقدّسة المعتبرة (القانونيّة) وغير المعتبرة (المنتحلة)؛ لأجل بيان ما يعتبرونه فراغًا مفهوميًّا في النصّ القرآنيّ، لذا نجدهم -أحيانًا- يوضّحون أحد المواضيع بالرجوع إلى أحد الأناجيل المعتبرة لديهم، لكنّهم -أحيانًا- أخرى يلجأون إلى الأناجيل المنتحلة -أبوكريفا-، ما يعني ذهاب جهودهم البحثية هباءً، وعدم اعتبار النتائج التي يتوصّلون إليها، وعلى هذا الأساس -عادةً- ما تكون رؤية المستشرق تجاه القرآن الكريم متطرّفةً وغيرَ قائمةٍ على الأصول المعتبرة في البحث العلميّ.

والمسألة الهامّة التي ينبغي بيانها بخصوص تعاملهم مع الآيات التي تتحدّث عن السيّدة مريم عليها‌السلام هي ارتكازهم على معلوماتهم المترسّخة في أذهانهم والتي تتناغم مع تعاليم دينهم المسيحيّ، حيث جعلوها محورًا لتفسير هذه الآيات، ومن هذا المنطلق ادّعوا أنّ الكثير من خصائص هذه الشخصيّة المقدّسة المنقولة في القرآن الكريم إمّا أنْ تكون مقتبسةً بالكامل من القصص الإنجيليّة المستوحاة من نصوص أبوكريفا؛ أي النصوص المنتحلة، أو أنّها تعكس ما ذُكِرَ في مختلف الأناجيل بنحوٍ ما[1].

وقد تمحورت مواضيع بحوثهم التفسيريّة التي دوّنوها بخصوص السيّدة مريم عليها‌السلام في القرآن الكريم بشكلٍ أساس حول القصص القرآنيّة والإنجيليّة، وسائر القصص والحكايات المذكورة في النصوص والأساطير المسيحيّة. فعلى سبيل المثال: حينما تطرّقوا إلى بيان الأحداث التي

(181)

رافقت ولادتها، سلّطوا الضوء على سورة آل عمران التي ذكرت قصّتها ضمن مجموعتين من الآيات، لذلك تطرّقوا أوّلًا للآيات التي تتحدّث عن نذر والدتها، ونزول الملائكة عليها -على مريم-، واصطفائها من قِبَل الله -عزّ وجلّ-، وتطهيرها، واختيارها صفوةً من بين نساء العالمين، وطبيعة عبادتها التي أُمِرت بها، ثمّ قارنوا هذه الآيات مع ما ذُكِرَ في سورة مريم؛ والنتيجة التي توصّل إليها أحد المستشرقين ضمن هذه المقارنة أنّ النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ربّما اطّلع أوّلًا على قصّتَيْ ولادتَيْ النبيّيْن يحيى وعيسى عليه‌السلام، ثمّ اطّلع على قصّة ولادة السيّدة مريم عليها‌السلام[1].

وفي ما يلي نتناول الموضوع بالبحث والتحليل وفق منطلقين؛ هما:

1.تفسير آيات سورة آل عمران:

حينما تطرّق المستشرق غابريال سعيد رينولدز إلى تفسير الآيات القرآنيّة التي تتحدّث عن السيّدة مريم عليها‌السلام، سلّط الضوء على الآيات 35 إلى 41 من سورة آل عمران[2] والتي هي في الحقيقة المجموعة الأولى من الآيات التي تتحدّث عن سيرة هذه السيّدة الصالحة، وممّا قاله في هذا الصدد: «الصورة القرآنيّة المطروحة في هذه الآيات لمريم، هي صورةٌ تحكي عن سيّدةٍ صالحةٍ، وهي السيّدة الوحيدة التي ذكرها القرآن باسمها وذكر أحداث ولادتها. المواضيع التي طُرحت في هذه الآيات عبارةٌ عمّا يلي: اصطفاء آل عمران، نذر طفلٍ لم يولد بعد من قبل زوجة عمران، وضع هذه الزوجة حملها، تأكيدها على أنّها ولدت أنثى وتعجّبها من ذلك وحتّى يأسها لكون المولود ليس ذكرًا، الإشارة إلى أنّ هذه الوليدة تختلف عن غيرها لكون الله اصطفاها وطهّرها وفضّلها على سائر النساء». وأضاف أنّ أفضليّة السيّدة مريم عليها‌السلام على سائر النساء في القرآن أشير إليها على ضوء كيفيّة ولادتها ونشأتها في سياق ولادة النبيّ يحيى عليه‌السلام ونشأته[3]؛ فالقرآن أخبر بأنّ زكريا والد يحيى قد تكفّل بتربية مريم، وبهذا ربط بين القصّتين (إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَٰنَ رَبِّ إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّىٓ ۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ).

(182)

والنتيجة التي توصّل إليها هذا المستشرق هي في الحقيقة على غرار ما استنتجه معظم المفسّرين المسلمين، وفحواها أنّ دعاء زوجة عمران لمريم وذرّيّتها بأنْ يحفظهم الله من الشيطان الرجيم يدلّ على أنّها -مريم- لها الأفضليّة على غيرها؛ لأجل ابنها عيسى عليه‌السلام: (وَإِنِّىٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ). ثمّ تطرّق إلى ما ذكره القرآن الكريم بخصوص النشأة الفريدة من نوعها لهذه السيّدة الصالحة: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍۢ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) وكيف إنّها التزمت المحراب ليكرمها الله -تعالى- برزقٍ إعجازيٍّ، وهي في هذه الحالة طبعًا كانت تحت رعاية زكريا وتكفّله؛ وبعد أن تحدّثت الآيات عن تبشيره بيحيى، تحدّثت مرّةً أخرى عن مريم، وأكّدت على أنّ الله -تعالى- اصطفاها وطهّرها، ثمّ عادت إلى الحديث عن موضوع كفالتها[1].

وقد تحدّث القرآن الكريم بشكلٍ استثنائيٍّ عن السيّدة مريم عليها‌السلام؛ لكونها شخصيّةً استثنائيّةً وآيةً عظيمةً من آيات الله عزّ وجلّ، حيث ذكر أهمّ الأحداث التي شهدتها في طفولتها، كذلك لم يتحدّث عن نشأة الأمّهات العظيمات في التأريخ البشريّ ولم يشِرْ إلى عهد ولادتهنّ وطفولتهنّ؛ مثلما تحدّث عن هذه السيّدة الصالحة الجليلة. ولا شكّ في أنّ مرحلة طفولتها وحداثتها وحمْلها وهي عذراء، ثمّ وضْعها مولودًا ترعرع على يدها ليصبح من الرسل أولي العزم؛ كلّها براهينُ ساطعةٌ على كونها من عجائب الخلقة الإلهيّة؛ مُضافًا إلى أنّ أمّها -أيضًا- ذاتُ منزلةٍ عظيمةٍ وشأنٍ رفيعٍ في عالم الخلقة: (إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَٰنَ رَبِّ إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّرًۭا فَتَقَبَّلْ مِنِّىٓ ۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ).

2. تفسير العبارات الغامضة:

الفرضية الأساس التي يرتكز عليها الفكر الاستشراقيّ حينما يواجه المستشرق مضامينَ مشتركةً بين القرآن الكريم والنصوص المسيحيّة، هي انسجام المضامين القرآنيّة مع هذه النصوص؛ باعتبار أنّه مستوحًى منها؛ ومن هذا المنطلق يبادرون إلى بيان مكامن الغموض

(183)

والعبارات التي يعتبرونها معقّدةً أو متباينةً مع مداليل نصوصهم أو متناقضةً معها، ولا فرق لديهم في ذلك بين النصوص المسيحيّة الإنجيليّة الثابتة، وتلك النصوص الضعيفة غير المعتبرة - أبوكريفا - فهدفهم هو ملء الفراغ المفهوميّ، وتحميل النصّ القرآنيّ مفاهيمَ إنجيليّةً؛ مهما كان مصدرها.

إذًا، التعاليم المسيحيّة هي المعيار المعتمد في الدراسات الاستشراقيّة الخاصّة بالقرآن الكريم، حيث يؤكّد المستشرقون على أنّ الكثير من القضايا المنقولة فيه إمّا أن تكون منطبقةً بالكامل مع الأناجيل المنتحلة أو أنّ جزءًا منها -فقط- يتناغم مع مضامين هذه النصوص المسيحيّة[1]؛ لذلك حتّى وإنْ تبنّوْا أحيانًا رؤًى تنسجم مع ما تبنّاه المفسّرون المسلمون، لكنّهم غالبًا ما يطرحون آراء سلبيّةً (غيرَ ودّيةٍ) وتشكيكيّةً حول المضامين القرآنيّة، ولا سيّما عند مشاهدة تعارضٍ بينها وبين مضامين الكتاب المقدّس، أو عند ملاحظة تشابهٍ بينها وبين مضامين الأناجيل المنتحلة؛ وهذا التوجّه بلغ درجةً من التطرّف بحيث قال أحدهم: «لا نجد دائمًا ارتباطًا مباشرًا بين نصوص الكتاب المقدّس والنصوص القرآنيّة، فهذه النصوص -نصوص الكتاب المقدّس- تغلغلت في القرآن بشكلٍ مكرّرٍ عن طريق التفاسير الحاخاميّة وتفاسير المسيحيّة الأولى؛ إذ هناك اشتراكٌ بين التعاليم الإسلاميّة وتعاليم الكتاب المقدّس ضمن تراثٍ أدبيٍّ متعدّد اللغات والثقافات»[2].

وفي هذا السّياق ادّعى غابريال سعيد رينولدز أنّ جزئيّات النصّ المسيحيّ هي الحلّ التفسيريّ لغموض العبارات القرآنيّة المعقّدة في قصّة مريم عليها‌السلام ضمن سورة آل عمران، وهذا الادّعاء ليس سديدًا؛ لأنّ القرآن الكريم ذكر بصريح العبارة كون هذه القصص غيبيةً؛ بحيث لم يكنْ النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وقومه على علم بها: (ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)[3].

(184)

المبحث الأوّل: مريم عليها‌السلام بنت عمران وأخت هارون:

اعتبر غالبيّة المستشرقين هويّة السيّدة مريم عليها‌السلام من جملة القضايا الغامضة في الآيات القرآنيّة التي وصفتها ببنت عمران وأخت هارون: (إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَٰنَ رَبِّ إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى...)[1] (وَمَرْيَمَ ٱبْنَتَ عِمْرَٰنَ ٱلَّتِىٓ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا)[2]، (يَٰٓأُخْتَ هَٰرُونَ...)[3].

وادّعى هؤلاء المستشرقون أنّ مريم التي أشارت إليها هذه الآيات هي أخت موسى وهارون عليهما‌السلام المذكورة في كتابهم المقدّس، ومن المؤكّد أنّ السبب الذي دعاهم إلى طَرْحِ هذا الرأي هو مرتكزاتهم العقديّة المستوحاة من الكتاب المقدّس وإيمانهم بأنّ نصوصهم المقدّسة أفضلُ من النصّ القرآنيّ وأصحُّ منه، فضلًا عن تصوّرهم الخاطئ بخصوص منشأ القرآن الكريم[4]. الموضوع الأساس الذي جعلوه محورًا لنقدهم في هذا المضمار، هو وصف القرآن الكريم للسيّدة مريم أمّ المسيح عليهما‌السلام بأنّها أخت هارون، وفي ما يلي نسلّط الضوء على آرائهم

(185)

التفسيريّة بخصوص هذا الموضوع:

1. وجهةٌ تفسيريّةٌ معارِضةٌ للتفسير الإسلاميّ على ضوء ظاهر النصّ القرآنيّ ومقارنته مع مضمون الكتاب المقدّس.

معظم المستشرقين حين تحليلهم هذه العبارات القرآنيّة، زعموا أنّها من جملة الأخطاء التي وقع بها النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، وعلى هذا الأساس اتّهموا القرآن الكريم بكونه خلط بين الحقائق والأحداث التأريخيّة[1]، فهو في هذه العبارات نقض التأريخ المتعارف في العهدين.[2]

وجدير بالذكر أنّ بعض المستشرقين؛ من أمثال: كاتب المقالة المعنونة (مريم) في الموسوعة القرآنيّة[3]، لم يتطرّقوا إلى هذا الأمر.

لا شكّ في بطلان مزاعم أولئك الذين ادّعوا أنّ القرآن الكريم وقع في خطأٍ تأريخيٍّ لدى نقله هذه القصّة، وذلك لأنّ النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعرف حقّ المعرفة تلك الفاصلة الزمنيّة الكبيرة بين عهد موسى وهارون عليهما‌السلام وعهد مريم وابنها عيسى عليهما‌السلام والتي تبلغ ستّة قرونٍ بحسب الرواية التي نقلها الطبري في تأريخيه؛ فقد عرف صلى‌الله‌عليه‌وآله بذكائه وفراسته -وهذا ما يعترف به الكثير من المستشرقين- لذا كيف يمكن أن يقع في خطأ لا مسوّغ له كهذا ؟! ألـم يكن يعلم بأنّ مريم أخت هارون وموسى عاشت قبل مريم أمّ عيسى بمئات السنين[4]؟!

(186)

ما يدعو للعجب -هنا- أنّ الرؤية التي تبنّاها غالبيّة المستشرقين تجاه هذا الموضوع هي في الواقع ذاتُ طابعٍ غيرِ ودّيٍّ، وتنمّ عن فكرٍ مناهضٍ للإسلام، وإلا هل هناك روايةٌ إسلاميةٌ اُدُّعِي فيها أنّ مريم أمّ المسيح عيسى عليهما‌السلام هي أخت هارون وموسى عليهما‌السلام؟! وهل هناك مفسِّرٌ مسلمٌ زعم ذلك؟! المستشرقون أنفسهم أقرّوا بأنّ النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كان على علمٍ بالفاصلة الزمنيّة بين عهدَيِ النبيّيْن موسى وعيسى عليهما‌السلام[1].

2. وجهةٌ تفسيريّةٌ مؤيّدةٌ للتفسير الإسلاميّ بخصوص كلمتَيْ "بنت" و"أخت" في إطار دلالةٍ مجازيّةٍ:

أيّد الباحث سليمان علي مراد، ضمن آخر مقالة دوّنها، التفسير الإسلاميّ لما ذكرنا، واعتبر كلمة «أخت» في قوله -تعالى-: (يَٰٓأُخْتَ هَٰرُونَ) ذاتَ دلالةٍ مجازيةٍ، وقال في هذا السّياق إنّ القرآن الكريم بشكلٍ عامٍّ -بل مرارًا لا نادرًا- استخدم مصطلحيْ "أخ" و"أخت" للإشارة إلى العلاقات القوميّة والقبليّة أو الدينيّة[2]. وأضاف أنّ النصوص المسيحيّة المقدّسة استخدمت مصطلح ابن للدلالة على البنوّة المباشرة بين الولد والأب، في حين أنّ القرآن الكريم استخدم هذا المصطلح ومصطلح بنت -أيضًا- للدلالة على هذا المعنى، وعلى معانٍ أخرى؛ مثل: النسل، والذرّية؛ مثل: مصطلح بني إسرائيل الذي يراد منه قوم إسرائيل، ولا يُراد منه أبناء النبيّ يعقوب عليه‌السلام الذين أنجبهم مباشرةً؛ ومثل مصطلح بني آدم الذي يحكي عن جميع البشر، ولا يُراد منه الأبناء الذين أنجبهم آدم عليه‌السلام مباشرةً[3].

كلمتا أخ وأخت ذكرتا في القرآن الكريم 28 مرّةً ومعنياهما الاصطلاحيّان لهما دلالاتٍ عدّةُ؛ مثل: العشيرة والقبيلة: (وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَٰلِحًۭا ۗ قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم

(187)

مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُۥ ۖ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌۭ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمْ ءَايَةًۭ ۖ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِىٓ أَرْضِ ٱللَّهِ ۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٍۢ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌۭ) [1]، أو العلاقات الدينيّة: (وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًۭا وَلَا تَفَرَّقُواْ ۚ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءًۭ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَٰنًۭا) [2]، لذا ليس من الصواب بمكانٍ تجاهل المعنى الاصطلاحيّ وادّعاء أنّ المدلول القرآنيّ لكلمتي بنت وأخت يُراد منه معنياهما اللغويّان -المعنى الحقيقيّ- فقط بداعي أنّ المعنى اللغويّ هو الشائع لهما[3].

وممّا قاله -أيضًا- في هذا الصدد: «السّياق القرآنيّ الذي خُوطبت فيه مريم: (يَٰٓأُخْتَ هَٰرُونَ)، له ارتباطٌ بالمعبد وكهنته، لذا من المعقول بمكانٍ أنهم يذكّرونها بجدّها هارون لتعظيم ما اعتبروه؛ انحرافًا أخلاقيًّا من قِبَلها، فهارون هو الشخص الوحيد الذي تستحقّ ذرّيّته وأعقابه أنْ يكونوا خدَمَةً للمعبد؛ ومريم طبعًا من نسله»[4].

والنتيجة النهائيّة التي توصَّل إليها تتلخّص في كلامه التالي: «لا يوجد أيّ دليلٍ في هذا المجال يوجب القول بأنّ القرآن استخدم المدلول الحقيقيّ في توجيه الخطاب لمريم يا أخت هارون ويا بنت عمران، وإنّما هو خطابٌ رمزيٌّ [مجازيٌّ]»[5].

ويبدو أنّ هذا الاستدلال مقبولٌ؛ لأنّ الآية في مقام بيان ذمّ القوم للفعل الذي نسبوه إلى مريم عليها‌السلام، ومن الطبيعي أنّ ذمّ فعل الإنسان يكون أكثر وقعًا؛ في ما لو ذكّر بجذوره الثقافيّة وعراقته الأسريّة؛ أي أنّ تأثيره يتزايد وجانبه النقدي يصبح أشدّ وطْئًا عندما يقارن الآخرون شخصيّة المخاطب مع شخصيّات أسلافه.

يقول الشيخ محمّد هادي معرفت في هذا الصدد: «إذً، قوم مريم أرادوا تشديد توبيخهم لها، لذلك أشاروا إلى أصلها ونسبها وأسرتها، حيث قالوا لها: إنّك من عائلة عفيفة، لماذا وقعت في خطأ كهذا؟! المتعارف بين الناس في تلك الآونة إطلاق أسماء الأسلاف من رجالٍ ونساءٍ على الإنسان احترامًا وتكريمًا له، ولا سيّما إنْ كان من ذرّيّة شخصٍ عظيمٍ؛ مثل: هارون الذي هو

(188)

محترمٌ بين بني إسرائيل وذو شأنٍ رفيعٍ عندهم، وكبار الكهنة الأوائل كانوا من أولاد لاوي الذين شكّلوا أكبر قبيلةٍ في بني إسرائيل»[1]. وكما ذكرنا -آنفًا- فالسيّدة مريم عليها‌السلام تنتسب من جهةٍ إلى هارون عليه‌السلام.

وذكر المفكّر عبد الرحمن بدوي احتمالًا آخر في هذا المجال، حيث قال: «والد مريم توفّي قبل ولادتها، فتكفّلها زوج خالتها زكريا، لذا فقد كان بحكم والدها، وبما أنّه من نسل هارون؛ فمريم هي الأخرى من نسله نوعًا ما»[2].

وتحدّث سليمان علي مراد -أيضًا- عن مدلول قوله -تعالى-: (ٱمْرَأَتُ عِمْرَٰنَ) ضمن الآية 35 من سورة آل عمران، وقال موضّحًا: «هذه العبارة تشير إلى عمران المذكور في الكتاب المقدّس، ويقصد منها أنّ أمّ مريم قد تزوّجت أحد أحفاده»[3] ويمكن اعتبار رأي بدوي مكمّلًا للرأي الذي تبنّته المستشرقة دونيز ماسون، فقد اعتبر العلاقة بين مريم والدة النبيّ عيسى ومريم المذكورة في سفر الخروج، علاقة رمزيةً، وهذه الرمزيّة هي على غرار وصف النبيّ عيسى ابنًا لداوود في العهد الجديد (إنجيل لوقا، 1: 32)، واعتبار أليصابات من نسل هارون (إنجيل لوقا، 1: 5)[4].

الاستدلال الآخر الذي طرحته دونيز ماسون هو أنّ المسيحيّين على ضوء اعتقادهم بأنّ اسم أمّ مريم في كتاب صاموئيل (The Hannah) أطلقوا عليها أوّلًا اسم آنا ثمّ حنّة ثمّ حنّا؛ وربّما القرآن الكريم فعل الشيء ذاته مع مريم[5].

بعض الباحثين اعتبروا هذا الاستدلال تشدّقًا لا مسوّغ له، إذ لا يوجد أيّ دليلٍ يثبت أنّ القرآن الكريم صاغ قصّة السيّدة مريم والدة النبيّ عيسى على أساس قصّة مريم أخت هارون وموسى[6].

(189)

وأكّد المستشرق آرند جان فنسنك على أنّ مصطلحَيْ أخت وأخ في اللغة العربيّة يدلان -أيضًا- على علاقاتٍ أسريةٍ أو جذورٍ عرقيةٍ أو علاقاتٍ روحيةٍ[1].

واللافت للنظر في هذا الصدد أنّنا لا نمتلك أيّ مصدرٍ دقيقٍ بخصوص نسب السيّدة مريم عليها‌السلام وجذورها العرقية، ذكر في إنجيل لوقا -فقط- أنّ زوجة النبيّ زكريا وأمّ النبيّ يحيى؛ أليصابات (إليزابيث) من ذرّيّة هارون، كما اعتبرت من أقارب السيّدة مريم أمّ المسيح (إنجيل لوقا، 1 : 5 و36).

ونقل أحد الباحثين عن القدّيس هيبوليت كلامًا فحواه أنّ آنا (حنّة) (Anne) والدة السيّدة مريم هي أخت صوبا (صوفيا) والدة أليصابات (إليزابيث)[2]. وذكر في قاموس الكتاب المقدّس أنّ والدة السيّدة مريم هي أخت أليصابات وتنحدر من نسل لاوي وذرّيّة هارون[3].

وجدير بالذكر -هنا- أنّ معظم المفسّرين المسلمين لدى تفسيرهم الآية 33 من سورة آل عمران، حينما تطرّقوا إلى بيان مدلول مصطلح "آل عمران" قالوا إنّ السيّدة مريم عليها‌السلام هي ابنة عمران بن ماثان الذي كان من أحبار اليهود وصلحائهم، وينحدر من نسل هارون أخي موسى، لا من نسل سليمان بن داوود؛ كما يدّعي البعض. وفي هذا السّياق أكّدوا على أنّ عمران هذا ذكر في كتب النصارى باسم يواقيم (Joachim)؛ ما يعني أنّه كان ينادى باسميْن[4].

واستنتج العلامة محمّد حسين الطباطبائي، على ضوء سياق الآيات التي تحدّثت عن السيّدة مريم عليها‌السلام، أنّ عمران المذكور فيها هو والدها، واستدلّ على ذلك قائلًا: «وأمّا آل عمران، فالظاهر أنّ المراد بعمران أبو مريم؛ كما يُشعِر به تعقيب هاتين الآيتين بالآيات التي تذكر قصّة امرأة عمران ومريم ابنة عمران، وقد تكرَّر ذكر عمران أبي مريم باسمه في القرآن الكريم، ولم يرد ذِكْر عمران أبي موسى حتّى في موضعٍ واحدٍ يتعيّن فيه كونه هو المراد بعينه؛ وهذا يؤيّد كون المراد بعمران في الآية أبا مريم عليها‌السلام. وعلى هذا فالمراد بآل عمران هو مريم وعيسى عليهما‌السلام أو هما وزوجة عمران.

(190)

وأمّا ما يذكر أنّ النصارى غير معترفين بكون اسم أبي مريم عمران، فالقرآن غير تابعٍ لهواهم»[1].

واحتمل غابريال سعيد رينولدز أنْ يكون لوقا وصف أليصابات (إليزابيث) زوجة زكريا بأنّها ابنة هارون، لأنّ زكريا كان كاهنًا في المعبد ومقامه المعنويّ يرمز إلى مقام هارون، لذا ليس من المصادفة أنّ القرآن ذكر خطاب القوم لمريم تحت بعنوان (يَٰٓأُخْتَ هَٰرُونَ) بعد خروجها من المحراب مباشرةً؛ ما يعني أنّ سبب الوصف القرآنيّ لها بكونها أختًا لهارون، هو السبب نفسه الذي دعا لوقا إلى وصف أليصابات بأنّها ابنة هارون؛ فمريم من ذرّيّة الكهنة الذين كان لهم مقامٌ روحانيٌّ رفيعٌ بين بني إسرائيل. كما احتمل أنّ شهرة مريم بين الناس بوصفها ابنة خالة أليصاباتْ[2]، هو السبب الذي دعا القرآن الكريم لأن يعمّم العلاقة الموجودة بين هارون وأليصابات على مريم[3]. لكنْ هناك سؤالٌ يطرح نفسه على رينولدز في هذا الصدد، وهو: لِمَ وصف القرآن الكريم مريم أمّ عيسى عليهما‌السلام بأنّها أخت هارون ولم يقل ابنة هارون؛ على الرغم من أنّها من أحفاده؟ لا شكّ في أنّ وصفها ببنت عمران وأخت هارون يوحي إلى الذهن -بشكلٍ لا شعوريٍّ- شخصيّة والد النبيّ موسى عليه‌السلام وأخاه، لذلك قال البعض إنّ عمران المذكور في الآية 33 من سورة مريم هو والد هارون عليه‌السلام[4]، وبما أنّ السيّدة مريم عليها‌السلام والدة النبيّ عيسى عليه‌السلام فلا يمكن أنْ توصف بأخت موسى عليه‌السلام.

كما احتمل غابريال سعيد رينولدز، لدى تحليله مفهومَيْ عبارتَيْ «آل إبراهيم» و«آل عمران»، أن يكون المقصود من الأولى لقبًا لإسحاق وإسماعيل عليهما‌السلام لتشمل اليهود والمسيحيّين والعرب، فاليهود والمسيحيون يعتبرون أنفسهم أبناء معنويّين أو واقعيّين لإسحاق، والعرب يقولون إنّهم من ذرّية إسماعيل؛ ولربّما هذا هو السبب في استخدام القرآن مصطلح «آل»؛ حيث أراد الإشارة إلى شخصياتٍ أساسيّةٍ مرتبطةٍ مع بعضها بأواصرَ خاصّةٍ. وأمّا المقصود من العبارة الثانية «آل عمران» فهو الإشارة إلى ولديْ عمران؛ موسى وهارون عليهما‌السلام[5]. وفي هذا السّياق

(191)

أكّد على أنّ شخصيّة عمران التأريخيّة واحدةٌ، إذ لا يوجد عمران سوى والد موسى وهارون عليهما‌السلام، والمضمون القرآنيّ برأيه ليس تأريخيًّا؛ ما يعني أن لا عمران في تأريخ البشر سوى هذا الشخص، ومن ثمّ لا يمكن تفسير عبارة «آل عمران» إلا بمعنى ولديَه هذين.

ويقول الراغب الأصفهاني: "الآل: مقلوب من الأهل؛ ويصغّر على أهيل؛ إلا أنّه خصّ بالإضافة إلى الأعلام الناطقين دون النكرات، ودون الأزمنة والأمكنة... ويستعمل فيمن يختصّ بالإنسان اختصاصًا ذاتيًّا إمّا بقرابة قريبة، أو بموالاة، قال الله عزّوجلّ: (وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ) (آل عمران:33)[1]"، لذا فمصطلح «آل إبراهيم» ينضوي تحته جميع أبناء النبيّ إبراهيم عليه‌السلام من صلب إسماعيل وإسحاق، ولكن على أساس قرينة الاصطفاء الموجودة في هذه الآية، فالمقصود منه هو إبراهيم وذرّيته الصالحة فقط.

وبعض المفسّرين وسّعوا نطاق مدلول مصطلح (آل) ليعمّموه على غير الأبناء من أقاربَ وأبناء عشيرةٍ وموالٍ وكلّ من ينسب إلى مضاف هذا المصطلح وبما في ذلك العبيد والأنصار[2]. وبما أنّ هذه الآية تتضمّن العبارتين معًا - آل عمران وآل إبراهيم - ونظرًا لكون العبارة الأولى تندرج تحت العبارة الثانية، فهي من المحتمل أنْ تشير إلى أنّ المراد -هنا- بعض آل إبراهيم لا كلّهم.

وبناءً على ما ذُكِرَ يمكن أنْ يكون المراد من عمران في قوله -تعالى-: «آل عمران» والد النبيّ موسى عليه‌السلام، وربّما يراد منه والد السيّدة مريم الذي جاء اسمه في ما بعد؛ وفي كلا الحالتين فإنّ عمران وموسى ومريم ينضوون تحت عنوان «آل إبراهيم»[3]، وعلى هذا الأساس، فإنّ هذه العبارة تحكي عن عمران وذرّيّته أيضًا. ولهذا السبب وإضافةً إلى قرائنَ تستبطنها هذه الآية[4] والآيات اللاحقة لها، من الأفضل تفسير عبارة «آل عمران»؛ بعيسى عليه‌السلام وكلّ من ينتسب إليه.

(192)

وكما هو معلومٌ فهذه الآيات تحدّثت عن نشأة السيّدة مريم عليها‌السلام منذ فترة حمل أمّها بها حتّى ولادة عيسى عليه‌السلام، كما أشارت إلى المناظرة التي جرت بين النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والنصارى[1].

وتطرّق سمير خليل سمير إلى تفسير هذه الآيات بأسلوبٍ يتناغم مع ما تبنّاه المفسّرون المسلمون؛ محتملًا أنّ عبارة «آل عمران» القرآنيّة يُراد منها موسى وعيسى عليهما‌السلام، فالأوّل هو الابن المباشر لعمران والرمز الأوّل لليهود، بينما الثاني يعتبر ابنًا روحيًّا له، لذلك كان في عهده؛ وكأنّه موسى جديدٌ جاء بعهدٍ وميثاقٍ جديد؛ فالقرآن الكريم؛ بدل أن يذكر اسميهما بشكلٍ مستقلٍّ، أشار إليهما بشكلٍ مركّب ضمن هذه العبارة، وهذا التركيب مقصود طبعًا وينعكس -أيضًا- في اللفظ غير المتعارف (عيسى Isa) إذ من المحتمل أنّ يسوع سمّي بهذا الاسم القرآنيّ ليكون منسجمًا مع اسم موسى[2].

إنّ الاستنتاج الذي طرحه رينولدز لمصطلح (آل)، قائمٌ على مرتكزاته العقديّة المسيحيّة في الحقيقة التي قوامها وجود عمرانٍ واحدٍ -فقط- في التأريخ، وهو عمرانُ والد موسى وهارون عليهما‌السلام؛ والسبب في هذا التصوّر كما ذكرنا سابقًا، هو أنّ الكتاب المقدّس لم يُشِرْ مطلقًا إلى والد السيّدة مريم عليها‌السلام سوى إشارته إلى أنّه سبط يهوذا ومن نسل داوود، لذا لا مانع من أنْ يكون اسمه عمران؛ لأنّ هذا الاسم كان شائعًا بين بني إسرائيل آنذاك، فضلًا عن أنّ شخصًا من بني باني سمّي به «مِنْ بَنِي بَانِي: مَعَدَايُ وَعَمْرَامُ وَأُوئِيلُ»[3]، كما أنّ أحدًا لم ينكر انتساب مريم إليه لحدّ الآن؛ وعلى هذا الأساس ليس من المستبعد أن يتضمّن القرآن الكريم كلامًا لا وجود له في الكتب المقدّسة القديمة؛ بحيث لم يكنْ معروفًا من قِبَل أتباع مختلف الأديان في عصر النزول، لذلك قال -تعالى-: (ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)[4]. لأنّ قصّة مريم عليها‌السلام ذُكِرَت في الكتب السابقة بشكلٍ غيرِ منسّقٍ ومختلفٍ عمّا ذكره القرآن الكريم، حيث أكّد -تعالى- في هذا الكتاب الحكيم على عفّتها وطهارتها التامّة[5].

(193)

إذًا، من المحتمل أنّ المقصود من كلمة «عمران» في الآية 33 من سورة آل عمران، هو والد السيّدة مريم عليها‌السلام، وحتّى لو قيل إنّ المقصود منه والد هارون عليه‌السلام، فلا ترد أيّ مؤاخذةٍ على النصّ القرآنيّ؛ إذ المراد في هذه الحالة كون مريم من نسل هارون، ومن ثمّ؛ فهي من نسل عمران بطبيعة الحال؛ لذا إنْ اعتبرنا أنّ مريم وأليصابات من نسل هارون بن عمران، فلا بدّ لنا -هنا- من الإذعان بأنّ هؤلاء الثلاثة مصداقٌ لآل عمران، وهذه الصفة تسري -أيضًا- على النبيَّين يحيى وعيسى عليهما‌السلام، فهما من آل عمران. ومن هنا تتّضح دلالة المفهوم القرآنيّ، ويثبت لنا أنّ يحيى وأمّه، وعيسى وأمّه، ينتسبون إلى أسرة آل عمران، وكلّهم طبعًا من نسل هارون[1].

3. وجهةٌ تفسيريّةٌ مؤيّدةٌ للتفسير الإسلاميّ قوامها التفسير التمثيلي:

تطرّق بعض المستشرقين إلى تفسير عبارة: (يَٰٓأُخْتَ هَٰرُونَ) بأسلوبٍ ينسجم مع ما تبنّاه المفسّرون المسلمون، حيث وضّحوا مدلولها على ضوء استنادهم إلى الأساليب التفسيريّة المعتمدة في تفسير نصوص الكتاب المقدّس؛ وفي هذا السّياق قالوا إنّ الوحي القرآنيّ ذكر بطل القصّة في بعض تعابيره؛ وفق نمطٍ تمثيليٍّ (تيبولوجي/ Typology) وهذا الأسلوب البيانيّ شائعٌ في الحقيقة بين المسيحيّين أيضاً[2]. وكاتب النصّ القصصيّ؛ يجعل وفق هذا الأسلوب إحدى الشخصيّات القديمة أنموذجًا ومثالًا لشخصٍ أو حادثةٍ أخرى في زمانٍ آخرَ، أو أنّه يجعله كذلك بالنسبة إلى دينٍ آخرَ.

ويعتبر المسيحيون الكثير من الشخصيات والأحداث المذكورة في العهد الجديد تمثيلًا لما تضمّنه العهد القديم، وفي هذا السّياق قال المستشرق نيل روبنسون إنّ مريم أمّ عيسى ربّما هي تمثيلٌ لشخصيّة مريم النبيّة، فمن أوجه التشابه بينهما أنّ أمّ المسيح أنقذته في طفولته من الملك هيرودوس الذي كان يقتل كلّ طفلٍ آنذاك، وهذا الأمر على غرار ما فعلته مريم أخت هارون؛ حينما أنقذت موسى عليه‌السلام في طفولته من فرعون الذي كان يقتل كلّ طفلٍ أيضًا؛ كما أنّ حياء مريم أمّ المسيح من قومها حينما أنجبته دون أبٍ يشابه حياء مريم

(194)

أخت هارون، فقد روي في الكتاب المقدّس: «وَتَكَلَّمَتْ مَرْيَمُ وَهَارُونُ عَلَى مُوسَى بِسَبَبِ الْمَرْأَةِ الْكُوشِيَّةِ الَّتِي اتَّخَذَهَا، لأَنَّهُ كَانَ قَدِ اتَّخَذَ امْرَأَةً كُوشِيَّةً... * فَصَرَخَ مُوسَى إِلَى الرَّبِّ قَائِلاً: اللّهُمَّ اشْفِهَا. * فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: وَلَوْ بَصَقَ أَبُوهَا بَصْقًا فِي وَجْهِهَا، أَمَا كَانَتْ تَخْجَلُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ؟ تُحْجَزُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ، وَبَعْدَ ذلِكَ تُرْجَعُ. * فَحُجِزَتْ مَرْيَمُ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَرْتَحِلِ الشَّعْبُ حَتَّى أُرْجِعَتْ مَرْيَمُ»[1].

ويرد على هذا التفسير أنّه لا يقوم على معيارٍ معتبَرٍ؛ كما أنّه بعيدٌ عن الواقع، فهناك تكلّفٌ في ادّعاء وجود تشابهٍ بين ما فعلته مريم أخت موسى ومريم أمّ عيسى، أو بين ما تعرّضتا له من ابتلاءاتٍ؛ إذ كيف يمكن تشبيه ابتلاء الأولى بالجذام بما تعرّضت له الثانية من تهمةٍ واهيةٍ؛ بزعم أنّها أنجبت وليدًا من علاقة زنا، وهذه التهمة وُجّهت لها -طبعًا- من كهنةٍ ورجالِ دينٍ يهودٍ مشرفين على المعبد؛ إذ قد يكون هذا الأسلوب التفسيري التمثيلي المعهود بين المسيحيّين في التعامل مع نصوصهم المقدّسة، هو السبب الذي حفّز غابريال سعيد رينولدز على أنْ يحتمل كون النصّ القرآنيّ حاول الربط بين هاتين الشخصيّتين لمخاطبيه[2]؛ لكن السؤال الذي يُطرَح عليه في هذا الصدد هو: هل إنّ مسلمي عصر نزول القرآن كانوا على علمٍ بأسلوبٍ تمثيليٍّ كهذا؟ أي هل كانت لديهم معلوماتٌ حول الأسلوب التمثيليّ المتّبع في تطبيق شخصيات العهد القديم على العهد الجديد؟ إنّ هذا الأسلوب هو ثمرةٌ للجهود التفسيريّة المبذولة من قِبَل علماء اللاهوت في العصور المتأخّرة والتي أريد منها بيان معاني الكتاب المقدّس!

واللافت للنظر أنّ هؤلاء المستشرقين طرحوا آراء عديدةً من هذا القبيل على ضوء اعتقادهم بكون النصّ القرآنيّ لم يطرح مضامينه وفق أسسٍ تأريخيةٍ، لذا لا ضرورة للبحث عن وثائقَ تأريخيةٍ لهذه المضامين[3]؛ لذا، فلا ينبغي اعتبار قوله -تعالى-: (يَٰٓأُخْتَ هَٰرُونَ)

(195)

خلطًا تأريخيًّا - خطأً تأريخيًّا - بل هو تفسيرٌ تمثيليٌّ ورمزٌ أدبيٌّ[1]. هذا التوجيه في الحقيقة لا يمكن قبوله بالنسبة إلى جميع الموارد، ولا سيّما المورد الأخير -مريم أخت هارون ومريم أمّ عيسى- لأنّ الإذعان به يتطلّب وجود دليلٍ، لكنّنا لا نجد أيًّا من المستشرقين طرح دليلًا على ذلك، والتوجيه الوحيد الذي تشبّثوا به هو وجود تناقض بين المضمون القرآنيّ ومضمون الكتاب المقدّس لدى اليهود والنصارى.

4. وجهةٌ تفسيريّةٌ مؤيّدةٌ بالكامل للتفسير الإسلاميّ وقبول المعنى الظاهريّ:

يعُدّ يوسف درّة الحدّاد من جملة الذين أيّدوا القصص القرآنيّة بخصوص السيّدة مريم أمّ عيسى عليهما‌السلام، دون أنْ يتشبّث بذرائعَ هامشيةٍ، ومن أقواله في هذا الصدد: «أمّ عيسى هي ابنة عمران، إلا أنّ عمران هذا عاش بعد 1800 سنةٍ من عهد عمران والد موسى وهارون؛ وكلاهما ينحدر من نسل يعقوب وإسرائيل، إذًا، المسيح هو ثمرة سلسلة بني إسرائيل وآخر من اصطفي منهم»[2]. ويبدو أنّ إصرار هذا الحدّاد على إثبات أفضليّة النبيّ عيسى عليه‌السلام على غيره، هو السبب في عدم غوره أكثر في تفاصيل بيان مدلول قوله -تعالى-: (يَٰٓأُخْتَ هَٰرُونَ)، وما طرحه من رأيٍ حول هذه العبارة القرآنيّة يشابه إلى حدٍّ ما أحد الآراء المطروحة من قِبَل المفسّرين المسلمين، والذي ذكر بوصفه واحدًا من الاحتمالات بخصوص معناها.

وهناك مسألةٌ تجدر الإشارة إليها في ختام هذا البحث، وهي أنّ كلّ هذه التوجيهات والآراء التفسيريّة لا تستوفي بيان الموضوع بكلّ تفاصيله، إذ تبقى بعض الاستفسارات بحاجةٍ إلى إجاباتٍ مقنعةٍ، ومنها ما يلي: ما السبب في تسمية مريـم أمّ المسيح عليهما‌السلام بأخت هارون إلى جانب تسميتها بابنة عمران؟ لِمَ لَمْ يُطلق عليها اسم ابنة هارون؟ أليس هذه التسمية - أخت هارون - هي التي توهم البعض بأنّها مريم النبيّة، ومن ثمّ أصبحت ذريعةً لبعض المستشرقين لأنْ يتّهم القرآن الكريم بالخلط التأريخيّ في ما بينهما؟

وبغضّ النظر عن المعنى المجازيّ والرمزيّ لكلمتيْ (أخت) و(بنت)، وعن القول بالأسلوب التمثيليّ، فالأسلوب التفسيريّ الذي انتهجه عددٌ من الباحثين في بيان مدلول

(196)

موضوع بحثنا؛ فحواه: أنّ القرآن الكريم عبارةٌ عن كتابٍ موعظةٍ، وليس مصدرًا تأريخيًّا، وهذا الخطأ التأريخيّ -الذي أشار إليه المستشرقون- قد وقع فيه عرب الحجاز في عصر النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، وكما هو معلومٌ، فالقرآن نزل؛ وفقًا لما هو معهودٌ عندهم؛ لذا لا ترد مؤاخذةٌ على النصّ القرآنيّ، ولا يمكن التشكيك بصحّته لمجرّد استخدامه ما هو معهودٌ لدى العرب آنذاك، لأنّ هدفه هو وعظهم وتشذيب أخلاقهم[1]. وهذا الرأي يرد عليه إشكالٌ واضحٌ، فمن تبنّاه لا محيص له من القول بأنّ القرآن الكريم موجّهٌ إلى عرب عصر النزول فحسب؛ بحيث يقتصر تأثيره عليهم؛ وبالتالي هم -فقط- مكلّفون بالإيمان به! لا شكّ في عدم انسجام رأيهم هذا مع الإعجاز القرآنيّ وتعارضه مع حيويّته؛ بوصفه نصٍّا فاعلًا في كلّ زمانٍ ومكانٍ، ولا سيّما أنّ الموعظة تقوم في أساسها على الإرشاد بحقٍّ؛ ووفق معلوماتٍ صائبةٍ[2].

فهل هناك داعٍ لأنْ يقتبس القرآن الكريم خبرًا تأريخيًّا خاطئًا ضمن مواعظه؟! أليس هناك أسلوبٌ آخرُ أو عبارةٌ أخرى يمكن أن يسوقها للتعريف بشخصيّة مريم أمّ عيسى عليهما‌السلام حين وعظ مخاطبيه؟! هل إنّ الله -تعالى- قصد توجيه الخطاب الوعظيّ لأناس عصر النزول -فقط- فلجأ في كلامه إلى خبرٍ تأريخيٍّ خاطئٍ؛ كي يبلغهم بالحقّ؟! ألا يعتبر هذا الأسلوب وازعًا لوقوع أناس سائر العصور في خطأٍ تأريخيٍّ يؤثّر سلبيًّا على معتقداتهم؛ بحيث يجعلها عرضةً لنقد أتباع الأديان الأخرى؟! ألا يجدر به أن يذكّر مخاطبيه بهذا الخطأ التأريخي ضمن هذه الموعظة أو يؤكّد على أنّه خطأٌ وقع به الناس آنذاك وهو هنا في صدد بيان قصّة السيّدة مريم أمّ عيسى عليهما‌السلام؟! ولِمَ لَمْ يذكر القرآن الكريم عبارة (مريم أمّ عيسى) في جميع الآيات التي تحدّثت عن قصّتها؟! ولِمَ استخدم عبارة "امرأت عمران" حينما عرّف أمّها، ولم يقل (أمّ مريم)؟!

لا يختلف اثنان في أنّ إحدى خصائص الموعظة هي صدق قائلها، فالواعظ يجب أن لا ينطق إلا بالصدق والحقيقة، إلى جانب خلوص النّيّة؛ فهل هناك (أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)[3]؟!

(197)

من البديهي أنّ تحقّق الصدق في هذا الصدد لا يقتصر على وجود نيّةٍ صادقةٍ لدى القائل، وإنّما هو مشروطٌ -أيضًا- بصوابيّة إخباره.

إنّ النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله جاء للناس بهذه المواعظ والحكم؛ بهدف إرشادهم إلى الحقّ والسبيل القويم، وهذا الهدف لا يتناسب مطلقًا مع الاعتماد على أساطيرَ أو عباراتٍ خاطئةٍ تأريخيًّا بداعي إثارة عواطفهم وكسب تأييدهم، إذ يخاطر في هذه الحالة برسالته الدينيّة في المستقبل، بعد أنْ يدرك أناس سائر العصور تلك الأخطاء الفادحة التي وقع بها؛ وكيف يكون ذلك؛ وهو قادرٌ على إبدال هذه العبارات -إنْ كانت خاطئةً- بعباراتٍ صائبةٍ يرتضيها العقل السليم؟!

المبحث الثاني: نقاشاتٌ تفسيريّةٌ حول ولادة أنثى:

اتّبع بعض المستشرقين نهجًا هرمنيوطيقيًّا يتناسب مع أسلوب تحليل النصّ المسيحيّ ضمن تفسير العبارات القرآنيّة التي اختلف المفسّرون المسلمون في معانيها؛ ومن جملتها عباراتٌ مرتبطةٌ بجانبٍ من قصّة السيّدة مريم عليها‌السلام؛ مثل: تعجّب زوجة عمران لـمّا أنجبتها: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَىٰ)[1].

هذا التعجّب برأي غابريال سعيد رينولدز أوقع مفسّري النصّ القرآنيّ في متاهاتٍ تفسيريّةٍ، لأنّ القرآن الكريم لم يُشِرْ إلى سببه؛ وهو لا يدلّ -فقط- على تعجّب زوجة عمران من إنجابها أنثى، بل يحكي عن يأسها؛ وذلك بقرينة العبارة اللاحقة في الآية ذاتها: (وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلْأُنثَىٰ)، إذ يستفاد منها أنّها مرتبطةٌ بالخطاب القرآنيّ الذي يتمحور حول الشأن السامي للإنسان؛ من حيث كونه ذكرًا أو أنثى[2].

وأشارت الآية السابقة إلى نذر أمّ مريم: (إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَٰنَ رَبِّ إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّرًۭا فَتَقَبَّلْ مِنِّىٓ ۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ)[3]، حيث نذرت جنينها، كي يتقبّل الله -تعالى- دعاءها ويقضي حاجتها، فهو سميعُ الدعاء وعليمٌ بكلّ شيءٍ. والظاهر من هذه الآية أنّ والد مريم لم يكنْ على قيد الحياة؛ عندما نذرتها والدتها، إذ ذكر النذر على لسانها وحدها، وليس هناك تلميحٌ لزوجها، فالكلام منقولٌ على لسانها فقط: (إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ).

(198)

والمقصود من كلمة (مُحَرَّرًۭا) أنّ الوليد المرتقب قد نُذر سادنًا للمعبد - بيت المقدّس- وهذا المقام كان مختصّاً بالذكور فقط؛ الأمر الذي يدلّ على أنّها كانت تترقّب وضع وليدٍ ذكر.

وحينما ناجت ربّها قائلةً: (فَتَقَبَّلْ مِنِّىٓ ۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ) كانت تأمل في أنْ يستجيب دعاءَها، ويمنحها ذَكرًا، ويتقبّل نذرها، لكنّها عندما قالت: (رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَىٰ) أعربت عن تعجّبها؛ لأنّها توقّعت أنّها ستلد ذكرًا تجعله سادنًا لبيت المقدّس، ولـمّا أدركت ما حدث بعد أن وضعت بنتًا، تصوّرت أنّها عاجزةٌ عن الوفاء بنذرها، فالأنثى طبعًاً لا يُسوَّغ لها دخول المعابد والأماكن المقدّسة في أيّام حيضها، لذلك لم يكنْ يسمح لها بأن تسخّر نفسها لخدمتها. ويبدو من هذه العبارة أنّ والدة مريم سألت الله -تعالى- أن يعفو عنها؛ لعدم قدرتها على الوفاء بنذرها، وعدم تسخير وليدها في خدمة المعبد؛ لكونه أنثى.

إذًا، أمّ مريم ليست في صدد إخبار الله -تعالى- بأنّ وليدها أنثى وليس ذكرًا؛ حينما قالت: (وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلْأُنثَىٰ)، بل أرادت أن تقول بأنّ الذكر هو الذي تسوّغ له خدمة بيت المقدّس؛ بينما الأنثى لا يسوّغ لها ذلك؛ لذا يمكن اعتبار كلامها هذا مقدّمةً لقولها في الآية نفسها: (وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّىٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ)[1].

لم يوضّح رينولدز مقصوده؛ حينما اعتبر هذه العبارة مرتبطةً بالخطاب القرآنيّ الذي وصفه بأنّه يتمحور حول الشأن السامي للإنسان؛ من حيث كونه ذكرًا أو أنثى، إذ لو كان قصده أفضليّة الذكر على الأنثى في القرآن الكريم، فكلامه -هنا- لا موضوعيّة له ضمن تفسير هذه العبارة القرآنيّة؛ لكونها غير مرتبطة به، ومعناها -كما أشرنا آنفاً- هو عدم تكافؤ الذكر مع الأنثى على صعيد الغرض الذي نذرت زوجة عمران جنينها لأجله، فالأنثى غير مخوّلةٍ بتولّي مسؤوليّة خدمة بيت المقدّس، ولا يمكنها أنْ تكون سادنةً فيه؛ لذا ليس هنا أيّ تفضيلٍ للذكر عليها في هذه العبارة؛ وغاية ما في الأمر أنّ المتعارف في تلك الآونة تخصيص خدمة المعبد بالذكور فقط. أضف إلى ذلك فقد اعتبر بعض المفسّرين "الـ" التي دخلت على الذكر والأنثى في قوله -تعالى-: (وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلْأُنثَىٰ) بأنّها ألف ولام العهد الذكري؛ أي أنّها تشير

(199)

إلى العبارة السابقة: (وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ)، فالله -عزّ وجلّ- في هذا العهد الذكري أراد تعظيم شأن مولودها؛ لأنّ هذه البنت الطاهرة تعتبر مثالًا حيًّا للإعجاز الإلهيّ والعجائب الغيبيّة الباهرة، إذ ستلد نبيًّا مكرّمًا دون أن يمسّها بشرٌ؛ وهذا ما تبنّاه الزمخشري؛ حينما قال: "فتحزّنت إلى ربّها؛ لأنّها كانت ترجو وتقدّر أن تلد ذكرًا، ولذلك نذرته محرّرًا للسدانة، ولتكلمها بذلك على وجه التحسّر والتحزّن قال الله -تعالى-: (وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ)؛ تعظيمًا لموضوعها، وتجهيلًا لها؛ بقدر ما وهب لها منه، ومعناه: والله أعلم بالشيء الذي وضعت، وما علق به من عظائم الأمور، وأن يجعله وولده آيةً للعالمين وهي جاهلةٌ بذلك لا تعلم منه شيئًا، فلذلك تحسّرت؛ وفي قراءة ابن عباس (وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) على خطاب الله -تعالى- لها، أي أنّك لا تعلمين قدر هذا الموهوب وما علم الله من عظم شأنه وعلوّ قدره؛ وقرئ (وَضَعَتْ) بمعنى، ولعلّ لله -تعالى- فيه سرّاً وحكمةً، ولعلّ هذه الأنثى خيرٌ من الذكر، تسليةً لنفسها[1].

وإذا قيل إنّ "الـ" ليست للعهد الذكري، ففي هذه الحالة لا يمكن اعتبار هذه الجملة اعتراضيةً من الناحية اللغويّة، أي أنّها على لسان أمّ مريم، ومن ثمّ يصبح معناها أنّ: الذكر والأنثى ليسا متكافئين في ما نذرت[2]؛ لكنّ ظاهر الآية يعزّز الرأي القائل بأنّها للعهد الذكريّ.

ونستشفّ من جملة هذه الآيات أنّ الأنثى حتّى وإنْ لم تكتسب مقام النبوّة، لكنّها إن انقطعت في تهجّدها وعبادتها سوف تتمكّن من التفوّق على الرجل وبلوغ مراتبَ روحيّةٍ أعلى ممّا يبلغ، حتّى وإنْ كان هذا الرجل شخصًا عابدًا ومتنسّكًا.

المبحث الثالث: نقاشاتٌ تفسيريّةٌ حول مصطلح (مِحراب):

قال -تعالى-: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍۢ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًۭا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًۭا ۖ قَالَ يَٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[3]. المعنى الاصطلاحيّ لكلمة (مِحراب) في هذه الآية استقطب أنظار

(200)

المستشرقين، فقد ادّعى غابريال سعيد رينولدز أنّ مفهوم الكلمة ضمن هذه الآية غيرُ واضحٍ؛ لذلك رفض تفسير المسلمين لها بأنّها غرفةٌ كانت مريم تتعبّد فيها، وبرّر رأيه هذا بكون المسلمين يعتبرون المحراب مكانًا للحبس والعزل، لا للتعبّد والخدمة الدينيّة، واستشهد بما نُقِلَ عن مقاتل الذي فسّره بأنّه مكان حُبِسَت فيه مريم.

ونظرًا لتأثّر هذا المستشرق بمرتكزاته الفكريّة بخصوص السيّدة مريم عليها‌السلام واعتباره إيّاها امرأةً؛ كسائر النساء، اتّخذ رأي مقاتل المشار إليه مرتكزًا للتأكيد على سموّ عفّتها وطهارتها[1]؛ وفي هذا السّياق قال إنّ المصطلح العربيّ "محراب" لا يحكي عن غرفةٍ بسيطةٍ، بل يراد منه أحد أجزاء المعبد، والكلمة تضرب بجذورها في اللغة الساميّة وترتبط بمفهوم (h r m) الذي يعني الأمر الممنوع والمقدّس، لذا فهي من الجذر نفسه للكلمة الحبشية (mehram) التي تعني المكان المقدّس والحرم والمعبد والمصلّى. وضمن إشارته إلى ما ذُكِرَ في الأناجيل وما فيها من بشرى بولادة النبيّ يحيى لزكريا[2]، اعتبر الكلمة مرتبطةً من ناحية الاشتقاق اللغويّ بمصطلح «حرام» الذي وضّح المراد منه في الشريعة الإسلاميّة، ثمّ قال إنّه النطاق الذي لا يسمح لغير المطهّرين الدخول فيه. وعلى هذا الأساس اعتبر كلمة "محراب""في قوله -تعالى-: (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِۦ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰٓ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةًۭ وَعَشِيًّۭا)[3]؛ بمعنى المكان المقدّس في المعبد، فزكريا حينما بُشّر بيحيى خرج إلى قومه من المحراب الذي كان يتعبّد فيه[4].

وقد طُرِحَ  هذا الرأي من قِبَل باحثين آخرين قبل رينولدز، فقد نقل العالم اللغويّ آذرنوش عن أحدهم قوله: «كلمتا (حرم) و(محرام) موجودتان في اللغة الحبشيّة القديمة، وتعنيان المكان الخاصّ الذي يحظى باحترامٍ بالغٍ؛ بحيث لا يمكن لكلّ أحدٍ الدخول فيه، لذا فهما مترادفتان مع الكلمتين العربيّتين (حريم) و(حرم). العرب اقتبسوا كلمة (محرام) من الحبشيّين وغيّروا، لفظها إلى (محراب)؛ لأنّ تغيير حرف الميم إلى الباء كان متعارفًا في اللغة

(201)

العربيّة» [1]. ويضيف قائلًا: «المعاجم العربيّة ذكرت معانيَ عديدةً لكلمة (محراب)، وكلّها تتمحور حول كونه مكانًا، لكنّه مكانٌ خاصٌّ، وليس كسائر الأماكن، إذ يحظى بشأنٍ رفيعٍ من الناحيتين الروحيّة والمادّيّة، فمن الناحية الثانية يعني الغرفة العليا، ومن الناحية الأولى يُراد منه صدر المجلس ومحلّ التهجّد والعرش» [2].

وقسّم الباحث تروبو المعانيَ التي ذُكِرتَ لكلمة (محراب) في اللغة العربيّة إلى أربعة أقسامٍ هي:

    ـ المكان المرتفع

    ـ المكان المقدّس

    ـ محلّ الاعتكاف

    ـ موضع الصلاة [3].

والظاهر أنّ المعنى القرآنيّ لهذه الكلمة يتناسب أكثر مع كلمتَيْ (غرفة) و (معبد)، والدليل على ذلك أنّه ذكر في الآية 17 من سورة مريم باسم (حجاب)[4]، حيث يُراد منه ذلك الحائل الذي حجب مريم عليها‌السلام عن أسرتها[5]؛ لذا يمكن تفسير الآيتين: (وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَٰبِ مَرْيَمَ

(202)

إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًۭا شَرْقِيًّا 16 فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًۭا فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًۭا سَوِيًّا)[1] بأنّ مريم عليها‌السلام أرادت الانقطاع إلى الله -عزّ وجلّ- في مكانٍ فارغٍ لا يشغلها فيه شيءٌ، ولا يغفلها عن ذكره أيّ أمرٍ آخرَ؛ بحيث يكون هادئًا ومنعزلًا، لذلك جعلت بينها وبين أهلها حجابًا؛ كي يُتاح لها تهذيب نفسها إلى أقصى حدٍّ ممكنٍ[2].

وأكّد أحد الباحثين على أنّ كلمة (غرفة) تجسّد أفضل معنًى يمكن أن يُنسب إلى هذه الكلمة بخصوص دلالتها في قوله -تعالى-: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ) ضمن الآية 37 من سورة آل عمران، حيث أكّد الله -عزّ وجلّ- فيها على أنّه أوكل تربيتها إلى زكريا الذي كان يجد لديها رزقًا كلّما يدخل عليها؛ وهي في المحراب، لذا فالظاهر من عبارة (كُلَّمَا دَخَلَ) هو أنّ المحراب كان مقرًّا لها ومألوفًا من قبلها، كما أنّ كلمة (رزق) في الآية توحي إلى ذهن المستمع الطابع المتعارف في حياة البشر؛ من حيث حاجتهم إلى الطعام في كلّ يومٍ؛ الأمر الذي يجعل المحراب هنا أشبه بالغرفة من أيّ شيءٍ آخرَ، فهو بهذا الشكل عبارةٌ عن غرفةٍ مختصّةٍ بشخصٍ معيّنٍ وليس معبدًا[3].

وكذلك نسب هذا المعنى -أيضًا- إلى كلمة (محراب) المذكورة في الآية 39 من السورة نفسها: (فَنَادَتْهُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٌۭ يُصَلِّى فِى ٱلْمِحْرَابِ)، إذ يراد منه -هنا- الغرفة المختصّة بشخصٍ، وعزا تفسيرها بهذا الشكل إلى أنّها؛ أوّلاً على غرار محراب مريم عليها‌السلام، وثانيًا إلى عدم رواج المحراب؛ بوصفه معبدًا في الجزيرة العربيّة قبل الإسلام. كما اعتبر المحراب المذكور في الآية 11 من سورة مريم: (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِۦ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ) على غرار المحراب في الآية 39 من سورة آل عمران[4].

(203)

واستنادًا إلى ما ذكر، فقد رفض هذا الباحث الرأي القائل بأنّ المحراب يُراد منه المسجد الذي يصلّي فيه الناس.

كما أنّ وجود تلميحاتٍ لهذه الكلمة ضمن آياتٍ أخرى تحدّثت عن زكريا عليه‌السلام ؛ مثل كلمة (هنالك) في قوله -تعالى-: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةًۭ طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ)[1]، أي إنّه دعا الله -عزّ وجلّ- في المكان نفسه -أي المحراب- الذي كانت مريم عليها‌السلام تتواجد فيه، أو إنّه دعاه في محرابه، حينما رأى عظمة شأنها وقدسيّتها؛ فطلب منه أن يرزقه ذرّيّةً طيّبةً؛ والمعنى الثاني أكثر انسجامًا مع الحكمة من وجود المحراب والتي تقتضي أن يكون في معزلٍ عن الآخرين، أي إنّ كلمة "هُنالك" في الآية تدلّ على المحراب الخاصّ بزكريا؛ ويؤيّد ذلك مضمون الآية 39 التي أشارت إلى أنّ زكريا كان قائمًا يصّلي في المحراب حينما بشّرته الملائكة بيحيى: (فَنَادَتْهُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٌۭ يُصَلِّى فِى ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًۢا بِكَلِمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدًۭا وَحَصُورًۭا وَنَبِيًّۭا مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ)، كما يؤيّده ما ذكر في الآية 7 من سورة مريم (يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ ٱسْمُهُۥ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُۥ مِن قَبْلُ سَمِيًّۭا)، حيث نستشفّ منها أنّ المحراب هو المكان الذي دعا فيه زكريا، وهو المكان ذاته الذي استجاب الله فيه دعاءه، وهو ما يثبت لنا من النتيجة التي أشارت إليها الآية 11 من السورة نفسها: (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِۦ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰٓ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةًۭ وَعَشِيًّا)، فضلًا عن أنّ الآية 39 من سورة آل عمران تُعدّ شاهدًا على صوابيّة هذا المعنى.

وبعد أن ذكر كلّ هذه التفاصيل، أورد النتيجة التالية: المعنى المتحصّل لدينا من مضامين هذه الآيات أنّ كلمة (محراب) لا يُراد منها المكان المخصّص للحبس، بل يقصد منه ذلك المكان المخصّص للعبادة على انفرادٍ، وهذا ما نلمسه في الآية 37 من سورة آل عمران.

واعتبر محمّد فريد وجدي المعنى الدلالي لاسم (مريم) قرينةً على كون المحراب موضعًا يتفرّغ الإنسان فيه للعبادة والتهجّد، فالقرائن برأيه تفيد أنّ المحراب كان موضعًا لاختلاء

(204)

الإنسان ومكانًا يتفرّغ فيه للتعبّد؛ بحيث يقطع جميع ارتباطاته مع البشر، ويتفرّغ إلى الله -عزّ وجلّ- فقط، وهو على غرار كلمة (مريم) التي تعني لغويًّا العابدة[1].

المبحث الرابع: التفسير الاستشراقيّ لقوله -تعالى-: (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَٰمَهُمْ):

أكّد غابريال سعيد رينولدز على تعدّد الآراء التفسيريّة المطروحة حول مضمون الآية 44 من سورة آل عمران: (ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)، حيث تتضمّن عبارةً غامضةَ الدلالة؛ ويقصد هنا قوله -تعالى-: (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُم).

واعتبر بعض العلماء المسلمين؛ من أمثال: مقاتل، والقمّي، بالاستناد إلى الروايات أنّ الآية تحكي عن القرعة التي جرت بين القوم آنذاك؛ لتعيين من يتكفّل بتربية السيّدة مريم عليها‌السلام، في حين أنّ علماء آخرين؛ من أمثال: الطبري حاولوا استعراض المفاهيم القرآنيّة ضمن نطاقٍ قصصيٍّ، وفي هذا السّياق رفضوا أنْ تكون القرعة التي تعني الحظّ أو السحر هي التي عيّنت مصير هاتين الشخصيّتين المقدّستين - زكريا ومريم - لذلك حاولوا إثبات الموضوع على أساس شأنهما الرفيع واستحقاق زكريا لأنْ يتكفّلها[2].

ومن الواضح أنّ كلام رينولدز هذا ينمّ عن رؤيته السلبيّة إزاء الروايات الإسلاميّة واعتقاده بعدم فائدة الاعتماد عليها لبيان المفاهيم القرآنيّة، واللافت للنظر أنّه فسّر النصّ القرآنيّ على ضوء رؤيته السلبيّة تجاه إنجيل جيمس المنتحل الذي وصفه بأنّه عديم الاعتبار؛ لذلك تبنّى رؤيةً إنكاريّةً وسلبيّةً إزاء مضامين الآيات القرآنيّة، وفي هذا السّياق قال إنّه بما أنّ العبارات التي تمحورت حول موضوع الآية المشار إليها تتناغم مع مضمون إنجيل جيمس، فهذه الآية لا تحكي عن امتحانٍ صعبٍ لزكريا، بل تشير إلى امتحانٍ صعبٍ ليوسف النجّار وقصّة خِطبته لمريم عليها‌السلام. هذا هو المدلول القرآنيّ في الآية 44 من سورة آل عمران برأيه؛ على الرغم من التصريح الواضح في الآية 37 بأنّ زكريا هو الذي تكفّل بها؛ لكنّه برّر رأيه بزعم أنّ سورة آل عمران على نسقٍ تامٍّ مع

(205)

الترتيب الزمنيّ الموجود في إنجيل جيمس حول سيرة مريم عليها‌السلام [1]، وخطابها متقاربٌ مع الخطاب المطروح في هذا الإنجيل، وهذا التناسق يُوحي بأنّ الآية فيها إشارةٌ إلى خِطبتها ليوسف النجّار.

ثمّ ذَكَر إيضاحاتٍ حول الموضوع؛ قائلًا إنّ هذا الإنجيل كان شائعًا على نطاقٍ واسعٍ في منطقة الشرق الأدنى المسيحيّة، لذلك كان تأثيره ملحوظًا في تلك البقعة من العالم؛ وعلى هذا الأساس قارن قصّة مريـم عليها‌السلام في هذا الإنجيل مع المضمون القرآنيّ بقوله: إنّ أوّل أمرٍ ذكره هذا الإنجيل في قصّة مريم هو ولادتها: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّىٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ) (آل عمران، 36)، ثمّ ذكر مسألة تكفّل زكريا بها: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍۢ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًۭا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًۭا ۖ قَالَ يَٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران، 37)، ثمّ قضيّة خطبتها ليوسف النجّار: (ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (آل عمران، 44)، وفي نهاية المطاف أشار إلى مجيء أحد الملائكة إليها ليبشّرها بما ستحمل في بطنها: (إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍۢ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًۭا فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْءَاخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ) (آل عمران، 45)[2].

ويتّضح من هذا الكلام أنّ رينولدز اعتبر قصّة مريم عليها‌السلام في القرآن الكريم مستوحاةً من الأناجيل التي تُذكَر القصص فيها؛ وفق ترتيبٍ تأريخيٍّ، ضمن سردٍ متوالٍ؛ على الرغم من أنّ القرآن الكريم عادةً ما يذكر القصص بأسلوبٍ خاصٍّ قد لا يراعى فيه الترتيب الزمنيّ للأحداث؛ لأنّ الغرض من ذِكْرها هو تحقيق أهدافٍ تربويّةٍ. لكنْ إن أمعنّا النظر في سياق الآية سيثبت لنا سقم رأيه، فضلًا عن أنّ الآية 44 من سورة آل عمران لا تلمّح بأيّ شكلٍ إلى خطبة مريم ليوسف النجّار، إذ من الواضح بمكانٍ أنّ الآيات السابقة لهذه الآية تتحدّث عن كفالة زكريا لها، لا عن خطبتها ليوسف[3].

(206)

وبناءً على ما ذُكِرَ يثبت لنا أنّ هذه الآية تحكي عن كفالة زكريا للسيّدة مريم عليها‌السلام، وهذه الكفالة أُشير إليها قِبَل ذلك في الآية 37، وظاهر الآية يدلّ على حدوث نزاعٍ بين القوم، لكنْ لا يشير إلى زمانه، حتّى إنّه بلغ درجة الخصام، حيث قال الشيخ الطوسي في تفسيرها: «وقوله: (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) فيه دلالةٌ على أنّهم قد بلغوا في التشاحّ عليها إلى حدّ الخصومة، وفي وقت التشاحّ قولان: أحدهما حين ولادتها وحمل أمّها إياها إلى الكنيسة تشاحّوا في الذي يخصّها ويحضنها ويتكفل بتربيتها، وهو الأكثر. وقال بعضهم إنّه كان ذلك بعد كبرها وعجز زكريا عن تربيتها...»[1]، والمقصود من قوله -تعالى- في الآية 37: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) أنّ الله -سبحانه وتعالى- جعل زكريّا كفيلًا لها؛ لأنّ الفعل (كفّل) ذكر مشدّدًا؛ ما يعني أنّ فاعله هو الله -تبارك شأنه- لو كان الفعل بدون تشديد، لكان فاعله زكريا[2]؛ ومن المؤكّد أنّ الشخصيّة العظيمة للسيدة مريم عليها‌السلام ونبوغها الفريد من نوعه يقتضي أن تتربّى على يد أفضل البشر في عهدها، وفي تلك الآونة لم يكنْ هناك شخصٌ أفضلُ من زكريا الذي كان كبير الأحبار ونبيًّا من ذرّية سليمان بن داوود عليهما‌السلام[3]. وقد ذكرت مسألة الكفالة بشكلٍ تلميحيٍّ في الآية 44 من سورة آل عمران؛ حينما أشارت إلى اقتراع القوم: (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُم)؛ لاختيار من يتولّى كفالتها، إذ تعلّقت المشيئة الإلهيّة بهذا الحبر الورع، لذا لم يكنْ اختياره لهذه المهمّة أمرًا اعتباطيًّا.

والقرينة الأخرى التي تؤيّد ما ذكرنا، هي عبارة (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) التي تدلّ على حدوث نزاعٍ بين القوم حول كفالة مريم عليها‌السلام المشار إليها في الآية 37، كما نستوحي منها أنّ هذا النزاع لم يصل إلى نتيجة الأمر الذي اضطرّهم للاقتراع؛ وبحسب قواعد البيان البلاغيّة نقول إنّ هذه الآية تفيد تفصيلاً بعد إجمالٍ أوضحه العلامة الطباطبائي بقوله: إنّ المراد من الإشارة مرّتين إلى تكفّل مريم في هذه السورة هو تحقيق هدفٍ معيّنٍ في كلّ مرّةٍ، فالآية 37 تحدّثت عن تكفّل

(207)

زكريا ضمن الإشارة إلى تفقّده إيّاها في كلّ يومٍ، وهذا الأمر أصبح حافزًا له لأنْ يسأل الله -تعالى-؛ كي يرزقه ولدًا؛ والآية 22 ذكرت فيها بعض تفاصيل هذا التكفّل[1]. لكنّ هذا النزاع ربّما حدث قبل القرعة؛ كذلك يُحتَمل أنْ يكون بعدها، والذين تبنّوا القول بحدوثه بعدها استندوا إلى قرينةٍ من نصّ الآية، وهي قوله -تعالى-: (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ)؛ أي إنّهم اختلفوا حول كفالة مريم عليها‌السلام بعد أن انتهت القرعة، وتكرارها مرّةً أخرى ينمّ عن الدقّة المتناهية في الموضوع والحبكة المتقنة في سرد أحداث القصّة بشكلٍ متوالٍ. واعتبر الآلوسي تكرار قوله -تعالى-: (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ) تأكيدًا على إعجاز نبوّة خاتم الأنبيّاء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، حيث قال: «وتكرير (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ) مع تحقّق المقصود؛ بعطف (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) على (إِذْ يُلْقُونَ)؛ للإيذان بأنّ كلّ واحدٍ من عدم الحضور عند الإلقاء، وعدم الحضور عند الاختصام مستقلٌّ بالشهادة على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله، لا سيّما على الرأي الثاني في وقت الاختصام؛ لأنّ تغيير الترتيب في الذكر مؤكِّدٌ لذلك»[2].

وتشير الآية في الواقع إلى رغبة القوم من أحبارٍ وغيرِ أحبارٍ في تكفّل مريم عليها‌السلام[3]، إلا أنّها لا توضّح السبب في ذلك؛ ولربّما تكون شخصيّة والدها عمران هي السبب في رغبتهم هذه، فقد كان إمامًا لهم، أو ربّما لأجل نذر والدتها بأنْ تكون خادمةً في المعبد، أو قد يعود السبب علمهم بأنّها ستلد المسيح على ضوء ما لديهم من معلوماتٍ في النصوص المقدّسة[4].

وكذلك لا توضّح الآية مَنْ هم هؤلاء، فهل كانوا علماءَ، أو أحبارًا، أو كتّابَ وحيٍ، أو سدنةً في المعبد؟ مع أنّ الأمر غيرُ واضحٍ في الآية، لكنْ يمكن القول إنّهم من الخواصّ وأهل الفضل في الدين والراغبين في السير على نهج الحقّ[5]؛ لذا لا صوابيّة لمن زعم أنّه نزاعٌ احتدم بين عددٍ من الرجال الأرامل للاقتران بها زوجةً، فهذا الكلام لا موضوعيّة له إذ هل يمكن تصوّر أنّ القوم تنازعوا في ما

(208)

بينهم لأجل خطبة مريم عليها‌السلام؟! إذًا، لا بدّ من وجود بعض العوامل والظروف الخاصّة التي اقتضت حدوث هذا النزاع، بينما لا نلمس أيّ تلميحاتٍ للخطبة والزواج في هذه الآيات.

ولو أمعنّا النظر في شخصيّة السيّدة مريم عليها‌السلام وأخذنا ظروفها بعين الاعتبار؛ سوف يثبت لنا صوابيّة قول من قال إنّ النزاع قد حدث بين الأحبار والكهنة حول كفالتها، فقد كانت يتيمةً وسادنةً في المعبد أو منذورةً لسدانته، كما كانت تربطها بزكريا قرابةٌ نسبيةٌ، ووالدها كان إمامًا للقوم؛ والأهمّ من ذلك كلّه هو دعاء والدتها لها ولذرّيتها: (إِنِّىٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ)[1]، وتقبّلها من جانب الله -تعالى- بأحسن قبولٍ: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍۢ)[2]. هذه قرائنُ معتبَرةٌ تؤكّد على أنّ مريم عليها‌السلام يجب أن تتربّى على يدٍ خيِرة الناس ومن له القدرة على ضمان استمرار مسيرتها الروحيّة بأمثل شكلٍ.

ومن البديهي في هذه الحالة أنْ يحدث خلافٌ بين زكريا وسائر الأحبار حول تكفّل هذه الشخصيّة العظيمة؛ لأنّ كفيلها بطبيعة الحال ينال حظًّا من الفضل والكرامة؛ حينما يتولّى تربيتها والإشراف على شؤونها، لذلك حرص القوم على كسب هذه المزية الفريدة؛ على الرغم من المصاعب المرتقبة من وراء ذلك، إذ لم يكترث كلّ واحدٍ منهم بالآخرين؛ سعيًا وراء تحقيق هذا الهدف السامي.

والمسألة الأخرى التي تجدر الإشارة إليها في هذا الصدد، هي أنّ الإنجيل المنتحل -أبوكريفا- الذي ذكره غابريال سعيد رينولدز، ليس من شأنه أن يُتّخذ مرتكزًأ مناسبًا لفهم مضمون الآية 44 من سورة آل عمران التي أكّدت على أنّ هذا الخبر غيبيٌّ، ولا علم لأحدٍ به: (ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ). وكلمة (ذَٰلِكَ) -هنا- تشمل جميع تفاصيل القصّة ضمن الآيات السابقة؛ وقوله -تعالى-: (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) هو في الحقيقة تأكيدٌ على غيبيّة الأخبار التي ذكرتها الآيات السابقة.

ومن البديهي أنّ معرفة الأخبار المُشار إليها غيرُ ممكنةٍ إلا عن طريق المشاهدة التي لم تتحقّق للنبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وقومه بقرينة قوله -تعالى-: (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ) التي تكرّرت

(209)

مرّتين، أو عن طريق قراءة الكتب، أو التعليم، أو الأخبار التي ينقلها المطّلعون على الأمر؛ لكنّ هذه الأمور لم تحصل، وهو ما نفاه القرآن الكريم بقوله -تعالى-: (ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ)؛ لذا نؤكّد مرّةً أخرى على أنّ اسم الإشارة "ذلِكَ" يشير إلى جميع تفاصيل القصّة في الآيات السابقة للآية 44 من سورة آل عمران والتي تضمّنت أخبارًا غيبيّةً عن حنّة، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وهذه الأخبار وصلت إلى خاتم الأنبيّاء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله عن طريق الوحي.

ولبيان تفاصيل الموضوع بشكلٍ أوضحَ، نقول: إنّ كلمتَي «أنباء» و«نوحيه» في هذه الآية تستبطنان معنييْن بدلالاتٍ خاصّةٍ، فالأولى تحكي عن أنّ النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن على علم بهذه الأخبار، والثانية تحكي عن أنّ هذه الأنباء وصلت إليه بواسطة وحي السماء[1]؛ ما يعني أنّ الخبر الغيبيّ، وإلقائه إلى النبيّ وحيًا، إلى جانب الإشارة عدم حضوره في ساحة الأحداث؛ كلّها قرائنُ تؤكّد على عدم علمه وقومه بالأحداث التي ذكرت في هذه الآيات.

ويقول العلامة محمّد حسين الطباطبائي في هذا الصدد: «قوله -تعالى-: (ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ)، عدّه من أنباء الغيب؛ نظير ما عدّت قصّة يوسف عليه‌السلام من أنباء الغيب التي توحى إلى رسول الله، قال -تعالى-: (ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۖ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوٓاْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (يوسف - 102)، وأمّا ما يوجد من ذلك عند أهل الكتاب، فلا عبرة به؛ لعدم سلامته من تحريف المحرّفين، كما أنّ كثيرًا من الخصوصيّات المقتصّة في قصص زكريا غيرُ موجودةٍ في كتب العهدين، على ما وصفه الله في القرآن»[2].

ولا شكّ في أنّ تكرار عبارة (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ) مرّتين مؤشّرٌ واضحٌ يفيد تأكيد القرآن الكريم على أنّه لم يقتبس هذه الأخبار من أيّ إنجيلٍ، بل هو مصدرٌ للغيب المكنون الذي شرّعت أبوابه للنبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، لذا حتّى وإنْ تشابهت بعض الأحداث التي ذكرت في هذه الآية مع بعض ما ذكر في إنجيل جيمس وادّعي أنّها مستوحاةٌ منه، يبقى سياق الكلام هو المحور الأساس لفهم معاني عباراتها، وهذا السّياق مرتبطٌ بطبيعة الحال بالآيات السابقة

(210)

واللاحقة لها، فضلًا عن أنّ الوحي الإلهيّ في القرآن الكريم له الأولويّة على كلّ نصٍّ آخرَ.

وهناك سؤالٌ هامٌّ يُطرح على رينولدز في هذا المجال، وهو: ما هو المسوّغ لادّعاء أنّ كلمةً واحدةً تكرّرت ضمن سياقٍ واحدٍ وبفاصلةٍ نصّيّةٍ قصيرةٍ جدًّا، ذاتُ معنيين متباينين؟! من المؤكّد أنّ هذه الازدواجيّة في تحليل مفردةٍ واضحةِ الدلالة، مؤشّرٌ على عدم تناسق أفكار صاحبها، وفقدانه الاستقرار الذهني إبّان عمليّة التفسير، فما يدعو للتعجّب أنّه فسّر التكفّل في الآية 37 من سورة آل عمران (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) بكفالة زكريا لتربية مريم عليها‌السلام، بينما في الآية 44 من السورة ذاتها (يَكْفُلُ مَرْيَمَ) فسّرها بخطبتها ليوسف النجّار! على الرغم من أنّ مسألة الزواج تستبطن في مدلولها التكفّل بشؤون الطرف المقابل، لكنّ كلمة (كفل) ومشتقّاتها في القرآن الكريم لا ترادف الزواج أو الخطبة مطلقًا.

وفضلًا عمّا ذُكر فالأناجيل المعتبرة لدى المسيحيّين - الأناجيل القانونيّة - لم تذكر سوى أنّ يوسف النجّار هو زوج السيّدة مريم أمّ عيسى عليهما‌السلام ولديه عدّة أولادٍ وبناتٍ[1]، لكنّها لم تتحدّث عن القرعة في خطبتها، بل أشارت إلى أنّه سافر معهما إلى مصر، وبعد مدّةٍ قصيرةٍ عادوا إلى الناصرة، دون أنْ تذكر ما حدث بعد ذلك.

المبحث الخامس: التفسير الاستشراقيّ لقوله -تعالى-: (يَٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰكِ):

الملاحظة التي سلّط غابريال سعيد رينولدز الضوء عليها في تفسيره الآية 42 من سورة آل عمران، هي اصطفاء السيّدة مريم عليها‌السلام على سائر النساء، وممّا قاله في هذا الصدد: «القرآن في هذه الآية يشير إلى أنّ الله قد طهّر مريم واصطفاها على سائر نساء العالمين (وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَٰلَمِينَ)[2]. المشكلة التي

(211)

واجهها المفسّرون ليست قصصيّةً، وإنّما هي عقديّة، فالقرآن يفنّد فيها عقيدة المسلمين في أفضليّة أهل بيت النبيّ محمّد؛ فما هو وجه أفضليّة مريم على غيرها من النساء؟»[1].

ومن جملة الأفكار التي تبنّاها هذا المستشرق أنّ أفضليّة السيّدة مريم عليها‌السلام على سائر نساء العالمين - بحسب مضمون الآية - ليست بسبب تقواها وفضلها، أو لأجل حملها؛ وهي عذراءُ، بل لكونها ستحمل في بطنها كلمة الله[2]؛ وقد استند في رأيه هذا إلى مضمون الآيتين 49 و 55 من السورة ذاتها، وهما:

- (وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُم بِـَٔايَةٍۢ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّىٓ أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْـَٔةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًۢا بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ ٱلْأَكْمَهَ وَٱلْأَبْرَصَ وَأُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَةًۭ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[3].

- (إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰٓ إِنِّى مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ ۖ ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)[4].

فهل قصد رينولدز أنّ هاتين الآيتين وما شاكلهما تثبت أفضليّة السيّدة مريم عليها‌السلام على غيرها، أو أنّها تحكي عن معجزات النبيّ عيسى عليه‌السلام، أو إنّه في صدد بيان المعنى المقصود من عبارة (كلمة الله) التي يراد منها عيسى وإثبات دوره في الألوهيّة؟!

واستنتج في نهاية المطاف[5] أنّ الآية المذكورة تحكي عن سلام جبرائيل على مريم المذكور في إنجيل لوقا: «فَدَخَلَ إِلَيْهَا الْمَلاَكُ وَقَالَ: "سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ"»[6].

ولو كان مراد رينولدز من عبارة (والدة كلمة الله) كون المسيح آيةً في ولادته، فهذا المعنى

(212)

معقولٌ ويمكن قبوله، وإلا فلا يقبل منه أيّ تفسيرٍ آخرَ؛ فالآية 45 من سورة آل عمران[1] وعددٌ من الآيات الأخرى وصَفته بأنّه كلمة الله، وذلك لأنّ ولادته كانت فريدةً من نوعها في جميع نواحيها؛ أي إنّها تنمّ عن قدرة الله -تعالى- وإعجازه العظيم.

لا شكّ في أنّ الله -عزّ وجلّ- له القدرة على خلق كلّ شيْءٍ بمجرّد أن يقول له (كُن)، والمسيح عيسى عليه‌السلام خلق أيضًا بهذه الكلمة، لكن غاية ما في الأمر أنّه وُلد خارج النطاق المتعارف بين البشر - من غير أبٍ - لذا فهو الآخر نتيجةٌ لهذه الكلمة، ولكن أطلق السبب على المسبّب هنا من باب المبالغة. كذلك نلاحظ في الآية 42 من سورة آل عمران أنّ الملائكة ذكرت لوالدته مريم عليها‌السلام ثلاث خصائصَ هي اصطفاؤها من قبل الله -عزّ وجلّ- وتطهيرها وتفضيلها على سائر نساء العالمين[2].

وجدير بالذكر أنّ كلمة "اصطفاك" المذكورة في الآية كان لها تأثيرٌ على الآراء التي طرحها المستشرقون حين تفسيرهم الآية، وهي مشتقّةٌ من كلمة (صفو) التي تعني خلوص الشيء[3].

نستشفّ من مضمون الآية أنّ السيدّة مريم عليها‌السلام بلغت مقامين، هما:

   أ. مقام الاصطفاء

   ب. مقام التطهير

مقام الاصطفاء بدوره على نحوين؛ كما يلي:

   ـ الاصطفاء على نساء العالمين

   ـ الاصطفاء المطلق

الفعل (اصطفى) في قوله -تعالى-: (وَٱصْطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَٰلَمِينَ) تعدّى بحرف الجرّ

(213)

(على) ويعني أفضليّة مريم على سائر نساء العالم، إلا أنّ كلمة "اصْطفاكِ" التي ذكرت قبل هذه العبارة، ذاتُ معنًى مطلقٍ لأنّ فعلها لم يتعدّ بحرف الجرّ المذكور، والاصطفاء هنا بمعنى الاختيار[1]، والمراد بشكلٍ عامٍّ أنّ الله -عزّ وجلّ- طهّر ذاتك[2].

وهذه العبارة تدلّ على إحدى فضائل السيّدة مريم عليها‌السلام التي لا تختصّ بها بشكلٍ حصريٍّ، إذ من الممكن لغيرها من النساء أن تتحلّى بها.

وكلمة "طهَّرك" معطوفةٌ على "اصطفاك"، وهذا العطف يدلّ على أنّ الاصطفاءَ -هنا- مطلقٌ، والتطهيرَ غيرُ مختصٍّ بها فحسب، فالسنّة الإلهيّة جاريةٌ على اصطفاء الملائكة والمخلصين من بني آدم[3]، لذلك لقّب النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمصطفى؛ وعلى هذا الأساس فالاصطفاء المذكور في الآية لا يحكي عن أفضليّتها وتقدّمها على غيرها[4]، ويؤيّد ذلك مضمون الآية اللاحقة: (يَٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِى لِرَبِّكِ وَٱسْجُدِى وَٱرْكَعِى مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ)[5]، حيث جاءها الأمر بأن تقنت وتسجد وتركع مقدّمةً لتبشيرها بالمسيح الذي هو كلمة الله.

والسؤال الذي يُطرح بخصوص ما ذكره غابريال سعيد رينولدز عن اصطفاء مريم عليها‌السلام على نساء العالمين والذي ادّعى فيه أنّ هذا الاصطفاء أوقع المفسّرين المسلمين في حرجٍ اعتقاديٍّ، فحواه ما يلي: هل الآية تدلّ على اصطفائها على نساء العالمين في جميع العصور والأجيال، أو المقصود هو اصطفاؤها على نساء زمانها فقط؟

اعتبر بعض المفسّرين الآية شاهدًا على أنّ مريم عليها‌السلام كانت أعظمَ امرأةٍ في عصرها - أفضل نساء عالمها - وهذه الميزة لا تتعارض مع كون السيّدة فاطمة الزهراء عليها‌السلام أفضل نساء العالم قاطبةً، لأنّ كلمة (العالمين) في القرآن الكريم وفي الاستخدام العرفي تعني جماعةً من البشر الذين يعيشون في أحد العصور، ومثال ذلك قوله -تعالى-: (وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ)[6]؛

(214)

فمن البديهي -هنا- أنّ المقصود هو تفضيل مؤمني بني إسرائيل على غيرهم ممّن عاصرهم[1].

والسؤال الآخر الذي يطرح في هذا الصدد: هل إنّ أفضليّة مريم عليها‌السلام على نساء العالمين يُراد منها أفضليّتها من جميع الجهات، أو إنّها أفضل من بعض الجهات فقط؟ بعض المفسّرين اعتبروا تعدّي الاصطفاء بحرف الجرّ (على) يفيد أفضليّتها على نساء العالم، والاصطفاء المطلق لها يدلّ على تقدّمها من جميع الجهات عليهنّ، لا من جهة وضعها حملًا وهي عذراءُ؛ والفرق بين هذين الاصطفاءين؛ هو أنّ الأوّل صفةٌ لها بحدّ ذاتها، والثاني صفةٌ لها مقارنة مع الآخرين[2].

وهذا الاستنتاج لا يبدو صحيحًا لتفسير قوله -تعالى-: (وَٱصْطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَٰلَمِينَ)، إذ لا يمكن ادّعاء أنّ المراد -هنا- اصطفاؤها من جميع الجهات؛ بحيث لا توجد امرأةٌ في العالم قاطبةً أفضل منها، بل نستشفّ من سياق الكلام وما ذكر في الآيات اللاحقة أنّ الأنسب هو القول بتفضيلها على سائر نساء العالمين؛ من حيث ولادتها وهي عذراءُ غيرُ متزوّجةٍ، لا من جميع الجهات، فهذه الآيات تحكي عن تبشير الملائكة لها بحملها وهي عذراءُ، دون أن يمسّها بشرٌ. إذًا، هذا المضمون يعني أنّها ليست أفضل من سائر نساء العالمين من جميع الجهات، بل هي أفضل منهنّ بحملها دون الاقتران بزوجٍ، وبفضل نفخ الروح الإلهيّة فيها، وهذا الحمل في الحقيقة هو أحد الأنبيّاء أولي العزم[3].

إذًا، السيّدة مريم عليها‌السلام ليست أفضل -فقط- من جميع نساء عصرها، بل أفضل من نساء جميع العصور، لكنْ لا من جميع الجهات، ولا في جميع الفضائل، وإنّما من حيث ولادتها وهي عذراءُ[4]؛ فهذه هي الميزة التي اختصّت بها وفاقت على ضوئها سائر أقرانها النساء، لذا يمكن

(215)

القول إنّ هذه السيّدة الطاهرة تستبطن في ذاتها سرًّا مكنونًا لا يوجد في نفس أيّ امرأةٍ أخرى في العالم على مرّ العصور، حيث وصفها القرآن الكريم بالمصطفاة من قِبَل الله -عزّ وجلّ- من بين جميع نساء العالمين، واصطفاؤها طبعًا لأجل هذا السرّ المبارك الذي جعلها وابنها من أعظم الآيات في عالم الخلقة[1]. هذه الميزة ليست موجودةً لدى أيّ امرأةٍ أخرى سوى مريم؛ سواءً من الأجيال السالفة أو اللاحقة، ولكنّ هذا لا يمنع أفضليّة غيرها عليها بميّزاتٍ أخرى، لذلك قيل: «ليس المقصود من اصطفاء مريم أنّها اصطفيت على نساء عصرها فقط، بل المقصود منه اصطفاؤها على جميع نساء العالمين من الأوّلين والآخرين في ولادتها ابنًا من غير زوجٍ؛ فهذه الميزة مختصّةٌ بها فقط؛ لكنّ هذا لا يعني عدم وجود امرأةٍ أفضلَ منها في العلم والتقوى والفضل والعبادة والعقل، ومثال ذلك تفضيل بني إسرائيل في القرآن الكريم وإكرامهم بنعَمٍ لم يُكرم بها غيرهم[2]، فهذا لا يعني أفضليّتهم في العلم والعمل على الآخرين، أو أفضليّة الإنسان اليهوديّ على غيره، وإنّما الأفضليّة لهم كائنةٌ من حيث اختيار الأنبيّاء من بينهم جرّاء حاجتهم الماسّة إلى قيادتهم؛ وهذا الأمر طبعًا ينمّ عن ضربٍ من الانحراف لديهم؛ لكونهم لم يطيعوا الأنبيّاء، بل تجبّروا عليهم فقتلوا بعضهم[3]»[4].

(216)

واستنتج يوسف درّة الحدّاد، على الرغم من عدم إشارته إلى وجه تفضيل السيّدة مريم عليها‌السلام على غيرها من النساء، من الآية أفضليّة المسيح على جميع البشر، فهو برأيه الصفوة من بني آدم، لسببين، الأوّل أمّه التي اصطفاها الله -عزّ وجلّ- على جميع نساء العالمين: (وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَٰلَمِينَ)[1]، والثاني هو ذاته بوصفه آخرَ أنبيّاء بني إسرائيل: (وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَٰبَ وَقَفَّيْنَا مِنۢ بَعْدِهِۦ بِٱلرُّسُلِ ۖ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدْنَٰهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ ۗ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌۢ بِمَا لَا تَهْوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًۭا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًۭا تَقْتُلُونَ)[2].

والظاهر أنّ النتيجة التي توصّل إليها الحدّاد منبثقةٌ من رؤيته الإيديولوجيّة القائمة على مرتكزاته اللاهوتيّة، لذا لو تجرّد عن هذه المرتكزات المسيحيّة لأدرك أنّ النصّ في الآيتين المذكورتين لا يوحي بأيّ مفهومٍ يحكي عن أفضليّة المسيح عليه‌السلام على الخلق قاطبةً[3].

المبحث السادس: التفسير الاستشراقيّ لكلمة (أقلام) في الآية 44 من سورة آل عمران:

ادّعى غابريال سعيد رينولدز أنّ قصّة مريم عليها‌السلام ضمن الآيات 35 إلى 50 من سورة آل عمران مستوحاةٌ من إنجيل جيمس المنتحل، وقد استدلّ بمسألة القرعة لخطبتها بهدف إثبات رأيه هذا، حيث اعتبر ما ذكر في هذا الإنجيل بأنّه أفضل سبيلٍ لمعرفة المدلول الصحيح المقصود من قوله -تعالى-: (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُم).

وفي هذا السّياق بادر إلى تنسيق أحداث القصّة المذكورة في القرآن الكريم مع ما هو مذكورٌ في إنجيل جيمس ضمن أسلوبٍ مقارنٍ؛ لأجل بيان المدلول الصحيح لكلمة (أقلام) وإزالة الغموض عنها بزعمه، حيث طرح رأيه بقوله: «ذكر في إنجيل جيمس أنّ والديْ مريم

(217)

قدّماها للمعبد وعمرها لم يتجاوز ثلاث سنواتٍ، وذلك امتثالًا للنذر الذي قطعته أمّها على نفسها، فتكفّلها زكريا (الكاهن)[1]؛ وقد كان يصلها رزقٌ بشكلٍ إعجازيٍّ هناك[2]، وحينما بلغت سنّ الرشد أوجس سدنة المعبد وكهنته خيفةً من هتك حرمته، لذا دخل زكريا في الحرم المقدّس ليسأل الله عمّا يفعله بها[3]، فجاءه ملكٌ من جانب الله وأخبره بأنّ يجمع جميع الأرامل من الرجال في البلاد ويحضر كلّ واحدٍ منهم معه عصًا صغيرةً؛ كي يختار الله أحدهم لأن يتكفّل بتربيتها[4]. عندما اجتمع الأرامل من الرجال، أخذ زكريا العصي منهم وأدخلها في المعبد وقرأ عليها دعاءً، ثمّ أرجع كلّ عصًا لصاحبها، فكان آخرَهم رجلٌ اسمه يوسف، حيث ظهرت من عصاه معجزة بعد أنْ خرج منها طير جلس على رأسه»[5].

وبما أنّ هذا المستشرق فسّر الكفالة في قوله -تعالى-: (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ)؛ بمعنى خطبة يوسف النجّار لمريم، لذلك لم يفسّر كلمة (أقلام) بمعنى قلم أو العصا التي كانت مخصّصة لكلّ حبرٍ من أحبارهم، بل فسّرها بالعصي الصغيرة التي اقتُرع فيها؛ لأجل تعيين كفيل مريم -أي زوجها- من بين أحد الأرامل من الرجال لا الأحبار؛ وفي هذا السّياق ادّعى أنّ هذا الخبر القرآنيّ عبارةٌ عن سردٍ قصصيٍّ يحكي عمّا ذُكر في إنجيل جيمس، وعلى هذا الأساس استنتج أنّ العصا الصغيرة هي المقصودة من الكلمة المذكورة لا القلم؛ لأنّ هذا المعنى برأيه أكثر تناسبًا مع أوّل معنًى شاع بين الناس لكلمة قلم[6].

ونستشفّ ممّا ذُكِرَ أنّ رينولدز اعتمد على مرتكزاته الفكريّة في تفسير مضامين القرآن الكريم، ومن المؤكّد أنّ مجرّد وجود تشابهٍ بين بعض أحداث قصّة السيّدة مريم عليها‌السلام في القرآن الكريم وإنجيل جيمس لا يعني صوابيّة رأيه في تفسير كلمة (أقلام) المذكورة في الآية 44 من سورة آل عمران، فضلًا عن أنّ المعنى المقصود من هذه الكلمة في سائر الآيات القرآنيّة يفنّد ما ادّعاه.

كما أنّ كلمة (قلم) في أصلها اللغويّ تعني قصّ جزءٍ من جسمٍ صلبٍ، حيث عرّفها الراغب

(218)

الأصفهاني بقوله: «أصل القلم: القصّ من الشيء الصلب؛ كالظفر وكعب الرمح والقصب، ويقال للمقلوم: قلم. كما يقال للمنقوض: نقض. وخصّ ذلك بما يكتب به، وبالقدح الذي يضرب به، وجمعه: أقلام»[1]. وقال ابن عاشور موضّحًا معنى هذه الكلمة في الآية: «وَقَوْلُهُ: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ؛ وَهِيَ الْأَقْلَامُ الَّتِي يَكْتُبُونَ بِهَا التَّوْرَاةَ كَانُوا يَقْتَرِعُونَ بِهَا فِي الْمُشْكِلَاتِ: بِأَنْ يَكْتُبُوا عَلَيْهَا أَسْمَاءَ الْمُقْتَرِعِينَ أَوْ أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ الْمُقْتَرَعِ عَلَيْهَا، وَالنَّاسُ يَصِيرُونَ إِلَى الْقُرْعَةِ عِنْدَ انْعِدَامِ مَا يُرَجِّحُ الْحَقَّ، فَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَقْسِمُونَ بِالْأَزْلَامِ وَجَعَلَ الْيَهُودُ الِاقْتِرَاعَ بِالْأَقْلَامِ الَّتِي يَكْتُبُونَ بِهَا التَّوْرَاةَ فِي الْمِدْرَاسِ؛ رَجَاءَ أَنْ تَكُونَ بَرَكَتُهَا مُرْشِدَةً إِلَى مَا هُوَ الْخَيْرُ»[2].

وسواءً اعتبرنا كلمة (أقلام) تعني السهام -المصنوعة من الخشب طبعًا– أم تلك الأقلام التي كانوا يقترعون بها؛ أي قداحهم المبريّة التي كانت تُسمًى سهامًا[3]، أم تلك الأقلام التي كان الأحبار يكتبون بها التوراة وسائر الكتب السماويّة التي كانت تستخدم للقرعة أيضاً - وهو ما ذهب إليه غالبيّة المفسّرين -[4] فهي بالنتيجة كانت عبارةٌ عن قِطعٍ من الخشب التي تُكتب عليها أسماء المتنازعين، حيث كانت تلقى في الماء لأجل معرفة الحلّ الأنسب للمسألة المختلف حولها[5]؛ وقال الفخر الرازي موضّحًا ذلك بقوله: «معنى (يُلْقُونَ أَقْلَامَهُم) ممّا كانت الأمم تفعله من المساهمة عند التنازع، فيطرحون منها ما يكتبون عليها أسماءهم، فمن خرج له السهم سلم له الأمر؛ وقد قال الله -تعالى-: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) - (الصافات / 141)، وهو شبيهٌ بأمر

(219)

القداح التي تتقاسم بها العرب لحم الجزور، وإنّما سمّيت هذه السهام أقلامًا؛ لأنّها تقلّم وتبرى، وكل ما قطعت منه شيئًا بعد شيء فقد قلّمته؛ ولهذا السبب يسمّى ما يكتب به قلمًا.

قال القاضي: وقوع لفظ القلم على هذه الأشياء وإن كانْ صحيحًا؛ نظرًا إلى أصل الاشتقاق، إلا أنّ العرف أوجب اختصاص القلم بهذا الذي يكتب به، فوجب حمل لفظ القلم عليه»[1].

وكلمة (قلم) ذُكِرَت في أوّل آيةٍ من سورة القلم، ويراد منها ما يكتب به، إذ قال -تعالى- في هذه الآية: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)[2]، كما ذكرت في الآية الرابعة من سورة العلق لبيان الفوائد التي ينالها الإنسان من الكتابة: (ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلْأَكْرَمُ ٣ ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلْإِنسَٰنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[3].لذا يبدو أنّ المراد من القلم في الآيتين هو القلم المتعارف لدى الناس في الكتابة.

وأمّا كلمة (أقلام) فقد ذكرت في آيتين هما الآية التي هي مدار بحثنا وقوله -تعالى- في سورة لقمان: (وَلَوْ أَنَّمَا فِى ٱلْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَٰمٌۭ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦ سَبْعَةُ أَبْحُرٍۢ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَٰتُ ٱللَّهِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[4]. ومعنى الكلمة واضحٌ في هذه الآية، حيث يراد منها الشيء المخصّص للكتابة؛ وذلك بقرينة شجر الأرض، ومداد البحر، وكلمات الله، فلو جعلت جميع الأشجار في الأرض أقلامًا وجعل مدادها ماء الأبحر السبعة، ثمّ كتبت كلمات الله -سبحانه وتعالى- بها، فهي بعد أن تتحوّل إلى ألفاظٍ مكتوبةٍ سوف ينتهي ماء هذه الأبحر قبل أن تنتهي هذه الكلمات (المخلوقات).

وأمّا معنى هذه الكلمة في الآية 44 من سورة آل عمران والتي هي مدار بحثنا، فيراد منه سهام القرعة التي يمكن أنْ تكون أقلام الأحبار؛ وهذا المعنى نستشفّه على ضوء استخدام الكلمة في مختلف آيات القرآن الكريم؛ كذلك يمكن القول إنّ المراد -فقط- تلك العصي التي كانت مخصّصة سهامًا للقرعة.

لا شكّ في أنّ إصرار غابريال سعيد رينولدز على حصر الكلمة في المعنى الثاني، لا مسوّغ

(220)

له؛ لكونه منبثقًا من مرتكزاته الفكريّة المسيحيّة، ونظرًا لإصراره على ادّعاء أنّه مقتبسٌ من إنجيل جيمس المنتحل.

خلاصة البحث

اعتمد أغلب المستشرقين في تفسير القرآن الكريم على مرتكزاتهم الفكريّة والعقديّة؛ لذا فإنّهم حينما يلاحظون أنّ التفسير الإسلاميّ لإحدى الآيات مختلفٌ مع مضامين الأناجيل القانونيّة وحتّى المنتحلة، فهم في أفضل الأحوال يبادرون إلى توجيه معناها وظاهرها أو أنّهم يصرّون -أحيانًا- على معارضتهم للرؤية الإسلاميّة، ويطرحون آراء تتباين بالكامل مع المعنى المتعارف بين المفسّرين المسلمين.

وقد سلك المستشرق غابريال سعيد رينولدز هذا النهج في التعامل مع المضمون القرآنيّ، ومن هذا المنطلق ادّعى أنّ الأنجع لإزالة غموض الكثير من الآيات التي تحدّثت عن السيّدة مريم وابنها عيسى عليهما‌السلام وتبسيط التعقيد الموجود في ألفاظها وعباراتها، هو اللجوء إلى النصوص المسيحيّة التي تشير إلى الموضوع نفسه.

ولا يذكر المستشرقون المتأخّرون بصريح القول أنّ النصّ القرآنيّ مقتبسٌ من العهدين والنصوص المقدّسة اللاحقة لهما، لكنّهم يؤكّدون على أنّه يحكي عن مضامين النصوص اليهوديّة والمسيحيّة؛ إذ هناك مسألةٌ ملحوظةٌ في معظم الآثار التفسيريّة لهؤلاء المستشرقين، وهي ادّعاء أنّ الكثير من المضامين القرآنيّة مستوحاةٌ من مصادرَ عديدةٍ؛ مثل: التلمود، والإنجيل، وثقافة أهل مكّة وتقاليدهم، أو أنّها متأثرّةٌ بالظروف الاجتماعيّة والثقافيّة والدينيّة في عصر ظهور الإسلام، وهذا ينمّ في الحقيقة عن انعكاس آراء أسلافهم المستشرقين الأوائل في منظومتهم الفكريّة[1].

وقد قالت المستشرقة أنجليكا نويورث في توجيه التشابه الموجود بين القرآن الكريم والكتاب المقدّس في تفاصيل قصّتيْ مريم وعيسى عليهما‌السلام إنّ: «القرآن ذكر قصّة مريم كي يوضّح الغموض الموجود في النصوص المقدّسة حول قضيّة حملها وولادتها؛ وهي عذراء، وهذه القصّة

(221)

تدلّ بوضوحٍ على رواج مباحثَ ونقاشاتٍ جديدةٍ بين أهل المدينة حول شخصيتيْ مريم وعيسى ضمن توجّهاتٍ لاهوتيّةٍ، لذلك اقتضت الضرورة آنذاك بيان تفاصيلها.

لا يمكن الاعتماد -فقط- على الأسس البنيوية التي تقوم عليها الحكايات القرآنيّة لاستكشاف المعاني والمداليل الكاملة للقصص التي سردت في كتاب المسلمين المقدّس - القرآن، - إذ ليس من المهمّ بمكانٍ بيان مدى احتمال تأثير أحد النصوص على التصوير القرآنيّ لإحدى القصص (كما هو الحال بالنسبة إلى الإصحاح الثاني عشر من إنجيل لوقا، والذي تمّ استعراض مضمونه في القسم الأوّل من سورة مريم)، بل المهمّ هو معرفة الخطاب العامّ المراد طرحه من وراء ذِكْر هذه القصّة؛ فهذا الخطاب ربّما طرح على ضوء هواجسَ لاهوتيةٍ أكثرَ قِدمًا»[1].

ولا شكّ في أنّ قصّة مريم وعيسى عليهما‌السلام كانت معروفةً بشكلٍ عامٍّ بين المستمعين الأوائل، إلا أنّ ذكرها في القرآن الكريم ينمّ عن عظمة بلاغة هذا الكتاب الحكيم في السرد القصصيّ وتفرّده في بيان بعض الأحداث التي شهداها، حيث صاغها من وقائعَ كانت معروفةٌ لدى المخاطَبين العرب في عصر النزول بأسلوبٍ يتناسب مع الرسالة الموجّهة إليهم. والآية 44 من سورة آل عمران -على سبيل المثال- أكّدت على أنّ النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله يخبر الناس بأحداثٍ لا يمكن للعقل مطلقًا الاطّلاع عليها من دون هذا الإخبار، وحتّى المعارضون لرسالته يقرّون بأنّه لم يسمع بهذه الأحداث قبل ذلك ولم يقرأْها مطلقًا، والأهمّ من ذلك أنّه لم يكن حاضرًا حينما وقعت؛ كي ينقلها بهذه التفاصيل الدقيقة؛ إذ من المستحيل طبعًا أنْ يكون قد رآها مرأى العين؛ ما يعني أنّ الخبر وصله عن طريق وحي السماء[2].

وحتّى لو وُجِدَ تشابهٌ بين القصص القرآنيّة المتقنة والقصص المنقولة في بعض النصوص

(222)

السابقة المنتحلة والمحرّفة، فهذا لا يعني تسويغ ادّعاء أنّها مقتبسةٌ أو مستوحاةٌ من هذه النصوص المرفوضة من أساسها.

ويلاحظ في التوجّهات التفسيريّة الاستشراقيّة التي تبنّاها المستشرقون المتأخّرون الذين يدور البحث في هذا الكتاب حول آرائهم، أنّهم تبنّوْا وجهاتِ نظرٍ تجديديّةً مستقلّةً عن الدراسات الغربيّة التقليديّة، وفي هذا السّياق سلّطوا الضوء على النصّ القرآنيّ؛ بعيدًا عن التراث الإسلاميّ الذي يمثّل تأريخ المسلمين ونهجهم الدينيّ؛ إلا ما ندر، وبالتالي فسّروه، وطرحوا نظريّاتهم بخصوص مضامينه في رحاب تحليلاتٍ أدبيّةٍ ولغويّةٍ قائمةٍ على مبدأ التناصّ (التعالق النصّيّ).

 

(223)
(224)

 

 

 

 

 

 

الباب الثاني

التفسير الاستشراقيّ لمصطلحَي
"الكتاب" و"التفصيل" في النصّ القرآنيّ

(225)
(226)

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

التفسير الاستشراقيّ لمصطلح "الكتاب" في النصّ القرآنيّ

(227)
(228)

سلّط المستشرقون الضوء بدقّةٍ وإمعانٍ على مصطلح "كتاب" وسائر الكلمات المرتبطة به؛ مثل: "تفصيل" و"مبين"، وهناك أسبابٌ عديدةٌ دعتهم إلى ذلك؛ وفي هذا السّياق أضفى بعضهم إليه دلالةٌ تتعدّى نطاق مدلوله النصّيّ، في حين أنّ آخرين قيّدوه بمدلوله النصّيّ وذكروا له مصاديقَ عدّة.

وقد تطرّقوا إلى تفسير هذا المصطلح والآيات المرتبطة به متأثّرين بعواملَ عدّة، وطرحوا آراء متباينةً تمخّضت عنها تفاسيرُ متنوّعةٌ ومتباينةٌ من حيث المضمون.

وتفصيل هذه الآراء التفسيريّة في ما يلي من مباحث:

المبحث الأوّل: "الكتاب"؛ بمعنى التوراة والإنجيل (على نحو الاقتباس، لا التناصّ):

أحد الآراء الشائعة بين المستشرقون حول تفسير مصطلح "كتاب" في القرآن الكريم هو دلالته على التوراة والإنجيل، ويُعدّ يوسف درّة الحدّاد من جملتهم، فقد استنتد إلى خلفيّاته الفكريّة التي قوامها أنّ كتاب المسلمين المقدّس مقتبسٌ من هذين الكتابين المقدّسين لدى اليهود والمسيحيّين، وعلى هذا الأساس تعامل مع النصّ القرآنيّ على ضوء معتقداته الدينيّة، وقام بتحميل آرائه التفسيريّة عليه؛ بحسب هذه المعتقدات؛ لذا لم يميّز في رأيه هذا بين معنى كلمة الكتاب المذكورة في الآيات الأولى وغيرها ضمن مختلف السور، حيث أصرّ على أنّها ذاتُ دلالةٍ واحدةٍ؛ وهي الكتاب المقدّس. والمعهود عن هذا المستشرق أنّه قبل أنْ يبادر إلى تفسير إحدى الآيات، عادةً ما يشير إلى نظريّةٍ مرتكزةٍ في ذهنه؛ فحواها أنّ القرآن لا يتعدّى كونه كتابًا مفصّلًا[1].

وأكّد الحدّاد في بحوثه على أنّ التوراة هي الكتاب الوحيد المُنزَل من السماء، وادّعى أنّ المقصود من مصطلح "كتاب" في كتاب المسلمين المقدّس هو النسخة العربيّة للتوراة التي أطلق عليها عنوان "قرآن"، فقد جاء النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله به؛ لكي يعلّم العرب الكتاب والحكمة - أي التوراة والإنجيل - لأنّه أرسل لكي يفصّل الكتاب ويثبت للناس قدسيّته[2].

(229)

والحدّاد هو قسّيسٌ في الحقيقة، لذا نلمس توجّهاتِه العقديّةَ جليّةً في آرائه التي تبنّاها ضمن تفسير النصّ القرآنيّ، وأسلوبه التفسيريّ يقوم على تجزئة الآيات، ثمّ تفسير ألفاظها وعباراتها؛ وفقًا لمتبنياته الإيديولوجيّة؛ ومن جملة الآراء التي طرحها على هذا الصعيد: أنّ بعض السور القرآنيّة اُستهلّت بقسمٍ؛ فحواه نزول الكتاب من الله العزيز الحكيم، وأشارت إلى أنّ القرآن تفصيلٌ؛ أي أنّه تعريب للكتاب؛ ما يعني أنّ الكتاب يتضمّن الوحي؛ بينما القرآن عبارةٌ عن تفصيلٍ وبيانٍ لهذا الكتاب. هذا الكلام يعني معارضة الحدّاد رأيه السابق بخصوص مسألة تفصيل الكتاب، حيث ادّعى أنّ القرآن الكريم ليس سوى تعريبٍ أو بيانٍ للكتاب.

ويمكن بيان وجهة نظره بالنسبة إلى الآيات التي يتمحور حولها بحثنا في يلي: في بادئ الأمر قال لا شكّ في أنّ "الكتاب" -هنا- يُراد منه كتابٌ مقدّسٌ، فهذا معنًى مفروغٌ منه برأيه؛ ثمّ طرح سائر استنتاجاته وفق هذا المعنى، وكلمة "تفصيل" هي من الأدلّة التي استند إليها في هذا الإطار، حيث فسّرها بالتعريب، كما اعتبر مفهوم كلمة "قرآن" ذاتَ معنًى مختلفٍ عن كلمة "كتاب"[1]؛ والنتيجة النهائيّة التي توصّل إليها هي: عدم إنزال القرآن الكريم بالوحي، أو على أقلّ تقديرٍ هو ليس من تلك الكتب السماويّة القائمة على أرفع درجات الوحي؛ وذلك من منطلق اعتقاده بأنّه كتابٌ غيرُ مستقلٍّ عن النصوص المقدّسة السابقة[2]، فقد وصف بالكتاب، والمقصود من ذلك التوراة والإنجيل، وآياته هي آيات التوراة والإنجيل ذاتها، لكنْ غاية ما في الأمر أنّها عُرِضَت على الناس باللغة العربيّة. والطريف -أيضًا- هو ادّعاؤه أنّ هدف القرآن الكريم هو تعليم العرب التوراة والإنجيل[3].

وجدير بالذكر أنّ معظم النقاشات النقديّة التي تساق في تحليل آراء الحدّاد التفسيريّة تتمحور بشكلٍ أساس حول تفسيره كلمة "الكتاب" التي تحدّثنا عنها، حيث استدلّ بالعديد من الآيات لزعم أنّه نسخةٌ عربيّةٌ من التوراة والإنجيل؛ وفي هذا السّياق بادر إلى استقطاع عباراتٍ خاصّةٍ من الآيات ليفسّر مضامينها؛ وفقًا لمرتكزاته الإيديولوجيّة، حتّى إنّه اكتفى -أحيانًا- بتقرير استدلاله ضمن سطرٍ واحدٍ ليطرح النتيجة النهائيّة على أساسه، وهذه الآيات التي استند إليها تصنّف إلى أربعة أقسامٍ هي:

   - آيات تتضمّن كلمة "كتاب" فقط

(230)

   - آيات تتضمّن كلَمتيْ "كتاب" و"قرآن"

   - آيات تتضمن كلمة "كتاب" وعبارة "قرآن عربي"

   - آيات تتضمّن كلمتيْ "فصّلت" أو "تفصيل" إلى جانب "كتاب" أو "قرآن" أو "قرآن عربي"

1) الآيات الأولى التي تتضمّن كلمة "كتاب" فقط:

فسّر يوسف درّة الحدّاد، ضمن مساعيه الرامية إلى إثبات أنّ القرآن الكريم مستوحى من مصدرين؛ هما: التوراة والإنجيل، كلمة "كتاب" المذكورة في الآيات الأولى من بعض السور بالتوراة والإنجيل[1]؛ لأنّ بعض الآيات - كما في سورتَيِ الحِجر والنمل - تمّ التمييز فيها بين هذه الكلمة وكلمة "قرآن"؛ وعلى هذا الأساس قال مرارًا وتكرارًا إنّ الكتاب المشار إليه في بدايات السور يُراد منه الكتاب ذاته الموجود بين أيدي أهل الكتاب الذين أشار إليهم القرآن، لذا فهو مجرّد نصٍّ موضِّحٍ ومفصِّلٍ لكتابهم المقدّس[2].

واتّخذ الحدّاد هذا الرأي مقدّمةً لطرح استنتاجه المعهود في سائر بحوثه ودراساته؛ وهو تجريد القرآن الكريم من طابعه السماويّ؛ بزعم أنّه لم ينزل بالوحي، بل هدفه الأساس هو تفصيل "الكتاب"؛ أي التوراة والإنجيل؛ لذا فاستنتاجه الأساس من مستهلّ السور التي ذُكِرَت فيها كلمة "كتاب" قوامه؛ أوّلًا: أنّ التوراة والإنجيل هما الكتاب المنزل من الله العزيز الحكيم عن طريق الوحي، وثانيًا: أنّ القرآن عبارةٌ عن تفصيلٍ عربيٍّ لهما لا غير؛ وعزّز استدلاله هذا بمستهلّ سورة البقرة، حيث اعتبره يدلّ على المعنيين المشار إليهما.

ويلاحظ أنّه استدلّ بالآيات 1 إلى 4 من سورة البقرة لإثبات رأيه هذا بشكلٍ يختلف عن سائر استدلالاته التفسيريّة بخصوص كلمة "الكتاب"، لكنّه ادّعى غير ذلك واعتبره على غرار استدلالاته الأخرى؛ وفي هذا السّياق قال إنّ المقصود من هذا المصطلح القرآنيّ هو القرآن العربي المُنزَل على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والذي يتضمّن ما أنزل قبله؛ أي أنّ الكتاب هو المُنزَل قبل القرآن[3].

(231)

وهذا الكلام يعني وجود اختلافٍ بين آيات القرآن وآيات الكتاب، فهما برأيه ليسا أمرًا واحدًا؛ كما أنّ الكتاب المذكور في بعض الآيات القرآنيّة يُراد منه التوراة والإنجيل، حيث تأثّر في تفسيره هذا بما ذكره عدد من المفسّرين الذين يدرجون ضمن التابعين لصحابة النبيّ حول معنى الكتاب؛ ولا شكّ في أنّ متبنّياته العقديّة والرؤية الإيديولوجيّة التي تَسِم فكره المسيحيّ، قد حفّزته على القول بأفضليّة الكتاب المقدّس؛ ومثال ذلك: أنّه استند إلى بعض التعابير القرآنيّة، دون أن يأخذ بعين الاعتبار المدلول العامّ للسورة أو الآية التي أدرجت فيها، وهذا الاستدلال غيرُ صائبٍ بطبيعة الحال، إذ لا بدّ للمفسّر من بيان آرائه على ضوء المدلول العامّ للسورة، ومع الأخذ بعين الاعتبار جميع القرائن المتّصلة بها والمنفصلة عنها؛ مثل: سياق الكلام، وأسباب النزول، كما ينبغي له عدم تجاهل المعاني اللغويّة والاصطلاحيّة؛ وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ إهمال السّياق له دورٌ كبيرٌ في عرقلة المفسّر عن فهم مداليل الكثير من الآيات، لكنّ الحدّاد لم يكترث لهذا الجانب، واستقطع الآيات من سياقها؛ ليتعامل مع كلّ واحدةٍ منها؛ وكأنّها نصٌّ مستقلٌّ[1].

وفي ما يلي نوضّح تفاصيل البحث:

أ - الآية الثانية من سورة البقرة:

قال -تعالى-: (الٓمٓ 1 ذَٰلِكَ ٱلْكِتَٰبُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًۭى لِّلْمُتَّقِينَ 2 ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ 3 وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلْءَاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ 4)[2]. فسّر يوسف درّة الحدّاد كلمة "الكتاب" المذكورة في الآية الثانية بالتوراة والإنجيل؛ استنادًا إلى مرتكزاته الإيديولوجيّة ذات الطابع المسيحي، ويبدو أنّ اسم الإشارة "ذلك" هو الذي جعله يستنتج هذا المعنى؛ على الرغم من عدم تصريحه بهذا السبب.

وقبل أن نتطرّق إلى بيان سياق الآية ومدلول كلمة "الكتاب" فيها، على ضوء سياق الآيات الأخرى، لا نرى بأسًا في ذكر ملاحظتين تندرج فيهما بعض التفاصيل الهامّة بخصوص موضوع البحث:

(232)

الملاحظة الأولى: المفهوم العامّ لكلمة "كتاب" في المصطلح القرآنيّ يُراد منه الوحي المنزل من علم الله -تعالى-، وهذا هو المعنى المقصود في سورة البقرة بطبيعة الحال؛ وكلمة "ذلك" المذكورة في بداية هذه السورة هي اسم إشارةٍ لذلك الكتاب المكنون والمحفوظ أو العلم الإلهيّ؛ فالتعاليم القرآنيّة تؤكّد على أنّ الكتب السماويّة مُنزَلةٌ من علمه تبارك شأنه.

وقد فسّرت هذه الكلمة في بعض التفاسير بالوحي الحامل للشريعة[1].

الملاحظة الثانية: يتضمّن النصّ القرآنيّ أسماء إشارةٍ للقريب؛ مثل: هذا، وهذه، وأسماء إشارةٍ للبعيد؛ مثل: ذلك، وتلك؛ وفي هذا السّياق لا يوجد اختلافٌ بين المفسّرين حول إرادة القرآن من الكتاب المشار إليه بأسماء الإشارة للقريب -أي هذا القرآن المكوّن من الآيات والسور التي هي في متناول المسلمين- لكنّهم مختلفون حول المراد من الكتاب المشار إليه بأسماء الإشارة للبعيد.

واعتبر بعض المفسّرين اسم الإشارة "ذلك" المذكور في مستهلّ سورة البقرة يشير إلى مضمون الآية الأولى التي هي الحروف المقطّعة "الـم"، إذ بما أنّ الكلام عن "ألـم" قد انتهى، فهو بحكم البعيد، ومن ثمّ لا بدّ من استخدام اسم إشارةٍ مختصٍّ بالبعيد للإشارة إليه، وفي هذه الحالة فإنّ "ألم" مبتدأٌ وعبارةُ (ذَٰلِكَ ٱلْكِتَٰبُ) خبرٌ لها[2].

بعضهم قالوا إنّه يشير إلى الآيات والسور النازلة قبل نزول هذه الآية، وهي بطبيعة الحال بحكم البعيدة[3].

(233)

ومنهم من فسّرها بالآيات التي بشّرت التوراة بنزولها، حيث وعد الله -تعالى- نبيّه بأن ينزَّل عليه كتابًا، لذا حينما أنزل القرآن قال إنّه هو الكتاب ذاته الذي وعدت الكتب السماويّة بنزوله، وهو عبارةٌ عن كلٍّ وجزءٍ، أي أنّه يصدق على كلّ جزءٍ فيه، حتّى وإنْ كان آيةً واحدةً[1].

وحينما نستقرئ الآراء التفسيريّة حول مدلول هذه الكلمة في مستهلّ سورة البقرة، نجد أنّ الفخر الرازي هو المفسّر الوحيد الذي تطرّق إلى بيانها على ضوء جذرها اللغويّ؛ لأجل وضع حلٍّ للتعارض الموجود بين مفهومها الظاهر الدالّ على البعيد، والمشار إليه القريب "الكتاب"، ومن هذا المنطلق أكّد على أنّ معناها يتمحور حول كلمة "ذا" التي اعتبرها للإشارة -فقط-، لا لتحديد القريب أو البعيد؛ لأنّ العرف العامّ لدى أهل اللغة هو الذي خصّصها بالمشار إليه البعيد، بينما مقتضى الوضع اللغويّ لها هو الإشارة فقط[2].

إذًا، هؤلاء المفسّرون أجمعوا على أنّ القرآن الكريم الموجود بين يدي المسلمين هو المشار إليه المقصود من جميع أسماء الإشارة التي أشارت إلى الكتاب، وهذا الاستنتاج ترتّب عليه تسامحٌ في استعمال أسماء الإشارة؛ من خلال اعتبارِ اسمَيِ الإشارة "تلك" و"ذلك" يدلّان على القريب.

وبعضهم اعتبروه يدلّ في هذه الآية على تعظيم القرآن الكريم[3]، وهذا الرأي يبدو في ظاهره منبثقًا من تفسيرٍ ذوقيٍّ؛ لكونه ليس مبرهَنًا؛ في ما ذهب آخرون إلى ما تبنّاه يوسف

(234)

درّة الحدّاد واعتبروه دالًّا على التوراة والإنجيل؛ لأنّه اسم إشارةٍ للبعيد[1].

ولم يلقَ الرأي الأخير ترحيباً ملحوظًا من قَبِل المفسّرين، وأمّا الذين تبنّوْه فربّما استندوا إلى عددٍ من الروايات المنقولة عن بعض الرواة الذين كانوا ذوي عهدٍ جديدٍ بالإسلام؛ من: أمثال أبي هريرة، أو المنقولة عن بعض التابعين؛ مثل: مجاهد، حيث قالوا إنّ التوراة والإنجيل هما المشار إليه في هذه الآية[2]، بينما اعتبره قتادة جميع الكتب السماويّة السابقة[3]؛ لكنّ الكثير من المفسّرين رفضوا هذا الرأي؛ لكونه ضعيفًا، ولا يرتضيه الفكر القويم، وبعيدًا عن الحقيقة[4]، كما أنّ السور التي تتضمّن أسماء الإشارة للبعيد لا يمكن تفسيرها بهذا الشكل؛ لكون التوراة والإنجيل ليسا هما المشار إليه فيها.

ويبدو أنّ يوسف درّة الحدّاد أوّل "ذلك" بالإشارة إلى التوراة والإنجيل؛ متأثّرًا بمرتكزاته العقديّة وتوجّهاته الفكريّة المسيحيّة القائمة على الاعتقاد بأنّ القرآن الكريم مجرّدُ كتابٍ فيه ترجمةٌ عربيّةٌ لمضامين الكتاب المقدّس وتفصيلٌ له.

واستند بعض المفسّرين إلى مداليل سائر الآيات التي أكّدت على المنشأ السماويّ للقرآن الكريم، واعتبرته مكنونًا في اللوح المحفوظ، ليفسّروا اسم الإشارة "ذلك" في الآية المذكورة وفقًا لمدلوله الظاهر والحقيقيّ؛ وفحواه الإشارة إلى البعيد، والمقصود من المشار إليه البعيد -هنا- اللوح المحفوظ، ومنهم الفخر الرازي، حيث قال: «فكأنّه -تعالى- قال: أقسمُ بهذه الحروف أنّ هذا الكتاب هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ»[5]. ولا شكّ في أنّ هذا الرأي أكثرُ صوابيّةً؛ لانسجامه مع القواعد اللغويّة ومضامين سائر الآيات، فالكتاب هو المشار إليه بذلك، والمراد من هذا الكتاب هو اللوح المحفوظ.

(235)

إذًا، لا صوابيّة للرأي القائل إنّ القرآن هو المشار إليه في قوله -تعالى-: (ذَٰلِكَ ٱلْكِتَٰبُ)؛ لأنّ اسم الإشارة في هذه الآية يُراد منه البعيد، في حين أنّ القرآن بوصفه في طور النزول آنذاك فهو ليس ببعيدٍ طبعًا، بل هو قريبٌ وحاضرٌ بين المخاطبين؛ أضف إلى ذلك أنّ هذه الآية لم تسبق بكلامٍ فيه ما يقتضي الإشارة إليه بكلمة "ذلك". والمفسّرون الذين تبنّوْا هذا الرأي ذكروا أدلّة  عدّة لإثبات صوابيّته[1]، لكنّها ليست مقنعةً في الحقيقة، ولربّما يكون السبب في طرح هذا التفسير الشائع بينهم هو خلطهم بين مضمون القرآن الكريم ومنشئه، لذا حتّى وإنْ اعتبرناه يشير إلى عظمة القرآن، فالإشارة -هنا- ليست لعظمة مضمونه، بل لعظمة منشئه.

وهذه الآية واقعةٌ في متسهلّ سورة البقرة، لذا لم يُطرَح قبلها موضوعٌ آخرُ، وعلى هذا الأساس نقول: أشار الله -عزّ وجلّ- إلى كتابٍ هو هدى للمتّقين، ولا يكتنفه أيّ شكٍّ وتردّد، قبل أنْ يذكر المحتوى الأساس للسورة،؛ وذلك بغية استقطاب نظر المخاطب، وربّما هذا هو السبب في ذكر إيمانهم بالغيب في الآية اللاحقة: (ذَٰلِكَ ٱلْكِتَٰبُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًۭى لِّلْمُتَّقِينَ 2 ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ...)[2]، وهؤلاء المتّقون هم جميع المؤمنين؛ سواءً أكانوا من الأمم السابقة، أم كانوا من الأمّة الإسلاميّة، وقوله -تعالى-: (وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلْءَاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)[3] فيه إشارةٌ إلى تكافؤ البشر ووحدة أديانهم وأنبيّائهم وإلههم[4].

(236)

ويلاحظ أنّنا حينما نتتبّع السّياق القرآنيّ، نجد استخدام اسمَيِ الإشارة المخصّصين للقريب -هذا وهذه- للإشارة إلى القرآن الموجود بين أيدي المسلمين على هيئة ألفاظٍ وآياتٍ وسورٍ؛ ومثال ذلك الآية 19 من سورة المزمّل، حيث قال -تعالى-: (إِنَّ هَٰذِهِۦ تَذْكِرَةٌۭ ۖ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِيلًا)، فاسم الإشارة (هذه) -هنا- يشير إلى جميع التحذيرات المذكورة في الآيات السابقة. كذلك نلاحظ في الآيتين 24 و25 من سورة المدثّر استخدام اسم الإشارة (هذا) على لسان أحد المشركين؛ إشارةً للقرآن الكريم، بعد أنْ زعم أنّه سحرٌ ومن كلام البشر: (فَقَالَ إِنْ هَٰذَآ إِلَّا سِحْرٌۭ يُؤْثَرُ 24 إِنْ هَٰذَآ إِلَّا قَوْلُ ٱلْبَشَرِ).

وقد بادر المشركون، على ضوء إنكارهم القرآن الكريم وعدم إقرارهم بكونه كتابًا سماويًّا منزلًا بالوحي، إلى التشكيك بمصداقيّته؛ كما هو مذكورٌ في الآيات الثلاثة التي أشرنا إليها، حيث زعموا أنّه سحرٌ موروثٌ من الأسلاف، وكلامٌ من صياغة إنسانٍ، وعلى هذا الأساس جرّدوه من واقعه السماويّ؛ لكنْ جاءهم الإنذار في الآية 56 من سورة النجم في قوله -تعالى-: (هذا نَذيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى)، وفي الآية 59 تمّ توبيخهم في رحاب استفهامٍ إنكاريٍّ: (أَفَمِنْ هذَا الْحَديثِ تَعْجَبُونَ). إذًا، وبّخهم الله -تعالى- بهذا الاستفهام الإنكاريّ؛ مستفسرًا منهم عن السبب في تعجّبهم من هذا القرآن المنزل من قِبَله على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، فهو ليس شيئًا جديدًا من نوعه، ولا ينبغي لهم أن يعجبوا منه؛ وفي الآية 81 من سورة الواقعة تكرّر هذا المضمون ذاته وأشير إلى القرآن الكريم بـ (هذا) أيضًا، حيث قال -تبارك شأنه-: (أَفَبِهذَا الْحَديثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ)، فهذه الآية تؤنّب المشركين والكافرين على مداهنتهم بالقرآن الذي هو حقٌّ ولسانُ صدقٍ، لذا لا بدّ من الإقرار بآياته.

وكذلك أشير إلى القرآن الكريم باسم الإشارة (هذه) في الآية 29 من سورة الإنسان في قوله -تعالى-: (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبيلاً)، والإشارة فيها على غرار ما ذكر في الآية 19 من سورة المزمّل، حيث يراد منها الإشارة إلى ما ذكر في الآيات السابقة، فقد ذكرت الأسلوب الأمثل الذي يضمن سعادة الإنسان وينجيه من عذاب الآخرة.

(237)
ب- الآية الثانية من سورة الشعراء:

قال -تعالى-: (طسٓمٓ 1 تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱلْكِتَٰبِ ٱلْمُبِينِ 2)[1].

رقم هذه السورة هو الثامن والأربعون؛ وفقًا لما أفادته روايات ترتيب النزول[2]، والآية الثانية منها نزلت بهدف الردّ على المشركين الذين أنكروا نزول القرآن الكريم بوحي من السماء، واتّهموا النبيّ محمّد بأنّه شاعرٌ ومجنونٌ، إذ أراد الله -عزّ وجلّ- فيها مواساته وطمأنته إزاء هذه التهم الواهية، والآية الأولى تشهد على ذلك. بعد ذلك تطرّقت السورة إلى بيان عاقبة الأمم السالفة التي لم تطعْ أنبيّاءها، وكيف إنّ الله -سبحانه وتعالى- انتقم منها، وهذه الأحداث يمكن اعتبارها شاهدًا آخرَ على التفسير الذي ذكرناه لاسم الإشارة (تلك) المذكور في الآية الثانية، ولربّما هذا السبب هو الذي دعا بعض المفسّرين إلى عدم التكلّف في تفسيرها وبيان مدلولها؛ وفقًا لظاهر ألفاظها، لذلك اعتبروا اسم الإشارة للبعيد (تلك) بأنّه يشير إلى (الكتاب) الذي هو اللوح المحفوظ[3].

و ذكر غالبيّة المفسّرين تفاسيرَ للآيات الأولى من سورة الشعراء تختلف بالكامل عمّا ذكره يوسف درّة الحدّاد في هذا الصدد، وهي بشكلٍ عامٍّ تناظر تفسير الآيات الأولى من سورتَيِ الحجر والنمل، و أكّدوا في هذا السّياق على أنّ اسم الإشارة (تلك) يشير إلى القرآن الموجود بين أيدي المسلمين؛ بينما الحدّاد حاول متكلّفًا تغيير المعنى اللفظيّ لـ (تلك)، لذا لا صوابيّة لرأيه؛ ويرد عليه الإشكال نفسه الذي أوردنا على تفسيره اسم الإشارة (ذلك) في الآية الثانية من سورة البقرة.

واعتبر بعض المفسّرين (تلك) الواردة في الآية المذكورة؛ إشارةً إلى علوّ شأن القرآن الكريم ورفعته[4]، أو إشارةً إلى المعهود في الذهن؛ أي أنّه ليس بحاضرٍ، لكنّه متوقّعٌ؛ كما قال الطبرسي:

(238)

«وقوله (تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱلْكِتَٰبِ ٱلْمُبِينِ)؛ إنّما أشار بـ (تلك) إلى ما ليس بحاضرٍ؛ لأنّه متوقّعٌ، فهو كالحاضر؛ بحضور المعنى للنفس، وتقديره: تلك الآيات آيات الكتاب»[1]. فهو بعيدٌ إلا أنّه بحكم الحاضر كما قال علي بن الحسين العاملي في تفسيره: «(تلك) إشارةٌ إلى حاضرٍ، وذلك موجودٌ في الكلام، كما أنّ هذه قد تكون الإشارة بها إلى غائبٍ معهودٍ كأنّه حاضرٌ»[2].

وأمّا كلمة (مبين) فهي مشتقّةٌ من الفعل المتعدّي (أبانَ)؛ كما ذكر المفسّرون؛ وهو يعني وضّح وأرشد؛ وعلى هذا الأساس يفسّر الكتاب في هذه الآية بمعنى اللوح المحفوظ[3]؛ لكنّ بعض المفسّرين نأوْا بأنفسهم عن المعنى الصريح للآية، وتكلّفوا إلى أقصى حدٍّ ليفسّروا اسم الإشارة (تلك) بأنّه يشير إلى البعيد، ففسّروا الآية بالتالي: تلك آيات الكتاب المبين التي وعدناك بها، فقد جاء الوعد بنزول القرآن في التوراة والإنجيل[4]. وهذا التفسير هو الآخر ترد عليه مؤاخذةٌ؛ لأنّ القرآن الكريم لم ينزل مخاطبًا أصحاب التوراة؛ لكي يقال إنّه ناظرٌ إلى الآيات التي وُعِدَ الناس بها، بالإضافة إلى عدم توفّر دليلٍ قطعيٍّ يدلّ على وجود مضمونٍ كهذا فيها، لأنّ أصحاب هذا الرأي لم يذكروا أيّ عبارةٍ توراتيّةٍ أو إنجيليّةٍ؛ لإثبات صوابيّة تفسيرهم.

ج - الآية الثانية من سورة القصص:

قال -تعالى-: (طسٓمٓ 1 تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱلْكِتَٰبِ ٱلْمُبِينِ 2)[5].

تطرّق يوسف درّة الحدّاد، وكما هو معهودٌ عنه، إلى تفسير هاتين الآيتين من منطلق رؤيته الانحيازية المنبثقة من معتقداته المسيحيّة، فهو -كما ذكرنا آنفًا- ادّعى أنّ القرآن الكريم لا يُعدّ كتابًا سماويًّا جديدًا ومستقلًّا، وليس فيه أيّ موضوع خارج نطاق التوراة والإنجيل، بل هو ترجمة لهما، وكلّ ما فيه مقتبس منهما؛ لذا فسّر كلمة (الكتاب) في هذه الآية بالكتاب المقدّس - التوراة والإنجيل - واعتبر آياته بأنّها ذات آياتهما.

وقبل أن نتطرّق إلى شرح رأيه هذا وتحليله، ننوّه بأنّ سورة القصص؛ وفقاً لروايات ترتيب

(239)

النزول، نزلت مباشرةً بعد سورة النمل، كما أنّ مستهلّها هو مستهلّ سورة الشعراء نفسه؛ ولو ألقينا نظرةً شاملةً على آياتها سنلاحظ أنّها تتضمّن الكثير من التلميحات المباشرة وغير المباشرة التي تؤكّد على قدسيّة القرآن الكريم ومنشئه السماويّ، والآيتان الثانية والثالثة هما أوّل هذه التلميحات، إذ تؤكّدان على هذه الحقيقة؛ والآية الثالثة هي: (نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِٱلْحَقِّ لِقَوْمٍۢ يُؤْمِنُونَ)، فعبارة (نَتْلُواْ عَلَيْكَ) تشير إلى أنّ كلّ ما يُتلى على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله هو وحيٌ منزلٌ من قِبَل الله -سبحانه وتعالى-، لذا فهو حقٌّ، وليس من تلقين الشيطان، ولا من أساطير الأوّلين؛ وكما هو واضحٌ في الآية، فبعد هذه العبارة بدأ الحديث عن قصّة النبيّ موسى عليه‌السلام وفرعون، ثمّ ذكرت الآيات 43 إلى 46 إنزال الكتاب عليه.

وأشارت الآيات 43 و44 و45 إلى الإخبار الغيبيّ الذي لا يمكن لأيّ إنسانٍ الاطّلاع عليه؛ إلا برحمةٍ من الله -تعالى-، ففيه آياتٌ وأخبارٌ لم يتلقّها أحدٌ من البشر سوى النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي اُتّهم بالسحر والكهانة؛ وهذه الأخبار هي تفاصيلُ من قصّة موسى وشعيب عليهما‌السلام وهي في الواقع غيبيّةٌ، لم يكنْ لأيّ أحدٍ علمٌ بتفاصيلها، لذا فهي ليست مستوحاةً من التوراة والإنجيل؛ كما يُدّعى.

وتطرّقت الآيات 49 إلى 55 إلى الحديث عن عناد المشركين وكيف إنّهم طلبوا من النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأتيَهم بمعجزةٍ، فهؤلاء لم يؤمنوا به؛ على الرغم من تأكيد التوراة على بعثته، وكذلك لم يكترثوا بالقرآن الكريم وآياته، ومن هذا المنطلق جاء الخطاب القرآنيّ للنبيّ في الآية 49 ليخبرهم قائلًا: (قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَٰبٍۢ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ). وهذه الآية تشير بصريح العبارة إلى منشأ الكتاب الذي جاء به النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، وهذا التصريح ينمّ بوضوحٍ عن أنّ القرآن الكريم والتوراة عبارةٌ عن كتابين مستقلّين منشأهما العلم الإلهيّ، لا أنّ القرآن هو التوراة ذاتها.

وتؤكّد الآية 51 على نزول آياته واحدةً تلو الأخرى؛ لعلّ القوم يتّعظون بها ويتذكّرون: (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ ٱلْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). ونستشفّ من مضمون هذه الآية أنّ (القول) أي النصّ القرآنيّ، هو مباشرةً من عند الله -تبارك وتعالى- وليس تعريبًا للتوراة كما زعم الحدّاد، فهي تؤكّد على إنزال الآيات مفصّلةً واحدةً تلو الأخرى؛ لبيان قضايا شتّى؛ مثل: الوعد، والوعيد، والمعارف، والأحكام، والقصص، وأخبار الأنبيّاء والأمم السالفة، والمواعظ، والعبر،

 

(240)

ومبادئ الحكمة، والهدف من وراء ذلك -طبعًا- هو تذكيرهم؛ لعلّهم يتفكّرون ويؤمنون بأنّ هذه الآيات حقّ، فيتّبعونها.

وتشير الآية اللاحقة - الآية 52 - إلى إيمان الذين أوتوا الكتاب السماويّ السابق بالقرآن الكريم: (ٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ ٱلْكِتَٰبَ مِن قَبْلِهِۦ هُم بِهِۦ يُؤْمِنُونَ)، لذا يمكن القول إنّ هذه الآية تؤكّد على المنشأ المشترك للكتاب، ولما يتلوه النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ والآية اللاحقة لها - الآية 53 - تكرّر التأكيد فيها على أنّ آياته حقٌّ: (وَإِذا يُتْلى‏ عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمينَ)؛ وفحوى هذا الكلام: أنّ أسلافهم اطّلعوا في كتابهم المقدّس على حقّانيّة هذا الكتاب - القرآن الكريم - وكذلك اطّلع عليه أعقابهم الذين عاصروا نزول الوحي على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وآمنوا به، وهو ما احتمله الزمخشري حين قال: «يحتمل أنْ يكون إيمانًا قريبَ العهد وبعيدَه، فأخبروا أنّ إيمانهم به متقادمٌ؛ لأنّ آباءهم القدماء قرأوا في الكتب الأوَل ذكره وأبناءهم من بعدهم (مِن قَبْلِهِ) من قبل وجوده ونزوله (مُسْلِمِينَ) كائنين على دين الإسلام؛ لأنّ الإسلام صفة كلّ موحّدٍ مصدِّقٍ للوحي»[1].

ويوحي سياق الآيات 43 إلى 56 بأنّ المشركين استشاروا بعض أهل الكتاب حول النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكروا لهم عددًا من الآيات القرآنيّة التي صدّقت التوراة، وأهل الكتاب بدورهم أقرّوا لهم بأنّهم يؤمنون بالمعارف الحقّة الموجودة في هذه الآيات، وأخبروهم بأنّهم كانوا على علمٍ بمن سيأتي بالقرآن قبل أن يُبعَث[2].

وتحكي الآية 43: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)؛ كما هو ظاهرٌ في نصّها، عن إنزال التوراة على النبيّ موسى عليه‌السلام والتي فيها بصائرُ وهدًى ورحمةٌ للناس؛ لعلّهم يتذكّرون ويتّعظون منها؛ بما جرى على الأمم السالفة التي أهلكها الله -عزّ وجلّ- جرّاء عصيانها وتمرّدها على أوامره. ولا شكّ في أنّ الله الذي أنزل التوراة على موسى عليه‌السلام، هو الذي أنزل القرآن على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، حيثّ أخبره فيه بما جرى من أحداث في ذلك العهد، فهو لم يكنْ موجودًا -آنذاك- ولم يكنْ حاضرًا عند نزول التوراة عليه، ولا عند ذهابه إلى الطور؛ لكي يخبر الناس بما شاهده وسمعه هناك؛

(241)

كذلك لم يكنْ حاضرًا حينما التقى موسى بشعيب، لكنّ الله -تبارك وتعالى- أطلعه على هذه الأمور الغيبيّة؛ بلطفٍ وكرامةٍ منه؛ لأجل أن يُنذِر القوم ويذكّرهم بالحقّ؛ فيتّبعوه.

وكما هو معلومٌ، فالناس في عصر النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكنْ لديهم نذيرٌ قبله، وكانوا عرضةً للعذاب الإلهيّ؛ جرّاء كفرهم، ولو لم ينزل إليهم (الكتاب) لكانت لهم الحجّة على الله -سبحانه وتعالى- بأن يبرّروا كفرهم؛ بعدم وجود رسولٍ يرشدهم إلى الحقّ، وهذا ما أشارت إليه الآية 47: (وَلَوْلَآ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌۢ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلَآ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًۭا فَنَتَّبِعَ ءَايَٰتِكَ وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ). لكنّ الآية 48 وضّحت حقيقة أمرهم لـمـّا بعث الله إليهم النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبلغهم آي الذكر الحكيم: (فَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلَآ أُوتِىَ مِثْلَ مَآ أُوتِىَ مُوسَىٰٓ ۚ أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِىَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ)، حيث سألوا لِمَ لَمْ يأتهم بمثل ما جاء به النبيّ موسى عليه‌السلام؟ أي إنّهم أرادوا منه معجزاتِ موسى وتوراتَه نفسَها، لذلك قالوا: لِمَ لَمْ يأتنا بمعجزاته نفسِها؟ ولِمَ لِمْ ينزل القرآن دفعةً واحدةً كما أنزلت التوراة؟ إلا أنّ هذا مجرّد ادّعاءٍ لا يُراد منه استكشاف الحقيقة، فهؤلاء هم أنفسُهم كفروا بمعجزات موسى؛ حينما أكّد لهم أهل الكتاب على حقّانية القرآن الكريم، حيث أعرضوا زاعمين أنّ التوراة والقرآن سحرٌ بعضه من بعض: (قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَٰهَرَا وَقَالُوٓاْ إِنَّا بِكُلٍّۢ كَٰفِرُونَ)[1].

وهناك سؤالٌ يُطرح على يوسف درّة الحدّاد حول تفسيره كلمة (الكتاب) في الآية الثانية من هذه السورة، وهو: لو كانت الآيات القرآنيّة، ولا سيّما آيات سورة القصص التي أشرنا إليها، هي آيات التوراة ذاتها، لِمَ لَمْ يؤمن بها إلا النزر اليسير من اليهود؟ فضلًا عن أنّ الآيات 61 إلى 64 من هذه السورة تطرّقت إلى المقارنة بين أحوال المؤمنين والمشركين في يوم القيامة، في حين لا يوجد أيّ كلامٍ في التوراة حول المعاد؛ باعتباره بعثًا وحسابًا في عالم الآخرة؛ باستثناء عددٍ من العبارات التي تضمّنت كلمة (آخرة)، لكنّ هذا الاصطلاح التوراتيّ يدلّ في الحقيقة على عاقبة الإنسان في الدنيا، لا في عالم الآخرة؛ كما يشير المصطلح القرآنيّ؛ وهو ما يدلّ بوضوحٍ على أنّ هذه الآيات ليست مستوحاةً من التوراة، ولا ارتباط لها بما ذكر في الكتاب المقدّس؛ كما زعم الحدّاد، وأمثاله.

ووجّهت الآيات 85 إلى 88 التي جاءت بعد ذكر جانبٍ من سيرة النبيّ موسى عليه‌السلام

(242)

ومقارعته فرعونَ وملأَه الخطاب مرّةً أخرى إلى النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، فبشّرته وأخبرته بعددٍ من الأوامر الإلهيّة مؤكّدةً على أنّ الله الذي أعاد موسى إلى أمّه حين كان طفلًا، له القدرة على أن يعيدك إلى مكّة: (إِنَّ ٱلَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍۢ ۚ قُل رَّبِّىٓ أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِٱلْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍۢ) (الآية 85)، وفي الآية اللاحقة (86) تمّ تذكيره بنعمة إنزال هذا الكتاب عليه بلفظ (إلقاء)؛ لتشير بشكلٍ تلميحيٍّ إلى منشئه السماويّ، وتردّ على اتّهام الكافرين والمشركين المشار إليه في الآية السابقة: (وَمَا كُنتَ تَرْجُوٓاْ أَن يُلْقَىٰٓ إِلَيْكَ ٱلْكِتَٰبُ إِلَّا رَحْمَةًۭ مِّن رَّبِّكَ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًۭا لِّلْكَٰفِرِينَ). واللافت للنظر في هذه الآية أنّ مستهلّها يتناغم مع الآيتين السابقة واللاحقة لها، فعبارة: (وَمَا كُنتَ تَرْجُوٓاْ أَن يُلْقَىٰٓ إِلَيْكَ ٱلْكِتَٰبُ إِلَّا رَحْمَةًۭ مِّن رَّبِّكَ) هي على غرار قوله -تعالى-: (إِنَّ ٱلَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْءَانَ) في الآية 85، وقوله -تعالى-: (وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ) في الآية 87؛ حيث تشير إلى المنشأ السماويّ للآيات التي جاء بها النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. كما هو ظاهرٌ من مضمون الآية 87 فهي تأمره بأنْ لا يُعرض عمّا أُنزل إليه، وهي متمّمةٌ لما ذُكر في الآية السابقة: (فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًۭا لِّلْكَٰفِرِينَ)، وسابقة لقوله -تعالى-: (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ)، إذ زعم الكافرون أنّ القرآن شعرٌ، أو كهانةٌ، أو من أساطير الأوّلين.

فإذا كانت هذه الآيات هي آياتُ التوراة والإنجيل ذاتُها، فلا بدّ حينئذٍ للقرآن الكريم من أن يصرّح منذ بادئ الأمر بأنّ الكتب المقدّسة السابقة تكفي الناس، وأنّه جاء -فقط- لتوضيح تلك القضايا التي لم تتطرّق إليها؛ كما فعل الكثير من الأنبيّاء، إلا أنّ الواقع على خلاف هذا المدّعى، فقد أكّد الله -تعالى- فيه على أنّه (كتابٌ) سماويٌّ جديدٌ في طور النزول بوحيٍ منه. ولا شكّ في أنّ الكتب السماويّة السابقة لم تكنْ آنذاك مؤهّلةً لتلبية متطلّبات الناس، فقد كانوا بحاجةٍ إلى كتابٍ جديدٍ يلبّي رغباتهم، لذلك أُنزل القرآن الكريم الذي أحيا عقيدتَيِ التوحيد والمعاد في يوم القيامة، بعد أنْ أصبحا في منأًى عن حقيقتيْهما في الكتب المقدّسة الأخرى، وغفل الناس عنهما؛ حيث جاء بهدف طرح إيديولوجيا دينيّةٍ صائبةٍ وشاملةٍ في هذا المضمار، وهو ما أشارت إليه الآية 48 من سورة آل عمران التي أكّدت على طابعه الشموليّ الذي يفوق الكتاب السماويّة السابقة.

إذًا، تنامي الفكر البشريّ والتحوّلات التي شهدتها المجتمعات، إلى جانب تغيير ظروف المخاطبين وأوضاعهم؛ كلّها أمورٌ اقتضت مجيء وحيٍ جديدٍ أكثرَ تطوّرًا ممّا مضى.

(243)
د- الآية الأولى من سورة يونس:

قال -تعالى-: (الٓر ۚ تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱلْكِتَٰبِ ٱلْحَكِيمِ)[1].

الآية الأولى من سورة يونس هي الأخرى من جملة الآيات التي تمسّك بها يوسف درّة الحدّاد لإثبات نظريّته التفسيريّة التي طرحها بخصوص مصطلح (الكتاب)، حيث اعتبره في هذه الآية دالًّا على التوراة والإنجيل؛ لكنّ ادّعاءه هذا عارٍ عن الصحّة؛ لعدم اتّساقه مع استدلالات مفسّري القرآن الكريم؛ على الرغم من تنوّع مذاهبهم ومشاربهم الفكريّة.

وتأتي هذه السورة؛ طبقًا لروايات ترتيب النزول، بعد سورة الإسراء المسبوقة بسورة القصص، وكما هو معلومٌ فإنّ هذه الأخيرة قد تحدّثت عن إسراء النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلًا وتلاه عروجه إلى السماء؛ وهذا الأمر يمكن أن يُعتبر بحدّ ذاته دالًّا إلى حدٍّ ما على مضمون اسم الإشارة (تلك) المذكور في الآية الأولى من سورة يونس وسائر السور التي تبدأ به، حيث يراد منه الإشارة إلى اللوح المحفوظ والكتاب المكنون والعلم الإلهيّ[2].

(244)

ويُحتمل أنّ كلمة (تلك) في هذه الآية يُراد منها إثبات نزول القرآن الكريم بوحيٍ من السماء، حيث تشير إلى اللوح المحفوظ؛ وعلى هذا الأساس تُفسّر الآية وفق ما يلي: تلك آيات الكتاب المكنون والمخزون عند الله -سبحانه وتعالى-[1]. وبناءً على هذا التفسير فقد اعتبرها أحد المفسّرين ردًّا على طلب المشركين المشار إليه في الآية 15 من السورة نفسها: (وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَٰتٍۢ ۙ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ٱئْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَٰذَآ أَوْ بَدِّلْهُ)، حيث جاءهم الجواب: (تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱلْكِتَٰبِ ٱلْحَكِيمِ)[2].

أضف إلى ذلك فالمشهور بين العلماء المسلمين هو أنّ هذه السورة تُعتبر من السور الأولى التي نزلت على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في بداية بعثته؛ حينما كان في مكّة، فقد واجه آنذاك تحدّياتٍ كبيرةً من قِبَل مخاطَبيه الذين أنكروا ما أُنزل عليه بوحي السماء؛ لذلك تتضمّن في مختلف آياتها شواهدَ للردّ على تكذيب المشركين قدسيّة القرآن الكريم، وإنكارهم نزوله عن طريق الوحي؛ وهذه الشواهد كثيرةٌ للغاية وكأنّ السورة نزلت مباشرةً بعد رفض المشركين واتّهامهم القرآن بالسحر.

إذًا، البنية الأساس لآيات سورة يونس هي الردّ على إنكار المشركين حقّانيّة القرآن الكريم، ورفضهم حقيقة نزوله بوحي من السماء.

وقد استهلّت السورة بكلام حول تكذيب المشركين ما أُنزِلَ على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله من آياتٍ قرآنيّةٍ، واختتمت بخطابٍ موجّهٍ إليه، نُصح فيه بأن يتّبع ما يوحى إليه، ويلتزم جانب الصبر: (وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيْكَ وَٱصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ ۚ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَٰكِمِينَ)[3].

وفي ما يلي نُثبت ما ذُكِرَ؛ استنادًا إلى بعض مداليل آيات هذه السورة:

ـ تطرّقت الآية الثانية بشكلٍ مباشرٍ إلى الحديث عن الاعتراض المعهود الذي عادةً ما يطرحه المشركون والكافرون؛ وهو تساؤلهم عن السبب في نزول الوحي على بشرٍ مثلهم، لا على أحد الملائكة، لذلك جاءهم الاستفهام الإنكاري من قِبَل الوحي: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍۢ مِّنْهُمْ)؛ وفي ختامها أشار الله -تعالى- على لسانهم إلى التهمة المعهودة

(245)

-أيضًا- التي عادةً ما يوجّهها هؤلاء إلى النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله: (قَالَ ٱلْكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٌۭ مُّبِينٌ).

ـ أشارت الآية 15 إلى طلب المشركين والكافرين من النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ يأتي بقرآنٍ آخرَ غيرِ الذي جاءهم به، ونقلت ردّه عليهم بأنّه لا يأتي بشيءٍ من عنده، بل إنّما يأتيهم بالوحي المنزل: (وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَٰتٍۢ ۙ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ٱئْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَٰذَآ أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِىٓ أَنْ أُبَدِّلَهُۥ مِن تِلْقَآئِ نَفْسِىٓ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَىَّ...).

ـ أكّدت الآية 16 على لسان النبيّ بأنّه حاملٌ لرسالة السماء، وكلُّ شيءٍ بيد الله -سبحانه وتعالى-: (قُل لَّوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوْتُهُۥ عَلَيْكُمْ وَلَآ أَدْرَىٰكُم بِهِۦ ۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًۭا مِّن قَبْلِهِۦٓ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ).

ـ عدّت الآية 17 المفترين على الله كذبًا والمنكرين آياته بأنّهم أكثر الناس ظلمًا وسوف لا يفلحون في ما يفعلون: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِـَٔايَٰتِهِۦٓ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُفْلِحُ ٱلْمُجْرِمُونَ).

ـ تطرّقت الآية 20 مرّةً أخرى إلى الحديث عن استهانة هؤلاء بالقرآن الكريم وتكذيبهم آياته: (وَيَقُولُونَ لَوْلَآ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌۭ مِّن رَّبِّهِۦ ۖ فَقُلْ إِنَّمَا ٱلْغَيْبُ لِلَّهِ فَٱنتَظِرُوٓاْ إِنِّى مَعَكُم مِّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ)، حيث طلبوا من النبيّ أن يأتيهم بمعجزةٍ أخرى، لكنّ الردّ الإلهيّ جاءهم مؤكِّدًا على أنّ المعاجز من الغيب، والغيب بيد الله -عزّ وجلّ- فقط. وفق هذه الآية، فقد أصرّ هؤلاء على تكذيبهم النبيّ وإنكارهم آيات القرآن الكريم، لذا سألوه بأنْ يأتيهم بآيةٍ - معجزةٍ - كي يثبت صدق رسالته، ومضمونها على غرار ما ذكر في الآية 15؛ وكأنّها معطوفةٌ عليها؛ لكونها تنقل كلامهم؛ وهذا المضمون تكرّر مرارًا في آياتٍ أخرى.

وقد تشبّث المشركون بذرائعَ عدّة لإنكار القرآن الكريم، لكنّهم لم يفلحوا، لذلك كانت ذريعتهم الجديدة هي أن يأتيهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بقرآنٍ آخرَ غيرِ الذي جاء به؛ ولو أمعنّا النظر في البنية اللغويّة للآية 20 نستشفّ منها أنّهم أرادوا من طلبهم هذا الاستهانة بالقرآن، لا معرفة الحقيقة؛ وذلك بقرينة حرف الفاء المرتبط بالفعل (قل) في قوله -تعالى-: (فَقُلْ

(246)

إِنَّمَا ٱلْغَيْبُ...)[1]، ونظير ذلك ما ذُكر في الآية 15، إذ عاندوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وطلبوا منه أن يأتيهم بكتابٍ سماويٍّ آخرَ، أو أنْ يُبدل ما جاءهم به بكتابٍ غيره.

كما أنّ كلمة (الغيب) في الآية 20 تفيد أنّ المعاجز تأتي من عالم الغيب.

ـ الآية 37 كأنّها تكرّر الموضوع ذاته الذي طُرِحَ في الآية الأولى، حيث فنّدت زعم من اعتبر القرآن ذا منشأٍ بشريٍّ؛ مؤكّدةً على منشئه السماويّ: (وَمَا كَانَ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَٰبِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ)، فهذا الكتاب لا يمكن أن يُفترى من قِبَل البشر؛ كي يزعم أنّه من عند غير الله؛ وعلى هذا الأساس تحدّاهم -تبارك شأنه- في الآية التالية (الآية 38) بأنّ يجمعوا كلّ من يشاؤون ويأتوا بسورةٍ واحدةٍ تشابه سوره: (أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَىٰهُ ۖ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍۢ مِّثْلِهِۦ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ)، وهذا تأكيدٌ آخرُ على كونه كتابًا سماويًّا.

ـ الآيتان 39 و41 كرّرتا التأكيد على المنشأ السماويّ للقرآن الكريم[2]، وفي الآية 65 واسى الله -تعالى- نبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ جرّاء حزنه من كلام المشركين السيّئ ونقدهم اللاذع له: (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ).

ـ أكّدت الآية 94 من جديدٍ على المنشأ السماويّ للآيات المنزلَةَ عليه، وطالبت المخاطب بأن يقطع الشكّ باليقين ويسأل الذين يتلون الكتب السماويّة السابقة: (فَإِن كُنتَ فِى شَكٍّۢ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَسْـَٔلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءُونَ ٱلْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكَ). وقد جاء التأكيد المشار إليه بعد هذا الطلب مباشرةً: (لَقَدْ جَآءَكَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ).

ـ الآيتان الأخيرتان من السورة - 108 و 109 - كأنّهما تكرّران الموضوع ذاته الذي أكّدت عليه الآيات السابقة؛ وهو التذكير بالمنشأ السماويّ للقرآن الكريم: (قُلْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍۢ 108 وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيْكَ وَٱصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ ۚ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَٰكِمِينَ 109).

فعبارة: (قَدْ جَآءَكُمُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ) في الآية 108 تدلّ على مضمونِ الآية الأولى من

(247)

السورة ذاتِه، حيث تؤكّد على المنشأ السماويّ للقرآن الكريم الذي جاء لهداية بني آدم، والآية 109 أمرت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يعمل بما يمليه عليه الوحي ويلتزم جانب الصبر إزاء ما يواجهه من المشركين؛ من كلامٍ سيّئٍ، واتّهاماتٍ واهيةٍ، وأذًى، وأفعالٍ باطلةٍ.

كما أنّ كلمة (آيات) في الآية الأولى؛ حتّى وإنْ كانت من الناحية اللغويّة تعني العلامات الظاهرة؛ بحيث يمكن إطلاقها على ما هو كائنٌ في عالم الخارج، لكنّ المقصود منها هنا حقيقةً هو كلام الله، لأنّ الوحي المنزل على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الموضوع المحوري في هذه الآية، ومن البديهي أنّ الوحي كيفما فسّرناه؛ فهو بالتالي من سنخ الكلام الذي يُقرأ ويُتلى على الألسن[1]؛ لذا يمكن تفسير (الكتاب) -هنا- بالكتاب المكنون عند الله -تبارك شأنه- وبكلّ كتابٍ يُنسخ طبقًا له، وهذا ما أشير إليه في العديد من الآيات؛ ومن جملتها: (الواقعة - 77 و78، البروج - 22، الزخرف - 4، الرعد - 39)[2].

إذًا، هذه الملاحظات تُعدّ تحدّيًا جادًّا لما ذهب إليه يوسف درّة الحدّاد لدى تفسيره كلمة (الكتاب) في الآية الأولى من سورة يونس.

هـ- الآية الثانية من سورة لقمان:

قال -تعالى-: (الٓمٓ 1 تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱلْكِتَٰبِ ٱلْحَكِيمِ 2)[3].

تفصل سورةَ لقمان سورتان عن الحجر؛ وهما الأنعام والصافّات (الخامسة والخمسون والسادسة والخمسون؛ بحسب روايات ترتيب النزول).

وهذه السُّوَر التي تتوسّط القرآن الكريم بحسب ترتيب النزول، تؤكّد على استحالة نفوذ الشياطين في الوحي المقدّس أو اطّلاعهم على أخبار السماء، وإنّما الملائكة هي التي أكرمها الله -تعالى- بهذه القدرة، وهي المكلّفة بإخبار النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بها[4]. مثال ذلك: الآية 92 من

(248)

سورة الأنعام[1] التي اعتبرت نزول الوحي على من اختارهم الله بأنّه من مستلزمات ألوهيته تبارك شأنه، وهو يعمّ التوراة والقرآن؛ لذا نستدلّ من هذه الآية على كون القرآن منزلًا من جانبه -تعالى- وليس من تأليف النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ...). من المؤكّد أنّه لو كان من تأليف النبيّ أو مجرّدَ إرهاصاتٍ باطنيةٍ اكتنفته فصاغها على هيئة كلامٍ أو كان من إلقاءات الشيطان عليه، لـما استطاع أن يؤثّر على الناس بهذا الشكل.

سورة الصافّات التي نزلت قبل لقمان كما أشرنا، تبدأ بذكر ثلاثة أصنافٍ من الملائكة، هي الصافّات والزاجرات والتاليات[2]، حيث كلّفت بإنزال الوحي وحفظه من إلقاءات الشياطين؛ ومن ثمّ توصله إلى الأنبيّاء محصّنًا من كلّ تأثيرٍ شيطانيٍّ.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(249)

فسّر العلامة محمّد حسين الطباطبائي الآية الثالثة من هذه السورة (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) بأنّها تدلّ على الوحي المنزل على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، وذلك بقرينة كلمة (ذكر) التي تعني تلاوة الوحي من قِبَل الملائكة؛ أي تلاوتهم القرآن الكريم. هذا الرأي يؤيّده مضمون الآية 7 التي أكّدت على حصانته من إلقاءات الشياطين الذين ذكرت الآيات التالية لها بأنّهم يُقذفون بشهبٍ من كلّ ناحيةٍ؛ لأنّ الملك جبرائيل ومَن معه من الملائكة هم المكلّفون بإنزال الوحي على قلب النبيّ: (وَحِفْظًۭا مِّن كُلِّ شَيْطَٰنٍۢ مَّارِدٍۢ 7 لَّا يَسَّمَّعُونَ إِلَى ٱلْمَلَإِ ٱلْأَعْلَىٰ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍۢ 8 دُحُورًۭا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌۭ وَاصِبٌ 9 إِلَّا مَنْ خَطِفَ ٱلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُۥ شِهَابٌۭ ثَاقِبٌۭ 10)[1]. وصف الشياطين بكونها عاجزةً عن معرفة الأخبار الغيبيّة وعن الاستماع إلى ما يجري في السماء، هو كنايةٌ عن استحالة وصولهم إلى ذلك المكان؛ بقرينة إمطارهم بالشّهب من كلّ حدبٍ وصوبٍ.

إذن، لا يمكن لأيٍّ من الجنّ والشياطين الاطّلاع على الأخبار الغيبيّة المتداولة بين ملائكة سماء الحياة الدنيا، إلا إذا حدث استثناءٌ لما هو متعارفٌ: (إِلَّا مَنْ خَطِفَ ٱلْخَطْفَةَ)، لكنّه مع ذلك لا ينجو، حيث يُحرق بشهابٍ لا يخطئ هدفه: (فَأَتْبَعَهُۥ شِهَابٌۭ ثَاقِبٌۭ).

ونستشفّ من هذه الآيات أنّ الشياطين في سعيٍ دؤوبٍ لأنْ يَلِجُوا في عالم الملائكة؛ كي يطّلعوا على أسرار الخِلْقَة وما سيحدث مستقبلًا، لكنّ الملائكة تمنعهم من ذلك؛ فرميهم بالشهب في هذه الآيات دليلٌ على صيانة الوحي من نفوذهم؛ لذا لا يمكن زعم أنّ ما يُتلى من قِبَل النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله هو من إلقاءات الشياطين[2].

ونعود مرّةً أخرى إلى مستهلّ سورة لقمان: (الٓمٓ 1 تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱلْكِتَٰبِ ٱلْحَكِيمِ 2)، حيث نلمس من هاتين الآيتين أنّها أنزلت لدحض مساعي المشركين الذين كانوا يمنعون الناس من الاستماع إلى الآيات المنزلة على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، ويسعون إلى حرمانهم من انتهاج مسلك الحقّ، عبر أكاذيبَ ومزاعمَ باطلةٍ.

(250)

والأوصاف التي ذُكِرَت للكتاب في هذه الآية والآية اللاحقة لها تتعارض بالكامل مع الكلام العبثي الذي لا طائل منه، وهذا ما أثبتته الآية 6: (وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍۢ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمْ عَذَابٌۭ مُّهِينٌۭ)، والمراد من (لهو الحديث) هو كلّ كلامٍ من صياغة البشر وعلى خلاف الحقّ والصواب، والمقصود من (شراء لهو الحديث) هو ذكر كلامٍ يوهم الناس بأنّ القرآن الكريم على غرار الأساطير الشائعة بينهم وبين أسلافهم؛ وهؤلاء يستكبرون في الحقيقة عن الاستماع إلى الآيات المنزلة بوحي السماء؛ بحسب مضمون الآية 7: (وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ءَايَٰتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًۭا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِىٓ أُذُنَيْهِ وَقْرًۭا). لذلك أكّدت الآية الثانية من هذه السورة على المنشأ السماويّ للقرآن الكريم؛ أي اللوح المحفوظ، ووصفته بالحكيم؛ كي تنزّهه من كلّ باطلٍ وخرافةٍ.

 و- الآية الثانية من سورة الأحقاف:

قال -تعالى-: (حمٓ 1 تَنزِيلُ ٱلْكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ 2 مَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلَّا بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍۢ مُّسَمًّۭى ۚ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ3)[1].

سورة الأحقاف هي السادسة والستّون؛ بحسب ترتيب النزول، وقد استدلّ بها يوسف درّة الحدّاد لإثبات نظريّته التفسيريّة، حيث اُستهلّت بقوله -تعالى-: (حمٓ 1 تَنزِيلُ ٱلْكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ 2)، وبهذه الألفاظ تمامًا اُستهلّت -أيضًا- سورتان من الحواميم؛ هما الزمر والجاثية، فالأولى هي الستّون، والثانية هي الخامسة والستّون؛ وفقًا لترتيب النزول.

ومن المحتمل أنّ الإشارة إلى تنزيل الكتاب بعد ذِكْر حروفٍ مقطّعةٍ يحكي عن ضرورة وجود قدرةٍ عظيمةٍ لا تُقهر، وحكمةٍ بالغةٍ لا حدّ لها؛ لأجل إنزال كتابٍ مقدّسٍ؛ مثل القرآن الكريم.

وقد تكرّرت عبارة (تَنزِيلُ ٱلْكِتَٰبِ) في مستهلّ خمس سورٍ، وفي كلّ مرّةٍ رافقتها قرينةٌ لفظيّةٌ تدلّ على المنشأ السماويّ للقرآن الكريم، وذلك وفق التالي:

- (حمٓ 1 تَنزِيلُ ٱلْكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ 2) (سورة الزمر، الآية 1 / التاسعة والخمسون بحسب ترتيب النزول).

(251)

ـ (حمٓ 1 تَنزِيلُ ٱلْكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ 2) (سورة غافر، الآيتان 1 - 2).

ـ (حمٓ 1 تَنزِيلُ ٱلْكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ 2 ) (سورة الأحقاف، الآيتان 1 - 2).

ـ (الٓمٓ 1 تَنزِيلُ ٱلْكِتَٰبِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ 2) (سورة السجدة، الآيتان 1 - 2 / الخامسة والسبعون بحسب ترتيب النزول).

ـ (حمٓ 1 تَنزِيلُ ٱلْكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ 2). (سورة الجاثية، الآيتان 1 - 2).

جدير بالذكر أنّ سورة الأحقاف أُنزلت إنذارًا للمشركين الذين لم يؤمنوا بالله ورسوله والمعاد في يوم القيامة، لذلك استُخدمت فيها عبارة (تَنزِيلُ ٱلْكِتَٰبِ)؛ لبيان المنشأ السماويّ للقرآن الكريم، وهذه العبارة تدلّ بوضوحٍ على أنّه أُنزل من العالم العلوي؛ وممّا ذكره ابن فارس في توضيح كلمة (نزل) في معجمه ما يلي: «(نَزَلَ) النُّونُ وَالزَّاءُ وَاللَّامُ كَلِمَةٌ صَحِيحَةٌ تَدُلُّ عَلَى هُبُوطِ شَيْءٍ وَوُقُوعِهِ»[1]، لذا فالنزول يدلّ على هبوط الشيء من مكانٍ مرتفعٍ إلى مكانٍ دانٍ[2]. وهذا المعنى هو الشائع في العرف أيضًا، إذ تستخدم هذه الكلمة للدلالة على صدور الكلام ممّن هو أعلى رتبةً.

إذًا، المعنى المقصود من كلمة (تنزيل) في قوله -تعالى-: (تَنزِيلُ ٱلْكِتَٰبِ) هو نزول القرآن الكريم من قِبَل الله -تعالى-، ومن ثمّ فهو ليس من إلقاءات الجنّ أو الكهنة على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ كما أنّه ليس مبتدَعًا من عنده، وكلمة (العزيز) تستبطن تأكيدًا على هذا المعنى، أي أنّ الله بعث نبيًّا بعزّته وقدرته، ولولا اقتداره لـما استطاع أن ينزل قرآنًا كهذا. وبعد ذلك ذكرت الآية صفةً أخرى من صفاته تبارك شأنه؛ وهي (الحكيم)، إذ اقتضت حكمته إنزال كتبٍ سماويةٍ لبني آدم لإصلاح دينهم ودنياهم وإرشادهم إلى سبيل الهدى الذي فيه صلاحهم وكمالهم.

وفي هذا السّياق تجدر الإشارة إلى الآية الرابعة من هذه السورة، ولا سيّما قوله -تعالى-: (...ٱئْتُونِى بِكِتَٰبٍۢ مِّن قَبْلِ هَٰذَآ أَوْ أَثَٰرَةٍۢ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ)، فحرف الإشارة (هذا) يشير إلى القرآن الكريم، والمراد من الطلب فيها: (ٱئْتُونِى بِكِتَٰبٍۢ مِّن قَبْلِ هَٰذَآ) هو الإتيان بكتابٍ سماويٍّ منزلٍ من قِبَل الله -عزّ وجلّ-؛ مثل التوراة، وإثبات أنّه يتضمّن أخبارًا تفيد بوجود

(252)

آلهةٍ شركاءَ له في خلق السماوات والأرض، لذا يمكن تفسيرها وفق ما يلي: لو كنتم صادقين في مزاعمكم، فائتوني بدليلٍ من الكتب السماويّة التي أُنزلت قَبل القرآن تثبتون لي على أساسها أنّ آلهتكم شريكةٌ لله -تعالى- في خلق جزءٍ من السماء أو جزءٍ من الأرض، وإذا عجزتم عن ذلك فائتوني - على أقلّ تقديرٍ - بدليلٍ علميٍّ منقولٍ أو موروثٍ من أسلافكم؛ لتثبتوا هذه المزاعم[1].

إذا افترضنا أنّ الحدّاد أدرك الصواب في تفسيره كلمة الكتاب في الآية الثانية بأنّه التوراة والإنجيل، فليس من المعقول -هنا- الاحتجاج على المشركين بأنْ يراجعوا الكتب السماويّة السابقة، ويأتوا ببراهينَ منها تثبت معتقداتِهم المشوبةَ بالشرك؛ إضافة إلى أنّ هذه الآية تؤكّد بوضوحٍ على مسألة التصديق؛ أي أنّ كلَّ كتابٍ سماويٍّ مصدِّقٌ للأصول العقديّة المذكورة في الكتب السماويّة الأخرى.

وتلمّح الآية اللاحقة إلى اختلاف القرآن الكريم عن الكتاب المقدّس، ومن ثمّ فهي تثبت بطلان ادّعاء من يعتبره ترجمةً عربيّةً له: (قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِۦ وَشَهِدَ شَاهِدٌۭ مِّنۢ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِۦ فَـَٔامَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُمْ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ)[2]. والمعهود عن الحدّاد أنّه غالبًا ما يفسّر حروف العطف في الآيات القرآنيّة مؤشّراتٍ على البون والاختلاف؛ كما فعل في الآيات الأولى من سورتَيِ الحِجر والنمل، لكنّه -هنا- لم يكترث بعبارة "مِنْ قَبْلِه"، وتجاهل حرف العطف (الواو) الواقع بين كلمتي (الكتاب)[3].

والضمائر الموجودة في هذه الآية ضمن الكلمات (كان) و(به) و(مثله) ترجع إلى القرآن بقرينة سياق الكلام، وقوله -تعالى-: (وَشَهِدَ شَاهِدٌۭ مِّنۢ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ) معطوفٌ على الجملة الشرطيّة (إِن كَانَ)؛ وبالتالي؛ فإنّ جملة الجزاء -هنا- مشتركةٌ بين جملة الشرط والجملة المعطوفة عليها.

والمراد من قوله -تعالى-: (مِثْلِهِ) كتاب يشابه القرآن الكريم؛ من حيث المضمون، والمعارف، وهذا الكتاب هو التوراة غير المحرّفة التي نزلت على النبيّ موسى عليه‌السلام.

والمقصود من قوله -تعالى-: (فَـَٔامَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُمْ) أنّ الشاهد -من بني إسرائيل- آمن بعد أن شهد، لكنّكم لم تؤمنوا.

(253)

إذًا، يمكن تفسير الآية وفق يلي: قل للمشركين إنّ القرآن لو كان منزلًا بالفعل من قِبَل الله، لكنّكم عاندتم واستكبرتم؛ على الرغم من أنّ شاهدًا من بني إسرائيل قد شهد بأنّه مثل ذلك الكتاب السماويّ، ثمّ آمن به، ألستم ظالمين؟! واعلموا أنّ الله لا يهدي القوم الظالمين[1].

وتحدّثت الآية 11 عن الكفّار الذين اتّهموا القرآن الكريم بأنّه: (إِفْكٌۭ قَدِيمٌۭ)، ولم يؤمنوا به: (وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْرًۭا مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ ۚ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِۦ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَآ إِفْكٌۭ قَدِيمٌۭ​). والضمير في كلمة (به) يرجع إلى القرآن الكريم، وحرف الإشارة (هذا) يشير إليه.

وهذه الآية والآية اللاحقة لها تتحدّثان عن إنكار القرآن من قِبَل هؤلاء وتكذيب آياته، لكنّه ليس إفكًا كما يزعمون، بل هو مصدِّقٌ للتوراة بلسانٍ عربيٍّ[2].

إذًا، هذه الآيات تثبت مضمون الآية الثانية من السورة التي أكّدت على أنّ القرآن الكريم ذو منشأٍ سماويٍّ.

كما أنّ الآيتين 29 و30 تحكيان عن استماع طائفةٍ من الجنّ لآياتٍ من القرآن الكريم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله[3]، وإيمانهم برسالته، حيث أخبروا قومهم لمّا رجعوا إليهم بأنّهم استمعوا إلى كتابٍ نزل بعد عهد النبيّ موسى عليه‌السلام ووصفوه بكونه: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ)؛ أي للكتب السماويّة المُنزلَةَ قبله. ونستشفّ من هذه العبارة أنّ القرآن لا يختلف عن سائر الكتب السماويّة؛ من حيث دعوته إلى الإيمان بنبوّة من جاء به، وبالمعاد، وتزكية السيرة والسلوك.

وقوله -تعالى-: (يَهْدِي إِلَى الْحَقّ) يدلّ بصريح العبارة على أنّ كلّ ما في هذا القرآن هو حقٌّ يدركه كلّ عاقلٍ بيسرٍ ووضوحٍ، ولا فرق في كون مضامينه مشابهةً لما ذُكِرَ في الكتب السماويّة السابقة، أو أنّها جديدةٌ من نوعها[4].

(254)

 واستنادًا إلى ما ذُكر تبطل مزاعم الحدّاد؛ لتعارضها بالكامل مع المداليل الواضحة للآيات التي ذكرناها، فالقرآن الكريم ليس تأويلًا للتوراة والإنجيل؛ فضلًا عن وجود الكثير من القرائن التي يثبت لنا على أساسها أنّ كلمة (الكتاب) في الآية الثانية تدلّ بوضوحٍ على أنّ القرآن الكريم نزل من اللوح المحفوظ في السماء.

ز- الآية الثانية من سورة الجاثية:

قال -تعالى-: (حمٓ 1 تَنزِيلُ ٱلْكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ 2 إِنَّ فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ لَءَايَٰتٍۢ لِّلْمُؤْمِنِينَ3)[1].

سورة الجاثية هي الخامسة والستّون؛ من حيث ترتيب النزول، وقد استند يوسف درّة الحدّاد إلى مضمونها لإثبات وجهة نظره التفسيريّة المثيرة للاستغراب، حيث فسّر كلمة (الكتاب) في الآية الثانية من هذه السورة بالتوراة والإنجيل - الكتاب المقدّس-؛ من منطلق مرتكزاته العقديّة المسيحيّة، أو ربّما تأثّر في هذا المجال ببعض الروايات المنقولة عن بعض التابعين؛ من أمثال: مجاهد، وقتادة.

وحينما نمعن النظر في مضمون هذه السورة بشكلٍ عامٍّ وفي الآيات اللاحقة للآية الثانية بشكل خاصّ، نلمس بوضوحٍ بطلان رأي الحدّاد، فالله -تعالى- استخدم كلمة (تَنزِيلُ) للإخبار عن نزول (ٱلْكِتَٰبِ) الذي نسبه إلى ذاته المقدّسة؛ وذلك للتأكيد على عظمة هذه الذات وجلالة شأنها، وقوله -تعالى-: (مِنَ ٱللَّهِ) فيه تأكيدٌ على أنّ هذا التنزيل نعمةٌ منه تبارك شأنه.

مُضافًا إلى أنّه لم تردْ أيّ إشارةٍ إلى التوراة والإنجيل قبل هذه الآية أو بعدها.

والهدف من هذه السورة هو دعوة جميع الناس إلى اعتناق دين التوحيد وإنذارهم من عذاب أليم، لذلك استهلّت بالإشارة إلى آيات الله التكوينية، ومسألة توحيده، ثمّ انتقل الحديث فيها إلى الشريعة التي كُلّف النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بتعليمها للناس، فهو وجميع الناس مكلّفون بالعمل وفق أحكامها؛ لذلك جاء التحذير الإلهيّ لكلّ من يُعرِض عنها بأنّ الجزاء هو العذاب الأليمٌ.

واللافت للنظر أنّ الآية 6 من هذه السورة أشارت إلى تلاوة آيات الله على النبيّ: (تِلْكَ ءَايَٰتُ

(255)

ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ ۖ فَبِأَىِّ حَدِيثٍۭ بَعْدَ ٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِۦ يُؤْمِنُونَ)، إذ نستشفّ منها أنّ آيات القرآن الكريم ذاتُ منشأٍ سماويٍّ، ومن المؤكّد أنّ التوراة والإنجيل ليسا هما المقصودين هنا.

وفي ختام هذا المبحث نودّ التذكير بوجود سُوَرٍ أخرى أشارت في مستهلّها إلى كلمة (الكتاب) فقط؛ مثل: سُوَر إبراهيم، والكهف، والدخان، إلا أنّ يوسف درّة الحدّاد لم يشِرْ إليها ولم يستدلّ بها؛ بوصفها شواهدَ على نظريّته التفسيريّة.

2) الآيات الأولى التي تتضمّن كلمتَيْ «كتاب»"«وقرآن»:

طرح يوسف درّة الحدّاد التفسير ذاته لمصطلح (كتاب) في القرآن الكريم ضمن تفسيره لمستهلّ سورتَيِ النمل والحجر، وممّا قاله في هذا الصدد: «المراد القرآنيّ من هذه الآيات هو آيات الكتاب المقدّس، إذ تمّ التمييز بين الكتاب والقرآن في مستهلّ سورتي [النمل والحجر]»[1].

وفي ما يلي نتطرّق إلى بيان مدلول الآيتين المذكورتين على ضوء ما ذكره الحدّاد من تفاصيل حول الموضوع:

أ - الآية الأولى من سورة الحجر:

قال -تعالى-: (الٓر ۚ تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱلْكِتَٰبِ وَقُرْءَانٍۢ مُّبِينٍۢ)[2].

سورة الحجر هي الرابعة والخمسون؛ أي أنّها تأتي بعد سورة يوسف؛ من حيث ترتيب النزول.

اسم الإشارة (تلك) في هذه الآية يشير إلى ذات الأمر الذي ذكرناه في الآيات الأولى من السور التي سلّطنا الضوء عليها آنفًا،؛ أي أنّه يشير إلى البعيد؛ وكلمة (الكتاب) يُراد منها اللوح المحفوظ، لذا تُدرج هذه الآية ضمن الآيات التي تُوصف بأنّها ذاتُ مضمونٍ بيانيٍّ[3]، ولعلّ القصد من وراء هذه الإشارة هو الإيحاء بأنّ على الإنسان الواعي أنْ يتأمّل ويتدبّر في هذه الآيات ليكتشف أصالة الحقّ فيها، ويدرك خطأ هؤلاء الكفّار الذين اتّهموا مفاهيمها بالأساطير،

(256)

وألصقوا بالنبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله تهمة الجنون[1]؛ لذا يمكن اعتبار هذه الآية مرآةً للردّ الإلهيّ على هذه المواقف، والآيات اللاحقة تؤيّد ذلك، فالآية الثانية أشارت إلى رغبتهم التي لم تتحقّق: (رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ 2 ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ 3)[2]. وكما نلاحظ في الآية الثالثة، فقد توعّدهم الله -تعالى- بالعذاب جرّاء كفرهم بنبيّ زمانهم؛ إذ بعد أنْ يروا عذاب جهنّم سوف يتمنّون لو أنّهم آمنوا في الحياة الدنيا ولم يكذّبوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، وكأنّ هذه الآية مقدّمةٌ للآية رقم 6 التي أشارت إلى اتّهامهم إيّاه بالجنون، وللآية رقم 7 التي أشارت إلى طلبهم منه بأنْ يأتيهم الملائكة إنْ كان صادقًا في نبوّته؛ أي أنّهم أنكروا نزول القرآن عن طريق الوحي الذي أبلغ به عن طريق الملائكة.

وبيان ذلك وفق ما يلي: (وَقَالُواْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌۭ)، قولهم: (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌۭ) يدلّ على تهمةٍ صريحةٍ للنبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وتكذيب برسالته[3]، وهذه التهمّة في الحقيقة متداولةٌ على ألسن الكفّار طوال مرّ العصور[4]. وقد تمادى هؤلاء في موقفهم المناهض لرسالة السماء لدرجة أنّهم طلبوا منه أنْ يأتيهم بالملائكة؛ كما أشارت الآية السابعة: (لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِٱلْمَلَٰٓئِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ)، لكنّ الله -تعالى- ذكّرهم في الآية التاسعة بأنّ وحي السماء محفوظٌ من أن يطاله الجنّ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ). وهذا الأمر أكّد عليه بصريح العبارة ضمن الآيات 16 إلى 18، فكلّ شيطانٍ يريد التنصّت على أخبار السماء، يأتيه شهابٌ مبينٌ: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى ٱلسَّمَآءِ بُرُوجًۭا وَزَيَّنَّٰهَا لِلنَّٰظِرِينَ 16 وَحَفِظْنَٰهَا مِن كُلِّ شَيْطَٰنٍۢ رَّجِيمٍ 17 إِلَّا مَنِ ٱسْتَرَقَ ٱلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُۥ شِهَابٌۭ مُّبِينٌۭ 18). هذه الآيات تدلّ بوضوحٍ على أنّ السورة تتحدّث في أوّل آيةٍ عن القرآن الذي هو كتابٌ سماويٍّ ولوحٍ محفوظٍ، وهو ما تمّ التأكيد عليه بصريح العبارة في الآية 87؛ حيث قال -تعالى- - مخاطبًا النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله - إنّنا أنزلنا عليك سورة الحمد والقرآن العظيم: (وَلَقَدْ ءَاتَيْنَٰكَ سَبْعًۭا مِّنَ ٱلْمَثَانِى وَٱلْقُرْءَانَ ٱلْعَظِيمَ).

(257)

إذًا، لا يبقى أيّ مجالٍ لزعم أنّ كلمة (الكتاب) في الآية الأولى من هذه السورة تحكي عن التوراة والإنجيل، وما قاله الحدّاد هو في الواقع منبثقٌ من تعصّبه العقديّ؛ وجميع المفسّرين المسلمين مع اختلاف مذاهبهم وتوجّهاتهم التفسيريّة، لم يشيروا إلى ما استنتجه بهذا الخصوص؛ لذا لا صوابيّة لتفسير اسم الإشارة (تلك) في هذه الآية بما تتضمّنه آيات التوراة والإنجيل؛ من حكمٍ، وعبرٍ، ووعدٍ ووعيدٍ، إذ لا نجد أيّ إشارةٍ في هذه الآية والآيات اللاحقة لها إلى هذين الكتابين[1]؛ إلا أنّ مجاهد فسّر (الكتاب) بالتوراة والإنجيل، بينما فسّـره قتادة بالكتب التي أنزلت قبل القرآن، وعلى هذا الأساس يمكن تفسير (تلك) بالإشارة إلى آيات الكتاب السالفة السابقة للقرآن[2].

والحقيقة أنّ هذه الآية والآيات اللاحقة لها لا تتضمّن أيّ إشارةٍ إلى الكتب السماويّة السابقة؛ كما ذكرنا، لذا ليس من الصوابيّة ادّعاء ذلك، فضلًا عن أنّ تفسير مجاهد وقتادة (الكتاب) بأنّه يدلّ على التوراة والإنجيل يختلف بالكامل عن فحوى الرأي الذي طرحه يوسف درّة الحدّاد، فهما لم يقصدا بتاتًا أنّ القرآن عبارةٌ عن ترجمةٍ عربيّةٍ للتوراة والإنجيل، بل قصدا وجود تعالقٍ نصّيٍّ يربطه بهما، وهو ما سنتطرّق إلى بيان تفاصيله ضمن تحليل مضمون الآية 37 من سورة يونس، وخلاصة الكلام: أنّ اللوح المحفوظ هو مقصودهما من (الكتاب)، وهذا الاستنتاج مدعومٌ بظاهر عددٍ من الآيات في سائر السور[3].

وبناءً على ما ذُكِرَ يمكن اعتبار قوله -تعالى-: (تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱلْكِتَٰبِ وَقُرْءَانٍۢ مُّبِينٍۢ) بمثابة خلاصة للآيات الثانية حتّى الرابعة من سورة الزخرف: (...وَٱلْكِتَٰبِ ٱلْمُبِينِ 2 إِنَّا جَعَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّۭا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 3 وَإِنَّهُۥ فِىٓ أُمِّ ٱلْكِتَٰبِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ 4)[4].

واستدلّ البعض من كلمة "مُبين" في هذه الآية على عدم صوابيّة تفسير الكتاب باللوح المحفوظ[5]، إلا أنّ هذا الاستدلال مرفوضٌ؛ لكون هذه الكلمة تستبطن معانٍ عدّة، ومفهومها

(258)

الظاهر هو البيان والوضوح، ويؤيّد ذلك مضمون الآية 59 من سورة الأنعام التي وصفت العلم الإلهيّ بهذه الصفة.

ويرى بعض المفسّرين؛ من أمثال: ابن عاشور، الكتاب دالًّا على القرآن؛ من منطلق العلم بالغلبة؛ أي أنّ لفظ القرآن أصبح متعارفًا وشائعًا لدى المسلمين؛ بحيث إنّهم أينما شاهدوا كلمة (كتاب) في النصّ القرآنيّ، عادةً ما يتبادر إلى ذهنهم القرآن الكريم الذي أنزله الله -تعالى- على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لهداية البشر[1]. لكنْ يرد على هذا الرأي ما يلي: هل هذا التغليب كان شائعًا بين المسلمين إبان نزول الآية الأولى من سورة الحجر أو لا؟

واعتبر يوسف درّة الحدّاد عطف كلمة (قرآن) على كلمة (كتاب) في هذه الآية إشارةً إلى التوراة والإنجيل، لكنّ العطف -هنا- ولا يُعدّ علامةً على وجود اختلافٍ بينهما، وحتّى إنْ افترضنا أنّه يفيد ذلك فهذا الاختلاف في الحقيقة ليس من حيث الذات، ولا يستبعد أنْ يكون عطفَ تفسيرٍ؛ بمعنى أنّ الكتاب هو القرآن المبين؛ فضلًا عن أنّنا حتّى لو اعتبرناه عطفًا يفيد الاختلاف بين المعطوف والمعطوف عليه، فهنا -أيضًا- لا يوجد دليلٌ على كون المراد من (الكتاب) في هذه الآية هو التوراة والإنجيل، إذ لا نجد لهما ذِكرًا في الآيات اللاحقة؛ كي تدّعى الإشارة إليهما باسم الإشارة (تلك)[2].

ب- الآية الأولى من سورة النمل:

قال -تعالى-: (طسٓ ۚ تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱلْقُرْءَانِ وَكِتَابٍۢ مُّبِينٍ 1 هُدًۭى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ 2)[3].

سورة النمل هي التاسعة والأربعون؛ بحسب ترتيب النزول، حيث تلي سورة الشعراء، ومستهلّها على غرار مستهلّ هذه السورة.

ادّعى يوسف درّة الحدّاد أنّ الآيات القرآنيّة هي آيات التوراة والإنجيل ذاتها كما ذكرنا، وعلى هذا الأساس فالقرآن مجرّدُ ترجمةٍ عربيّةٍ لهما، ومن ثمّ فسّر كلمة (كتاب) في الآية الأولى من سورة النمل بالتوراة والإنجيل؛ ولكنْ هل يقوم رأيه على أدلّةٍ تثبت صوابيّته؟

(259)

ولعلّ الهدف من هذه الآية هو إثبات المنشأ السماويّ للقرآن الكريم؛ كما هو الحال في الآيات التي تحدّثنا عنها سابقًا، ويؤيّد ذلك مضمون الآية 6: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلْقُرْءَانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) التي نقل فحواها في الآية 92 على لسان النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَأَنْ أَتْلُوَاْ ٱلْقُرْءَانَ ۖ فَمَنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلْمُنذِرِينَ).

والآية 68 تكرّر فيها الأمر نفسه؛ من ذِكْر إنكار المشركين قدسيّة القرآن الكريم بزعم أنّه من أساطير الأوّلين: (لَقَدْ وُعِدْنَا هَٰذَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلْأَوَّلِينَ)، والله -تعالى- طمأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إزاء هذا الإنكار في الآية 70 وواساه قائلًا: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِى ضَيْقٍۢ مِّمَّا يَمْكُرُونَ). وبعد ذلك وفي الآية 76 بالتحديد أكّد -تعالى- على أنّ القرآن فيه بيان لما اختلف حوله بنو إسرائيل: (إِنَّ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ أَكْثَرَ ٱلَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)، وهذه الميزة الفريدة تدلّ بوضوحٍ على منشئه السماويّ، وإلا فليس من الممكن وضع حلٍّ لهذا الاختلاف والتمييز بين الحقّ والباطل بواسطة النبيّ وحده، ولا في رحاب تلك البيئة الجاهليّة التي عاصرها.

والآيتان 78 و79 واسى فيهما اللهُ -تعالى- نبيّه مرّةً أخرى: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم بِحُكْمِهِۦ ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ 78 فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ۖ إِنَّكَ عَلَى ٱلْحَقِّ ٱلْمُبِينِ 79) وهذا المضمون هو في الواقع تأكيدٌ على ما ذُكِرَ في الآية 70؛ كي يطمئنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتوكّل على الله.

ويمكن اعتبار كلمة (القرآن) في الآية الأولى بيانًا للمنشأ الغيبيّ لذلك الكتاب السماويّ المكنون في علم الله -سبحانه وتعالى-، حيث يتمّ بيانه عن طريق التلاوة، لا بواسطة إرسال ألواحٍ أو كتابٍ مدوَّنٍ؛ ومن المحتمل أنّها تفيد التأكيد برأي بعض المفسّرين[1]؛ وهذا الأمر قد أثبتناه في تحليلنا مضمون الآية الأولى من سورة الحجر: (الٓر ۚ تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱلْكِتَٰبِ وَقُرْءَانٍۢ مُّبِينٍۢ)، حيث عطفت كلمة (قرآن) على كلمة (الكتاب)، والمراد منهما واحدٌ. كما أنّ إضافة

(260)

الشيء إلى نفسه تعتبر أمرًا شائعًا بين أهل اللغة؛ مثل: عبارة (مسجد الجامع)، و(يوم الجمعة) و(صلاة الظهر)[1].

وخلاصة الكلام: أنّ الآية الأولى من سورة النمل هي على غرار مستهلّ سورة الحجر وسائر السور التي تطرّقنا إلى الحديث عنها، حيث يُراد منها إثبات المنشأ السماويّ للقرآن الكريم؛ وقد ابتدأت بحروفٍ مقطّعةٍ -أيضًا- لاستقطاب نظر المستمع والقارئ؛ وهذا النظم المتناسق يُراد منه إشعار المخاطب بأنّ ما سيأتيه في الآيات اللاحقة منبثقٌ من مكنون العلم الإلهيّ، وليس من إلقاء الشياطين، ولا من أساطير الأوّلين؛ وأمّا السبب في استخدام صيغتَيِ التنكير والتعريف بـ ( الـ ) لكلٍّ من الكتاب والقرآن في مستهلّ سورتَيِ الحجر والنمل، فهو من باب التفنّن في الكلام.

وأمّا المستشرقون الذين تناولوا مضمون هاتين الآيتين بالشرح والتحليل بأسلوبٍ بعيدٍ عن النزعة الإيديولوجية المسيحيّة، فقد اعتبروا القرآن والكتاب متقاربين من حيث المدلول؛ ومنهم المستشرق ستيفان فيلد الذي قال في هذا الصدد: «كلمتا (كتاب) و(قرآن) [في سورتي النمل والحجر] متقاربتان من حيث المعنى، وربّما هذا هو السبب في استخدام كلّ واحدةٍ منهما بدل الأخرى»[2].

3) الآيات الأولى التي تتضمنّ كلمة "كتاب" وعبارة "قرآن عربي":

اعتبر يوسف درّة الحدّاد، ضمن تفسيره الآيات القرآنيّة التي تتضمّن مصطلح (كتاب)، آيات القرآن ترجمةً عربيّةً لآيات التوراة والإنجيل، حيث قال: «مراد القرآن من [تلك آيات الكتاب] هو آيات الكتاب [المقدّس]، تلك الآيات التي ترجمت إلى اللغة العربيّة»[3]؛ وقد تطرّق إلى بيان رأيه هذا على ضوء تحليل مداليل الآيات التي تتضمّن كلمتي (كتاب) و(عربي)، وبما فيها آيات سورتَيْ يوسف والزخرف، وفي ما يلي نذكر تفاصيل ذلك:

(261)
أ- الآيتان الأولى والثانية من سورة يوسف:

قال -تعالى-: (الٓر ۚ تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱلْكِتَٰبِ ٱلْمُبِينِ 1 إِنَّآ أَنزَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّۭا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 2)[1].

وادّعى يوسف درّة الحدّاد على ضوء مساعيه الرامية إلى إثبات أنّ آيات القرآن الكريم مستوحاةٌ من آيات التوراة والإنجيل، أنّ كلمة (الكتاب) في الآية الأولى من سورة يوسف والتي ذُكرت مع كلمةٍ أخرى مختلفةِ المعنى، أي كلمة (المبين)، يُراد منها التوراة والإنجيل، حيث استند في كلامه هذا إلى آراء بعض المفسّرين المسلمين إلى جانب تأثّره بمرتكزاته الإيديولوجيّة المسيحيّة، ومن هذا المنطلق بادر إلى بيان مدلول قوله -تعالى-: (ٱلْكِتَٰبِ ٱلْمُبِينِ).

واللافت للنظر أنّ غالبيّة الآراء التفسيريّة التي تبنّاها هذا الحدّاد لا تعتَمِد على الآراء المطروحة في التفاسير الإسلاميّة، لكنّه كثيرًا ما يستند في آرائه التفسيريّة إلى ما يذكره صاحب تفسير الجلالين الذي فسّر كلمة (تلك) في هذه الآية بـ (هذه الآيات)؛ أي أنّ هذه الآيات هي آيات القرآن؛ وفسّر (المبين)؛ بمعنى مُظهرٌ للحقّ بشكلٍ يميّزه عن الباطل؛ لكي يفهمه العرب[2]؛ إلا أنّه تخلّى عن مضمون هذا التفسير هنا، ولا عجب في تجاهله ما قاله صاحب هذا التفسير إزاء آية البحث وسائر الآيات المشابهة لها؛ لكونه لا يتناغم مع ما يجول في خاطره، إذ المعهود عنه أنّ تعامله الانتقائي في تفسير النصّ القرآنيّ لا يقتصر على آرائه التفسيريّة فحسب، بل هو مشهود -أيضًا- في مجال استناده إلى التفاسير الإسلاميّة، حيث ينتقي ما يعجبه من رأي المفسّر المسلم؛ حينما يكون متناغمًا مع افتراضه، ويعتبره دليلًا يدعم تفسيره، بينما يتجاهل بالكامل كلّ تفسيرٍ يتعارض مع افتراضه؛ وكأنّ الآية أو العبارة القرآنيّة لم تُفسّر من قِبَل المسلمين.

وفحوى كلام الحدّاد بالنسبة إلى مضمون آية البحث هي أنّ القرآن نزل بوحي السماء، لكنّ هذا الوحي ليس سوى ترجمةٍ عربيّةٍ لآيات التوراة والإنجيل؛ وكأنّ كلام الله -تعالى- قد نفد وعلمه قد وصل إلى نهايته؛ بحيث لم تبقَ لديه حيلةٌ لهداية المشركين العرب؛ إلا عن طريق ترجمة النصوص المقدّسة اليهوديّة والمسيحيّة لهم باللغة العربيّة! أو كأنّ القرآن الكريم ليس وحيًا من الأساس، بل النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ترجم هذه النصوص إلى المشركين العرب بلغتهم!

(262)

ولا شكّ في أنّ هذا الرأي يتعارض بالكامل مع الظاهر الصريح لآيتَيِ البحث وسائر الآيات اللاحقة لهما في السورة نفسها، كما لا يتناسب بتاتًا مع ترتيب نزولهما والأجواء التي كانت سائدةً في المجتمع؛ حينما أُنزلتا على النبيّ.

نزلت هذه السورة؛ بحسب روايات ترتيب النزول بعد سورة يونس، لكنْ تفصل بينهما سورة هود، وكما ذكرنا فإنّ مستهلّها هو: (الٓر ۚ تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱلْكِتَٰبِ ٱلْمُبِينِ)، ومستهلّ سورة هود هو: (الٓر ۚ كِتَٰبٌ أُحْكِمَتْ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)، لذا فهي الأخرى تندرج ضمن سلسلة الآيات التي تؤكّد على المنشأ السماويّ للقرآن الكريم.

إذًا، الآيتان الأولى والثانية من سورة يوسف حالهما حال الآيات الأولى في السور السابقة لها من جهة تأكيدهما على المنشأ السماويّ للقرآن الكريم، وبيان ارتباطه باللوح المحفوظ[1]، والضمير (الهاء) في عبارة "أَنْزَلْناهُ"، في الآية الثانية: (إِنَّآ أَنزَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّۭا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، يرجع إلى كلمة (الكتاب) المذكورة في الآية الأولى[2]، لذا فالمقصود منها ذلك الكتاب الذي هو أمّ الكتاب ومنشأ القرآن، إذ تمّ بيانه للناس بلسانٍ عربيٍّ. وقد وصف (الكتاب) في الآية الأولى من هذه السورة بـ (المبين)؛ بينما وُصِفَ في الآية الأولى من سورة يونس بـ (الحكيم)، وهذا الأسلوب يقوم على تنوّعٍ في الألفاظ؛ بغية بيان مختلف خصائص آيات الله والمعارف المكنونة في اللوح المحفوظ، حيث نزلت هذه الألفاظ عن طريق الوحي بلغةٍ عربيّةٍ.

وتتضمّن الآية الثالثة تأكيدًا لمضمون الآية الأولى؛ للتذكير مرّةً أخرى بأنّ آيات القرآن وحي من الله -عزّ وجلّ-: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِۦ لَمِنَ ٱلْغَٰفِلِينَ)، بأيّ شكلٍ فُسّرت هذه الآية، لكنّ التأكيد الموجود فيها يراد منه التذكير بأنّ الله -سبحانه- هو من يقصّ على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أحسن القصص عن طريق الوحي؛ وهو قبل ذلك لم يكنْ على علمٍ بها، وهذا الكلام يحكي عن الهدف من نزولها، فهي تنصبّ ضمن الآيات التي تصدّت لمزاعم المشركين واتّهامهم القرآن بأنّه ليس كتابَ وحيٍ.

(263)

كما تؤيّد الآيات الأخيرة من سورة يوسف التفسير الذي ذكرناه للآية الأولى، فالآية 109 أدرجت دعوة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ضمن دعوات سائر الأنبيّاء والمرسلين، فهو نبيٌّ يُوحى إليه (...أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًۭا نُّوحِىٓ إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰٓ ۗ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۗ وَلَدَارُ ٱلْءَاخِرَةِ خَيْرٌۭ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، والآية 110 أكّدت على سوء عاقبة من يكذّب برسالته: (حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسْتَيْـَٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَآءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ)، والآية 111 تتصدّى للتهم الواهية التي وجّهها المشركون للوحي المنزل على النبيّ، وتؤكّد على أنّ قصص الأنبيّاء المذكورة في الآيات المُنزلَةَ عليه ليست كذبًا ولا سردًا قصصيًّا من تلقاء نفسه، وإنّما هي وحيٌ منزلٌ من السماء وتصديقٌ للكتب المقدّسة التي أنزلها الله -عزّ وجلّ- على الأنبيّاء السابقين: (لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌۭ لِّأُوْلِى ٱلْأَلْبَٰبِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًۭا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍۢ وَهُدًۭى وَرَحْمَةًۭ لِّقَوْمٍۢ يُؤْمِنُونَ).

إذًا، مستهلّ هذه السورة وخاتمتها شاهدان على أنّ الأسلوب القرآنيّ المتّبع في بدايات السور التي تتضمّن كلمة الكتاب أو عبارة آيات الكتاب، يُراد منه التأكيد على المنشأ السماويّ للقرآن الكريم؛ فضلًا عن ذلك فقصّة النبيّ يوسف عليه‌السلام حتّى وإنْ ذُكِرت في سائر النصوص والكتب التأريخيّة، لكنّ أحداثها لم تُسرد على غرار السرد القرآنيّ، حيث ذُكِرَت فيه بأبلغ أسلوبٍ وأروعِ بيانٍ بلاغيٍّ[1]، لذا كيف يمكن لأحد ادّعاء أنّها مترجمةٌ من الكتاب المقدّس إلى اللغة العربيّة؟! وتشابه الآية الثالثة من سورة الزخرف: (إِنَّا جَعَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّۭا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الآية الثانية من سورة يوسف، حيث أشارت إلى أنّ الله -تبارك شأنه- جعل رسالة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله باللغة العربيّة ليدعو الناس إلى الدين الحقّ؛ لعلّهم يتّبعون حكم العقل السديد ويؤمنون به؛ وكلمة (عربي) في هذه الآية تمّ تعريفها وفق ما يلي: «صفةٌ نسبيّةٌ للقرآن (وليست عطفَ بيانٍ أو بدلًا)، حيث نسبت العربيّة للقرآن، ولا يقصد منها لا بدّ له أن يكون عربيًّا»[2]. لقد أنزل القرآن باللغة العربيّة؛ نظرًا لاقتضاء الضرورة ذلك، إذ ينبغي للأمّة فهم كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأخبار التي يأتيهم بها بكلّ وضوحٍ؛ كي يتفكّروا ويؤمنوا بها، ثمّ يجعلوا سلوكهم متوافقًا مع تعاليمها ويلجأوا إليها لتلبية جميع متطلّبات

(264)

حياتهم الخاصّة والعامّة؛ فمن هذا المنطلق أُنزِلَ كلام الله من اللوح المحفوظ باللغة العربيّة[1].

إذًا، نستشفّ من هذه الآية أنّ الوحي نزل في بيئةٍ اجتماعيّةٍ تحكمها اللغة العربيّة، والحكمة الإلهيّة اقتضت أنْ يكون كلام الله المنزل فيه بهذه اللغة؛ لكي يفهم القوم تعاليمه وينتهلوا منها[2]، لذا فالآية تشير إلى الأسلوب اللغويّ الذي اتّبعه النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في التعامل مع مَنْ بُعِثَ إليهم؛ أي أنّه أسلوبٌ مفهومٌ لهم، ويُعدّ عاملًا أساسًا في اتّباع كلام الله -تعالى-.

وكما هو معلومٌ، فالقواعد البلاغيّة تقتضي من المتكلّم مراعاة حال المخاطب، لذا يجب عليه التحدّث معه بلغته وبأسلوبٍ بيانيٍّ يتناسب مع مستواه الفكريّ، إذ لكلّ مقامٍ مقالٌ؛ وعلى هذا الأساس نلاحظ وجود الكثير من الآيات القرآنيّة التي تؤكّد على إمكانيّة فهم كلام الله -تعالى- من قِبَل القوم؛ ومن ذلك: التأكيد على أنّه أُنزِلَ باللغة العربيّة.

وتأكيد القرآن الكريم على عربيّة الوحي الذي يتلقّاه النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله يراد منه إثبات أنّ الآيات المباركة مفهومةٌ لدى المخاطبين؛ لكونها تخاطبهم بلسانهم، لذا لا يُتوقّع من هؤلاء استنتاج أمورٍ خاطئةٍ ومتناقضةٍ منها، أو تفسيرها خلافًا لقصد قائلها؛ لأنّ هذا الأمر يُسفِر عن حدوث اختلافٍ ونزاعٍ بين الناس؛ وبالتالي يؤدّي إلى كفرهم.

وكذلك أكّد الوحي على أنّ كلام الله ليس شعرًا، والرسول الذي أنزل عليه هو الآخر ليس بشاعرٍ: (وَمَا عَلَّمْنَٰهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنۢبَغِى لَهُۥٓ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌۭ وَقُرْءَانٌۭ مُّبِينٌۭ)[3]، والسبب في نفي هذه الميزة عنه صلوات الله عليه يعود إلى أنّ الشعر ذو وجوهٍ، عدّةٍ وأساسه التصوّر والخيال، وعادةً ما يزخر بالرموز والاستعارات الكنائيّة والتلميحات والإيماءات؛ لذا لا تنسجم نصوصٌ كهذه مع الهدف من رسالة السماء التي أساسها هداية بني آدم إلى الصراط المستقيم بصريح القول ودون أيّ غموضٍ وخللٍ.

وعبارة: (لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) فيها تعميمٌ للخطاب القرآنيّ، فقد استهلّت السورة بتوجيه

(265)

خطابٍ للنبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، ثمّ أخبرته بحقيقة فحواها: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ)، لذا يمكن القول إنّ العبارة الأولى ضمن تأكيدها على سموّ كلام الله -تعالى- وترفّعه عن أن يُقيّد بالحروف والألفاظ والمفردات، لكنّ عقل الإنسان بحاجةٍ إلى تجلّيه بهذه الأمور؛ لكي يدرك الحقائق الكامنة فيه[1]؛ وهذا ما نلمسه -أيضًا- في مفهوم النزول المُشار إليه ضمن سورة القصص وغيرها.

واستناداً إلى ما ذُكِر يثبت لنا بطلان تفسير يوسف درّة الحدّاد لمستهلّ سورة يوسف وادّعائه أنّ القرآن الكريم ترجمةٌ عربيّةٌ للتوراة والإنجيل، وعبارة"أَنْزَلناهُ" لوحدها تفنّد هذا الادّعاء؛ لأنّ الضمير (الهاء) فيها يرجع إلى (الكتاب)؛ وبالتالي تفسّر الآية بالتالي: لقد أنزلنا الكتاب بهيئةٍ عربيّةٍ. والإنزال كما أشرنا آنفًا، يعني إلقاءَ الشيء من الأعلى إلى الأسفل، لا انتقالَه من نقطةٍ إلى نقطةٍ أخرى موازيةٍ.

أضف إلى ذلك الآيات اللاحقة من هذه السورة، حيث تنقض رأي الحدّاد من أساسه، ومن جملتها قوله -تعالى-: (ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۖ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوٓاْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ)[2]. أسم الإشارة (ذلك) المذكور في مستهلّ هذه الآية يشير إلى أخبار النبيّ يوسف عليه‌السلام التي ذُكرت قبل ذلك، والخطاب فيها موجّهٌ إلى النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، ومعناها: هذا الخبر غيبيٌّ وقد اطّلعت عليه عن طريق الوحي، وذلك حينما مكر أبناء يعقوب بأخيهم وقرّروا التخلّص منه في الجبّ: (فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِۦ وَأَجْمَعُوٓاْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)[3]. وعبارة (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ) تستبطن تهكُّمًا بقريشٍ وبكلّ من كذّب برسالة السماء؛ لأنّهم يعرفون حقّ المعرفة أنّ النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكنْ على علمٍ بأحداث هذه القصّة، إذ لم يكن حاضرًا هناك؛ كما لم يخبره أحد بما جرى، فضلًا عن أنّ قومه قاطبةً ما كانوا على علمٍ بها؛ لذا فهو لم يطّلع عليها؛ إلا عن طريق الوحي الذي يأتيه بأخبار الغيب[4].

إذًا، هذه الآية تؤكّد على إعلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الخبر عن طريق الوحي، وهذه الميزة تُعدّ مستندًا لتفنيد رأي من اتّهم الآيات القرآنيّة بأنّها ترجمةٌ لآيات التوراة والإنجيل؛ ولو كان الأمر

(266)

غير ذلك لوجب أنْ يقول الله -تعالى-: (التوراة والإنجيل)؛ بدلًا عن (أَنۢبَآءِ ٱلْغَيْبِ)، أو أنّه يذكر عبارةً أخرى تفيد باقتباس هذه الآية وغيرها منهما.

وتؤيّد الآية 111 من سورة يوسف: (لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌۭ لِّأُوْلِى ٱلْأَلْبَٰبِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًۭا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍۢ وَهُدًۭى وَرَحْمَةًۭ لِّقَوْمٍۢ يُؤْمِنُونَ)، بصريح العبارة غيبيّة الآيات القرآنيّة، ولا سيما قوله -تعالى-: (وَلَٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ)، حيث يشير إلى وجود محاكاةٍ بين آيات هذه السورة وما ذُكِرَ في الكتب السالفة، ونستوحي من ذلك أنّ القصّة القرآنيّة -هنا- متممّةٌ لما ذُكِرَ من تفاصيلَ لأحداثها في التوراة والإنجيل؛ لذا فهي تحاكيها والهدف من ذكرها في القرآن الكريم هو إزالة الغموض؛ لأجل فهم حقيقة الأمر. وكما أشرنا آنفًا، من المحتمل أنّ بعض مفسّري القرآن - من أمثال مجاهد وقتادة - استندوا إلى هذه المحاكاة ليفسّروا كلمة (الكتاب) في الآية الأولى من السورة بالتوراة والإنجيل؛ لكنّ استنتاجهم هذا غيرُ صائبٍ؛ لأنّ آيات سورة يوسف لم تنزل في منطقة فراغٍ، بل نزلت على مخاطبين كانوا في سعيٍ دائبٍ لمعرفة الخبر الذي تحاكيه الآية المذكورة في التوراة والإنجيل؛ أي إنّهم أرادوا استكشاف التناصّ الموجود بينهما وبين هذه الآية القرآنيّة[1].

إذًا، جميع الآيات القرآنيّة التي اُستهلّت بها بعض السور والتي استند إليها يوسف درّة الحدّاد لإثبات نظريته القائلة بأنّ القرآن الكريم ترجمةٌ عربيّةٌ للتوراة والإنجيل، تؤكّد بصريح العبارة على المنشأ السماويّ للقرآن الكريم؛ فهو كتابٌ منزلٌ من الله الرحمن الرحيم الحكيم الحميد العزيز العليم ربّ العالمين، فهو منبثقٌ من علمه وحكمته وجماله[2]؛ وعلى هذا الأساس فعربيّته مستندةٌ في الحقيقة إليه تبارك شأنه.

ب- الآيات الأولى من سورة الزخرف:

قال -تعالى-: (حمٓ 1 وَٱلْكِتَٰبِ ٱلْمُبِينِ 2 إِنَّا جَعَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّۭا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 3 وَإِنَّهُۥ فِىٓ أُمِّ ٱلْكِتَٰبِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ 4)[3].

(267)

والآيات الأولى من سورة الزخرف هي الأخرى استند إليها يوسف درّة الحدّاد لإثبات رأيه الذي أشرنا إليه سابقًا، ومحور استدلاله -هنا- كلمة (الكتاب) التي وُصفِتَ بعبارة (قرآنًا عربيًّا)، حيث استدلّ بهذا الوصف لإثبات أنّ القرآن ترجمةٌ عربيّةٌ للتوراة والإنجيل.

وعبارة (لدينا) في الآية الرابعة تدلّ برأيه على أنّ (أمّ الكتاب)؛ إمّا أن تكون في السماء، أو في الأرض، ووضّح هذا الاستنتاج قائلًا: «الآية لا تدلّ على مكانه بالتحديد، فهي لا تصرّح ما إنْ كان في السماء أو في الأرض، فغاية ما تذكره هو أنّ الكتاب المبين موجودٌ عند أهل الكتاب؛ وهو على هيئة قرآنٍ عربيٍّ. القرآن يقول أنّ أمّ الكتاب لدينا، وهي إمّا أنْ تكون في السماء أو في الأرض، وهذه العبارة على غرار عبارتَيْ (في لوح محفوظ) و(لا يمسّه إلا المطهّرون)، والعبارة الثانية تعني عدم جواز لمسه من قِبَل المشركين؛ وقد واجه الناس صعوبةً في فهم هذه العبارة، لذلك أكملت الآية بالعبارة التالية: (وشهد شاهدٌ من بني إسرائيل على مثله)، أي عندما حرّم لمس القرآن قيل: شهد شاهد من بني إسرائيل -أي من علمائهم- أيضًا على أنّ لمس التوراة حرامٌ، لذا بما أنّ لمس القرآن حرامٌ فهو أرضيٌّ. هذه الأوصاف -أمّ الكتاب واللوح المحفوظ وغيرهما- لا تدلّ على أنّه كان في السماء منذ الأزل»[1].

نستشفّ من هذا الكلام أنّ كلمة (لدينا) تدلّ على عدم كون القرآن الكريم كتابًا سماويًّا، فغاية ما تفيده الآيات التي جاءت هذه الكلمة في سياقها هو أنّ (الكتاب المبين) يُعتبر هو التوراةَ والإنجيلَ ذواتَهما لكنْ بلسانٍ عربيٍّ؛ كما أكّد على أنّ معنى هذه العبارة يتّضح على ضوء مضمون الآيتين 78 و 79 من سورة الواقعة والآية 10 من سورة الأحقاف؛ فهذه الآيات -برأيه- تؤكّد على حرمة لمس القرآن الكريم من قِبَل المشركين؛ ما يعني أنّه كتابٌ أرضيٌّ، ومن هذا المنطلق فسّر الآية 79 من سورة الواقعة: (لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلْمُطَهَّرُونَ) على ضوء مدلول الآية 10 من سورة الأحقاف: (قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِۦ وَشَهِدَ شَاهِدٌۭ مِّنۢ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِۦ فَـَٔامَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُمْ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ)، وقال إنّه قد شهد شاهدٌ من بني إسرائيل على أنّ لمس التوراة حرامٌ، لذا فهذا الكلام يدلّ -أيضًا- على أنّ القرآن كتابٌ أرضيٌّ؛ لأنّ لمسه حرامٌ. وبعد ذلك وضّح رأيه هذا قائلًا: «ما ذكره القرآن في آيات أخرى يميط اللثام عن هذه العبارات الأربعة، فالآية 10 من سورة الأحقاف تؤكّد على أنّ السماء ليست

(268)

هي مصدر نزول القرآن، وإنّما الأرض هي مصدره، ومثله التوراة والإنجيل عند نصارى بني إسرائيل؛ لأنّ اليهود هم من بني إسرائيل ويعتبرون إلى جانب المشركين من شرّ البريّة؛ لذا لم يستشهد القرآن بهم - يهود بني إسرائيل - بل استشهد بنصارى بني إسرائيل»[1].

وجدير بالذكر -هنا- أنّ كلمة (الكتاب) في الآية الثانية من سورة الزخرف فُسّرت بالقرآن من قِبَل غالبيّة المفسّرين، لكنْ يحتمل أنّ المراد منها الإشارة إلى اللوح المحفوظ والكتاب المكنون الذي هو منشأ القرآن العربيّ.

وسورة الزخرف، في مستهلّها وختامها وحتّى في سائر آياتها، تحكي أنّها في مقام إنذار البشر وتحذيرهم والتأكيد على جريان السنّة الإلهيّة في إنزال الكتب والذكر على الأنبيّاء والرسل، لذا لا يمكن مطلقًا لتطرّف البشر في أقوالهم وأفعالهم أنْ يحول دون هذه السنّة الثابتة، بل تتواصل بعثتهم وفي الحين ذاته يهلك الله -تعالى- مكذّبيهم والمستهزئين بهم، ثمّ يسوقهم نحو عذاب جهنّم[2].

ويشير قوله -تعالى-: (لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) في الآية الثالثة إلى أنّ القرآن قبل أن ينزل بلسان عربي، كان في منأى عن عقول البشر، لذا فهي لم تدركه؛ إلا بعد أن تجلّى بلسان عربي؛ لأنّ العبارة المذكورة في نهاية الآية توضّح الغرض من جعل الكتاب[3].

وتؤكّد الآية الرابعة: (وَإِنَّهُۥ فِىٓ أُمِّ ٱلْكِتَٰبِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ) على أنّ القرآن في موضعه الأوّل لم تدركه عقول البشر، لأنّ الضمير (الهاء) في (إنّه) يعود إلى الكتاب، وما يدعو للدهشة أنّ الحدّاد فسّر أمّ الكتاب في هذه الآية بالتوراة والإنجيل، وعلى هذا الأساس ادّعى أنّ منشأه أرضيٌّ.

كما أنّ الآيات الأخرى التي استند إليها الحدّاد لإثبات أنّ (أمّ الكتاب) ليست سماويةً، يراد منها اللوح المحفوظ في الحقيقة: (بَلْ هُوَ قُرْءَانٌۭ مَّجِيدٌۭ 21 فِى لَوْحٍۢ مَّحْفُوظٍۭ 22)[4]،

(269)

والسبب في إطلاق عنوان (أمّ الكتاب) على اللوح المحفوظ يعود إلى أنّ هذا اللوح هو المصدر الأوّل لجميع الكتب السماويّة، فهي جميعاً تُنسَخ منه[1].

وتشير عبارة: (وَإِنَّهُۥ فِىٓ أُمِّ ٱلْكِتَٰبِ) إلى حقيقة القرآن الكريم، وتؤكّد على أنّه هو ذلك الكتاب نفسه الموجود لدينا؛ أي أنّه ليس كتابين: أحدهما (لدينا)، والآخر موجودٌ في مكانٍ آخرَ.

وتُعَدّ عبارة (لَعَلِىٌّ) مؤشِّرًا آخرَ على المنشأ السماويّ للقرآن الكريم، وتدلّ على علوّ مكانة (أمّ الكتاب)، لذا يمكن تفسير الآيات 2 إلى 4 وفق ما يلي: الكتاب موجودٌ لدينا في اللوح المحفوظ ومقامه رفيعٌ وهو محكَمٌ، لذلك بقي بعيدًا عن متناول البشر، وقد أنزلناه على هيئة قرآنٍ وبلسانٍ عربيٍّ؛ لكي تعقلوه.

إذًا، نستنتج من جملة ما ذُكِرَ أنّ يوسف درّة الحدّاد قد فسّر القرآن بالرأي، وحرّف بعض المداليل القرآنيّة لدى تفسيره الآيات الأولى من سورة الزخرف، حيث تعامل معها بانتقائيّةٍ، بعد أن اقتطع منها ما يؤيّد رأيه.

ومن المؤكّد أنّ (الكتاب) لم يكنْ مفهوماً للعرب، لكنّ عدم فهمهم له ليس لكونه بلغةٍ عبريّةٍ بحيث كانوا بحاجةٍ لأنْ يترجم لهم بلغتهم العربيّة، بل لكونه مكنونًا في أمّ الكتاب، وفي مقامٍ رفيعٍ، لا تطاله عقولهم ولا عقول غيرهم من البشر؛ لذلك نزل بلسانهم؛ كي تدركه عقولهم.

وتتجاوز الحقائق التي ذكرها القرآن الكريم نطاق الألفاظ ومعانيها؛ لأنّ الله -عزّ وجلّ- أراد من إنزالها على هيئة قرآنٍ تمهيد الأرضيّة المناسبة لبني آدم؛ كي يدركوا معارفه السامية، ويطّلعوا عليها عن طريق العمل بأوامره[2].

مضافًا إلى ما ذُكِرَ، فمعظم المفسّرين اعتبروا اللوح المحفوظ بأنّه ذات أمّ الكتاب[3]، فضلًا عن أنّ مضمون الآيات 77 إلى 80 من سورة الواقعة يفيد بأنّ المراد من كلمة "الْمُطَهَّرونَ" هو الملائكة، والمقصود من الآية التي جاءت فيها أنْ لا أحد كان على علم بأمّ الكتاب قبل نزول

(270)

القرآن على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله سوى الملائكة، وهذا المضمون يُعدّ تلويحًا لتفنيد مزاعم مشركي مكّة الذين اتّهموا القرآن بأنّه منزلٌ من قِبَل الجنّ والشياطين[1].

وخلاصة الكلام: أنّ بعض المفسّرين أكّدوا في تفاسيرهم على أنّ أمّ الكتاب واللوح المحفوظ والكتاب المكنون وسائر العبارات المشابهة، تشير إلى مرحلة من مراحل نزول القرآن، وهي مرحلة الثبوت في اللوح المحفوظ؛ كما اعتبروا الآيات 11 إلى 16 من سورة عبس تشير إلى مرحلة نزوله في عالم الملائكة: (فِى صُحُفٍۢ مُّكَرَّمَةٍۢ 13 مَّرْفُوعَةٍۢ مُّطَهَّرَةٍۭ 14 بِأَيْدِى سَفَرَةٍۢ 15). ومعظم المفسّرين فسّروا كلمة (سفرة) في هذه الآية بالملائكة[2].

4) الآيات الأولى التي تتضمّن "كتاب" و"تفصيل" و"قرآن عربي":

فسّر يوسف درّة الحدّاد، وكما هو معهودٌ في آرائه التفسيريّة، الآيات الأولى التي تتضمّن كلمتَيْ "كتاب" و"تفصيل" وعبارة "قرآن عربي" على أساس متبنّياته الفكريّة والإيديولوجيا المسيحيّة الراسخة في ذهنه، حيث ذكر لها معنًى مختلفًا عن معانيها المتعارفة في تفاسير المسلمين، فالقرآن برأيه يشهد في هذه الآيات بأنّ (الكتاب) موحًى من قِبَل الله العزيز الحكيم، ومن ثمّ فالنصّ القرآنيّ تفصيلٌ له -أي ترجمةٌ عربيّةٌ له-؛ ما يعني أنّه فسّر كلمة (تفصيل) بالترجمة إلى اللغة العربيّة؛ وقد عزّز رأيه هذا بالآية 44 من سورة فصّلت: (وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ قُرْءَانًا أَعْجَمِيًّۭا لَّقَالُواْ لَوْلَا فُصِّلَتْ ءَايَٰتُهُۥٓ ۖ ءَا۬عْجَمِىٌّۭ وَعَرَبِىٌّۭ). وفي هذا السّياق ادّعى أنّ الكتاب ُترجم إلى العربيّة على هيئة قرآنٍ بواسطة حكيمٍ خبيرٍ؛ مستندًا إلى الآية الأولى من سورة هود: (الٓر ۚ كِتَٰبٌ أُحْكِمَتْ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)، واعتبر أنّ أهل الكتاب على علمٍ بهذا الأمر، فهم برأيه يعرفون أنّ الله -تعالى- هو الذي ترجم آيات الكتاب إلى العربيّة، ودليله هنا الآية 114 من سورة الأنعام: (أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْتَغِى حَكَمًۭا وَهُوَ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ إِلَيْكُمُ ٱلْكِتَٰبَ مُفَصَّلًۭا ۚ وَٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ ٱلْكِتَٰبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُۥ مُنَزَّلٌۭ مِّن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ).

وممّا قاله في هذا الصدد أنّ الوحي حتّى وإنْ تُرجِمَ إلى لغةٍ أخرى، فهو يبقى وحيًا؛ من

(271)

منطلق أنّ الكتاب الذي فُصّلت آياته: (كِتَٰبٌۭ فُصِّلَتْ ءَايَٰتُهُۥ قُرْءَانًا عَرَبِيًّۭا لِّقَوْمٍۢ يَعْلَمُونَ)[1] هو ذات الكتاب المنزل إلى النبيّ من الله: (فَإِن كُنتَ فِى شَكٍّۢ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَسْـَٔلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءُونَ ٱلْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكَ ۚ لَقَدْ جَآءَكَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ)[2]، فهو مصدِّقٌ ومفصِّلٌ له: (وَمَا كَانَ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَٰبِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ)[3].

وقد ذكرنا لدى تحليل تفسير الحدّاد للآيات الأولى من سورتَيْ يوسف والزخرف، أنّه فسّر كلمة (عربي) المذكورة فيها بترجمة الإنجيل إلى اللغة العربيّة على هيئة قرآنٍ، وقد عزّز رأيه هذا بالآيات الأولى من سورتي هود وفصّلت، حيث استدلّ منها على ما يلي: القرآن ليس كتابًا سماويًّا موجودًا عند الله، بل هو كتاب الله في الأرض، والكتاب الموجود في السماء هو التوراة؛ وفي ما يلي نتطرّق إلى شرح هذا الرأي وتحليله:

أ- الآية الأولى من سورة هود:

قال -تعالى-: (الٓر ۚ كِتَٰبٌ أُحْكِمَتْ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)[4].

استدلّ يوسف درّة الحدّاد من ظاهر ألفاظ هذه الآية على أنّ الوحي مختصٌّ بالكتاب، بينما التفصيل مختصٌّ بالقرآن، لذا يمكن اعتبار الكتاب المذكور في هذه الآية هو ذلك الموجود بين يدي أهل الكتاب، في حين أنّ القرآن مجرّد مفصِّلٍ له[5].

والشائع بين المفسّرين المسلمين تفسير عبارة (أُحْكِمَتْ ءَايَٰتُهُۥ) بإحكام آيات القرآن الكريم وحصانتها من النقص والخلل[6]، وعلى ضوء هذا الرأي اعتبروا الحرف (ثمّ) لا يشير إلى العطف بانفصالٍ؛ وهناك مفسّرون اعتبروا الإحكام -هنا- بمعنى إتقان الشيء؛ بحيث يبقى مصونًا من

(272)

طروء أيّ خللٍ عليه، واعتبروا التفصيل بمعنى تنوّع الآيات والتفكيك في ما بينها وبيانها؛ بينما ذهب آخرون إلى تفسير (أُحْكِمَتْ) بأنّها من مشتقّات الـحُكم؛ ما يعني أنّ الكتاب ذو حكمةٍ؛ كما أنّ بعض التابعين؛ من أمثال: قتادة، قالوا: أُحكمت آياته من الباطل، ثمّ فُصلت عن طريق بيان الحرام والحلال[1].

وعبارة (ثُمَّ فُصِّلَتْ) تعني اشتمال القرآن الكريم على مواضيعَ متنوّعةٍ ومنفصلةٍ عن بعضها؛ مثل: التوحيد، والأحكام الشرعيّة، والمواعظ، والقصص، أو أنّها تعني صياغته من قِبل الله -تعالى- على هيئة أجزاء وسورٍ وآياتٍ؛ بحيث أنزله تدريجيًّا لا دفعةً واحدةً؛ وبعض التابعين فسّروها بأنّه يميّز بين الحقّ والباطل -يفصل بينهما- ويعرّفهما للناس؛ بينما فسّرها البعض بمجيء الآيات واحدةً تلو الأخرى[2].

ولم يذكر أصحاب هذه الآراء براهينَ تثبت صوابيّة تفاسيرهم، وفي هذا السّياق فسّر الحرف (ثمّ) بالإشارة إلى العطف بفاصلةٍ زمنيّةٍ - التراخي - لذا فهو يحكي عن وجود مرحلتين زمنيّتين نزل خلالهما القرآن الكريم، ففي المرحلة الأولى نزل على هيئة حقيقةٍ بسيطةٍ ومحكمةٍ وموحّدةٍ؛ ليبقى في اللوح المحفوظ، أو في قلب النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، وفي المرحلة الثانية تجلّت هذه الحقيقة النورانيّة على هيئة تفصيلٍ وأجزاء، في رحاب نزولها عليه على مرّ الزمان[3].

ونستشفّ من مضمون هذه الآية أنّ القرآن الكريم مرّ بمرحلة الإحكام التي لم يظهر فيها للبشر، لكنّه تجلّى لهم في المرحلة الأخرى، واتّضحت آياته بشكلٍ مفصّلٍ؛ وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّه في كلا المرحلتين - مرحلة اللوح المحفوظ، ومرحلة النزول - محكمٌ وفيه آياتٌ، وفي عين وحدته بوصفه كتابًا سماويًّا هو يتضمّن معانيَ متنوّعةً، إذ لو لم يتّصف بذلك في المرحلة الأولى لما أمكن تفصيله في المرحلة الثانية؛ لذا يمكن تشبيهه في هذه الحالة بالنطفة التي تشمل جميع خصائص الإنسان، ومن ثمّ تظهر على أرض الواقع بهذه الخصائص التي كانت كامنةً فيها، ومن هذا المنطلق يمكن تفسير الإحكام -هنا- بأنّه يعني الحقيقة البسيطة للقرآن حينما كان مكنونًا في اللوح المحفوظ.

(273)

وقد فسَّره العلامة الطباطبائي الأحكام بنحوٍ لا نظير له، حيث عدّه في مقابل التفصيل؛ بمعنى إيجاد فاصلةٍ بين الأجزاء المترابطة مع بعضها لأحد الأشياء، وهنا يراد من التفصيل الفصل بين الأمور المتداخلة مع بعضها. وبناءً على هذا المعنى للتفصيل، فإنّ إحكام الآيات يعني عدم فصلها عن بعضها، وإيجاد ارتباطٍ بين عددٍ من الآيات المنفصلة عن بعضها، وإرجاع آياتٍ إلى آياتٍ أخرى على نحو إرجاع الكلّ إلى أمرٍ واحدٍ يتّصف بالبساطة، وليس مكوَّنًا من أجزاء عدّة[1].

إذًا، هؤلاء المفسّرون يعتبرون القرآن الكريم ذا حقيقةٍ واحدةٍ ومضمونٍ موحَّدٍ؛ لا أجزاء فيه ولا فصول.

ويفيد الحرف (ثمّ) في هذه الآية بأنّ التفصيل الموجود في القرآن يأتي في المرحلة الثانية من حيث الرتبة بالنسبة إلى كونه محكَمًا، حيث طرأ التفصيل على إحكامه مباشرةً؛ وكما هو معلومٌ فالإحكام والتفصيل مرتبطان بمعاني الآيات، إذ إنّ معانيَ كتابٍ كهذا تضرب بجذورها في أصلٍ واحدٍ، وإن أمعنّا النظر في هذا الأصل لألفينا تفاصيل القرآن كامنةً فيه، ولو استخلصنا هذه التفاصيل لوجدنا فيها ذلك الأصل نفسه أيضًا؛ ما يعني أنّ الآيات مع اختلاف مضامينها وتنوّع أهدافها، هي في الواقع ذاتُ معنًى واحدٍ بسيطٍ لا أجزاء لها ولا يمكن تبعيضها، ومن ثمّ فهي تتمحور حول هدفٍ واحدٍ، إذ كلّ آيةٍ تذكر موضوعًا معيّنًا، وفي الحين ذاته يُراد منها هدفٌ معيّنٌ؛ هو كالروح الكائنة في باطن جميع الآيات، والتي تحكي عن حقيقةٍ واحدةٍ يُراد بيانها؛ وهذه الحقيقة تعتبر البنية الأساس والمضمون المحوري لجميع المعاني والتفاصيل في جميع فروع الآيات[2]؛ لذلك لا بدّ من تفسير (ثمّ) بأنّه حرف عطفٍ يشير إلى الترتيب مع التراخي؛ أي التراخي بحسب ترتيب الكلام لا التأخّر والتراخي الزمانيّ، إذ لا معنى للتقدّم والتأخّر الزمانيّ بين المعاني المختلفة؛ من حيث كونها أصليةً أو فرعيّةً، ولا من حيث إجمالها وتفصيلها[3].

ويحتمل أن تكون كلمة (كتاب) في هذه الآية بمعنى هذا القرآن الموجود بين أيدينا بسُوَره وآياته، أو اللوح المحفوظ، أو القرآن المحفوظ في اللوح المحفوظ؛ وهو ما أكّد عليه العلّامة محمّد حسين الطباطبائي بقوله: «المراد بالكتاب هو ما بأيدينا من القرآن المقسَّم إلى السور

(274)

والآيات، ولا ينافي ذلك ما ربّما يُذكَر أنّ المراد بالكتاب اللوح المحفوظ أو القرآن بما هو في اللوح، فإنّ هذا الكتاب المقروء متّحدٌ مع ما في اللوح اتّحاد التنزيل مع التأويل»[1].

ولم يؤيّد بعض المفسّرين هذا الكلام في تفسير كلمتَي الإحكام والتفصيل، حيث اعتبروهما تشيران إلى هيئة القرآن ومضمونه، وعلى الرغم من اعترافهم بصوابيّة رأي العلّامة من الناحية العقديّة والأخلاقيّة والعمليّة، وانسجامه مع مبادئ التوحيد الخالص، إلا أنّ سياق الآيات لا يحتمل المعنى الذي طرحه، فضلًا عن عدم تناغمه مع القواعد اللغويّة؛ فهو -كما ذكرنا- جعلهما في مقابل بعضهما؛ وهذا يعني أنّنا أمام أمرٍ كلّيٍّ نروم بسطه وتفصيله، وقد ذكر هذه الفرضية؛ نظرًا لوقوع الكلمتين في موضعٍ واحدٍ.

إذًا، رَفَض هَؤلاءِ المفسّرون ما ذهب إليه العلامة في تفسير قوله -تعالى-: (أُحْكِمَتْ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتْ)؛ لأنّ الإحكام بمعنى إتقان الشيء، ومعناه الوصفي للقرآن هو إتقان كلماته وعدم وجود أيّ خللٍ في منظومة آياته التي تدلّ على معانٍ واضحةٍ، والتفصيل يُراد منه توضيح ما فيه من أفكارٍ بأسلوبٍ مبسوطٍ وواضحٍ. إذًا، القرآن واضحٌ ومتقنٌ بمجمله من حيث دلالته على المعاني والمفاهيم المطروحة في آياته وعباراته وألفاظه، وهو كذلك واضحٌ ومتقنٌ على صعيد بيانه تفاصيل هذه الآيات والعبارات والألفاظ، وبالتالي لا يوجد غموضٌ وتعقيدٌ فيه؛ وعلى هذا الأساس نستشفّ من سياق هذه الآية موضوع البحث وغيرها، أنّها تحكي عن الجانب الفنّيّ للآيات من ناحيتين:

ـ من الناحية الشكليّة المشتملة على تركيب الكلمات وتأليفها؛ أي أنّ القرآن تمّ بيانه بشكلٍ متقنٍ يجعله منزّهاً من كلّ نقصٍ؛ من حيث اتّزان حركته وتكامله فنّيًّا.

ـ من ناحية المضمون الذي يشتمل على التفاصيل والجزئيّات الخاصّة بالأفكار المطروحة فيه وطريقة بيانها، فكلّ حكمٍ ومفهومٍ يطرحه القرآن للناس، عارٍ من كلّ خفاءٍ وغموضٍ.

واستنادًا إلى ما ذُكِرَ نستنتج أنّ ذِكْر الإحكام والتفصيل في سياقٍ واحدٍ يُراد منه إضفاء صبغةٍ بلاغيّةٍ على النصّ القرآنيّ، والإشارة إلى دقّة الأسلوب القرآنيّ في بيان مواضيع آياته[2].

(275)

وممّا يؤيّد ذلك: الأوصاف التي أُطلقت على القرآن بأنّه ذو طابع متشابه (مثاني)؛ وذلك في قوله -تعالى-: (ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَٰبًۭا مُّتَشَٰبِهًۭا مَّثَانِىَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِى بِهِۦ مَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنْ هَادٍ)[1]. أضف إلى ذلك فالآية ختمت بعبارة: (مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) والتي ينسجم فحواها مع المعنى المراد من الإحكام (أُحكمت)، حيث تشير إلى إتقان الفعل الإلهيّ، وهذا ما أكّد عليه العلامة الطباطبائي نفسه حينما قال: «قوله -تعالى-: (مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) الحكيم من أسمائه الحسنى الفعليّة، يدلّ على إتقان الصنع، وكذا الخبير من أسمائه الحسنى، يدلّ على علمه بجزئيّات أحوال الأمور الكائنة ومصالحها؛ وإسناد إحكام الآيات وتفصيلها إلى كونه -تعالى- حكيمًا خبيرًا لما بينهما من النسبة»[2].

وقد أكّد السيّد قطب في تفسيره على أنّ الإحكام المذكور في الآية الأولى من سورة هود التي هي في صدد إثبات الوحي والرسالة؛ بمعنى إتقان آيات القرآن الكريم وعدم طروء خللٍ ونقصٍ فيها بقوله: «(أُحْكِمَتْ ءَايَٰتُهُ) فجاءت قويّةَ البناء، دقيقةَ الدلالة، كلّ كلمةٍ فيها وكلّ عبارةٍ مقصودةٌ، وكلّ معنى فيها وكلّ توجيه مطلوبٌ، وكلُّ إيماءةٍ وكلّ إشارةٍ ذاتُ هدفٍ معلومٍ، متناسقةً لا اختلاف بينها ولا تضارب، ومنسقةً ذاتَ نظامٍ واحدٍ. ثمّ فصّلت فهي مقسمةٌ وفق أغراضها، مبوّبةٌ وفق موضوعاتها، وكلٌّ منها له حيِّزٌ بمقدار ما يقتضيه. أمّا من أحكمها ومن فصّلها على هذا النحو الدقيق؛ فهو الله -سبحانه- وليس هو الرسول: (مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)»[3].

وبذلك يثبت لنا ممّا ذُكِرَ أنّ الكتاب في هذه الآية لا يُراد منه التوراة والإنجيل، كما أنّ التفصيل لا يُقصد منه ترجمتهما إلى العربيّة.

ب- الآية الثالثة من سورة فصّلت:

قال -تعالى-: (حمٓ 1 تَنزِيلٌۭ مِّنَ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ 2 كِتَٰبٌۭ فُصِّلَتْ ءَايَٰتُهُۥ قُرْءَانًا عَرَبِيًّۭا لِّقَوْمٍۢ يَعْلَمُونَ 3)[4].

(276)

سورة فصّلت نزلت بعد أنْ أنكر الكفّار الكتاب الذي أُنزِلَ إليهم؛ أي القرآن الكريم[1]، حيث تؤكّد على هذا الموقف ابتداءً من آياتها الأولى، ثمّ يتكرّر هذا التأكيد بين آياتٍ عدّة؛ والمعنى الظاهر للآية الثالثة هو أنّ الكتاب هو القرآن ذاته، ويؤيّد ذلك مضمون الآية 26 التي أشارت إلى ردّة فعل الكفّار إزاءه: (وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَسْمَعُواْ لِهَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)، ثمّ تكرّر هذا التأكيد للمرّة الثالثة في الآية 40: (إِنَّ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِىٓ ءَايَٰتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ...) بعد ذلك تلاها المضمون نفسه في الآية 41: (إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ ۖ وَإِنَّهُۥ لَكِتَٰبٌ عَزِيزٌۭ). وفي أواخر السورة ضمن الآية 52 بالتحديد جاء التأكيد على أنّ القرآن من عند الله -عزّ وجلّ-: (قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِۦ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍۭ بَعِيدٍۢ).

وجدير بالذكر -هنا- أنّ كلمة (تنزيل) في الآية الثانية خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ، وهي مصدرٌ يفيد اسم المفعول، لذا يقدّر معنى الآية بالتالي: هذا الكتاب منزلٌ من الرحمن الرحيم، وقوله -تعالى-: (كِتَٰبٌۭ فُصِّلَتْ ءَايَٰتُهُۥ قُرْءَانًا عَرَبِيًّۭا لِّقَوْمٍۢ يَعْلَمُونَ) في محلّ رفع خبرٍ؛ أي إنّها خبرٌ بعد الخبر الأوّل (تنزيل)[2].

وعبارة: (قُرْءَانًا عَرَبِيًّۭا) في محلّ نصب حالٍ للكتاب أو لآياته، وعلى هذا الأساس تفسّر الآية بالتالي: كتابٌ فصّلت آياته للناس؛ كي يعرفوا معانيها؛ لأنّ لغتهم اللغة نفسها التي أُنزل بها القرآن، وهي العربيّة[3]. وقد فسّر بعض المفسّرين (فصّلت) حسب المعنى المتعارف للتفصيل، أي أنّها تعني بيان الوعد والوعيد الإلهيّ للمؤمنين والكافرين، وهو ما تبنّاه الفخر الرازي لدى تفسيره الآيات 1 إلى 8 من هذه السورة؛ وبالتالي تعني تفكيك آيات القرآن وبيان معانيها، حيث قال: «قَوْلُهُ (فُصِّلَتْ آياتُهُ) وَالْمُرَادُ أَنَّهُ فُرِّقَتْ آيَاتُهُ وَجُعِلَتْ تَفَاصِيلَ فِي مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فَبَعْضُهَا فِي وَصْفِ ذَاتِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَشَرْحِ صِفَاتِ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ، وَشَرْحِ

(277)

كَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَجَائِبِ أَحْوَالِ خلقه السموات وَالْأَرْضَ وَالْكَوَاكِبَ وَتَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَعَجَائِبِ أَحْوَالِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ، وَبَعْضُهَا فِي أَحْوَالِ التَّكَالِيفِ الْمُتَوَجِّهَةِ نَحْوَ الْقُلُوبِ وَنَحْوَ الْجَوَارِحِ، وَبَعْضُهَا فِي الوعد والوعيد والثواب والعقاب درجات أَهْلِ الْجَنَّةِ وَدَرَجَاتِ أَهْلِ النَّارِ، وَبَعْضُهَا فِي الْمَوَاعِظِ وَالنَّصَائِحِ وَبَعْضُهَا فِي تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَرِيَاضَةِ النَّفْسِ، وَبَعْضُهَا فِي قَصَصِ الْأَوَّلِينَ وَتَوَارِيخِ الْمَاضِينَ»[1].

لا شكّ في أنّ الاستنتاجات المنحازة المطروحة من قِبَل يوسف درّة الحدّاد لا تقوم على أسس البحث العلمي الصائبة؛ لكونها مشوبةً بالتناقض، وقد توصّل إليها على ضوء تصوّره أنّ القرآن نسخةٌ عربيّةٌ من الكتاب المقدّس، فقد ادّعى أنّ النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كان على ارتباطٍ بأهل الكتاب ودرس عندهم، ثمّ ترجم النصّ القرآنيّ من التوارة والإنجيل[2]، بينما قال في موضعٍ آخرَ إنّ الله -تعالى- لم يُنزل سوى أربعة كتبٍ سماويّةٍ؛ هي توراة موسى، وإنجيل عيسى، وزبور داوود، وقرآن محمّد[3]. واللافت للنظر أنّه حاول وضع حلٍّ لهذا التناقض في الرأي عبر تفسير الآية 13 من سورة الشورى بشكلٍ غريبٍ، حيث قال إنّ الوحي على ثلاثة أنواعٍ، ونوعه الثالث هو مجيء ناقله من جانب الله إلى النبيّ، وهكذا كان يوحى إلى النبيّ محمّد[4]، وهذا أدنى أنواع الوحي -برأيه-. وهذا الكلام يواجه بأسئلة عدّة هي: إذا كان الوحي يأتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن طريق جبرائيل، فما هو الدليل إذًا على كون القرآن مستوحًى من الكتب السالفة؟! ألا يتناقض هذا القول مع المدّعى السابق الذي زعم فيه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله درس عند علماء أهل الكتاب وتعلّم الترجمة والنقل من المزامير وسائر كتبهم؟! وهل يمكن ادّعاء أنّ أمين الوحي جبرائيل درس -أيضًا- عند علماء أهل الكتاب، ثمّ أوحى للنبيّ ما تعلّمه منهم؟! أو هل امتلك النبيّ مصادرَ عربيّةً للكتب التي ادّعيتَ أنّه اقتبس منها قرآنه؟![5]

(278)

المبحث الثاني: "الكتاب" عبارةٌ عن رمزٍ لنصٍّ موازٍ يقابل "الكتاب"؛ بمعنى المصحف:

تطرّق عددٌ من المستشرقين إلى شرح بعض المفاهيم القرآنيّة وتحليلها؛ مثل الكتاب، وأمّ الكتاب، والتفصيل على ضوء الإحالة الذاتيّة للقرآن، وقد تمحورت بحوثهم بشكلٍ أساس حول تفسير مصطلح الكتاب؛ نظرًا لطرح احتمالاتٍ عديدةٍ في تفسيره؛ وقال أحد الباحثين في هذا الصدد: «كلمة الكتاب في القرآن؛ كأنّها ترمز إلى مفهومٍ ينمّ عن تصوّرٍ دينيٍّ معيّنٍ محاطٍ بهالةٍ من القدسيّة؛ بحيث حظي بأهمّيّةٍ بالغةٍ؛ لأنّها في السّياق القرآنيّ لها ارتباطٌ وطيدٌ بتصوّر وحي السماء وبتصوّراتٍ أخرى متنوّعةٍ مرتبطةٍ -أيضًا- بالوحي بشكلٍ مباشرٍ؛ فهذه الكلمة البسيطة التي تعني القرطاس المدوّن والرسالة المدوّنة، بعد أنْ طُرحت في المنظومة القرآنيّة واتّسمت بطابعٍ خاصٍّ، شهدت جوانبَ سيميولوجيةً جديدةً منبثقةً بأسرها من هذا الطابع الخاصّ ومن أواصر ارتباطها بتصوّرات ومفاهيم المنظومة القرآنيّة. كلمة الكتاب فور طرحها في المنظومة القرآنيّة، ارتبطت بنحوٍ خاصٍّ ببعض الألفاظ القرآنيّة الأساسيّة؛ مثل: الله، والنبيّ، والتنزيل، والوحي، وأهل الكتاب، وهذا الارتباط أضفى عليها صبغةً سيميولوجيةً مميّزةً»[1].

إذًا، ليست هناك ملاحظاتٌ عجيبةٌ بالنسبة إلى كلمة الكتاب في القرآن الكريم، إلا أنّ المستشرقين اعتبروها تدلّ على المصحف، لذا فهو غير ما هو موجودٌ اليوم بين يدي المسلمين على هيئة كتابٍ مدوّنٍ؛ لأنّ الاستخدام القرآنيّ للكلمة والسّياقات التي ذُكِرتَ في رحابها يدلّان على أنّ المراد من الكلمة إذا كان ذلك الكتاب السماويّ، ففي هذه الحالة هناك مواردُ محدودةٌ ينطبق فيها مع المعنى الخارجيّ للكلمة[2].

ويرى هؤلاء المستشرقون أنّ كلمة الكتاب المذكورة في الآيات الأولى لبعض السور القرآنيّة وفي سائر الآيات، لها مفهومٌ في ما وراء النصّ القرآنيّ -موازٍ للنصّ القرآنيّ- ولا يحال ذاتيًّا إليه، ومن هذا المنطلق استنتجوا أنّه لا يعني المصحف، لذا فهي لا تدلّ على هذا القرآن الموجود اليوم بين يدي المسلمين؛ على الرغم من أنّ غالبيّة المفسّرين المسلمين فسّروها هكذا. ولعلّهم

(279)

طرحوا هذا الاستدلال على ضوء اعتقادهم بشفهيّة القرآن الكريم، إذ بادروا إلى تفسيره وفق هذا الاعتقاد[1]؛ وكما هو معلومٌ فقد فكّكوا بين شفهيته وبنيته المدوّنة، وفي هذا السّياق أكّدوا على أنّ القرآن المسموع - الشفهي - كان يحظى بأهمّيّةٍ بالغةٍ بين المسلمين الأوائل؛ لذلك لم يصرّوا على تدوينه.

وجدير بالذكر أنّ المستشرق دانيال ماديجان بذل كلّ ما بوسعه لإثبات أنّ القرآن (المصحف) ليس هو الكتاب ذاته المشار إليه في آياته، وادّعى أنّ إشارته إلى نفسه بعنوان (كتاب) لها مدلولٌ معيّنٌ.

واحتمل بعض المستشرقين أنْ يكون وصف القرآن نفسه بالكتاب ذا معنًى رمزيٍّ موازٍ للنصّ، وأنّه ليس إشارةً إلى أمرٍ آخرَ، أو أنّه يدلّ على النصّ القرآنيّ قبل رواجه بوصفه كتابًا رسميًّا لدى المسلمين، أو ربّما يشير إلى النصوص المقدّسة اليهوديّة والمسيحيّة، أو أريد منه إحالةً ذاتيةً إلى جانب مدلولٍ موازٍ للنصّ في آنٍ واحدٍ؛ أي أنّ الكتاب في هذه الآيات هو الكتاب ذاته وكذلك ما يرتبط به. ويعتقد هؤلاء أنّ القرآن عبارةٌ عن نصٍّ فيه إحالةٌ ذاتيةٌ؛ بحيث يتحدّث عن نفسه، ولذلك استشهدوا بكلمة الكتاب لإثبات رأيهم هذا.

كما أنّ البنية اللغويّة برأي المستشرق ستيفان فيلد تتضمّن إحالةً ذاتيّةً؛ حينما يتمحور مفهومها حول مسألة ارتباطيةٍ؛ بحيث تكون تحت تأثير هذا الارتباط وطرفًا فيه[2].

وقد اعتبر المستشرقون استعمال كلمة (كتاب) في القرآن بأنّها مؤشّرٌ على الإدراك والإرجاع الذاتيّين في القرآن، وتحكي عن هاجس النصّ القرآنيّ بالنسبة إلى ذاته، والكتاب بهذا الوصف يعتبر مرآةً تعكس عمليّة الوحي واستقبال النصّ المنزل فيه من قِبَل النبيّ، وهذه هي الميزة التي تشخّص القرآن عن النصوص المقدّسة اليهوديّة والمسيحيّة، لذا يمكن اعتباره أكثر النصوص الدينيّة وعيًا بذاته وأوسعها نطاقًا، على صعيد الإحالة الذاتيّة، إلى جانب أنّه أحدث من هذه النصوص.

هذا التلاحم الكامن في باطن النصّ القرآنيّ جعله أشبه ما يكون بالنصوص العلميّة والأدبيّة

(280)

الحديثة وأكثر النصوص المقدّسة وعيًا، وممّا أكّد عليه ستيفان فيلد أنّ خصوصيّة الإحالة الذاتيّة في القرآن الكريم تنمّ عن وعي نصّه بالتوجّهات اللغويّة للعصور اللاحقة؛ وكأنّه تنبّأ بها[1].

وهناك مستشرقون عزوْا هذه الميزة القرآنيّة إلى كونه كتابًا مفتقرًا إلى قبول مخاطبيه وتأييدهم، حيث قال فيلد في هذا الصدد: «كان القرآن يتلى في بيئةٍ شهدت في الوقت ذاته تلاوة سائر النصوص التوحيديّة المقدّسة اليهوديّة، واليهوديّة المسيحيّة، والمسيحيّة إلى جانب نصوص العرب المشركين وتلاواتٍ أخرى محتملةٍ؛ لذا كان ظهور تلاوةٍ (قرآنيّةٍ) عربيّةٍ معتمدًا على بيئةٍ توحيديّةٍ تتقبّله»[2]. إذًا، من الطبيعيّ أنّ القرآن الكريم في أجواء كهذه ينبغي له بيان هويّته والأسلوب الذي يتيح للمخاطب فهم مضامينه، ومن هذا المنطلق لا بدّ له من إقناع قرائحَ متنوّعةٍ بأنّه كلام الله حقًّا، وقد نزل إلى العرب بواسطة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله[3].

ويعدّ التناصّ - التعالق النصّيّ - أو الارتباط بين القرآن والكتاب المقدّس اليهوديّ المسيحيّ مرتكزًا لتحقّق ارتباطٍ تأريخيٍّ في ما بينهما وحدوث تشابهٍ مقصودٍ وتلاقحٍ متبادَلٍ ومتواصِلٍ ومتوالٍ ومتواكبٍ ذي طابعٍ تنافسيٍّ؛ وهذا الارتباط الذي يمكن وصف القرآن على ضوئه؛ كالابن للكتاب المقدّس، يُعدّ سببًا لإيجاد إحالةٍ ذاتيّةٍ في نصّه[4].

وأحد جوانب الإحالة الذاتيّة في القرآن الكريم هو ارتباطه بالنبوّة وانبثاقه من مصدرٍ ميتافيزيقيٍّ، حيث خُوطب النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بنداءٍ غيبيٍّ وطُلب منه إعلام الناس بشخصيّته وطبيعة تلاوة النصّ الذي يبلّغه لهم وواقع النصّ ذاته[5]، وهذه الميزة القرآنيّة عادةً ما تظهر[6] في بيئةٍ حواريّةٍ متفاعلةٍ[7].

واعتبر دانيال ماديجان الإرجاع الذاتيّ في القرآن الكريم إرجاعًا إلى الغير بنحوٍ ما، وعلى

(281)

هذا الأساس استنتج عدم إمكانيّة تعيين هويّته الذاتيّة على نحو القطع واليقين، فالقرآن لدى تعريفه ذاته عن طريق الإحالة إلى الغير يُعدّ بالضرورة محاكيًا له[1]. وقد تبنّى ماديجان فكرةً تتباين مع الاستدلالات المتعارفة بين المفسّرين المسلمين ادّعى على أساسها عدم إمكانيّة تعيين هويّة هذه الذات -القرآنيّة- على نحو القطع واليقين، وقال في هذا الصدد: «على الرغم من أنّ السنّة شاءت تحديد هذه الذات في نظاق المصحف، إلا أنّ تعيين مدلولها متوقّفٌ على ذكر إيضاحاتٍ أتمَّ وأكملَ، وهو ما يتطرّق النصّ نفسه إليه»[2].

ويعتبر (الكتاب) من وجهة نظر المستشرقين اصطلاحًا محوريًّا تتبلور فيه الرؤية القرآنيّة بالنسبة إلى القرآن نفسه، إذ اعتبروه مصطلحًا غامضًا على المفسّرين، وفي هذا السّياق ذكروا العديد من الأسباب التي أسفرت عن حدوث غموضٍ كهذا في مدلوله؛ ومن جملتها: أنّ قارئ النصّ القرآنيّ أو مستمعه يصغي إليه؛ بوصفه نصًّا مغلقًا؛ بحيث لا يلاحظ وجود أيّ ارتباطٍ بين الصيغ المكرّرة لهذا المصطلح[3].

وحينما نمعن النظر في آراء ماديجان وسائر المستشرقين، نستشفّ منها أنّهم يعتقدون بوجود اختلافٍ بين القرآن والمصحف، وقد توصّلوا إلى هذه النتيجة على ضوء الأساليب النقديّة التي اتّبعوها ضمن دراساتهم التي دوّنوها حول المسيحيّة، وفي مقارناتهم بين تدوين القرآن ومراحل تدوين الكتاب المقدّس، إلى جانب اتّباعهم أساليبَ نقديّةٍ إزاء القرآن بالارتكاز على أسس كتابهم المقدّس، أو أنّهم استنتجوا ذلك اعتمادًا على فحوى بعض الروايات التي تتحدّث عن جمع النصّ القرآنيّ وتدوينه بعد فترةٍ طويلةٍ من نزوله.

وقد طوى النصّ القرآنيّ برأي بعض المستشرقين ثلاثَ مراحلَ تطوّريةٍ؛ ليتبلور في نهاية المطاف على هيئة كتابٍ، وقد توصّلوا إلى هذه النتيجة عن طريق مقارنة مسيرته التكوينيّة وعمليّة تدوينه مع النصوص المقدّسة اليهوديّة المسيحيّة، وكذلك على ضوء المقارنة بين كيفيّة تحوّله وتحوّل النصوص المسيحيّة المقدّسة إلى مصدرين رسميّين لدى المسلمين

(282)

والمسيحيّين؛ وهذه المراحل هي التالية:

المرحلة الأولى: التلاوة.

المرحلة الثانية: تحوّل التلاوة إلى نسخةٍ عربيّةٍ للنصوص المقدّسة السابقة (غير العربيّة).

المرحلة الثالثة: تحوّل النسخة العربيّة للنصوص المقدّسة السابقة إلى كتابٍ مستقلٍّ موحًى إلى جميع الناس ويحظى بأفضليّةٍ على كلّ هذه النصوص؛ بحيث جرّدها من فاعليّتها الدينيّة[1].

ويعتقد بعض المستشرقين؛ من أمثال: ماديجان أنّ معنى كلمة (الكتاب) المذكورة في القرآن الكريم ذو ارتباطٍ وطيدٍ بالبنية التأريخيّة والخلفيّات التأريخيّة بشكلٍ عامٍّ والتي آلت إلى الزوال إلى حدٍّ كبيرٍ، ومن هذا المنطلق عادةً ما يلجأون إلى تفسيرها بأسلوبٍ لغويٍّ؛ كي يستنتجوا المدلول القرآنيّ المقصود منها، حيث يبادرون -أحيانًا- إلى صياغة بيئةٍ تأريخيةٍ افتراضيّةٍ لا أساس لها؛ بغية إثبات صوابيّة استدلالهم، لذلك يفنّدون آراء الكثير من المفسّرين؛ بزعم أنّها لا تتناغم مع مضمون الآية التي يتمحور حولها البحث، ومن ثمّ يصفون بعض المصطلحات التخصّصيّة -مثل القرآن والسورة والآية- بأنّها ذاتُ معانٍ غامضةٍ وموهمةٍ[2]. هذا الغموض برأيهم لا يُعدّ من الخصائص الذاتيّة لمصطلح (الكتاب) وما شاكله، بل سببه عمليّة تدوين المصحف والتي اتّسمت بسعي المتصدّين للأمر بتعيين مدلولٍ خاصٍّ لكلّ كلمةٍ تُدرج في آياته، ومن الطبيعي أنّ الكتاب له معانٍ عديدةٌ؛ لذلك اكتنفه غموضٌ من هذه الناحية[3].

ويتصوّر هؤلاء المستشرقون أنّ المسلمين دوّنوا المصحف في فترةٍ بعيدةٍ جدًّا عن زمان نزول آياته؛ لدرجة أنّ معانيَ مصطلحاته تختلف عن تلك المعاني الأولى الملحوظة في نزول آياته، وهذا التصوّر كما أشرنا آنفًا؛ لعلّه متأثّرٌ ببعض الروايات المرتبطة بمسألة جمع القرآن في وقتٍ متأخّرٍ ضمن مصحفٍ، فهذه الروايات باتت ذريعةً لتأكيدهم على شفهيّة القرآن بشكلٍ مبالغٍ فيه، وادّعاء أنّ مفهوم مصطلح (الكتاب) الذي تكرّر ذِكْره فيه لا يحكي عن القرآن الموجود بين يدي المسلمين على هيئة مصحفٍ.

(283)

فضلًا عن ذلك أنّنا لو ألقينا نظرةً عابرةً على أقدم قواميس اللغة العربيّة، سنلاحظ أنّ كلمة (كتاب) ذاتُ معانٍ عديدةٍ ومتنوّعةٍ الاستعمال في مختلف النصوص؛ لذا لا صوابيّة لما استنتجه هؤلاء المستشرقون؛ لكونه يتعارض مع مبادئ البحث العلميّ القويم، حيث أضفوا على معظم جوانب النصّ القرآنيّ طابعًا تأريخيًّا واعتبروه تلاوةً وعاملًا مكوِّنًا لأمّة من الأمم[1]. ولا نبالغ لو قلنا إنّ أهمّ نقطة ضعفٍ في هذه الاستنتاجات هي ارتكازها على فرضيّاتٍ فحواها أنّ النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتصدَّ إلى تدوين القرآن جرّاء مشاغله الكثيرة التي منعته من التفرّغ لهذه المهمّة، لكنّ الواقع على خلاف هذا المدّعى، إذ لو قيل إنّه كان مكلّفًا بتدوين نصٍّ رسميٍّ للمسلمين، ففي هذه الحالة لا يوجد أيّ مسوِّغٍ يبرّر إهماله هذه المهمّة الحسّاسة وتأخيرها إلى فترةٍ بعيدةٍ عن زمن نزول الآيات، ومهما كانت مشاغله هامّةً وكثيرةً، لكنّها لا تُعدّ مبرِّرًا يدعوه للتخلّي عن تدوين المصحف؛ لذا لا يتناسب هذا الاحتمال مع القواعد العقليّة، ولا يمكن توجيهه بأيّ ذريعةٍ كانت.

وممّا ذكره ماديجان في هذا السّياق أنّ الآيات المشتملة على لفظ (كتاب) تدلّ على أنّ ما تلاه النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله هو عبارةٌ عن وحيٍ وفي الحين ذاته تحكي عن مراحل نزوله، كما أنّها توضّح مضمونها بنفسها؛ أي أنّها تتحدّث عن نفسها، حيث قال: «المتكلّم - الناطق عن نفسه - في القرآن لا يشير -فقط- إلى نفسه، وإنّما يتحدّث عن قضايا في ما وراء ذلك»[2].

ويعتقد هذا المستشرق وأمثاله بوقوع المسلمين في خطأٍ لدى تفسيرهم بعض المصطلحات القرآنيّة؛ ومثال ذلك: مصطلحا (الكتاب) و(القرآن) اللذان فُسّرا بالمصحف، وهو تفسيرٌ غيرُ صائبٍ برأيهم[3]؛ إلا أنّ الحقيقة على خلاف نظريّتهم هذه؛ لأنّ مفهوم هذين المصطلحين لا يقتصر على المصحف فحسب، بل له ارتباطٌ -أيضًا- بمفاهيمَ أخرى؛ أحدها: الذات القرآنيّة التي هي على غرار سائر الذوات والتي لها ارتباطٌ بمفهومٍ ينمّ عن كيانٍ أكبرَ يُطلق عليه اسم (كتاب)، كما له ارتباط بسائر النصوص التي تشترك معه من هذه الناحية[4]. أضف

(284)

إلى ذلك، فالذات القرآنيّة منذ نشأتها كانت على ارتباطٍ بأهل الكتاب، لذا يجب في هذه الحالة تأييدهم لها[1].

إذًا، يعتقد ماديجان بأنّ المقصود من مفهوم (الكتاب) المشار إليه في القرآن الكريم لا يرتبط بالمصحف، بل يحكي عن عمليّةٍ متواصلةٍ وفاعلةٍ في تدوين الأحكام الدينيّة على ضوء متطلّبات الناس وظروفهم الشخصيّة والاجتماعيّة.

واستنتج ستيفان فيلد هو الآخر في بحوثه التفسيريّة أنّ مصطلحَيِ القرآن والكتاب يشيران إلى هويّتين سابقتين على رسميّة نصوص الآيات المُنزلَةَ على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، وربّما يشيران إلى النصوص المقدّسة اليهوديّة المسيحيّة[2]؛ واعتبر الكثير من الآيات التي تتضمّن كلمة (كتاب) تتحدّث عمومًا عن نمط العلاقة بين الله والإنسان وبشكلٍ أخصَّ عن واقع العلاقة بين الله والنبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلاقة الوحي المنزل عليه بالوحي المنزل على سائر الأنبيّاء الذين سبقوه[3]. وعلى أساس هذه الرؤية فالقرآن لا يطرح مسألة (الكتاب) بوصفه مفهومًا مغلقًا ضمن نطاقٍ محدَّدٍ وقابلًا للتشخيص والتعريف، بل بوصفه كيانًا فاعلًا يهدف إلى هداية الناس[4]، وفي هذا السّياق وصف ماديجان مفهوم (الكتاب) بأنّه انعكاسٌ لحركةٍ دينيةٍ في أساسها، تتمحور في غالبيّة جوانبها حول رسالةٍ توحيديّةٍ سابقةٍ من قبل اليهود والنصارى، حيث تبلورت على هيئة نسخةٍ عربيّةٍ تلقّاها النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، ثمّ نقلها إلى مخاطبيه العرب؛ لذا لو تُرجم هذا المصطلح تحت عنوان (النصّ المقدّس) ففي هذه الحالة سيكون أقربَ دلالةً إلى المفهوم المقصود منه، ولكنّ المحذور في هذه الترجمة أنّها قد تجعل القراءة القرآنيّة للنصّ المقدّس على غرار القراءة اليهوديّة المسيحيّة له، في حين أنّ القرآن يتضمّن فهمًا خاصًّا به على صعيد تدوين كلام الله[5]؛ كما أنّ وصفه نفسه بـ (الكتاب) ليس فيه أيّ إشارةٍ إلى هيئته وبنيته وطريقة نزوله، وإنّما يشير إليه باعتباره انعكاسًا وتجسيدًا لعلم الإله وقدرته، فيلبّي حاجة البشر على مرّ العصور؛ وفقًا لمقتضيات كلّ زمانٍ وظروفه.

(285)

إذًا، القرآن وفق هذا الرأي لا يتفاعل مع مخاطبيه بوصفه نصًّا قد صِيْغَ سابقًا، بل يعتبر نفسه نصًّا يتبلور فيه الكلام القاطع والموثّق للربّ في الوقت الحاضر.

وقد حاول هذا المستشرق إثبات صوابيّة نظريّته على ضوء بعض المعالم البلاغيّة للنصّ القرآنيّ؛ مثل: استخدام كلمة (قل)، وفي نهاية المطاف أكّد على أنّ (الكتاب) لا يُراد منه نصٌّ مغلقٌ، حيث فسّره على ضوء اعتقاده بشفهيّة القرآن بأنّه يضرب بجذوره في زمنٍ سابقٍ لتدوين النصّ القرآنيّ[1].

وكذلك ادّعى أنّ مفهوم مصطلح (الكتاب) في القرآن ذو طابعٍ مجازيٍّ أكثرَ من كونه حقيقيًّا؛ مستندًا في هذا الرأي إلى كثرة الاستعمال المجازيّ للفعل (كَتَب) من قِبَل المفسّرين، حيث استخدموه للدلالة على ما تدلّ عليه الأفعال (أمر وحفظ وحسب وفرض)[2]. وهناك رأيٌ آخرُ في مقابل هذا الرأي، لكنّه لا يبدو صائبًا في مجال بيان موارد استعمال هذا المصطلح، إذ فيه ما هو مقبولٌ وما ليس كذلك، وسوف نتطرّق إلى بيان تفاصيله في ما يأتي.

وقبل الخوض في تفاصيل البحث نشير إلى أنّ ماديجان ضمن تحليله مفهوم مصطلح (الكتاب) اعتمد على أسلوبٍ سيميولوجيٍّ ذي طابعٍ زمنيٍّ، ولدى بيانه المراد القرآنيّ من ذِكْر هذا المفهوم في الآيات الأولى لبعض السور التي تتحدّث عن طبيعة الوحي ونزوله، تطرّق إلى بيان كلماتٍ أخرى متناسقةٍ معه؛ والأسلوب الذي اتّبعه في هذا الصعيد قائمٌ على خلفيّاته الفكريّة، وعلى هذا الأساس قال إنّه لا يمكن تحديد مدلول هذا المفهوم عن طريق ترجمته أو مراجعة المعاجم اللغويّة، لذا لا يمكن اعتبار الكلمة المترجمة له بديلةً عنه بالتمام والكمال. وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ بعض المصطلحات القرآنيّة مكرّرةٌ وذاتُ معانٍ متنوّعةٍ، حيث تتنوّع مداليلها في رحاب استعمالها مفردةً أو مركّبةً مع كلماتٍ أخرى، وهذا الأمر بطبيعة الحال له ارتباطٌ بموضع ذِكْرها في كلّ آيةٍ وسورةٍ.

يدلّ الفعل (كَتَب) في اللغة العربيّة على ارتباط الأجزاء المكوّنة لأمر ما، واستعماله مجازًا للدلالة على الكتابة عن طريق ضمّ الحروف والكلمات بعضها إلى بعضها الآخر بالخطّ، وهو

(286)

ما أشار إليه الراغب الأصفهاني بقوله: «ضمّ الحروف بعضها إلى بعضٍ بالخطّ، وقد يُقال ذلك للمضموم بعضها إلى بعض باللفظ، فالأصل في الكتابة: النظم بالخطّ، لكن يستعار كلّ واحدٍ للآخر، ولهذا سمّي كلام الله - وإن لم يكتب - كتابًا، كقوله: (الٓمٓ 1 ذَٰلِكَ ٱلْكِتَٰبُ...) [البقرة / 1 - 2]، وقوله: (قَالَ إِنِّى عَبْدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِىَ ٱلْكِتَٰبَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّۭا) [مريم / 30]»[1]. وأضاف أنّ (الكتاب) يتضمّن جُملًا مدوّنةً إلى جانب بعضها، كما أنّ الأمر يُعدّ نوعًا من الكتابة لأنّ الآمر يبادر إلى جمع الحروف والألفاظ مع بعضها؛ والكتاب يسمّى بالعربيّة كتابًا؛ نظرًا لجمع صفحاته في مجموعةٍ واحدةٍ[2].

ويُعَدّ الكلام في أساسه حاجةً فطريّةً لدى الإنسان، وهو قائمٌ على الوضع المتّفق عليه بين أهل اللغة، وممّا قاله العلامة الطباطبائي في هذا الخصوص: «مفردات اللغة إنّما انتقل الإنسان إلى معانيها ووضع الألفاظ بحذائها واستعملها فيها في المحسوسات؛ من الأمور الجسمانية ابتداءً، ثمّ انتقل تدريجًا إلى المعنويات، وهذا وإنْ أوجب كون استعمال اللفظ الموضوع للمعنى المحسوس في المعنى المعقول استعمالًا مجازيًّا ابتداءً، لكنّه سيعود حقيقةً بعد استقرار الاستعمال وحصول التبادر، وكذلك ترقّي الاجتماع وتقدّم الإنسان في المدنيّة والحضارة يوجب التغيّر في الوسائل التي ترفع حاجته الحيويّة، والتبدّل فيها دائمًا، مع بقاء الأسماء، فالأسماء لا تزال تتبدّل مصاديق معانيها مع بقاء الأغراض المرتّبة»[3].

ونستنتج من جملة ما ذُكِرَ أنّ المعنى المتبادر من كلمة (كتاب) هو الألفاظ المدوّنة بالقلم على صفحاتٍ، حيث تنتظم فيها مجموعةٌ من المواضيع في إطار سطورٍ مكتوبةٍ يدويًّا أو مطبوعةٍ آليًّا، إلا أنّ معناه تطوّر ليُطلَق على كلّ شيءٍ تُدرج فيه المعاني، وهذا التطوّر الدلاليّ طرأ -أيضًا- على كلام الله -تعالى- ليُطلَق في القرآن الكريم على الوحي المنزل على الأنبيّاء، ولا سيّما الوحي التشريعيّ، حيث سُمّي كتابًا؛ والكتاب الموحى ُيراد منه أمرٌ سماويٌّ أُدرجت فيه سلسلةٌ من الأحكام والوقائع.

إذًا، كلمة (كتاب) إمّا أنْ يراد منها الكتب السماويّة المُنزلَةَ على الأنبيّاء؛ مثل: كتاب

(287)

نوحٍ، وصحف إبراهيم وموسى، وإمّا أنّها تعني الكتاب المبين المشتمل على جزئيّات المنظومة الكونيّة التي لا تتغيّر الحقائق المسجّلة فيه، أو ربّما فيه جزئيّاتٌ عرضةٌ للتغيّر والتحوّل، أو أنّه بمعنى السلوكات الفردية والجماعيّة المرتبطة بإحدى الأمم. هذه الكلمة لم تُستخدم في القرآن الكريم للدلالة على مفهومٍ آخرَ غيرِ هذه المفاهيم الثلاثة؛ باستثناء تلك الموارد التي اُعتبر فيها بأنّه الكتابة بالقلم[1].

واستنادًا إلى هذه الاستعمالات القرآنيّة لمصطلح (الكتاب) ضمن مختلف الآيات، يمكن تحديد معناه ضمن مدلولين أساسيّين وفق التالي:

الأوّل: المعنى الملموس والمتعارف المشار إليه في الآيات التالية: سورة الأنعام، الآية 7؛ سورة البقرة، الآية 282؛ سورة الطور، الآيتان 41 و42؛ سورة القلم، الآيتان 46 و47؛ سورة البقرة، الآية 78؛ سورة الفرقان، الآية 50.

الثاني: المعنى الاستعاري غير المتعارف: الكتاب وفق هذا المعنى إمّا أن يدلّ على كتاب عالم الوجود، ومن ثمّ فالآيات التي تتضمّن هذا المصطلح يُراد منها الإشارة إلى شتّى شؤون العالم؛ ومن جملتها: سورة الأنعام، الآية 38؛ سورة التوبة، الآية 36؛ سورة الحجر، الآية 4؛ سورة الرعد، الآية 38. وإمّا أن يدلّ على معنًى استعاريٍّ تشريعيٍّ ذي مداليلَ متنوّعةٍ يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

   ـ العلم الإلهيّ الأزليّ الذي يُشار إليه بتعابيرَ متنوّعةٍ،؛ مثل: الكتاب المبين، الكتاب المكنون، الكتاب المحفوظ، الكتاب الحفيظ، أمّ الكتاب، اللوح المحفوظ. وجدير بالذكر أنّ الكتاب المبين يراد منه النصّ المقدّس الواضح المشتمل على كلّ شأنٍ من شوؤن العلم الإلهيّ الأزليّ؛ بحيث لا يطرأ عليه تغيّرٌ ولا تحوّلٌ[2].

   ـ إرادة الله عزّ وجلّ[3].

(288)

   ـ الحكم الإلهيّ[1].

   ـ الوجوب والإيجاب[2].

   ـ الإثبات والحفظ[3].

   ـ الدليل والحجّة المعتبرة[4].

   ـ المصير والتقدير[5].

وفي ما يلي سوف نتطرّق إلى بيان المراد من مصطلح (الكتاب) في عددٍ من السور القرآنيّة على نحو الشرح والتفصيل.

الاستشهاد الأوّل الذي استند إليه دانيال ماديجان؛ لطرح استنتاجٍ يُفسّر على أساسه مفهوم (الكتاب) بشكلٍ منسجمٍ مع جميع موارد ذكره في القرآن الكريم ومتناسقٍ مع مدلول الآيات التي ذكر فيها، يتمحور حول مصطلحَيْ (أهل الكتاب) و(أهل العلم)، وفي هذا السّياق لم يفسّر هذه الكلمة بمعنى النصّ المقدّس المدوّن؛ على الرغم من ذِكْره مرارًا في النصّ القرآنيّ؛ للإشارة إلى أتباع الأديان السماويّة؛ مثل: اليهود، والنصارى، والمسلمين[6]، حيث قال: «عرّف القرآن أهل الكتاب على ضوء ارتباطهم بالكتاب، وهو لا يؤكّد -فقط- على وجوب الإيمان بالكتاب المنزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، وإنّما فيه تأكيدٌ على وجوب الإيمان بالكتاب أو الكتب السماويّة المنزلة قبله؛ فالنصّ القرآنيّ ليس هو نصوص الكتب ذاتها المنزلة قبل ذلك، بل هو كلام الله وهدًى للبشر»[7]. كما ادّعى أنّ القرآن الكريم ضمن إشارته إلى أهل الكتاب لا يقصد أنّهم يمتلكون كتابًا مدوّنًا كائنًا بين أيديهم، إذ لو كان الأمر كذلك لوجب تدوين نسخةٍ من القرآن منذ بداية الأمر، لا بعد عشرين عامًا من وفاة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ وأهل الكتاب هم في الحقيقة على غرار المسلمين؛ لكونهم لم يدوّنوا الكتاب، بل كانوا يتلونه؛ فعلى ضوء توجيه الخطاب لهم من قِبَل

(289)

أنبيّائهم، أوتوا العلم والحكمة وآزرتهم القدرة الإلهيّة؛ بحيث أصبحت لديهم إيديولوجيا دينيةٌ خاصّةٌ بهم؛ أي إنّهم لم يمتلكوا كتابًا مدوّنًا في قراطيس، لذلك وُصفوا -أيضًا- بأهل العلم؛ ولإثبات رأيه هذا استشهد بالآيتين 27 من سورة النحل و107 من سورة الإسراء[1].

وشاهده الأوّل قوله -تعالى-: (ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآءِىَ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تُشَٰٓقُّونَ فِيهِمْ ۚ قَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ إِنَّ ٱلْخِزْىَ ٱلْيَوْمَ وَٱلسُّوٓءَ عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ)[2]. فعلى الرغم من أنّ مصطلح أهل العلم ليس هو محور بحثنا، لكنْ لا نرى بأسًا في الإشارة -هنا- إلى أنّ عبارة (ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ) يُراد منها أولئك الذين لهم علمٌ بوحدانية الله -تعالى- ويعرفون حقيقة التوحيد، والآية بمجملها لها ارتباطٌ بأحداث يوم القيامة وعذاب الكفّار والمستكبرين وكلّ من أنكر نِعَم الله وكذّب الأنبيّاء ولم يؤمن برسالاتهم، وأمّا الذين أوتوا العلم فإلى جانب معرفتهم التوحيديّة، لديهم علمٌ -أيضًا- بدين الله وأحكامه، وهم -برأي ابن عباس-: الملائكة أو المؤمنين[3]؛ لذا ليس هناك ما يدلّ على وجوب تقييد هذا المصطلح بالدلالة على أهل الكتاب فقط.

وأمّا شاهده الثاني فهو قوله -تعالى-: (قُلْ ءَامِنُواْ بِهِۦٓ أَوْ لَا تُؤْمِنُوٓاْ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِۦٓ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًۭا)[4]، وفسّر عبارة: (ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِۦٓبأنّها تشير إلى الذين كانوا يعرفون الله وآياته قبل نزول القرآن على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، ولا يشترط في هؤلاء أن يكونوا من طائفةٍ معيّنةٍ، بل يمكن أن يكونوا يهودًا أو نصارى، أو من أيّ دينٍ آخرَ؛ لذا لا يوجد دليلٌ يسوّغ لنا التخصيص هنا.

ويؤيّد رأيه القائل بأنّ كلمة (الكتاب) في مصطلح (أهل الكتاب) لا تعني ذلك الشيء الملموس بالعيان والمدوّن في قراطيس، أنّ هذا المصطلح يُراد منه أهل الشريعة، ولا يدلّ بالضرورة على أصحاب الكتاب المدوّن، لذا إنْ ثبت أنّ الزرادشتيّين والبوذيّين لديهم شريعةٌ سماويّةٌ، ففي هذه الحالة يُدرجَون ضمن مفهوم (أهل الكتاب)؛ سواءً أكان لديهم كتابٌ

(290)

سماويٌّ واحدٌ أم كتبٍ عدّةُ[1]؛ ومن هذا المنطلق أُطلق على التوارة والإنجيل وسائر الكتب السماويّة عنوان (كتاب)؛ وذلك لأنّها تتضمّن أحكامًا شرعيّةً.

إذًا، فمصطلح (أهل الكتاب) لا يُراد منه الإشارة إلى كتابٍ ملموسٍ بين يدي أصحابه ضمن قراطيسَ مدوّنةٍ.

وهناك مسألةٌ جديرةٌ بالذكر؛ في هذا المضمار؛ على الرغم من عدم كونها محورًا لموضوع البحث، ألا وهي عدم صوابيّة رأي ماديجان بكون أوّل نسخةٍ مدوّنةٍ للقرآن الكريم يرجع تأريخها إلى عشرين عامًا بعد وفاة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، إذ ليس هناك دليلٌ يثبت هذا المدّعى[2]، وظهور المصحف على هيئته المتعارفة بين المسلمين في عهد عثمان بن عفّان لا يُعدّ دليلًا على عدم امتلاك المسلمين قبل ذلك نسخةً مدوّنةً، إذ إنّ تدوين النصّ القرآنيّ بدقّةٍ يُعدّ من الخطوات الأولى في الدعوة النبويّة، والنبيّ بدوره أعار اهتمامًا بالغًا لهذا الأمر، كما أنّ تنظيم الآيات ضمن سُوَرها تمّ في رحاب وحي السماء وتحت إشرافه مباشرةً؛ بينما الصحابة لم يكنْ لهم أيّ دورٍ مستقلٍّ في ذلك، إلا أنّ ماديجان نسب تدوين المصحف إليهم ووصفهم بمجتمع ما بعد النبيّ[3]؛ فضلًا عن وجود الكثير من الروايات التي تؤكّد على أنّه حدّد موضع بعض الآيات في سورها بشكلٍ دقيقٍ[4].

كما أنّه لم يُصبْ في رأيه؛ حينما قارن مصطلح (الكتاب) المذكور في العديد من الآيات مع مصطلح (أهل الكتاب)؛ بغية بيان المفهوم الحقيقيّ له في القرآن الكريم، فهذه المقارنة تعدّ مصداقًا للقياس مع الفارق، ومن ثمّ لا يمكن إثبات المدّعى على أساسها، فالكتاب المضاف إلى كلمة (أهل) لا يُراد منه ذلك الكتاب الملموس المدوّن في قراطيس؛ أي لا يُقصد منه المفهوم الحقيقيّ للكلمة؛ لكنْ ليس هناك ما يسوّغ للباحث تعميم هذا الأمر على سائر الآيات

(291)

التي تضمّنت كلمة (كتاب) وادّعاء أنّه لا يشير إلى المعنى الحقيقيّ؛ لأنّ الكلمات، حتّى وإن تشابهت في البنية اللغويّة -هنا- إلا أنّها ذاتُ مفاهيمَ ومصاديقَ متنوّعةٍ ومتباينةٍ.

وحاول ماديجان إثبات أنّ الكتاب استُخدم بشكلٍ مجازيٍّ ضمن جميع الآيات التي ذُكِرَ فيها، وفي هذا السّياق استدلّ ببعض المصطلحات؛ مثل: (أمّ الكتاب)، والآيات الأولى التي تتضمّن كلمة (كتاب)؛ كالآية الأولى من سورة الزخرف؛ لكنّ الواقع على خلاف رأيه هذا، إذ ليس هناك ما يسوّغ لنا ادّعاء أنّ استعمال هذه الكلمة جاء بصيغةٍ مجازيّةٍ في الآيات القرآنيّة قاطبةً، أي إنّ بعضها يشير إلى حقيقةٍ ملموسةٍ وموجودةٍ بين يدي المسلمين باسم القرآن والمصحف.

وقد فُسّر مصطلح (أمّ الكتاب) في التفاسير التقليديّة؛ باعتباره مفهومًا يشير إلى المصداق السماويّ للكتاب، والذي هو مصدر جميع الكتب المُنزلَةَ على الأنبيّاء؛ وبمن فيهم النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ وقد أثبتنا في بادئ الباب لدى تحليلنا الآيتين 21 و22 من سورة البروج والآيات 2 إلى 4 من سورة الزخرف، أنّ (أمّ الكتاب) عبارةٌ عن مصدرٍ محفوظٍ عند الله -تعالى-، وأنّه مصدرٌ لرسالات السماء والنصوص المقدّسة، وكذلك مصدرٌ وأساسٌ للتعاليم والحقائق التي جاء بها الأنبيّاء والمرسلون[1]. وهذا التفسير يتناغم في مضمونه مع ما ذهب إليه هذا المستشرق، فمصطلح أمّ الكتاب ذو معنًى رمزيٍّ برأيه، حيث قال: «هذه العبارة تعني أنّ العلم والقدرة الحقيقيّين هما لله، وبالتالي فإنّ كلّ حركةٍ إرشاديّةٍ مقتدرةٍ وشاملةٍ تُوكلَ إلى الأنبيّاء، لا بدّ وأنْ تكون منبثقةً منهما»[2]. ونلمس من هذا الكلام أنّه فسّـر المصطلح المذكور بشكل يتناغم مع ما ذُكِرَ في التفاسير الإسلاميّة التقليديّة والتي تؤكّد على أنّ الله -عزّ وجلّ- محيطٌ بجميع أحوال الكائنات وشؤونها؛ ومن أفعاله هداية البشر عن طريق الأنبيّاء والرسل؛ لكنّ السبب في سعيه إلى تعميم هذا المعنى على جميع موارد استعمال كلمة (كتاب) في القرآن الكريم بزعم أنّها تحكي عن مفهومٍ مشتركٍ، ناشئٍ من إصراره المبالغ فيه على شفهيّة النصّ القرآنيّ، واعتقاده بوجود فاصلةٍ زمنيّةٍ بين فترة نزوله والفترة التي تمّ تدوينه فيها، حيث ادّعى أنّ مراحل تدوينه تشابه مراحل تدوين الكتاب المقدّس.

(292)

وقد فسّر ماديجان كلمة (كتاب)؛ حتّى في بعض الآيات التي لا تتضمّن إضافاتٍ سابقةٍ أو لاحقةً لها، التفسير ذاته الذي طرحه لها في سائر الآيات، أي إنّه اعتبرها ذات دلالةٍ رمزيّةٍ مجازيّةٍ؛ إذ لم يفرّق بين كونها مفردة أو مضافةٍ إلى ألفاظٍ أخرى، وعلى هذا الأساس وسّع معناها بوصفها رمزًا لعلم الله -تعالى- وحكمته وقدرته، ومن جملة الآيات التي استدلّ بها، الآية 59 من سورة الأنعام التي وصف هذه الكلمة فيها بأنّها ذات ارتباطٍ بالعلم الإلهيّ: (وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَآ إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍۢ فِى ظُلُمَٰتِ ٱلْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍۢ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِى كِتَٰبٍۢ مُّبِينٍۢ)[1]، وهذا التفسير يتناغم مع ما ذكره المفسّرون المسلمون لهذه الآية[2].

والصفة (مبين) -هنا- تُعدّ واحدةً من القرائن التي دعته لأنْ يعتبر الكتاب مرتبطًا بالعلم الإلهيّ، فهي برأيه صفة للقرآن ولكتاب أعمال الإنسان أو أعمال الأمّة بأسرها؛ لأنّ كتاب الأعمال يوصف بالمبين على ضوء الإيمان بكون الله -تعالى- أعلم بأعمال[3] عباده[4].

والحقيقة أنّ هذه الصفة؛ سواءً أكانت للقرآن أم لكتاب الأعمال، فهي لا تدلّ على وحدة مدلول مصطلح (كتاب) في كلا الأمرين؛ وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّها استُخدمت في القرآن الكريم لوصف ضلال الناس أيضًا[5]، أضف إلى ذلك فقد ذكر هذا المستشرق مدلولًا قرآنيًّا آخرَ

(293)

في تفسيرها، وذلك على ضوء ارتباطها بالقدرة الإلهيّة وكيفيّة إجراء هذه القدرة بشكلٍ عمليٍّ[1].

وممّا أكّد عليه -أيضًا- أنّ مصطلح (كتاب)؛ بحسب هذه المعاني يُوحي بأنّ الأوامر الشرعيّة تمّ تدوينها في كتاب[2]، لكنّه عبارة عن أمرٍ رمزيٍّ ومجازيٍّ؛ كما أنّ كلمتَيْ آية وحكمة المذكورتين إلى جانب هذا المصطلح في بعض الآيات لهما أهمّيّةٌ بالغةٌ في معرفة المدلول الحقيقيّ له، ومن جملة الآيات التي ذكر فيها ما يلي:

ـ (رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًۭا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ)[3].

ـ (كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًۭا مِّنكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ)[4].

ـ (لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًۭا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍ)[5].

ـ (هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلْأُمِّيِّۦنَ رَسُولًۭا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍۢ)[6].

فكلمة (الحكمة) فسّرها لغويًّا على أساس الجذر اللغويّ لها (حَكَمَ) الذي يعني الحكم والقضاء والقرار، فهي بهذا المضمون تعني الأوامر الإلهيّة[7].

وعلى الرغم من أنّ كلمة (الحكمة) في هذه الآيات ذات مدلول متناسق مع مفهوم (الكتاب)، لكن نظرًا لوجود حرف العطف (الواو) بينهما، يمكن اعتبارهما متباينين، لذا ليس

(294)

من الصواب بمكان ادّعاء أنّها جزءٌ منه، فالمقصود في هذه الآيات أنّ الله -تعالى- إلى جانب تعليم الكتاب للناس، فهو يعلّمهم الحكمة أيضًا؛ فضلًا عن وجود ترافقٍ لفظيٍّ في النصّ القرآنيّ بين الكتاب من جهةٍ، والحكمة والتعليم من جهةٍ أخرى، إلى جانب ارتباط هذا المصطلح بألفاظٍ أخرى؛ مثل: التنزيل، والوحي، والنبيّ، والله؛ وهذا الارتباط المتواكب مع تعليم مضمون الكتاب للنبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وإيتائه أو إنزاله من جانب الله -عزّ وجلّ- عليه، يوجب إيجاد معنى قريب لما استنتجه ماديجان[1]، ولا يعني أنّ الحكمة يراد منها الكتاب المقروء.

وهذه الآيات؛ فضلًا عمّا ذُكِرَ أشارت إلى تعليم الكتاب؛ بوصفه رسالةً دينيّةً حملها الأنبيّاء لهداية البشر: (وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍۢ)، وهنا يتمحور الكلام حول سلسلةٍ من القوانين والأحكام التي هي ثمرةٌ لرسالة الأنبيّاء أولي العزم، وهو ما يُطلَق عليه اصطلاح (شريعة)، لذا لا يُراد منه أمرٌ رمزيٌ للعلم الإلهيّ.

ومصطلح (آية) برأي ماديجان يحكي عن كلّ أمرٍ تتبلور فيه إرادة الله -تعالى- ونهجه في عالم الخلقة؛ سواءً أفي الطبيعة، أم في التاريخ، أم في التشريع، أم في الوحي، والهدف منها هو تحفيز البشر على التفكّر الذي يُثمر إيمانَهم في نهاية المطاف؛ لكنّ المقصود من هذا المصطلح في

(295)

الآيات الثلاثة التي ذكرناها يختلف عن هذا الاستدلال، والعبارات التي جاء فيها بحسب الترتيب؛ هي: (يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِكَ)، (يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِنَا) (يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ)، إذ التلاوة بطبيعة الحال تختصّ بالألفاظ لا بكلّ شيءٍ يحكي عن الإرادة الإلهيّة؛ مثل: الطبيعة، والتأريخ، وما إلى ذلك؛ لذا يمكن تفسيرها في هذه العبارات بمعنى قراءة الآيات التي أنزلها الله -تعالى- على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ كي يبلّغها للناس ولا تدلّ على المعنى الذي تبنّاه هذا المستشرق؛ كما أنّ أحد المفسّرين اعتبر قوله -تعالى-: (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ) في سورة الجمعة عطفَ تفسيرٍ على العبارة السابقة (يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ)؛ أي أنّ العبارة اللاحقة تفسيرٌ للسابقة[1].

إذًا، المعنى الذي استنتجه ماديجان يشير في الحقيقة إلى المفهوم العامّ لمصطلح (آية)، لذا لا يمكن تسريته إلى الآيات المترافقة مع الفعل (يتلو)، ولا سيّما في الآيتين 164 من سورة آل عمران و2 من سورة الجمعة اللتين ذُكرتا ثمرةً التلاوة؛ لذا لا يمكن قبول تفسيره للكتاب بأنّه رمزٌ لعلم الله -تعالى- وقدرته؛ إلا بالشرطين التاليين:

الشرط الأوّل: عدم تسرية هذا التفسير إلى جميع الآيات التي ذكر فيها.

الشرط الثاني: الآيات التي ينطبق هذا التفسير عليها، لا يمكن تخصيصها حصرًا بدلالة مصطلح الكتاب على معنًى رمزيٍّ.

لا شكّ في أنّ الكتاب يشمل في آياته علم الله وأوامره، فهو -تبارك شأنه- خالقٌ للكائنات قاطبةً، وعالمٌ بحقائق جميع الأمور؛ وهو الحاكم عليها؛ والكتاب بدوره يبيّن هذا العلم والاقتدار، لذا فهو ليس مجرّد رمزٍ له، إذ بعث الأنبيّاء والرسل لهداية الناس إلى حقائق الكون والتفكّر فيها.

والكتاب فيه آياتٌ، وهذه الآيات فيها علمٌ وأوامرُ إلهيّةٌ، وهذه الأوامر تصل إلى البشر عن طريق الأنبيّاء، فيهتدوا على إثرها، ومن ثمّ فهو مشتملٌ على علم الله -تعالى- وقدرته، وليس هو مجرّد رمزٍ لهما.

وأحد الآراء التي تبنّاها هذا المستشرق أنّ تسمية هذا الخطاب الإلهيّ بالكتاب، ليست

(296)

بسبب شكله وبنيته التي قوامها شفهيّته ومقبوليّته، وإنّما لأجل منشئه الذي هو العلم الإلهيّ وطبيعته الإبلاغيّة وبيانه الواضح للأوامر الشرعيّة، وإعطاء الناس كتابًا يعني دعوتهم إلى الإيمان بالمصدر الربّاني لتلاوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، ثمّ إطاعتهم لما فيه من أوامرَ، وبعد ذلك تلاوته، فهكذا يتشخّص إعطاء الكتاب[1].

وفي مقابل هذا الرأي السيميولوجي هناك رأيٌ تبنّاه معظم الباحثين الغربيّين إزاء تفسير مصطلح (كتاب)، وقوامه أنّ تفسير المسلمين لهذا المصطلح يتناغم مع مدلوله اليهوديّ المسيحيّ، أي أنّهم استلهموا معناه من موارد استعماله لدى المسيحيّين واليهود؛ وعلى هذا الأساس اعتبروه مصطلحًا يشير إلى النصّ المدوّن أو المصحف. وفي هذا السّياق وصفوا استعماله في القرآن الكريم دليلًا على أنّ النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حاول وضع نصٍّ مقدّسٍ لأمّته على غرار النصّ المقدّس لليهود والنصارى.

واستنتج المستشرق ويدينغرين من دراساته حول التأريخ الدينيّ للشرق الأدنى أنّ النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعتبر نفسه أوّل شخصٍ يأتي للناس بكتابٍ دينيٍّ مدوّنٍ.

ويرى المسشترقان الألماني ثيودور نولدكه والفرنسي كلود شيفالي أنّه لو افترضنا أنّ النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كان على علمٍ بحلول الكتاب الذي جاء به محلّ الكتاب المقدّس؛ ليصبح سندًا قطعيّا ينمّ عن إرادة الإله، فمن المؤكّد أنّه كان يحفظه بشكلٍ مدوّنٍ.

واعتبر ريتشارد بيل بدوره مصطلح (الكتاب) المذكور في الآيات القرآنيّة يحكي عن نصٍّ مختلفٍ عن القرآن، لكنّه تحوّل في نهاية المطاف إلى بديلٍ عنه؛ وادّعى أنّ هذا النصّ الذي بين يدي المسلمين؛ والمسمّى (قرآن) هو عبارةٌ عن مجموعةٍ من الآيات التي يحتمل أنّها جمعت خلال الفترة القريبة من حرب بدر، والمقصود من الكتاب هو تدوين الوحي بالكامل؛ بحيث يشتمل على كافّة العناصر التي اعتبرها هذا المستشرق بنيةً أساسيّةً صِيْغَت على أساسها مراحل تطوّر الوحي؛ مثل: العبارات المكوّنة للآيات والتي تحكي عن العذاب، وسائر محتويات النصّ القرآنيّ.

ولعلّ المستشرقة أنجليكا نويورث هي الوحيدة التي اعتبرت هذا المصطلح رمزًا لتراث النبوّة المشترك، فهو برأيها يحكي عن التراث التأريخيّ المشترك بين الأنبيّاء والذي قِوامه دعوة

(297)

البشر إلى النجاة من العذاب، وفي رحابه يشترك المسلمون مع اليهود والمسيحيّين؛ وضمن اعتقادها بوجود اختلافٍ بين الكتاب والقرآن أكّدت على أنّ بعض الآيات القرآنيّة -فقط- مستوحاةٌ من الكتاب، لا كلّها[1]، وأمّا الآيات الأخرى فقد أُضيفت إليه لاحقًا[2].

ولو تتبّعنا الموضوع سوف لا نجد ما يؤيّد هذا التفكيك بين الآيات القرآنيّة، حيث أثبتنا في هذا الباب ضمن تحليل قراءة يوسف درّة الحدّاد لمصطلح (كتاب) أنّه يمكن أن ينطبق مع القرآن الكريم إلى حدٍّ ما من حيث المدلول؛ في ما لو اعتبرنا المقصود منه (الكتاب السماويّ) والمقصود من القرآن (التلاوة)؛ وأفضل مثالٍ على ذلك: الآيات الأولى من سورتي الحجر والنمل[3]؛ وإضافةً إلى ما ذكرنا في بداية الباب لدى تحليلنا مضمون الآيات الأولى التي تتضمّن هذين المصطلحين، فقد تكرّر المضمون ذاته في الآيتين 29 و30 من سورة الأحقاف: (وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَرًۭا مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوٓاْ أَنصِتُواْ ۖ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ 29 قَالُواْ يَٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَٰبًا أُنزِلَ مِنۢ بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًۭا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِىٓ إِلَى ٱلْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ). ونقل عن الجنّ في الآية الأولى قولهم (أَنصِتُواْ)، وفي الآية الثانية قولهم (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَٰبًا).

أضف إلى ذلك أنّ هناك آياتٍ تشير إلى تلاوة كتابٍ سماويٍّ، ومن جملتها ما يلي:

ـ (وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ لَيْسَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ عَلَىٰ شَىْءٍۢ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ لَيْسَتِ ٱلْيَهُودُ عَلَىٰ شَىْءٍۢ وَهُمْ يَتْلُونَ ٱلْكِتَٰبَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)[4].

ـ (ٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ ٱلْكِتَٰبَ يَتْلُونَهُۥ حَقَّ تِلَاوَتِهِۦٓ أُوْلَٰٓئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِۦ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ)[5].

(298)

ـ (أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَٰبَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[1].

ـ (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌۭ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِى ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَٰبًۭا نَّقْرَؤُهُۥ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًۭا رَّسُولًۭا)[2].

ـ (وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِۦ مِن كِتَٰبٍۢ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًۭا لَّٱرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ)[3].

وعلى الرغم من أنّ هذه الآيات لم تُذكَر في مُستهلّ السُّوَر، إلا أنّ مصطلح (الكتاب) المذكور فيها لا يدلّ على وجود أيّ اختلافٍ بين الكتاب المقصود منه تلك الآيات المختارة من الكتاب السماويّ وبين غيره من الكتب؛ كما أنّه لا يوحي بمدلولٍ رمزيٍّ، بل يحكي عن أمرٍ واقعيٍّ وملموسٍ حتّى وإنْ لم يكنْ على هيئة مصحفٍ مدوّنٍ.

والمراد من الكتاب في الرؤية الإسلاميّة التقليديّة هو نصٌّ مقدّسٌ معلومٌ يتضمّن تشريعاتٍ ومواعظَ أخلاقيّةً وأصولًا عقديّةً، إلى جانب قضايا فرديّةٍ واجتماعيّةٍ؛ والقرآن الكريم؛ وفقًا لهذه الرؤية سواءً أكان على هيئة كتابٍ مدوّنٍ - مصحفٍ -، أم كان محفوظًا في الصدور، يُطلق عليه عنوان (كتاب)[4].

وقد بيّن العلامة محمّد حسين الطباطبائي المقصود من مفهوم (كتاب) في عبارة (كتاب مبين) على ضوء الاحتمالات التالية:

أوّلاً: الكتاب المبين أوجده الله -سبحانه وتعالى-، ويشتمل على علمه المكنون في اللوح المحفوظ، وقد أشير إليه في بعض الآيات بالكتاب؛ لأجل بيان إحاطته العلميّة -تبارك شأنه- بكلّ شيءٍ.

لقد أوجد الله هذا الكتاب؛ لكي يثبت للكائنات إحاطته العلميّة بكلّ شيءٍ، لذا من المحتمل أن تكون عبارة: (إِلَّا فِى كِتَٰبٍ مُّبِينٍ)؛ تكرارًا لعبارة (إِلَّا يَعْلَمُهَا)؛ لأنّ العبارتين كلاهما لهما المدلول نفسه.

(299)

ثانيًا: الكتاب المبين هو مجرّد كتابٍ، لكنْ في الحين ذاته هو ليس من سنخ اللوح والقرطاس؛ لأنّ القراطيس لا تستوعب كلّ تفاصيل التأريخ الأزليّ للكائنات.

ثالثًا: هذا الكتاب متقدّمٌ رتبةً على الكائنات الموجودة في الخارج، وسيبقى بعد زوالها.

رابعًا: هذا الكتاب يتضمّن تفاصيل جميع الحوادث وأحوال الكائنات، فهي مسجّلةٌ بجزئيّاتها الدقيقة، لذا يمكن اعتبار أنّ هذه التفاصيل هي سطور الكتاب.

والكتاب المبين فيه معلوماتٌ تفصيليّةٌ حول كلّ كائنٍ قبل خلقه وبعده، لذا فهو موجودٌ قبل خلق الكائنات وسيبقى بعدها؛ أي إنّه كيانٌ حقيقيٌّ سُجّلت فيه شؤون الوجود قاطبةً.

خامسًا: على الرغم من طروء تغيّراتٍ على الكائنات، إلا أنّ الكتاب يبقى على هيئته ولا يطرأ على محتواه أيّ تغيّرٍ[1].

ثمّ وضّح هذا التفسير لقوله -تعالى-: (إِلَّا فِى كِتَٰبٍ مُّبِينٍ)؛ على ضوء مدلول قوله -تعالى-: (كَانَ ذَٰلِكَ فِى ٱلْكِتَٰبِ مَسْطُورًا)[2]، حيث قال إنّ الكتاب المبين أو اللوح المحفوظ هو متن الأعيان؛ بما فيه من الحوادث والكائنات، وما يرتبط بها من وقائعَ، وحتميّة وقوع هذه الحوادث والوقائع لكون كلّ واحدةٍ منها متوقّفةً على علّتها، «فالحقّ أنّ الكتاب المبين هو متن الأعيان بما فيه من الحوادث من جهة ضرورة ترتّب المعلولات على عللها، وهو القضاء الذي لا يردّ ولا يبدّل، لا من جهة إمكان المادّة وقوّتها؛ والتعبير عنه بالكتاب واللوح لتقريب الأفهام إلى حقيقة المعنى بالتمثيل»[3].

وقد فسّر بعض المفسّرين الكتاب المبين في قوله -تعالى-: (إِلَّا فِى كِتَٰبٍ مُّبِينٍ) بعلم الله، واعتبروه توكيدًا لقوله -تعالى-: (إِلَّا يَعْلَمُهَا)، فهو علم الله، ولا فرق في ذلك بين كون الكتاب حقيقيًّا أو مجازيًّا؛ لأنّه سجلّ لكلّ شيءٍ ولا يطرأ عليه أيّ تغيّرٍ. وفي هذا السّياق أعربوا عن عدم علم البشر بطريقة تدوين الله -سبحانه وتعالى- لهذا الكتاب؛ لأنّه لم يطلعنا على

(300)

كُنه ما هو مكتوب فيه، والقرطبي بدوره فسّر الكتاب المبين في الآية المذكورة باللوح المحفوظ، وذلك لأجل أنْ تطّلع عليه الملائكة ولا تنساه؛ لكنّ هذا لا يعني أنّ الله دوّن ما يشاء في اللوح لأجل أّلا ينساه، وإنّما أراد التأكيد على أهمّيّة ما فيه[1].

إذّا، يتّضح لنا أنّ دانيال ماديجان لا يفرّق بين مختلف استعمالات مصطلح (كتاب) في القرآن الكريم؛ بحيث حاول جمعها ضمن معنًى رمزيٍّ مشتركٍ، وإصراره على هذا الرأي ناشئٌ من اعتقاده الراسخ بكون القرآن الكريم قد دُوّن بعد مدّةٍ طويلةٍ من نزوله؛ ولكن بالنسبة إلى تلك الموارد التي أطلق عنوان (الكتاب) عليه نقول إنّ هذا الإطلاق لا يعني بالضرورة كون بعض آياته مدوّنةً في بادئ الأمر[2]؛ كي يدّعي هذا المستشرق ومن حذا حذوه أنّه يحكي عن شيءٍ رمزيٍّ. حتّى لو سلّمنا برأيهم هذا، فإنّ إطلاق عنوان كتاب على القرآن قبل تدوينه يُعدّ ضربًا من الاستعارة التي فحواها أنّ اجتماع الحروف مع بعضها في لفظٍ واحدٍ شبّه باجتماع الحروف وتناسقها ضمن الكتابة[3]؛ أو أنّه من سنخ المجاز المرسل؛ بحسب القرينة الأولى، ورابطة الاشتمال في ما بينهما؛ بلحاظ أنّه سوف يدوّن لاحقًا[4]؛ أو أنّه بمعنى الكتاب الذي من شأنه أن يدوّن؛ مثلما أنّ القرآن من شأنه أن يقرأ، ومثل كون الإله من شأنه أن يُعبَد[5].

وخلاصة الكلام: أنّ دانيال ماديجان لا يعتقد بوجود سماءٍ مشحونةٍ بالفوضى والتشتّت؛ بحيث تنزل منها كتب وأخبارٍ متنوّعةٍ، بل حاول طرح مفهومٍ موحّدٍ وشاملٍ للقرآن على ضوء مصطلح (الكتاب)، وهو مفهومٌ أساس وبنيويٌّ للكتاب القرآنيّ يتناسق مع المعنى اللغويّ للفعل (كتب)؛ إلا أنّه لم ينجح في مساعيه هذه ولم يثبت المطلوب، بل غاية ما في الأمر أنّه أشار إلى أحد المداليل المحدودة ضمن نطاقٍ ضيّقٍ يشترك فيه مفهوما القرآن والكتاب، على ضوء مختلف معاني مصطلح (الكتاب) في النصّ القرآنيّ، وهذه المعاني لا تندرج طبعًا تحت

(301)

مفهومٍ واحدٍ؛ كما تصوّر. وعلى الرغم من أنّ جميع المعاني المفترضة للكتاب تستبطن مفاهيمَ تدلّ على العلم والاقتدار، لكنّ كلّ واحدٍ منها يتّسم بجوانبَ دلاليّةٍ واسعةِ النطاق تجعل مفهوم هذا المصطلح متنوّعًا؛ بحيث يدلّ على معنًى خاصٍّ في كلّ استعمالٍ قرآنيٍّ. أضف إلى ذلك ينبغي التنويه -هنا- إلى أنّ كلّ رمزٍ ضمن دلالته على واحدٍ من التصوّرات الذهنيّة، هو عبارةٌ عن استعارةٍ لا يمكن تخصيص مدلولها على مشبّهٍ معيّنٍ دون وجود قرينةٍ تدلّ على ذلك، وما دام يحكي عن معنًى مغايرٍ للمعنى الظاهريّ ويستبطن مضمونًا مجازيًّا، فهو يُدرج ضمن التصوّرات الموازية للجانب الاستعاريّ، وإضافةً إلى معناه المجازيّ من الممكن أن يحكي -أيضًا -عن معنًى حقيقيٍّ وُضِعَ له، ومع ذلك فهو لا يخرج عن نطاق كونه ضربًا من التصوّر الذهنيّ؛ ولكنْ بما أنّ عدم وجود القرينة يجعله غيرَ مقيَّدٍ بمدلوله المجازيّ المحدود بجانبٍ واحدٍ للتصوّر الذهنيّ والجانب الملموس في حياة الإنسان، فهو ينفكّ بطبيعة الحال عن التصوّرات ويتجاوز نطاق الغموض الاستعاريّ والكنائيّ؛ ليحتلّ مرتبةً أعلى من ذلك[1].

والتصوّر والمدلول الرمزيّ كلاهما مِضماران لشتّى المعاني والتصوّرات، وهذه المرونة والتنوّع والتوسّع في الجانب الدلاليّ تُعدّ من خصائص الرمزيّة، وهو ما أكّد عليه الباحث يونغ؛ حينما قال: «ما نطلق عليه عنوان (رمز) هو عبارةٌ عن اصطلاحٍ أو اسمٍ أو حتّى تصوّرٍ يحكي عن أمرٍ مألوفٍ في حياتنا اليوميّة، وإضافةً إلى معناه الظاهر والمتعارف، فهو يتضمّن معانيَ تلميحيةً خاصّةً أيضًا»[2]. إذًا، حينما يتمحور الكلام حول المعنى، فالرمز يُطرَح على طاولة البحث أيضًا.

وجدير بالذكر أنّ التفاسير الباطنيّة عرّفت الرمز وفق التالي: «الرمز هو أمرٌ باطنيٌّ ومكنونٌ في كُنه الكلام الظاهر؛ بحيث لا تتسنّى معرفته إلا بواسطة من هو أهل لذلك؛ والطبيعة الرمزيّة تحكي عن حقائق الغيب في دقائق العلم التي تتبلور ضمن الألفاظ اللغويّة وتنعكس في أسرار الحروف»[3].

(302)

وبناءً على ما ذُكِرَ حتّى لو اعتبرنا (الكتاب) المذكور في الآيات الأولى من السور القرآنيّة بأنّه يرمز إلى علم الله -تعالى- وقدرته؛ وفق معايير القضاء المحتوم، فالسؤال التالي يبقى بحاجةٍ إلى إجابةٍ شافيةٍ: ما السبب في عدم إسهام هذا الرمز بتبلور معنًى ملموسٍ لما يرمز إليه؟ إذ إنّ هذا الرمز -الكتاب- لا بدّ أنْ يكون على ارتباطٍ ذاتيٍّ وطيدٍ بالحسّ والشعور؛ وفي هذا السّياق، قال الباحث بيل تيليش: إنّ الرمز بحدّ ذاته يمكن أن يحكي عن أمرٍ ملموسٍ ومعروفٍ لدى الإنسان، لكنّه يمنح من يلجأ إليه الفرصة؛ لإدراك معانٍ أبعدَ من نطاق المعنى المحدود الذي تمّ تحصيله عن طريق المرتكزات الأولى للحسّ والتجربة[1]. وعلى هذا الأساس إنْ أردنا تشذيب نظريّة ماديجان التي طرحها لبيان المعنى المقصود من مصطلح (الكتاب) في القرآن الكريم، يمكن أنْ يقال إنّ الكتاب في الآيات الأولى التي تطرّقنا إلى شرحها وتحليل مضامينها؛ يعني المصحف؛ أي النصّ المدوّن الذي هو في الحقيقة رمزٌ لعلم الله -تعالى- وقدرته؛ وكما ذكرنا فالرمز بشكلٍ عامٍّ ينوب عن معنًى أدقَّ من المعنى اللفظيّ والحقيقيّ، ومن ثمّ لا يضمحلّ هذا المعنى في باطنه؛ بحيث يمحى بالكامل، ولا بدّ من الإشارة -هنا- إلى أنّ الرمز في عين كونه رمزًا، فهو يجسّد ذاته أيضًا، وفي الكلام الاستعاريّ لا يمكن تصوّر المعنى الظاهريّ للألفاظ بطبيعة الحال؛ نظرًا لوجود قرينةٍ صارفةٍ عن ذلك، وهذه القرينة هي الاستعارة طبعًا، بينما الرمز على العكس من ذلك؛ بحيث يمكن تصوّر المعنى الظاهريّ له.

فما الذي يسوّغ لنا الاعتقاد بأنّ مصطلح (الكتاب) في القرآن الكريم لا يتّصف بمعناه اللفظيّ الحقيقيّ إلى جانب اتّصافه بالمعنى الرمزيّ الذي ذكره ماديجان؟ هذا المصطلح في الآيات الأولى لبعض السور القرآنيّة يتّصف بمعنًى رمزيٍّ يتطابق مع ما ذهب إليه هذا المستشرق، وإلى جانب ذلك فهو يتّصف -أيضًا- بمعنًى لفظيٍّ حقيقيٍّ؛ ولو قيل إنّ هذا المعنى مضمَرٌ بالكامل في باطن المعنى الرمزي؛ بحيث لا يمكن استكشافه، ففي هذه الحالة هل يمكن لأحد توضيح السبب في تأكيد الله -تعالى- على ذِكْر كلمةٍ واحدةٍ - كتاب - بغية بيان علمه وقدرته؟ كذلك لا توجد قرينةٌ في هذه الآيات تصرف اللفظ عن معناه الحقيقيّ، وليست هناك ألفاظٌ تجعل الكتاب ذا معنًى مجازيٍّ ورمزيٍّ بحتٍ، إذ بحسب مقتضى الحال

(303)

-هنا- من شتّى النواحي الزمانيّة والمكانيّة، إلى جانب اقتضاء ظروف المخاطب، لا يمكن تقييد معناه بهذه الدلالة، ومن ثمّ فهو في صدد بيان معنًى حقيقيٍّ إلى جانب معناه المجازيّ ذي الطابع الرمزيّ؛ فضلًا عن ذلك نستشفّ من ظاهر بعض الآيات أنّ القرآن الكريم جاء ليُتلى على الناس بالصورة ذاتها التي أُنزل فيها، ومن جملتها قوله -تعالى-: (وَقَالُواْ لَوْلَآ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَٰتٌۭ مِّن رَّبِّهِۦ ۖ قُلْ إِنَّمَا ٱلْءَايَٰتُ عِندَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَا۠ نَذِيرٌۭ مُّبِينٌ 50 أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَرَحْمَةًۭ وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍۢ يُؤْمِنُونَ 51)[1].

ولا شكّ في أنّ هناك زمانًا محدَّدًا تبلور فيه القرآن على هيئة (كتاب) وصف بالمصحف، وبات كيانًا مختلفًا عن سائر الكتب السماويّة، حيث لم تنزل آياته في آنٍ واحدٍ، وكلّما تنزل آيةٌ على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يكرّرها؛ لكي تبقى محفوظةٌ في ذهنه، ثمّ يقرأها على صحابته الحاضرين؛ لأجل أن يحفظوها أيضًا؛ وهذه العمليّة المتبادلة في القراءة والإقراء بين جبرائيل عليه‌السلام والنبيّ، وبين النبيّ والصحابة، هي السبب في تسمية الآيات المنزلة قرآنًا.

وهذا العنوان -كتاب- لم يُطلَق على القرآن خلال المراحل الأولى من نزول آياته، لكنّه أطلق عليه بعد مدّةٍ؛ فقبل تلك الفترة كان يُطلق على مفهوم الكتاب بشكلٍ عامٍّ، وعلى النصّ المقدّس لدى أهل الكتاب؛ أي التوراة، وعلى اللوح المحفوظ أيضًا؛ والضرورة بطبيعة الحال كانت تقتضي وجود مقدارٍ كافٍ من الوحي المقروء على أسماع الناس؛ كي يمكن إطلاق عنوان (قرآن) عليه، لذا كان من الضروري اجتماع آيات الوحي ضمن نصٍّ حتّى يصدق عليها عنوان (كتاب)[2]. والقرآن الكريم أطلق على نفسه عنوان (كتاب)، وهذا الوصف يعني أنّه كتابٌ سماويٌّ؛ حاله حال التوراة والإنجيل[3].

وخلاصة الكلام: أنّ علم الله الواسع وقدرته اللامتناهية، متبلوران في تدوين النصّ القرآنيّ وفي مضامين آياته[4]، كما أنّ الكتاب إلى جانب دلالته على المصحف - النصّ المدوّن

(304)

- فهو يرمز أيضًا إلى علم الله -تعالى- وقدرته، بل يشترك معهما؛ لدرجة أنّ تجاهله وعدم احترامه والتجرّؤ عليه بمثابة التعدّي على قدسيّة الذات الإلهيّة المباركة. ومن هنا، يثبت لنا أنّ القرآن الكريم عبر ذِكْره لفظ (كتاب)، قد استعرض للناس مفهومًا واضحًا ومعبّرًا تمتزج فيه الرفعة والقدسيّة مع هيبة الكلام المدوّن، لذا ليس من الصواب بمكانٍ اعتبار هذا اللفظ دالًّا على مفهومٍ مجازيٍّ في جميع الآيات التي تشتمله، وبالتالي لا صحّة لرأي دانيال ماديجان الذي أكّد فيه على رمزيّته وعدم استبطانه مفهومًا حقيقيًّا؛ وما أثبتناه هنا ينسجم مع تفسير قاطبة المفسّرين المسلمين[1].

ويقول المستشرق نيكولاي سيناي في هذا الصدد: «لا يوجد أيّ مؤشّرٍ في القرآن يدلّ على أنّه يعتبر نفسه الكتاب ذاته، فهناك اختلافٌ ماهويٌّ صريحٌ بين الآيات ومنشؤها السماويّ، وهذا الأمر مشهودٌ فيه؛ وأمّا الرأي التقليديّ الشائع والقائم على كون الأمرين واحدًا، فهو ناشئٌ نوعًا ما من التطوّر المفهوميّ والأدبي لآياته»[2].

وكذلك لا صوابيّة لرأي ماديجان بكون القرآن الكريم بطبيعته لم يكنْ يقتضي التدوين ليصبح نصًّا محفوظًا من قِبَل البشر؛ لبيان كلام الله -تعالى- أو حفظه، بل الأمر على العكس من ذلك؛ لأنّه في سورتَيْ عبس والواقعة أشار إلى أنّه مصدرٌ مدوَّنٌ يتبلور على ضوئه مفهوم

(305)

(الكتاب) أو اللوح المحفوظ، وفي هذا السّياق امتدح وجوده الملموس؛ بوصفه نصًّا مقدّسًا[1].

واستند بعض المستشرقين إلى مسألة الإحالة الذاتيّة وفسّروا مصطلح (الكتاب) المذكور في الآيات الأولى لبعض السور بالقرآن، حيث اعتبروا الآيات والعبارات التي تتضمّن هذا المصطلح بأنّها تدلّ على ضربٍ من الإحالة الذاتيّة لدرجة أنّهم جعلوها عنوانًا للسُّوَر المدرجة فيها، وممّا قيل في هذا الصدد: «على الرغم من أنّ ما يقارب ثلث السور القرآنيّة تشير بنحوٍ ما إلى عمليّة الوحي، لكنْ يمكن وصف العبارات الأولى في هذه السور بمثابة عنوانٍ لها، فهي تُعدّ مفتاحًا لتشخيص الكلام الغيبيّ وغرس الطمأنينة لدى المخاطب حتّى يؤمن به كمصدرٍ موثّقٍ»[2].

ولعلّ المستشرق ستيفان فيلد استند إلى عددٍ من روايات جمع القرآن وتدوينه ليدّعي حدوث تغييراتٍ عليه من قِبَل مدوّنيه، ومن هذا المنطلق اعتبر أنّ هذه الآيات ليست من النصّ القرآنيّ، بل ألحقت به حين تدوينه؛ إضافة إلى أنّ إصرار المستشرقين على شفهيّة النصّ القرآنيّ هو الآخر دعاه وأمثاله إلى طرح هذه الفكرة؛ لذلك أطلق بعضهم عنوان رسالة السماء (Divine Message) على مصطلح (الكتاب) وهو تعبيرٌ مكافئٌ له تقريبًا، حيث اعتبروا هذا العنوان أنسب وأكثر وضوحًا من مصطلح "كتاب مقدّس"[3] (Scripture)، وقد برّروا تفسيرهم هذا بأنّ الله -تعالى- لم يبلِّغ رسالاته للأنبيّاء بشكل مدوّن، والشاهد على ذلك الفعل (أوحى) الذي يعني نقل الكلام شفهيًّا[4].

واعتبر ماديجان الإحالة الذاتيّة في القرآن أمرًا ظاهريًّا، وعلى هذا الأساس دعا إلى التقليل من مستوى الإحالة الذاتيّة لمصطلح (الكتاب) المذكور في مستهلّ بعض السور حين تفسيره، والسبب الذي دعاه لأنْ يطرح هذه الفكرة هو اعتقاده بأنّ المفسّرين المسلمين لجأوا إليه جرّاء الظروف الاجتماعيّة التي كانت سائدةً آنذاك، فالقرآن حظي بأهمّيّة بالغة بين المسلمين في تلك الآونة، وبات مرتكزًا لدِينهم؛ بحيث لم يكنْ هناك شيءٌ يضاهيه أهمّيّةً من الناحية

(306)

الدينيّة؛ إلا الله عزّ وجلّ، فقد اختصر فيه كلامه المقدّس، وتزامنًا مع هذا الاختصار حدث أمران؛ هما:

الأمر الأوّل: أصبح الكتاب مساويًا للقرآن

الأمر الثاني: أصبح القرآن مساويًا للمصحف

وقال في هذا السّياق إنّ غالبيّة المفسّرين قد أخفقوا في تفسير مفهوم مصطلح (الكتاب) ضمن الكثير من الآيات التي تحكي عن أحداث التأريخ المقدّس والتي لم تذكر أيّ خبرٍ حقيقيٍّ، وتلك التي تشير إلى الأحداث المعاصرة لزمن النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ فهذا المصطلح يشير في هذه الموارد إلى مدلولٍ في ما وراء النصّ[1]. وعلى هذا الأساس، فسّر الكتاب في الآيات الأولى من السور القرآنيّة بمعنًى آخرَ يختلف عن المعنى الشائع الدالّ على أنّ المراد منه آيات القرآن الكريم وألفاظه في رحاب المصحف الموجود لدى المسلمين، كما يختلف -أيضًا- عن المضمون الذي تمّ تحديده من قِبَل الذين تصدّوا إلى تدوينه؛ حيث قال: «هذه الآيات تتضمّن تفسيرًا وتحليلًا للوحي ذاته؛ وهي مذكورةٌ إلى جانب آياتٍ أخرى، والنصّ في معظم هذه الآيات يعرّف نفسه ويدافع عنها وفي الحين ذاته يتواصل نزوله بالوحي»[2]. وكذلك اعتبر أنّ اسمَيِ الإشارة "هذا" و"ذلك" يشيران إلى القرآن الكريم ذاته؛ أي أنّ النصّ القرآنيّ أشار إلى نفسه، وفي الحين ذاته تحدّث عنها، وحتّى عندما بلغ صيغته النهائيّة، بقي وكأنّه نصٌّ ما زال في طور النشوء؛ بحيث يلاحظ نفسه ويحلّلها بدقّةٍ وإمعانٍ؛ كما يتحدّث عنها ليستعرضها بوضوحٍ أمام مخاطبيه؛ وهذه الخصوصية جعلته نصًّا رسميًّا مدوَّنًا زاخرًا بالرمزيّة والغموض، لكنْ يبقى هناك أمرٌ عجيبٌ بين دفّتيه، إذ يطرح خطابه؛ وكأنّه ليس كتابًا كاملًا أو منسوخًا من مصدرٍ سماويٍّ[3].

وأشار ستيفان فيلد، على ضوء سعيه إلى تفسير كلمة (الكتاب) في الآيتين الأولى والثانية من سورة الزمر (تَنزِيلُ ٱلْكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ 1 إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصًۭا لَّهُ ٱلدِّينَ 2)؛ بأنّها عنوانٌ للكلام النبويّ ومرتكزٌ لإضفاء اعتبارٍ عليه، إلى عددٍ من

(307)

الألفاظ الموجودة فيهما وقال: «في حين أنّ الآية الأولى تتضمّن كلامًا مباشرًا لله، لكنّ الآية الثانية تتضمّن فعلًا فيه ضميرٌ للمخاطب، حيث يتجلّى النداء الإلهيّ بتوجيه خطابٍ مباشرٍ له»[1]. ومن المحتمل أنّه يقصد من هذا الكلام أنّ الآية الأولى ذاتُ ارتباطٍ بالذين جمعوا القرآن؛ بحيث جعلوها عنوانًا في بداية السورة، وهي ليست منزلةً من قِبَل الله؛ كما هو الحال بالنسبة إلى الآية الثانية؛ لكنّ هناك مسألةٌ ضروريةٌ جديرةٌ بالذكر في هذا المضمار؛ وهي أنّ النصّ القرآنيّ له أسلوبه الخاصّ في صياغة الكلام واختيار الألفاظ؛ وذلك من منطلق أنّ كلام الله، وكذلك كلام البشر، لا بدّ وأن يُصاغ وفق أسلوبٍ معيّنٍ، لذا لا ينبغي للباحث تجاهله حينما يتطرّق إلى تفسيره.

والأسلوب القرآنيّ فريدٌ من نوعه ومنبثقٌ من القرآن نفسه؛ بحيث يختصّ به حصرًا، وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ أسلوب (الالتفات) هو أحد الأساليب البلاغيّة الشائعة في النصّ القرآنيّ، ويعرّفه البلغاء بأنّه نقل الكلام من جهةٍ إلى أخرى، حيث ينتقل الكلام من المتكلّم إلى المخاطب أو الغائب، أو منهما إليه أو من أحدهما إلى الآخر، فهكذا عرّفه السيوطي: «نقل الكلام من أسلوبٍ إلى آخر - أعني من التكلّم أو الخطاب أو الغيبة إلى آخر منها - بعد التعبير بالأوّل؛ هذا هو المشهور»[2].

إذًا، ما نلمسه في الآية الأولى من أسلوبٍ بلاغيٍّ؛ هو الالتفات من الغيبة إلى التكلّم، لذلك لا صوابيّة لرأي ماديجان؛ حينما اعتبرها تحكي عن كلامٍ مباشرٍ لله عزّ وجلّ.

وقد تطرّق ستيفان فيلد؛ هو الآخر إلى تفسير هاتين الآيتين؛ معتبرًا ما ذُكِرَ فيهما ضربًا من الإحالة الذاتيّة، وهذه الإحالة عبارةٌ عن دورانٍ في حلقةٍ مفرغةٍ؛ لكونها تستوجب حصول ما يسمّى بالدور المنطقيّ، وتقريره التالي: يقال إنّ هذا الخطاب القرآنيّ صحيحٌ؛ لأنّ الله يكلّم الخلق عن طريقه؛ وهو قائله، فهو كلامه حقًّا؛ لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يكذب[3].  وأضاف في هذا السّياق أنّ الآية الأولى من سورة (ق) هي الأخرى تتضمّن هذا الدور، حيث قال: «(قٓ ۚ وَٱلْقُرْءَانِ ٱلْمَجِيدِ)، هذا القسم يؤيّد رسالة النبيّ

(308)

التي تلقّاها الناس عن طريق النبيّ نفسه»[1]. وهذا الكلام ليس صائبًا طبعًا، إذ لا صحّة لادّعاء أنّ الآيات المشار إليها تستبطن دورًا حينما أراد القرآن الكريم من خلاله إثبات كونه كلامًا نزل بالوحي، فـ«عندما نلقي نظرةً أوّليةً على مضمون هذه الآيات نلمس فيها دورًا منطقيًّا؛ وذلك لأنّ حجّية القرآن ونزوله بالوحي لم يثبتا حتّى تلك الآونة؛ لكي يلزم التمسّك بهما في عمليّة الاستدلال؛ ولكنْ حينما نمعن النظر في الموضوع نجد أنّ هذا المدّعى ليس ثابتًا بالقطع، بل هو عرضةٌ للنقاش؛ بحيث لا يمكن على أساسه ادّعاء أنّ تأكيد القرآن على كونه كتابًا موحًى من السماء ضربٌ من الدور المنطقيّ؛ فهناك آياتٌ أخرى؛ مثل: آيات التحدّي في سورة البقرة - كالآية 23 - كذلك الآيات التي تعتبر المنشأ السماويّ للنصّ القرآنيّ عاملًا لانسجام آياته، وعدم حدوث أيّ اختلافٍ بينها - كالآية 82 من سورة النساء - هي في الحقيقة برهانٌ واضحٌ على كونه كتابًا نزل بوحي السماء، وفي الحين ذاته لا تستبطن أيّ دورٍ كما يُدّعى، فهذه الآيات في ظاهرها تحكي عن الإعجاز القرآنيّ، لذا لا يمكن اعتبارها دليلًا نقليًّا وقرآنيًّا يراد منه إثبات المطلوب، بل تجسّد دليلًا عقليًّا خارجًا عن النصّ القرآنيّ، لكنّه طُرح فيه كدليلٍ قرآنيٍّ. هذه الآيات في الواقع تحكي عن الأسلوب العقليّ الذي يجب اتّباعه لمعرفة الحقيقة، ومن المؤكّد أنّ عدم وجود اختلافٍ في النصّ القرآنيّ بأسره، واشتماله على علومٍ ومعارفَ خاصّةٍ، لم تكنْ بمتناول البشر في تلك الآونة، على أقلّ تقديرٍ، إلى جانب عجز مناهضيه عن تفنيد هذه العلوم والمعارف، وكذلك الأخبار الغيبيّة التي جاء بها؛ كلّها شواهدُ على كونه كلامًا منزلًا بالوحي»[2].

وقد فسّر هؤلاء المستشرقون في الحقيقة مصطلح (الكتاب) وفق مداليلَ خارجةٍ عن مضمون النصّ القرآنيّ، واستندوا إلى الآية الثانية من سورة البقرة مدّعين أنّه بالإمكان إعادة قراءة بعض التعابير القرآنيّة الدالّة في ظاهرها على إحالةٍ ذاتيّةٍ وطرح تفسيرٍ لها يتّسم بإحالةٍ ذاتيّةٍ أدنى مستوًى، وهذا الأسلوب لا يُسفِر عن تجريد التعبير عن مدلوله، بل حتّى إنّه قد يُضفي إليه معنًى أفضلَ؛ وعلى هذا الأساس يمكن أن تُطرح قراءةٌ للنصّ القرآنيّ من باطنه ومن خارجه في الوقت نفسه.

ولعلّ دانيال ماديجان استند إلى الروايات التي تتطرّق إلى مسألتَيْ جمع القرآن الكريم

(309)

وتدوينه، واستنتج أنّ قراءة النصّ على أساس مبدأ الإحالة الذاتيّة هي القراءة التي كانت سببًا في جمعه وتدوينه؛ بحيث أضفت عليه طابعًا رسميًّا؛ ومن هذا المنطلق اتّبع النهجَ ذاتَه المتّبع في تفسير الكتاب المقدّس ونقد مضامينه لطرح قراءةٍ بشأن النصّ القرآنيّ تتّصف بإحالةٍ ذاتيّةٍ بمستوًى أدنى بخصوص الآيات الأولى من سورة البقرة؛ حيث أراد استكشاف المرتكزات الأساسيّة للنصّ القرآنيّ، ومن ثمّ تحليلها؛ باعتبار أنّ النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يردّ على منتقديه بكلام الوحي، ثمّ تحوّلت هذه الردود إلى تلاواتٍ تهجّديّةٍ، وفي هذا السّياق ذكر مرحلتين تحوّلت الآيات القرآنيّة في رحابهما إلى نصٍّ دينيٍّ رسميٍّ لدى المسلمين، هما:

المرحلة الأولى: تحوّل تلاوة هذه الآيات إلى تهجّدٍ رسميٍّ، وفي هذه المرحلة بدأ الناس يتفكّرون فيها؛ باعتبارها مُنزَلَةً من قِبَل الله، ثمّ تحوّلت إلى مرتكزٍ لهدايتهم دينيًّا، إذ كانوا يهتدون على أساسها.

المرحلة الثانية: جمع النصّ القرآنيّ وتدوينه بشكلٍ رسميٍّ، وفي هذه المرحلة تمّ جمع الكلام الذي أُوحي إلى النبيّ وتدوينه؛ ليتبلور بهيئة كلام الله الذي يتمّ التعامل على أساسه؛ وعندها تبلورت مسألة الإحالة الذاتيّة في النصّ القرآنيّ على نطاقٍ واسعٍ؛ لدرجةٍ مُبالغٍ فيها - حسب رأيه - ما دعا المسلمين لأنْ يعتبروا مصطلحَ (الكتاب) المشار إليه في مستهلّ بعض السور هو القرآنَ ذاتَه[1].

ومن جملة الآراء الأخرى التي تبنّاها هذا المستشرق أنّ (الكتاب) مبيّنٌ لفعل الله -عزّ وجلّ- على مرّ التأريخ، وتسمية النصّ المقدّس بالكتاب مؤشّرٌ على أنّه أصبح رسميًّا ومرتكزًا؛ بحيث ناب عن فعله التأريخيّ وأصبح القرآن وفق هذا العنوان - أي الكتاب – هو الفعلَ الإلهيَّ ذاتَه المتجسّدَ في الكتابة، لا أنّ النسخ الذي حدث في ما بعد اتّسم بطابعٍ رسميٍّ[2].

ولدى بيانه مدلول اسم الإشارة (ذلك) في الآية الثانية من سورة البقرة اعتبر المعتقدات التي نتبنّاها من منطلق كوننا مسلمين هي التي جعلتنا نفسّرها بـ (هذا)، فالآية تقول: (ذلِكَ الْكِتاب) لكنّ المسلمين يقولون إنّ المقصود (هذا الكتاب)؛ أي الآيات المذكورة فيه[3].

(310)

والحقيقة أنّ المفسّرين المسلمين - كما ذكرنا آنفًا - فسّروا اسم الإشارة (ذلك) وفق آراء متعدّدةٍ[1]، ولو أذعنّا لما قاله بعضهم بكون المراد منه الحروف المقطّعة السابقة له، أو الآيات القرآنيّة الأخرى التي أُوحيت إلى النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل ذلك، ففي هذه الحالة يكون مدلوله الحقيقيّ تلك الفاصلة الزمنيّة الملحوظة، ومن ثمّ فالكتاب؛ وفق هذا التفسير، عبارةٌ عن نصٍّ يمكن تفسيره؛ ولكنْ حسب رأي يوسف درّة الحدّاد الذي طرحه بخصوص الآيات الأولى من السورة القرآنيّة المشتملة على مصطلح (الكتاب)، فاسم الإشارة (ذلك) يحكي عن منشأ الآيات القرآنيّة التي يتلوها النبيّ على الناس، وهذا الرأي يؤيّد ما تبنّاه ماديجان بخصوص المُشار إليه.

وبعد ذلك، ومن منطلق اعتباره مفهوم الكتاب في القرآن ذا مدلولٍ رمزيٍّ، بادر إلى تفسيره في الآية الثانية من سورة البقرة، وأكّد على أنّ القرآن ينقض حقًّا بعض الآراء المتعارفة التي تُطرَح حول المعنى المقصود من هذا المفهوم، إذ لا ينبغي تفسيره -هنا- باعتباره نصًّا، بل المراد منه أنّ ما يُوحى هو (كتابٌ)؛ لأنّه من جانب الله -تعالى- ومنبثقٌ من علمه وقدرته، والكتابة ليست سوى أمرٍ يرمز إليهما. إذًا، القرآن؛ طبقًا لهذا الاستدلال، هو كتاب الله المشتمل على كلامه القاطع والنافذ؛ لكنْ ليس كلّ ما فيه يمكن اعتباره كلامًا صادرًا منه؛ وإنّما يشير إليه ويضمن للبشريّة دائمًا أنْ تهتدي به[2]؛ أي إنّه الشيء التأريخيّ ذاته الذي يشير إلى فعله تعالى[3].

ويحكي تفسير هذا المستشرق لمصطلح (الكتاب) في الآية الثانية من سورة البقرة عن البنية الأساس لفعل الله -تعالى- التي تتجسّد في الكتابة، ولا يشير إلى النسخ الذي حدث في ما بعد وأصبح نصًّا دينيًّا رسميًّا - حين تدوين القرآن -؛ وهذا يعني أنّ الفعل الإلهيّ المتجسّد في الكتابة يُطلق عليه (كتاب)؛ لذا فالمصحف مُستنسَخٌ منه؛ وقد استدلّ على رأيه هذا بقوله: «بما أنّ الكتب تستبطن العلم في نصوصها، فهي تستخدم للإشارة إلى الأوامر الدينيّة الصادرة من الله؛ وبذلك يمكن القول إنّ (كتاب) ذو مفهومٍ استعاريٍّ أو أعلى من ذلك؛ باعتباره رمزًا لفعل الله»[4].

(311)

وأمّا الخطاب القرآنيّ المطروح بخصوص مصطلح (الكتاب) فهو -برأيه- متعدّد الدلالات، ولو أنّنا قيّدناه بكونه نصًّا مقدّسًا -فقط- واعتبرنا آياته مجرّدَ نصوصٍ بحتةٍ، ففي هذه الحالة نكون قد تجاهلنا الكثير من عناصره الأساس، لأنّ الوحي وُصِفَ بالكتاب قبل فترةٍ طويلةٍ جدًّا سبقت تدوينه بهذه الهيئة[1]. ومصطلح (الكتاب) في الآية المذكورة يشير -برأيه- إلى منشأ الكلمات التي نطقها النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ لكونها صادرةً من علم الله -تعالى- وقدرته، لذا يصبح تدوينها رمزًا يشير إلى ذلك؛ بحيث سمُّيت كتابًا من هذه الناحية؛ وبما أنّ هذه الكتابة تقتضي وجود ارتباطٍ بين المتكلّم والمخاطَب، فلا بدّ -هنا- من إعادة تدوينه، وهيكلة عباراته، وإجراء تعديلاتٍ على نصّه؛ وهذا هو السبب في ظهور النسخ وعمليّة التدوين. كما أكّد على أنّ هذه الآية تثبت كون القرآن مكتوبًا من قِبَل الله -تعالى-؛ بوصفه كلامًا قاطعًا ونافذًا، لكنّه مع ذلك ليس هو كلّه كلامًا صادرًا منه، بل منه ما يشير إليه؛ لأجل ضمان هداية البشر على مرّ العصور[2].

وضمن سعيه إلى إثبات أنّ بعض الآيات - كالآية الثانية من سورة البقرة - تحكي عن أمرٍ خارجٍ عن نطاق النصّ القرآنيّ[3]، ولا ينبغي قراءتها؛ وكأنّها تحكي عن نفسها، وصف المشار إليه باسم الإشارة (ذلك) بأنّه غامضٌ وغيرُ محدَّدٍ، وبالتالي إنْ أردنا معرفته فلا محيص لنا من مقارنة هذه الآية مع الآيات التي تتضمّن اسم الإشارة (تلك) الذي يشير إلى الآيات؛ فهناك إحدى عشرة آيةً استُخدم فيه اسم الإشارة (تلك) للدلالة على البعيد وثمانيةٌ منها ذُكِرَت في مستهلّ السور[4].

وعلى ضوء الدلالة المفهوميّة المتنوّعة لمصطلح (آية) في القرآن الكريم، فقد فسّرها بأنّها تدلّ على جانبٍ من بنية المصحف وبحجمٍ أقلَّ من السورة، فهو -برأيه- معنًى ثانويٌّ ومشتقٌّ من السّياق القرآنيّ، أو على أقلّ تقدير منبثقٌ من قراءةٍ خاصّةٍ للنصّ القرآنيّ؛ وترجمتها بمعنى كهذا يحكي عن ضربٍ من الإحالة الذاتيّة في القرآن، وفي الحين ذاته يقوّي دلالته. وبعد هذا الاستدلال طرح السؤال التالي: ألا يترتّب على هذه الترجمة حدوث الدور المنطقيّ؟

وجدير بالذكر -هنا- أنّ محمّد مارمادوك بكتال حينما ترجم القرآن الكريم إلى الإنجليزيّة،

(312)

لم يترجم آية وآيات بـ (verse / verses) إلا في مواردَ عدّة، حيث رجّح أن يترجمها بالوحي[1]، ومن المحتمل أنّه ترجمها كذلك في قوله -تعالى-: (تِلكَ آياتُ الكِتابِ)؛ استنادًا إلى مضمون الآيات التي تليها، إذ كما ذكرنا آنفًا، فالآيات اللاحقة لهذه الآية تتمحور حول مسألة الوحي بشكلٍ أساس[2]، وكيفما تصوّرنا الوحي فهو من سنخ الكلام؛ بحيث يُتلى ويُقرأ.

إذًا، المقصود من مصطلح (آيات) في القرآن الكريم هو ألفاظ كلام الله التي تتلا؛ لأنّ كلامه فيه آيات: (تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ ۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ)[3]، وكتاب الله -أيضًا- فيه آيات: (تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱلْكِتَٰبِ ٱلْمُبِينِ)[4]، إذ الكلام حينما يتعيّن ويمتاز عن غيره ويظهر إلى العلن، يُطلق عليه عنوان (كتاب)[5].

وقال ريتشارد بال إنّ ترجمة (verse) لا تنطبق إلا على كلمةٍ أو كلمتين في النصّ القرآنيّ ذُكِرَتَا بلفظ (آية)، وفي موارد أخرى اعتبر هذا اللفظ الإنجليزيّ لا ينطبق على الكلمة وحدها؛ كي تترجم على ضوئه، وإنّما ينطبق على معنى العبارة المذكورة فيها[6].

ومن جملة الآراء الأخرى التي طرحها ماديجان أنّ كلمة (آية) تشير في بعض العبارات القرآنيّة إلى تلاوة النصّ المقدّس، لذا فهي في هذه الصيغة تجسّد تلاوةَ منبثقةً من إدراكٍ ذاتيٍّ لأحد النصوص الرسميّة المقدّسة، وتلاوة النصّ المقدّس لا تعني بالضرورة تصوير التأريخ المقدّس بذاته؛ حتّى وإنْ استُعملت الكلمات نفسها أو أخرى مشابهةٌ لها. لا شكّ في أنّ هذين النوعين من الآيات مختلفان عن بعضهما بالكامل، فالأحداث التأريخيّة والظواهر الطبيعيّة التي اعتبرها القرآن الكريم آيات يجب أن يتفكّر فيها بنو آدم، وهي لا تتنزّل إلى مستوى (آيات)؛ وبرّر ذلك بأنّها علاماتٌ تجسّد آياتٍ في الخِلْقة لكنّها لا تنوب عنها، وفي نهاية المطاف تتحوّل المبادئ التعليميّة

(313)

والمواعظ ومسألة محاكاة الواقع إلى جزءٍ من تلاوات أحد النصوص الرسميّة المقدّسة، ومع ذلك تصبح جزءًا من التأريخ، قبل أنْ تغدو كذلك؛ بحيث تحتلّ مكانةً خاصّةً بها؛ وهذا التفصيل يُعدّ -برأيه- ضروريًّا لإجراء تقييمٍ صحيحٍ حول مستوى إدراك النصّ لذاته [1].

وفي نقد ما تبنّاه يمكن القول: إنّه بالإمكان أن نستنتج من ظاهر الآيات التي يتمحور البحث حولها أنّ كلمة (آيات) تشير إلى الآيات التي تتضمّن كلمة (آية) في أوّلها أو آخرها؛ وهذا الرأي طُرح -أيضًا- من قِبَل المستشرقة أنجليكا نويورث التي اعتبرتها دليلًا على كون النصّ دعائيًّا. إذًا، لعلّ ماديجان تساءل عن مدلول عبارات مؤطّرةٍ بشكلٍ معيّنٍ كهذه، فهي إمّا أنْ تعني هيئة الآيات السابقة أو التالية لها، وإمّا أنْ يراد منها مضمونها؛ أي هل إنّها عبارةٌ عن كلماتٍ ذُكِرَت قبل هذه العبارات المؤطّرة أو بعدها، أو هل إنّها تحكي عن فعل الله -عزّ وجلّ-؛ بحيث تشير إليها هذه الآيات وتشهد عليها؟ لذلك اعتبرها تشكّل الجانب الميتافيزيقيّ للنصّ القرآنيّ؛ وقد فسّر العبارات المشار إليها على ضوء المدلول الثابت لاسم الإشارة (تلك) الذي يشير إلى البعيد، حيث قال: «الآيات التي تأتي بعد ذلك، تحكي عن آثار الله في الطبيعة والتأريخ، وبعثته الأنبيّاء بالشريعة النافذة (الكتاب)، وقدرته المطلقة؛ فهذه الآثار - الآيات - جاءت إلى العرب بلغتهم العربيّة على هيئة قرآنٍ عربيٍّ، وقد أُمروا في مقابل ذلك بأنْ يواظبوا على تلاوتها لعلّهم يتفكّرون»[2].

ويضيف أنّ تفسير اسم الإشارة (تلك) بأنّه يدلّ على المُشار إليه القريب في هذه الآيات المؤطّرة لا يعدّ ناجعًا؛ لأنّه يسفر عن عدم وضوح ما إذا كانت الآية تشير إلى شيءٍ في ما وراءها أو ما وراء النصّ التي تندرج فيه أو لا، وهذا النمط من الإشارة له معنيان -برأيه- هما:

المعنى الأوّل: الخطاب الذي يُطرَح باعتباره (آيات)[3]، يحكي في الأساس عن تأريخ خلق الله وتعامله مع البشر؛ لذا فهو لا يدلّ على السنّة الجارية في الكون.

المعنى الثاني: حتّى وإنْ دلّ هذا الخطاب على التعامل بين الله وعباده بوساطة النبيّ العربي، فهو في الحين ذاته يشير إلى التبليغ والجدل الكامن في ما وراء النصّ.

(314)

ومن هذا المنطلق لم يوافق على ترجمة كلمة (آية) في الآية 106 من سورة البقرة بـ (verse)، بل هي برأيه تحكي عن قدرةٍ ونفوذٍ، واستنتج من السّياق المذكورة فيه والذي يتحدّث عن كيفيّة التعامل بين النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ومنتقديه، أنّها تشير إلى فعل الله الذي تمحور حول الإعراض عن الأحكام الشرعيّة اليهوديّة المسيحيّة[1].

وكذلك أشار إلى وجود قراءاتٍ أخرى طُرحت لمصطلح (آية) بعد تدوين القرآن الكريم وظهوره على هيئة كتابٍ دينيٍّ رسميٍّ للمسلمين، حيث اعتبرت جزءًا من البنية القرآنيّة؛ كما أنّه يعتقد بوجود اختلافٍ بين النصّ القرآنيّ قبل تدوينه؛ وبعد تدوينه من حيث بنيته العامّة، فهو يعكس واقع التعامل المتواصل بين النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ومخاطبيه، إلا أنّ هذا التعامل لم يتمّ تثبيته بالكامل، بل ثُبّت جانبٌ منه فقط؛ لذا استتنتج من ذلك أنّ عموميّة هذا التعامل؛ بجميع تفاصيله التي تشتمل أفعال الله والرسول، تختلف عن مضمون النصّ القرآنيّ؛ لأنّ القرآن يتطرّق إلى بيان واقع التعامل، ويدلي برأيه بخصوصه، وقد أشير إلى ذلك بأفعالٍ عديدةٍ وهي تحكي بمجملها عن حقائق في ما وراء النصّ، لذا اقتضت الضرورة القول بوجود مستوًى أقلَّ من الإحالة الذاتيّة لمصطلح (آية) المذكور في بدايات بعض الآيات[2]؛ وممّا قاله في هذا السّياق: «الأفعال التي لها ارتباطٌ بالآيات في هذا النصّ عبارةٌ عمّا يلي: (قصّ) سرد القصص والروايات، و(بيّن) وضّح، و(فصّل) شرح وتفصيل وبيان للجزئيّات، و(أتى به) جلبه وجاء به... و(صرّف) استعرض، و(تلا) قرأ، (قرأ) تلا. كما يشير بعضها إلى الأفعال الذميمة التي يرتكبها البشر إزاء آيات الله، وهذه الأفعال لا يشار فيها إلا في هذا النصّ؛ وأبرزها الفعل (كذّب)؛ أي وصف الشيء بالباطل، و (كفر)؛ أي الإنكار والرفض وعدم الإيمان، و (جحد)؛ أي أنكر. هناك أفعالٌ أخرى تحكي عن الاستهزاء؛ مثل: (هزئ)؛ بمعنى سخِر، و(جادل)؛ بمعنى ناقش في الأمر باعتراض، و(خاض)؛ بمعنى انهمك في كلامٍ لا طائل منه؛ كما هو مذكورٌ في الآية 68 من سورة الأنعام، وغير ذلك... كلّ هذه الآيات تحكي عن منظومةٍ متكاملةٍ للنشاطات الكامنة في ما وراء النصّ القرآنيّ، حيث ظهرت على إثر آيات الله وجرّاء مجادلة الناس نبيّه»[3].

(315)

ومصطلح (آية) -برأي ماديجان- لا يدلّ على مفهومٍ واحدٍ، بل هو على غرار فعل الله؛ من حيث كونه زاخرًا بالمعاني والمداليل؛ وفي هذا السّياق تطرّق إلى تحليل معنى كلمة (آية) المذكورة في الآية 20 من سورة يونس[1] مدّعيًا أنّ الناس لمـّا طلبوا من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأتيهم بـ (آية) فهم لا يقصدون من ذلك مشاهدة فعل النبيّ، بل أرادوا مشاهدة فعلٍ من الله؛ لكي يؤمنوا بما جاءهم به النبيّ قبل مشاهدتهم هذه الآية[2]. ونستشفّ من هذا الاستدلال أنّه لا يعتقد بوجود اختلافٍ بين مصطلح (آية) المذكور في الآيات الأولى لبعض السور، وبين المصطلح المذكور في الآية 20 من سورة يونس، إلا أنّ الحقيقة على خلاف تصوّره، فهناك فرقٌ بين الموضوعين، ولا يمكن اعتبارهما سنخًا واحدًا؛ إذ من الواضح أنّ ما ذُكِرَ في سورة يونس يُقصد منه (المعجزة): (يَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ)، والدليل على ذلك: أنّ الله -عزّ وجلّ- هدّد المشركين في نهاية هذه الآية وتوعّدهم: (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرينَ). كما في الآية 15 من السورة ذاتها طلبوا منه أنْ يأتيهم بقرآنٍ آخرَ غيرِ الذي جاءهم به، أو أن يُبدله بغيره[3]، وهذا المضمون تكرّر -أيضًا- في الآية 59 من سورة الإسراء[4].

والمسألة الأخرى التي تجدر الإشارة إليها في هذا السّياق، هي أنّ الآية الأولى من سورة يونس: (الٓر ۚ تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱلْكِتَٰبِ ٱلْحَكِيمِ)، تشير -كما ذكرنا آنفًا- إلى أجزاء كلام الله -تعالى-[5]؛ لأنّ الوحي هو محور الكلام فيها، وكيفما فسّرناه فهو من سنخ الكلام، لذا لا يُراد منه فعل الله -تعالى- أو تعامل النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله مع مخاطبيه؛ أضف إلى ذلك أنّ هناك أسئلةً تُطرح على ماديجان في هذا الصدد، وهي: هل يعتقد أنّ المسلمين في صدر الإسلام لم يفسّروا هذه الكلمة بالآيات القرآنيّة؟ وهل كانوا يعتبرون هذه الكلمة الواقعة في بداية إحدى السور القرآنيّة تدلّ على معنًى في ما وراء الألفاظ؟ وهل كانوا يعتقدون بوجود فرقٍ بين النصّ وكلمة الله؟

(316)

وعلى أساس نظريّته التي أشرنا إلى فحواها، توصّل إلى النتيجة التالية: رسوخ القرآن في المجتمع الإسلاميّ نصًّا دينيًّا رسميًّا قام على مرحلتين؛ هما:

المرحلة الأولى: تلاوة آياته من قِبَل الناس والتأمّل فيها.

المرحلة الثانية: إضفاء صبغةٍ عمليّةٍ لـ (كلمة الله) ضمن نصٍّ مدوّنٍ.

إذًا، بات المصحف انعكاسًا عمليًّاً لكلمة الله خلال عمليّة تدوينه، إذ لو لم يدوّن؛ فإنّ مصطلح (آية) وسائر المصطلحات القرآنيّة التي تتّصف بالإحالة الذاتيّة كانت ستُفَهم على ضوء الفعل المؤثّر لله -تعالى- والكلام الدالّ على خلقه والتأريخ والنبوّة، ومن ثمّ لا يدرك الناس منها مفاهيمَ تتّسم بالإحالة الذاتيّة؛ ومن هذا المنطلق تَرجَمَت الآيات المُشار إليها اسم الإشارة (تلك) بـ (verse)؛ باعتبارها جزءًا من كلام الله، ومن هنا، لا بدّ من امتلاك فهمٍ أوسعَ نطاقًا من الفهم النصّيّ البحت، حين التطرّق إلى تفسير مصطلحاتٍ من هذا القبيل[1].

وفضلًا عن ذلك اعتبر عربيّة النصّ القرآنيّ دليلًا على أنّ القرآن الكريم يعتبر نفسه على ارتباطٍ بثقافةٍ ولغةٍ لا تنفكّان عن مضمون نصّه، لذا يمكن اعتباره غير متحكّمٍ بالكامل بهذا النصّ[2].

وفي نهاية المطاف استنتج أنّ الإحالة الذاتيّة في القرآن ضمن بعض المصطلحات؛ مثل: (آية) و(كتاب)، تعود في أساسها إلى المجتمع الإيمانيّ، بينما النصّ القرآنيّ ذاته لا يُوحي بمفهوم هذه الإحالة[3].

وقد ذكرت الموسوعة الإسلاميّة الكبيرة[4] ثلاثة معانٍ لمصطلح (آية) خلال مسيرتها تحوّلها السيميولوجيّ إبّان العصر الجاهليّ، وهي:

المرحلة الأولى: علاماتٌ مادّيّةٌ ملموسةٌ تتمثّل بالظواهر الطبيعيّة والآثار التي تدلّ على قدرة الله تعالى، ولربّما على ضوء هذا المدلول أُطلقت على مجموعة الكلمات والحروف أيضًا.

المرحلة الثانية: علامةٌ على أمرٍ غيرِ مادّيِّ (ما ورائيٍّ).

المرحلة الثانية: علامةٌ على الغضب والتهديد والوعيد.

(317)

لكنّ هذا المصطلح بعد ذِكْره في النصّ القرآنيّ اتّسم بعشرات المعاني الجديدة التي ذكرها المفسّرون في بطون تفاسيرهم؛ ومعناها المحوريّ هو العلامة، وبحسب الاصطلاح القرآنيّ فهو يدلّ على الظواهر التي تحدث في الكون؛ لأنّها قاطبةً تدلّ على عظمة الله -تعالى- وعلمه وقدرته، كذلك يراد من هذا المصطلح الإشارة إلى معاجز جميع الأنبيّاء والرسل؛ بمن فيهم: النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ لكونها علاماتٍ على صدق رسالاتهم[1].

وهناك معانٍ فرعيّةٌ ذُكِرَت في مختلف التفاسير القرآنيّة لبيان مدلول هذا المصطلح؛ من جملتها ما يلي: حكمٌ شرعيٌّ (سورة البقرة، الآية 187)، والاقتدار والسلطة (سورة القصص، الآية 35)، والبناء المرتفع (سورة الشعراء، الآية 128)، وكذلك القصّة والرسالة والشخص والهيكل والجماعة والكلام النافع[2].

كما أن لها معنًى اصطلاحيًّا قوامه دلالتها الأساس التي هي العلامة؛ وهي الكلمات والعبارات والجمل القرآنيّة التي تعتبر المكوّن الأساس للسور الموجودة فيها، وعددها في كلّ سورةٍ ثابتٌ لا يتغيّر، وكلّ واحدةٍ منها تعتبر علامةً[3].

إذًا، لا يرجع تأريخ تسمية الأجزاء المكوّنة لسور القرآن الكريم بـ (آيات) إلى زمان تدوينه، ليظهر على هيئة مصحفٍ، بل تزامنت هذه التسمية مع نزولها، وهذا هو السبب الحقيقيّ في تسميتها؛ لكونها على غرار العلامات الطبيعيّة لله عزّ وجلّ؛ ومنها ما يمثّل جانبًا من الأصول الاعتقاديّة والأحكام الشرعيّة، ومنها ما يحكي عن الأصول الأخلاقيّة التي أمر الله بها [4].

وتتّسم المباحث التي دوّنها دانيال ماديجان، في تفسير مصطلح (الكتاب) في الآية الأولى من سورة البقرة، بالتخبّط والتشتّت، حيث خرج فيها عن إطار البحث العلميّ القويم، وسعى من خلالها إلى إثبات أنّ هذا المصطلح لا يُراد منه المصحف -القرآن المدوّن الذي بين يدي المسلمين- وفي هذا السّياق سلّط الضوء على العديد من المصطلحات والتعابير؛ بما فيها مصطلحا (قرآن) و

(318)

(آية)؛ لإثبات أنّ المصحف غير الكتاب؛ لكنّ الأدلّة التي ساقها في هذا المضمار غير مقنعةٍ، وكما ذكرنا في بداية هذا الفصل يمكن تفسير مصطلح (الكتاب) في الآية الأولى من سورة البقرة بأنّه يشير إلى المنشأ السماويّ للقرآن الكريم، لذا لا صوابيّة لادّعاء غير ذلك.

(319)
(320)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

التفسير الاستشراقيّ لمصطلح  "التفصيل" في النصّ القرآنيّ

(321)
(322)

تبنّى بعض المستشرقين آراء خاصّةً في تفسير عددٍ من المصطلحات والعبارات القرآنيّة، وهذه الآراء لا تتناغم بطبيعتها مع التفسير المتعارف لدى المسلمين؛ كما بادر بعضهم إلى طرح تعريفٍ جديدٍ لها على ضوء تحليل مضمون الآية المذكورة فيها؛ ومصطلح (تفصيل) هو أحد هذه المصطلحات القرآنيّة.

وفي ما يلي نسلّط الضوء على الموضوع ضمن المباحث التالية:

المبحث الأوّل: التفصيل بمعنى التعريب:

سعى يوسف درّة الحدّاد إلى إيجاد حوارٍ بين الإسلام والمسيحيّة، لكنّه في الحين ذاته شكّك بأهمّ مصدرٍ مُعتَمَدٍ لدى المسلمين ضمن استنتاجاته المنحازة التي توصّل إليها في تفسير عددٍ من الآيات القرآنيّة في السور التالية: (الأنعام، الأحقاف، النمل، الشوری، البقرة، آل عمران، العنکبوت)، حيث وضّح مضامينها وذكر ملاحظاتٍ حول بعض مفرداتها وعباراتها؛ وفقًا لمآربَ خاصّةٍ، وآراؤه في هذا السّياق لم يطرحها أيّ مفسّرٍ آخرَ منذ عهد نزول القرآن الكريم.

ويقوم النهج التفسيري الذي اتّبعه الحدّاد على تجريد القارئ من حرّيّة الرأي في فهم النصّ القرآنيّ؛ بحيث يتجاهله بالكامل، وفي هذا المضمار حاول إثبات آرائه التفسيريّة الخاصّة ومختلف فرضيّاته القائمة على إيديولوجيّة المسيحيّة؛ ومثال ذلك: اعتباره أنّ الإسلام هو الدينَ النصرانيَّ ذاتَه، وأنّ القرآن الكريم ليس سوى نسخةٍ عربيّةٍ من الكتاب المقدّس، ومن ثمّ فهو تابعٌ له ومرتبطٌ بأهل الكتاب، وأنّ النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله مجرّدُ واسطةٍ ثانيةٍ لتبليغ دين النبيّ عيسى عليه‌السلام، وما إلى ذلك من آراء منحازةٍ أخرى. وعلى ضوء هذه الآراء بادر إلى تفسير كلمة (تفصيل) ضمن الآيات التي تشتمل عليها؛ معتبرًا إيّاها بمعنى (التعريب)[1].

وممّا قاله في هذا السّياق: «القرآن في حقيقته هو (الكتاب) السابق ذاته، حيث ترجمه بالتفصيل إلى العربيّة»[2]. ونلمس من رأي الحدّاد تناقضًا في هذا المجال منذ بادئ الأمر، بحيث ذكر معنييْن لمصطلحٍ واحدٍ، فحينما أراد بيان حقيقة القرآن، فسّر التفصيل المذكور في

(323)

الآيات 114 و 115 من سورة الأنعام و 37 من سورة يونس بالتعريب، لكنّه وصف ترجمته بكلمة (تفصيل)؛ وهي تعني -طبعًا- الشرح والبيان؛ أي أنّه اعتبر التفصيل بمعنى تعريب الكتاب المصدر مستدلًّا بالآيات الأولى من سورتَيِ الجاثية والأحقاف، والآية 53 من سورة غافر، ثمّ استنتج من ذلك أنّه نسخةٌ مترجمةٌ إلى العربيّة من الإنجيل العبريّ.

وممّا استنتجه من قوله -تعالى-: (وَمَا كَانَ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَىٰ)[1] ومن آياتٍ أخرى: أنّ القرآن الكريم الذي وصف نفسه بالكتاب المصدر يُراد منه انتسابه إلى التوراة والإنجيل؛ لكونه منسوخًا منهما على هيئة ترجمةٍ عربيّةٍ، إلا أنّ هذا الرأي لا دليل عليه بتاتًا؛ لأنّ هذه الآيات، ولا سيّما الآية 37 من سورة يونس التي أكّد عليها أكثر من غيرها، لا تحتمل ألفاظها وعباراتها معنىً كهذا، إضافة إلى أنّ سياقها يحكي عن معنًى مغايِرٍ تمامًا لما استنتجه؛ فضلًا عن تعارضه مع الحقائق التأريخيّة الثابتة؛ لكنْ لا يسعنا تسليط الضوء عليها في مباحث هذا الكتاب.

مضافًا إلى أنّ المفسّرين المسلمين لم يتبنّوا مثل هذا المعنى للتفصيل، ولا للتصديق، ولا لسائر المصطلحات والعبارات القرآنيّة مطلقًا، منذ عصر صدر الإسلام وحتّى عصرنا الراهن، فهم لم يستنتجوا من النصّ القرآنيّ ما ذكره هذا المستشرق؛ بل أكّدوا على أنّ القرآن مصدِّقٌ للتوراة والإنجيل؛ بوصفهما كتابيْن مقدَّسَيْن يشتملان على حقائقَ دينيّةٍ، وفي الحين ذاته لم يدّعوا تجرّده من حقائق أخرى؛ بحيث إنّ الحقائق التوارتيّة والإنجيليّة -فقط- تلبّي جميع متطلّبات البشريّة، وإنّما على ضوء تطوّر المجتمعات البشريّة والبشر أنفسهم، وتغيّر الظروف الزمكانيّة، ظهرت حاجةٌ لقضايا جديدةٍ، ومن هذا المنطلق اقتضت العناية الإلهيّة نزول القرآن الكريم؛ لكونه السبيل الوحيد الذي يمكن أن يلبّي هذه الحاجة الماسّة.

وقد ذُكِرَ لفظ (التفصيل) ومشتقّاته في القرآن الكريم ضمن آياتٍ قرآنيةٍ عدّة، هي:

- (وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَٰبِ)[2]

- (نُفَصِّلُ ٱلْأيَٰتِ)[3]

(324)

- (يُفَصِّلُ ٱلْأيَٰتِ)[1]

- (كِتَٰبٌ أُحْكِمَتْ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتْ)[2]

- (كِتَٰبٌ فُصِّلَتْ ءَايَٰتُهُۥ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍۢ يَعْلَمُونَ)[3]

- (وَلَقَدْ جِئْنَٰهُم بِكِتَٰبٍۢ فَصَّلْنَٰهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍۢ يُؤْمِنُونَ)[4]

ويتمحور المراد من التفصيل في جميع هذه الآيات حول المعنى، وفي الآيتين التاليتين يراد منه القضاء والحكم والبيان:

- (إِنَّ ٱللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ شَهِيدٌ)[5]؛ فالتفصيل في هذه الآية يعني الحكم والقضاء.

- (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ)[6]؛ كما ذكرنا في تفسير الآية الأولى من سورة هود، فالتفصيل -هنا- بمعنى البيان.

كما أنّ عدم التفصيل المشار إليه في بعض الآيات يُراد منه انعدام المعنى؛ ومثال ذلك الآيات التالية:

- (وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ قُرْءَانًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُواْ لَوْلَا فُصِّلَتْ ءَايَٰتُهُۥٓ ۖ ءَا۬عْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ)[7]

- (إِنَّهُۥ لَقَوْلٌۭ فَصْلٌۭ 13 وَمَا هُوَ بِٱلْهَزْلِ 14)[8]

وعدم التفصيل -هنا- هو بحكم انعدام المعنى، وقوله -تعالى-: (لَّقَالُواْ) في الآية 44 من سورة فصّلت يدلّ على تذرّع العرب بحججٍ لمخالفة القرآن، فلو كان بلغةٍ غيرِ عربيّةٍ لقالوا لِمَ لَمْ تُفصّل آياته؟ أي لِمَ لَمْ تُوضّح معانيها؟

(325)

وأمّا الآيتان 13 و 14 من سورة الطارق، فقد صرّح القرآن فيهما بأنّ آياته ليست عبثيّةً وعاريةً عن المعنى، بل هو قولٌ فصلٌ ذو معنًى واضحٍ.

وحينما نقارن بين مداليل الآيات المذكورة أعلاه نلمس أنّ التفصيل على غرار التبيين، فهو بمعنى الإضافة والوضوح والتقليل من مقدار التشابه بين الألفاظ والعبارات، على ضوء بيانٍ تفصيليٍّ، وأحيانًا قد تكون مضامين الآيات إجماليّةً من حيث المعنى، وهنا يكون تفصيلها بمعنى الحكم[1].

وهناك آيات عدّة تطرّقت إلى بيان بعض مكامن الغموض التي قد توحي بفهمٍ خاطئٍ للمضمون القرآنيّ، حيث توضّح المعنى لتؤكّد بأسلوبها هذا على أنّ النصّ القرآنيّ واضحٌ من حيث الدلالة؛ ويؤيّد ذلك تكرار عبارة: "آيات بيّنات"، والمقصود منها أنّها آياتٌ تميّز الأشياء عن بعضها وأنّ مدلولها جليٌّ، وقد نسب الله -تعالى- هذا البيان لذاته المباركة؛ حينما قال: (مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌۭ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُۥ صِدِّيقَةٌۭ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ ٱلطَّعَامَ ۗ ٱنظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلْءَايَٰتِ ثُمَّ ٱنظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ).[2] وهذا البيان وُصِف في آيات أخرى بالتفصيل؛ ومنها قوله -تعالى-: (وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِى ظُلُمَٰتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلْءَايَٰتِ لِقَوْمٍۢ يَعْلَمُونَ)[3].

وقد تكرّرت عبارة (كلّ شيءٍ) مرّتان في القرآن الكريم؛ ضمن ارتباطها بالتبيين والتفصيل؛ وذلك في الآيتين التاليتين:

- (وَجَعَلْنَا ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَآ ءَايَةَ ٱلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ ءَايَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةًۭ لِّتَبْتَغُواْ فَضْلًۭا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ ۚ وَكُلَّ شَىْءٍۢ فَصَّلْنَٰهُ تَفْصِيلًۭا)[4].

(326)

- (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍۢ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًۭا لِّكُلِّ شَىْءٍۢ وَهُدًۭى وَرَحْمَةًۭ وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ)[1].

والتبيين والتفصيل في هاتين الآيتين يشملان جميع الأمور، ولكنّ هناك اختلافٌ بين المفسّرين حول ما إنْ كانت عبارة (كلّ شيءٍ) تعني شمول الأمور قاطبةً أو شمول بعضها؛ إلا أنّ القدر المتيقّن هو اتّفاقهم على شموليّتها لكلّ ما ذُكِرَ في القرآن الكريم، إذ حينما نقارن بين الآيات المشار إليها يتّضح لنا أنّه أكّد في العديد من آياته على تبيين مضامينه وتفصيلها؛ أي وضّح للمخاطب كلّ أمرٍ يجب أن يفهمه بتبيينٍ وتفصيلٍ؛ كي يدرك المعنى المقصود، لذا ليس المراد منه انتقال الذهن من العدم إلى الوجود ليدرك المعنى، بل الإدراك في رحابه يتمّ عن طريق الانتقال التدريجيّ مِن الغموض إلى الوضوح، ومن الإجمال إلى التفصيل، وهذا لا يعني بالطبع أنّ القرآن الكريم قد أَنشأ معنًى لم يكنْ موجودًا سابقًا، وإنّما أخرج المعاني التي كانت موجودةً سابقًا من الغموض والإجمال إلى البيان والتفصيل بشكلٍ تدريجيٍّ[2].

وفي ما يلي نسلّط الضوء بشرحٍ وتحليلٍ للآيات التي استدلّ بها يوسف درّة الحدّاد لإثبات نظريّته القائلة بكون القرآن ترجمةً عربيّةً للتوراة والإنجيل:

1) الآية 37 من سورة يونس:

قال -تعالى-: (وَمَا كَانَ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَٰبِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ)[3].

سلّط يوسف درّة الحدّاد الضوء على عبارة: (وَلَٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَٰبِ)[4] واستنتج منها عدم وجود اختلافٍ بين القرآن والكتاب السابق له -مصدره الأوّل-

(327)

سوى أنّه جاء بلسانٍ عربيٍ، واستدلّ بقوله -تعالى-: (وَمِن قَبْلِهِۦ كِتَٰبُ مُوسَىٰٓ إِمَامًۭا وَرَحْمَةًۭ ۚ وَهَٰذَا كِتَٰبٌۭ مُّصَدِّقٌۭ لِّسَانًا عَرَبِيًّۭا لِّيُنذِرَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ)[1]. وممّا أكّد عليه في هذا السّياق أنّ القرآن من أساسه عبارةٌ عن تفصيل للكتاب، والهدف من نزوله هو تأييد التوراة والإنجيل، وفي هذا السّياق استند إلى الآية 92 من سورة الأنعام[2]؛ ليستنتج من مضمونها أنّ القرآن عبارةٌ عن نصٍّ يؤيّد الكتاب السابق له الذي هو مصدره الأساس[3].

وضمن تحليله مضمون الآية 37 من سورة يونس أكّد على أنّ القرآن مستوحًى من التوراة والإنجيل، لذا بلّغ النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله دعوته إلى الناس باللغة العربيّة، بعد أن عرّب الكتاب العبريّ، حيث حفظ مواضيعه بشكلٍ جيّدٍ، فتيسّرت له تلاوته، وذِكْر معانيه؛ لذلك جمع ما تعلّمه منه في قرآنه؛ لأنّ العرب آنذاك كانوا عاجزين عن استخراج العلوم والأحكام المعقّدة من التوراة[4].

والمسألة التي تجدر الإشارة إليها في بادئ الأمر هي أنّ عبارة: (وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَٰبِ) معطوفةٌ على عبارة (تَصْدِيقَ ٱلَّذِى)، والتفصيل -هنا- يدّل على بيان المعنى.

ولأجل أن يتّضح للقارئ مغزى رأي الحدّاد، نرى من الأنسب أوّلًا تسليط الضوء على معاني كلمات هذه الآية، وبيان المفاهيم اللغويّة والاصطلاحيّة الموجودة فيها:

- "الكتاب": ظاهر الآية يدلّ على أنّ أداة التعريف (الـ) -هنا- لاستغراق الجنس، وعلى هذا الأساس فهذا المصطلح يُراد منه جميع الكتب السماويّة[5]؛ إلا أنّ بعض المفسّرين رفضوا تفسير الكتاب في هذه الآية بالكتب السماويّة التي نزلت قبل القرآن الكريم، بل قالوا إنّه يحكي عن مسائل الحلال والحرام فيه؛ أي أنّه -هنا- بمعنى الأمر الواجب والمفروض، لذا يكون تفصيله بمعنى تفصيل الواجبات الدينيّة، وبيان أحكام الشريعة فيها[6]، ومن هذا المنطلق

(328)

فسّروا الآية بالتالي: القرآن مؤيِّدٌ للكتب السماويّة التي نزلت قبله، ومبيّنٌ للأدلّة التي يحتاجها الناس في دينهم[1]، أو إنّه مبيّنٌ لتفاصيل أحكام الحلال والحرام في الإسلام.

وفي ما ذهب آخرون إلى القول بأنّ الكتاب يُراد منه في هذه الآية تلك المعتقدات والشرائع المنصوص عليها في الكتب السماويّة السابقة[2]، ورأى آخرون أنّه يدلّ على اللوح المحفوظ؛ وهذا الرأي يتناسب مع المعنى السابق الذي ذكرناه؛ وفحواه أنّ القرآن الكريم مبيّنٌ لتفاصيل أحكام الحلال والحرام في الإسلام، وذلك لما يلي:

أ. سورة يونس التي تتضمّن هذه الآية نزلت في مكّة؛ أي إنّها مكّيّةٌ بتعبير المفسّرين، وفي تلك الآونة لم يُنزِل الله أحكام الحلال والحرام في الإسلام؛ لأنّ آيات الأحكام مدنيّةٌ، في حين أنّ القرآن المكّيّ يتمحور بشكلٍ أساس حول المسائل العقديّة.

ب. بعض المفسّرين اعتبروا اللوح المحفوظ بأنّه كتابٌ مسجَّلٌ فيه كلّ شيءٍ بلغةٍ غيرِ بشريةٍ[3]، وعلى هذا الأساس فسّروا تفصيل الكتاب - تفصيل اللوح المحفوظ - بواسطة القرآن؛ بكونه بيانًا لمعانيه باللغة العربيّة؛ واستدلّوا على رأيهم هذا بالآيات 1 إلى 4 من سورة الزخرف، وهي قوله -تعالى-: (حمٓ 1 وَٱلْكِتَٰبِ ٱلْمُبِينِ 2 إِنَّا جَعَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّۭا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 3 وَإِنَّهُۥ فِىٓ أُمِّ ٱلْكِتَٰبِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ 4). وعبارة (الكتاب المبين) في الآية الثانية يُقصد منها نقوش القرآن الكريم الموجودة في اللوح المحفوظ، وقوله -تعالى- في الآية الثالثة: (إِنَّا جَعَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّۭا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) تعني صياغة النقوش المذكورة بلسانكم؛ أي بلغتكم العربيّة؛ لكي تفهموا دلالاتها ومعانيها[4].

والكتاب الذي اعتُبر القرآن مفصِّلًا له هو المصدر الأساس الذي يسمّى أمّ الكتاب والموجود في اللوح المحفوظ، حيث صدرت منه جميع الكتب السماويّة، وهو الذي فصّله القرآن، كما أشارت الآيتان 52 من سورة الأعراف و 4 من سورة الزخرف[5]؛ ولكنْ لا يبدو هذا الرأي في تفسير آية البحث صحيحًا؛ لأنّها لم تُشِرْ إلى عربيّة القرآن.

(329)

ـ «التفصيل»: على الرغم من أنّنا تطرّقنا بشكلٍ مقتضبٍ إلى بيان معنى التفصيل؛ لغويًّا واصطلاحيًّا، لكنّ الضرورة تقتضي بيان معناه اللغويّ بإسهابٍ أكثر.

التفصيل لغةً بمعنى التبيين والتوضيح، وفي الفلسفة والمنطق يُراد منه تحليل الموضوع وتقسيمه إلى أجزاء والفصل بين التداخل الحاصل في المعاني؛ لذا فالمراد من قوله -تعالى-: (بِكِتَٰبٍۢ فَصَّلْنَٰهُ) أنّنا وضّحناه وجعلنا فواصلَ بين آياته، وقوله -تعالى-: (ءَايَٰتٍۢ مُّفَصَّلَٰتٍۢ)؛ بمعنى وجود أمرٍ يفصل بين كلّ آيتين؛ مثل قولهم: (وفصّل القصّاب الشاة؛ أي عضاها)، و(قد فصّل النظم)، و(عقدٌ مفصَّلٌ؛ أي جُعل بين كلّ لؤلؤتين خرزةٌ)[1].

وفسّر ابن عاشور التفصيل في هذه الآية قائلًا: «وَالتَّفْصِيلُ: التَّبْيِينُ بِأَنْوَاعِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَعْرِيفَ الْكِتابِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، فَيَسْتَغْرِقُ الْكُتُبَ كُلَّهَا. وَمَعْنَى كَوْنِ الْقُرْآنِ تَفْصِيلًا لَهَا أَنَّهُ مُبَيِّنٌ لِمَا جَاءَ مُجْمَلًا فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ، وَنَاسِخٌ لِمَا لَا مَصْلَحَةَ لِلنَّاسِ فِي دَوَامِ حُكْمِهِ، وَدَافِعٌ لِلْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي ضَلَّ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ؛ فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى التَّفْصِيلِ»[2].

وذهب مفسّرون آخرون إلى أنّ تفصيل الكتاب يراد منه بيان معانيه الملتبسة والغامضة على نحو القطع واليقين؛ بحيث يتّضح من خلاله المقصود الحقيقيّ، وفي هذا السّياق اعتبروا التفصيل والتمييز والتقسيم نظائر، وضدّها التلبيس والتخليط[3].

إذًا، تفصيل القرآن للكتب السابقة؛ بمعنى أنّه يوضّح كتاب الله الأصليّ، ويبيّن مضمونه، فالاعتقادُ بالله واحدٌ، والدعوةُ إلى البرّ والإحسان واحدةٌ، إلا أنّ شكل البرّ والإحسان حين الدعوة مفتقرٌ إلى بيانٍ على نحو التفصيل والتوضيح، وهذا البيان يجب أن يكون متناسبًا مع تطوّر البشر في ذلك الزمان؛ بحيث ينسجم مع تطوّرهم في الأزمنة اللاحقة، إذ عندما يبلغ الإنسان مرحلة النضوج؛ فهو يتلقّى الخطاب القرآنيّ[4].

مضافًا إلى ذلك أنّ نطاق التفصيل القرآنيّ يعمّ جميع التعاليم العقديّة والعمليّة والأخلاقيّة

(330)

الموجودة في الكتب السابقة[1]، وهذا الشمول الذي يهدف إلى الإبقاء على الشرائع والكتب السابقة وتشذيبها، منبثقٌ في الواقع من سيطرة القرآن الكريم عليها[2]؛ وكلّ هذه الأمور تنضوي تحت معنى التفصيل وتنطبق مع المقصود من قوله -تعالى- في الآية 48 من سورة المائدة: (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)، وهذا النوع من التفصيل يختلف عن التفصيل المذكور في الآية 111 من سورة يوسف: (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ).

إذًا، حتّى وإنْ لم نفسّر كلمة (مهيمن) بمعنى المسيطر على الأمر والمدبّر له[3]، واعتبرناها تعني (المصدّق)؛ من منطلق أنّ حرف (الواو) في الآية يفيد عطف التفسير؛ فهل من الصحيح اعتبار التصديق؛ بمعنى الإبقاء على الشرائع السابقة دون إجراء أدنى تغييرٍ عليها وادّعاء أنّ التفصيل ليس سوى ترجمة التوراة والإنجيل إلى اللغة العربيّة؟! لا شكّ في أنّ الشرائع السماويّة السابقة تحتاج إلى تشذيبٍ على مرّ الزمان، إذ أحد الأسباب الأساسيّة لمجيء شرائعَ لاحقةٍ هو تشذيب ما سبق من شرائعَ، إلى جانب التصديق بها؛ مثلما فعل النبيّ عيسى عليه‌السلام، فقد صدّق التوراة في رسالته، وإلى جانب ذلك أحلّ بعض الذي حرّمه اليهود، حيث قال -تعالى- في الآية 50 من سورة آل عمران: (وَمُصَدِّقًۭا لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ ٱلتَّوْرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِى حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُم بِـَٔايَةٍۢ مِّن رَّبِّكُمْ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ).

إنّ كلّ شريعةٍ وكتابٍ تُقرّهما السماء، هما في الحقيقة مصدّقان للشريعة والكتاب اللذين سبقاهما ومهيمنان عليهما، إلا أنّ القرآن الكريم من منطلق كونه كتاب الشريعة الخاتمة لشرائع السماء كافّةً، فهو مصدقٌ لجميع الكتب والشرائع السابقة ومهيمنٌ عليها؛ لأنّ أداة التعريف ( الـ) في كلمة (الكتاب) تفيد استغراق الجنس، لذا يراد من هذه الكلمة الشمول والعموم[4].

ـ (التصديق): هذه الآية في مقام نفي كون القرآن الكريم نصًّا مفترًى، مع التأكيد على أنّه

(331)

تصديقٌ وتفصيلٌ، وهو ما تبنّاه ابن عاشور بقوله: «وَالِافْتِرَاءُ: الْكَذِبُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: (وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ) فِي سُورَةِ الْعُقُودِ (103). وَلَمَّا نُفِيَ عَنِ الْقُرْآنِ الِافْتِرَاءُ أُخْبِرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَصْدِيقٌ وَتَفْصِيلٌ، فَجَرَتْ أَخْبَارُهُ كُلُّهَا بِالْمَصْدَرِ تَنْوِيهًا بِبُلُوغِهِ الْغَايَةَ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي حَتَّى اتَّحَدَ بِأَجْنَاسِهَا. وتَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ كَوْنُهُ مُصَدِّقًا لِلْكُتُبِ السَّالِفَةِ؛ أَيْ مُبَيِّنًا للصادق مِنْهَا ومُميِّزًا لَهُ عَمَّا زِيدَ فِيهَا وَأُسِيءَ مِنْ تَأْوِيلِهَا؛ كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (مُصَدِّقًۭا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَٰبِ وَمُهَيْمِنًا)؛ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ (48). وَأَيْضًا هُوَ مُصَدَّقٌ - بِفَتْحِ الدَّالِ ـ بِشَهَادَةِ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ فِيمَا أَخَذَتْ مِنَ الْعَهْدِ عَلَى أَصْحَابِهَا أَنْ يُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ الَّذِي يَجِيءُ مُصَدِّقًا وَخَاتَمًا، فَالْوَصْفُ بِالْمَصْدَرِ صَالِحٌ لِلْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَقْتَضِي فَاعِلًا وَمَفْعُولًا»[1].

وقال آخرون إنّ الآية في صدد بيان التصديق برسالة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبسماويّة كتابه من قِبَل الأنبيّاء والكتب السماويّة السابقة، فهذا الكتاب مصدَّقٌ من قِبَل جميع الأنبيّاء والكتب[2].

وفسّر بعض المفسّرين كلمة (مصدّق)؛ بمعنى الانطباق مع الواقع، واستشهدوا في رأيهم هذا بقوله -تعالى- في الآية 105 من سورة الصافّات: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا)؛ ومن ثمّ فإنّ تصديق الكتب السماويّة السابقة؛ يعني انطباق القرآن وشخصيّة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله مع ما ذُكِرَ فيها من أخبارٍ[3].

وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ المراد من قوله -تعالى-: (ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ) هو التوراة والإنجيل اللذان كانا بين أيدي اليهود والنصارى وفي متناول الناس قبل نزول القرآن الكريم، وأداة التعريف (الـ) في كلمة (الكتاب) والتي تفيد الدلالة على الجنس ضمن قوله -تعالى- في الآية 48 من سورة المائدة :(مُصَدِّقًۭا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَٰبِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) تدلّ على أنّ القرآن مصدّقٌ لكلّ ما نزل قبله باسم (كتاب)؛ لذا فإنّ عبارة: (تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ) وسائر العبارات القرآنيّة المشابهة لها؛ مثل قوله -تعالى-: (مُصَدِّقًۭا لِّمَا مَعَكُمْ)[4]،

(332)

(مُصَدِّقًۭا لِّمَا مَعَهُمْ)[1]، (مُصَدِّقًۭا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ)[2]، يُراد منها أنّ القرآن مصدّق للكتب التي نزلت قبله؛ من حيث مبادؤُها العقديّة ودعوتها إلى البرّ والإحسان؛ لأنّ الكتب السماويّة متّفقةٌ مع بعضها على الأصول الأساسيّة، لكنْ فيها اختلافٌ حول الفروع فقط، ومن هذا المنطلق لا نجد أيّ تناقضٍ بين القرآن والكتب السماويّة السابقة، فهو يتناغم معها من حيث المبادئ العامّة ويشترك معها في المرتكزات الأساسيّة؛ وكأنّ جميع الكتب السماويّة مجرّد كتابٍ واحدٍ. وقد تقدّم ما يؤيّد ذلك من كلام ابن عاشور[3].

أضف إلى ذلك أنّ هذه الآية واحدةٌ من عشرين آيةً تتحدّث عن موضوع مشابه، وهو موقف المشركين المتمثّل في ترويجهم شبهات ضدّ الدين الجديد، وتعدّد طلباتهم من النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، وجدالهم المتواصل معه؛ ونوضّح الموضوع ضمن آياتٍ من سورة يونس:

ـ الآية 20 -على سبيل المثال- تتطرّق إلى بيان واحدةٍ من هذه الشبهات، حيث قال -تعالى-: (وَيَقُولُونَ لَوْلَآ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌۭ مِّن رَّبِّهِۦ ۖ فَقُلْ إِنَّمَا ٱلْغَيْبُ لِلَّهِ فَٱنتَظِرُوٓاْ إِنِّى مَعَكُم مِّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ). ثمّ تلتها آياتٌ متواليةٌ دعي النبيّ فيها إلى مقارعتهم، حيث ذكّرت الناس بآيات الله العظيمة التي يلمسونها بشكلٍ عمليّ؛ حينما يسيرون في الأرض والبحار، وكيف إنّه يستجيب دعاءهم؛ وهم في عباب البحار.

ـ الآية 24 تتضمّن تمثيلًا استعرض فيه واقع الحياة الدنيا، ونزول الماء من السماء، ونمو النباتات، ثمّ جفافها وزوالها بالكامل، والتأكيد على أنّ كلّ هذه الظواهر الطبيعيّة بيد الله -عزّ وجلّ-: (إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلْأَنْعَٰمُ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَٰدِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَىٰهَآ أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًۭا فَجَعَلْنَٰهَا حَصِيدًۭا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْءَايَٰتِ لِقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ).

ـ الآية 28 تتحدّث عن حشر المشركين في يوم الحساب: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًۭا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ ۚ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ۖ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ).

(333)

ـ الآية 30 تؤكّد على تجسّم أعمال جميع البشر في يوم الحساب بمن فيهم المشركون، حيث يدركون حينها أنّ الله هو مولاهم ومولى كلّ إنسانٍ: (هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍۢ مَّآ أَسْلَفَتْ ۚ وَرُدُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوْلَىٰهُمُ ٱلْحَقِّ ۖ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ).

ـ الآيات 31 إلى 36 فيها أدلّةٌ قطعيّةٌ على ربوبيّة الله عزّ وجلّ، حيث أمر فيها النبيّ محمّد بأن يحتجّ بها على المشركين، ويثبت لهم بأنّ الله هو المسؤول عن تدبير شؤون العالم والكائنات كافّةً والخلقة والرزق وإحياء الموتى؛ فهذه الأمور كلّها بيده -تعالى- فحسب، ولا دخل لغيره فيها؛ فقد قال -تعالى- في الآية 31: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَمَن يُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَىِّ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ).

ـ الآية 34 تحدّى الله -تعالى- فيها المشركين وطلب منهم أن يخلق شركاؤهم مثل خلقه؛ إنْ كانوا قادرين حقًّا على ذلك، وعلى هذا الأساس وجّهت النقد للأصنام التي يعبدونها من دونه وسألت ما إنْ كانت قادرةً حقًّا على خلق أشياء من العدم وإحيائها مرّةً أخرى في الحياة الآخرة: (قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ ۚ قُلِ ٱللَّهُ يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ).

ـ الآية 37 التي استند يوسف درّة الحدّاد إلى مضمونها لإثبات نظريّته، حيث يؤكّد الله -تعالى- فيها بنحوٍ قاطعٍ على أنّ كلّ ما ذُكِرَ في القرآن هو من عنده، ولا ينبغي لأحد ادّعاء أنّه من عند غيره: (وَمَا كَانَ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَٰبِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ).

ـ الآيتان 38 و39 فيهما تحدٍّ للمشركين والمعاندين، حيث تأمرانهم بأن يأتوا بسورةٍ واحدةٍ شبيهةٍ بالسور القرآنيّة القرآنيّة؛ إنْ كانوا صادقين في زعمهم بأنّه مفترًى، وبأنّ مصدره غير الله، أو أنّه تعريبٌ للتوراة والإنجيل ومنسوخٌ منهما؛ كما ادّعى الحدّاد وأمثاله؛ فقد قال -تعالى- في الآية 38: (أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَىٰهُ ۖ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍۢ مِّثْلِهِۦ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ).

ـ الآيات 37 إلى 45 بشكلٍ عامٍّ فيها تأكيدٌ لما ذُكِرَ في الآيات الأولى من السورة، حيث تؤكّد على أنّ القرآن كتابٌ منزلٌ من قِبَل الله -تعالى- دون أدنى شكٍّ وتردّدٍ.

(334)

وتتمثّل إحدى مراحل هداية الناس من قِبل الله -عزّ وجلّ- في وحيه إلى أنبيّائه ورسله، وإنزال الكتب المقدّسة عليهم، حيث أُنزلت هذه الكتب على نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليه‌السلام، وكذلك منها الكتاب المُنزَل على خاتمهم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ وهذه السنّة الكونيّة أشير إليها في آية بحثنا: (وَلَٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَٰبِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ)[1]. واستنادًا إلى هذه الحقيقة، فمواقف المشركين والمكذّبين لرسالة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وضغوطهم الشديدة عليه، هي على غرار ما واجهه الأنبيّاء والمرسلون الذين سبقوه.

وكما هو معلومٌ، فالتصديق هو عكس التكذيب؛ أي إنّه يعني موافقة الطرف المقابل على ما يقوله، ومن المؤكّد أنّ تصديق شخصٍ من حيث العقيدة أو الخبر، لا يعني كون المصدِّق لا يعرف شيئًا سوى هذه العقيدة وهذا الخبر، كما لا يعني أنّ ما لديه هو نسخةٌ مطابقةٌ للنسخة التي بين يدي من صدّقه. وكذلك لا يُراد من التصديق إحاطة من نصدّقه بنا وتسلّطه علينا، ومن هذا المنطلق فإنّ تصديق القرآن الكريم للكتب السابقة لا يُقصد منه كونه نسخةً منها؛ بحيث يدّعى أنّه عارٍ من كلّ تغيير وعديم التأثير.

 ولو اعتبر أنّه مجرّدُ ناقلٍ لما في تلك الكتب وأنّه ترجمةٌ عربيّةٌ لنصوصها، يَرِدْ على صاحب هذا الرأي الإشكال التالي: لو زعم أنّه ترجمةٌ للتوراة والإنجيل، كيف يبرّر تلك المواضيع التي تطرّق إلى ذكرها ولا وجود لها في هذين الكتابين؛ مثل: قصّة أصحاب الكهف وغيرها؟ لا شكّ في أنّ الكتب السابقة ضمّنها الله -سبحانه وتعالى- مواضيع تتناسب مع المستوى الفكريّ والاجتماعيّ للمجتمعات التي أُنزِلَت إليها، ومن الطبيعيّ أنّ مشيئته اقتضت أنْ يكون القرآن مصدّقًا للأنبيّاء والرسل وكتبهم السابقة[2].

فهل يمكن حقًّا تجاهل كلّ تلك الاختلافات الكائنة بين النهج المتّبع في التوراة والإنجيل والنهج المتّبع في القرآن الكريم على صعيد استعراض الأحداث والوقائع، بزعم أنّه ترجمةٌ لهما؟ هذه الأحداث والوقائع المذكورة تختصّ بدعوة خاتم الأنبيّاء فقط، ومن ميّزات دعوته -أيضًا- أنّها لا تختصّ بفئةٍ معيّنةٍ من البشر ولا بقومٍ على نحو الخصوص، بل هي دعوةٌ عامّةٌ موجّهةٌ إلى البشريّة

(335)

جمعاء؛ لذا فالنصّ القرآنيّ الذي يمتاز بالخطاب الشموليّ هو في مقابل نصّ التوراة الذي تتمحور تعاليمه حول بني إسرائيل فحسب[1]؛ كما إنّه على خلاف الأناجيل التي ذكر مدوّنوها فيها مذكّراتهم وما شهدوه في حياتهم ومختلف معقتداتهم؛ بالنسبة إلى المسيح وسلوكه وطبيعة دعوته[2].

وهناك مسألةٌ ملحوظةٌ في شتّى الآيات القرآنيّة؛ وهي تأييد الكتب المُنزلَةَ على سائر الأنبيّاء والرسل، إلى جانب التأكيد على أنّ هذا الكتاب عبارةٌ عن امتدادٍ لتلك الكتب؛ ومن جملتها الآية 3 من سورة آل عمران: (نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقًۭا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَىٰةَ وَٱلْإِنجِيلَ)، فالقرآن الكريم يعتبر نفسه امتدادًا لما أنزل الله -تعالى- في التوراة والإنجيل؛ وقد أعلن النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله دعوته في رحاب دينٍ وكتابٍ جديدين، دون أن يفنّد الكتاب السماويّ السابق أو يبطله.

إنّ روح القرآن الكريم هي تأييد الكتب المقدّسة السابقة؛ ويؤكِّد ذلك ارتباط مضامين آياته بمضامينها. ووصفه بالمصدّق لها لا يعني تكراره لما ذُكِرَ فيها نفسِه، أو توضيحه المواضيع التي لم توضّح فيها؛ كما فعل الكثير من الأنبيّاء السابقين، وإنّما هو كتابٌ سماويٌّ جديدٌ منزلٌ من قِبَل الله -سبحانه وتعالى-.

وقد كان المخاطبون الأوائل يعتقدون بأنّ الفرق بين القرآن والكتب السابقة يكمن في مواكبته متطلّبات عصرهم التي لم تكنْ معهودةً لدى أسلافهم، لذلك لم تكنْ تلك الكتب قادرةً على تلبيتها؛ لذلك أنزله الله -تعالى-؛ ومحوره الأساس هو بيان واقع التوحيد والتأكيد على حتميّة المعاد في يوم القيامة.

فالتوراة يغلب عليها طابع الوعيد؛ بينما الإنجيل طابعه الغالب هو التبشير؛ ومن هذا المنطلق جاء الكتاب الجديد - القرآن - بهدف إيجاد توازنٍ بين الأمرين وإتمام ما ذُكِرَ من مسائلَ بخصوص التوحيد والمعاد، ومن ثمّ طرح إيديولوجيا دينيّةٍ أكثرَ تكاملًا وصوابيّة في هذا المضمار، وقد اقتضت الضرورة ذلك؛ نظرًا للتحوّل الفكريّ الذي شهدته المجتمعات البشريّة والتغييرات المشهودة التي طرأت في شتّى المجالات، ففي خضمّ أوضاع كهذه لا بدّ من إنزال كتابٍ سماويٍّ جديدٍ يلبّي حاجة البشر، يأتي به نبيًّ جديدٍ، يحمل تعاليم تفوق مستوى التعاليم السابقة.

(336)

ونستوحي من مضمون الآية 48 من سورةِ المائدة[1] أنّ القرآن الكريم في صدد الهيمنة على الكتب السماويّة السابقة، وذِكْر كلّ ما لم يُذكر فيها، وأسلوبه المؤيّد لتلك الكتب يدلّ على أنّ آياته التي أُنزِلتَ في ذلك العصر تحاكي آياتها بنحوٍ ما؛ بحيث كان مخاطبه يشعر بهذا الارتباط؛ وكلّ آيةٍ منه في تلك الظروف كانت مكمِّلةً لجانبٍ من مضامين التوراة والإنجيل وهدفها إزالة مكامن الاختلاف حولها أو التذكير ببعض مسائلها.

ومخاطَب النصّ القرآنيّ في تلك الآونة كان يشعر دائمًا بوجود محاكاةٍ وتناصٍّ بين القرآن والكتاب المقدّس، والنصّ القرآنيّ بدوره على ضوء إحالاته إلى نصّ الكتاب المقدّس كان يؤكّد على هذا التعالق النصّيّ[2]، حيث كان الارتباط موضوعيًّا مع التوراة والكتب السماويّة الأخرى؛ وفي هذا السّياق تمّ التأكيد على أنّ بعض مضامينها ثابتةٌ لا تغيّر لها، في حين أنّ بعضها الآخر عرضةٌ للتغيير[3].

وقال أحد الباحثين في هذا الصدد: «القرآن الكريم يشير في بعض آياته إلى الكتب السابقة؛ مثل: صحف إبراهيم، والتوراة، والزبور، والإنجيل، إلا أنّ الجانب الأكبر من مضامينه هي قرآنيةٌ بحتةٌ، لا ارتباط لها مطلقًا بتلك الكتب؛ لدرجة أنّ المخاطب على ضوئها في غنًى عن الرجوع إلى أيّ كتابٍ مقدّسٍ آخرَ؛ ما يعني أنّ التناصّ -التعالق النصّيّ- بين الكتب المقدّسة يبلغ أدنى المستويات وغاية ما يفيده هو حقّانيّة الدين وارتباط نصوصها بالمصدر الغيبيّ الذي انبثقت منه. بما أنّ النصّ المقدّس الجديد عبارةٌ عن نتاجٍ مرتبطٍ بالوحي الذي هو المصدر الأساسيّ لجميع الأديان السماويّة، فالهدف المحوريّ فيه هو الحفاظ على الارتباط بين هذه الأديان، وهذا الارتباط ليس سوى جزءٍ من المنظومة العقائديّة للدين الجديد، وهو ما نلمسه في بعض المضامين القرآنيّة التي تعتبر جديدةٌ من نوعها بالنسبة إلى غيرها: (ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍۢ مِّن رُّسُلِهِۦ ۚ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ) (سورة البقرة، الآية 285)»[4].

(337)

وإذا افترضنا أنّ النصّ القرآنيّ أُريد منه الترويج للتوراة والإنجيل -كما ادّعى يوسف درّة الحدّاد- كان من الحريّ بالآيات القرآنيّة التصريح بهذا الأمر، لا أنْ تقول: (مُصَدِّقًۭا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ)، ولا شكّ في أنّ تفسيرْ لمفهوم التصديق -هنا- قائمٌ على آراء أسلافه ومرتكزاته الإيديولوجيّة المسيحيّة، ومن ثمّ فهو لا يقوم على أصول البحث العلميّ المعتبرة.

وهناك مسألةٌ في غاية الأهمّيّة يجب أن تُضاف إلى الأدلّة التي ذُكِرتَ آنفًا؛ وهي أنّ آية بحثنا وسورة يونس بشكلٍ عامٍّ، في مقام تفنيد كون النصّ القرآنيّ مفترًى، لذلك اقتضت الضرورة تأكيد القرآن على عدم تعارضه مع الكتب السماويّة السابقة ومع رسالات سائر الأنبيّاء؛ لإثبات أنّ الدعوة الإسلاميّة تتناغم مع دعوتهم الدينيّة، وجميع المعتقدات التي جاء بها منسجمةٌ مع معتقداتهم ومتمّمةٌ لها؛ وعلى هذا الأساس لا نبالغ لو قلنا إنّ أنسب تفسير للتفصيل في الآية المذكورة هو البيان والتوضيح، وهذا المعنى أفضل بكثيرٍ من تفسيره بالتعريب؛ أي أنّ القرآن -بحسب هذا الرأي- مبيِّنٌ وموضِّحٌ للكتب السماويّة السابقة؛ وفيه تتجلّى الأحكام الأساسيّة والمعتقدات الأصوليّة؛ في التوحيد، والنبوّة، لذا لا شكّ ولا تردّد في كونه منزلًا من قِبَل الله عزّ وجلّ.

إضافةً إلى ما ذُكر، فإنّ عبارة: (وَلَٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ) في هذه الآية تدلّ بوضوحٍ على أنّ التفصيل لا يمكن أن يُفسَّر بتاتًا بالتعريب، إذ لو كان القرآن ترجمة عربيّة للتوراة والإنجيل؛ كما ادّعى الحدّاد، فالتصديق في هذه الحالة لا موضوعيّة له، إذ لو كان مجرّد ترجمةٍ؛ لوجب إطلاق كلمة (كتاب) عليه؛ باعتباره نسخةً عربيّةً، ولما وُصِفَ بالمصدّق.

وينقل الحدّاد عن المفكّر اللبناني عفيف عبد الفتاح طبّارة قوله: «ثبت من الناحية التأريخيّة أنّ الترجمة العربيّة للتوراة والإنجيل لم تكنْ موجودةً في عصر النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله»، ثمّ علّق على كلامه قائلًا: «القرآن بذاته تحدّى اليهود حينما قال: (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَني‏ إِسْرائيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلى‏ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ)[1]، لذا لو لم تكنْ هناك توراةٌ مدوّنةٌ باللغة العربيّة، لماذا تحدّى القرآنُ اليهودَ؟ هل إنّ تحدّيه أهل التوراة كان يعني مجيئهم بالتوراة العبريّة وتلاوتها أو العربيّة؟ لا شكّ في أنّ القرآن قد تحدّى في هذه الآية التوراة العربيّة، وفي غير هذه الحالة لا يمكن اعتبار تحدّيه جادًّا»[2].

(338)

والسؤال الذي يُطرح على ادّعاء الحدّاد، بكون التوراة والإنجيل العربيَّتين كانتا في متناول المشركين؛ مفاده: ما السبب الذي يُوجب إنزال كتاب باللغة العربيّة هو في الأساس موجودٌ لدى الناس؟!

2. الآيتان 114 و115 من سورة الأنعام:

قال -تعالى-: (أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْتَغِى حَكَمًۭا وَهُوَ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ إِلَيْكُمُ ٱلْكِتَٰبَ مُفَصَّلًۭا ۚ وَٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ ٱلْكِتَٰبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُۥ مُنَزَّلٌۭ مِّن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ 114 وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًۭا وَعَدْلًۭا ۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ ۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ 115)[1].

خصّص يوسف درّة الحدّاد، لدى تفسيره مضمون الآية 114 من سورة الأنعام مبحثاً مستقلاً لكلمة (مفصّلًا)؛ هادفًا من ذلك إثبات أنّها لا تدلّ على البيان والتفصيل، بل الترجمة إلى العربيّة، حيث أكّد على أنّ القرآن في هذه الآية ذكر تفصيل الكتاب؛ قاصدًا من ذلك التوراة والإنجيل، واستدلّ على رأيه هذا بـ (الـ) التعريف التي دخلت على كلمتَيِ الكتاب؛ ما يعني أنّ الكتاب المُنزلَ على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الكتاب ذاته الذي أُنزِلَ قبله؛ أي التوراة والإنجيل، ومن ثمّ فهو تفصيلٌ له، والتفصيل -هنا- يُراد منه الترجمة إلى اللغةَ العربيّة[2].

وفي نقد رأي الحدّاد يمكن القول:

أوّلًا: نستشفّ من العبارة الأولى في الآية 114 (أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْتَغِى حَكَمًا) أنّ الحَكَم هو الله عزّ وجلّ، والاستفهام الموجود فيها تقريريٌّ يُراد منه ذِكْر خبرٍ على لسان النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ فحواه: إناطة الحكم بالله فقط؛ والهدف -هنا- الردّ على المشركين الذين نقل قسمهم في الآية 109 من السورة ذاتها بأنّهم سيؤمنون في ما لو جاءتهم آية: (وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌۭ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا ٱلْءَايَٰتُ عِندَ ٱللَّهِ ۖ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ)، لذلك أجابهم النبيّ بصيغة استفهامٍ إنكاريٍّ بأنّ الحكم لله فقط.

إذًا، موضوع الآية يتمحور حول المشركين والنبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، ولا صلة لها بالإنجيل ولا النصارى.

(339)

ثانيًا: بعد ذلك شهد الله -عزّ وجلّ- بأنّه هو الذي أنزل القرآن؛ حيث قال: (وَهُوَ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ إِلَيْكُمُ ٱلْكِتَٰبَ مُفَصَّلًۭا)، والكتاب الذي نزل مفصّلًا هو القرآن طبعًا، وضمير الجمع في عبارة (إليكم) ينوب عن جميع مخاطبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ من مسلمين، ومشركين، وأهل كتاب.

ثالثًا: الضمير (هو) في عبارة: (وَهُوَ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ إِلَيْكُمُ) يعود إلى لفظ الجلالة المذكور في بادئ الآية؛ ضمن قوله -تعالى-: (أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ).

رابعًا: كلمة (أنزل) فعلٌ ماضٍ مصدره (نزول)، وهي ذاتُ دلالاتٍ عديدةٍ؛ من ضمنها: الحلول في مكانٍ ما؛ كما في قوله -تعالى-: (لَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّٰتٌۭ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا نُزُلًۭا مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ ۗ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌۭ لِّلْأَبْرَارِ)[1]، كما تعني السقوط من الأعلى إلى الأسفل، وتعني -أيضًا- التنزيل؛ بمعنى الترتيب[2]. واستنادًا إلى ما ذُكِرَ من معانٍ، وعلى ضوء سائر الكلمات الموجودة في الآية، يتّضح لنا مفهوم العبارة؛ وهو التالي: الله أحكم الحاكمين هو الذي أنزل القرآن مفصّلًا، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مأمورٌ بأن يُخبر الناس بذلك.

وأمّا عبارة: (ٱلْكِتَٰبَ مُفَصَّلًا) فقد مرّ توضيح معنى التفصيل في المباحث الآنفة، ومن المتبادر ذهنيًّا أنّ هذه الكلمة تعني البيان والتوضيح، وبما أنّ الآية أشارت إلى أنّ الكتاب أُنزل من قِبَل الله -تعالى-، لا عن طريق النقل والترجمة، فنزوله على هيئة قرآنٍ هو المقصود من تفصيله؛ لأنّ المقصد والمقصود واضحان، وصدق مضمونه وصراحته جليّان للعيان.

و(الكتاب) في قوله -تعالى-: (وَٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ ٱلْكِتَٰبَ) لا يُراد منه القرآن؛ لأنّ المقصودين -هنا- غير الذين وُجِّهَ لهم الخطاب في بداية الآية، والاسم الموصول (الذين) يشير إلى المؤمنين

(340)

من أهل الكتاب؛ اليهود، والنصارى؛ الذين يتّبعون أحكام التوراة والإنجيل[1]، إذ يعلمون أنّ القرآن منزلٌ من عند الله -تعالى- بالحقّ، وكلّ ما فيه هو عين الصواب: (يَعْلَمُونَ أَنَّهُۥ مُنَزَّلٌۭ مِّن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ)، حيث يدركون هذه الحقيقة بالبرهان الذي كان لديهم سابقًا.

إذًا، الآية تؤكّد على أنّ أهل الكتاب يعلمون أنّ القرآن منزلٌ من عند الله -تعالى-، وليس ترجمةً عربيّةً للتوراة والإنجيل.

لو أنّ القرآن -كما يدّعي الحدّاد- مترجمٌ من التوراة والإنجيل ومجرّدُ ناقلٍ لما فيهما، فلا موضوعيّة لقوله -تعالى-: (يَعْلَمُونَ أَنَّهُۥ مُنَزَّلٌۭ مِّن رَّبِّكَ)، فكيف يبرّر المقصود من هذه العبارة؟ وهل يمكنه نفي دلالتها على أنّهم يعلمون أنّ القرآن منزلٌ من عند الله؟ من المؤكّد أنّ الأمر إذا كان كما يدّعي؛ لوجب عندئذ أن يُقال: (يعلمون أنّه مترجمٌ أو منقولٌ)، لكنّ النصّ القرآنيّ ليس كذلك قطعًا، بل يؤكّد على أنّ جميع الكتب السماويّة قد أُنزلت على الأنبيّاء من قِبَل الله -عزّ وجلّ-؛ وبما فيها: القرآن الكريم؛ الذي هو في الواقع ليس ترجمةً عربيّةً للتوراة والإنجيل، ولا نسخةً شبيهةً لهما.

من البديهي أنّ الله -عزّ وجلّ- أوحى كتبه إلى أنبيّائه، ولم يطلب منهم ترجمة الكتب السابقة إلى لغة قومهم، فهو الذي أنزل التوراة والإنجيل في حقبةٍ من الزمن لهداية البشر، وهو قادرٌ بكلّ تأكيد على إنزال القرآن في حقبةٍ زمنيّةٍ لاحقةٍ وفي أرضٍ أخرى[2].

وكلمة (الممترين) في عبارة: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ) تعني المشكّكين، وقد جاءت بعد عبارة: (وَٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ ٱلْكِتَٰبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُۥ مُنَزَّلٌۭ مِّن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ)، وبعد ذلك وجّه الخطاب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، حيث يتضمّن هذا الكلام التفاتًا، والعبارة الأولى عبارةٌ عن جملةٍ اعتراضيّةٍ هدفها طمأنة النبيّ وشدّ أزره، وفي الحين ذاته إشعار المشركين بأنّه بصيرٌ بما أنزل الله -تعالى- إليه[3].

ولا يختلف اثنان في أنّ النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يشكّك بحقّانيّة القرآن مطلقًا، بل من المستحيل أن يفعل ذلك؛ ومع كونه معصومًا فقد وجّه الله هذا الخطاب له - أي إنّه خطاب من الأعلى

(341)

إلى الأدنى، من الله، لا من غيره -[1] فهو من سنخ الشرط الذي لا يقتضي التحقّق؛ لأنّه حقًّا لم يشكّ بالقرآن[2].

والآية اللاحقة: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًۭا وَعَدْلًۭا ۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ ۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ) هي في الحقيقة متمّمةٌ لما قبلها، فالسابقة أكّدت على أنّ القرآن منزلٌ بالحقّ من قِبَل الله -تعالى-؛ وهو آيةٌ عظيمةٌ على صدق نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، لذلك جاءت هذه الآية لتؤكّد صدق كلام الله وعدله المطلق[3].

وقد جاء التأكيد في الآية 114 على أنّ القرآن معجزةٌ، وفي الآية التالية لها تمّ التذكير بأنّ كلمة الله قد تمّت، وعلى هذا الأساس يتّضح لنا أنّ الله أنزل القرآن؛ كي يكون شاهدًا على صدق رسالة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، والذين أوتوا التوراة والإنجيل يعرفون حقّ المعرفة أنّه منزلٌ من قِبَله -تعالى- وقد تمّ تفصيله بلغة ٍعربيّةٍ؛ لأنّ كلّ نبيًّ لا بدّ أن يُرسَل بلسان قومه: (وَمَآ

(342)

أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)[1].

اتّضح لنا ممّا تقدّم أنّ تفسير يوسف درّة الحدّاد للآيتين المذكورتين قائمٌ على مرتكزاته العقديّة وإيديولوجيّته المسيحيّة؛ ما يعني أنّه لم يتعامل مع النصّ القرآنيّ وفق رؤيةٍ علميّةٍ، ولم يكنْ هدفه تفسير آياته وألفاظه على نهج الحقّ والحقيقة؛ وأحد الشواهد على ذلك: أنّ تفسيره لكلمة (تفصيل) ومشتقّاتها بعيدٌ للغاية عن المعنى اللغويّ الثابت لها، فضلًا عن عدم اتّساقه مع المقصود القرآنيّ منها؛ إذ لا نستشفّ من الآيات التي سلّط الضوء عليها بالبحث والتحليل أيّ مؤشّرٍ يمكن الاعتماد عليه لادّعاء أنّ هذه الكلمة يُراد منها التعريب؛ كما زعم. وتجدر الإشارة إلى أنّه أقرّ بكون التفصيل المذكور في الآية 145 من سورة الأعراف[2] لا يمكن أن يدلّ إلا على البيان والتوضيح، لذا يُطرَح عليه هذا السؤال: ما هو الدليل إذًا على ادّعاء أنّ هذه الكلمة التي ذُكِرَت في آياتٍ أخرى يُراد منها التعريب؛ أي ترجمة القرآن إلى اللغة العربيّة؟ والحال أنّ هذا الرأي لا يؤيّده المدلول اللغويّ للكلمة، ولا مفهوم النصّ القرآنيّ، ولا سياقه؟!

المبحث الثاني: التفصيل؛ بمعنى النصّيّة الموازية:

سلّط بعض المستشرقين الضوء على كلمة التفصيل ومشتقّاتها في القرآن الكريم من زاويةٍ دلاليةٍ أخرى، ومن جملتهم نيكولاي سيناي الذي أكّد على أهمّيّة مراحل نزوله وتكوينه التدريجيّ، حيث اعتبره متأثّرًا بهذه المراحل؛ من حيث الهيئة والبنية، وحتّى المضمون الأنثروبولوجي واللاهوتي، فهو كتابٌ تبلور خلال مراحل عدّة، وشهد تحوّلًا في فترة نشأته، وعلى هذا الأساس، لا بدّ للباحث الذي يتطرّق إلى تفسيره من التركيز على الصلة الرابطة بين عباراته والواقع التأريخيّ لمخاطَبيه الأوائل، إلى جانب الأخذ بعين الاعتبار طبيعة ارتباط هذه العبارات مع القراءات السابقة المطروحة من قِبَل النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والقراءة الحقيقيّة للقرآن -برأي هذا المسشترق- يجب أن تتمّ بشكلٍ مرحليٍّ متدرّجٍ، لذا لا ينبغي اعتباره نصًّا موحّدًا مرتكزًا على نمطٍ موحّدٍ من حيث التفسير؛ وإنّما هو نصٌّ يجب أن

(343)

يُفسَّر على ضوء مراحلَ زمنيّةٍ متغيّرةٍ ومنفكّةٍ عن بعضها؛ وهذا الأسلوب المرحلي والمتغيّر[1] الذي يواكب نزوله ويتواصل مع نشأته وتكوينه، ذو ارتباطٍ بنصّه وبالواقع التأريخيّ الأوّل لمخاطَبيه، كذلك له علاقةٌ بالتلاوات الأولى في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، وهذا الارتباط نصّي[2]؛ بطبيعة الحال[3].

وبناءً على هذا الرأي يحفظ الارتباط الموازي للنصّ، وفي الحين ذاته يبقى ارتباطه النصّيّ محفوظًا أيضًا.

وقد وصف سيناي مسألة التحوّل والتكامل في النصّ القرآنيّ بأنّها أفضل دليلٍ يمكن الاعتماد عليه؛ لإثبات التلاحم الموجود بين بنيته وعباراته الأولى؛ وحجم كلّ آيةٍ وكل سورةٍ فيه، وبنية قوافيه، وشتّى مضامينه؛ ومن ثمّ يجب تفسيره وتحليل مداليله؛ اعتمادًا على أسسٍ لغويةٍ تتناسب مع ظروف كلّ مرحلةٍ من المراحل التأريخيّة التي تكوّن فيها. هذا الأسلوب يختلف -طبعًا- عمّا تبنّاه دانيال ماديجان الذي رفض مسألة اختلاف الزمان والتدرّج التأريخيّ بالنسبة إلى النصّ القرآنيّ.

وترتكز القراءة التحوّليّة القائمة على مرحليّة نزول النصّ القرآنيّ وتكوينه التدريجيّ على الأصول التالية:

ـ إمكانيّة طرح قراءة للقرآن تتبلور على ضوئها الظروف التأريخيّة التي واكبت حياة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وشتّى الظروف التي اكتنفت حياة صحابته وسادت في عصره بشكلٍ عامٍّ.

ـ الأحداث المعاصرة لم تنعكس في النصّ القرآنيّ بشكلٍ منفعلٍ؛ وإنّما تمّ تصويرها على ضوء ردودِ أفعالٍ مؤثّرةٍ، ووضّحت بعض جوانبها، وفي هذا السّياق أُمر المسلمون باتّباع أسلوبٍ خاصٍّ في التعامل معها؛ وهذه القراءة تختلف عمّا طرحه دانيال ماديجان الذي قيّد النصّ بمضمونه الذاتيّ وطابعه اللغويّ.

ـ كلّ سورةٍ يجب أن تُقرأ في رحاب البنية التأريخيّة المعاصرة لنزولها، وعلى ضوء ارتباطها

(344)

بالسور التي نزلت قبلها؛ فهذه السور مرتبطةٌ بها من الناحية التفسيريّة وتحوي عناصرَ هامّةً تساعد على فهم مدلولها ومدلول كلّ سورةٍ لاحقةٍ[1].

واستدلال سيناي؛ فحواه: أنّ الآيات القرآنيّة ليست على غرار الخطابة التي هي عبارةٌ عن نصًّ أدبيٍّ محدودِ الصلاحيّة، بل بسطت نفوذها في المجتمع الإسلاميّ بكلِّه، وكان لكلّ واحدةٍ منها دورٌ في فهم الآيات اللاحقة التي تنزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ وفي هذا السّياق قال إنّ بعض السور التي تحدّثت عن الآخرة تتضمّن مواضيعَ تمّ بيانها ضمن آياتٍ نزلت في ما بعد؛ لأنّ الضرورة اقتضت توضيحها للمخاطب؛ ومثال ذلك: الآيتان 25 من سورة الانشقاق، و6 من سورة التين، فهما عبارةٌ عن آيتين ملحقتين من حيث المضمون بما طرح سابقًا، لذا فإنّ هدفهما هو توضيح ما ذُكِرَ قبل ذلك في آياتٍ سابقةٍ، حيث تمّت طمأنة المؤمنين فيهما بأنّهم مستثنَوْن من عذاب الآخرة الذي تمّ التأكيد عليه قبل ذلك، وقد استدلّ بهما؛ نظرًا لتشابههما من حيث الحجم والمفهوم.[2]

ومن مختصّات الآيات التي أُوحيت في بادئ الأمر أنّها برأيه توجّه اتّهامًا شديد اللهجة للبشر، ولكنْ بعد مرور مدّةٍ من الزمن وإثر إيمان عددٍ من الناس برسالة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، شهد النصّ القرآنيّ إشاراتٍ إلى صنفين منهم؛ أي المؤمنين، والكافرين، حيث اتّصفوا بالإيمان والكفر بعد ظهور الأحكام القرآنيّة الأولى؛ وهذا التجديد -طبعًا- من صنع الله، وقد تجلّى في الآيات التي نزلت لاحقًا بشكلٍ أوضحَ، ولكنّ توسيع نطاق النصّ بهذا الأسلوب لا يمكن اعتباره معقولًا ومنطقيًّا؛ إلا إذا تواصل نزول آياته بعد أوّل إعلانٍ له[3].

وأضاف في هذا المضمار أنّ الآيات القرآنيّة كان لها تأثيرٌ مشهودٌ في حياة المسلمين الدينيّة، وجميع المؤمنين كانوا على علمٍ بها، لذا فالنصوص التي كانت موجودةً خلال مراحل نزول النصّ القرآنيّ التدريجيّ يجب أن تفي بدور في تلك الآونة؛ باعتبارها نصوصًا رسميّةً أوّليّةً تبلورت في رحاب المجتمعات المحاذية للمجتمع الإسلاميّ؛ وقد ذكر هذه الفكرة على ضوء اعتقاده بشموليّة الوحي، إذ غاية ما في الأمر أنّ المسلمين لديهم نزعةٌ تفسيريّةٌ خاصّةٌ بهم بالنسبة إلى الوحي المنزل  

(345)

على نبيّهم[1]؛ ما يعني وجود تضاربٍ أو تناسبٍ في المعنى بين الآيات الـمُنزلَةَ والأسس الاجتماعيّة الحاكمة في تلك الآونة، ووجود تناسب -أيضًا- بينها وبين الآيات المُنزلَةَ سابقًا[2].

ومن الأمور التي أكّد عليها أنّ تحديث النصوص التي كانت موجودةً آنذاك قد أُنجز بأسلوبين يمكن تقريرهما في التالي:

الأسلوب الأوّل: إلحاق الآية بالنصّ ذاته؛ مثل: إلحاق الآية 25 من سورة الانشقاق، والآية 6 من سورة التين.

الأسلوب الثاني: التذكير بالسور السابقة وتفسيرها وبيان مضامينها ضمن سورٍ مستقلّةٍ وجديدةٍ[3].

وهذان الأسلوبان لا يختلف أحدهما عن الآخر -برأيه- على صعيد تحديث النصّ.

إذًا، المعيار الذي اعتمده هذا المستشرق في تعيين ترتيب الآيات والسور من حيث التقدّم والتأخّر يقوم في بادئ الأمر؛ على بنية العبارات الأولى وحجم الآيات والسور، وكذلك يرتكز على بنية القافية والمضمون؛ وهذه الأمور اعتبرها مؤشّراتٍ يمكن الاستناد إليها لتشخيص الإلحاق الذي حدث في ما بعد؛ وعلى أساس هذا الترتيب بادر إلى تفسير النصّ القرآنيّ.

ومن المؤكّد أنّ النصّ القرآنيّ هو كلام الله -تعالى-، لذلك روعيت في رحابه أصول الكلام والخطاب اللفظيّ، وقد أنزل بشكلٍ تدريجيٍّ؛ وفقًا لظروفٍ ومقتضياتٍ خاصّةٍ، حيث حدّد الله -عزّ وجلّ- عدد الآيات والسور وحجمها ومحتواها؛ طبقًا لما تقتضيه حاجة عباده.

وليس هناك أيّ دليلٍ يثبت صوابيّة ما ادّعاه سيناي من الإضافات إلى النصّ القرآنيّ في فترة ما بعد النزول، ولعلّه اختار هذا الرأي متأثّرًا ببعض روايات جمع القرآن وتدوينه، وبما ذكره أسلافه المستشرقون الغربيّون في هذا الصدد؛ مثل: ثيودور نولدكه؛ والواقع أنّ كلّ خطيبٍ يوجّه كلامه للناس؛ عادةً ما يصوغ عباراته؛ وفقًا للظروف الزمانيّة والمكانيّة السائدة في

(346)

عصره، وتناسبًا مع مستوى مخاطبيه، فهذه الأمور تختلف باختلاف الزمان والمكان والأوضاع الاجتماعيّة، لذا لا بدّ له من اتّباع أسلوبٍ خاصٍّ يتناغم مع هذه الأوضاع. وكذلك فإنّ طول الخطاب من حيث الإطناب والإيجاز، هو الآخر عائدٌ إلى الظروف التي تكتنف مخاطبيه، وهناك احتمالٌ -أيضًا- في تكرار بعض المواضيع لمخاطبين جددٍ، لذا لا يستبعد ذِكْر مواضيعَ جديدةٍ ومختلفةٍ عن سابقتها؛ بحيث تتناسب مع ظروفهم، وعلى هذا الأساس قد يتمّ التوسّع في الخطاب أو اختصاره؛ وفقًا لمقتضى الحال.

لا شكّ في وجوب تكرار الكلام؛ في ما لو كانت له الأولويّة؛ من حيث الأهمّيّة، وكان مرتكزًا تتبلور على ضوئه الأهداف المنشودة، فقد أكّد الله -تبارك وتعالى- في النصّ القرآنيّ على بعض المواضيع، وكرّرها في آياتٍ عدّة؛ لأجل إشعار الناس بمدى أهمّيّتها البالغة؛ على الرغم من أنّ كلامه موجّهٌ إلى المخاطَبين ذاتهم؛ لذلك نلمس في النصّ القرآنيّ تكرارًا لعددٍ من القضايا نظرًا لأهمّيّتها، سعيًا من المشرّع إلى هداية البشر، وإحياء ضمائرهم، والتأكيد لهم على أهمّيّة ما يُذْكَر لهم بشكلٍ متواصلٍ، وفي هذا السّياق نلاحظ تأكيدًا كثيرًا على أهمّيّة التذكير والتفكّر؛ لأنّ الهدف لا يتحقّق دون ذلك. وأمّا السبب في ذِكر تفاصيل بعض المواضيع في آيات دون أخرى أو تكرار هذه التفاصيل ذاتها، فيعود إلى أنّ القرآن كتابُ هديٍ وتربيةٍ؛ ما يعني ضرورة اتّباع أسلوبٍ كهذا.

وتتحدّث الآيات الأولى من سورة الانشقاق عن المعاد والأحداث المذهلة التي سيشهدها العالم في نهايته وعند بداية يوم القيامة، ثمّ يساق الكلام فيها حول الحشر والحساب وبيان كيف إنّ الأبرار يحملون كتابهم بأيمانهم، والفجّار يحملونه وراء ظهورهم؛ جرّاء ارتكابهم أعمالًا تُوجِب سخط الله -عزّ وجلّ- وعذابه؛ وبعد ذلك جاء القسم فيها لإثبات مصير البشر؛ نتيجة أعمالهم؛ ضمن الإشارة إلى مسيرتهم في الحياتين الدنيا والآخرة؛ وفي نهاية المطاف تكرّر التذكير باستحقاق العصاة عذاب الله واستحقاق المؤمنين نعيمه.

هذه السورة بأكملها تتمحور حول خِلْقَة الإنسان، ومراحل تكامله، وانحطاطه، ضمن مصيره الذي يخطّه بنفسه إثر أعماله، حيث تشير إلى مسبّبات نجاته من العذاب، أو سقوطه فيه؛ ضمن تأكيدها على حتميّة المعاد يوم القيامة، والسيادة المطلقة لله عزّ وجلّ. وتوضّح

(347)

الآية 25 طريق العودة إلى المسار الصحيح لمن انحرف عنه، وتؤكّد للكفّار على نجاة التائبين والصالحين من العذاب الإلهيّ.

والموضوع الأخرويّ في هذه السورة مطروحٌ -أيضًا- في سُوَرٍ أخرى؛ ومن جملتها: سورة الانفطار التي تتحدّث عن القيامة، والإنسان، والله، ومسيرة الإنسان، والقرآن، وعلم الله -تعالى- بنوايا بني آدم وأهدافهم، والدوافع التي تحفّز الكفّار على التكذيب بالحقّ.

ومن هنا، يمكن طرح السؤال التالي على نيكولاي سيناي؛ هو نظرًا للتشابه الموجود بين سورتَيِ الانشقاق والانفطار من حيث المضمون، ألم يكنْ من الأنسب - كما يدّعي - أنْ تُلحَق إحداهما بالأخرى ضمن سورةٍ واحدةٍ؟!

وتتحدّث سورة التين هي الأخرى عن عظمة خلقة الإنسان، وأفضليّته على غيره من هذه الناحية، فقد خُلِقَ في أحسن تقويمٍ؛ كي يتأقلم في حياته الدنيويّة مع الظروف المحيطة به ويبقى نسله دون انقطاعٍ؛ والآية السادسة منها فيها استثناءٌ متّصلٌ -استثناء الإنسان من جنسه- أي اُستثني الذين عملوا الصالحات من الذين يُردّون إلى أسفل سافلين ويطالهم عذاب أليم. والآيتان الأخيرتان فيهما خطابٌ للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله واستفهامٌ إنكاريٌّ لإثبات أنّ الله -سبحانه وتعالى- أحكم الحاكمين. والمعنى العامّ للسورة أنّ البشر بعد خلقهم ينقسمون إلى فئتين؛ فمنهم من ينحرف عن الخِلْقَة القويمة التي أكرمه الله -تعالى- بها، ومنهم من يبقى على فطرته السليمة ويسير على نهج الخِلْقَة القويمة[1].

لا شكّ في أنّ حكمة الله -تعالى- تقتضي عدم التعامل مع هاتين الفئتين من البشر بأسلوبٍ واحدٍ؛ لذلك ستنال إحداهما أجرًا عظيمًا، والأخرى سيطالها عذابٌ شديدٌ يوم القيامة، إلا أنّ الاستثناء المذكور في الآية 25 من سورة الانشقاق يُعدّ من سنخ الاستثناء المنقطع؛ لأنّ المستثنى منه هو الضمير في كلمة (فبشّرهم) ضمن الآية السابقة؛ وهو يعود إلى الكفّار المكذّبين. وإذا افترضنا أنّ هذا الاستثناء متّصلٌ، فالمقصود هو (الذين يتوبون من هؤلاء الكافرين ويؤمنون بالله)، ففي هذه الحالة يدلّ الفعل (آمنوا) على المستقبل؛ على الرغم من أنّه بصيغة الماضي؛ وذلك للتأكيد على التحقّق[2]، كما يشير إلى أنّ المجال ما زال مفتوحًا أمامهم للعودة إلى المسار

(348)

الصحيح، إذ يرفع العذاب الأليم قطعًا عن التائبين والمؤمنين والذين يعملون الصالحات، ومن ثمّ يكرمهم الله -تعالى- بأجرٍ عظيمٍ لا انقطاع له[1].

وقصّة النبيّ إبراهيم عليه‌السلام هي من المباحث الأخرى الذي تطرّق إليها هذا المستشرق، حيث تكرّرت في سورٍ عدّةٍ، وقد اعتبر أنّ الآيات التي نزلت لاحقًا وذُكِرَت تفاصيلها ليس إلا عبارةٌ عن تفسيرٍ مجدّدٍ للآيات المُنْزَلَة سابقًا، وهذا التفسير المتجدّد -برأيه- يشكِّل منطلقًا لتحديد تأريخ السور التي ذكرت أحداث القصّة، ولمعرفة واقع المجتمع الإسلاميّ في مكّة آنذاك[2].

وإذا كان مقصوده من هذا الكلام هو بيان تفاصيل القصّة؛ وفقًا للظروف المستحدثة في تلك الآونة ضمن الآيات التي جاءت لاحقًا، فلا بأس بذلك؛ لكنّ هذا الأمر لا يمكن اعتباره دائمًا مؤشّرًا على معرفة تأريخ نزول القصّة.

وجدير بالذكر -هنا- أنّ الإحالة الذاتيّة في القرآن الكريم -برأيه- هي ذات مراحلَ تدريجيّةٍ تتبلور من خلالها عمليّة من البحث والنقاش مع المخاطبين، وهذا التعامل له تأثير في صياغة البنية النصّيّة للقرآن ومضمونه العامّ، كما أنّه مؤثّرٌ في مسألة الإحالة الذاتيّة الموجودة فيه، والإحالة -هنا- إلى جانب كون النصّ القرآنيّ ذا منشأٍ ميتافيزيقيٍّ، يتناسبان -بطبيعة الحال- مع احتدام الجدل الذي شهده المجتمع الإسلاميّ الأوّل. وفي هذا السّياق تطرّق إلى الحديث -أيضًا- عن مصطلح (الكتاب) المذكور في الآيات الأولى لبعض السور، معتبرًا إياه دليلًا على المنشأ السماويّ، له لا للقرآن ذاته، وأكّد على أنّ الآيات الأولى من سور إبراهيم وهود والأعراف على غرار الآيات الأولى التي تبتدئ باسم الإشارة (تلك) أو عبارة (تنزيل الكتاب)، وعلى هذا الأساس ارتأى ضرورة تفسير الآيات السابقة على ضوء هذه العبارات؛ نظرًا للتشابه الموجود في موارد استعمالها، فهي من سنخ النصّ الموازي، وانعكاسٌ لشفهيّة النصّ القرآنيّ ومنزلته؛ أي إنّها علاماتٌ على الكتاب السماويّ[3].

و(الكتاب) ليس كما يتصوّر المخاطَبون، فهو ليس في متناول البشر مطلقًا؛ وإنّما هناك تلاواتٌ -آياتٌ- شفهيّةٌ منه لدى النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، وممّا ذكره هذا المستشرق أنّ القرآن لا

(349)

ينفي وجود ارتباطٍ بين الوحي والنصّ السماويّ المدوّن الذي أراده المخاطبون؛ إلا أنّ الكتابة تصوغ الوحي ضمن بنيةٍ جديدةٍ، وتفسح له المجال في أن ينتشر في المجتمع، لكنْ لا دور لها في تأييد النتائج التي تترتّب عليه، فهي مجرّد انعكاسٍ لمحتواه؛ وعلى هذا الأساس أكّد على ضرورة تفسير الآيات الأولى من سور الأعراف وإبراهيم وهود على ضوء الآيات التي تبتدئ باسم الإشارة (تلك) والتي تشير إلى النسخة السماويّة من الكتاب[1].

ونلمس من هذا الكلام أنّ سيناي يتبنّى رأيًا يختلف عمّا ذهبت إليه المستشرقة أنجليكا نويورث بالنسبة إلى الآيات والسور المُشار إليها، حيث يرى أنّ الآيات الأولى والأخيرة من هذه السور ليست كلّها من ضمن الكتاب السماويّ، بل هي مجرّد إطارٍ تُصاغ على أساسه مكوّنات الكتاب المقدّس؛ في حين أنّ نويورث تعتقد أنّ الأسلوب المتّبع في مستهلّها ضمن العبارات التالية وما شاكلها (تلك آيات الكتاب، كتاب أنزل، أنزلناه إليك) فيها إشاراتٌ خاصّةٌ إلى ما سيدور البحث حوله في أواسطها[2]؛ لكنّ هذا الرأي لا ينطبق على جميع السور بكلّ تأكيدٍ، إذ إنّ المباحث المطروحة في محتوى بعضها لا تتضمّن قصصًا من الأساس، أو فيها عباراتٌ قصصيّةٌ قصيرةٌ[3]، لذا لا يمكن ادّعاء أنّ السور التي تستهلّ بكلمة (الكتاب) تتضمّن في محتواها قصصًا وحكاياتٍ.

وهناك ملاحظةٌ هامّةٌ بالنسبة إلى نظريّة نويورث؛ وهي اعتقادها بوجود اختلافٍ بين كلام الله بشكلٍ عامٍّ، وكلامه المكنون في (الكتاب)، وهذا الرأي ليس صائبًا طبعًا، فحينما يؤكّد القرآن الكريم على أنّه منبثقٌ من مصدرٍ سماويٍّ موجودٍ قبل نزوله، فهو يقصد أنّه صادرٌ بالكامل من هذا المصدر، لا أنّ بعض آياته -فقط- صادرةٌ منه؛ وهذه الحقيقة مطروحةٌ من قِبل جميع المفسّرين المسلمين؛ وحتّى غير المسلمين؛ على الرغم من أنّ نيكولاي سيناي أشكل عليها باعتبار أنّ الله -تعالى- لم يكترث منذ الأزل بالقضايا الجزئيّة؛ وبما فيها تلك

(350)

الأمور الفرعيّة المختصّة بحياة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله[1]؛ لذا، فالتفاصيل الفرعيّة المذكورة في النصّ القرآنيّ منوطةٌ بطابعه التدريجيّ في النزول، حيث أنزلت آياته؛ وفقًا لمقتضى الحال وتناسبًا مع الأحداث والوقائع التي شهدها المجتمع، ومضمونها يتناسب -طبعًا- مع الحكمة الإلهيّة؛ إذ كلّما اقتضت المصلحة، أو حينما كان يُطرَح سؤالٌ، أو لـمّا تستوجب الضرورة تشريع أحد الأحكام أو ترغيب الناس بالفضائل ونهيهم عن الرذائل؛ يُنزِل الله -عزّ وجلّ- آياتٍ ذاتَ ارتباطٍ مباشرٍ بالموضوع، لكنْ ضمن مراحلَ متدرّجةٍ. هذا النزول التدريجيّ يتناغم بكلّ تأكيدٍ مع واقع الفطرة الإنسانيّة، وينسجم مع التغيّرات التي تشهدها المجتمعات البشريّة. وهذا الانسجام دليلٌ واضحٌ على كون النصّ القرآنيّ ذا منشأٍ سماويٍّ.

وبالنظر إلى أنّ النشاط الاجتماعيّ بطبيعته عبارةٌ عن حركةٍ ديناميكيةٍ؛ عادةً ما يتغيّر في رحابها واقع المجتمع ومظاهر الحياة العامّة، فإنّ أهمّ ميزةٍ لهذا التغيّر أنّه يترسّخ في باطن الروح البشريّة، وتتجلّى في ظلّه معالم الفطرة الأصيلة؛ لذا لا بدّ أن يتناغم مع حاجة الإنسان في الحياة؛ كي يتحقّق تأثيره على أرض الواقع بشكلٍ عمليٍّ، ولا شكّ في أنّ الفطرة الإنسانيّة تتقبّل كلّ تطوّرٍ يكتنفها بشكلٍ تدريجيٍّ وبشكلٍ غير متسارعٍ؛ تناسبًا مع واقع الحياة، وعلى مرّ الزمان تقع الكثير من الأحداث والوقائع، وكلّ حادثٍ يحمل معه قضايا جديدةً؛ لذلك نزل النصّ القرآن متناسِبًا مع ما كان يجري في المجتمع -آنذاك-؛ بحيث واكب ما شهده من أحداثٍ ووقائعَ، وفي هذا السّياق أقرّ الله -تعالى- الأحكام والتشريعات للبشر وفصّلها في مختلف الآيات المنزلة، وإلى جانب بيان الأحكام شهد المجتمع آثارًا تربويّةً، واهتدى الناس نحو السبيل القويم إلى أقصى حدٍّ ممكنٍ[2].

وقد شهد المجتمع الإسلاميّ الأوّل هذه الظاهرة بصورةٍ تشبه الخطابات التي كانت تُلقى قبل الدعوة العلنيّة للإسلام، واتّسم بأنماطٍ متنوّعةٍ منسجمةٍ مع بعضها غير متعارضة في ما بينها؛ أي إنّها كانت مكمّلةً لبعضها، لكنْ غاية ما في الأمر أنّ كلام البشر من منطلق ارتكازه على أسسٍ فكريّةٍ محدودةٍ وضيّقةِ النطاق؛ ونظرًا لعدم قدرة الإنسان على إدراك

(351)

واقع الأحداث المستقبليّة، كانت الخطابات تُذكرَ بصيغةٍ شرطيةٍ، وأمّا الخطابات التي تتمحور مواضيعها حول السلوكيّات الفرديّة والجماعيّة، فلم يكن من الممكن أن تُصاغ بشكلٍ دقيقٍ ومنتظمٍ؛ في حين أنّ هذه النواقص غيرُ مشهودةٍ؛ مطلقًا في النصّ القرآنيّ[1].

وقد وصف بعض المفسّرين النصّ القرآنيّ، وهو في اللوح المحفوظ؛ بأنّه كان في مرحلة البساطة والأصول المعرفيّة الدينيّة والمعاني القرآنيّة الكلّيّة؛ أي إنّه لم يكنْ في مرحلة الألفاظ، ولم تكنْ هناك مقتضياتٌ تستوجب نزوله بشكلٍ تدريجيٍّ على النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، لذلك قيل: «لقد أنشئ اللوح المحفوظ ليكون ديوانًا جامعًا تسجّل فيه جميع القضايا الدينيّة والتقديرات الإلهيّة، وعوالم الخِلْقَة والتكوين كافّةً»[2].

وأيّد نيكولاي سيناي نظريّة دانيال ماديجان التي اعتبر فيها أنّ الكتاب السماويّ مخزنٌ لعلم الله -تعالى- وإرادته المقتدرة، وأشار في هذا المضمار إلى أنّ كلّ عبارةٍ قرآنيّةٍ مهما اُفترضت دلالتها فهي قائمةٌ على التعاليم الموجودة في هذا الكتاب؛ لأنّنا نلمس شتّى أنواع المعلومات التأريخيّة والأخرويّة والكونيّة في بدايات السور وأوساطها وأواخرها؛ ومع ذلك لا يمكن اعتبار النصّ القرآنيّ نسخةً لفظيّةً طِبْق الأصل لذلك المصدر السماويّ، بل مجرّد تفسيرٍ وإيضاحٍ لما هو موجودٌ فيه، حيث صِيْغَت ألفاظه وتعابيره؛ تناغمًا مع الظروف والخلفيّات التأريخيّة[3].

وهذه النظريّة تشبه إلى حدٍّ ما آراء بعض المفسّرين المسلمين الذين استدلّوا من سور الواقعة والبروج و(ق) على أنّ القرآن عبارةٌ عن حقيقةٍ بسيطةٍ في اللوح المحفوظ، والمصحف الذي بين أيدينا هو في الواقع صورته غير البسيطة؛ ما يعني أنّ القرآن المُنزَل للبشر على هيئة مصحفٍ، قبل أنْ ينزل بشكلٍ تدريجيٍّ؛ كان موجودًا -ابتداءً- في مرحلة اللوح المحفوظ بشكلٍ مُحكَم، وبعد هذه المرحلة نزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ وهذه المرحلة المتوسّطة يُطلق عليها تفصيل الكتاب، حيث كان عند الله -تعالى- حينها بوصفه مقدّمةً لنزوله التدريجيّ[4].

(352)

ولعل مرحلة تفصيل الكتاب هي التي وصفها سيناي بمرحلة صياغته التفسيريّة، وفي هذا السّياق أكّد على وجود اختلافٍ بين مصطلحَيِ القرآن والكتاب المذكورين في أوساط بعض السور المكّيّة وآواخرها، على الرغم من أنّ مفهوم مصطلح القرآن بدأ يتبلور على أرض الواقع منذ هذه المرحلة؛ إشارةً إلى الآيات التي أُوحيت للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، حيث تمّ على أساسها توضيح أسلوب البيان القرآنيّ فقط، وهو الأسلوب الذي اتّبعه لإبلاغ الكتاب؛ ونلمسه في الآيتين الأولى والثانية من سورة يوسف: (الٓر ۚ تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱلْكِتَٰبِ ٱلْمُبِينِ 1 إِنَّآ أَنزَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّۭا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 2).

إذًا، الكتاب في النصّ القرآنيّ يشير إلى الأسلوب السماويّ المتّبع لتسجيل الكتابة وتخزينها، والقرآن يشير إلى الأسلوب الأرضي في بيان مفاهيم الكتاب ومضامينه.

وادّعى هذا المستشرق وجود تضادٍّ بين الكتاب والقرآن؛ فالأوّل برأيه عبارةٌ عن نقطة البداية لعمليّة الانتقال، والثاني هو الحصيلة النهائيّة لهذا الانتقال، حيث استدلّ -هنا- بالآيتين 2 و3 من سورة فصّلت: (تَنزِيلٌۭ مِّنَ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ 2 كِتَٰبٌۭ فُصِّلَتْ ءَايَٰتُهُۥ قُرْءَانًا عَرَبِيًّۭا لِّقَوْمٍۢ يَعْلَمُونَ 3). والكتاب السماويّ تمّ تفصيله ضمن تلاوةٍ عربيّةٍ؛ ما يعني أنّه لم يكنْ مدوّنًا بالعربيّة منذ نشأته الأولى، وهذا ما أكّدت عليه الآية الأولى من سورة هود: (الٓر ۚ كِتَٰبٌ أُحْكِمَتْ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)، فالفعل (أُحكم) برأيه يشير إلى تأليف نصٍّ مقدّسٍ سماويٍّ[1].

وجدير بالذكر أنّ نظريّة سيناي؛ وقوامها عدم عربيّة الكتاب السماويّ، تتوافق مع ما ذكره المفسّرون المسلمون بالنسبة إلى مرحلة اللوح المحفوظ، ففي هذه المرحلة لم تكنْ -هنا- تفاصيلُ وجزئيّاتٌ وألفاظٌ، ولم يطرأ عليها أيّ تغيّرٍ، وقد رفض بعضهم الرأي القائل بأنّ التفصيل؛ بمعنى التبيين الذي هو في مقابل الإجمال والغموض، بل فسّروه بالأمر المركّب الذي يقابل البسيط؛ أي التركيب في مقابل البساطة[2].

والتضادّ الذي ادّعاه هذا المستشرق بين مفهومَيِ الكتاب والقرآن في الآيتين الثانية والثالثة من

(353)

سورة فصّلت، غيرُ مقبولٍ من أساسه، حيث ادّعى - كما ذكرنا - أنّ الكتاب هو الهيئة السماويّة، والقرآن عبارةٌ عن هيئةٍ أرضيّةٍ؛ والسبب في بطلان رأيه أنّ الآية الثانية ابتدأت بكلمة (تنزيل) وهي من الناحية الإعرابية مرفوعةٌ؛ لكونها مبتدأً برأي بعض علماء النحو، وخبرها على هذا الأساس هو جملة: (كِتَٰبٌۭ فُصِّلَتْ ءَايَٰتُهُ)؛ بينما يرى آخرون أنّها خبرٌ مرفوعٌ لـ (حم)، أو لاسم الإشارة المقدّر (هذا)؛ وبهذا يكون المعنى أنّ (حم) أو هذه السورة، تنزيلٌ من الله الرحمن الرحيم.

و(قرآنًا) حال لكلمة (كتاب) أو لـ(آيات)، كما أنّ كلٌّ من كلمتَيْ (بشيرًا) و(نذيرًا) في مستهلّ الآية الرابعة حالٌ للكتاب أيضًا؛ وعلى هذا الأساس تصبح جملة (كِتَٰبٌۭ فُصِّلَتْ ءَايَٰتُهُ) في محلّ رفع خبرٍ ثانٍ، وفي هذه الحالة يكون معناها أنّ القرآن ليس غامضًا ومغلقًا، لأنّ سبيل الرشاد واتّباع الحقّ قد وُضّح فيه بأمثلِ شكلٍ؛ كما ذكر الله -تعالى- فيه ما ينبغي للإنسان الحذر منه والإعراض عنه[1].

ونستشفّ من مدلول سورة فصّلت بمجملها أنّها في صدد بيان عدم إيمان الكفّار بالكتاب، حيث تمّ التأكيد على هذا الأمر من الآية الأولى حتّى السادسة، والواضح من ظاهرها أنّهم رفضوا القرآن؛ بوصفه كتابًا أرضيًّا؛ بحسب تعبير نيكولاي سيناي، ولم يرفضوا الكتاب السماويّ الموجود في اللوح المحفوظ، وقد تكرّرت الإشارة بهذا الخصوص في الآية 26 والآية 41 والآيات اللاحقة لها، حيث أكّدت هذه الآيات على المنشأ السماويّ له: (إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ ۖ وَإِنَّهُۥ لَكِتَٰبٌ عَزِيزٌۭ)[2]. وهكذا هي طبيعة القراءة التي تبنّاها هذا المستشرق للآيات والسور القرآنيّة ومراحل نزولها وتكوينها[3]، والنتائج التي توصّل إليها تشبه ما توصّلت إليه المستشرقة أنجليكا نويورث وتنطبق مع نظريّة تجزئة القرآن[4] القائلة بأنّ النصّ القرآنيّ عبارةٌ عن مقاطعَ مستوحاةٍ من الكتاب السماويّ الذي هو مصدره الأساس[5].

ولدى تفسيره كلمة (التفصيل) ومشتقّاتها أكّد -أيضًا- على استقلال مصطلح القرآن عن

(354)

مصطلح الكتاب، وعلى ضوء اعتقاده بمرحليّة نزول الآيات القرآنيّة ونمط تحليله اللغويّ لآياته، استنتج أنّ هذه الكلمة في الآيتين 114 من سورة الأنعام و52 من سورة الأعراف، وكذلك في عبارة (تفصيل الكتاب)؛ يُراد منها بيان الطابع التفسيري للنصّ القرآنيّ، وممّا قاله في هذا الصدد: «التفصيل عبارةٌ عن عمليّة تغيير تسفر عن تحويل هويّةٍ ما إلى هويّةٍ أخرى؛ ما يعني أنّ الاختلاف الواضح بين القرآن والكتاب يطلق عليه تفصيلٌ»[1]. وفي هذا السّياق أكّد على عدم صوابيّة اعتبار التفصيل مجرّدَ ترجمةٍ لنصٍّ سماويٍّ مقدّسٍ.

وكذلك تطرّق إلى بيان مشتقّات هذه الكلمة بأسلوب النقد والتحليل اللغويّ، حيث وضّح معانيها على ضوء المفعول به المختصّ بكلّ لفظٍ منها؛ وذلك وفق يلي:

1) عبارة (كلّ شيءٍ) في محلّ نصب مفعول به للتفصيل في الآيات التالية:

    ـ (تَفْصيلاً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ) (سورة الأنعام، الآية154؛ سورة الأعراف، الآية 145)

    ـ (تَفْصيلَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ) ( سورة یوسف، الآية 111)

2) كلمة (آيات) هي المفعول به للتفصيل في الآيات التالية:

    ـ (وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْءَايَٰتِ) (سورة الأنعام، الآية 55)

    ـ (فَصَّلْنَا ٱلْأيَٰتِ لِقَوْمٍۢ يَعْلَمُونَ) (سورة الأنعام، الآية 97)

    ـ (فَصَّلْنَا ٱلْأيَٰتِ لِقَوْمٍۢ يَفْقَهُونَ) (سورة الأنعام، الآية 98)

    ـ (كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْأيَٰتِ لِقَوْمٍۢ يَعْلَمُونَ) (سورة الأعراف، الآية 32)

    ـ (وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْأيَٰتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (سورة الأعراف، الآية 174)

    ـ (وَنُفَصِّلُ ٱلْأيَٰتِ لِقَوْمٍۢ يَعْلَمُونَ) (سورة التوبة، الآية 11)

    ـ (يُفَصِّلُ ٱلْأيَٰتِ لِقَوْمٍۢ يَعْلَمُونَ) (سورة یونس، الآية 5)

    ـ (كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْأيَٰتِ لِقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ) (سورة یونس، الآية 24)

(355)

    ـ (يُفَصِّلُ ٱلْأيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (سورة الرعد، الآية 2)

    ـ (وَكُلَّ شَىْءٍۢ فَصَّلْنَٰهُ تَفْصِيلًا) (سورة الإسراء، الآية 12)

    ـ (نُفَصِّلُ ٱلْأيَٰتِ لِقَوْمٍۢ يَعْقِلُونَ) (سورة الروم، الآية 28)

3. عبارة (ما حرّم عليكم) التي تشمل مختلف الأطعمة المحظورة في محلّ نصب مفعول به لكلمة (فصّل) في قوله -تعالى-: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) (سورة الأنعام، الآية 119).

وعلى ضوء استعمال مشتقّات التفصيل في هذه الآيات، اعتبر معناه الأساس هو الشرح والتوضيح والبيان بإسهابٍ وتفصيلٍ، وفي هذا السّياق اعتبر الآيات التي تتضمّنه جاءت لإثبات صوابيّة المعاني المترسّخة في ذهن المخاطَب، فقوله -تعالى- في الآية 24 من سورة يونس: (كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْأيَٰتِ لِقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ) -على سبيل المثال- ذُكِرَت فيه كلمة (نفصّل) التي هي فعلٌ وفاعلها ضميرٌ مستترٌ تقديره (نحن) ومفعولها (الآيات)، وعبارة (لقوم) متعلّق بها، و(يتفكّرون) فعلٌ وفاعلٌ في محلّ جرّ نعت لكلمة (قوم)[1].

والنتيجة المتحصّلة من البيان اللغويّ الذي ساقه هذا المستشرق بخصوص مشتقّات التفصيل في مختلف الآيات، فحواها: أنّ مفهومه؛ في مثل قوله -تعالى-: (تَفصيلُ الكتاب) ذو ارتباطٍ وثيقٍ بالمخاطَب؛ بحيث إنّ إشاراته وإحالاته النصّيّة بالكامل تعود إلى المخاطب ذاته وإلى أسلوب استعمال الفعل المشتقّ من هذه الكلمة، وهذا الأمر ثابتٌ -أيضًا- في الآية 52 من سورة الأعراف، لذا فهو لا يعني (فصّل شيئًا) فحسب؛ وإنّما يراد منه (فصّل شيئاً لـ...)؛ ومن هذا المنطلق بادر إلى تحليل مفهوم الكلمة على ضوء طبيعة ارتباطها بالمخاطَب، وباعتبار أنّ النصّ القرآنيّ عبارةٌ عن ترجمةٍ تفسيريّةٍ لـ(الكتاب) وطابعه أنّه يتناسق مع البنية التأريخيّة والأوضاع الخاصّة التي نشأ في رحابها.

والآية 52 من سورة الأعراف: (وَلَقَدْ جِئْنَٰهُم بِكِتَٰبٍ فَصَّلْنَٰهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍۢ يُؤْمِنُونَ) لا تُعدّ -برأيه- متمّمةً لكلامٍ، ولا تتضمّن كلامًا إضافيًّا يُراد منه توضيح شيءٍ ما، بل

(356)

فيها إشارةٌ ضمنيةٌ إلى المخاطَب، وإحالةٌ إليه بشكلٍ تلويحيٍّ، وعلى هذا الأساس قال: «لذا من المحتمل أنّ تفصيل شيءٍ يجب وأن يتمحور حول مخاطَبٍ خاصٍّ، وفي ظروفٍ خاصّةٍ»[1]، وهذا الكلام واردٌ حتّى وإنْ أريد -هنا- (تفصيل الكتاب)، لا (تفصيل الآيات).

وحينما نمعن النظر في ظاهر الآية المذكورة، ندرك أنّ المقصود من الكتاب هو القرآن لا غير، إذ الآيات السابقة لها تحدّثت عن أحوال الذين يتنعّمون في الجنّة ويعذّبون في النار، وكذلك أشارت إلى أهل الأعراف، كما لـمّحت إلى الحوار الذي سيجري بينهم في الحياة الآخرة؛ والآية 51 بالتحديد تطرّقت إلى الحديث عن الكفّار الذين اتّخذوا الدين لهوًا ولعبًا؛ بحيث نسوا لقاء الله يوم القيامة، لذلك سوف يُنسَون آنذاك، جرّاء أعمالهم هذه، وسيطالهم العذاب قطعًا؛ وعلى ضوء هذا الموقف جاءت الآية 52 لتؤكّد على أنّ إنكارهم هذا ليس سببه نقص في آيات الله -تعالى- وبراهينه، حيث أُنزل لهم كتابٌ (فصّل) في الحياة الدنيا فيه كلّ ما يحتاجون إليه، من هدًى وتربيةٍ وعلمٍ؛ والمقصود منه -طبعًا- هو القرآن الكريم الذي فيه تفصيلٌ لكلّ شيءٍ يسهم في هدايتهم، فهو المرشد للبشرية كافّةً، وفيه رحمةٌ للجميع بشكلٍ عامٍّ؛ وللمؤمنين بشكلٍ خاصٍّ.

ويفيد قوله -تعالى-: (فَصَّلْنَٰهُ عَلَىٰ عِلْمٍ) أنّ القرآن الكريم مستوحًى من مكنون العلم الإلهيّ، فهو مرآةٌ لعلمه تبارك شأنه، وهذا التفصيل الذي هو ميزةٌ هامّةٌ له، يتبلور على ضوء علمه التامّ؛ بما في مضامينه من مفاهيمَ ودلالاتٍ[2]، ويحكي عن أنّه كتابٌ مقدّسٌ مصدره الحقّ والغيب الإلهيّ؛ أي إنّنا أنزلنا كتابًا هو الحقّ بذاته؛ لأنّ إنزاله تمّ عن وعي وإدراك بواقع حال البشر[3].

وتشير هذه الآية في الحقيقة إلى كرامة القرآن الكريم ومنافعه الجمّة[4]، وتلوّح إلى مضامينه السامية؛ من معتقداتٍ، وأحكامٍ شرعيّةٍ، ومواعظَ مصدرها الله عزّ وجلّ، حيث تمّ تفصيلها بكلّ وعيٍ وإدراكٍ، لذلك اتّسم هذا الكتاب -القرآن- بالحكمة البالغة[5]. وما ذُكِرَ فيه بالتفصيل قائمٌ بطبيعة الحال بعلم الله -تبارك وتعالى- بأحوال عباده في كلّ زمانٍ ومكانٍ، ومعرفته التامّة بما فيه نفعهم وصلاحهم، وإدراكه الكامل لما يناسبهم ويقوّم حياتهم بأمثل شكلٍ.

(357)

وإذا قيل إنّ (الكتاب) في هذه الآية بمعنى (المصدر السماويّ) ففي هذه الحالة كان من المفترض أن تُصاغ العبارة اللاحقة لـ (جِئْنَٰهُم) بهذا الشكل: (جئناهم بكتابٍ فصّلناه بقرآنٍ) أو بشكلٍ آخرَ مشابهٍ لها أو بعبارةٍ تشبه مضمون الآية 37 من سورة يونس: (وَمَا كَانَ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَٰبِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ)، فمصطلح (القرآن) ذُكِرَ -هنا- في سياق التفصيل، حيث يعتقد سيناي أنّ هذه الآية بصدد بيان أنّ القرآن تفصيلٌ للكتاب؛ يعني أنّه ترجمةٌ تفسيريّةٌ له. ومن الناحية الإعرابية الجار والمجرور (بكتاب) متعلّقان بـ (جئنا)، وعبارة (فصّلناه) نعتٌ لـ (كتاب).

وهناك مرحلةٌ لم يُشِرْ إليها هذا المستشرق ضمن استدلاله في تفسير معنى مصطلح (كتاب) باعتباره مصدرًا سماويًّا صدرت منه التلاوات التفسيريّة التي جاءت مترجمةً، فالمراحل التي تمّ خلالها تبديل الكتاب إلى قرآنٍ هي التالية:

    ـ كتابٌ سماويًّ

    ـ ترجمةٌ تفسيريّةٌ (تفصيلٌ)

    ـ قرآنٌ (تلاواتٌ)

وقد وُصِفَ (الكتاب) في هذه الآية بالتفصيل؛ أي إنّ الكتاب الذي أنزل هو الكتاب نفسه الذي فصّل، لذا حسب المعادلة التي يتمحور حولها استنتاج سيناي، إذا كان المقصود من (الكتاب) هو ذلك الكتاب السماويّ الذي ليس في متناول البشر، فهو إذًا الكتاب ذاته الذي جِيء به للكفّار، وليس هناك أيّ اختلافٍ ماهويٍّ في هذه الحالة، إذ ليس لدينا كتابان، وإنّما لدينا كتابٌ واحدٌ تمّ تفصيله.

وتؤكّد الآية 52 من سورة الأعراف -كما أشرنا آنفًا-، على أنّ الله -تعالى- أنزل لبني آدم كتابًا قائمًا على علمه، وقد فصّله لهم، لذا إنْ كان المقصودُ منه هو المصدرَ السماويَّ ذاتَه، فما الداعي في إضافة ضمير الغائب (هم) إلى الفعل (جئنا)؟ فهذا التركيب اللغويّ يدلّ على أنّ الكتاب المُنَزَل إليهم هو القرآن، لا ذلك الكتاب الذي يُعتدّ مصدرًا سماويًّا. وقد جاءت هذه الآية بعد آياتٍ حذّرت من الكذب على الله -تعالى- وذكرت النتائج الوخيمة التي تترتّب على إنكار آياته وأشارت إلى ثمرة الإيمان والعمل الصالح، حيث تطرّقت إلى الحديث عن نزول

(358)

الكتاب؛ بوصفه إتمامًا للحجّة على البشر، والمقصود بحسب سياق الآيات الأخرى في السورة هو التأكيد على ظلم كلّ من لا يؤمن به وانحرافهم؛ فقد أُنزل إليهم هذا الكتاب وتمّت الحجّة ببرهانٍ جليٍّ، لكنّهم مع ذلك كذّبوا بآيات الله تعالى[1].

وأمّا الآية 53 من هذه السورة[2] فهي تتحدّث عن مسألة تأويل الكتاب، والضمير (الهاء) في كلمة (تأويله) ضمن قوله -تعالى-: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) يرجع إلى (كتاب) في الآية السابقة، والتأويل -هنا- يعني الرجوع الحقيقيّ للمعارف القرآنيّة[3]، لذا يمكن تفسير العبارة المذكورة بالتالي: هل يريدون شيئًا سوى تأويل القرآن؟

وبعد ذلك أشارت الآية إلى أنّ اليوم الذي يُؤوَّل فيه يقول الذين نسوه قبل ذلك: لقد كان رسل ربّنا على حقّ: (قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ ٱلَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ).

وتدلّ القرائن التي تحفّ بهذه الآية والتي جاءت بعد الآية 52 مباشرةً، على أنّ المقصود من (الكتاب) هو القرآن ذاته الموجود لدى المسلمين، وأنّ تفصيله يعني بيان معارفه بوضوحٍ، وكلمة (تأويله) من جملة هذه القرائن، ومن ضمنها -أيضًا- إقرار المكذّبين بأنّه كتابُ حقٍّ وهدًى؛ ومن الواضح بمكانٍ أنّهم كذّبوا بهذا القرآن الموجود، لا بالكتاب الذي هو مصدرٌ سماويٌّ؛ والذي وصفه سيناي بأنّه ليس في متناول البشر.

وعلى الرغم من أنّ النصّ القرآنيّ قد أتمّ الحجّة على المكذّبين ووضّح الحقّ والصواب لهم، لكنّهم افتروا على الله كذبًا وأنكروا آياته، حيث كانوا ينتظرون منه أن يُفصح لهم عن تلك الحقيقة التي أوجبت نزول القرآن الكريم وأحكامه ووعده ووعيده يوم القيامة؛ أي إنّهم كانوا يرجون ذلك بعد أنْ أكّد لهم على أنّ السبب في تفصيل القرآن هو هدايتهم ورحمتهم. وبعد ذلك أشارت الآية إلى أحوال المكذّبين بالكتاب[4]، وعلى هذا الأساس يمكن تفسير الآية بالتالي: لقد أنزلنا للكفّار كتابًا فيه أحكامٌ، حيث وضّحناه لهم بعلمنا، لذا فهو يهديهم إلى سبيل الحقّ والرشاد.

(359)

وفسّر بعض الباحثين إطلاق مصطلح (كتاب) على القرآن في هذه الآية بأنّه إشارةٌ إلى مرحلة انتقال العرب من كونهم أمّةً أميّةً لا كتاب لها، إلى مرحلة أمّةٍ ذاتِ كتابٍ؛ وسورة الأعراف هي التي ابتدأت هذه المهمّة ضمن توجيهها الخطاب إلى العرب، وفي الآية 52 منه تمّ توجيه الخطاب إلى قريش والنبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بضمير الغائب: (وَلَقَدْ جِئْنَٰهُم بِكِتَٰبٍۢ فَصَّلْنَٰهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًۭى وَرَحْمَةًۭ لِّقَوْمٍۢ يُؤْمِنُونَ)[1].

واعتبر نيكولاي سيناي الآية 44 من سورة فصّلت: (وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ قُرْءَانًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُواْ لَوْلَا فُصِّلَتْ ءَايَٰتُهُۥٓ ۖ ءَا۬عْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ ۖ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِىٓ ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌۭ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُوْلَٰٓئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) شاهدًا على أنّه لو كان بلغة أخرى غير العربيّة؛ لما انسجم مع مقتضيات مخاطَبيه العرب، ونقل عن دانيال ماديجان قوله إنّ التفصيل المشار إليه في النصّ القرآنيّ؛ غالبًا ما يتبلور بمعنى التفاعل مع واقع المخاطب؛ لأنّ معناه يستبطن خطابًا للطرف المقابل، ويتناسب مع نمطٍ خاصٍّ من الارتباط بينه وبين الكلام الموجّه له؛ بوصفه معيارًا لهدايته نحو هدفٍ معيّنٍ؛ وفي هذا السّياق اعتبر أنّ الأسلوب القصصيّ القرآنيّ يؤيّد رأي ماديجان[2].

ولأجل تأييد المعنى الذي طرحه للتفصيل، استدلّ بتفسير أنجليكا نويورث سورةَ الحِجر، حيث وضّحت التفصيل في هذه السورة بالتالي: الأسلوب القصصيّّ في سورة الحجر مدغمٌ مع رغباتٍ في موازاة النصّ في رحاب الشرح والتفسير والوعظ لعددٍ كبيرٍ من المخاطَبين. كما استند إلى تفسيرها الذي ساقته حول الآية 21 من سورة (ص) والتي اعتبرت فيها: (نَبَؤُاْ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ)؛ مثالًا مناسبًا على الارتباط الوطيد بين القصّة والتوضيح والتفسير والشرح والوعظ[3].

وكذلك اعتبر النصّ القرآنيّ ذا مستوياتٍ متعدّدةٍ، وفي الحين ذاته متغيّرةٍ ومتكاملةٍ على صعيد الخطاب المطروح فيه، وهنا -أيضًا- تبنّى رأي نويورث ليؤكّد على أنّ المستوى الأساس للخطاب في البنية اللغويّة القرآنيّة مستوحًى من (الكتاب)، بينما سائر المستويات مدغمةٌ فيه بحيث تتكامل بين تفاصيله بشكلٍ تدريجيٍّ، فهي عبارةٌ عن توضيحاتٍ متمّمةٍ وليست

(360)
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف