2 . دور العقل (التوصيف أو التبيين) | 22
القسم الأول: أسس نقد استحالة البرهنة على وجود الله
2 . وضع الألفاظ (اللفظ والمعنى) | 37
3 . هل هناك معنى للاسم الخاص؟ | 46
5 . إمكان تعريف لفظ الجلالة | 57
2 . الوجود المحمولي (مصداق الوجود) | 65
3 . القاعدة الفرعية والهليّات البسيطة | 80
4 . إنكار وجود المحمول من طريق القاعدة الفرعية | 84
5 . إنكار الوجود المحمولي من طريق مساوقة الوجود للشيئية | 89
7 . هل الوجود هو سور القضية؟ | 95
8 . تقرير استدلال إيمانوئيل كانط على نفي الوجود المحمولي | 97
9 . هل الوجود محمول واقعي؟ | 104
10 . الوجود المحمولي في الفلسفة الإسلامية | 108
11 . زيادة الوجود على الماهية | 108
12 . المعقولات الأولى والمعقولات الثانية | 110
13 . تقرير العدمية المنطقية | 111
14 . السور الوجودي في الهليات المركّبة | 113
15 . راسل والوجود المحمولي | 114
16 . جون هاسبرس والوجود المحمولي | 116
17 . المحمول الواقعي والمنطقي والأدبي | 118
الفصل الثالث: الوجود الضروري | 121
1 . الوجوب والامتناع والإمكان في المنطق | 121
القضية الضرورية والتحليلية | 134
2 . المواد الثلاثة في الفلسفة | 135
5 . التصديقات الاولية في القياس | 163
6 . البرهان والعلوم البرهانية | 165
7 . الاعتقاد بالعالم الخارج عن النفس | 167
8 . إمكان البرهان وعدم استحالة البرهان | 169
القسم الثاني: صورة نقد استحالة البرهان
الفصل الأول: الله والإنسان | 173
1 . وجود وعدم وجود الله في حياة الإنسان | 173
2 . طرق العلم بوجود الله | 175
3 . إثبات وجود الله في تفكير الفلاسفة | 176
4 . إمكان أو امتناع إثبات وجود الله | 176
5 . هل يحتاج وجود الله إلى إثبات؟ | 177
الفصل الثاني: الأدلة العامة على امتناع إثبات وجود الله | 193
1. إمكان تصوّر عدم واجب الوجود (الله) | 193
3 . منظومتنا المعرفية ووجود الله (النومينون والفينومينون) | 220
4 . القياس المنطقي ووجود الله | 222
5 . إنكار الوجود المحمولي ووجود الله | 231
6 . إنكار الوجود الضروري | 237
7 . الدافع إلى الاعتقاد بوجود الله | 258
الفصل الثالث: الأدلة الخاصّة على امتناع إثبات وجود الله | 295
1 . امتناع البرهان الوجودي | 295
2 . امتناع برهان الصديقين ونقده | 303
3 . امتناع البرهان الكوني | 306
الفصل الرابع: هل «القواعد اللغوية العمقية» تستلزم استحالة البرهنة؟ | 321
الفصل الخامس: التعارض بين علم الله المطلق واختيار الإنسان | 335
1 . الاستدلال على التعارض بين علم الله المطلق وبين اختيار الإنسان | 335
3 . إصلاح التعارض بين علم الله المطلق واختيار الإنسان ونقده | 340
الفصل السادس: الشرور ووجود الله | 347
1 . استدلال ديفيد هيوم ونقده | 347
نقد استحالة البرهنة على وجود الله (تعالى شأنه)
(1)بسم الله الرحمن الرحيم
(2)العتبة العباسية المقدسة
المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية
سلسلة نقد الإلحاد 4
نقد استحالة البرهنة على وجود الله (تعالى شأنه)
تأليف :
د. عسكري سليماني الأميري
(3)العتبة العباسية المقدسة
المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية
الاميري ، عسكري سليماني ، مؤلف .
نقد استحالة البرهنة على وجود الله / تأليف عسكري سليماني الأميري .-الطبعة الاولى .- النجف ، العراق : العتبة العباسية المقدسة ، المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية ، 2024 .
400 صفحة ، 24 سم .- (سلسلة نقد الإلحاد ، 4)
يتضمن إرجاعات ببليوجرافية : صفحة (397)-400.
النص باللغة العربية مترجم من اللغة الفارسية
ردمك : 9789922680590
1. الاسلام - - دفع مطاعن . 2. الوحدانية . 3. الالهيات (علم الكلام) . 4. الالحاد والملحدون . أ. الهاشمي ، حسن علي مطر ، مترجم . ب . العنوان .
LCC : BP166.2 A45 2024
مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة
الفهرسة اثناء النشر
رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد (4132) لسنة 2024 م
نقد استحالة البرهنة على وجود الله (تعالی شأنه) (سلسلة نقد الإلحاد - 4)
تأليف: د. عسكري سليماني الأميري
تعريب: حسن علي مطر الهاشمي
الناشر: العتبة العبّاسيّة المقدّسة /المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة
الطبعة: الأولىٰ / 2024 م
قد سبق إصدار هذا الكتاب بعنوان «نقد برهانناپذيري وجود خدا» من قبل «پژوهشكده فلسفه و كلام مركز مطالعات و تحقيقات اسلامي» عن «بوستان كتاب» باللغة الفارسیة، في قم المقدسة، وفي سنة 1380 ش.
www.iicss.iq
islamic.css@gmail.com
(4)
كلمة المركز9
توطئة11
المقدمة15
1 . نفي الشك المطلق16
2 . دور العقل (التوصيف أو التبيين) 22
القسم الأول: أسس نقد استحالة البرهنة على وجود الله
الفصل الأول: كلمة «الله»37
1 . المدخل37
2 . وضع الألفاظ (اللفظ والمعنى)37
3 . هل هناك معنى للاسم الخاص؟46
4 . لفظ الجلالة48
5 . إمكان تعريف لفظ الجلالة 57
الفصل الثاني: الوجود 61
1 . مفهوم الوجود61
2 . الوجود المحمولي (مصداق الوجود)65
3 . القاعدة الفرعية والهليّات البسيطة80
4 . إنكار وجود المحمول من طريق القاعدة الفرعية 84
5 . إنكار الوجود المحمولي من طريق مساوقة الوجود للشيئية 89
6 . العدمية المنطقية94
7 . هل الوجود هو سور القضية؟95
8 . تقرير استدلال إيمانوئيل كانط على نفي الوجود المحمولي 97
9 . هل الوجود محمول واقعي؟ 104
10 . الوجود المحمولي في الفلسفة الإسلامية108
11 . زيادة الوجود على الماهية 108
12 . المعقولات الأولى والمعقولات الثانية 110
13 . تقرير العدمية المنطقية111
14 . السور الوجودي في الهليات المركّبة 113
15 . راسل والوجود المحمولي 114
16 . جون هاسبرس والوجود المحمولي 116
17 . المحمول الواقعي والمنطقي والأدبي 118
الفصل الثالث: الوجود الضروري121
1 . الوجوب والامتناع والإمكان في المنطق121
القضية الضرورية والتحليلية134
2 . المواد الثلاثة في الفلسفة135
الفصل الرابع: البرهان141
1 . التصوّرات141
2 . القضايا 142
3 . الاعتقاد147
4 . تبرير الاعتقاد152
5 . التصديقات الاولية في القياس163
6 . البرهان والعلوم البرهانية 165
7 . الاعتقاد بالعالم الخارج عن النفس167
8 . إمكان البرهان وعدم استحالة البرهان169
القسم الثاني: صورة نقد استحالة البرهان
المدخل 171
الفصل الأول: الله والإنسان173
1 . وجود وعدم وجود الله في حياة الإنسان 173
2 . طرق العلم بوجود الله175
3 . إثبات وجود الله في تفكير الفلاسفة176
4 . إمكان أو امتناع إثبات وجود الله176
5 . هل يحتاج وجود الله إلى إثبات؟177
6 . طرق إثبات وجود الله 188
الفصل الثاني: الأدلة العامة على امتناع إثبات وجود الله 193
1. إمكان تصوّر عدم واجب الوجود (الله) 193
2 . الحسية ووجود الله 195
3 . منظومتنا المعرفية ووجود الله (النومينون والفينومينون) 220
4 . القياس المنطقي ووجود الله 222
5 . إنكار الوجود المحمولي ووجود الله231
6 . إنكار الوجود الضروري 237
7 . الدافع إلى الاعتقاد بوجود الله 258
8 . صفات الله ووجوده259
9 . اسم الله ووجوده 278
الفصل الثالث: الأدلة الخاصّة على امتناع إثبات وجود الله295
1 . امتناع البرهان الوجودي295
2 . امتناع برهان الصديقين ونقده 303
3 . امتناع البرهان الكوني 306
الفصل الرابع: هل «القواعد اللغوية العمقية»
تستلزم استحالة البرهنة؟ 321
الفصل الخامس: التعارض بين علم الله المطلق
واختيار الإنسان 335
1 . الاستدلال على التعارض بين علم الله المطلق
وبين اختيار الإنسان335
2 . نقد بلانتينغا 336
3 . إصلاح التعارض بين علم الله المطلق واختيار الإنسان ونقده 340
4 . استدلال نيلسون بايك343
الفصل السادس: الشرور ووجود الله 347
1 . استدلال ديفيد هيوم ونقده 347
2 . استدلال ماكي 349
3 . تناغم المجموعةA 364
الفصل السابع: الرحمة الالهية وقابلية التكذيب 385
المصادر 397
لقد كان البحث والنقاش حول وجود الله أو عدمه منذ القدم من أهم وأعمق المواضيع الفلسفية والدينية. وهذه النقاشات، التي يمكن العثور على جذورها في بدايات الفكر الفلسفي في اليونان القديمة بل وحتى قبل ذلك، استمرت حتى يومنا هذا، متجسدةً في مجالات العلم والفلسفة والدين. هذه النقاشات لا تقتصر فقط على الأبعاد العقلية والفلسفية، بل ترتبط بأسئلة جوهرية حول معنى الحياة والأخلاق والغاية النهائية للوجود.
على مر العصور، قدم الفلاسفة والمتكلمون براهين متعددة لإثبات وجود الله، بينما في المقابل، حاول النقاد والملحدون تفنيد هذه البراهين ورفضها. كان القرن الثامن عشر، المعروف بعصر التنوير، من أهم الفترات التي شهدت تطورات هامة في الفكر الإلحادي. خلال هذه الفترة، قام فلاسفة مثل فولتير وديدرو وبارون دي هولباخ بانتقاد الدين والدعوة إلى الفكر العقلاني. هولباخ، في كتابه «نظام الطبيعة»، أنكر وجود الله بشكل صريح، واعتبر الدين مصدرًا للجهل والخرافات. وقد كانت حركة التنوير، بأفكارها المعارضة للدين، من أهم العوامل التي ساعدت على انتشار الإلحاد والعلمانية في الغرب.
في القرن التاسع عشر، ازداد ظهور الإلحاد الفلسفي في الفكر الغربي. لودفيغ فيورباخ، الذي أكد أن الله هو مجرد تصور خيالي ابتكره الإنسان، وأن الدين يعكس احتياجات البشر ورغباتهم، كان له تأثير كبير في ترسيخ الفكر الإلحادي. آرثر شوبنهاور وفريدريش نيتشه،
(9)بنقدهما الحاد للدين والأخلاق المسيحية، ساعدا بشكل جدي على تعزيز الفكر الإلحادي. نيتشه، بإعلانه «موت الإله» وتنبؤه بحدوث أزمة روحية في الغرب، كان من أبرز الشخصيات الإلحادية في تاريخ الفلسفة. بالإضافة إلى ذلك، قام بعض فلاسفة الفلسفة التحليلية في القرن العشرين، مثل ألفريد جي آير وبرتراند راسل، بنقد براهين الإيمان بالله.
في الفلسفة الغربية المعاصرة، هناك عدة توجهات ونظريات إلحادية تعارض براهين إثبات وجود الله. بعض هذه النظريات تنكر الميتافيزيقا بشكل كامل، والبعض الآخر يشكك في إمكانية الإثبات العقلي والفلسفي لوجود الله. ومن بين هذه التوجهات نذكر المادية والطبيعية الفلسفية، والوضعية المنطقية، والوجودية الإلحادية، والإنسانية العلمانية، وما بعد الحداثة والنسبية المعرفية، وأخيرًا الإلحاد الجديد والعلمانية العلمية.
في هذا الكتاب، قام الأستاذ سليماني أميري، وهو مفكر دقيق النظر، بتحليل نقدي لبعض أهم الاعتراضات على براهين وجود الله، مصنفًا إياها في خمس فئات رئيسية: الاعتراضات المعرفية، الوجودية (الأنطولوجية)، المنطقية، اللاهوتية، والتحليل اللغوي. ولأن أحد الافتراضات المهمة في هذه المناقشات هو نقد الشك المطلق وتوضيح حدود المعرفة العقلية البشرية، فقد خصص جزءًا مهمًا من المقدمة لشرح هذا الموضوع بشكل وافٍ.
نود أن نتوجه بخالص الشكر والتقدير للأستاذ المؤلف الكريم على جهوده الكبيرة في إعداد هذا الكتاب، كما نشكر المترجم القدير الأستاذ السيّد حسن علي مطر الهاشمي على دوره الفعّال في الترجمة وإتمام النص. كما نعرب عن امتنانا لزملائنا في المركز، خاصة حجة الإسلام والمسلمين الدكتور السيد هاشم الميلاني، رئيس المركز، والأستاذ السيّد محمد رضا الطباطبائي، مدير قسم النشر، على دعمهم وتفانيهم. نأمل أن يسهم هذا الكتاب، ولو بقدر ضئيل، في تعزيز الفكر التوحيدي ورفع الوعي المعرفي والروحي في مجتمعنا المعاصر، بفضل الله وكرمه إنه قريب مجيب.
السيّد محسن الموسوي
المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية - فرع قم
(10)
الحمد لله الواحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، والصلاة على جميع الأنبياء والمرسلين، سيّما أفضلهم وخاتمهم محمد وعلى آله الهداة المهديين.
إن فكرة الإله في التاريخ كانت توأم وجود الإنسان وتفكيره. فكل إنسان ما أن يضع قدميه على مسرح الوجود، ويصل إلى مرحلة من النضج والوعي الفكري وتبدأ قواه الفكرية بالنشاط، حتى يكون أحد الأشياء التي تشغل تفكيره وتدفعه نحو بذل الجهود العلمية هو فكرة الإله. فهل هناك خالق ومدبّر للإنسان والكون أم لا؟ وإذا كان هناك خالق ومدبّر للإنسان والكون، فهل يمكن للإنسان أن يعلم به ويتعرّف عليه؟ وما هو طريق أو طرق التعرّف عليه؟ وبعبارة أخرى: هل يمكن للإنسان أن يُبرهن على وجود الله؟ فحتى لو لم يأخذ الإنسان وجوده ووجود الأشياء في العالم بنظر الاعتبار، هل يمكنه إثبات وجود الله؟ هل يمكن للإنسان أن يثبت وجود الله من مجرد النظر الى صرف الوجود ( برهان الصديقين)؟ وهل يتمكن من اثبات وجوده من مجرد التفكر فيه (البرهان الوجودي او المفهومي)؟
إن تاريخ البشرية يشهد على وجود أشخاص كانوا ولا زالوا ينكرون وجود الله، وعلى الرغم من أن عدد هؤلاء قليل بالقياس إلى المؤمنين بوجود الله، ولكن هل هذه الفئة القليلة إنما تنكر وجود الله عن مكابرة وعناد؟ أم أن قواهم الإدراكية لا تمتلك القدرة على الإيمان بوجوده؟
إن من بين الأبحاث الجادّة التي يتمّ بحثها اليوم في فلسفة الدين وتستقطب
(11)المخالفين والموافقين، هو بحث إثبات وجود الله؛ بحيث أن كلا الطرفين قدّم أبحاثًا جادّة في هذا الشأن. إن موضوع بحثنا في هذا الكتاب هو نقد نظرية أولئك الذين يقولون باستحالة إثبات وجود الله سبحانه وتعالى. ففي هذا الكتاب لا يدور البحث حول ما إذا كانت الأدلة ـ التي أقيمت على إثبات وجود الله حتى الآن ـ معتبرة أم لا، بل البحث يقع في مورد الأدلة التي ساقها المخالفون؛ أي الأدلة التي تسعى إلى إظهار أن وجود الله غير قابل للإثبات.
إن هذا الكتاب يتعرّض في المجموع إلى نقد أربعة أنواع من الأدلة على نفي إثبات وجود الله سبحانه وتعالى، وهي كالآتي:
1. الأدلة التي تدّعي أنه لا يمكن إثبات أيّ برهان على وجود الله.
2. الأدلة التي تنفي إقامة البراهين الوجودية والمفهومية على وجود الله.
3. الأدلة التي تدّعي أنه لا يمكن إثبات أيّ نوع من أنواع برهان الصديقين على وجود الله.
4. الأدلة التي ترى عدم إمكان البرهان الكوني على وجود الله سبحانه وتعالى.
وبطبيعة الحال يمكن تقسيم هذه الإشكالات بنحو آخر إلى خمسة مجموعات، وذلك على النحو الآتي:
1. الإشكالات المعرفية والأبستمولوجية، من قبيل: الإشكالات الوضعية، والمنظومة المعرفية لإيمانوئيل كانط، والقواعد اللسانية العمقية لفيتغنشتاين.
2. الإشكالات الوجودية والأنطولوجية، من قبيل: إنكار الوجود المحمولي والضروري.
3. الإشكالات المنطقية.
4. الإشكالات اللاهوتية، من قبيل: مسألة الشرور، ورحمة الله، وعلم الله، واختيار الإنسان.
5. إشكالات التحليل اللغوي، من قبيل: الاسمية الخاصة لكلمة «الله».
لقد تمّ تنظيم هذه الإشكالات ضمن فصلين تحت عنوان: الإشكالات العامة، والإشكالات الخاصة. وإن بعض الإشكالات بسبب التفصيلات الكبيرة فيها قد أفردنا لها فصلًا مستقلًا بها. وحيث أن بيان الإشكالات ونقدها بحاجة إلى مبان لا يمكن ذكرها بأجمعها في ذيل الإشكالات، فقد عمدنا إلى تخصيص القسم الأول من الكتاب بطرح «مباني نقد استحالة البرهان»، وتخصيص القسم الثاني ببحث «نقد استحالة البرهان»، وفي مقدمة الكتاب ـ التي هي بمثابة الفرضية المسبقة لكلا قسمي الكتاب ـ تمّ تناول بحث نقد الشك المطلق ووظيفة العقل.
وفي الختام أرى من واجبي أشكر الجهود الكريمة للمسؤول المحترم في معهد دراسات الفلسفة والكلام الإسلامي، سماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد علي رضا آل بويه، والمدقق المحترم سماحة السيد علي أكبر علي زادة.
إن التأمّل في عنوان هذا الكتاب، والذي هو عبارة عن «نقد استحالة البرهنة على وجود الله» يثبت أن الكاتب يقول بوجود دور حاسم وقاطع للعقل في حقل العلم، ويرى أن جذور إنكار وجود الله تكمن في أن بعض الأشخاص لم يتعرّف على الموقع الحقيقي لهذه النعمة الإلهية بشكل صحيح، إلى الحد الذي شككوا معه في اعتباره.
ويبدو من وجهة نظرنا أن هذا التصوّر الخاطئ قد أدّى إلى ظهور عجز وضعف في حقل فلسفة الدين، وإن طريقة العلاج الوحيدة تكمن في إعادة اعتبار وحجية العقل إليه، ويجب الالتفات إلى هذه النقطة أيضًا وهي أن اعتبار العقل قائم بنفسه. ولإثبات حجيّة العقل لا يمكن اللجوء إلى أي مدرك ودليل آخر؛ وذلك لأن التمسّك بأيّ دليل أو مدرك سوف يستند في حدّ ذاته إلى اعتبار العقل، ولذلك فإن فرضيتنا في هذا الكتاب عبارة عن ردّ الشك المطلق، ولا يمكن لشخص أن يتماهى معنا في هذا الشأن إلا إذا قبل بهذا المبنى.
وفي الوقت نفسه ـ كما سبق أن أشرنا في التوطئة وعلى الرغم من أن الشك المطلق يعد موقفًا غير مقبول ولا يمكن الدفاع عنه ـ سوف نسعى في هذه المقدمة إلى إثبات أن الشك المطلق يعاني من تهافت داخلي، وأنه ينقض نفسه بنفسه وأن صاحب الشك المطلق ليس لديه ما يقوله لا بالنسبة إلى الآخرين فحسب، بل ليس لديه شيء يقوله حتى لتبرير شكّه أيضًا.
والمطلب الآخر الذي سوف يأتي بيانه في هذه المقدمة عبارة عن توضيح هذه
(15)النقطة، وهي أن مهمّة العقل لا تقتصر على بيان الظواهر المشهودة فقط، بل وإنه كذلك يجدي في وصف الأشياء الخارجية أيضًا، وبذلك يخرج الإنسان من ظلام الجهل والسفسطة على رحاب النور والحكمة.
تشهد رؤية العلماء على أن الشك المطلق والشامل باطل تمامًا. إن الكلام عن الاعتقاد بالشك المطلق لا يعدو أن يكون مجرّد لقلقة لسان. وإن الذي يعتبر نفسه شاكًا، وأن شكه شامل ومطلق، يجب عليه أن يكف عن القول: «إني شكاك بالمطلق»؛ وذلك لأنه بمجرّد أن يتكلم بهذا الكلام، لا يعود شاكًا، وإنما يرى نفسه كائنًا مفكرًا، ويرى أن الآخرين الذين يخاطبهم يمتلكون فكرًا ورؤية، ولذلك فإنه حين يتكلم يفترض أن كلامه سوف يلقى الترحيب ويحظى بالقبول من قبل المخاطب، وعليه لا يعود من القائلين بالشك المطلق. وعلى هذا الأساس لو أن شخصًا تحدّث عن الشك من منطلق العقل، وتظاهر بأنه شخص طبيعي لا يقبل شيئًا من دون دليل، وأن الآخرين أشخاص يسهل إقناعهم وتطويعهم ويقبلون بالكلام دون تقييمه، في حين يمكن رفض تلك الأقوال أو نقضها من الناحية العقلية، لا يكون مثل هذا الشخص في الواقع شاكًا بالمطلق؛ وذلك لأنه لم يقبل بنفسه بوصفه شخصًا طبيعيًا فحسب، بل ويفترض الآخرين بوصفهم أشخاصًا غير طبيعيين، كما وقد اعتبر العقل حاكمًا بوصفه ميزانًا للتقييم في إطار قبول أو رفض الأقوال أيضًا.
وعلى هذا الأساس فإن هذا الشخص إذا لم يقبل بمسألة من الناحية العقلية، فإن السبب في ذلك يعود إما إلى أنه لا يرى تلك المسألة مقبولة، أو أن تكون مقبولة ولكنه يعاني من قصور في قواه الإدراكية بحيث لا تساعده على القبول بها، أو أن الأدلة غير وافية لكي يقبلها العقل. ومن هنا فلو أن شخصًا جلس بين العلماء
(16)والمفكرين، وأخذ يعمل على نقض وإبرام أقوالهم، يكون قد قبل ضمنًا أن الأدلة التي لا يمكن إظهار عيوبها، فإنها تكون ملزمة من الناحية العقلية والمنطقية. وبعبارة أخرى: إن رفض الاستدلال إنما يمكن حيث لا يؤدّي الرفض إلى التناقض. وعلى هذا الأساس لا يمكن الشك في كل شيء على نحو مطلق، ولا يمكن الشك في نتائج الاستدلال لمجرّد احتمال أن يكون ما تحقق في الخارج على نحو آخر، إلا إذا تمّ من الناحية المنطقية إثبات أن مقدمات الاستدلال لا تنتهي إلى نتيجة، أو أن صورة الاستدلال غيرمعتبرة من الناحية المنطقية.
يضاف إلى ذلك أن الشك العام والمطلق ـ كما سبق أن ذكرنا ـ ينقض نفسه بنفسه في مقام الاستدلال؛ بيان ذلك أن استدلال الشكاك عبارة عن أن الذي يستدلّ عليه المستدل، مع القول باعتبار الاستنتاج يؤدّي إلى هذا الموضع الذي يقرّ فيه بأن ذهني عاجز عن القبول بخلاف ما جاء في الاستدلال، ولكن لا يمكن أن نستنتج من عجز الذهن أن ما يوجد في خارج الذهن متطابق مع المصدّق به ذهنيًا، وذلك لأن ذهن الإنسان وإن كان لا يطيق التناقض، أو رفض أصل الهوهوية، ولكن لا يمكن أن نستنتج من عجز الذهن بالنسبة إلى الأول، وإلزام الذهن بالنسبة إلى الثاني، استحالة اجتماع النقيضين خارج الذهن واقعًا. فربما كان عالم خارج الذهن على نحو آخر لا تصدق عليه الأحكام الذهنية، أو أن يكون التناقض واقعًا حتى في عالم الواقع، أو أن يكون عالم الواقع في تناقض دائم أصلًا. وبعبارة أخرى: إن الشكاك يدعي أن الذهن يستطيع القبول بأن أصل الهوهوية ضروري، ولكن في خارج الذهن يمكن للشيء أن لا يكون هو هو بالضرورة.
ولكي نحرر الشكاك من ظلمة الجهل، ونخرجه من مستنقع الشك، ونعمل على إيصاله إلى شاطئ العلم والنور، يجب أن نبدأ من «عجز الذهن». إن ما يقال من «أن الذهن عاجز عن إدراك خلاف ما صدّق به»، يعني: حيث أن واقعية معلوماتنا على
(17)هذه الشاكلة، إذن لا يمكن للذهن أن يدرك بشكل آخر. وبعبارة أخرى: إن الذهن يدرك أن واقعية هذه التصديقات يثبت أنها لا يمكن أن تكون بحيث يحدث اجتماع النقيضين، لا مجرّد أن الذهن يمتنع عن إدراك خلاف ما تمّ التصديق به. وثانيًا: إن ما يقال من «أن الذهن عاجز عن إدراك خلاف ما صدّق به، وإن كان صلب الواقع على خلاف ذلك الشيء الذي يدركه الذهن»، إنما هو في الحقيقة يعني أن الذهن لم يعجز بعد؛ إذ لو كان الذهن قد بلغ مرحلة العجز، لما أمكنه تجويز خلاف ذلك. فلو سمح الذهن بخلاف ما تمّ التصديق به، هل يمكنه في الوقت نفسه أن يجيز خلاف ما سمح به أيضًا؟ وبعبارة أخرى: هل يمكنه السماح بخلاف ما تمّ التصديق به ولا يسمح به أيضًا؟ بمعنى أن تكون الواقعية خلاف ذلك الشيء الذي أجازه العقل وليس خلافًا له أيضًا؟
من الواضح أن الذهن لا يمكنه فعل ذلك؛ بمعنى أنه لا يقبل بأن يكون الواقع هكذا ولا يكون هكذا أيضًا. وعلى هذا الأساس فإن الذهن في التسويغ وعدم التسويغ إنما ينظر إلى الخارج، فليس الأمر كما لو كان هناك بين الذهن والخارج جدار حديدي، وإن ما يتمّ تصوّره غير ناظر إلى الخارج ولا تتمّ إحالته إلى الخارج، وعليه لا يمكن لنا أن ننهي الاستدلال هكذا لصالح الشك والقول بأنه لا يمكن من عجز الذهن تحديد حكم الخارج عن الذهن.
ومن ناحية أخرى فإن الشك إنما يكون معقولًا حيث لا يكون الذهن قد وصل إلى مرحلة العجز، ويرى أن خلاف ذلك ممكن؛ لأن الشك يعني عدم إقامة أدلة تلزم العقل بالقبول. إن نتيجة هذا الكلام هي أن شك الشكاك المطلق في الأمور التي يتمّ الاستدلال عليها بأدلة لا عيب فيها من الناحية المنطقية، غير معقول؛ إذ لا مفرّ للذهن من تلك الأدلة، وعليه لا يبقى لدى الذهن شك، وإن كان لا يزال هناك شك، كان في حدّ ذاته دليلًا على قدرة الذهن، إذن يجب أن لا تكون الأدلة
(18)وافية بالنتيجة؛ إذ في غير هذه الصورة لا مفرّ للذهن، ولا يعود الشك معقولًا.
وعلى هذا الأساس فإن المهم في البين هو أن نرى لماذا يشك الشكاك في هذه الأدلة، على الرغم من أن ذهنه مضطر إلى القبول بها ويعجز عن الفرار منها؟ إن توجيهه إلى علّة شكه لغرض الخروج من هذه الحالة أمر نافع؛ إذ إن شكه غير معتبر منطقيا، وما دام يعاني من هذه الحالة، فإنه من الناحية العملية سوف يبقى يعاني من هذا الشك، وإذا هديناه الى أنه إنما قد ابتلى بهذه الحالة بسبب عدم التفاته إلى العلوم، قد يُشكل ذلك منبّهًا له كي يخرج من هذه الحالة.
إن سبب الشك في هذه الموارد يمكن أن يكون عبارة عن التعميم الخاطئ لموارد لا تكون فيها أدلة المسألة تامّة. وإن هذه الموارد قد تدفع بعض الأشخاص من غير المدققين إلى توهم أن جميع البراهين عرضة لاحتمال الخلاف بشكل وآخر، لا سيّما بالنظر إلى أن بعض الأمور كانت تعدّ من العلوم اليقينية على مدى قرون، ثم تمّ الإعلان عن خطئها. وعلى هذا الأساس فإنهم يعتقدون خاطئين أنه حتى في الموارد التي يضطر الذهن إلى القبول بها من الناحية المنطقية، ويعجز عن الفرار منها، لا يزال هناك إمكان للخلاف أيضًا. ولذلك فإنهم يقولون: ربما يكون الواقع خلاف ذلك الشيء الذي توصل إليه الذهن ضرورة. وبعبارة أخرى: إن الشكاك يصل إلى هذه النقطة وهي أن ذهنه على الرغم من وصوله إلى حاق الأمر، ولا يحتمل الخلاف، إلا أنه مع ذلك يعتبر هذا المورد من قبيل الموارد الأخرى التي يُحتمل فيها الخلاف من الناحية المنطقية، وإن هذا التنظير يأتي بسبب عدم الالتفات والتساهل.
وعلى هذا الأساس فقد اتضح أن الشك ظاهرة داخلية وذهنية، وإن هذا الشك إنما يكون معقولًا حيث لا يكون الذهن مضطرًا إلى القبول وعاجزًا عن الفرار، وإلا فإنه مع وجود الاضطرار والعجز عن الفرار، لا يكون هناك معنى للشك؛
(19)وعليه فإن الشك المطلق والشامل يعاني من الاضطراب الداخلي وينقض نفسه بنفسه. وعلى هذا الأساس فإن الشك إنما يكون معقولًا فيما إذا كان ينطوي على تبرير عقلاني، وإن ذات هذا الافتراض
ينفي الشك المطلق.إن هذا البيان ليس نافيًا للشك في تعامل الشكاك مع الآخرين فحسب، بل ويعمل على نفي اعتبار شك الشكّاك في تبرير شكّه أيضًا، حتى وإن لم يشأ التعاطي مع الآخرين؛ وذلك لأن الشكاك إذا أراد أن يكون معقولًا في شكّه، وأن يبحث في خطابه الداخلي وتبرير ذاته في امتلاك مثل هذا الشك، يجب عليه القبول ببعض المعلومات، وفي هذه الحالة يصبح شكه نسبيًا، ويتحوّل إلى القطع واليقين؛ وذلك لأن تبرير الشك فرع قبول العقل واعتباره المطلق. وعلى هذا الأساس فإن كلًا من الشكاك وغير الشكاك يعمل ـ شاء أم أبى ـ على توظيف ذهنه في خدمة الواقع ليحصل عليه؛ إذ كلما عجز الذهن عن إثبات إمكان خلاف مسألة ما، يكون قد أدرك تلك المسألة، وكلما عثر على طريق للفرار من أجل عدم القبول بها، فإنه يعتبرها غير ثابتة.
وحيث أن الشك المطلق غير قابل للتوجيه، يجب الفرار من الهوّة السحيقة للشك، والتمسّك بحبل الفلسفة
والحكمة لإنقاذ النفس من السقوط في هاوية الشك، وعلى هذا الأساس يكون القبول بالفلسفة في قبال السفسطة أمرًا ضروريًا وبديهيًا.إن ما تقدّم ذكره إنما كان لمجرّد تنبيه الأشخاص الذين يتجهون نحو التشكيك بتأثير من الشبهة، وإلا فإن إثبات الفلسفة ونفي السفسطة والتشكيك، غير ممكن من الناحية المنطقية، وإن عدم الإمكان هذا يصبّ في مصلحة الفلسفة؛ إذ أن ذات القبول بعدم إمكان النفي المنطقي للشك هو عين الفلسفة والعلم، ولا نصيب للشكاك من هذا الأصل. فإن الشكاك ما أن يعتبر عدم الإمكان هذا لمصلحته، يكون كأنما لو أنه قد قطع الشك المطلق من جذوره ومن دون مكث، وقبل بهذا الأصل بوصفه أمرًا واقعيًا؛ إذ أن القول باستحالة إقامة الاستدلال في هذا المورد، يعني أن بعض الحقائق غير قابل للاستدلال، وهذا في حدّ ذاته يعني العلم ببعض الحقائق، وعندما يتحقق العلم لا يكون هناك من موضع للشك المطلق. ولن يكون هناك في البين إنسان شكاك بالمطلق، حتى وإن ادعى ذلك. وعلى هذا الأساس، فإن الإنسان إنما يمكنه من الناحية المنطقية أن يشك في بعض المسائل فقط. وعليه يرد هنا هذا السؤال القائل: ما هي المواطن التي يمكن للإنسان أن يشك فيها منطقيًا؟ وهل يمكنه الشك في المحسوسات أم في المعقولات فقط؟
في نهايات العصور الوسطى وبدايات عصر النهضة، اجتمعت عدّة أسباب من قبيل: تقدّم العلوم التجريبية، وإبطال الكثير من الأصول العلمية بفعل عدم نضج العلوم التي كانت موجودة في تلك المرحلة بوصفها قوانين مقبولة، بالإضافة إلى العوامل الاجتماعية، وتضييق الكنيسة على العلماء والمفكرين، لتؤدّي بأجمعها إلى هبوب رياح الشك العاتية والتي عصفت بعدد من العلماء إلى الحدّ الذي أنكروا معه دور العقل في الوصول إلى الحقائق بالمرّة. وعلى الرغم من أن صورة استدلال الشكاك لا يبدو منها هذه المرّة نفي العلم بشكل مطلق، ولكن لو تم بحث هذا الاستدلال بشكل دقيق، فسوف يُستنتج منه نفي العلم بشكل مطلق، ولهذا السبب سوف يكون محكومًا بالفشل قطعًا. ولبحث هذه المسألة، سوف نعمل فيما يلي على بحث دور العقل.
(21)لا شك في أن واحدًا من طرق معرفتنا للعالم الخارجي عبارة عن الحسّ الداخلي أو الخارجي. إن كل شخص يعمل بواسطة الحسّ الخارجي ـ الذي هو واحد من الأدوات العامة للمعرفة، بعد الاحتكاك والاتصال بالشيء الخارجي عبر واحد من الأعضاء الحسيّة في الجسم ـ على تحصيل معرفة بذلك الشيء، وبفعل هذه المعرفة يقوم بخلع صفة عليه؛ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ لو أننا نظرنا إلى هذه الورقة بأعيننا أو ألقينا نظرة على وردة أو شممناها، فإننا سوف نحصل على معرفة بها؛ فنصف الورقة بالبياض، ونصف الوردة بأنها حمراء أو ذات رائحة طيّبة. وعليه فإن دور الحس هو توصيف الأشياء الخارجية، بغض النظر عمّا إذا كان هذا التوصيف معتبر من الناحية المعرفية والأبستمولوجية أم لا، لأن هذا الأمر يدخل في بحث آخر.
والسؤال هنا هو: هل يمكن للعقل ـ مثل الحسّ ـ أن يصف الأشياء؟ أم أن مهمّة العقل مجرّد تبيين الأمور فقط؟ بمعنى أنه لا شك في أن العقل قادر على تبيين الأمور، بيد أن الذي يقع موردًا للسؤال هو قدرة العقل على توصيف الحقائق. إن المثال أدناه يعمل على توضيح دور العقل في تبيين الأمور.
لنفترض أنك شاهدت مسرحية من ثلاثة فصول؛ بأن شاهدت منها الفصل الأول والثالث فقط، ولم تتمكن من مشاهدة الفصل الثاني، فإن أمكن لك حدس ما جرى في الفصل الثاني من خلال مشاهدة الفصلين الأول والثالث وما حصلت عليه من المعلومات حول مجمل المسرحية، يجب القول في مثل هذه الحالة: إنك قمت بعملية التبيين. وبطبيعة الحال لا بدّ لحدسك هذا أن لا يتناقض مع المعلومات التي حصلت عليها حول هذه المسرحية؛ غاية ما هنالك أن هذا التبيين لن يكون حكرًا عليك ومنحصرًا بك؛ إذ يمكن لشخص آخر أن يشاهد ذات هذه المسرحية ويقدّم
(22)تبيينًا آخر، وعلى هذا الأساس لا يمكن لأي واحد من هذين البيانين أن يصف حقيقة ذلك الفصل الذي لم تتمّ مشاهدته من المسرحية؛ وذلك لأن التبيين في الواقع إنما هو عبارة عن ملء الفراغات والعثور على الحلقات المفقودة من المسرحية بفعل عدم مشاهدة ذلك الفصل، وأن الغاية من ذلك بيان مجموعة متناغمة ومنسجمة مع مجموع فصول المسرحية، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن هذه المجموعة من المعلومات عن المسرحية متطابقة مع حقائقها.
لو اعتبرنا أن دور العقل هو التبيين الصرف، عندها لن يكون للعقل من دور وتأثير في معرفة الحقائق، ولا يمكن القول: إن طريق الوصول إلى الواقع يكون من طريق الحسّ والعقل. وعلى هذا الأساس لیس مهمّة الفيلسوف هي مجرّد التبيين، فإننا نستنتج من ذلك عدم إمكان الوصول إلى الحقائق من خلال الفلسفة. إن فرضية الاستدلال أعلاه هي أن التبيين غير التوصيف، وإنه لا يمكن الجمع بين هذين الأمرين.
يجب القول في الجواب عن هذا الاستدلال: إنه لم يتمّ تقديم دليل على التقابل بين التبيين والتوصيف. ليس هناك من شك في أن العقل يقوم بالتبيين، بيد أن هذا لا يعني أن العقل لا يقوم بالتوصيف أيضًا. فقد يمكن للعقل من خلال التبيين أن يصل إلى التوصيف أيضًا؛ بمعنى أن يقدّم التبيين بشكل يكون هو عين التوصيف. لو أن العقل قد استنتج ـ من خلال المعلومات الواصلة إليه ـ أحد الطرفين المتناقضين، ألا يمكن القول بأن هذا النوع من التبيين إنما هو توصيف في الواقع؟ وعلى هذا الأساس، فإنه على الرغم من أن مهمّة العقل هي التبيين، وإن التبيين لا يؤدّي بالضرورة إلى التوصيف، ولكن الأمر ليس بحيث لا يمكن الوصول من طريق التبيين إلى التوصيف، بل يمكن الوصول إلى التوصيف ـ في الحدّ الأدنى ـ من خلال تبيين أحد الطرفين المتناقضين الذي تمّ نفيه بوضوح. يمكن للمثال أدناه أن يساعد في توضيح المطلب أعلاه:
(23)لنفترض أننا عرضنا خمس قبعات على ثلاثة أشخاص، وكانت ثلاثة من تلك القبعات سوداء اللون واثنتان منها بيضاوتان، ثم أدخلنا الأشخاص الثلاثة في غرفة مظلمة، ووضعنا على رأس كل واحد منهم واحدة من تلك القبعات وكان الأشخاص الثلاثة يقفون خلف بعضهم على سلّم من ثلاث درجات؛ بحيث يرى كل واحد منهم الشخص الواقف أمامه ويرى القبعة التي يعتمرها ويتعرّف بذلك على لونها. وعندها لو أننا فتحنا ضوء الغرفة، وسألنا كل واحد من هؤلاء الأشخاص عن لون القبعة التي يعتمرها ولون القبعتين اللتين يعتمرهما الآخران؟ وما هو لون القبعتين اللتين لم يعتمرهما أحد منهم؟ فحيث أن الشخص الأول الواقف على الدرجة الأولى من السلّم لا يستطيع رؤية قبعته ولا روية الشخصين الآخرين، فإنه لا يسعه في الجواب إلا قول: «لا أعلم». وإذا سألنا الشخص الثاني الواقف على الجرجة الوسطى من السلّم ذات السؤال، فإنه لن يستطيع القول إلا «أن لون قبعة الشخص الأول أبيض»، ولكن عندما نسأل الشخص الثالث الواقف في الدرجة العليا من السلّم، فسوف يقول في الجواب: إن لون قبعتي أسود، ولون قبعة الشخص الثاني والأول أبيض، وأما لون القبعتين الأخريين المتبقيتين فهو أسود.
إن العقل في هذا المثال قد تعدّى مجرّد التبيين، ومن خلال ما يمتلكه من المعلومات المحدودة عمد إلى التوصيف أيضًا؛ إذ لا يمكن في قبال هذا التبيين تقديم تبيين بديل. وعلى هذا الأساس فإن العقل في بعض الموارد حيث تتوفّر لديه المعلومات الكافية، ويمكنه الاستنتاج منها حقيقة، فإنه يقوم عند ذلك بعملية التوصيف. إذا كانت المعلومات محدودة، فإن نشاط العقل سوف يقف عند حدود التبيين فقط، ويمكن اعتبار العلوم التجريبية شاهدًا بارزًا على مجرّد التبيين بواسطة العقل.
وعلاوة على ذلك يمكن القول: حتى لو شككنا في توصيف الحسّ، لا ينبغي لنا التشكيك في توصيف العقل في موارد توفّر المعلومات اللازمة والضرورية. ففي المثال أعلاه عندما تتمّ مشاهدة القبعات الثلاثة السوداوات والقبعتين البيضاوتين، يقوم الحسّ بالتوصيف ويقول: إن هذه القبعات الثلاثة سوداوات (توصيف)، وهاتين القبعتين بيضاوتين (توصيف). ولكن هل هناك في الخارج لون حقًا حتى تتصف به الأشياء؟ لقد تمّ التشكيك مؤخرًا في وجود اللون في الخارج. إن الذي يمكن للحسّ أن يصفه على نحو القطع واليقين هو أن هذه القبعات الثلاثة تبدو سوداء اللون، وهاتين القبعتين تبدوان بيضاوتين، ومن هنا فإن توصيف الحسّ أمر داخلي. ومهما كان الأمر؛ فسواء أكانت مهمّة الحسّ توصيف الخارج أو توصيف أمر داخلي والحكاية عنه، تبقى مهمة العقل ـ التي هي الاستنتاج من المعطيات ـ باقية على حالها. بل ويمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك والقول بأن دور الحسّ ليس هو التوصيف أبدًا، وإنما مهمته لا تتجاوز الأخذ، وإن التوصيف من المهمات الحصريّة للعقل؛ وذلك لأن الذي يبدو لي أنه أسود اللون إنما يعود سببه إلى شعوري وإحساس الداخلي به، وأما أن يكون الشيء في الخارج بحيث يتجلى بالنسبة لي باللون الأسود، فهو حكم العقل؛ بمعنى أن العقل هو الذي يدرك بتحليله أن هذه التجليات في النفس لا يمكن أن تكون من دون علّة، ويستنتج بهذا الاستدلال أن الشيء الخارجي أسود اللون، أو بعبارة أدق: إن الشيء الخارجي بحيث يبدو لي أسود اللون. وعليه فإن الحسّ لا يعجز عن توصيف المحسوس الخارجي فحسب، بل لا يمكنه حتى توصيف ما وجده الحسّ مباشرة أيضًا. عندما أرى صفحة خضراء يتجلى عندي الشيء الأخضر، وأقول إن الذي تجلى لي أخضر اللون. والذي يبدو هنا هو أن الحسّ قام بعملية التوصيف، ولكن الأمر في الحقيقة والواقع ليس كذلك، بل الذي قام بالتوصيف هنا هو العقل أيضًا. إن العقل استنادًا إلى أصل «الهوهوية»
(25)وأصل «امتناع النقيضين» يحكم بأن الذي تجلى له هو كما تجلّى. لنفترض أنه قد عرض لك العطش، وقلت: «أنا عطشان». إن هذا التوصيف إنما قام به العقل وليس الحسّ الباطني؛ وذلك لأن الحسّ الباطني إنما يقوم بمجرّد الإحساس فقط، وأما العقل فإنه من خلال تطبيق الأصلين أعلاه، يصف ذلك بقوله: «أنا عطشان»؛ إذ ما لم يكن عطشي هو عطشي (أصل الهوهوية وأصل امتناع التناقض)، لا يمكن لي أن أقول: «أنا عطشان».
لا بدّ من الالتفات أولًا: إلى أن البحث هنا يدور حول مهمّات وأدوار العقل، والتي من بينها عملية التوصيف؛ وأما هل يمكن للعقل أن يقوم بالتوصيف دائمًا أم لا؟ فهذا يحتاج إلى بحث آخر. وثانيًا: ليس المراد من التوصيف هو أن يكون للوصف في الخارج ما بإزاء خارجي. فمن الممكن للعقل أن يصف شيئًا، دون أن يكون لذلك الشيء ما بإزاء عيني في الخارج؛ من ذلك أن العمى ـ على سبيل المثال ـ أمر عدمي، ومع ذلك يمكن وصف الشخص الفاقد للعين والبصر بهذا الوصف. إن جميع التوصيفات التي ترد في الفلسفة هي من هذا القبيل؛ بمعنى أن المفاهيم التي يرد ذكرها في الفلسفة هي المفاهيم الفلسفية التي يكون عروضها ـ بحسب المصطلح ـ ذهنيًا واتصافها خارجيًا؛ بمعنى أن الشيء الخارجي يتصف بها، وإن لم يكن لها في الخارج وصف عيني منفصل عن الموضوع؛ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ عندما نأخذ شيئين يؤثر أحدهما في الآخر، فإننا نطلق على المؤثر مصطلح العلة، وعلى المتأثر مصطلح المعلول، ولذلك ننسب العلية إلى النار، والمعلولية إلى حرارة الماء، وإن هذا الوصف بالعلية للنار والمعلولية لحرارة الماء، ليس أمرًا عينيًا منفصلًا عن حقيقة النار والماء وأنه قد عرض عليهما، وفي الوقت نفسه فإن العلية ليست أمرًا ذهنيًا صرفًا بحيث لا تكون لها أيّ نسبة إلى الخارج. وعلى هذا الأساس لا ينبغي الظن بأن التوصيفات التي تحدث بواسطة المفاهيم الفلسفية متناقضة؛ إذ أنها من جهة تقوم
(26)بالتوصيف، ومن جهة أخرى لا وجود لها في الخارج. إن توهّم التناقض إنما ينشأ من تصوّر أن التوصيف إنما يتحقق حيث يكون للوصف وجود عيني مستقل، في حين أنه يصف حتى الأمر العدمي ـ كما سبق أن ذكرنا ـ من قبيل العمى، ناهيك عن التوصيفات التي لها ما بإزاء، غاية ما هنالك ليس لها ما بإزاء عيني مستقل، من قبيل علية ومعلولية بعض الوجودات بالنسبة إلى بعض الوجودات الأخرى.
خلفية بحث دور العقل
إن إحدى خلفيات بحث التوصيف أو التبيين للعقل تكمن في فلسفة العلم. وإن فلاسفة العلم يعملون على توضيح «التبيين» في فلسفة العلم. يقول هانز رايشنباخ:
«ما نعنيه بـ (تفسير
) واقعة ملاحظة، هو إدراج هذه الواقعة في قانون عام ... فعندما نقول إن قانون الجاذبية عند نيوتن يُفسّر سقوط الأجسام، فإننا نعني بذلك أن حركة الأجسام نحو الأرض تندرج ضمن قانون عام تتحرّك بمقتضاه كل الأجسام بعضها نحو بعض ... وقد يتمّ التوصل إلى التفسير والتبيين أحيانًا عن طريق افتراض واقعة لم تلاحظ أو لا يمكن ملاحظتها، فإن نباح الكلب ـ مثلًا ـ يمكن تفسيره بافتراض أن شخصًا غريبًا يقترب من البيت، ووجود الحفريات البحرية في الجبال يمكن تفسيره بافتراض أن الأرض كانت في وقت من الأوقات في مستوى أكثر انخفاضًا أو كان المحيط يغطيها. غير أن الواقعة غير الملاحظة لا تكون تفسيرية إلا لأنها تبيّن أن الواقعة الملاحظة مظهر لقانون عام، وهي أن الكلاب تنبح عند اقتراب شخص غريب، أو أن الحيوانات البحرية لا تعيش في اليابسة» .ويرى رودولف كارناب أن تفسير أو تبيين ظاهرة ما أو واقعية ما، إنما يكون على
أساس ظاهرة أو واقعية أخرى/ من قبيل التفسيرات المستندة إلى القانون، إذ يقول:
«إن التفسير المستند إلى الحقيقة إنما هو في الواقع الشكل الكامن للتفسيرات المستندة إلى القانون ... هناك بالطبع شكل مألوف للتفسير في الحياة اليومية؛ ففي مثال الساعة، يسأل شخص ما: [أين ساعتي التي تركتها على المنضدة قبل أن أغادر الغرفة؟ وتجيب: إنني رأيت جون يدخل الغرفة ويأخذها، وهذا هو تفسيرك لاختفاء الساعة]. وربما لا يُعدّ هذا الجواب الأول (أي قولك بأن جونز هو الذي أخذ الساعة) تفسيرًا كافيًا. لولا أننا سلّمنا بالقانون العام القائل: إذا أخذ شخص الساعة من على المنضدة، فإنه لن يعود لها وجود هناك»
.وقد ذهب آلان تشالمرز إلى التشكيك في توصيف التفسيرات العلمية، وقال:
«لقد وضعت التطوّرات الحديثة في فلسفة العلوم اليد على الصعوبات العميقة التي تثيرها الأفكار القائلة بأن العلم يقوم على أساس متين توفره الملاحظة والتجربة ... وأن هناك طريقة استنتاجية تمكّن من استخلاص النظريات العلمية بكل أمان ... والحال أنه لا يوجد أيّ منهج استطاع إقامة الدليل على أن النظريات العلمية صادقة أو حتى محتملة الصدق»
.إن القضايا الحسية ـ من وجهة نظره ـ صادقة، وإنها تصف الخارج، ومن هنا فإنه يقول: «المنطوقات المتعلقة بحالة العالم أو بجزء من أجزائه ينبغي أن يتمّ تبريرها أو إثبات صدقها بكيفية مباشرة، وذلك من خلال استعمال الملاحظ لحواسّه دون أفكار مسبقة. هذه المنطوقات التي يتمّ إنتاجها بهذه الكيفية (التي سأطلق عليها منطوقات الملاحظات) ستكون الأساس الذي تنشأ عنه القوانين والنظريات التي تشكّل المعرفة العلمية»
.وقد بيّن تردّده في موضع آخر، بقوله: «إن العالم إذ يتوفّر على القوانين والنظريات الكلية، فإن بمقدوره أن يستخلص منها شتى النتائج التي تكون بمثابة التفسيرات والتنبّؤات»
.ثم تعرّض تشالمرز في فصل مستقل إلى إظهار المعرفة العلمية للواقع وعدم إظهارها له، مما يُشكّل مجموع القوانين والنظريات، وقد بيّن ثلاث نظريات في هذا الشأن، حيث قال: «إن النظريات [الواقعية] تصف أو ترمي إلى وصف ما يُشبه العالم شبهًا حقيقيًا. وسوف أطلق مصطلح (الواقعية) على وجهات النظر التي تتبنّى صيغة من صيَغ هذا الجواب. إن النظرية الحركية للغازات تصف ما يُشبه الغازات شبهًا واقعيًا حقيقيًا ... .
وحسب وجهة نظر أخرى سأطلق عليها مصطلح الأداتية، فإن الجانب النظري المكوّن للعلم لا يصف الواقع. يُنظر إلى النظريات في هذا التصوّر وكأنها أدوات تم تصوّرها من أجل إقامة الصلة أو الربط بين سلسلتين من الحالات القابلة للملاحظة. فالجزيئات المتحرّكة التي تتحدّث عنها النظرية الحركية للغازات هي عند صاحب النزعة الأداتية مخيّلات وهمية سهلة تتيح للمشتغلين بالعلم إقامة الروابط والصلات بين مظاهر متجلية قابلة للملاحظة لخواص الغازات والقيام بتوقّعات ... .
إن الواقعية تتضمّن فكرة الصدق أو الحقيقة؛ إذ أن غاية العلم بالنسبة إلى الشخص الواقعي هي السعي إلى صيغة أوصاف صادقة لما هو العالم حقيقة وواقعًا. وإن النظرية التي تصف مظهرًا من مظاهر العالم وسلوكه بكيفية صحيحة هي نظرية صادقة، في حين أن النظرية التي تفعل ذلك بكيفية غير صحيحة هي نظرية كاذبة ... .
... إن وصف العالم المشتمل على كيانات قابلة للملاحظة يصف فعلًا ما يُشبه
العالم شبهًا حقيقيًا، أما الوصف الذي ينصبّ على الأنساق المشتملة على مفاهيم نظرية فإنه لا يفعل ذلك. فهذه المفاهيم الأخيرة ينبغي أن تفهم بوصفها متخيلات وهمية مفيدة أو نافعة تيسّر وتسهّل عملياتنا الحسابية ... إن الأداتية الساذجة تسلّم بأن هناك في الحقيقة والواقع كرات البليارد في العالم وأن بوسعها أن تتدحرج بسرعة مختلفة وتصطدم بعضها ببعض وبحافات طاولة البليارد الذي يوجد كذلك وجودًا حقيقيًا وواقعيًا. وعلينا أن نرى في الميكانيكا النيوتونية ضمن هذا السياق جهازًا حسابيًا يسمح باستنتاج المواقع القابلة للملاحظة لكرات البليارد وسرعتها في كل لحظة من موقعها القابل للملاحظة وسرعتها في لحظات أخرى مختلفة. والقوى المتدخلة في هذه الحسابات وفي كل حساب مشابه (قوى الدفع الناجمة عن الاصطدام، وقوى الاحتكاك، وما إلى ذلك) لا ينبغي اعتبارها كيانات توجد وجودًا حقيقيًا وواقعيًا. فإنها من مبتدعات الفيزيائيين ومختلقاتهم ... .
إن آلات قياس التيار الكهربائي، وبرادة الحديد والكواكب والأشعة الضوئية، كل ذلك يوجد في العالم. وأما الإلكترونات والحقول الكهرطيسية، وأفلاك التدوير البطليموسية، والأثير، فلا حاجة إلى أن توجد فعلًا ... »
.وقال في موضع آخر: «غالبًا ما توجد لنظرية ما صياغات ذات أوجه أو مظاهر بديلة ومختلفة جدًا. ومن الأمثلة على ذلك الصياغتان المختلفتان للنظرية الكهرطيسية الكلاسيكية: إحداهما تستخدم مصطلح الحقول الكهرطيسية التي تشغل المكان كله، والأخرى تستخدم مصطلح الشحنات المحددة الموقع والتيارات المؤثرة عن بُعد مع التعبير عن الأفعال أو التأثيرات في شكل طاقة كامنة أو جهد ينتشر بسرعة الضوء. كما نجد أمثلة أخرى من هذا النوع في مختلف الصياغات التي
نجدها في الميكانيكا الكلاسيكية أو الميكانيكا الكوانتية. قد يبدو من المحتمل جدًا أن تكون بعض هذه الصياغات متكافئة فيما بينها، بمعنى أن ما يمكن تفسيره أو توقعه بهذه الصياغة، يمكن تفسيره أو توقعه بصياغة أخرى»
.أما النظرية الثالثة التي يلتزم بها تشالمرز فهي التي يسميها بـ «الواقعية اللاتشخيصية»، إذ يقول: «إن الواقعية اللاتشخيصية هي واقعية بمعنيين؛ المعنى الأول: هو أنها تحتوي على فرضية كون العالم الفيزيائي هو كما هو مستقل عن المعرفة التي لدينا عنه. إن العالم هو كما هو مهما يمكن للأفراد أو الجماعات أن تظن وتتصوّر. المعنى الثاني: هو أن هذه الواقعية هي واقعية لكونها تتضمّن فرضيّة أن النظريات في حالة قابليتها للتطبيق على العالم، فإنها تكون كذلك دائمًا داخل ـ كما خارج ـ أيّ وضعية تجريبية. إن النظريات الفيزيائية هي أكثر من مجرّد إثباتات متعلقة بالتعلقات أو الترابطات بين مجموعات مرتبطة من منطوقات الملاحظة. إن الواقعية اللاتشخيصية التي أتحدّث عنها إنما تكون لاتشخيصية؛ لأنها لا تحتوي على نظرية مطابقة الحقيقة للوقائع. إن الواقعية اللاتشخيصية لا تفترض أن نظرياتنا تصف كيانات قائمة في العالم، من قبيل: دوال الموجة أو الحقول ... إننا نستطيع أن نقدّر قيمة نظرياتنا وفقًا لمعيار درجة نجاحها في إدراك وجه من أوجه العالم أو مظهر من مظاهره ... وذلك لسبب وجيه وهو أننا لا نمتلك وسيلة للاتصال بالعالم بشكل مستقل عن نظرياتنا، مما كان سيسمح لنا ـ لو تحقق ـ بالحكم على مدى مطابقة وصفنا للعالم الخارجي كما هو في الواقع»
.يمكن القول ـ في الحقيقة والواقع ـ إن جميع التفسيرات عبارة عن أنشطة عقلانية، بيد أن أنشطة العلوم القائمة على التجربة والحس، تخلق هذه المشكلة،
وهي أنه لا يمكن القبول من الناحية المنطقية بأن الواقع والخارج هو كما يتمّ توصيفه في التفسيرات العلمية. وبعبارة أخرى: إن التفسيرات العلمية تعمل على توصيف الخارج واقعًا، ولكن من الناحية المنطقية ليس من المحال أن يكون الواقع على خلاف هذا التوصيف؛ وذلك لأن توصيف شيء ما أعم من أن يكون هذا التوصيف متطابقًا مع الواقع أم لا. ولذلك فإن التفسيرات العلمية لا تنطوي على اعتبار مطلق. ومن هنا يتضح أن بحثنا عن توصيف أو تفسير العقل في البداية كان في حقل فلسفة العلم، ثم تمت إثارة هذا السؤال القائل: هل دور العقل بشكل عام ـ سواء في الأمور التجريبية أو غيرها ـ هو مجرّد التبيين والتفسير فقط، أم هو تبيين وتفسير يؤدّي إلى التوصيف الواقعي أيضًا؟
وعليه بالنظر إلى هذه الخلفية، يمكن الجواب عن القسم الأول من السؤال ـ الذي يستفهم بشكل عام عن مهمة العقل ـ على نحو التفكيك والقول بأن مهمة العقل في العلوم التجريبية وإن كانت من أجل توصيف الخارج، ولكن لا يمكن الوثوق بهذا التوصيف، ومن هنا فإن العقل في العلوم التجريبية يكتفي بالتبيين والتفسير فقط. وأما بالنسبة إلى العلوم غير التجريبية فيجب القول في بداية الأمر إن العلوم غير التجريبة تنقسم إلى العلوم الفلسفية والعلوم غير الفلسفية، وإن الذي يحظى بالأهمية في بحثنا هو العلوم الفلسفية، ولذلك فإننا سوف نغض الطرف عن دور العقل في العلوم غير التجريبية وغير الفلسفية، ونواصل البحث في إطار العلوم الفلسفية. وفي العلوم الفلسفية سوف نعمل في البداية على التفكيك بين المسائل الفلسفية المحضة والخالصة، وبين المسائل الفلسفية غير الخالصة. إن دور العقل في المسائل الفلسفية غير الخالصة لا يتجاوز التبيين؛ إذ تتمّ الاستفادة في هذه المسائل من بعض المقدمات التجريبية، ومن هنا تكون نتيجة الاستدلال في مسألة فلسفية غير خالصة رهنًا بالتجربة، وقلنا إن التجربة لا تمتلك الاعتبار المطلق. أما المسائل
(32)الفلسفية الخالصة والمحضة فإنها من المسائل التي تكون من الأوليات أو مستنتجة من الأوليات، ولذلك فإن العلوم الفلسفية، من قبيل: المنطقة وعلم المعرفة والميتافيزيق، هي من بين العلوم التي يتم الحصول على مسائلها النظرية الخالصة من الأوليات. إن مرادنا من الأوليات هو تلك الطائفة من العلوم والقضايا التي يكون مجرّد تصوّر أجزاء القضية فيها كافيًا للتصديق بها، وإن هذا النوع من القضايا في الحمليات ينقسم إلى القضايا التحليلية والقضايا التأليفية. وبعبارة أخرى: إن الأوليات لا يتمّ تحديدها بالقضايا التحليلية فقط، بل هناك قضايا تأليفية يكفي فيها مجرّد تصور الموضوع والمحمول للتصديق بها. إن وجود هذه الطائفة من الأوليات يؤدّي إلى أن تكون العلوم الفلسفية ناظرة إلى الواقع، وتعمل على توصيف الواقع بالمقدار الذي حصل عليه العقل. إن مرادنا من الواقع ليس هو الواقع الخارجي العيني دائمًا، وذلك لأن بعض القضايا قد يكون ناظرًا إلى مرحلة من الذهن. وعلى كل حال هناك إمكانية للوصول إلى الواقع الخارجي بواسطة الأوليات الصرفة والاستعانة بقواعد الاستنتاج ومن دون الاستعانة بالقضايا الحسيّة أو الوجدانية، والعمل على توصيف الواقع الخارجي بالمقدار الذي تمّ الحصول عليه. ويمكن العثور على نموذج لذلك في البراهين الوجودية لإثبات وجود الله سبحانه وتعالى، وكذلك في براهين الصديقين أيضًا. لقد تمّ تأليف القسم الأكبر من هذا الكتاب لغرض إزالة الزوائد العالقة في صلب هذه البراهين، لكي يتم بيان إمكان إقامة براهين من هذا النوع. وإما إقامة هذا النوع من البراهين ونقضها وإبرامها، فسوف نتركه ـ بحول الله وقوّته ـ إلى كتاب آخر.
(33)
(35)
هناك نظريات مختلفة حول ما إذا كان لفظ الجلالة «الله» ـ في اللغة العربية، و«خدا» في اللغة الفارسية، و«God» في اللغة الإنجليزية، وسائر الألفاظ الأخرى الدالة في مختلف اللغات على الأمر الإلهي؛ بحيث يخضع الإنسان أمام المُسمّى بهذه التسميات ويطلب الاستعانة منه ـ هل هو اسم أم وصف؟ وإذا كان لفظ الجلالة هذا هو اسم، فهل هو اسم عام أو اسم خاص أو لا شيء من هذا ولا ذاك أو هو شبه عام وشبه خاص؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تدفعنا في بداية الأمر بشكل عام إلى تقديم خلاصة بوضع الألفاظ ودلالاتها على المعاني، لنواصل البحث بعد ذلك في خصوص لفظ الجلالة «الله» ومرادفاته وخصائصه.
قبل الدخول في بحث الألفاظ، يجب بيان أنواع الدلالات باختصار، لنبحث وضع الألفاظ من هذه الزاوية.
لا شك في أن الألفاظ هي من نوع الدلالات التي عمد الإنسان إلى الاستفادة
(37)منها على الدوام ولا يزال من أجل الوصول إلى أغراضه ومقاصده وأهدافه. إن دلالة الألفاظ على مدلولاتها هي من نوع الدلالات التعاقدية والاعتبارية، وليست من نوع الدلالات العقلية أو الطبعية. في الدلالات العقلية ينتقل الإنسان بواسطة إدراكه من الدال إلى المدلول الذي لا يقوم أبدًا على اعتبار أو تعاقد بين الأشخاص، من قبيل دلالة الدخان على النار؛ فإن الدخان يدل على النار سواء أكان هناك اعتبار من قبل الناس على ذلك أم لا. إن مرادنا من الدلالة العقلية هنا هو ذلك النوع من الدلالة التي تكون مشتركة حتى بين الحيوانات وبين الناس؛ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن من العلامات المناخية والأنواء الجوية ما يدفع بعض الحيوانات نحو البحث عن ملاذ يقيها في منتصف الليل من التعرّض للمطر. وفي قبال الدلالات العقلية هناك علامات ودلالات تدل على مداليلها بشكل طبيعي. إن هذه العلامات ليست عامة كما هو الحال بالنسبة إلى المورد السابق؛ من قبيل السعال الذي يدل بشكل طبيعي على إصابة الشخص بألم في الصدر. ولكن هناك دلالات أخرى لا تدل على مداليلها المنشودة بشكل عقلي أو طبعي، ومع ذلك فإن الإنسان يستفيد منها ويعمل على إيصال مراده إلى الآخرين بواسطتها، من قبيل: إشارات المرور. إن هذا النوع من الدلالات ينقسم إلى قسمين، وهما: الدلالات اللفظية، والدلالات غير اللفظية.
لا شك في أن حاجة الإنسان إلى حياة أفضل وأيسر، تدفعه إلى الاستعانة بالطبيعة واستثمار قواه وطاقاته. وإن من بين طرق تحسين الحياة عبارة عن اكتشاف الدلالة اللفظية. لك أن تتخيل مدى صعوبة الحياة وتعقيدها لو لم يكن الإنسان يمتلك هذا اللسان، ولم تكن لديه القدرة على استعمال اللفاظ من أجل إيصال مراده
(38)إلى الآخرين. إن الألفاظ التي يستعملها الإنسان لغرض إيصال مراده وغاياته إلى الآخرين تدل على ذلك المراد وتلك الغايات، وإن هذه الدلالة ليست من نوع الدلالة العقلية ولا هي من نوع الدلالة الطبيعية، وإنما هي من النوع الذي نصطلح عليه بالدلالة الوضعية.
إن السؤال القائل: ما هو الوضع وكيف يدل اللفظ على المعنى؟ هو من بين الأسئلة التي نتعرّض هنا إلى الإجابة عنها باختصار:
حيثما تواصلنا مع العالم الخارجي بحواسنا، سوف تنطبع صورة عن الأشياء الخارجية في أذهاننا؛ بحيث نستطيع بعد ذلك إخراجها من مركز الذاكرة والنظر فيها دون الحاجة إلى رؤية ذلك الشيء أو الشعور به مرّة أخرى بواسطة الحواس العضوية مباشرة. وأما إذا أردنا حمل شخص آخر على فهم ذلك الشيء، فيتعيّن علينا إظهار ذلك الشيء له وإحضاره بواسطة علامة تدل عليه، وذلك بأن نريه ذلك الشيء مباشرة أو نختار طريقة أسهل وذلك من خلال التعاقد بيني وبينه على وضع لفظ أو علامة تدل على ذلك الشيء الخارجي، بحيث كلما سمع ذلك اللفظ أو رأى تلك العلامة تداعى إلى ذهنه ذلك الشيء. وعلى هذا الأساس سوف يكون استعمال اللفظ في ضوء التعاقد والاعتبار وسيلة لإحضار وتداعي الصوَر في الذهن، ويكون اللفظ علامة على الأمر الخارجي بواسطة الصورة المنطبعة عنه في الذهن. إن مرادنا من الصورة بحسب المصطلح هو ذلك الشيء الذي يتمّ الحصول عليه إما مباشرة من طريق واحدة من الحواس، أو المفاهيم التي يحصل عليها العقل بفعل نشاطه المبذول في معالجة تلك الصوَر الحسيّة. وعلى هذا الأساس يمكن القول: إن لدينا بإزاء كل لفظ مستعمل صورة أو تصوّر، نطلق عليه بحسب المصطلح عنوان «المعنى». ومن هنا يكون هناك معنى لكل لفظ مستعمل؛ بمعنى أنه كلما سُمع اللفظ وكان السامع عالمًا بالوضع، تداعى له ذلك المعنى.
(39)ومن ناحية أخرى فإن صورة أو تصوّر الشيء، يُشير بشكل طبيعي إلى الشيء الخارجي. وإن المناطقة يسمّون هذه الصورة اللفظية بلحاظ كونها مستفادة من اللفظ «مفهومًا»، وبلحاظ أن المراد من استعمال اللفظ هو هذه الصورة «معنى»، وبلحاظ أن الفظ يدلّ على هذه الصورة «مدلولًا»، بيد أن العلماء في علم الأصول لم يقولوا شيئًا مباشرًا في بحث الوضع. فإنهم يُردّدون على الدوام أن اللفظ يتمّ وضعه بإزاء المعنى، ولم يوضّحوا ما إذا كان هذا المعنى أمرًا ذهنيًا نهتدي بواسطته إلى الخارج، أم أن اللفظ شيء يتمّ وضعه على الدوام للأمر الخارجي؛ من ذلك أن كلمة «زيد» ـ على سبيل المثال ـ قد وضعت للدلالة على شخص في الخارج، ولكن لكي يتم إرشاد الذين يعرفونه إليه، لا بدّ من توسيط صورة زيد الموجود في الخارج.
يُستفاد من بعض عبارات علماء علم الأصول أن اللفظ يوضع بإزاء أمر خارجي، في حين يُستفاد من بعض العبارات الأخرى أن اللفظ إنما يُوضع بإزاء الصورة الذهنية، وأن تلك الصورة تعبّر بشكل طبيعي عن الأمر الخارجي. وعلى هذا الأساس لا بدّ من الالتفات إلى أنه عندما يقال: إن للفظ معنى في كل وضع، يكون ذلك صحيحًا على كل واحد من هذين المعنيين المحتملين. ومن هنا نكون في كل وضع بحاجة إلى الصورة الذهنية، سواء كنا في مقام وضع اللفظ للمعنى أو كنا في مقام استعمال اللفظ لإحضار المعنى.
لكي يتم وضع اسم على معنى عام، لا بدّ من أخذ آلية بنظر الاعتبار؛ من ذلك أننا إذا أردنا أن نضع لفظ «الغراب» ـ مثلًا ـ للدلالة على نوع خاص من الطيور المعروفة، يجب أن نأخذ بنظر الاعتبار جهة الاشتراك التي تشترك فيها جميع الغربان؛ بمعنى أن نضع لفظ الغراب على ذات طير يتصف بهذه الخصائص المعيّنة. فإذا فقد
(40)الغراب تلك الخصائص، لن يُطلق عليه لفظ الغراب. فلو افترضنا أن غرابًا وقع في النار وتفحّم مع احتفاظه بشكله الظاهري؛ عندها لا يمكن تسميته غرابًا حقيقة، وإن كان يصحّ إطلاق لفظ الغراب عليه على نحو المجاز. وعليه فإن الاسم العام يتمّ وضعه على ذات تحتوي على خصوصية، وإن تلك الذات والمعنى وبتبعه اللفظ ينطبق على جميع أفراده. وعليه فإن للاسم العام معنى دائمًا؛ أي: ذات لها خصوصية. عند وضع اللفظ تؤخذ الذات مع خصوصيتها بنظر الاعتبار، ويتمّ وضع اللفظ على الذات بتلك الخصوصية أو يتمّ وضعه على الطبيعة الخارجية لتلك الذات بتلك الخصوصية. وعلى كلتا الحالتين نحن نحتاج في الوصول إلى الذات الخارجية بتلك الخصوصية إلى صورته الذهنية.
في الأسماء الخاصة أو الأعلام، يتمّ وضع اللفظ على ذات معيّنة، دون ذات الموجود المعيّن. إن كل نوع من أنواع الخصوصية الموجودة في الذات، ما دامت غير داخلة في دائرة الذات، فإنها تكون خارجة عن معنى اللفظ. لنفترض مثلًا أن شخصًا اختار أن يضع لولده اسم «علي»، فعلى الرغم من أن هذا الأب قد رأى في ولده خصائص من قبيل لون البشرة والشكل والجمال وما إلى ذلك، ولكن لا شيء من هذه الخصائص كان دخيلًا في اختيار ذلك الاسم؛ إذ سوف يبقى لفظ «علي» يدلّ عليه حتى بعد تغيّر لونه أو شكله الظاهري، وإن هذه الدلالة تكون بسبب ذلك الوضع الأول، لا أنه يتمّ وضع لفظ «علي» للدلالة عليه بوضع جديد. لو كانت الخصوصيات الملحوظة داخلة في معنى «علي»، لما عاد لفظ «علي» يدل عليه فيما لو تغيّر واحد من تلك الخصائص. وعليه فإن لفظ «علي» يدلّ على ذات معيّنة من دون لحاظ أيّ خصوصية فيه، فحتى لو عُدمت ذات علي، يبقى لفظ «علي» دالًا
(41)على تلك الذات؛ ومن ذلك ـ مثلًا ـ أن لفظ «أرسطو» يدلّ إلى الآن على ذات معيّنة كانت تعيش في اليونان، في حين أن أرسطو لم يعد موجودًا بيننا. ولكننا لا نستطيع إطلاق لفظ «أرسطو» للدلالة على الرميم المتحول عنه بفعل تفسّخ جسده؛ وذلك لأن الرميم الحاصل من جسده، ليس هو ذلك الشخص الذي نعرفه باسم أرسطو.
وعلى هذا الأساس فإنه في وضع الأسماء الخاصة كما يجب أخذ اللفظ بنظر الاعتبار، يجب تعقّل مسمّاه أيضًا، ووضع اللفظ على تلك الذات المجرّدة من كل خصوصية. فما لم يتمّ تعقّل المُسمّى بنحو من الأنحاء، لا يمكن وضع اللفظ عليه. وإن واحدًا من طرق وضع اللفظ على المعنى، عبارة عن إحضار المُسمّى ووضع اللفظ على ذلك المُسمّى؛ من قبيل أن يُشير الواضع إلى الطفل الرضيع ويقول: «هذا علي». والطريق الآخر هو أن يتمّ العمل على وصف المُسمّى؛ فلو أن شخصًا لم يتزوّج بعد، وربما لا يقدّر له أن يتزوّج طوال حياته، ولكنه في الوقت نفسه يتمنى لو أن الله رزقه بمولود يومًا ما فإنه سوف يُسمّيه «عليًا»، ويقول لأصدقائه إن اسم ولدي البكر إذا رُزقته سوف يكون «عليًا». فلو أن واحدًا من أصدقائه سأله لاحقًا: «هل وُلد علي؟»، فإن كلمة علي في هذا السؤال سوف تدل على مُسمّى لم يولد بعد، ولم نعلم بأيّ خصوصية عينية عن هذا المُسمّى، ولكن مع ذلك فقد تمّ إطلاق هذا اللفظ على المُسمّى على الرغم من أنه لم يوجد أبدًا. وعلى هذا الأساس لم يكون لخصوصية «كون المسمى بكرًا» دخل في المُسمّى، وذلك لدلالة اللفظ على المُسمّى حتى قبل أن يُكتب له الوجود، وقبل أن يولد فضلًا عن أن يكون بكرًا.
وعليه فإننا في مقام وضع الأسماء الخاصة نحتاج بشكل وآخر إلى التعقّل ولو على نحو توصيفي، إلا أن هذه الحاجة لا تعني أن التوصيف داخل في معنى اللفظ، بل يعني أن المسمّى لو كُتب له الوجود والتحقق، فإنه سوف يتحقق في ظلّ ظروف وشرائط خاصّة؛ بمعنى أنه لا يمكن القول بأن لفظ «علي» يدل على ولد شخص
(42)آخر الذي تمنى لو أنه رُزق بولد بكر سوف يُسمّيه عليًا، بل إن هذا اللفظ بناء على الوضع إنما يدلّ على مُسمّى لو كُتب له أن يوجد يجب أن يكون هو الابن البكر لهذا الشخص الواضع حصرًا، وإن هذا الشرط ليس دخيلًا في مُسمّى اللفظ؛ إذ أن هذا الشخص حتى إذا لم يُرزق بولد طوال حياته، يبقى هذا اللفظ دالًا على المُسمّى.
فلو أن لفظًا قد تمّ وضعه على مسمّى، فإننا من أجل التعرّف على المسمّى لن نكون في غنى عن الإشارة إليه أو أشياء من هذا القبيل. إلا أن أصل دلالة اللفظ على المسمّى لا تتوقف على أيّ شيء آخر، سوى استعمال اللفظ ومراعات بعض القواعد الدستورية والنحوية.
لنفترض أن شخصًا كان بين جماعة وقد وضع لفظ «زيد» على مسمّى، وقام شخص آخر ـ على علم بهذا الوضع ـ وسأل الواضع قائلًا: «ما الذي حصل لزيد؟». هنا يكون الشخص الثاني [السائل] قد أطلق لفظ «زيد» على مُسمّى خاص، وإن الشخص الواضع يلتفت إلى أن مراد السائل من لفظ «زيد» هو المُسمّى الخاص الذي وضع له ذلك اللفظ بنفسه، وأما الآخرون الذين لم يطلعوا على وضع اللفظ، فإنهم أولًا: يدركون أن لفظ «زيد» يدل على مُسمّى، ولكنهم لا يمتلكون أدنى معرفة بالمُسمّى. وثانيًا: إنهم بهذا الاستعمال يحصل لهم علم بالمُسمّى من خلال هذا الاستعمال للفظ. وذلك بنحو أن هذا اللفظ يدلّ على ذات معيّنة يعلم بها الشخص الواضع وذلك الشخص الذي له علم بالوضع بنحو من الأنحاء. وثالثًا: إن هذا المقدار من الإدراك الحاصل بفعل استعمال اللفظ يكفي لكي يقوم هؤلاء الأشخاص باستعمال هذا اللفظ للدلالة على هذا المُسمّى، كأن يقولوا مثلًا: «من هو زيد؟»، فإن لفظ زيد في هذه العبارة يدل على ذلك المُسمّى الذي قام الشخص الواضع بوضع ذلك اللفظ له. وعلى هذا الأساس لو أن لفظ زيد قد وضع على فرد
(43)معيّن من الطبيعة الإنسانية، فإنه إنما يطلق على خصوص هذا الفرد من الطبيعة. ولذلك لو أن هذا الفرد الخاص من الطبيعة قد فقد هويته الإنسانية بعد الوجود لأيّ سبب من الأسباب، عندها لن يعود اللفظ دالًا على الهوية المتبدّلة.
لنفترض أن الحجاج بن يوسف الثقفي قد مُسخ بسبب جوره وسفكه للدماء وتحوّل إلى خنزير متكامل الأوصاف، وعليه فإن لفظ الحجاج كان يدل على هذا الشخص قبل المسخ، ولا يدل على المُسوخ، ولو تمّ استعمال هذا اللفظ على المُسوخ، فإن هذا الاستعمال سوف يكون على سبيل المجاز لا أكثر. ولو دل هذا اللفظ على المُسوخ بفعل التكرار وكثرة الاستعمال، فسوف تكون دلالته على المُسمّى بوضع ثان وبواسطة الوضع التعيّني دون التعييني. وما دام لم يتحقق الوضع الثاني للفظ، فإن هذا اللفظ يدلّ على شخص معيّن، أي على ذات الحجاج بن يوسف الثقفي قبل أن يُمسخ. ولو تساءل شخص وقال: «من هو الحجاج؟»، أمكن لنا في الجواب أن نقول: «إن الحجاج شخص ظالم، وقد مسخه الله إلى خنزير»، وإن وصف «تحوّله ومسخه إلى خنزير» ليس له دخل في مُسمّى اللفظ. كما لا يمكن القول في الجواب عن السؤال الآنف: «إن الحجّاج هو هذا الخنزير».
وعلى هذا الأساس فإن اللفظ في الأسماء الخاصة يتمّ وضعه في عالم المقال الخاص على ذات معيّنة، وإن هذا المُسمّى تكون له حين الوضع صفات يتمّ لحاظ بعضها عند الوضع، ولهذه الغاية يتمّ وضع اللفظ على صاحب هذه الصفات، لا أن يكون الوصف داخلًا في مُسمّى اللفظ. والنتيجة هي أنه لا يجب حين وضع الأسماء الخاصة أن يكون مُسمّى اللفظ عند وضع اللفظ مشهودًا عينيًا بنحو من الأنحاء وأن يقع مشارًا إليه، بل يمكن وصف ذات معيّنة بوصف من الأوصاف حتى قبل أن توجد. إن هذا النوع من الأوصاف يمكن أن يُشكّل طريقًا إلى تلك الذات المعيّنة، وفي هذه الحالة يتمّ وضع اللفظ على تلك الذات.
(44)ويعود سبب التقييد بعالم المقال الخاص إلى أنك قد تضع اسمًا خاصًا على حصان، وعندها فإن هذا الاسم سوف يدلّ على ذلك الحصان الخاص، وليس على شيء آخر. وعلى هذا الأساس فإن المُسمّى ـ سواء في الاسم الخاص أو في الاسم العام ـ يجب تعقّله بنحو من الأنحاء، وفي هذه الحالة فإن اللفظ إما أن يتمّ وضعه على ذلك المُسمّى الذهني (فإن المُسمّى الذهني أو الصورة الذهنية تدلّ على الشيء الخارجي بشكل طبيعي)، أو يتم وضعه منذ البداية بواسطة المُسمّى الذهني على المُسمّى الخارجي. من ذلك مثلًا أن لفظ الإنسان الذي هو اسم عام إما أن يتمّ وضعه بواسطة الصورة الذهنية للطبيعة المشتركة بين جميع الناس أو لذات تلك الصورة الذهنية، ليدلّ على الطبيعة الخارجية للإنسان. وهكذا الأمر بالنسبة إلى لفظ «زيد» فهو إما أن يكون قد وضع لتلك الذات الخارجية المعيّنة التي تمّ تعقلها بنحو من الأنحاء، أو إلى تلك الصورة المعينة التي تمّ تعقلها والتي تدل على الذات الخارجية المعيّنة. وإذا أردنا التعبير بشكل أدق وجب علينا القول: إن اللفظ إنما يتمّ وضعه لطبيعة المعنى؛ فإن لفظ الإنسان ـ على سبيل المثال ـ قد وضع لطبيعة الإنسان بغض النظر عن وجوده الخارجي أو حتى وجوده الذهني. إن هذا اللفظ لم يتمّ وضعه على المصداق الخارجي للإنسان ليكون حمل الوجود عليه طوطولوجيا أو من قبيل قول الشيء نفسه، ويكون سلب الوجود عنه متناقضًا، كما أنه لم يتمّ وضعه للصورة الذهنية للإنسان، كي لا يدل على الإنسان الخارجي. وعليه فإن الشيء إنما يُسمّى معنى فيما إذا تمّ وضع لفظ بإزائه، سواء أكان صورة ذهنية بغض النظر عن وجوده الذهني، أو كان طبيعة وشيئًا خارجيًا بغض النظر عن وجوده الخارجي. وعلى هذا الأساس فإن كلّ اسم ـ بما في ذلك الأسماء الخاصة والأعلام بل وكل كلمة ومفردة يتمّ وضعها للدلالة على شيء ـ تكون طبقًا لهذا المصطلح ذات «معنى».
(45)بعد بيان كيفية وضع الألفاظ، سوف ننتقل إلى بحث خصوص وضع الأسماء العامّة والخاصة، وهل للأسماء الخاصة وأسماء الأعلام معنى أم لا؟
هناك من يدّعي أحيانًا أن الأسماء الخاصّة والأعلام ـ خلافًا للأسماء العامة الدالة على المعنى والمفهوم ـ لا تشتمل على مفهوم أو معنى. وقد استدل بارنز
على هذا المدعى قائلًا: لو تمّ استخدام لفظ ما على شكل اسم خاص، فإن السؤال عن مفهوم ذلك الاسم سوف يكون بلا معنى؛ فلو قيل مثلًا: «لقد تمّت إدانة خالد»، أمكن السؤال والقول: «ما معنى كلمة «الإدانة»»، وأما لو قيل: «ما معنى كلمة «خالد»»، يتضح أن السائل لم يدرك صيغة الجملة، ويحتاج إلى معرفة جذور الكلمة.ما هو المعنى الذي يمكن أن نرصده لعبارة بارنز التي يقول فيها: «إن السؤال عن معنى الاسم الخاص، بلا معنى»؟ إن كان مراده إن اللفظ في الاسم الخاص يتمّ وضعه للمسمّى الخارجي، بحيث لا يكون هناك أيّ تدخل لأيّ صورة في دلالة اللفظ على المُسمّى، فلا بدّ من القول بأن هذا الافتراض غير ممكن؛ إذ ما لم ينتقل الشخص عند سماع الاسم إلى الصورة الذهنية للمُسمّى ، فإنه لن ينتقل إلى المُسمّى الخارجي أبدًا. وعليه فإن المعنى المنفي في الاستدلال الآنف غير المعنى في بحث الوضع. إن المعنى الذي يمكن نفيه عن الاسم الخاص هو أن نقول إن الذي توضع له الأسماء الخاصة يشتمل على أجزاء مفهومية، بحيث يتمّ التعرّف على الشخص والمسمّى من طريق تحليل مفهوم الموضوع له؛ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن لفظ «زيد» لو وضع لشخص، سوف يكون الموضوع له ذات معيّنة من الإنسان، بحيث لم يُأخذ في الموضوع له حتى مفهوم الإنسانية. توضيح ذلك أن هذا الموضوع له أمر
بسيط بحيث لا يمكن تحليله مفهوميًا أبدًا، في حين أن الاسم العام ـ على العكس من ذلك ـ يمكن تحليله في بعض الموارد مفهوميًا؛ من ذلك ـ مثلًا ـ يمكن تحليل الإنسان إلى مفهومين، وهما: الحيوان والناطق. وبعبارة أخرى: في هذين المثالين، تمّ وضع لفظ «الإنسان» لطبيعة الحيوان الناطق، ولفظ «زيد» لحصّة معيّنة من ذات هذه الطبيعة. وعلى هذا الأساس لا يمكن تحليل الأسماء الخاصة تحليلًا مفهوميًا، وعليه لا تكون الأسماء الخاصة قابلة للتعريف. إن الذي يسمع كلمة «زيد» لأول مرّة في عبارة «جاء زيد»، يدرك أن هذه الكلمة اسم خاص وعلم، ولكنه لا يعرف المُسمّى بها. ولذلك يمكن أن يسأل ويقول: «من هو زيد؟»، ولكنه لا يستطيع السؤال والقول: «ما معنى زيد؟»؛ إذ لو كان مراده من عبارة «ما معنى زيد؟» ما هو الذي تمّ وضع كلمة «زيد» له، يتضح في هذه الحالة أن السامع لم يفهم بعد تركيبة جملة «جاء زيد». وإن كان مراده من عبارة «ما معنى زيد؟» هو أنه على الرغم من علمه بأن كلمة «زيد» اسم خاص، ولكنه لا يعلم المعنى والتحليل المفهومي لها، يكون عندها قد ألقى سؤالًا سطحيًا؛ وذلك لأن كلمة زيد تعني ذات معيّنة من الإنسان، وإن هذا المقدار من الجواب كان معلومًا للسائل من قبل، وإن الزائد على هذا المقدار ليس متعذرًا تحليله فحسب، بل ويجب القول إن الاسم الخاص يُطلق على طبيعة خاصّة ليس لها دخل في معنى الاسم الخاص؛ وذلك لأن كلمة «زيد» يتمّ وضعها على شخص بعينه، لا دخل لإنسانيته في الموضوع له لفظ «زيد»، وإلا وجب القول: إن عبارة «زيد إنسان» عبارة عن قول الشيء نفسه أو ما يُسمّى بالعبارة الطوطولوجية، في حين أنها لا تبدو كذلك. وعلى هذا الأساس فإنه على الرغم من أن الأسماء الخاصة يتمّ وضعها على ذات معيّنة وفي عالم مقال خاص، ولكن عالم المقال ـ في الوقت نفسه ـ لا يتدخل في معنى الاسم.
(47)هل لفظ الجلالة «الله» في اللغة العربية، و«خدا» في اللغة الفارسية، و«God» في اللغة الإنجليزية، وسائر الألفاظ الأخرى في مختلف اللغات الدالة على هذا المعنى، اسم أم صفة؟ وإذا كان اسمًا، فهل هو اسم عام أم هو اسم خاص؟ قد يرد استعمال لفظ «خدا» في اللغة الفارسية، وربما بعض الألفاظ في اللغات الأخرى بالمعنى الوصفي؛ من ذلك ـ مثلًا ـ عندما يقال «خداوندان انديشه»، يكون المراد بذلك «أصحاب الفكر» أو «أرباب الفكر»، وأما إذا أطلق هذا اللفظ على أمر مقدس، فإنه سوف يشتمل على معنى اسمي لا وصفي. ومع ذلك يمكن القول إنه لا فرق بين الوصف والاسم العام من الناحية الفلسفية، وإن كان الأدباء من الناحية الأدبية يفرّقون بين الوصف والاسم العام؛ إذ ليس هناك اختلاف مفهومي بين القادر والعالم ـ اللذي يشتملان على معنى وصفي من الزاوية الأدبية ـ من جهة، وبين الإنسان والعصفور ـ اللذين يشتملان على معنى اسمي ـ من جهة أخرى؛ وذلك لأن القادر والعالم يدلان على الذوات التي تنطوي على خصوصية القدرة والعلم، كما أن «الإنسان» و«العصفور» يدلان على ذوات تشتمل على خصوصية الإنسانية والعصفورية. وعلى هذا الأساس من المهمّ أن نعلم ما إذا كان لفظ الجلالة «الله» اسمًا خاصًا أم هو اسم عام، أو هو شبه عام وشبه خاص، من قبيل «قيصر» ـ بوصفه لقبًا للإمبراطور الروماني ـ أو «الدوق» ـ بوصفه أسمى لقب يتمّ توارثة بين الشخصيات الإنجليزية البارزة بعد طبقة الأمراء ـ أو «الملك». إن الإمكان الاسمي الذي يقع بين الاسم الخاص وبين الاسم العام، رهن على نحو تام بين تفسيرنا وفهمنا للاسم العام والاسم الخاص. إذا اعتبرنا الاسم العام بمعنى اللفظ الذي يدلّ في وضع على أكثر من مسمّى واحد بالفعل، من قبيل لفظ الإنسان، واعتبرنا الاسم الخاص بمعنى اللفظ الذي يدل في وضع على مُسمّى خاص وعلى مجرّد ذلك المُسمّى الخاص
(48)فقط، عندها فإن الاسم شبه العام وشبه الخاص لن يكون قابلًا للافتراض والإمكان فحسب، بل وهو واقع ومتحقق في الخارج أيضًا. ومن هذا القبيل: لفظ «القيصر» و«الدوق» وما إلى ذلك. وأما إذا اعتبرنا الاسم الخاص لفظًا يدل على المُسمّى في وضع، بحيث لا تكون هناك أيّ خصوصية داخلة في معنى اللفظ غير ذات المسمّى، واعتبرنا الاسم العام لفظًا لا يكون كذلك، ففي مثل هذه الحالة يكون افتراض اسم لا هو عام ولا هو خاص غير معقول؛ إذ أن وقوع اسم لا على نحو عام ولا على نحو خاص، في ضوء هذا التعريف سوف يستلزم ارتفاع النقيضين، وهو محال.
قال المناطقة المسلمون في باب مفاهيم المنطق: «المفهوم إن امتنع فرض صدقه على كثيرين فجزئي، وإلا فكلّي»
. وبذلك فإنهم فيما يتعلق بكلية وجزئية المفاهيم ذكروا فرض الصدق، وليس الصدق بالفعل. وكما ذكرنا في بحث «الدلالات اللفظية» فإن المعنى والمفهوم واسطة في وضع الألفاظ دائمًا، وعلى هذا الأساس يمكن القول: إن الأسماء التي تدل على المسمى إنما تكون كلية إذا كانت المعاني والمفاهيم الوسيطة كلية، وأما إذا لم تكن هذه المعاني والمفاهيم كلية فسوف تكون هذه الأسماء جزئية؛ بمعنى أنها لا تقبل الصدق على كثيرين.وبطبيعة الحال فإن الادعاء القائل بأن كل مفهوم ـ من حيث هو مفهوم ـ يكون كليًا، قد يمكن القبول به، وفي هذه الحالة لن يكون هناك مفهوم جزئي، إلا إذا قلنا: إن بعض المفاهيم منبثقة عن مورد جزئي، من قبيل: صورة هذا القلم الخاص الذي أمسكه بين أصابعي، والتي لا تقبل الانطباق إلا على هذا الشيء فقط، وأما انطباق هذه الصورة على الأقلام الأخرى فهو متفرّع على التجريد، وإن كان هذا الافتراض معقولًا أيضًا وهو أن التجرّد والانتزاع يقع في بعض المراحل بشكل تلقائي.
وعليه لو تمّ تعريف الأسماء العامة والأسماء الخاصّة بهذا الشكل، فإن كل اسم لا يخلو أمره، فإما أن يكون عامًا أو خاصًا. وأما الأسماء التي هي من قبيل: «القيصر» و«الدوق» و«الملك» فإن كانت من قبيل الأسماء الخاصة، فإن وضع اللفظ على مسمياته سوف يكون مشروطًا بشرط واحد أو أكثر؛ بمعنى أن اللفظ سوف يكون موضوعًا لشخص، غاية ما هنالك أن وضع اللفظ للشخص يكون مشروطًا بأن يكون هذا الشخص متصفًا ببعض الخاص؛ من ذلك أن لفظ «الملك» ـ على سبيل المثال ـ إنما يتمّ وضعه في وضع كلي على شخص خاص، فيما إذا كان يمتلك زمام أمور الدولة والبلاد، أو أن يتحلى بخصائص ضرورية أخرى، ليمكن إطلاق اللفظ عليه، أو من الممكن أن يكون لفظ «الملك» اسمًا عامًا؛ بمعنى أنه لم يتمّ وضع اللفظ لشخص خاص، وإنما وضع لكل ذات وشخص يتصف بهذه الصفات، وعليه ففي مثل هذه الحالة سوف يكون الاسم العام منحصرًا في شخص أو أشخاص معدودين. ومن هنا فإن المفهوم الكلي ـ وبتبعه الألفاظ ـ ينقسم في المنطق إلى أقسام، وهي: الكلي الذي ليس له أيّ فرد، والكلي الذي له فرد واحد، والكلي الذي له أفراد معدودون، والكلي الذي له أفراد غير معدودين. وعلى هذا الأساس لا بدّ من البحث في أن لفظ «الله» هل هو اسم عام، وقد وضع بإزاء مفهوم عام، أو هو اسم خاص.
يذهب بعض الفلاسفة في هذا الشأن إلى الاعتقاد بأن لفظ «God» في اللغة الإنجليزية اسم خاص مثل «جان و جونز»، وفي المقابل يذهب بيتر غيتش إلى الادعاء بأن لفظ «God» يدلّ على معنى عام.
لقد ذهب بول زيف إلى الاعتقاد بأن لفظ «God» اسم خاص، وليس ضميرًا ولا اسم جنس، يتمّ إيضاح وحدته وتعدّده بواسطة الإتيان بحروف التنكير وغيره. وقال ببداهة اسمية لفظ «God»، ويستفيد عدم كونه اسم جنس من هذه النقطة، وهي أنه لا يرد عليه حرف الوحدة والتعدد، بمعنى أننا لا نقول: «One God» أو
(50)«Some God». في حين يمكن القول في اسم الجنس: «رجل واحد» أو «عدد من الرجال». كما أن لفظ «God» ليس اسمًا يقبل الكمية، من ذلك لا يمكن القول مثلًا: «يوجد لدينا هذا المقدار من (God)».
وقد استفاد من مجموع هذه النقاط أن لفظ «God» ـ في عبارات من قبيل: «God is Exist» (إن الله موجود) ـ اسم خاص.
وقد ذهب ميكائيل دورانت
في مقالة «معنى لفظ (God)» إلى خلاف هذا المدّعى؛ حيث قال: يقول بيتر غيتش إن لفظ (God) يقبل صيغة الجمع، وتدخل عليه حروف التنكير، وتتقدم عليه صفات الكميات وأسماء الأعداد، من قبيل: «كثير» و«بعض» و«واحد»، في حين أن الأسماء الخاصّة ليست كذلك، كما أشار فيرجه إلى ذلك بشكل صائب. يُضاف إلى ذلك أن بيتر غيتش واسكوم قد استدلا بالقول: «إنما يمكن تأييد أو إثبات عبارة (إن الله موجود) فيما لو تم تفسير (God) بوصفه لفظًا يقبل حمل الوصف عليه (غير الاسم الخاص)» .وقال بارنز بعد ذكر الاحتمالات الثلاثة الأولى بشأن لفظ (God) ـ وهي أن يكون اسمًا خاصًا، أو اسمًا عامًا، أو اسمًا بين بين ـ بحق:
إن هذا البحث في حدّ ذاته مألوف، وعلينا أن لا ننخدع؛ إذ غالبًا ما يتمّ في اللغة استعمال لفظ بوصفه اسمًا خاصًا، وتارة أخرى بوصفه لفظًا مفهوميًا [اسمًا عامًّا]. وإن لفظ «الله» (God) ـ على ما ورد في معجم أوكسفورد ـ لفظ يستعمل بحسب القاعدة على كلا الطريقين. ونحن بدورنا نستعمله على كلا الطريقين؛ إذ نقول: «إن الله (God) قد سمع دعاءه» (God heard his prayer) ... و«إن ربّ الأرباب إله غيور» (The Lord is a jealous God) ... .
إن مفهوم الاسم الخاص تابع لاستعماله بوصفه اسمًا خاصًا. وبشكل عام فإن (ص) اسم خاص، فإذا (وفقط إذا) كان الاستعمال العادي لـ (ص) بوصفه اسمًا خاصًا، فإن اللفظ في مورد مفترض يُستعمل بوصفه اسمًا خاصًا، وأما إذا (وليس فقط إذا) تمّ استعماله في ذلك المورد بوصفه آلة للإشارة ... وعلى هذا الأساس، يكون السؤال القائل: هل استعمل لفظ «الله» (God) في الجملة المفترضة بوصفه اسمًا خاصًا؟ سؤالًا مهمًّا ـ خلافًا للسؤال القائل: هل لفظ «الله» (God) بشكل عام هو اسم خاص [أم لا] ـ وذلك لأن الجواب عن هذا السؤال رهن بالتركيبة المنطقية لتلك الجملة
.ويمكن ذكر ذات هذا الكلام بحذافيره بالنسبة إلى لفظ «خدا» في اللغة الفارسية ايضًا؛ وذلك لأن لفظ «خدا» يستعمل تارة في جملة بوصفه اسمًا خاصًا وعلمًا، كما يُستعمل في جملة أخرى بوصفه اسمًا عامًا، ومن هنا يمكن جمعه؛ وعليه فإن القول بما إذا كان لفظ «خدا» في اللغة الفارسية اسمًا خاصًا أو عامًا، رهن بالجملة والعبارة التي يرد فيها استعمال هذا اللفظ.
وأما لفظ «الله» في اللغة العربية فهو استثناء من هذا المورد. لا شك في أن هذا اللفظ قد ورد في اللغة العربية على شكل الاسم الخاص والعلَم، وليس على صيغة الاسم العام. وقد صرّح الأدباء بأن لفظ «الله» عَلَم ، والدليل على ذلك أنه لا يشتمل على معنى وصفي، ولذلك لا يقع وصفًا لشيء؛ في حين أن كل واحد من الأسماء الحُسنى لله سبحانه وتعالى، من قبيل: «القدير» و«العليم» تقع وصفًا لـ «الله». وعلى كل حال لو أن لفظ «خدا» في اللغة الفارسية، ولفظ «God» في اللغة الإنجليزية، والألفاظ الأخرى في مختلف اللغات، تمّ استعمالها مثل لفظ «الله» بوصفها علمًا
واسمًا خاصًا، لن تكون مشتملة على معنى ومفهوم بحيث يمكن تحليله مفهوميًا، خلافًا للأسماء العامة الدالة على معنى عام؛ حيث تتصف الذوات والأشخاص بذلك المعنى والمفهوم أيضًا.
كما سبق أن ذكرنا فإن لفظ «الله» في اللغة العربية اسم خاص، وهناك بشكل وآخر في مختلف اللغات الأخرى مفردة تستعمل ـ بإزاء لفظ «الله» في اللغة العربية ـ على شكل اسم خاص. والمشكلة التي تظهر هنا هي كيف يتمّ وضع لفظ الجلالة على مُسمّاه، وما هو الأساس الذي نستند إليه حيث نُطلق هذا اللفظ على المسمّى؟ إن الإشكال المطروح في لفظ الجلالة إنما ينشأ من أن الله ليس أمرًا محسوسًا، لكي تتمّ ملاحظته ووضع اللفظ على تلك الذات المشهودة والمحسوسة. كيف يمكن تعقّل الأمر غير المشهود وغير المحسوس؟ وعليه كيف وضعوا لفظ الجلالة على شيء لم يتمّ تعقّله، في حين لا بد من توسّط مفهوم في كل لفظ. هل هناك في خصوص لفظ الجلالة خصوصية جعلته متميّزًا من سائر الأسماء الخاصة؟
لقد تمّ بحث هذه المسألة بين المناطقة الإسلامين
على النحو الآتي: إذا كان «الله» علمًا؛ إذن كيف تمّ وضع هذا اللفظ على الله؟ إن هذا السؤال الذي يحكي عن استبعاد وضع «الله» بوصفه علمًا على ذات الله، إنما ينشأ من هذه النقطة في مسألة الوضع، وهي أن وضع الألفاظ على المعاني فرع تصوّر الموضوع له، وإن الإشكال في خصوص الله هو أن الله ما لم يتمّ تعقله لا يمكن وضع اللفظ له، وإن تصوّر ذات اللهغير مقدور للإنسان، وعليه فإن لفظ الجلالة لا يمكن أن يكون علمًا واسمًا خاصًا.
وقال المناطقة في الجواب عن هذا الإشكال: يمكن تصوّر الله على نحو يمتاز ممّا سواه، ثم يتمّ وضع لفظ «الله» على هذه الذات الممتازة. ثم إن لازم الاستدلال أعلاه ـ لو سلّمنا بصحّته ـ ليس نفي إمكان وضع لفظ الجلالة على الله، وإنما هو عدم إمكان الوضع بالنسبة إلى البشر، وهذا الدليل أخصّ من المدّعى؛ إذ المدّعى هو أن لفظ الجلالة لا يمكن وضعه على ذات الله، والدليل على ذلك هو أن الإنسان لا يستطيع أن يتصوّر الله، ولكن قد يكون الله سبحانه وتعالى هو الذي وضع لفظ الجلالة على ذاته من طريق الوحي أو الإلهام أو من طريق إحداث صوت في شيء.
يتمّ حاليًا بيان إشكال لفظ الجلالة بين الفلاسفة التحليليين من ناحيتين، الناحية الأولى: كيفية الوضع الأولي للفظ الجلالة على ذات الله سبحانه وتعالى, والناحية الأخرى: كيفية استعمال لفظ الجلالة بين الناس وكيفية التعرّف على المُسمّى من طريق اللفظ. إن البحث في البُعد الثاني ـ كما سبق أن ذكرنا ـ لا ينطوي على معضلة كبيرة. فما أن يقوم شخص بإطلاق اسم خاص على المُسمّى، حتى يدرك المطلعون على اللغة أن هذا اللفظ قد تمّ إطلاقه على مسمّى خاص، ومن خلال المعلومات الأخرى يكتشفون من هو ذلك الشخص. لنذكر هذا المثال: «إن حميد استيلي شخص إيراني». إن العارفين باللغة الفارسية عندما يسمعون هذه العبارة، يدركون أن لفظ «حميد استيلي» اسم خاص، ويدلّ على ذات معينة، ولكنهم لا يعرفونه على المستوى الشخصي، ونحن نستطيع أن نعرّفهم عليه من خلال بيان خصائصه وأوصافه، كأن نقول لهم على سبيل المثال: «إن حميد استيلي هو الذي أحرز الهدف الأول للمنتخب الوطني الإيراني لكرة القدم على المنتخب الوطني
(54)الأمريكي في بطولة كأس العالم التي أقيمت في فرنسا سنة 1998 م». ويمكن بيان هذا المعنى في مورد لفظ الجلالة ومعرفة ذات الله سبحانه وتعالى. وإن معرفة أن الله رحمن ورحيم يمكن أن تكون معرفة إضافية تساعدنا على استعمال لفظ الجلالة على المُسمّى. لو أن شخصًا تمكن مثل الأنبياء من أن يحصل على مواجهة مباشرة مع الله، فسوف يكون بمقدوره إطلاق لفظ الجلالة عليه، وسوف يدرك الآخرون من خلال سماع هذا اللفظ أنه قد أطلق هذا اللفظ على مُسمّى خاص، وإن كانوا يحتاجون في التعرّف على المُسمّى إلى أن يقوم ذلك الشخص بتوصيف هذا المُسمّى، أو أن تكون حركاته وتصرّفاته عند استعمال هذا اللفظ حاكية عن بيان توصيف عن المُسمّى؛ كأن يُلقي في ذهن السامع إذا ذكر لفظ الجلالة أثناء الدعاء والتضرّع، أن مُسمّى لفظ الجلالة أمر مقدّس ويستحق العبادة والخضوع. إن هذه الأوصاف وإن كان لها دور في التعريف بالمُسمى، ولربما كان وجودها يبدو ضروريًا للمُسمّى، ولكنها ليست داخلة في معنى الاسم الخاص، وإن الآخرين إنما يستعملون لفظ الجلالة في ذات المعنى الذي استعمله الأنبياء والعرفاء.
بالنظر إلى ما تقدّم بيانه يتضح أن منشأ إشكال الفلاسفة التحليليين، إنما يعود إلى الافتراض الذي قالوا به، وهو أنه حيث لا يكون الله سبحانه وتعالى مشهودًا للجميع؛ إذن يكون وضع لفظ الجلالة على المُسمّى بحاجة إلى تحليل مستقل. وعلى هذا الأساس فقد ذهب بول زيف إلى رفض إطلاق لفظ الجلالة على المُسمّى من طريق الوسائط اللغوية الخارجية
من قبيل الإشارة وأمثالها، وإن الدليل الذي يذكره على ذلك عبارة عن عدم مشاهدة الله مباشرة من قبل عموم الناس، وقال بأن الدلالة بشأن الله إنما تتمّ من طريق الوسائط اللغوية الداخلية . وعلى هذاالأساس فإننا فيما يتعلق بدلالة لفظ الجلالة على المُسمّى نحتاج إلى التوصيف. إن هذا الاستدلال يقوم على أساس أن استعمال الاسم الخاص يستند بشكل عام إلى تعقّل أو مشاهدة ذات المُسمّى، وحيث أن الناس لا يشاهدون ذات الله؛ إذن يجب توصيف وتعقل تلك الذات بالوسائط اللغوية الداخلية، كي يكون بمقدورهم الدلالة على تلك الذات من خلال استعمال لفظ الجلالة.
إن هذا الاستدلال لو تمّ عرضه على العقل، فسوف يثبت أنه يخلو من المعيارية. إذ ليس من الضروري أن يتمّ تعقّل مُسمّى اللفظ بشكل توصيفي، ونعتبر الأوصاف جزءًا من مُسمّى اللفظ. ولا بدّ هنا من التذكير بذلك الشخص الذي لم يتزوّج بعد وربما لن يتزوّج أبدًا، ولكنه مع ذلك يسمّي ولده ـ الذي يتمنى أن يرزقه الله به ـ «عليًا»، ثم يستعمل هذا اللفظ ويستعمله الآخرون على هذا الأساس.
يبدو أن لفظ الجلالة لا يحتوي على أيّ خصوصية زائدة على سائر الأسماء والأعلام الخاصة، فكما أننا في الوضع الأولي لكل اسم خاص لا نحتاج إلى حضور المسمّى أو صورة له أو تعقله بنحو من الأنحاء، ونضع اللفظ لذات المُسمّى من دون الأوصاف، كذلك الأمر بالنسبة إلى وضع لفظ الجلالة أيضًا؛ بمعنى أنه يمكن وضع اللفظ على ذات الله بواحد من طريقين، وهما:
1. أن يكون نبي من الأنبياء قد شاهد الله وأطلق عليه لفظ الجلالة. وهذا اللفظ لا يحتوي هنا على أيّ وصف، وإنما يدلّ على ذات الله فقط، وإذا قلنا: «الله الصمد» فإن الصمدية لله ليست داخلة في مُسمّى «الله»، على الرغم من أن النبي شاهد صمدية الله سبحانه، بيد أن هذه المشاهدة لا تنهض دليلًا على دخول الصمدية في مُسمّى اللفظ، وإلا لزم من ذلك أن يكون كل وصف ضروري يُنسب في الجملة الحملية إلى الله عبارة طوطولوجية أو قول الشيء ذاته. وعلى هذا الأساس فإنه
(56)بعد استعمال الأنبياء، يمكن لكل شخص يسمع لفظ الجلالة أن يستعمل ذات هذا اللفظ ـ استنادًا إلى استعمال الأنبياء عليهمالسلام ـ ويطلقه على المسمّى المشهود لهم.
2 . الطريق الثاني لوضع لفظ الجلالة هو أن نتصوّر موجودًا يتصف بالكمال المطلق الذي لا يعتريه أيّ نقص. إن هذا المفهوم على فرض وجوده لا يمكن أن يكون له من الناحية المنطقية أكثر من فرد واحد. وفي هذه الحالة يمكن أن نضع لفظ الجلالة على هذه الذات المعيّنة في الخارج، دون أن يكون هناك دخل لأيّ وصف في مُسمّى اللفظ. ولذلك فإن كل وصف ضروري يُنسب إلى هذه الذات لن يكون جزءًا من مفهوم لفظ الجلالة، ولن تكون في البين قضية طوطولوجية أو قول الشيء ذاته. وعلى هذا الأساس من خلال التصوّر الكامل المطلق ووضع لفظ الجلالة له، فإن السامعين الذين يسمعون هذا اللفظ تنصرف أذهانهم إلى المُسمّى ـ الذي عمد الشخص الأول إلى وضع ذلك اللفظ عليه ـ مع فارق أن هذا الشخص الأول قد تصوّر تلك الذات بوصفها هي الكامل المطلق ووضع اللفظ على تلك الذات بغض النظر عن الكمال المطلق، بيد أن الآخرين لا يمتلكون مثل هذا التصوّر، وإن التصوّر الوحيد الذي يمتلكونه عن تلك الذات هو ذات وضع الشخص الأول، بمعنى الذات التي تكون ماهيتها غير معلومة.
هل يمكن تعريف لفظ الجلالة؟ إذا كان لفظ الجلالة اسمًا عامًا فإن تعريفه بالمفهوم العام والخاص ممكن، وهذا إنما يكون أولًا: إذا لم يكن معنى الاسم العام بسيطًا، وثانيًا: أن يكون قد تمّ وضع اللفظ للمفهوم المركّب أيضًا. وأما إذا كان لفظ الجلالة اسمًا خاصًا، أو يستعمل في بعض الموارد ـ في الحد الأدنى ـ على شكل اسم خاص، فهل يمكن تعريفه؟ للجواب عن هذا السؤال يجب العمل ـ قبل كل شيء ـ على بحث طرق التعريف بالاسم الخاص العادي:
(57)إذا لم يكن مُسمّى الاسم الخاص معلومًا، يمكن الاستعانة في تعريفه بواحد من ثلاثة طرق على النحو الآتي:
1 . أن يتمّ العمل على بيانه بواسط اسم خاص آخر. وهذا الطريق إنما يكون ممكنًا فيما إذا كان للمُسمّى مورد البحث اسم خاص آخر معروف، يكون بديلًا للاسم مورد البحث.
2 . أن يتمّ التعريف باللفظ من خلال الإشارة إلى المُسمّى به، كأن نقول لشخص في معرض الجواب عن سؤاله: «من هو زيد» ـ على سبيل المثال ـ فنقول له: إن المراد منه هو ذلك الشخص الجالس في تلك الزاوية من الغرفة مع الإشارة إليه بإصبعنا.
3 . أن نعمل على تعريف الشخص من خلال الوصف الذي يحدّده على نحو حصري، كأن نقول في تعريف الجاحظ، بأنه مؤلف كتاب (البخلاء)، أو التعريف بحميد استيلي بأنه (لاعب المنتخب الوطني الإيراني لكرة القدم، والذي أحرز الهدف الأول لمنتخب إيران على منتخب الولايات المتحدة الأمريكية في بطولة كأس العالم التي أقيمت في فرنسا سنة 1998 م).
هل يمكن الاستفادة من جميع هذه الطرق الثلاثة للتعريف بمُسمّى لفظ الجلالة؟ يجب القول في خصوص لفظ الجلالة: إننا لا نستطيع الاستفادة من الطريق الثاني؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى ـ في ضوء مدّعى الإلهيين ـ ليس كائنًا ماديًا يمكن الإشارة إليه بالإشارة الحسيّة. ولكن يمكن التعريف به من طريق اسم آخر. وبطبيعة الحال فإن المهم في البين هو الطريق الثالث. فهل يمكن توصيف الله سبحانه وتعالى؟
وهل التوصيف هو في حدّ ذاته يمثّل نوعًا من التعريف؟ وعلى هذا الأساس هل يمكن تعريف الله سبحانه وتعالى؟ للجواب عن السؤال أعلاه، يجب العمل على طرح هذه الأسئلة بشكل أكثر دقّة وتحديدًا؛ بمعنى أنه هل يمكن تعريف الاسم الخاص بشكل عام؟ يجب أولًا بيان وإيضاح مرادنا من التعريف. لو كان المراد من التعريف هو تعريف المُسمّى، يكون الطريق الأول والطريق الثاني بدوره نوعًا من التعريف، وإذا كان المراد هو التعريف بالمُسمّى من طريق المفهوم العام والخاص، يجب القول: إن التعريف بالمفهوم العام والخاص، يكون تارة على نحو أن المعرِّف إما هو المركب من هذين الأمرين، وقد تمّ وضع اللفظ بإزاء الذات المقيّدة بهذا المعنى العام والخاص، أو أن أحد تلك المعاني ـ في الحدّ الأدنى ـ جزء من ذات المُسمّى، وقد تمّ وضع اللفظ لتلك الذات. وتارة يكون التعريف بالمفهوم العام والخاص بحيث لا يُدّعى بأن اللفظ قد وضع للذات المشتملة على المفهوم العام والخاص بقيد اشتمالها على هذين الأمرين، بل تم وضع اللفظ لذات تشتمل على خصائص يمكن الاستعانة بها في تعريف الذات، لا أن اللفظ وضع بإزاء تلك الخصوصيات أيضًا.
كما يمكن تعريف الأسماء الخاصة وتوصيفها بالطريقة الثانية وليس بالطريقة الأولى. فإن كان لفظ الجلالة اسم خاص، أمكن توصيفه مثل سائر الأسماء الخاصة. إن التوصيفات التي تذكر للأسماء الخاصة قد تكون ضرورية للمُسمّى أيضًا، ولكنها لا تُعدّ جزءًا من معنى اللفظ. وعلى هذا الأساس فإن نوع التعريفات والتوصيفات لا يعود إلى التعريف الحدّي والرسمي، ومن الأفضل أن لا نسمّي هذا النوع من التوصيفات تعريفًا، بل يجب إما اعتبارها شبه تعريف أو أن نكتفي بمجرّد هذا العنوان. عندما نقول إن الأوصاف ليست داخلة في معنى الاسم الخاص، فهذا لا يعني أن يكون كل وصف بالنسبة إلى ذات المُسمّى إمكانيًا، بل من الممكن أن يكون الوصف ضروريًا بالنسبة إلى الذات، ولكنه لا يكون داخلًا في معنى اللفظ؛
(59)فعندما نُسمي شخصًا معينًا باسم «زيد» ـ على سبيل المثال ـ لا يكون الإنسان كامنًا في معنى «زيد»، وإن كان الإنسان ضروريًا بالنسبة إلى ذات زيد. وعلى هذا الأساس فإن التعلق بحقل خاص لا يمثل قيدًا للمُسمّى؛ ليكون جزءًا من معنى الاسم. ولو أفدنا ذات هذا المطلب بلغة المنطق أمكن لنا القول بأن الأوصاف الضرورية لذات المُسمّى، من قبيل اللوازم التي لا تنفك عن المُسمّى، وإن حمل لوازم ذات المُسمّى على المُسمّى ضروري، وإن لم يكن تحليليًا. وعلى هذا الأساس يمكن للذي وجد الله ضروريًا بواسطة شهوده العرفاني أن يصفه بواجب الوجود، أو الذي وجده هو الكامل المطلق، يمكنه أن يصفه بالكمال المطلق. كما يمكن للشخص الذي تصوّر الكامل المطلق، وأثبت بالبرهان أن الكامل المطلق واحد، يمكنه وضع لفظ الجلالة على الذات الكاملة المطلقة ويصفها به. وإن القضية التي تتبلور في جميع هذه الحالات الثلاثة هي موضوع الاسم الخاص للفظ الجلالة، ومحموله وصف من الأوصاف الضرورية لله، وإن هذه القضية ليست تحليلية ولا طوطولوجية.
(60)يجب بحث الوجود من ناحيتين، وهما: المفهوم والمصداق:
يمكن البحث في مفهوم الوجود من عدّة جهات: هل مفهوم الوجود بديهي؟ ما هو ملاك بداهة مفهوم الوجود؟ وهل يمكن تعريف مفهوم الوجود؟
إن من بين الأبحاث التي يتمّ طرحها بشأن الوجود، هو أن مفهومه بديهي؛ بمعنى أن لفظ «الوجود» في اللغة العربية، ولفظ «هستي» في اللغة الفارسية، وكل مفردة أخرى بهذا المعنى يتمّ سماعها في سائر اللغات الأخرى، سوف يفهم العارفون بتلك اللغة منها معنى بديهيًا بالنسبة لهم؛ بمعنى أنهم لم يحصلوا على هذا المعنى بواسطة التعريف، وحتى التصديق ببداهة مفهوم الوجود هو الآخر بديهي أيضًا.
إن المفهوم إنما يتمّ اعتباره بديهيًا، حيث لا نحتاج في العلم به إلى مفاهيم أخرى، سواء أكان قابلًا للتعريف أم لا، ومن هنا فإن المفاهيم التي يتم الحصول عليها بواسطة الحواس، من قبيل: البياض والحلاوة والنعومة ... هي من المفاهيم البديهية؛ بمعنى أن بمقدورنا بيان مجهولات مفاهيمنا الحسية بواسطة أعضائنا الحسية، ونحن
(61)في هذا البيان لا نحتاج إلى تعريف، بل ربما لا يمكن التعريف قبل الإحساس، كما ورد عن أرسطو قوله: «من فقد حسًّا، فقد فقد علمًا». وأما المفاهيم غير الحسيّة، فهي إما نظرية يتمّ الحصول عليها بواسطة التعريف، أو بديهية. وإذا كانت بديهية، لا نكون في الوصول إليها بحاجة حتى إلى الحسّ أو العلم الحضوري، وإن كان من الممكن أن تكون المفاهيم الحسية أرضية للحصول على تلك المفاهيم البديهية. ويبدو أن مفهوم الوجود من هذا النوع؛ إذ لا يمكن أن ندركه بالأعضاء الحسية.
بالنظر إلى ما تقدّم أعلاه، فإن ملاك بداهة المفهوم يكون بحصوله إما من طريق الحس أو أن لا يكون قابلًا للتعريف. وإن مفهوم الوجود في البين تثبت له البداهة من حيث أنه غير قابل للتعريف (سوف نستدل على استحالة تعريف الوجود في معرض الحديث عن امتناع تعريف الوجود)، وكما أن مفهوم الوجود بديهي فإن الحكم والتصديق به هو الآخر بديهي أيضًا. إن مرادنا من البداهة التصديقية هو أن حكمنا لا يحتاج إلى دليل، لا أنه يستحيل الاستدلال عليه.
بالنظر إلى هذه الإيضاحات لمفهوم بداهة الوجود، لا يمكن الاستفادة من المفاهيم الأخرى لإثبات أعرفيته؛ إذ أن إثبات البداهة في هذه الحالة سوف يكون مصادرة على المطلوب. وأما لإثباته
فيمكن الاستعانة بكون المفهوم أعم من الوجود؛ إذ لا يمكن تصور مفهوم أعم من مفهوم الوجود. وعلى كل حال فإن بداهة مفهوم الوجود لا تحتاج إلى إثبات. فكل من يرجع إلى نفسه يدرك أن لديه مفهومًا واضحًا عن الوجود. وعلى حدّ تعبير الشهيد المطهري: «كل شخص ... يعلم إذ يقول: (أ موجود) أو (أ غير موجود)،يمتلك تصوّرًا واضحًا عن الوجودوالعدم مئة بالمئة، لا يحتاج إلى من يفسّر له معنى (الوجود) و(العدم)؛ فحتى الطفل الصغير ... الذي يتحدّث عن لعبته قائلًا: (إنها هنا) أو (إنها ليست هنا) يجد مفهوم الوجود والعدم واضحًا في ذهنه»
.بعد القبول ببداهة مفهوم الوجود، يتمّ طرح هذا السؤال القائل: هل يمكن تعريف مفهوم الوجود أم لا؟ إذ أن مرادنا من بداهة مفهوم الوجود هو استغناء المفهوم عن التعريف، وإن هذا الاستغناء بدوره أعم من أن يكون ذلك المفهوم قابلًا للتعريف، ولكن لا حاجة إلى ذلك، أو لا يكون قابلًا للتعريف أصلًا.
إن تعريف الشيء يكون على نحوين:
1 . أن يكون الشيء مجهولًا، فنقوم بالتعرّف عليه وجعله معلومًا بواسطة المفاهيم المعلومة. ونحن نسمّي هذا النوع من التعريف بـ «التعريف الواقعي»؛ إذ أن المجهول التصوّري يُعلم من هذا الطريق حقًا.
2 . أن لا يكون الشيء مجهولًا، ولكن الشخص لا يكون ملتفتًا إليه، ولكي نلفت انتباه الشخص إليه، نعمل على تذكيره به بواسطة استعمال بعض العبارات والعلامات الدالة على ذلك الشيء. ونُسمّي هذا النوع من التعريف، بـ «التعريف التنبيهي».
إن البحث حول تعريف مفهوم الوجود، هو من قبيل التعريف من النوع الأول، وإلا فإن التعريف التنبيهي ممكن بالنسبة إلى كل شيء، وإن الذين يذهبون إلى القول
باستحالة تعريف الوجود، يرون أن التعاريف التي يتمّ تقديمها للوجود إنما هي من قبيل التعاريف اللفظية دون التعاريف الحقيقية والواقعية. وفي ضوء التسمية نسمّي هذا النوع من التعاريف بـ «التعاريف التنبيهية».
إن الشيء المجهول يتمّ بيانه بواحد من طريقين، وهما: إما من طريق الحسّ؛ سواء في ذلك الحسّ الخارجي أو الحسّ الداخلي، أو من طريق التعريف. وفي معرض الجواب عن السؤال القائل: هل يمكن جعل كل مجهول تصوري معلومًا من طريق التعريف؟ يجب العمل على بيان أقسام التعريف على نحو الإجمال: إن التعريف بشكل عام ينقسم إلى التعريف بالحدّ والرسم أو التعريف المفهومي. في التعريف بالحد والرسم يتمّ ذكر جميع أو بعض الأجزاء الماهوية للشيء، في حين لا يوجد مثل هذا الشرط في التعريف المفهومي، ومن هنا يكون التعريف المفهومي أعم من التعريف بالحدّ أو بالرسم. وعلى هذا الأساس فإن الشيء إذا لم يكن له تعريف مفهومي، فإنه لن يكون له تعريف بالحدّ أو بالرسم أيضًا.
إن التعريف في الواقع يعني تجزئة وتحليل مفهوم ما إلى الأجزاء والمفاهيم المكوّنة له، وإن كل تعريف يتألّف من مفهومين أو ما هو في قوّة المفهومين؛ وأحدهما أعم من المعرَّف والآخر مساو للمعرَّف، حيث سوف يكون مجموع المفهوم العام والمفهوم المساوي للمعرَّف هو الشيء المجهول. ومن هنا نقول في معرض الجواب عن السؤال المتقدّم: لا يمكن جعل أيّ مجهول معلومًا بواسطة التعريف؛ وذلك لأن (A) لو كان مجهولًا وجب العمل على جعله معلومًا بمفهومي (B) و(C)، وإذا كان كل من (B) و(C) مجهولًا، وجب بيان كل واحد منهما بـ (E) و(F)، وكل واحد من (E) و(F) ... بدوره يحتاج إلى مفهومين آخرين ليعملا على جعلهما معلومين.
(64)وإن هذا المسار إما أن يعود إلى المجهولات الأولى أو يستمر إلى ما لا نهاية؛ بمعنى أن المجهول لا يصبح معلومًا في كلا حالتي الدور والتسلسل. وعليه لا مندوحة من القول بأن جميع المفاهيم بديهية ولا تحتاج إلى تعريف أو أن نقول بأن بعضها نظري يتم الكشف عنه وجعله معلومًا بواسطة المفاهيم الأخرى. وبالتالي نصل في نهاية المطاف إلى مفاهيم بديهية؛ بمعنى المجهولات التصورية التي يتمّ جعلها معلومة إما من طريق الحسّ الظاهري أو من طريق الحسّ الباطني، أو ان يكون الحسّ الظاهري أو الحسّ الباطني أرضية لتحقق تلك المفاهيم من تلقائها. وإن بعض هذه المفاهيم بحيث لا يمكن تعريفها أبدًا. فإنها مفاهيم بسيطة من الناحية المفهومية بحيث لا يمكن للعقل أن يعمل على تجزئتها وتحويلها إلى مفاهيم عامّة أو مساوية. وإن ذات الوجود من المفاهيم غير القابلة للتعريف؛ إذ لا يمكن تصوّر مفهوم أعم من مفهوم الوجود يندرج تحته مفهوم الوجود.
عندما يحصل للإنسان علم بالشيء الخارجي، يعمل في ذهنه على تحليله إلى وجود وماهية، ثم يحمل الوجود على الماهية، ويقول: «إن اللون الأخضر موجود». إن مفهوم الأخضر ومفهوم الوجود أو الموجود مفهومان يُظهران مصداقًا واحدًا. إن هذا المصداق هو في الواقع مصداق للوجود كما هو مصداق للأخضر أيضًا. ويُسمى مصداق الوجود اصطلاحًا بالوجود المحمولي والرابطي والنفسی والوجود المستقل. وفي قبال هذا المصطلح يقع مصطلح الوجود الرابط والذي يقيم الارتباط بين الموضوع والمحمول في القضايا الموجبة. وإن المنظور في هذه الأبحاث إنما هو الوجود المحمولي.
ولكي يتمّ إيضاح جميع أبعاد بحث الوجود المحمولي، يجب العمل على بيان بعض الأبحاث بوصفها مقدمة، وذلك على النحو الآتي:
(65)إن أبسط
القضايا هي القضايا الحملية التي تتألف من موضوع ومحمول ونسبة بينهما. وإن مفادهما هو «الهوهوية» أو «أن هذا هو هذا»، أو بعبارة أخرى: إن مفاد الحمل هو العينية والوحدة بين الموضوع والمحمول؛ من ذلك ـ مثلًا ـ عندما نقول: «زيد عالم» فإن مضمون هذه الجملة هو وجود وحدة بين زيد والعلم وليس اتحادًا. وبعبارة أخرى: إن «الحمل» عبارة عن نشاط ذهني، وإن خصوصية الذهن هي أن يعمل أولًا على تحليل الأشياء، وبعد التحليل والاختلاف بين الأجزاء التحليلية يعمل على إيجاد الاتحاد بينها؛ حيث أن ثمرة هذا الاتحاد هو الوحدة؛ بمعنى أن الذهن يقوم بعمل اتحادي من خلال بناء القضية الحملية ذات الموضوع والمحمول والنسبة، وإن مضمون هذه القضية ـ التي هي فعل اتحادي في الذهن ـ عبارة عن الوحدة. والدليل على أن مفاد القضية الحملية هو الوحدة والهوهوية وليس الاتحاد هو أنه في حمل الشيء على الذات، من قبيل قولنا: «إن الإنسان إنسان» وحمل المعرِّف على المعرَّف، كما في قولنا: «الإنسان حيوان ناطق» لا توجد هناك اثنينية واختلاف بين الشي وذاته وبين المعرِّف المعرَّف، لكي يتحدا فيما بينهما، بل إن هذه الثنائية موجودة في مرحلة الذهن الذي يتولّى مهمّة التحليل على الدوام. ومن ناحية أخرى لا يوجد هناك أيّ اختلاف بين هذين النوعين من الحمل وأنواع الحمل الأخرى من حيث الحمل، ولو اكتفينا في جميع أنواع الحمل بهذا القدر المشترك، لن يحدث أيّ تناقض أبدًا. وعلى هذا الأساس عندما نرى ورقة بيضاء، يعمل الذهن على تحليلها إلى ورقة وإلى بياض، ويرى ان الورقة غير البياض، ويقيم اتحادًا بينهما ليثبت أن المتحقق في الخارج واحد ينطبق عليه هذان العنوانان (الورقة والبياض).ذكرنا أن مفاد الحمل هو الهوهوية والعينية بين الموضوع والمحمول. وفيما يلي يمكن لنا أن ننظر إلى الحمل من زاوية المجموعات أيضًا ونعثر على مفاد الحمل من هذه الزاوية: إن كل واحد من الموضوع والمحمول في القضايا الحملية ـ بغض النظر عن الحمل ـ يعمل على بيان المصداق التصوّري لمفروضه؛ فمثلًا في قضية «زيد قائم»، نجد أن زيدًا الذي هو موضوع القضية يحتوي بغض النظر عن الحمل على إشارة تصوّرية إلى شخص خارجي مفترض؛ بمعنا أننا لن نصدق بوجود زيد بمجرد عنوان زيد. وإن كلمة «قائم» هي الأخرى بوصفها محمولًا في القضية قد استهدفت مصداقها التصوّري. إن الموضوع في هذه القضية حيث يعمل على بيان شخص معيّن يدل على مجموعة أحادية العضو، والمحمول على مجموعة أخرى. إن مفاد الحمل على أساس هاتين المجموعتين هي أن هاتين المجموعتين مشتركتان وهو اشتراك مجموعة أحادية العضو مع مجموعة المحمول. وعلى هذا الأساس فإن مجموعة الموضوع في كل قضية موجبة مندرجة في مجموعة المحمول وتشترك معها، وفي كل قضية سالبة لا يوجد أيّ نوع من الاشتراك بين المجموعتين. وعليه فإن الاشتراك بين مجموعتين يعني الهوهوية التي هي مقتضى القضايا الحملية الموجبة وعدم اشتراك المجموعتين يعني سلب الهوهوية الذي هو مقتضى القضايا الحملية السالبة. ولذلك فقد تمّت تسمية القضايا الحملية السالبة بالحملية مجازًا؛ إذ هي ليست حملية حقيقة بل هي سلب للحمل؛ إذ تخلو مجموعة الموضوع والمحمول في هذه الموارد من الاشتراك؛ بمعنى أنه لا يوجد اشتراك بينهما.
(67)إن القضية الحملية تنقسم إلى عدّة تقسيمات، وإن الالتفات إلى بعض هذه التقسيمات يُعدّ ضرورية في هذا الكتاب.
الهلية البسيطة والهلية المركّبة
إن الهلية البسيطة قضية يكون المحمول فيها موجودًا أو في معناه، والهلية المركّبة بقرينة المقابلة هي القضية التي لا يكون المحمول فيها موجودًا.
الحمل الذاتي الأولي والحمل الشائع الصناعي
كما تنقسم القضية الحملية ـ باعتبار آخر ـ إلى الحمل الذاتي الأولي والحمل الشائع الصناعي. إذا كان محمول القضية ـ مفهومًا ومصداقًا ـ عين الموضوع، وكان الاختلاف بينهما في الإجمال والتفصيل، سوف يكون الحمل في القضية من الذاتي الأولي، وإن لم يكن المحمول في القضية هو عين الموضوع، فإن الحمل في القضية يكون شائعًا صناعيًا.
التحليلي والتأليفي
كما تنقسم القضية الحملية ـ باعتبار ثالث ـ إلى تحليلية وتأليفية. إن القضية التحليلية هي التي يكون مفهوم المحمول فيها عين مفهوم الموضوع أو من الأجزاء المفهومية للموضوع. والقضية التأليفية بدورها هي القضية التي يكون المحمول فيها مفهومًا غير الموضوع وأجزائه. من الجدير ذكره أن التحليلية هنا مصطلح جاء به الفيلسوف الألماني إيمانوئيل كانط، وقد أخذه الفلاسفة الغربيون منه، وقد استعملوه بعد إدخال بعض الإصلاحات والتعديلات عليه. وإن هذا المصطلح
(68)هو غير المصطلح الذي نراه أحيانًا في كلمات الفلاسفة الإسلاميين؛ فإن الفلاسفة الإسلاميين مثلًا يعتبرون الإمكان للماهية الممكنة تحليليًا؛ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ تعدّ قضية «الإنسان ممكن الوجود» من القضايا التحليلية.
القضية الموجبة والسالبة
إن القضية باعتبار النسبة بين الموضوع والمحمول، تنقسم إلى الموجبة والسالبة.
يتمّ النظر أحيانًا في القضية الحملية إلى مفهوم الموضوع، ولا يكون مصداق الموضوع موردًا للنظر أبدًا، وتارة أخرى على العكس حيث يتمّ النظر إلى مصداق الموضوع، وليس إلى مجرّد مفهومه. وهنا لكي يتمّ لفت انتباه القارئ أو السامع، يعملون على تقييد موضوع القضية بـ «الحمل الأولي» و«الحمل الشائع»، لكي يتضح أن المراد في المورد الأول هو مفهوم الموضوع، والمراد في المورد الثاني هو مصداق الموضوع. فيقال على سبيل المثال: «إن الإنسان بالحمل الأولي كلي»؛ بمعنى أن مفهوم الإنسان كلي، وإلا فإن مصاديق مفهوم الإنسان من زيد وعمرو وبكر و... فليست كلية. أو يقال مثلًا: «إن الإنسان بالحمل الشائع متنفّس»؛ بمعنى أن مصداق الإنسان من زيد وعمرو وبكر و... ـ دون مفهومه ـ متنفّس؛ إذ من الواضح أن مفهوم الإنسان ليس متنفسًا. وعليه فإن الموضوع في هذين الموردين مقيّد بالحمل الأولي أو الحمل الشائع. وفي قبال هذين الأمرين يتم في بعض الأحيان تقييد ذات القضية بهذين القيدين، وهو ذات تقسيم القضية. وكل واحد من هاتين القضيتين يمكن أن يكون من حيث الموضوع مقيدًا بالحمل الأولي والحمل الشائع؛ من قبيل: «إن الإنسان بالحمل الأولي، كلي بالحمل الشائع»، و«إن الإنسان بالحمل
(69)الشائع، ضاحك بالحمل الشائع»، و«إن الإنسان بالحمل الأولي حيوان ناطق بالحمل الأولي»، حيث أن مفهوم الإنسان وكذلك مصداقه، حيوان ناطق.
إن الصدق والكذب واحد من خصائص القضايا، ويتمّ تعريف القضية ـ في ضوء ذلك ـ على النحو الآتي: «هي كل قضية تحتمل الصدق أو الكذب»، وبطبيعة الحال فأن يكون هذا التعريف مشتملًا على نقص أم لا، لا يرتبط ببحثنا كثيرًا، وقد تمّ البحث في هذا الشأن بشكل مستوفى
. حيث يتمّ تقديم ثمرته بتحقيقات أكثر عمقًا. إن الصدق في القضايا الحملية يكون بتطابق القضيّة مع محكيّها ومصداقها؛ بمعنى إذا كانت القضية في الواقع عبارة عن عينية كلا عنواني الموضوع والمحمول، فسوف تكون قضيتنا موجبة، وأما إذا لم يكن الواقع كذلك فسوف تكون قضيتنا سالبة. وبعبارة أخرى: إذا كان موضوع ومحمول القضية ـ حيث ينظر كل واحد منهما إلى مصداقه ـ عبارة عن واقعية واحدة ومشتركة، تكون قضيتنا موجبة، وفي غير هذه الصورة تكون سالبة. إن هذا الكلام يعمل على بيان صدق القضايا وكذبها في حالة الثبوت، وأما في مقام الإثبات وإحراز الصدق والكذب، فلا يكون هذا البيان كافيًا، بل لا بدّ من البحث عن ملاك الصدق والكذب. ولإحراز صدق القضية الموجبة، يجب أولًا: إحراز تحقق الموضوع والمحمول من طريق التجربة أو العقل، وثانيًا: أن نثبت أن كلًا من الموضوع والمحمول يتحققان بوجود واحد، ففي قضية «زيد عالم» يجب أولًا أن يكون هناك زيد وعالم، وثانيًا أن يوجد هذان الموجودان بوجود واحد، وأما إذا لم يكن هناك زيد أو عالم في البين، أو يكونان موجودين ولكن لا بوجود واحد، فسوف تكون هذه القضية كاذبة. ولإحراز صدق القضاياالسالبة يجب العمل من طريق التجربة أو العقل على إحراز أن الموضوع والمحمول لا يوجدان بوجود واحد، سواء أكان الموضوع والمحمول موجودين ولكن لا بوجود واحد، أو لم يكن أحدهما أو كلاهما موجودًا. وعلى هذا الأساس تجب الإشارة إلى الموارد الآتية:
أ . إن صدق الهليات البسيطة الموجبة بأن يكون هناك مصداق لموضوع القضية؛ وذلك لأن مفاد الهليات البسيطة الموجبة عبارة عن ثبوت الشيء، بمعنى أن يكون الشيء موجودًا. وبعبارة أخرى: أن يتمّ العثور على مجموعة الموضوع في مجموعة الوجودات. وإن صدق السالبة البسيطة يكون بعدم العثور على مجموعة الموضوع في مجموعة الوجودات، وكذب الهليات البسيطة في الموجبة يكون في عدم العثور على مجموعة الموضوع في مجموعة الوجودات، وفي السالبة يكون في العثور على مجموعة الموضوع في مجموعة الوجودات.
ب . إن صدق الهليات المركّبة [الموجبة] بأن يوجد الموضوع والمحمول بوجود واحد، ويكون كذبها بعدم تحقق الموضوع والمحمول بوجود واحد، ويكون صدق الهليات المركبة السالبة بأن لا يكون الموضوع والمحمول موجودين بوجود واحد، ويكون كذبها بأن يوجدا بوجود واحد.
ج . أن يكون صدق الموجبة في الحمل الذاتي الأولي بتحقق الموضوع. ونتيجة لذلك يجب أن تشترك مجموعة الموضوع في مجموعة المحمول؛ لأن المحمول هو عين الموضوع. ويكون كذب الموجبة في الحمل الذاتي الأولي بأن لا يكون الموضوع موجودًا، وذلك لأن المحمول من جهة هو عين الموضوع، ويكون مفاد المحمول من جهة أخرى عبارة عن اشتراك الموضوع والمحمول؛ فإذا لم يكن الموضوع موجودًا لن يكون هناك من وجود للاشتراك أيضًا. وفي هذه الحالة سوف تكون قضية الحمل
(71)الذاتي الأولي كاذبة. وهذه النتيجة تبدو أمرًا عجيبًا وغريبًا بحسب الظاهر؛ إذ كيف يمكن لقضية الحمل الذاتي الأولي أن تكون كاذبة؟! ذات هذا الإشكال سيرد في القضية التحليلية أيضًا، وسوف نبحثه هناك إن شاء الله.
إن صدق السالبة في الحمل الذاتي الأولي بأن لا يكون مفهوم المحمول عين الموضوع، وأن يكون قد سُلب من الموضوع. وتجنّبًا لمحذور الالتباس من الأفضل أن نعمل في هذه الموارد على تقييد الحمل بالحمل الذاتي الأولي أيضًا؛ كأن نقول مثلًا: «إن الإنسان ليس حيوانًا ضاحكًا بالحمل الذاتي الأولي». وكذب السالبة في الحمل الذاتي الأولي بأن تكون القضية متناقضة مع ذاتها، ويكون المحمول عين الموضوع؛ كأن يقال مثلًا: «إن الإنسان ليس حيوانًا ناطقًا».
د . إن صدق القضية الموجبة في الحمل الشائع الصناعي، بأن يكون الموضوع والمحمول موجودين بوجود واحد، وكذبها بأن لا يكونان موجودين بوجود واحد. وعلى العكس من ذلك فإن صدق السالبة بأن لا يكون الموضوع والمحمول موجودين بوجود واحد، وكذبها بأن يكون كلاهما موجودًا بوجود واحد.
هـ . إن صدق القضية التحليلية الموجبة، يكون أولًا: بأن يكون الموضوع والمحمول موجودين، وثانيًا: بأن يكون كلاهما متحقق بوجود واحد. ويكون كذبها بعدم تحقق الموضوع. ويرد هنا هذا السؤال العجيب أيضًا، وهو: هل كذب القضية التحليلية الموجبة أمر معقول؟ وسوف يأتي توضيح هذا الإشكال قريبًا إن شاء الله. وأما صدق القضية التحليلية السالبة فبأن نعمل على سلب المحمول ـ الذي لا يكون عين الموضوع أو من الأجزاء المفهومية للموضوع ـ عن الموضوع. ويكون كذبها بأن نعمل على سلب الموضوع أو الأجزاء المفهومية للموضوع من قبيل قولنا: «إن الإنسان ليس حيوانًا».
(72)و . إن صدق القضية التأليفية يكون أولًا: بتحقق الموضوع والمحمول، بمعنى أن يكون لهما مصداق. وثانيًا: أن يكون كلاهما موجودًا بمصداق واحد. ويكون كذبها بأن لا يكون كلاهما موجودًا بوجود واحد. وصدق القضية التأليفية السالبة بأن لا يكون الموضوع والمحمول موجودين بوجود واحد، وكذبها بأن يكون كلاهما موجودًا بوجود واحد.
ليس هناك من شك أو نقاش في كذب القضية المتناقضة مع ذاتها، وأما الحديث عن صدق وكذب قضية لا تكون متناقضة مع ذاتها، بل يكون محمول القضية فيها عين الموضوع (= القضايا الحملية بالحمل الذاتي الأولي) أو يكون من الأجزاء المفهومية للموضوع ويحمل على الموضوع، فله متسع من البحث. يقال في الغالب: إن القضايا التحليلية (وغير المتناقضة مع ذاتها) صادقة؛ إذ لو كان محمول القضية هو ذات موضوعها أو من الأجزاء المفهومية للموضوع، لن يكون من المعقول أن لا يكون صادقًا؛ إذ في القضايا التحليلية لا يكون محمول القضية ـ في جميع العوالم الممكنة ـ منفصلًا عن موضوعها، وعليه تكون صادقة بالضرورة دائمًا.
وللتوسّع في البحث نقول: كما أن إمكان كذب القضايا التحليلية موضع سؤال، فإن ذات هذا السؤال يرد في تلك الطائفة من القضايا التأليفية التي يكون المحمول فيها من اللوازم التي لا تنفك عن الموضوع.
إن الأمثلة التي تؤدّي إلى التشكيك في صدق القضايا المتقدمة، عبارة عن تلك الموارد التي يكون موضوعها مركّب من العناوين غير المتناغمة، بحيث تنطوي على تناقض في ذاتها، ففي قضية «إن دائرة المربّع دائرة مربّعة» أو «إن دائرة المربّع دائرة» أو «إن دائرة المربّع لها أربع زوايا قائمة» ـ على سبيل المثال ـ نجد أن الموضوع في جميع
(73)هذه القضايا الثلاثة متناقض مع ذاته؛ إذ أن الشيء إذا كان دائرة لا يعود من الممكن أن لا يكون دائرة، في حين تمّ افتراض أنه مربّع أيضًا. أو مثلًا القضية القائلة: «العدد الطبيعي الواقع ما بين سبعة وثمانية، يقع ما بين سبعة وثمانية» أو «العدد الأول ما بين العدد خمسة وسبعة، يقع ما بين الخمسة والسبعة». من الواضح أننا لا يمكن أن نعتبر صحة وصدق هذا النوع من القضايا من قبيل صحّة وصدق القضايا التي هي من قبيل: «العدد الواقع ما بين سبعة وتسعة، يقع ما بين سبعة وتسعة» أو «الإنسان الضاحك، ضاحك»، أو «الإنسان الضاحك، إنسان ضاحك».
وقد تنبّه الشيخ الرئيس ابن سينا إلى صدق أو كذب هذا النوع من القضايا، على الرغم من أن المثال الذي ذكره كان شرطيًا قبل أن يكون حمليًا. فإن مثاله هو القضية القائلة: «إذا كان العدد خمسة زوج، فهو عدد». وبعد ذلك تمّ طرح هذا السؤال القائل: هل هذه القضية صادقة أم كاذبة. قال الشيخ الرئيس: على فرض قبول المقدم كان ذلك حقًا، ولكنه ليس حقًا في الواقع. إن رأيه في إثبات هذه المسألة ناظر إلى القضايا الحملية التي تساوي القضايا الشرطية، ويقول:
«لو كان قولنا: (لو كانت الخمسة زوجًا لكان عددًا) حقًا، يجب أن يسلم في نفسه، لكان من الحق أن يقال: (إن ما هو خمسة زوج، فهو عدد)؛ فلما كان هذا [القضية الثانية] باطلًا؛ فإن [القضية الشرطية] المتصلة التي في قوته أيضًا باطلة، ولو كانت هذه الحملية حقًا، لكان عكسها أن بعض العدد خمسة زوج حقًا [في حين أن الأمر ليس كذلك]»
.وعليه فإن الشيخ الرئيس يرى، أن قضية «الخمسة زوج عدد» كاذبة، في حين أن هذه القضية تحليلية، وإذا كانت تحليلية كيف يمكن أن تكون كاذبة؟! إذ لا يمكن
افتراض سلب هذا المحمول عن الموضوع في عالم ممكن، وإذا كان الأمر كذلك إذن يجب أن تكون هذه القضية صادقة، في حين رأينا أن الشيخ الرئيس قد حكم بكذب هذه القضية. ولتأييد نظرية الشيخ الرئيس لا بدّ من تقديم توضيح في مورد عقد الوضع وعقد الحمل.
إن المراد من عقد الوضع وعقد الحمل، هما موضوع ومحمول القضية. قال المناطقة في مورد عقد الوضع إنه يلاحظ في طرف موضوع القضية ذاتا حيث يكون عنوان الموضوع متحدًا معه؛ من ذلك عندما نقول مثلًا: «الإنسان عالم»، فهذا يعني أن الذات التي هي الإنسان عالمة، وفي طرف عقد الحمل قالوا: إن عنوان المحمول متحد مع ذات الموضوع، لا أن يكون عنوان المحمول هو الآخر متحد مع ذات المحمول، وإلا لن يكون هناك اتحاد في البين؛ وذلك لأن لكل واحد من الموضوع والمحمول ذات مستقلة عن الآخر، ولكن في ضوء ما ذكرناه في باب مفاد القضية الحملية من أن المراد هو اشتراك مجموعة الموضوع والمحمول، يمكن القول إن كل واحد من الموضوع والمحمول يدل على ذات تتحد عناوينهما مع تلك الذات. وأما أن تكون الذاتان ذاتًا واحدة حقًا أم لا، فهي مسألة تعمل القضية الحملية على بيانها؛ بمعنى أن القضية إذا كانت موجبة فهي تدلّ على أن الذاتين اللتين هما مدلولان للموضوع والمحمول موجودة بوجود واحد. وإن العناوين التي يكتسبها كل واحد من هاتين الذاتين، تكون تارة بسيطة وتارة أخرى مركّبة، وعندما تكون مركبة فإن أجزاءها إما أن تكون منسجمة ومتناغمة فيما بينها أو لا تكون منسجمة، من قبيل عنوان «الدائرة مربّع» أو «الخمسة زوج». وعلى كل حال فإن كل واحد من هذه العناوين مع الذات المنظورة، يدلّ ـ في مرتبة سابقة على القضية مورد البحث ـ على
(75)قضية أخرى تقبل الصدق أو الكذب. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ لو عمدنا إلى تقييم عنوان «الخمسة زوج» بذات، فسوف تتألف قضية على النحو الآتي: «العدد أو الشيء، خمسة و زوج»، والتي هي كاذبة. ثم تقع هذه القضية لاحقًا على شكل مركب غير تام موضوعًا للقضية مورد البحث. وفي هذه الحالة لا يتصف موضوع القضية بالصدق أو الكذب؛ لأن المركّب الناقص لا يتصف بالصدق والكذب. والآن لو عملنا على صياغة قضية يكون موضوعها مركبًا ناقصًا، وكان يدل في مرتبة سابقة على قضية كاذبة، واعتبرنا محمول هذه القضية عين الموضوع أو من أجزائه المفهومية أو من لوازم الموضوع، لا يمكن القول بأن الموضوع لا يحتوي على هذا المحمول. ولكن في الوقت نفسه لا يمكن القول إن هذه القضية صادقة؛ وذلك لأن مفاد الحمل هو تحقق المحمول بالنسبة إلى الموضوع، وما لم يكن الموضوع متحققًا، لا يكون المحمول تبعًا لذلك متحققًا بطبيعة الحال. ولذلك فإننا لإحراز صدق القضية ـ بالإضافة إلى إحراز عدم انفكاك المحمول عن الموضوع ـ نحتاج إلى إحراز وجود الموضوع أيضًا. إن واحدًا من طرق إحراز عدم تحقق الموضوع هي أن يكون الموضوع قد تبلور في مرتبة سابقة عن القضية الكاذبة. وعليه فإنه لإحراز صدق قضية ما، بالإضافة إلى صدق المحمول على الموضوع، نحتاج إلى صدق عنوان الموضوع على ذات الموضوع أيضًا، ومن خلال الجمع بين الصدقين، يتمّ إحراز صدق القضية. إن القضايا الكاذبة إما أن لا تحتوي على صدق المحمول على الموضوع فقط، وإن كانت تحتوي على صدق عنوان الموضوع على ذاته، من قبيل: «إن الإنسان جماد»، أو لا تحتوي على صدق الموضوع على الذات فقط، وإن كانت تحتوي على صدق المحمول على الموضوع، من قبيل القضايا مورد البحث، أو لا تحتوي على كلا الصدقين، من قبيل القضايا المتناقضة مع ذاتها، حيث يكون موضوعها متناقضًا مع ذاته، من قبيل القضية القائلة: «العدد زوجُ الفرد زوج الفرد
(76)
(ای العدد الذی هو زوج و فرد فهو زوج و فرد). »، أو «العدد الزوج غیر الزوج زوجٌ غیرُ زوج (ای العدد الذی یکون زوجا و غیر زوج هو الذی یکون زوجا غیرزوج) ».
وبعبارة أخرى: إن صدق القضية الموجبة يكون بأن لا يخلو أي واحد من مجموعات الموضوع والمحمول، وأن تكون هاتان المجموعتان موجودتين بوجود واحد؛ لأن مفاد القضية الموجبة الذي هو تحقق مجموعتين بوجود واحد، لا يمكن أن يكون صادقًا من خلال خلوّ إحداهما أو كلتاهما. وهنا يتبلور بحسب الظاهر هذا الإشكال وهو كيف يمكن أن تكون قضية «العدد زوج الفرد زوج الفرد » كاذبة، ويكون نفي تلك القضية المتناقضة مع ذاتها كاذب أيضًا؟ فإذا كان المتناقض مع ذاته كاذبًا، إذن يجب أن يكون نقيضه صادقًا، في حين أن الأمر ليس كذلك. وبعبارة أخرى: إذا كانت القضية التحليلية أعلاه كاذبة، فإن نقيض ذلك المتناقض مع ذاته يجب أن يكون صادقًا؛ وذلك لاستحالة ارتفاع النقيضين.
والجواب عن هذه الشبهة، هو أننا لا نصل من مجرّد تغيير كيف القضية (تحويل النسبة الإيجابية إلى سلبية أو تحويل النسبة السلبية إلى إيجابية) إلى نقيض القضية، بل لا بد لذلك من إدخال عامل «ليس كذلك» قبل القضية. فإذا كانت القضية التحليلية صادقة سوف يكون نقيضها كاذبًا، وإذا كانت القضية التحليلية كاذبة سوف يكون نقيضها صادقًا، ولن تكون متناقضة مع ذاتها؛ من ذلك مثلًا أن قضية «الدائرة المربّعة، دائرة مربّعة» تحليلية كاذبة، ونقيضها الذي هو «ليس الأمر بأن الدائرة المربعة، دائرة مربعة» صادق، وصدق هذا النقيض يكون بسبب ارتفاع موضوعها؛ إذ حيث لا يكون هناك موضوع؛ فسوف تكون جميع محمولاته مرتفعة أيضًا.
(77)وهنا نجد أن كلام إيمانوئيل كانط الذي يقول فيه: «لو أننا [في القضية الطوطولوجية] ننفي الموضوع مع المحمول لن يكون هناك تناقض؛ إذ لا يبقى هناك شيء، حتى يمكن له أن يكون متناقضًا»
. يبدو هذا الكلام منه رائقًا لمزاج الفهم. وعلى هذا الأساس فإن القضية المتناقضة مع ذاتها؛ أي «الدائرة المربّعة ليست دائرة مربّعة»، كاذبة، وعليه فإن نقيضها الذي هو «ليس الأمر بأن الدائرة المربعة، ليست دائرة مربّعة» صادق، وصدق المتناقض إنما يرد حيث يكون لدينا دائرة مربّعة، لكي نتمكن من سلب الدائرة المربعة عنها، وحيث لا يكون لدينا دائرة مربّعة، إذن يكون هذا السلب كاذبًا، ونقيضه صادقًا.وهنا قد يُشكل بأن القضية المتناقضة مع ذاتها صادقة؛ لأن القضية السالبة بانتفاء الموضوع يمكن أن تكون صادقة، وفي قضية «الدائرة المربّعة، ليست دائرة مربّعة» لا تحقق لموضوع القضية أيضًا، وعليه تكون هذه القضية صاقة بسبب انتفاء الموضوع، وبالتالي يكون نقيضها كاذبًا.
بيد أن هذا الكلام ليس تامًّا، وذلك لأن القضية السالبة، عبارة عن سلب الحمل؛ بمعنى أنها تسلب مفاد القضية الموجبة تمامًا. إن مفاد القضية الموجبة هو ثبوت المحمول للموضوع الذي هو فرع لثبوت الموضوع. وعلى هذا الأساس فإن مفاد السالبة هو سلب ثبوت المحمول عن الموضوع، ويجب أن يكون هناك موضوع ليتم سلب المحمول عنه؛ ولذلك فإن صدر المتألهين قد قبل بوجود الموضوع حتى في السوالب أيضًا
، وقد ذكر لصدق السالبة بانتفاء الموضوع تفسيرًا له حكاية طويلة. لا بد من الالتفات إلى أن إيمانوئيل كانط لم يتوصّل إلى كل ما ذكرناه هنا، وإن كان كلامه يبدو رائقًا للفهم، بيد أن كلامه مخدوش برمّته؛ فليس الأمر بحيث يكونبمقدورنا نفي الموضوع مع المحمول في كل قضية تحليلية دون الوقوع في محذور التناقض؛ وذلك لأن الوضع في القضايا التحليلية ـ التي تتألف من هليّات بسيطة ويكون المحمول فيها بحسب المصطلح موجودًا على نحو آخر من الأساس؛ إذ هناك ثلاث فرضيات ممكنة في الهليّات البسيطة، وهي كالآتي:
1 . أن يكون موضوع القضية هو واجب الوجود والمفاهيم المساوية له، من قبيل: الكامل المطلق أو صرف الوجود.
2 . أن يكون موضوع القضية هو أصل الوجود، بغض النظر عن كونه واجب الوجود أو ممكن الوجود.
3 . أن يكون موضوع القضية هو الموجود المركّب، من قبيل: الكائن المريخي العاقل.
وفي كل فرضية إذا كان رفض كل قضية على شكل تبديل كيفية القضية، بأن تكون القضية الموجبة سالبة، سوف نقع في التناقض؛ لأن قضية «واجب الوجود ليس موجودًا» أو «الموجود ليس موجودًا» أو «الموجود المريخي العاقل، ليس موجودًا» متناقضة في ذاتها، وأما إذا كان وزان القضية على شكل دخول عامل «ليس كذلك» على القضية، سوف يستلزم التناقض في الفرضيتين الأوليين؛ بمعنى أن قضية «ليس كذلك بأن يكون واجب الوجود ليس موجودًا» أو «ليس كذلك بأن يكون الموجود ليس موجودًا» يستلزم التناقض؛ إذ لازم هاتين القضيتين، نفي المحمول عن الموضوع والتي هي قضية متناقضة في ذاتها. وأما في خصوص الفرضية الثالثة فالأمر رهن بموضوع القضية، فإن لم تكن الأجزاء التركيبية للموضوع متناقضة؛ بمعنى أن لا تكون من المفاهيم الممتنعة، وأن لا يكون للموضوع مصداق في الواقع، فإن القضية التي تبدأ بواسطة عامل «ليس كذلك» صادقة؛ فمثلًا إن قضية «ليس
كذلك بأن الموجود المريخي العاقل، موجود» صادقة؛ وذلك لأن الموجود المريخي العاقل غير متحقق في عالم الواقع، ومن هنا فإن عامل «ليس كذلك» إذا دخل على قضية كاذبة، سوف يحوّل مجموع القضية إلى قضية صادقة.
إن من بين القواعد التي يبحثها الفلاسفة المسلمون في الميتافيزيقا وما بعد الطبيعة، هي القاعدة الفرعية، ومفادها أن الموضوع في القضايا الموجبة يجب أن يكون موجودًا في مرتبة سابقة؛ ليكون بمقدورنا أن نحمل المحمول عليه، ومن هنا قالوا: «ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له». إن لهذه القاعدة وجهين؛ أحدهما: في مرحلة الذهن والحكم، فعندما يحكم قائل القضية بأن «(أ) هي (ب)» يجب عليه أولًا أن يتصوّر (أ) في ذهنه، لكي يثبت (ب) له. والوجه الآخر: في محكي القضية؛ حيث محكي القضية هو الموضوع الذي يجب أولًا في ضوء القاعدة الفرعية أن يكون موجودًا لكي يثبت له المحمول في واقع الأمر، من ذلك ـ مثلًا ـ عندما نقول: «الإنسان عالم» كما يجب تصوّر الإنسان في مرحلة الحكم لكي يتمّ حمل العالم عليه، كذلك يجب أن يكون متحققًا في الخارج بنحو من الأنحاء أيضًا لكي يتمّ حمل العالم عليه.
إن الفلاسفة الإسلاميين
في مورد الهليّات البسيطة يواجهون هذا الإشكال القائل: إذا كانت القاعدة الفرعية صادقة، فسوف يلزم من ذلك أن يكون الموضوع موجودًا في مرتبة سابقة على وجود المحمول، وإذا كان الأمر كذلك، فإن ذات هذا الوجود لذلك الموضوع سوف يكون مشمولًا للقاعدة الفرعية أيضًا، ولازم ذلك هو التسلسل في الوجود.هناك من الفلاسفة من قال إن هذه القاعدة تُستثنى في الهليات البسيطة ولا تكون جارية، ولكن من الواضح أن الأحكام العقلية لا تقبل الاستثناء. وقد قام آخرون بتبديل القاعدة الفرعية إلى قاعدة أخرى، بيد أن هذا يعني التسليم بتمامية الإشكال. وهناك من ذهب في هذا المورد إلى جواب ثالث سوف نشير إليه في هذا الفصل.
إن جواب الحكمة المتعالية عن هذا الإشكال، هو أن القاعدة الفرعية إنما تجري في الهليات المركّبة، ولا تجري في الهليّات البسيطة؛ وذلك لأن مفاد القاعدة الفرعية عبارة عن «ثبوت شيء لشيء آخر»، في حين أن مفاد الهليات البسيطة هو «ثبوت الشيء». ويبدو أن إيمانوئيل كانط قد أدرك هذا المضمون في الهليات البسيطة بشكل مبهم، بيد أنه لم يتمكن من رفع جميع إشكالاته، ومن هنا فإنه قد استنتج أن الوجود لیس محمولا واقعيًا
.إن القاعدة الفرعية محاطة بهالة من الإبهام وتحتاج إلى تحليل. فقبل كل شيء لا بدّ من إيضاح ما هو المراد من «الثبوت»؟ وهل «الثبوت» هو ذات الحمل؟ وهل معنى ثبوت شيء لشيء هو حمل شيء على شيء؟ يجب القول: ليس هذا هو مفاد القاعدة قطعًا؛ إذ لا معنى لأن نعتبر حمل شيء على شيء فرع عن حمل الموضوع. هل المراد من الثبوت هو الوجود الذي يكون من لوازم الحمل؟ في الجواب عن هذا السؤال يجب العمل قبل كل شيء على بيان مرادنا من الحمل. يقول المناطقة بوجود نوعين من الحمل:
1 . حمل المواطاة، والذي يعني وحدة الموضوع والمحمول في الواقع ونفس
الأمر، من قبيل: «زيد عالم»، وعنوان الحمل في هذا الفصل بهذا المعنى.
2 . حمل الاشتقاق، بمعنى أن الموضوع مشتمل على شيء، من قبيل: «زيد يمتلك علمًا»، وهنا لا يمكن إيجاد الاتحاد بين زيد والعلم، ولذلك يجب إضافة كلمة «يمتلك».
في ضوء هذين النوعين من الحمل، يكون مفاد القاعدة الفرعية على النحو الآتي:
إذا كان مفاد القاعدة الفرعية هو بيان الثبوت والوجود الذي هو لازم الحمل بالمواطاة، ففي هذه الحالة يجب التفكيك بين وجهين من الحمل؛ وطبقًا للوجه الذهني للحمل، تجري القاعدة الفرعية في كل حمل بالمواطاة، بمعنى أنه ما لم يكن للموضوع وجود وثبوت في الذهن، لا يمكن حمل محمول عليه. بل ويجب القول: في هذه الصورة حتى القضايا السالبة ـ التي يكون مفادها سلب الحمل ـ هي الأخرى لن تكون مستغنية عن وجود الموضوع في الذهن. ولكن طبقًا للوجه الثاني للحمل بالمواطاة ـ الذي يعود إلى محكي القضية الحملية ـ ليس هناك أيّ ضرورة لجريان القاعدة الفرعية؛ وذلك أولًا: لأن أحد أنواع الحمل هو حمل الشيء على النفس، والنوع الآخر هو حمل الحدّ على المحدود في التعاريف. في هذا النوع من الحمل لا توجد بين الموضوع والمحمول في الواقع ثنائية بحيث يكون أحدهما هو الأصل والآخر هو الفرع. وثانيًا: إن مفاد الحمل بلحاظ المحکی للقضیة، الوحدة و العینیة و هي عنوان الموضوع و المحمولّ. بمعنى أنه يصدق عنوانان على واحد خارجي وعلى موجود خارجي واحد. وعلى هذا الأساس يلاحظ أن الموضوع والمحمول في الخارج وفي الواقع ليسا شيئين؛ ليكون أحدهما هو الأصل والآخر هو الفرع.
وأما بناء على أن مفاد القاعدة الفرعية فهو الثبوت والوجود الذي هو لازم الحمل الاشتقاقي، فنقول في الجواب: إن البحث في هذه الصورة سوف يكون حول
(82)الجوهر والعرَض؛ بمعنى أنه كلما عرض وجود عرَضي من قبيل: الحزن على موضوع مثل الإنسان، يجب أن يكون هناك موجود مستقل في مرتبة سابقة لكي يستند إليه هذا الوجود العرَضي والتبعي. وبعبارة أخرى: إن جريان القاعدة إنما يكون في الأعراض التي هي مبدأ «المحمول بالضميمة» دون الأعراض التي هي مبدأ «خارج المحمول». وعلى هذا الأساس فإن الأعراض التي تعد من خارج المحمول لا تكون مشمولة لهذه القاعدة؛ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ عندما ننسب الإمكان إلى شيء ممكن، ونقول: «إن الإنسان يحتوي على إمكان»، ليس من الضروري أن يكون له ثبوتان يكون أحدهما أصلي والآخر فرعي؛ بل لا ضرورة إلى ثبوت أصلًا؛ إذ من الممكن أن لا يكون للموضوع ثبوت أصلًا؛ ففي قضية «العنقاء ممكنة» مثلًا، على الرغم من أن الإمكان يُحمل على العنقاء بحمل الاشتقاق، إلا أن ذات العنقاء ليس لها وجود ثبوتي في الواقع، ليكون لها حمل إمكان ثبوت آخر. وفي بعض الموارد حيث يكون لها موضوع ثبوتي، تكون «محمولاتها الخارجية» موجودة بذات ذلك الثبوت وليس بثبوت آخر. عندما نقول: «الله واحد»، فإن حمل الوحدة بحمل الاشتقاق على الله سبحانه وتعالى هو عين الثبوت ووجود الموضوع. وعلى حدّ تعبير الفلاسفة الإسلاميين هناك تساوق بين الوجود والوحدة، وإن الاثنينية موجودة في ظرف الذهن فقط. يبدو أنه كان يجب على الفلاسفة المسلمين طرح القاعدة الفرعية في حمل الاشتقاق مباشرة لا في حمل المواطاة. ومن هذه الناحية فقد عمد الفلاسفة المسلمون إلى بيان هذه القاعدة في حمل المواطاة.
لا بدّ من الالتفات إلى أن الفلاسفة المسلمين قد بحثوا هذه القاعدة بلحاظ محكي القضية لا بلحاظ الحاكي لها. وكذلك فإن المراد من «المحمول بالضميمة» هو المحمول الذي يحتوي على ضميمة وإضافة عينية على الموضوع، لا أن تكون مجرّد مفاهيم الموضوع والمحمول مختلفة، ولذلك لا يمكن اعتبار الوجود «محمولًا
(83)بالضميمة»، وعلى هذا الأساس فإن القاعدة الفرعية إنما تجري في جانب من الهليّات المركّبة وليس في جميع الهليّات المركّبة؛ وذلك لأن القاعدة الفرعية لا تجري في الهليات المركّبة التي يكون محمولها من المعقولات الفلسفية الثانية وما يصطلح عليه بـ «خارج المحمول»؛ لأن وجود المحمول في هذا النوع من الهليات المركّبة ـ على فرض وجود الموضوع ـ ليس وجودًا آخر؛ ليكون فرع وجود الموضوع.
إن من بين الشعارات التي يُطلقها بعض الفلاسفة الغربيين والتي تعدّ مبنى لامتناع إثبات وجود الله، هي أن الوجود ليس محمولًا. إن منشأ هذا الإشكال هو الآخر القاعدة الفرعية التي تحدّثنا عنها آنفًا، غاية ما هنالك مع فارق أن الفلاسفة المسلمين في مواجهة هذا الإشكال قد ذهبوا إما إلى عدم اعتبار هذه القاعدة صادقة، أو أنهم قد اعتبروا جريان هذه القاعدة في الهليّات المركّبة، وأخرجوا الهليات البسيطة عنها تخصصًا، بيد أن بعض الفلاسفة الإسلاميين
تراجعوا عن أن يكون للوجود أصالة أو ما بإزاء عيني.إن هذه النظرية تتوافق مع نظرية إيمانوئيل كانط في مورد بيان نفي الوجود المحمولي، ولذلك فإن الفلاسفة الغربيين ـ في ضوء ما أقاموه من الاستدلال على نفي الوجود المحمولي ـ قد قبلوا بالقاعدة الفرعية والقواعد المماثلة للقاعدة الفرعية، وحيث كانت هذه القاعدة يقينية بالنسبة إليهم، عمدوا إلى إخراج الهليات البسيطة من القضايا الحملية بجرّة قلم، ولم يعتبروها من القضايا الموضوعية / المحمولية. ومن هنا فقد ذهب بارنز ـ في معرض بيان هذا الأمر ـ إلى القول:
«خذ هذه الجملة بنظر الاعتبار: (إن ثياتوس موجود). تصوروا هذه الجملة على
شكل موضوع / محمولي (على نحو (ثياتوس يطير)، وافترضوا أن عبارة «موجود» هي محموله المنطقي، من هنا فإن كلمة «موجود» في هذه القضية تحمل على ثياتوس. وعليه يمكن القول ـ بشكل عام ـ صحيح أنه لو تمّ حمل (أ) على (ب) يجب أن يكون (ب) موجودًا؛ إذ لولا ذلك لا يكون هناك شيء لـ (ب) حتى يتمّ حمل (ب) عليه. ولكن على هذا الأساس فإن هذه القضية القائلة «إن ثياتوس موجود» لا يمكن أن تكون كاذبة؛ وذلك إذ لو كانت هذه القضية على شكل موضوع / محمولي فإن الذي يمثل موضوع القضية؛ أي «ثياتوس» موجود، وعليه تكون هذه القضية صادقة، وإن شكل هذه القضية يضمن صدقها. وأما بعكس ذلك لو كانت قضية «إن ثياتوس غير موجود» على شكل موضوع / محمولي، لا يمكن أن تكون صادقة؛ لأن شكل القضية يضمن وجود شيء يقوم موضوع القضية بتمثيله، وبالتالي فإنه يكون ضامنًا لكذب القضية. وبشكل عام فإن هذه النتائج صادقة بشأن جميع القضايا الوجودية ونفيها، وحيث أنها بديهية يكون عدد من القضايا الوجودية [الموجبة] كاذبة، وعدد من القضايا الوجودية السالبة صادقة، وعليه فإن القضايا الوجودية لا يمكن أن تكون على شكل موضوع / محمولي. لو كان الوجود في هذه القضايا محمولًا، وثياتوس موضوعًا، فإنها سوف تشخص شيئًا بحيث لو أريد لذلك الشيء أن يكون مشخصًا يجب أن يكون موجودًا ... إذا كانت قضية «إن ثياتوس موجود» على شكل موضوع / محمولي، إذن يجب أن تكون هذه القضية في مورد ثياتوس، وذلك ـ بطبيعة الحال ـ من خلال الاستعانة بهذا الأصل القائل: إذا كانت هناك قضية في مورد موضوع، فإن ذلك الموضوع سوف يكون موجودًا على هذا الأساس ...»
.في هذا الكلام الذي ذكره بارنز، تمّ تقديم ثلاثة أدلة على عدم محمولية الوجود:
1 . إذا كانت الهليّات البسيطة موضوعًا / محموليًا، يجب أن يكون الموضوع موجودًا في مرتبة سابقة على المحمول لكي يتمّ حمله عليه.
2 . إذا كانت قضية «إن ثياتوس موجود» موضوعًا / محموليًا، يجب أن يكون موضوع القضية مشخّصًا لشيء، بمعنى أن يكون له مصداق، ليتمّ حمل الوجود عليه.
3 . إذا كانت قضية «إن ثياتوس موجود» موضوعًا / محموليًا، فإن هذه القضية تتحدّث عن ثياتوس، وما لم يكن هناك شيء موجودًا، فإن الحديث عنه سوف يكون بلا معنى.
وعليه فإن الفلاسفة المسلمين وكذلك الفلاسفة الغربيين قد التفتوا في الواقع إلى أن حملية الهليات البسيطة وجريان القاعدة الفرعية (= ثبوت شيء لشيء فرع لثبوت المثبت له) لا يتناغم معها، غاية ما هنالك أن الفلاسفة الغربيين وبعض الفلاسفة الإسلاميين لا يعتبرون الهليات البسيطة حملية وإن كانت تبدو بحسب الظاهر حملية. وقد استطرد بارنز قائلًا:
«(1) بازاء کل خاصی» الف و کل شیءِ هو باء اذا و فقط اذا کان الباء الالف الموجودَ، کان الباءُ ألفاً. يكون لقضية (1) تاريخ طويل. يبدو من وجهة نظري أن هذه القضية تبين جوهر مدّعى إيمانوئيل كانط، وهو أن الوجود ليس محمولًا»
.يقول بارنز بشأن الأدلة الثلاثة أعلاه:
«إن جميع هذه الأمور من وجهة نظری فاقدة للاستحکام ؛ لأنها تقوم على [هذا] الأصل الجزمي للأب الروحي بارمنيدس القائل: «كل شيء يمكن الحديث عنه، فهو موجود». وبشكل أدق: إن تلك الأدلة تقوم على واحد من خصائص ذلك الأصل:
1 . لو تمّ حمل محمول على (أ)، عندها يكون (أ) موجودًا.
2 . لو وقع (أ) متعلقًا للتعريف، عندها يكون (أ) موجودًا.
3 . لو تمّت الإشارة إلى (أ)، عندها يكون (أ) موجودًا.
4 . لو كانت هناك قضية موجودة بشأن (أ)، عندها يكون (أ) موجودًا.
لا شيء من هذه القضايا صادق.
(1) من الممكن أن نطلق بعض المحمولات في مورد أشخاص أو أشياء لم يعد لها وجود، وأن نشير إليها ونتعرّف عليها ... إن كل فيلسوف يتحدّث عن أسلافه أو يُشير إلى سقراط، يكون في الواقع قد طعن بواحد من (1) إلى (4)
.ثم أشار بارنز بعد ذلك إلى نقضين آخرين، أحدهما: أننا نتحدّث عن الشخصيات الأسطورية في القصص والحكايات ونعمل على بيان خصائص هذه الشخصيات، في حين أنه لم يكن لها وجود أصلًا. والآخر: إن بعض الأمور التي تقع موردًا لاهتمامنا ونعمل على بيان أحكامها، مشكوك بوجودها من الناحية الفلسفية، من قبيل: الأعداد والقضايا والخواص ... .
وباختصار فإن استدلال الذين يدّعون أن الهليات البسيطة ليست موضوعًا / محموليًا هو أنه في كل قضية من قبيل الموضوع / المحمولي، يجب أن يكون الموضوع موجودًا قبل كل شيء، ليتمّ حمل محمول عليه. يقول بارنز في الجواب: إن هذا الاستدلال يقوم على الأصل الحتمي لبارمنيدس المشتمل على واحد من الخصائص الأربعة أعلاه، في حين أنه لم يتمّ إثبات أيّ واحد من هذه الخصائص أساسًا، ومن هنا لا يكون دليلكم على عدم موضوعية / محمولية الهليات البسيطة تامًّا.
يرى بارنز أنه لو كان الأصل الحتمي لهذا الأب الروحي ثابتًا، عندها لن يكون أمامنا من طريق سوى إخراج الهليات البسيطة ـ بشكل جازم ـ من دائرة القضايا التي هي من قبيل الموضوع / المحمولي. إن هذا الأصل الحتمي يقول: «كل شيء يمكن الحديث عنه، فهو موجود». إن هذا الأصل الحتمي هو تعبير آخر لهذا الأصل الفلسفي الذي يقول: «المعدوم المطلق لا يُخبر عنه»، وعليه فإن كل ما يمكن الحديث عنه لن يكون معدومًا بالمطلق، وإذا كان المُخبر عنه معدومًا، فلن يكون معدومًا بالمطلق، وإنما سوف يكون معدومًا نسبيًا؛ بمعنى أن يكون في ظرف من الظروف ـ مثل الذهن ـ موجودًا، ويكون في ظرف آخر من الظروف ـ مثل الخارج ـ معدومًا. وعلى هذا الأساس يكون أصل الأب الروحي هو عكس نقيض «المعدوم المطلق لا يُخبر عنه».
هناك في الفلسفة الإسلامية بحث ونقاش حول قضية المعدوم المطلق يقوم على أن هذه القضية متناقضة؛ لأن ذات جملة «لا يُخبر عنه» خبر للمعدوم المطلق. وقد تصدى الفلاسفة إلى الإجابة عن هذا الإشكال، وقد أجاب الشيخ الرئيس أبو علي ابن سينا عنه في قسم الإلهيات من كتاب الشفاء بشكل، وأجاب عنه صدر المتألهين بشكل آخر. وهناك من يرى أن هذين الجوابين يعودان إلى جواب واحد، وهناك من يقول بوجود اختلاف بين هذين الجوابين.
وعلى كل حال فإن الفلاسفة الإسلاميين يقبلون بهذه القاعدة، ويجيبون عن الإشكالات الواردة عليها. ويبدو أن جواب الفلاسفة مقبول، وذلك لأنهم قالوا في الجواب: إما أن يكون المراد أنه لا يمكن الإخبار إيجابيًا عن المعدوم المطلق، وإن الخبر الواقع هنا إنما هو خبر سلبي لا إيجابي، أو يمكن الإخبار عن المعدوم المطلق بالحمل الذاتي الأولي، بمعنى أنه يمكن الإخبار عن مفهومه، وإن الذي وقع هنا خبرًا إنما هو خبر لمفهوم المعدوم المطلق، وليس خبرًا للمعدوم المطلق بالحمل الشائع الصناعي.
(88)وعلى هذا الأساس لو أن بارنز قد فكر في الأصل الحتمي للأب الروحي بارمنيدس من زاوية الفيلسوف الإسلامي، واعتبرة صادقًا، واعتبر عكس نقيض القضية هو المعدوم المطلق ـ حيث يجب عليه الالتزام بذلك بطبيعة الحال ـ فسوف يضطرب هنا، ويرى نفسه مُلزمًا بقبول أدلة المخالفين، ويخرج الهليات البسيطة من دائرة الموضوع / المحمولي، إذ يبدو أن المستدلين وبارنز قد قبلوا بأن المراد من الوجود في الأصل الحتمي للأب الروحاني بارمنيدس هو الوجود الواقعي والخارجي، في حين لا يوجد هناك ما يستوجب مثل هذا الافتراض؛ إذ يكفي لدفع الاستدلال أن نقول: لم يتمّ تقديم أيّ دليل على وجوب أن يكون الموضوع موجودًا قبل المحمول في الهليات البسيطة حتمًا. وبعبارة أخرى: إن القاعدة الفرعية لا تجري في الهليات البسيطة، وذلك لأن مفاد هذا النوع من القضايا هو ثبوت الشيء وليس ثبوت شيء لشيء آخر. وعلى هذا الأساس فإن الهليات البسيطة والقضايا التي يكون محمولها موجودًا، تعدّ من القضايا الموضوعية / المحمولية، التي تنتهي إلى الطوطولوجيا وقول الشيء نفسه، ولكنها لا تستلزم وجود الموضوع قبل وجود المحمول (ای اذا کان الموضوع موضوعا).
لقد بيّن كواين هذه النظرية بشكل صريح على النحو الآتي:
«إن القول بأن شيئًا لا وجود له أو أنه يوجد شيء غير موجود، متناقض بشكل واضح؛ إذن يجب أن تكون قضية هناك «بإزاء كلX ،الـX موجودٌ» [بمعنى أن لكل شيء وجود] صادقة ... ». وقد تعجّب كواين في موضع آخر من بساطة مسألة المعرفة الوجودية، وقال: «... (What is There?) «ما هو الشيء الذي له وجود». ثمّ إنه يمكن الجواب عن هذا [السؤال] بكلمة واحدة والقول: (Every Thing) «كل شيء»، وكل شخص يعتبر هذا الجواب صادقًا ...».
نصل من خلال نظرية كواين ـ مع افتراض أن لكل شيء محمولًا يصدق عليه ـ إلى هذه النتيجة، وهي أن بإزاء كل محمول F هناك شيء هو F، إذا وفقط إذا كان ذلك الشيء هو F وموجودا أيضًا. وإذا كان X هو F وموجودا أيضًا (فسوف يتم تلخيصه على شكل (إن (X) هو (F) موجود) ويمكن لهذا النتيجة أن تبيّن على النحو الآتي:
(1) بإزاء كل خاصية F وكل شيء X، الـ X هو F، إذا وفقط إذا كان X هو F و موجود ایضا ... أرى أن قضية (1) تظهر جوهر ما يدّعيه إيمانوئيل كانط؛ إذ [كان يقول]: إن الوجود ليس محمولًا حقيقيًا. إن مدّعى إيمانوئيل كانط ينبثق عن ديفيد هيوم، وهو الذي يقدّم رواية أقوى؛ إذ يقول: «إن مفهوم الوجود ... هو ذات ذلك المفهوم الذي نتصوّر أنه موجود. لا يختلف التأمل في شيء على نحو بسيط عن التأمل فيه بوصفه موجودًا. إن ذلك المفهوم عندما يرتبط بمفهوم الأمر عيني (Object)، فإنه لا يُضيف إليه شيئًا»
.قال بارنز بشأن هذه العبارة من ديفيد هيوم:
«إن ديفيد هيوم يُظهر تلويحًا أن مفهوم كل محمول (F) هو ذات (F الموجود) أو (F الذي له وجود). وبعبارة أخرى: يذهب ديفيد هيوم إلى الاعتقاد بأن القضية (1) صادقة؛ لأن (X هو F)، بذات معنى ((X) هو (F) الموجود)»
.وقد ذهب بارنز إلى الادعاء بأن أرسطو قد ذكر هذه النظرية بتقرير أضعف، وهو أمر مقبول: «... إن الوجود والوحدة متساويان وحقيقة واحدة (= Nature)؛ بمعنى أن أحدهما يستلزم الآخر ...، ولكن لا من قبيل الأشياء التي يتمّ بيانها بتعريف واحد ...؛ وذلك لأن الشخص الواحد والشخص الموجود والشخص
متحدون، وإن تكرار (شخص موجود) و(شخصٌ موجودٌ موجودٌ)، لا يظهر أي اختلاف أبدًا»
.ثم عمد بارنز إلى بيان تعجب شوبنهاور
من أرسطو على النحو الآتي، وهو أنه كيف أمكن له أن يقف حجر عثرة في طريقه قبل بيان البرهان الوجودي؟ ويبدو أن شوبنهاور قد فهم من كلام أرسطو أن الوجود والوحدة والماهية متساوية من الناحية المفهومية. وبالتالي فإن الوجود لا يمكن أن يقع محمولًا. بيد أن بارنز بعد نقل هذه المطالب ذهب إلى الادعاء بأن كلام أرسطو ليس ردًّا على البرهان الوجودي، وذلك لأن أنسلم ورينيه ديكارت في البرهان الوجودي، لم يجعلا الوجود تعريفًا لله ولا مؤلفًا لذاته.ثم استطرد بارنز يقول: «لقد كان إيمانوئيل كانط من خلال [القضية] (1) بصدد الهجوم على البرهان الوجودي، ولكن من زاوية مختلفة. إذا كان کون الـ F و کون الـ F الموجود متساویان ، إذن لا يمكن لوجود أن يكون أكبر أو أفضل أو أكمل من عدم الموجود، إذا كان الوجود لا يحدث فرقًا في شيء، إذن فالوجود لا يجعل الشيء أكبر أو أفضل»
.وبعد أن أشار بارنز إلى عدم تناغم نظرية إيمانوئيل كانط مع إحدى مقدمات استدلال أنسلم ورينيه ديكارت، ذهب إلى القول:
«على هذا المنوال تكون القضية الكانطية (1) في تعارض مباشر مع البرهان الوجودي، بيد أن القضية (1) سوف تكون لصالحه وبضرره في وقت واحد؛ وذلك لأن [القضية] (1) إذا كانت صادقة، سوف تكون نتيجتها هي أن الشيء الذي لا
يمكن تصوّر ما هو أكبر منه، موجود ... وإن كل شيء كامل موجود ... والخلاصة هي أن القضية (1) لا يمكن لها أن تهدم البرهان الوجودي، حتى وإن تمكنت من هدم تقريرات خاصة منه»
.وفي نهاية المطاف قال بارنز بشأن القضية (1):
«أرى أن نظرية كواين القائلة بأن كل شيء موجود، أكثر تعرّضًا للضرر بالنسبة إلى الإشكالين الأولين على القضايا من (1) إلى (4). «سقراط لا وجود له» و«هاملت لم يكن له وجود أبدًا». وعلى هذا الأساس ليس من الصحيح أن يكون «كل شيء موجود»
.كان يتعيّن علينا هنا أن نبحث في مستويين مختلفين؛ إذ كان يتعيّن علينا أن نبحث في واحد من هذين المستويين ما هو الفهم الذي حصل عليه بارنز من نقله لهذه الأقوال؟ وما هي النتائج التي ينسبها إلى القائلين لهذه الأقوال على أساس ذلك؟ وكيف قام هو بنقد هذه الأقوال؟ وفي المستوى الثاني علينا أن نرى ما هو المعنى الموجود في هذه الأقوال؟ وهل هذه الأقوال مع البراهين الوجودية غير منسجمة؟
أما المستوى الأول: إن فهم بارنز لهذه الأقوال هو أنه عندما يكون الوجود والشيء شيئًا واحدًا ولهما مفهوم واحد، عندها لا يمكن إثبات وجود الله بالبرهان الوجودي؛ وذلك لأن وجود شيء ليس سوى ذات الموضوع. إن ردّ بارنز هو أنه ليس كل شيء موجود، من قبيل أن نتحدّث عن سقراط، في حين أنه الآن غير موجود، وإذا كانت تلك القاعدة صحيحة، إذن يجب أن يكون هناك وجود لسقراط أو هاملت. في حين لم يكن لهاملت من وجود أصلًا. وعلى هذا الأساس لا يمكن
بواسطة هذا الاستدلال أن ننكر وجود محمول، وبالتالي لا يمكن بهذا الاستدلال هدم البرهان الوجودي.
أما المستوى الثاني: إن الذي يُفهم من كلام كواين ـ في ضوء التقرير الذي قام به بارنز ـ هو أن للوجود والشيئية مصداقًا واحدًا، لا أن يكون مفهوم الشيء والوجود واحدًا، بل إن المدّعى هو الاتحاد المصداقي لمفهوم الوجود والشيء؛ إذ لا يفهم من عبارة كواين أن الشيئية والوجود متساويان من حيث المفهوم. وعلى هذا الأساس لا يمكن أن نستنتج من هذه القاعدة أعلاه إنكار الوجود المحمولي، سواء أكانت القاعدة صادقة أو كاذبة.
وأما ما نقله عن ديفيد هيوم فلا يمكن أن نستفيد منه على نحو اليقين أن كل وجود وكل محمول من الناحية المفهومية هما شيء واحد؛ إذ أن الذي يُستفاد من عبارة ديفيد هيوم هو أننا لو قمنا بتقييم المحمول والمحمول الموجود بالنسبة إلى الموضوع لن يحدث فرق في البين.
إن هذه العبارة تصدق مع واحدة من هاتين الفرضيتين: إما أن يكون مفهوم المحمول ومفهوم المحمول الموجود شيئًا واحدًا ـ وهو ما يدّعيه بارنز ـ أو أنه عندما يُنسب محمول إلى موضوع ما في القضايا الحملية، يكون المراد هو المحمول الموجود؛ بمعنى أن مصداق هذا النوع من المحمول هو المحمول الموجود، لا أن يكون المحمول والمحمول الموجود شيئًا واحدًا من حيث المفهوم.
من بين هذين الاحتمالين من الأفضل أن نذهب إلى اختيار الاحتمال الأول؛ إذ صرّح ديفيد هيوم في موضع آخر قائلًا: «إن كل شيء نتصوّره موجودًا، يمكن أن نتصوّره معدومًا [أيضًا]»
. وعلى هذا الأساس لو كان كل محمول ـ من وجه نظرهيوم ـ مساويًا للمحمول الموجود من الناحية المفهومية، عندها لایمکن أن یتصور أن مفهوما غیر موجودٍ.
إن الطريق الآخر الذي سلكه الفلاسفة لإنكار الوجود المحمولي، يُسمى بالعدمية المنطقية:
لا يمكن لأيّ جملة [مثل] «(A) موجود» (حيث يكون المفهوم جزئيًا)، أن تعمل على بيان قضية صادقة، لا لأنها قضية كاذبة، بل لأنها ليست حسنة التركيب
. طبقًا لهذه النظرية ربما من الصحيح أن نقول: «إن الخيول موجودة»، بيد أن قول: «إن آراكل موجود» أو «إن بيغاسوس موجود» خطأ دستوري تمامًا ... ما الذي يجب قوله بالنسبة إلى عبارات من قبيل: «بعض الخيول موجودة» و«جميع الخيول موجودة»، من البديهي أنها إما سيئة التركيب بناء على أنها اختصار للعبارة المفتوحة ((A) موجود)، أو حسنة التركيب، ولكنها ليست اختصارًا للجملة المفتوحة ((A) موجود).هناك بيان واضح للعدمية المنطقية في مباني رياضيات فيرجه. يستدل فيرجه قائلًا: إن مضمون قضية ما في مورد العدد (واحد) بيان بشأن مفهوم. ربما كان هذا أوضح مع العدد (صفر). عندما نقول: «إن لكوكب الزهرة صفر من الأقمار»، لا يكون هناك أيّ قمر أو مجموعة من الأقمار لشيء، ليكون هناك بيان حول ذلك، بل الذي يحدث هو نسبة خصوصية إلى مفهوم «كوكب الزهرة»؛ بمعنى أنه لا يحتوي على مصداق. عندما نقول: «إن عربة قيصر تجرّها أربعة من الخيول»، نكون في هذه
الحالة قد نسبنا العدد أربعة إلى مفهوم «الخيول التي تجرّ عربة قيصر» ... وعليه فإن العدد من خصائص المفاهيم وليس من خصائص الأشياء، كما يذكر فيرجه في بعض الأحيان أن العدد عبارة عن خاصية من الدرجة الثانية أو المستوى الثاني. ومن هنا فإن الوجود من هذه الناحية شبيه بالعدد. إن إثبات الوجود في الواقع، ليس شيئًا سوى نفي العدد صفر. وعلى هذا الأساس فإن للوجود بدوره في الغالب خاصية المفاهيم منها إلى خاصّية الأشياء. إن هذه القضية القائلة: «إن الخيول موجودة» قضية موضوعية / محمولية معتبرة بالكامل، بيد أنها لا تنسب وجودًا أو شيئًا آخر إلى الخيول ... إن هذه القضية في مورد مفهوم «الخيول» وتخبر بأن لهذا المفهوم مصداقًا؛ ولكن لا أنها لا تحتوي على شيء تحتها ... إذا كان الوجود محمولًا من الدرجة الثانية، فما الذي يعنيه سعينا إلى إظهاره بوصفه محمولًا من الدرجة الأولى، والقول على سبيل المثال: «آراكل موجود»، و«بيغاسوس غير موجود»؟ يقول فيرجه بضرس قاطع: «لا أريد القول بأن الشيء الذي يتمّ بيانه هنا حول المفهوم، لو تمّ بيانه بشأن الأشياء لكان كذبًا، بل ومن دون معنى». يقول فيرجه: «حيث أن للوجود خاصية المفهوم، فإن البرهان الوجودي على إثبات وجود الله سوف يواجه الفشل»
.سوف يأتي المزيد من التوضيح مصحوبًا بالبحث والنقد في (12، و13).
إن الطريق الرابع الذي يذكرونه لعدم كون الوجود محمولًا، عبارة عن أن الوجود هو سور القضية، وسور القضية هو الشيء الذي يدخل على موضوع القضية:
«إن منطق المحمولات يستعمل سورًا ثانيًا غالبًا ما يُكتب على شكل (Ǝ)
من الواضح أن (Ǝ) ليس عبارة محمولية. إن (Ǝ) يعرف بوصفه سورًا وجوديًا، ويعرف بوصفه سورًا وجوديًا، وتتم ترجمته على الدوام بمعنى «الوجود»، وعليه فإن الوجود، كما يعتقد كواين ـ هو الشيء الذي يعمل على بيان السور الوجودي وحيث أن السور ليس أمرًا محموليًا، فإن الوجود بدوره بمعنى واضح ليس محمولًا تقريبًا ... إن منطق المحمولات المتعارفة يشتمل على قاعدة التعميم الوجودي الذي يسمح باستنتاج «(ƎX)FX» من ضابطة على شكل FA، حيث يكون «A» مفردة خاصة. يبدو أن هذا الاستنتاج إنما يصحّ فيما إذا تمّ تشخيص ذلك الشيء بلفظA، إذ لو لم يكن كذلك، فإن هذه الحقيقة القائلة: «إن ذلك الـ F موجود» لن تكون ضامنة لهذا المطلب القائل: «إن الـ F موجود)»»
.إن جميع التفسيرات التي ورد ذكرها للوجود إنما هي ناشئة عن مقولة إيمانوئيل كانت القائلة بأن الوجود ليس محمولًا حقيقيًا. وعليه فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: إذا لم يكون الوجود محمولًا حقيقيًا، فما الذي يمكن أن نصنعه بالنسبة إلى العبارات التي ورد فيها استعمال مفردة الوجود؟ قيل في توجيه ذلك: إن الوجود في هذه العبارات لا معنى له، أو إن الوجود هو سورة القضية، وما إلى ذلك.
بالنظر إلى هذه التوضيحات يبدو أنه لا بدّ من الرجوع إلى نظرية إيمانوئيل كانط. فهو يدّعي أن الوجود ليس محمولًا حقيقيًا. وقد عمد إلى بيان هذا المدعى على هامش البرهان الوجودي، وذكره في الفصل الثالث من القسم الخامس من كتابه نقد العقل المحض تحت عنوان امتناع البرهان الوجودي لوجود الله. وقد ذهب ماكي إلى الادعاء بأن إيمانوئيل كانط قد ذكر في هذا الفصل من الكتاب ما مجموعه ثلاثة إشكالات على البرهان الوجودي. وبطبيعة الحال هناك موضع للكلام حول
ما إذا كان إيمانوئيل كانط في هذا الفصل كان حقًا بصدد بيان الإشكالات المتعددة أم لا
.إن من بين معضلات هذا الفصل من كتاب إيمانوئيل كانط هو إبهامه وغموضه، وربما كان هذا الغموض والإبهام هو الذي دعا إلى تقريره من قبل كل شخص بشكل مختلف. وسوف نعمل أولًا على تقرير نظريته، ثم نعمل بعد ذلك على استخراج الفرضيات الكامنة في هذه النظرية، ونقوم بالحكم عليها.
يدّعي إيمانوئيل كانط أننا في مقام إثبات وجود الله، عندما نصل إلى قضية «الله موجود» لا نجدها تحليلية. لا أن الوجود الذي جاء على شكل محمول لا يمكنه أن يكون في مفهوم الموضوع
، بل المراد هو أن القضايا الوجودية ليست ناظرة إلى العلاقات المفهومية بين الموضوع والمحمول، بل هي ناظرة إلى المصداق، ولذلك لا يمكن اعتبار القضايا الوجودية تحليلية. ولنفترض أن هذه القضية تحليلية، بيد أن إنكار الموضوع بدوره لا يؤدّي في القضايا التحليلية إلى أيّ تناقض أبدًا. «لو أني أنكر محمول حكم مع الموضوع في وقت واحد، لن ينشأ أيّ تناقض داخلي، أيًا كان ذلك المحمول». فلو قلنا: «إن المثلث غير موجود» فمن الطبيعي أن لا توجد في البين أضلاعه الثلاثة أيضًا، وهذا الأمر لا يعدّ تناقضًا، ولكن لو عمدنا إلى وضع المثلث، وسلبنا عنه الأضلاع الثلاثة، فسوف يحدث هناك تناقض في البين. إن الطريق الوحيد للحل هنا هو القول: «هناك موضوعات لا يمكن رفعها أبدًا،ولذلك يجب أن تبقى، بيد أن هذا يعني أن هناك موضوعات ضرورية بشكل مطلق. إن هذا المعنى تمامًا هو ذات الافتراض السابق الذي شككت في صحته». يمكن القول: إن الوجود الأكثر واقعية يحتوي على جميع الواقعيات، وفي هذه الصورة يمكن فرض هذا النوع من الوجود ممكنًا، وعليه فإن الوجود قد تمّ إدراجه في «جميع الواقعيات»، وعلى هذا الأساس فإن الوجود كامن في مفهوم
الأمر الممكن. فإن تمّ رفع هذا الشيء، فسوف يتمّ رفع إمكانه الداخلي أيضًا، وهذا يعدّ في حدّ ذاته تناقضًا داخليًا. ولكن لم يحدث هنا سوى الطوطولوجيا البحتة وقول الشيء ذاته. يمكن لنا أن نجعل كل شيء بمنزلة المحمول المنطقي، وحتى ذات الموضوع يمكن أن يكون بعينه محمول نفسه، بيد أن المحمول الواقعي عبارة عن تعيّن شيء، والتعيّن عبارة عن المحمول الذي يُضاف إلى الموضوع ويعمل على جعله أكبر، لا أن يكون مدرجًا في ذات مفهوم الموضوع. إن الوجود أصلًا ليس هو المحمول الواقعي، بمعنى أنه ليس مفهومًا يمكن أن يُضاف إلى مفهوم شيء. إن الوجود عبارة عن مجرّد وضع شيء أو بعض التعينات الواقعية فيه. والآن لو أخذت بنظر الاعتبار الموضوع (الله) بجميع محمولاته في وقت واحد، ونقول: «الله موجود» أو «هناك إله»، لن أكون في هذه الحالة قد أضفت أيّ محمول جديد إلى مفهوم الله، بل أكون قد وضعت الموضوع في نفسه بجميع محمولاته في قبال مفهومه بشكل متزامن ومرّة واحدة فقط. وعليه فإن الأمر الواقعي لا ينطوي على شيء زائد على الأمر الممكن بشكل صرف. إن مئة قنطار حقيقي لا يحتوي في ذاته على خردلة من مئة قنطار ممكن. وعليه حتى مع تصوّر أسمى الحقائق، يبقى هذا السؤال قائمًا: هل هذا الوجود موجود أم لا؟ لو أردنا أخذ الوجود بوصفه المقولة الوحيدة الخالصة، ففي مثل هذه الحالة إذا لم نحصل على أيّ مؤشر ليتمّ التعرّف عليه من الإمكان البحت، لن يكون هناكما يدعو إلى العجب. إن الوجود الذي يخرج عن دائرة الحسّ، وإن كان لا يمكن الإعلان عن عدم إمكانه مطلقًا، ولكن مع ذلك كله، لا نمتلك تفسيرًا له.
إن الأمور أدناه تبدو مقبولة في استدلال إيمانوئيل كانط:
1. إن الإثبات عبارة عن حمل شيء على موضوع.
2. إن القضايا التأليفية، هي القضايا التي تضيف شيء إلى الموضوع.
3. إن القضايا التحليلية، هي القضايا التي لا تضيف شيء إلى الموضوع.
4. من أجل إثبات أمر ما، تجب الاستفادة من القضايا التأليفية دون القضايا التحليلية.
5. إن القضية إما تحليلية أو تأليفية.
وفي ضوء هذه المقدمات، يمكن القول:
6. إن الوجود ليس محمولًا واقعيًا؛ بمعنى أن قضية «(X) موجود» ليست قضية تأليفية؛ إذ بهذا المحمول لا يُضاف شيء إلى (X).
7. كما أن الوجود ليس محمولًا تحليليًا أيضًا، إذ أننا في مقام الإثبات عندما نقول: «(X) موجود» نكون ـ بحسب الظاهر ـ قد أضفنا الوجود إلى الموضوع. على الرغم من أن الوجود يمكنه أن يكون محمولًا في القضية أيضًا، وفي هذه الحالة سوف لن يكون المقام مقام إثبات شيء. وعلى هذا الأساس:
8. في القضايا التي يبدو الوجود فيها هو المحمول بحسب الظاهر، إما أن تكون بلا معنى أو تكون شبه قضية.
من بين هذين الاحتمالين يذهب مصطفى ملكيان
إلى اختيار الشق الاول، ويقول: إن القضايا الوجودية من وجهة نظر إيمانوئيل كانط بلا معنى، بيد أن هذا الأمر لا ينسجم مع صريح كلام إيمانوئيل كانط، وذلك لأنه يقول: «إن الوجود عبارة عن مجرّد وضع شيء أو بعض التعيّنات في نفسها». إن مضمون هذه العبارة ليس هو عدم مفهومية قضية «إن الله موجود». وعلاوة على ذلك فإن إيمانوئيل كانط يعتبر «الوجود» ـ في القضية أعلاه ـ من المحمول المنطقي.إذا كانت الهليات البسيطة والقضايا الوجودية، عديمة المعنى ـ من وجهة نظر إيمانوئيل كانط ـ يجب أن ننسب إليه عدم مفهومية القضايا التحليلية أيضًا؛ إذ أن المحمول في القضايا التحليلية بدوره لا يضيف شيئًا إلى الموضوع. ويبدو أن نظرية إيمانوئيل كانط قريبة إلى حدّ ما من نظرية الفلاسفة الإسلاميين، وهي النظرية القائلة بأن نسبة الوجود إلى الماهية في الهليات البسيطة من قبيل: ثبوت الشيء، وليس ثبوت شيء لشيء. وأما الاحتمال الآخر في كلام إيمانوئيل كانط هو أن تكون العبارات التي تمّ فيها استعمال الوجود شبه قضية وليست قضية حقيقية. وبطبيعة الحال فإن هذا المطلب لا نشاهده في كلام إيمانوئيل كانط، بيد أن مقتضى كلامه يحتمل ذلك. إن هذا الاحتمال يتمّ تأييده بالنظرية التي تعتبر الوجود سور القضية. وبعبارة أخرى: يبدو أن الذين قبلوا نفي الوجود المحمولي من قبل إيمانوئيل كانط، صاروا بصدد تقديم تفسير للعبارات الوجودية، وقالوا بأن الوجود هو سور القضية. ربما توصلت هذه المجموعة إلى هذه النقطة من خلال اعتقادين يبدوان متناقضين لإيمانوئيل كانط؛ إذ يذهب كانط من جهة إلى اعتبار القضية التأليفية قضية يضيف فيها المحمول شيئًا إلى الموضوع، ومن ناحية أخرى يذهب إلى الاعتقاد بأن الوجود لا يضيف شيئًا إلى الموضوع؛ وذلك لأن الوجود هو «وضع الشيء»، ومن الواضح أنه في القضايا
التأليفية يجب العمل ـ في ضوء القاعدة الفرعية أو ما يشبهها من القواعد ـ على وضع الموضوع أولًا، ثم إضافة محمول إليه. إذا كان الوجود محمولًا واقعيًا، إذن يجب أن يكون موضوعه موجودًا في مرتبة سابقة، ولازم ذلك أن يكون للشيء وجودان.
وبطبيعة الحال فإن هذا التقرير ليس له معنى محصّل؛ وذلك لأن الهليات البسيطة والقضايا الوجودية إذا كانت شبه قضية أو جملة ناقصة، يجب الاعتراف بأن توقع إفادة الجملة التامّة منها بلا معنى، في حين أن الهليات البسيطة تفيد المعنى التام كما هو الحال بالنسبة إلى القضايا التحليلية.
وعلى كل حال ـ سواء أكان هذا التقرير عن كلام إيمانوئيل كانط صحيحًا أم لا ـ فإن الثابت هو أن كانط لا يعتبر الوجود محمولًا واقعيًا، على الرغم من إمكان أن يكون الوجود محمولًا منطقيًا. ومراده واضح ولا سيّما بالنظر إلى مثال المئة قنطار. إن إيمانوئيل كانط يستنتج من عدم محمولية الوجود عدم اعتبار البراهين الوجودية؛ حيث سنبحث هذا القسم من كلام كانط لاحقًا. وعلى هذا الأساس فإن المهم هو بحث هذه النظرية، وهي: هل الوجود محمول واقعي أم لا؟
يبدو أن إيمانوئيل كانط حيث يُقسّم القضايا إلى تحليليلة وتأليفية، قد حصر القضايا الحملية بهذين القسمين، بيد أن افتراض قسم ثالث يخرم هذا الحصر. من الواضح بداهة أن التقسيم إنما يكون له حصر منطقي إذا كان دائرًا مدار السلب والإيجاب. ومن هنا فإنه في التقسيمات الثنائية التي لا تدور مدار السلب والإيجاب، لا يكون افتراض وجود شق ثالث منتفيًا أبدًا. ومن هنا يجب تقسيم القضايا الحملية إلى تحليلية وتأليفية ونفي الشق الثالث، وذلك على نحو منطقي يدور مدار السلب والإيجاب. وفي هذا الإطار يجب إما العمل أولًا على تعريف القضية التحليلية، ثم
(101)نعتبر القضية التأليفية على أساس ذلك نقيضًا لها أو بالعكس، بأن نعتبر القضية التحليلية نقيضًا للقضية التأليفية. وفيما يلي نبحث في الفرضية الأولى. إن القضية ـ بالحصر العقلي ـ إما أن تكون تحليلية أو أن تكون غير تحليلية (= تأليفية). طبقًا للتعريف الذي يقدّمه إيمانوئيل كانط تكون القضية التحليلية هي القضية التي يكون فيها مفهوم المحمول عين مفهوم الموضوع أو من الأجزاء المفهومية للموضوع. ومن بين خصائص القضية التحليلية هي أن المحمول لا يُضيف شيئًا إلى الموضوع. وعلى أساس هذا التعريف يمكن لنا اختبار جميع القضايا الحملية وتحديد ما إذا كانت تحليلية أم غير تحليليلة (= تأليفية). كما يمكن لنا تعريف القضية التأليفية على النحو الآتي: القضية التي لا يكون مفهوم المحمول فيها عين مفهوم الموضوع أو من الأجزاء المفهومية للموضوع. ومن بين خصائص القضية التأليفية هي أن المحمول يُضيف شيئًا إلى الموضوع. وعلى هذا الأساس تكون جميع قضايا الهلية البسيطة وما يُصطلح عليه بالقضايا الوجودية طبقًا لهذا التعريف تأليفية، إلا القضايا التي يكون موضوعها هو مفهوم الوجود. وعلى هذا الأساس تكون قضية «زيد موجود» تأليفية، وذلك لأن الوجود ليس جزءًا من مفهوم زيد، ولا هو عينه، وإن المحمول يضيف الوجود إلى مفهوم الموضوع. وفي المقابل فإن قضية «واجب الوجود موجود» قضية تحليلية؛ وذلك لأن المحمول فيها جزء من مفهوم الموضوع، لأن واجب الوجود بمعنى الموجود الضروري. وعلى هذا الأساس فإن كل قضية حملية إما هي قضية تأليفية أو قضية تحليلية، ولا يعقل افتراض شق ثالث؛ لأن التقسيم دائر مدار النفي والإثبات.
وأما إيمانوئيل كانط فقد ذكر في مقام التعريف التحليلي والتأليفي بعض الخصائص، وقدّم تفسيرًا لها، وبذلك التفسير لم يكن حصر القضية الحملية بالتحليلية والتأليفية عقليًا، ويبدو افتراض الشق الثالث أمرًا ممكنًا. يرى إيمانوئيل
(102)كانط أن من بين خصائص القضية التحليلية أن المحمول فيها لا يُضيف شيئًا إلى الموضوع. لو فسّرنا هذه الخصوصية على هذا النحو وهو أنه في مفهوم المحمول لا يوجد شيء زائد على مفهوم الموضوع، يمكن لنا أن نستخرج هذه الخصوصية من التعريف التحليلي. وعلى هذا الأساس فإن جميع القضايا ـ التي يعمل فيها المحمول على تقديم إضافة مفهومية للموضوع ـ تكون تأليفية، من قبيل: «زيد موجود» أو «الإنسان ضاحك». وكما نرى فإن المحمول في المثال الأول لا يُضيف في الخارج شيئًا إلى الموضوع لأن المحمول فيها هو عين ثبوت الموضوع. بخلاف المثال الثاني حيث المحمول فيها يُضمّ إلى الموضوع في الخارج. وعلى هذا الأساس ليس من الضروري أن يضيف المحمول في صلب الخارج شيئًا إلى الموضوع. وأما بالنظر إلى مثال إيمانوئيل كانط في قضية المئة قنطار، فيمكن القول بأن مراد كانط من الإضافة هي الإضافة العينية في الخارج؛ بمعنى أن الوجود ليس له زيادة عينية في الخارج، وقد أدرك إيمانوئيل كانط هذا الأمر بحق.
لو اعتبرنا معيار القضية التحليلية هو عدم الإضافة الخارجية للمحمول على الموضوع، واعتبرنا معيار القضية التأليفية هو الإضافة الخارجية للمحمول، عندها لا يعود بمقدورنا تعريف القضية التحليلية على هذا النحو على أن يكون مفهوم المحمول جزءًا من مفهوم الموضوع أو عينه؛ إذ طبقًا للمعيار أعلاه تكون القضايا الوجودية تحليلية، وإن لم يكن تعريف القضية التحليلية صادقًا عليها.
لو قيل إن القضايا التحليلية هي التي يصدق عليها تعريف القضايا التحليلية، وتحتوي في الوقت نفسه على خصائص القضية التحليلية، وفي مثل هذه الحالة لا تكون القضايا الوجودية تحليلية، ولو قيل بأن القضية التأليفية هي التي يصدق عليها تعريف القضايا التأليفية، وتحتوي في الوقت نفسه على خصائص القضية التأليفية؛ بمعنى أن يضيف المحمول في الخارج شيئًا إلى الموضوع، ففي هذه الصورة
(103)لا تكون القضية الوجودية تأليفية؛ وعليه تكون هذه الطائفة من القضايا في الواقع شبه قضية. وعلى هذا الأساس يجب القول هنا بتبلور شق ثالث من القضايا لا هي تحليلية ولا هي تأليفية. وإن ذات وجود هذا الشق الثالث يؤدّي إلى أن لا نحصر أنفسنا في الحصار الذي بناه إيمانوئيل كانط للقضايا الحملية. يُضاف إلى ذلك أن قضية «واجب الوجود موجود» تعدّ ـ طبقًا لتعريف كانط ـ قضية تحليلية.
إن الحكماء
المسلمين كانوا في حصانة من الوقوع في هذا الخطأ؛ وذلك لاعتقادهم بأن المحمول في القضية الحملية إما ذاتي للموضوع أو عرضي له، وقد قسّموا العرضي إلى خارج المحمول ـ أو التحليل باصطلاح المنطق والفلسفة الإسلامية ـ والمحمول بالضميمة. إن القسم الأول ينطبق على تحليلية كانط، والقسم الثالث يقبل الانطباق على تأليفيته. وأما القسم الثاني ـ خارج المحمولات ـ فلا نشاهده في تقسيم إيمانوئيل كانط، ويمكن القول بأن عدم الالتفات إلى هذا القسم هو الذي أدّى إلى هذه المغالطة.لقد كان إيمانوئيل كانط يفرّق بين المحمول المنطقي وبين المحمول الواقعي. فمن وجهة نظره يمكن للوجود أن يكون محمولًا منطقيًا، ولكن لا يمكن أن يكون محمولًا واقعيًا. إن مراد إيمانوئيل كانط هو أن القضايا التأليفية التي تكون ناظرة إلى الواقع، هي وحدها التي يكون لها محمول واقعي، دون القضايا التحليلية التي لا تكون ناظرة إلى الواقع. وعلى الرغم من أن إيمانوئيل كانط لم يصرّح بهذا المطلب، ولكن يمكن استنباط ذلك من كلامه. وكذلك إذا كان الوجود محمولًا في القضية، لن يكون محمولًا واقعيًا، وإن وقع محمولًا من الناحية المنطقية. إن كانط لا يبيّن علة
هذا التفريق، كما أنه لا يشير إلى ملاك واقعية المحمول، وإنما يمكن استنباط هذا المقدار من كلامه وهو أن المحمول إذا كان ناظرًا إلى الأمور الواقعية وكان يُشير إلى الروابط والعلاقات بين الأمور الواقعية، كان المحمول واقعيًا، ولكن يمكن القول: لو تمّ في قضية ما بيان مجرّد الروابط والعلاقات بين التصوّرات، فسوف يكون المحمول مجرد محمول منطقي لا واقعي؛ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ إن قضية «أنا جائع» تحتوي على محمول واقعي، وأما قضية «الإنسان كلي» فالمحمول فيها منطقي فقط وليس عينيًا؛ وذلك لأن الموضوع (= أنا) في القضية الأولى يحتوي على محمول بوصفه أمرًا واقعيًا، والموضوع (= الإنسان) في القضية الثانية لا يحتوي على محمول واقعي، وذلك لأن الكلية من الأمور الذهنية وليست من الأمور الواقعية. وبطبيعة الحال فإن المحمول المنطقي أعم من المحمول الواقعي؛ إذا حيثما يصدق المحمول الواقعي، يكون المحمول المنطقي صادقًا أيضًا.
وفيما يلي علينا توسيع دائرة بحثنا، وإيضاح مرادنا من المحمول. فهل المراد من المحمول هو معناه اللغوي؟ بمعنى هل يجب أن يكون لدينا شيئان في الخارج، يكون أحدهما (= المحمول) محمولًا على الآخر (= الموضوع)؟ فعندما نقول مثلًا: «هذه الوردة حمراء»، على فرض أن تكون هناك وردة في صقع الخارج حقًا، وتكون حمراء في الوقت نفسه، تكون حمرتها شيء يحمل عليها، وتكون ذات الوردة حاملًا خارجيًا لها؟ إذا كان المراد من المحمول في الفلسفة أمرًا خارجيًا، فسوف يكون السؤال اللاحق على النحو الآتي: هل المراد من المحمول الواقعي في باب القضايا هو هذا المعنى اللغوي أيضًا؟ بمعنى لو عمدنا إلى تشكيل قضية حملية فهل يكون محمول القضية واقعيًا فيما لو تحقق في الخارج شيئان: أحدهما هو الحامل، والآخر هو المحمول؟ إن جواب السؤال الثاني يتضح بالنظر إلى مضمون القضية الحملية؛ لأن مضمونها عبارة عن عينية عنوان الموضوع والمحمول، وعلى هذا الأساس فإن
(105)مفاد قضية «هذه الوردة حمراء» هو أن هذين المفهومين يوجدان بوجود واحد، وليسا شيئين من حيث المضمون ليكون أحدهما حاملًا والآخر محمولًا، ولكن بلحاظ أن القضية الحملية عبارة عن نشاط ذهني، وإن الذهن يقوم بعمل اتحادي بين الموضوع والمحمول، فسوف يكون الموضوع غير المحمول؛ بمعنى أن المحمول باللحاظ اللغوي محمول، وأن الموضوع باللحاظ اللغوي حامل. وبعبارة أخرى: بلحاظ الحكم الذي يصدره الشخص في قضية ما ـ سواء أكانت تلك القضية تحليلية أو هلية بسيطة أو هلية مركبة ـ فإن الذي يكون بحسب الظاهر محمولًا يكون محمولًا واقعًا أيضًا، ولهذا السبب كان إيمانوئيل كانط يقول إن الوجود في الهليات البسيطة محمول منطقي، وأما باللحاظ المضموني الذي يفيده هذا الحكم لا يكون ـ ما يبدو بحسب الظاهر محمولًا ـ في الحقيقة محمولًا في أيّ نوع من هذه القضايا الثلاثة؛ وذلك لأن مفاد الحمل هو عينية الموضوع والمحمول وليس الاتحاد بينهما. وعليه لو لم يكن الوجود محمولًا، لا يمكن أن يكون من حيث المضمون محكي القضية، إذ لا يوجد لدينا محمول بلحاظ مضمون القضية حتى في الهليات المركّبة.
وهنا نعود إلى السؤال الأول. يرد هنا سؤال ثالث في امتداد السؤال الأول، وهو هل مرادكم من وجود شيئين في الواقع، أحدهما هو الحامل (= الموضوع)، والآخر هو المحمول، هو أن هذين الأمرين موجودان بوجود واحد ويقوم بينهما اتحاد؟ أم كل واحد من هذين العنوانين مرتبط بالخارج، بمعنى أن القضية لا تعمل على مجرّد بيان الروابط والعلاقات بين المفاهيم، بل تنظر إلى عالم الواقع أيضًا؟ لا شك في أنه باختيار أيّ واحد من هذين الاحتمالين لا يمكن اعتبار المحمول في القضايا التحليلية محمولًا واقعيًا. وأما في القضايا الوجودية من خلال اختيار الاحتمال الثاني يمكن اعتبار المحمول محمولًا واقعيًا.
(106)يبدو أن المحمول الواقعي ـ من وجهة نظر إيمانوئيل كانط ـ حيث يكون لكل واحد من الموضوع والمحمول وجود مستقل، وفي هذه الحالة وطبقًا لهذا الاحتمال لا يمكن للوجود أن يكون محمولًا واقعيًا. في المقارنة بين نظرية كانط وبين الفلسفة الإسلامية في باب الوجود، يمكن القول بأن الوجود ـ من وجهة نظر كانط ـ ليس محمولًا بالضميمة.
توضيح ذلك أن اتصاف شيء بشيء في الفلسفة الإسلامية
، قد تمّ تصويره على ثلاثة أشكال على النحو الآتي:1. الاتصاف الانضمامي، من قبيل: اتصاف الورقة بالبياض.
2. الاتصاف الانتزاعي، من قبيل: اتصاف السماء بالفوقية.
3. الاتصاف الاتحادي، من قبيل: اتصاف الإنسان بالنطق.
إن الفرق بين هذه الأنواع الثلاثة من الاتصاف يكمن في أن للصفة في الاتصاف الانضمامي وجودًا، وللموصوف بدوره وجود آخر أيضًا، وأما في الاتصاف الانتزاعي فلا يكون للصفة وجود من ذاتها، وإنما يُنتزع وجودها من الموصوف. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ ليس للفوقية بالنسبة إلى السماء وجود مستقل، بل كلما نظر العقل إلى السماء والأشياء الأخرى مثل الأرض، سوف يجد أن السماء تتصف بصفة الفوقية؛ بمعنى أنه ينتزع هذه الصفة منها. وفي الاتصاف الاتحادي تكون الصفة عين الموصوف، بيد أن العقل في ظرفه يفصل الصفة عن موصوفها وينسب أحدهما إلى الآخر. إن الوجود ـ من وجهة نظر بعض الفلاسفة الإسلاميين ـ يُعدّ من الأوصاف الاتحادية للموصوف.
لقد تمّ تقسيم الوجود في الفلسفة الإسلامية ـ ولا سيّما منذ عصر صدر المتألهين الشيرازي فما بعد ـ إلى الوجود الرابط، والوجود المستقل أو في نفسه، والوجود المحمولي. وإن سبب تسمية القسم الثاني بالوجود المحمولي، يكمن في أنه يمكن لنا تشكيل قضية يكون محمولها موجودًا ويكون موضوعها متصفًا بذات هذا الوجود. كما يعتقدون أنه لا يوجد في الهليات البسيطة بين الموضوع والمحمول ربط أو نسبة في الخارج؛ إذ لا معنى للارتباط بين الشيء ونفسه؛ بمعنى أنه لا يوجد لدينا في الخارج سوى شيء واحد، وإن ذهن الإنسان هو الذي يقول بالفصل والتفكيك بين الوجود وماهيته، وينسب وجود الشيء إلى الشيء، ويقول على سبيل المثال: «إن الحمرة موجودة»، ومن هنا يقال: إن الوجود والماهية ـ في تلك الأشياء التي لها ماهية ـ شيء واحد في الخارج، ولكن الوجود في الذهن زائد على الماهية.
يذهب الفلاسفة والمتكلمون الإسلاميون إلى الاعتقاد بأن الوجود والماهية ـ في الأشياء ذات الماهية، باستثناء الله عزّ وجل؛ حيث لا ماهية له ـ شيء واحد في الخارج، وعلى هذا الأساس لا يكون الوجود زائدًا وعارضًا على الماهية، وإن كان بالإمكان الفصل بينهما في عالم الذهن.
بيد أن بعض المتكلمين (من الأشاعرة) يعتقدون بأن الوجود في ظرف الذهن هو الآخر عين الماهية؛ من ذلك أنه عندما يتصوّر الشخص قطة ـ على سبيل المثال ـ ويدرك ماهيتها بالوجود الذهني، فكما أن ماهية القطة لا تنفصل في الخارج عن وجودها، كذلك في الذهن لا تنفصل صورة القطة عن وجودها الذهني أيضًا؛ لأن تصوّر شيء يعني إعطاء وجود ذهني لذات ذلك الشيء. إن الالتزام بهذه النظرية
يؤدّي إلى زوال الاشتراك المعنوي بين الوجودات، والقول بالاشتراك اللفظي لمفهوم الوجود، من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن وجود زيد يعني ذات زيد، ووجود عمرو يعني ذات عمرو. وقد استدل الأشاعرة على ذلك بأن الوجود ـ في أي ظرف كان ـ إذا لم يكن عين الماهية، ففي مثل هذه الحالة إما أن يكون الوجود عارضًا على الماهية المعدومة أو على الماهية الموجودة. فإن كان عارضًا على الماهية المعدومة فإن هذا الأمر سوف يستلزم التناقض، وإن كان عارضًا على الماهية الموجودة، ففي هذه الحالة إن كان الوجود المعروض هو ذات الوجود العارض فإنه سوف يستلزم الدور، وإن لم يكن كذلك فإنه سوف يستلزم التسلسل.
إن نبرة هذا الاستدلال تشي بأنه يقوم على القاعدة الفرعية، وهي تجري في الهليات البسيطة. بيد أن الفلاسفة يعتقدون أن الوجود يعرض على الماهية من حيث هي، وإن هذا العروض يحدث في ظرف الذهن وبتأثير من التحليل الذي يقوم به الذهن. صحيح أن تصوّر الماهية يعني إعطاءها وجودًا ذهنيًا، وأن الماهية المتصوّرة هي عين الوجود، بيد أن الذهن يمتلك هذه المقدرة التي تمكنه من أخذ الماهية بغض النظر عن الوجود، وإن كان أخذ الماهية من دون الوجود يمثل في حدّ ذاته نوعًا من إضفاء الوجود على الماهية، ولذلك قالوا:إن تجرید الماهیة عن الوجود عين تحلّي الماهية بالوجود. وعليه حيث يكون الذهن قادرًا على أخذ كل واحد من هذين الأمرين بغض النظر عن الآخر، يمكنه كذلك أن ينسب أحدهما إلى الآخر أيضًا.
وعلى هذا الأساس هناك في قبال القول بزيادة الوجود على الماهية يقف هذا القول المتطرّف والقائل بأن الوجود في كل وعاء هو عين الماهية. إن هذا القول المتطرّف له أنصاره حتى بين الفلاسفة الغربيين على ما ينقله بارنز
. وقد أدركإيمانوئيل كانط ـ على ما يبدو ـ أن الوجود في الذهن غير الماهية، وفي الخارج عين الماهية، ولذلك فقد حكم بعدم كون الوجود محمولًا واقعيًا، ولكنه في المقابل عرض هذه النظرية القائلة بأن الإثبات رهن بواقعية المحمول.
إن النظرية الثانية لإيمانوئيل كانط لا تخلو من إشكال، سوف نأتي على ذكره لاحقًا.
لقد عمد الفلاسفة المسلمون منذ القدم إلى التفريق بين مجموعتين من المفاهيم، وأطلقوا على قسم عنوان المعقولات الأولى، وعلى القسم الآخر عنوان المعقولات الثانية. إن المعقولات الأولى هي تلك المفاهيم التي يحصل عليها الإنسان عادة في المواجهة مع الخارج؛ بمعنى أن مصداق هذه المجموعة من المفاهيم موجود في الخارج. وأما المعقولات الثانية فهي المفاهيم التي تظهر في ضوء مفاهيم المجموعة الأولى، ولكن لا بحيث يكون لها وجود مستقل في الخارج؛ من ذلك ـ مثلًا ـ أن مفهوم الحمرة يعرض على الذهن بواسطة الحواس، وتوجد مصاديق له في الخارج، ولكن عندما ننظر إلى مفهوم الحُمرة، ندرك أن ذات هذا المفهوم ـ وليس مصاديقه ـ هو الذي يشتمل على خصوصية مثل الكلية. وعليه يمكن أن نحصل من مفهوم الأحمر على مفهوم الكلي، بيد أن هذا المفهوم (الكلي) ليس له مصداق في الخارج.
إن الفلاسفة المسلمين يطلقون على كل مفهوم يُنتزع من مفهوم آخر (وليس من الأمور الواقعية)، عنوان المعقول الثاني، سواء أكان ذلك المفهوم الذي يُنتزع منه المعقول الثاني معقولًا أوليًا أو معقولًا ثانيًا. وعلى هذا الأساس فإن المعقول الثاني يُطلق على تلك المجموعة من المعقولات التي لا تكون أولية، سواء أكانت في المرتبة الثانية من الانتزاع أو في المرتبة الثالثة أو أكثر. ومن ناحية أخرى فقد عمد الفلاسفة
(110)المسلمون إلى تقسيم المعقولات الثانية إلى قسمين أيضًا، أحدهما: هو المجموعة التي لا تبيّن الأمر الخارجي والعيني أبدًا، من قبيل مفهوم الكلي الذي يكون موطنه الذهن، ويكون موصوفه هو الآخر أمرًا ذهنيًا، وتسمى هذه المجموعة بالمعقولات الثانية المنطقية. وفي قبال ذلك هناك مجموعة من المعقولات التي يكون موطنها في الذهن، من قبيل: مفهوم العلية والعدد، حيث تتصف بها الأشياء الخارجية؛ وذلك لأننا نسمّي الشيء الخارجي علة، ونعدّ الأشياء الخارجية ونصفها بعدد ما. ونطلق على هذه المجموعة التي يكون عروضها ذهنيًا واتصافها خارجيًا، عنوان المعقولات الثانية الفلسفية. وفي بعض الأحيان يشمل مصطلح المعقول الثاني الفلسفي جميع المفاهيم غير الأولية أيضًا.
ما تمّ ذكره هنا إنما هو لغرض المقارنة بين المفاهيم من الدرجة الأولى والمفاهيم من الدرجة الثانية، حيث وردت في نظرية العدمية المنطقية.
يبدو أن العدمية المنطقية تمثل تفسيرًا لكلام إيمانوئيل كانط، القائل: «إن الوجود ليس محمولًا؛ إذ المحمول يجب أن يضيف شيئًا إلى الموضوع». بيد أن كانط يفرّق بين المحمول المنطقي والمحمول الواقعي، ولم يكن يعتبر الوجود محمولًا واقعيًا. إن هذا التفريق غير مقبول في نظرية العدمية المنطقية. إن هذه النظرية تعتبر كل محمول محمولًا منطقيًا، وذلك لأن المحمول يجب أن يضيف شيئًا إلى الموضوع في الخارج، وحيث أن الوجود لا يُضيف شيئًا إلى موضوع القضية، فإنه لا يكون محمولًا منطقيًا. يتمّ التمييز بين العدمية المنطقية بين محمولات الدرجة الأولى وبين محمولات الدرجة الثانية، وعلى أساس هذا التمايز تمّ اعتبار الوجود محمولًا من الدرجة الثانية. إن الوجود ـ مثل العدد ـ يمكن أن يكون محمولًا من الدرجة الثانية ووصفًا للمفاهيم
دون الأشياء الخارجية. يقول فيرجه:
«إن مفاهيم المستوى الثاني تتحدّث عن مفاهيم تمتاز في ذاتها عن المفاهيم المستوى الأول التي تعدّ من مقدماتها. إن ربط شيء بمفهوم المستوى الأول الذي يندرج فيه الشيء، يمتاز من ربط مفهوم المستوى الأول بمفهوم المستوى الثاني (... يقع مصداق تحت مجموعة مفهوم من المستوى الأول، ومفهوم داخل مفهوم المستوى الثاني) وعلى هذا الأساس يتمّ الحفاظ على التمايز بين المفهوم وبين الشيء بجميع حدّته»
.إذا كان الوجود من المفاهيم والمحمولات من المستوى الثاني، يمكن القول: إن هذه النظرية تنسجم مع ما ورد في نظرية المعقول الفلسفي الثاني في الفلسفة الإسلامية؛ ببيان أن الوجود ـ مثل كل معقول فلسفي ثان آخر ـ ليس له ما بإزاء مستقل عن موضوعه. بيد أنه لا يتمّ الاكتفاء في العدمية المنطقية بهذا المقدار، بل يتمّ الذهاب إلى أبعد من ذلك، وقالوا: إذا كان المحمول من المستوى الثاني، يجب أن يكون موضوعه هو المفهوم وليس الشيء الخارجي. وهنا يتعين الرجوع ثانية إلى بحث مضمون القضية الحملية. إن نظرية فيرجه في القضية الحملية هي عينية الموضوع والمحمول. فهو يقول:
«نقول: إن الشيء (أ) هو ذات الشيء (ب) (بمعنى أنه متطابق معه تمام الانطباق) إذا كان (أ) مصداقًا لكل مفهوم، فإن (ب) مصداق لذات ذلك المفهوم، والعكس صحيح أيضًا»
.يبدو أن مضمون هذا التعريف الهوهوي ليس سوى أن يكون لكل واحد من
عنواني الموضوع والمحمول في القضية الحملية مصداق؛ بمعنى أن يكون الموضوع والمحمول عنوانين لمصداق واحد. وعلى هذا الأساس فإن هذه العينية قائمة حتى في الهليات البسيطة أيضًا؛ من ذلك مثلًا عندما نقول: «إن فيرجه موجود»، يكون عنوان الموضوع مشيرًا إلى شيء، وعنوان الموجود مشيرًا إلى شيء أيضًا، حيث يصدق عليه عنوان الوجود، مهما كان مفهوم الوجود من مفاهيم الدرجة الثانية، وتعلن القضية الحملية هذين العنوانين بوصفهما مشتملين على مصداق واحد. وعلى هذا الأساس فأن يكون المفهوم من المستوى الثاني، لا يشكل مانعًا يحول دون حمله، لكي نعتبر الهليات البسيطة شبه حملية أو سيئة التركيب. يبدو أن هناك مغالطة قد حدثت في هذه الموارد؛ وذلك لأننا عندما نقول إن للقضية الحملية محمولًا، نتجه فورًا إلى مفاهيم المستوى الأول، ونظن أننا قد أضفنا شيئًا إلى الموضوع.
في الهليات المركبة الشخصيّة يجب على أساس القاعدة الفرعية أن يكون هناك شخص موجود قبل كل شيء لكي يتقبّل الحمل. فإذا كان لشخص ما خصوصية، سوف يمكن لنا في ضوء قاعدة التعميم الوجودي أن نشكّل قضية بسور وجودي؛ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ لو كان لـ (X) خصوصية (F)، بمعنى أن (X) F، يمكن لنا القول ـ على أساس قاعدة التعميم الوجودي ـ بأن هناك وجود لـ (X) يحتوي على خصوصية (F).
في قضية « (∃X)FX » ما لم يكن (X) موجودًا، فإنه لن يحتوي على خصوصية (F). إن هذا المطلب تقرير آخر لنفي الوجود المحمولي. هذا الکلام صحیح بأن الموجبةَ فی الهلیات المرکبة فی افتراض وجود الموضوع الذی هو المحمول ثابت له، بید ما هو الدلیل أن کل حملیة یجب أن تکون کذلک؟ مثلا الهلیات البسیطة
لاتکون کذلک؛ لان مفادها ثبوت الشیء وعلی هذا لاتحتاج الی ثبوت آخرفی ظرف الموضوع. وعندها لا يكون هناك معنى لوضع الوجود بوصفه سورًا للقضية، إذ أننا لا نريد غير قول إن هذا الموضوع حيث هو موجود، إذن فالمحمول بدوره موجود أيضًا. وعلى هذا الأساس فإن الفرضية المسبقة للهليات المركبة هي الهليات البسيطة. وكذلك لا بدّ من التذكير بهذه النقطة وهي أن مفاد الحمل عينية الموضوع والمحمول في الواقع ونفس الأمر، وإن تقسيم القضية الحملية إلى القضية البسيطة والقضية المركّبة لا يكون من وجهة نظر منطقية، وإنما من وجهة نظر فلسفية؛ إذ العينية لا تتناسب مع التركيب؛ بمعنى أننا عندما نرى شيئًا أبيض، فإنه بزوال اللون الأبيض واكتساب الشيء لونًا آخر، يقوم العقل بتحليل أن هذا الشيء له جوهر وذات ثابتة، تطرأ عليه سلسلة من الأعراض التي هي في حالة من التغيير أو يمكن لها أن تتغيّر.
وقد ذكر برتراند راسل ذات هذه النقطة في عصرنا الراهن في معرض تحليله لمعنى عبارة أو تعبير «الموجود». وقد ذكر أن كلمة «موجود» وإن كانت خبرية من الناحية النحوية والدستورية، ولكنها تلعب في المنطق دورًا مختلفًا، يمكن بيانه ضمن هذه العبارة القائلة: «الأبقار موجودة»؛ بمعنى «إن هناك مجموعة من الـ (X) موجودة، بحيث لو قلنا إن (X) بقرة، كان ذلك صحيحًا». إن هذه العبارة تثبت أننا عندما نقول «الأبقار موجودة» لا يعني ذلك إعطاء صفة خاصة وهي «موجودة» إلى الأبقار، بل بمعنى أن هناك موجودات في العالم تستعمل في موردها صفة «البقر». وهكذا الأمر بالنسبة إلى عبارة «الحصان ذي القرن ليس موجودًا» تساوي «ليس هناك من وجود لمجموعة من الـ (X)، بحيث لو قلنا إن (X) حصان
له قرن، نكون قد صدقنا» ... إن ارتباط وتأثير هذه النظرية على البرهان الوجودي، على النحو الآتي: إذا كان الوجود ـ كما كان يراه أنسلم ورينيه ديكارت ـ صفة أو محمولًا يمكن إدخاله في كل تعريف، ويجب استعماله بوصفه صفة مطلوبة في تعريف الله، إذن فالبرهان الوجودي برهان معتبر؛ إذ سيبدو من التناقض لو قلنا بأن أكمل أنواع الوجود القابلة للتصوّر، يفتقر إلى صفة «الموجود»، بيد أن الوجود وإن كان من الناحية النحوية محمول، ولكنه بلحاظ المنطق يلعب دورًا مختلفًا بالكامل، وهو التصديق بهذا الأمر وهو أن هذا الوصف يُطلق في عالم الخارج أو الواقع على هذا الشيء (أو يرتبط به). وعلى هذا الأساس فإن البرهان الوجودي بوصفه برهانًا يهدف إلى إثبات وجود الله، لا يصيب غايته؛ إذ لو لم يكون الوجود محمولًا، لا يمكن اعتباره صفة تعرّف الله ...
.يمكن لبيان راسل بدوره أن يكون رواية وتقريرًا لكلام إيمانوئيل كانط. والمهم في هذا التقرير هو أن الوجود لم يفقد مكانته بشكل كامل، ويبدو أن نتيجة جهود راسل هي أنها وضعت الوجود في الهليات البسيطة في طرف موضوع القضية؛ وذلك لأنه عمد إلى تحويل قضية «الأبقار موجودة»؛ إلى «أن هناك مجموعة من الـ(X) موجودة، بحيث لو قلنا إن (X) بقرة، كان ذلك صحيحًا». فهو هنا ينسب الوجود إلى أنواع من الـ (X)، بحيث لو صحّت هذه النسبة، أمكن لنا القول بحق أنها أبقار. وفي الواقع فإن البحث في الوجود المحمولي حول نسبة الوجود هذه إلى (X) التي لم يتمكن برتراند راسل من إلغائها بشكل كامل.
طبقًا لهذا التفسير في طرف موضوع القضية، وقبل إسناد الأبقار إلى موضوعها، تم إسناد الوجود إلى الموضوع (= X)، وإن إسناد الوجود إلى (X) هو تمامًا مفاد
الهلية البسيطة. يبدو أن نظرية برتراند راسل لم تعمل على حلّ مشكلة، ولا وضعت مشكلة أمامنا، وإنما تمكنت من إظهار الهليات البسيطة تبدو على شكل هليات مركّبة فقط؛ بمعنى أنه قد تمكن من تحويل عنوان الموضوع (= الأبقار) ـ الذي كان موجودًا في طرف موضوع الوجود ـ وتحويله إلى جهة المحمول، وما كان موجودًا في طرف المحمول عمل على توجيهه إلى طرف الموضوع. إن هذا البيان يستحضر في الذهن أصالة الوجود في الحكمة المتعالية، حيث يرى الهليات البسيطة من قبيل عكس الحمل.
إن إنكار الوجود المحمولي في فلسفة الغرب يقوم على أساس البرهان الوجودي، وإن تقرير جون هاسبرس في مورد إنكار الوجود المحمولي يأتي على هذا الأساس أيضًا. فهو يقول:
«لنفترض أننا نمتلك مفهومًا لموجود لا يمكن تصوّر ما هو أكبر منه. فإن مفهوم الوجود لمثل هذا الموجود لا يضيف شيئًا إلى مفهوم ذات الموجود أبدًا. إن ما ندركه ـ سواء مع الوجود أو من دون الوجود ـ على نسق واحد. لو أنني تصوّرت حصانًا، ثم تصوّرته بوصفه حصانًا موجودًا، لن يكون ما تصوّرته مختلفًا في الحالتين. فلو أنهما لم يكونا مختلفين [بمعنى] أنه لو تمت إضافة شيء في مورد المفهوم الثاني، إذن لا أكون قد تصوّرت ذلك الشيء الذي تصورته سابقًا بوصفه موجودًا»
.وقال جون هاسبرس بعد نقل كلام إيمانوئيل كانط:
«لو أننا قلنا إن للحصان ناصية وذيلًا وأربعة حوافر وقوائم، نكون قد نسبنا بعض الصفات إلى الحصان، ولكن لو قلنا: إن الحصان موجود، لا نكون قد أضفنا
صفة أخرى. نحن نقول إن هذا الشيء الذي اعتبرناه بهذه الصفات موجود أيضًا. نحن لم نضف شيئًا إلى مفهوم ذلك الشيء، وإنما أظهرنا علاقة بين المفهوم والخارج. يمكن بيان الاختلاف بين أن تكون لـ (X) صفات خاصة، وأن (X) موجود، على النحو الآتي:
«إن الحيوان ذي القرن الواحد له قرن واحد»، بمعنى أنه «لو كان هناك شيء موجود هو حيوان له قرن واحد، عندها سيكون له قرن واحد». وبالنسبة إلى أيّ صفة أخرى للحيوانات من ذوات القرن الواحد، يكون الوضع على ذات هذه الصورة أيضًا. طبقًا لهذا التحليل تكون قضية «الحيوانات ذات القرن الواحد موجودة» بمعنى «إذا كان الشيء الذي هو حيوان بقرن واحد موجودًا، عندها سيكون ذلك الحيوان موجودًا»، ولو أننا قلنا: «إن الحيوانات ذات القرن الواحد موجودة» لا يكون مرادنا قطعًا هو هذه الطوطولوجيا الباهتة. والأسوأ من ذلك [قضية] «الحيوانات ذات القرن الواحد غير موجودة» إذ لو تمّ تبديلها إلى القضية القائلة: «إذا كانت الحيوانات ذات القرن الواحد موجودة، فإنها ليست موجودة»، وهي كما ترى قضية متناقضة. في هذا الأسلوب على الرغم من أن [هاتين القضيتين] القائلتين: «إن الحيوانات ذات القرن الواحد ذات قرن واحد» و«إن الحيوانات ذات القرن الواحد موجودة» متساويتان من الناحية النحوية والدستورية، ولكنهما نوعان مختلفان بشكل كامل؛ وذلك لأن التحليل الذي يُستعمل في مورد القضية الأولى لا يُستعمل في مورد القضية الثانية. إن امتلاك قرن واحد، وامتلاك أربع قوائم، وكون الشيء أبيض وما إلى ذلك صفات، وأما الوجود فليس صفة. إن قول: إن الشيء موجود، من قبيل قول: هناك شيء موجود له هذه الصفات»
.لو غضضنا الطرف عن بعض النقاشات الجزئية في هذا التقرير، وقبلنا بأن المراد من هذه القضية: «كلما وقع الموجود محمولًا في قضية فإنه لا يُضيف شيئًا إلى مفهوم الموضوع» هو أن المفهوم من حيث هو مفهوم ويظهر مصداقه، لا يُضيف شيئًا إلى المصداق، في هذه الحالة سوف يكون هذا التقرير بيانًا للتمايز بين الهليات البسيطة والهليات المركبة. وهو يقول إن هذا المطلب يدل على أن الهليات البسيطة تعمل على بيان العلاقة بين المفهوم والخارج. وبعبارة أخرى: يبيّن أن هذا المفهوم له مصداق. إن جميع البراهين التي تثبت شيئًا، تشير في الواقع إلى هذا المضمون، وهذا المقدار هو المتوقع من أدلة إثبات وجود الله أيضًا.
إن إيمانوئيل كانط في الوقت الذي لم يكن يعتبر الوجود محمولًا واقعيًا، كان يؤمن بأن الهليات البسيطة من الناحية المنطقية هي مثل صورتها الظاهرية موضوع / محمولي؛ إذ أن كل شيء ـ من وجهة نظره ـ يمكن نسبته من الناحية المنطقية إلى موضوع ما، وصياغة جملة حملية، وحتى ذات الشيء يمكن نسبته إلى نفسه، ومن هنا فإن القضايا التحليلية ـ من قبيل: «الإنسان إنسان» أو «الإنسان حيوان» ـ موضوع / محمولي، في حين أن الإنسان في القضية الأولى والحيوان في القضية الثانية ليسا محمولًا واقعيًا، وذلك لأن الموضوع والمحمول في هاتين القضيتين ليسا شيئين، ليكون أحدهما موضوعًا والآخر محمولًا، ولكن من الناحية المنطقية يمكن اعتبار هاتين القضيتين موضوعًا / محموليًا.
وأما فيرجه وآخرون غيره فقد ذهبوا إلى الاعتقاد بأن الهليات البسيطة وإن كانت من الناحية الأدبية موضوعًا / محموليًا، ولكنها من الناحية المنطقية ليست كذلك. ويبدو أن الاختلاف بين هاتين النظريتين لفظي؛ إذ أن المحمول إنما يكون منطقيًا من
وجهة نظر فيرجه إذا أضاف شيئًا بشكل عينيّ إلى الموضوع، حيث أن مراد إيمانوئيل كانط من المحمول الواقعي هو هذا المعنى.
(119)إن هذه العبارة مؤلفة من «الوجود» و«الضروري». وقد ختمنا بحث الوجود في الفصل الثاني. وفي هذا الفصل سوف نبحث في «الضروري» وتركيبه مع الوجود؛ لنرى أولًا ما هو المعنى الذي يلقيه هذا التركيب إلى الذهن، وثانيًا: ما هو مرادنا من «الوجود الضروري» أو بعبارة أخرى «واجب الوجود»؟ وبأيّ معنى يُستعمل؟ ولإيضاح المطلب يجب أن نبدأ من المواد الثلاثة في المنطق:
لنأخذ هذه الأزواج بنظر الاعتبار: الثمانية والزوج، العسل والأصفر، الإنسان و جبل قاسيون. فما هي العلاقة بين هذه الأزواج الثلاثة؟ الجواب هو أنه يمكن بالنسبة إلى الزوجين الأولين تأليف قضايا حملية موجبة، والقول:
«الثمانية زوج».
«العسل أصفر».
وأما بالنسبة إلى الزوج الثالث، فلا يمكن تأليف قضية حملية موجبة، بل يجب تأليف قضية حملية سالبة على النحو الآتي:
«الإنسان ليس جبل قاسيون».
وعلى هذا الأساس لا يكون الجمع في الزوج الثالث ممكنًا، بل هو بحسب المصطلح ممتنع؛ فلا يمكن أن يكون الإنسان وجبل قاسيون شيئًا واحدًا. وبعبارة
أخرى: لا يمكن توفير الأوضاع والأحوال بحيث يصبح الشيء إنسانًا ويكون في الوقت نفسه جبل قاسيون. وبعكس ذلك في الزوجين الأول والثاني، فإنه لا يمتنع أن يكون للثمانية والزوج أو العسل والأصفر مصداق واحد، بل هما في الواقع مصداق واحد أيضًا.
وأما السؤال اللاحق، فهو هل هناك اختلاف بين الزوجين الأول والثاني؟ بعد التأمل يمكن أن ندرك بوضوح أن هناك بين الزوج الأول ـ وهما الثمانية والزوج ـ علاقة وثيقة لا تنفك، بمعنى أنه لا يمكن تصوّر الأمور والشرائط بحيث لا تكون الثمانية زوجًا، وأما بالنسبة إلى الزوج الثاني ـ وهما العسل والأصفر ـ فعلى الرغم من أنهما يوجدان بوجود واحد، ولكن يمكن افتراض انفصالهما؛ إذ يمكن أن يكون هناك عسل ولا يكون أصفر اللون، ولكن لا يمكن تصور العدد ثمانية دون أخذ زوجيته بنظر الاعتبار؛ وعليه تكون الزوجية بالنسبة إلى العدد ثمانية ضرورية وواجبة، بينما تكون الصفرة بالنسبة إلى العسل إمكانية.
وفيما يلي نطرح سؤالًا ثالثًا: هل كل واحد من هذه العلاقات الثلاثة ـ وهي: الامتناع والوجوب والإمكان ـ رهن برؤيتنا؟ فهل ضرورة الزوجية للعدد ثمانية تابع للشخص الذي يأخذ هذين المفهومين بنظر الاعتبار؛ بحيث لو لم يكن هناك شخص يأخذهما بنظر اعتباره، لن تكون هناك ضرورة في الواقع، أو أن هذه الضرورة واقعية ثابتة سواء أكان هناك ناظر يأخذهما بنظر الاعتبار أو لا يكون هناك وجود لهذا الناظر؟
من الواضح جدًا أن هذه العلاقات ليست رهنًا بنا، بل إن كل ما نقوم به هو اكتشافها. وعلى هذا الأساس يمكن القول: إن علاقة كل مفهوم بمفهوم آخر في الواقع وفي نفس الأمر وبغض النظر عن تقييمنا، إما واجبة وضرورية، أو ممتنعة وغير قابلة للجمع، أو ممكنة وقابلة للانفصال.
(122)إن قولنا: «كل مفهوم بالنسبة إلى أيّ مفهوم آخر» لا يعني بالضرورة وحتمًا أن يكون في البين معنيان ومفهومان مختلفين، بل يمكن أخذ المفهوم بنظر الاعتبار مع ذاته أو مع نقيضه أو مع مفهوم ثالث.
إن الكيفيات الثلاثة أعلاه تُسمّى بمادة القضية. ويمكن ذكر هذه الكيفية في ذات القضية، والقول:
الثمانية زوج بالضرورة.
العسل أصفر بالإمكان.
الإنسان جبل قاسيون بالامتناع.
يطلق على الألفاظ التي تبيّن كيفية النسبة بين الموضوع والمحمول، مصطلح جهة القضية. إن القضية التي تكون لها جهة تُسمّى بالموجّهة. ومن الممكن أن تكون جهة القضية متطابقة مع مادة القضية ومن الممكن أن لا تكون متطابقة معها. لنفترض أن شخصًا قال بسبب حساباته الخاطئة: «إن كل عدد زوج هو غير أولي بالضرورة»؛ لأن كل عدد أولي إنما يقبل القسمة على نفسه وعلى الواحد، وجميع الأعداد الزوجية تقبل القسمة على اثنين، وعليه فإن قابليتها للقسمة ليس مقتصرًا على نفسها وعلى العدد واحد. في هذا المورد تكون جهة القضية هي الضرورة، بيد أن مادتها ليست هي الضرورة؛ وذلك لأن العدد اثنين أولي؛ لأنه يقبل القسمة على نفسه وعلى العدد واحد.
فيما يتعلق ببداهة مفهوم الوجود، قلنا في الفصل الثاني: إن مفاد الحمل هو الهوهوية وعينية عنوان الموضوع والمحمول في الموجبة. إن كل واحد منهما يُظهر
(123)مصاديقه الافتراضية، دون أن نحكم بشأن وجود مجموعة الموضوع أو المحمول، وحتى بعد نسبة مجموعتي الموضوع والمحمول لا يدلّ ذلك على وجود شيء يصدق عليه عنوانان، بل إن الوجود العيني تابع لنوع الموضوع والمحمول اللذين يتمّ استعمالهما في القضية؛ من ذلك لو قيل مثلًا: «زيد قائم» سوف يكون مفاد الحمل هو الاتحاد والعينية المصداقية لزيد وقائم، ولكن حيث يكون زيد وقائم ناظرين إلى أمر خارجي، فإنهما يدلان بالملازمة على وجود واحد يصدق عليه عنوان زيد وقائم، وأما إذا قيل: «المثلث له ثلاث زوايا»، فلا يعني أن المثلث موجود في الخارج. وعلى هذا الأساس كلما نسبنا الموضوع والمحمول إلى بعضهما، وعملنا على بيان كيفية النسبة، فإن مفاد القضية لا يخرج عن واحد من هذه الحالات الثلاثة، وهي: إما أن يكون للموضوع والمحمول مصداق واحد بالضرورة، إذا كانت جهة القضية هي الوجوب، أو يكون من الممتنع على الموضوع والمحمول أن يكون لهما مصداق واحد، إذا كانت جهة القضية ممتنعة، أو يكون من الممكن أن يكون للموضوع والمحمول مصداق واحد، إذا كانت جهة القضية إمكانية.
وعليه فإن العينية الضرورية للموضوع والمحمول لا تعني الوجود الضروري لهما بوجود واحد، بل هو تابع للمفهوم الذي يقع موضوعًا أو محمولًا؛ ومن هنا تكون قضية «العدم عدم» قضية ضرورية، بمعنى أن مصداق الموضوع والمحمول لا ينفصلان ضرورة؛ بمعنى أن مفهوم العدم الذي يُظهر مصداقه الافتراضي متحد مع نفسه. وبعبارة أخرى: في دائرة العدم يكون مصداق العدم هو نفسه، وإن هذه العينية ضرورية.
(124)إن لكل قضية حملية نسبة، وإن جهات القضايا هي التي تبيّن كيفية تلك النسبة، ومن هنا فإن المناطقة يرون أن القضايا الموجهة لها أربعة أجزاء، وهي: الموضوع، والمحمول، والرابط، والجهة. وعليه فإن القضية من حيث أنها تحكي عن أمر تكون حاكية، وإن الذي تحكي عنه هو المحكي. وعلى هذا الأساس فإن كل واحد من أجزاء القضية بدوره يحكي عن معنى يُسمّى بالمحكي، سواء أكانت القضية صادقة أم كاذبة، من ذلك مثلًا في قضية: «المثلث له أربع زوايا بالضرورة»، إن كل واحد من أجزاء هذه القضية يحكي عن المعنى والمفهوم والمحكي، وإن المحكي في كل هذه القضية هو اشتمال المثلث على أربع زوايا بالضرورة، وهذا لا يتطابق مع الواقع ونفس الأمر. وبعبارة أخرى: إن كل قضية لها مفاد ومضمون نعبّر عنه بمحكي القضية، وكلما كان محكي القضية متطابقًا مع الواقع ونفس الأمر كان صادقًا، وإلا فهو كاذب. وعليه فإن الحاكي والمحكي وجهان لعملة واحدة حيث يحكيان عن واقع واحد. وعلى هذا الأساس فإن كل قضية ناظرة إلى واقع وهي إما أن تطابق هذا الواقع أو لا تطابقه. وبذلك يكون الواقع ونفس الأمر عبارة عن مطابَق القضية. وتسمى كيفية النسبة جهة، ومطابَق هذه الكيفية مادة. وفي المنطق يكون بحث الجهات ناظرًا في الغالب إلى المحكي أكثر منه إلى الحاكي.
لا شك في أن الجهات موجودة؛ لأنها تمثّل كيفية النسبة. فإن لكل قضية نسبة، وإذا تمّ الالتفات إلى كيفية النسبة، سوف يصبح وجود الجهات محرزًا؛ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ في قضية: «المثلث له ثلاث زوايا بالضرورة»، كما أن النسبة في هذه القضية موجودة، يكون قيدها ـ المعبّر عنه بـ «الضرورة» ـ موجودًا أيضًا.
(125)ولكن هل هناك وجود لمادة القضية أيضًا؟ وإذا كانت موجودة فما هو معناها؟ حيث أن المادّة هي كيفية النسبة بين الموضوع والمحمول في الواقع ونفس الأمر، يرد هذا السؤال القائل: هل لهذه النسبة وجود في الخارج أصلًا؟
إن هذا السؤال إنما ينشأ من حيث أن القضية من حيث هي قضية، فإن لها في ظرف الذهن نسبة من دون شك؛ إذ في غير هذه الصورة لن يكون للموضوع صلة بالمحمول. لو تمّ الالتفات إلى كيفية هذه النسبة، سوف يتمّ إحراز وجود الجهة في الذهن، ولكن هل يمكن أن تكون هناك على طبقها نسبة في الخارج لتكون لها كيفية أيضًا؟ قد يُقال بحق: ليست هناك نسبة في الخارج أصلًا كي تكون لها كيفية؛ فمثلًا عندما نلتفت في الذهن إلى قضية «إن زيدًا هو زيد بالضرورة» بوصفها قضية، يكون لها موضوع ومحمول ونسبة، ولكن عندما نعمل على تطبيق هذه القضية على الخارج، فإننا على الرغم من اكتشاف صدقها، ولكننا لا نعثر على عنوانين مرتبطين ببعضهما بحيث تكون لها كيفية، بل إن الذي نجده هو حقيقة باسم زيد.
وبطبيعة الحال لا يمكن أن يُستفاد من هذا القول الحق عدم وجود أيّ نسبة في الخارج، بل معنى ذلك هو أنه ليس لها وجود منحاز ومنفصل عنه، كما أن الأمر كذلك في الذهن أيضًا. فلو اعتبرنا النسبة بين الموضوع والمحمول أمرًا مستقلًا إلى جوار الموضوع والمحمول، لن تكون هناك بعد ذلك نسبة بينهما، وإنما سوف تكون ثلاثة أمور منفصلة عن بعضها، وليس هناك أيّ ارتباط بينها. إن الموضوع إنما يرتبط بالمحمول حيث لا تكون النسبة شيئًا ثالثًا، بل إن وجود النسبة هو عين ارتباط الموضوع بالمحمول. ولكن عندما ننظر إلى القضية نعمل على تحليلها إلى موضوع ومحمول ونسبة. وعلى هذا الأساس كما أن النسبة ليس لها وجود مستقل في الخارج، كذلك ليس لها وجود مستقل في الذهن أيضًا. لو قلنا بالنسبة إلى المثال السابق: هل يمكن لزيد الموجود في الخارج مع أنه زيد أن لا يكون زيدًا؟ وبعبارة أخرى: هل
(126)يمكن لنا تجريد زيد من زيديته؟ من الواضح جدًا أن هذا الأمر غير ممكن؛ وعليه يكون زيد في الخارج هو زيد بالضرورة، وتكون القضية متطابقة مع الخارج، وإن الخارج عبارة عن واحد شخصي. ولكن عندما يتمّ تحليل هذا الواحد الشخصي في الذهن فسوف يتعدد، وإن الذهن بعد التحليل يجد أن الأجزاء التي تمّ تحليلها متطابقة مع ذلك الشيء؛ بمعنى أن منشأ انتزاع هذه التحليلات هو الخارج، وعلى هذا الأساس يتم تحليل أمر خارجي إلى أمرين في مرحلة الذهن، كما نقول إن لهذين الأمرين مصداقًا واحدًا في الخارج؛ وبطبيعة الحال لا بمعنى أن يكون لكل واحد منهما مصداق مستقل. بالنظر إلى هذا المعنى تكون للنسبة في القضية مطابَق؛ بحيث تكون نسبة القضية مطابِقة له تارة ولا تكون مطابِقة له تارة أخرى. وعليه فإن معنى المصداق الضروري للقضية ـ فيما لو كانت صادقة ـ لا يعني أن للضرورة مصداقًا منفصلًا ومستقلًا، بل إنه في بعض الموارد من قبيل حمل الشيء على نفسه ليس لا تكون هناك نسبة وضرورة مستقلة فحسب، بل حتى المحمول لا يكون له وجود مستقل، وفي الأساس ليس هناك في الخارج سوى شيء واحد، ولكن الذهن يضطرّ إلى تحليل ذلك الشيء، وفي ظرف التحليل ينسب أحدهما إلى الآخر. وعليه يجب الالتفات إلى أننا عندما نقول: «لها مصداق» أو حتى «لها وجود» لا بمعنى أن لها مصداقًا ووجودًا عينيًا، بل تكون في بعض الأحيان بمعنى عين العدم؛ فمثلًا في قضية «العدم عدم بالضرورة» ندّعي أن للنسبة مصداقًا في الواقع ونفس الأمر وكيفيته هي الضرورة، إلا أن مصداق وحتى وجود الضرورة في القضية أعلاه هي عين العدم؛ بمعنى أن كل عدم في دائرة العدم هو عين الانعدام والافتقار إلى الهوية، يكون بالضرورة مصداقًا لنفسه. وعليه فإن وجود نسبة القضية وكيفيتها في الواقع ونفس الأمر، بمعنى أن واقع كل قضية هو بالشكل الذي تنتزع منه هذه المفاهيم.
(127)إن الضرورة المطلقة أو الضرورة الأزلية تُستعمل في القضايا التي يكون فيها المحمول ضروريًا بالنسبة إلى الموضوع دون أيّ قيد أو شرط. إن هذه الضرورة تخص القضايا التي يكون موضوعها هو الله سبحانه وتعالى الذي تُحمل أوصافه الذاتية على ذاته الطاهرة بنحو الضرورة الأزلية. إن هذه الضرورة ليست مقيّدة حتى بدوام موضوعها أيضًا، وإن عدم التقيّد هذا ليس بمعنى ضرورة المحمول بالنسبة إلى الموضوع مع عدم الموضوع، بل بمعنى أن الموضوع في الواقع وفي نفس الأمر لا يقبل العدم أبدًا. وعلى هذا الأساس حيث لن تكون ضرورة المحمول بالنسبة إلى الموضوع مقيدًا بأيّ قيد أو شرط، بل هو مطلق، فإنها تُسمّى بالضرورة المطلقة، وحيث أن وجود الموضوع لا يقبل النفي بأيّ ظرف من الظروف، فإنها تُسمّى بالضرورة الأزلية.
إن الضرورة الذاتية تستعمل في القضايا التي يكون المحمول فيها ضروريًا بالنسبة إلى الموضوع ما دام موجودًا، وما دام الموضوع موجودًا فإن المحمول لا ينفصل عنه. ويتمّ بيان ذلك في المنطق بقيد «ما دام بالذات»، بمعنى أنه لا يمكن تحقيق الموضوع من دون محمول.
إن الفرق بين الضرورة المطلقة والضرورة الذاتية يكمن في أن الموضوع في الضرورة المطلقة أو الأزلية ليس مقيّدًا بدوام الذات؛ إذ أن افتراض الوجود عنه غير معقول، خلافًا للضرورة الذاتية حيث يكون الموضوع فيها مقيدًا بدوام ذات الموضوع، بحيث لا يكون افتراض عدم الموضوع غير معقول، ولذلك فإنه في ظرف عدم الموضوع يمكن سلب المحمول عن الموضوع؛ من ذلك ـ مثلًا ـ أن الزوجية
(128)ضرورية للعدد أربعة في ظرف ثبوته، وأما إذا لم يكن العدد أربعة موجودًا، فلن تكون هناك زوجية في البين.
وعلى هذا الأساس فإن المحمول ـ في الضرورات الذاتية ـ يكون ظرفًا لتحقق الموضوع، فإن للضرورة الذاتية أقسام بلحاظ المصداق:
1. حمل الشيء على نفسه، من قبيل: «الإنسان إنسان»؛ لا يكون وجود الموضوع لازمًا في الضرورة الذاتية؛ بمعنى أنه حتى إذا لم يكن هناك أيّ إنسان في الوجود، سوف يكون الإنسان إنسانًا بالضرورة. إن ما هو واجب ولازم في الضرورة الذاتية، هو المصداقية الافتراضية والعقلية للموضوع الأعم من أن يكون موجودًا في الواقع أو غير موجود في الواقع. وعلى هذا الأساس تتمتع حتى قضية «العدم عدم» بالضرورة الذاتية أيضًا؛ بمعنى أنكم إنما تستطيعون القول: «العدم عدم» فيما إذا اعتبرتم عدمًا في دائرة العدم، وإن العدم بهذا الاعتبار يكون قد اكتسب نوعًا من الوضع بهذا الاعتبار، وإن كان هذا الوضع هو عين العدم والافتقار إلى الهوية.
2. حمل ذاتيات الشيء على الذات، من قبيل: «الإنسان حيوان».
3. الحمل الذاتي الأولي، من قبيل: «الإنسان حيوان ناطق».
في هذين الحملين الأخيرين لا يكون الوجود العيني للموضوع ضروريًا. وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن القضايا التحليلية في مصطلح إيمانوئيل كانط، تشتمل على ثلاثة عناوين، وهي: حمل الشيء على نفسه، وحمل ذاتيات الشيء على الذات، والحمل الذاتي الأولي.
4. حمل لوازم الذات على الذات: تطلق اللوازم في المنطق بحسب المصطلح على المحمولات التي وإن لم تكن داخلة في مفهوم الموضوع، ولكنها من حيث المصداق لا تقبل الانفكاك عن الموضوع، فمثلًا لو افترضنا مفهوم المثلث «شكلًا له ثلاثة
أضلاع مغلقة»، فإن اشتماله على ثلاث زوايا مجموعها 180 درجة، سوف يكون من اللوازم التي لا تنفك عن المثلث؛ إذ بناء على التعريف لا يكون الاشتمال على ثلاث زوايا جزءًا من مفهوم المثلث، ولا يكون من المحمولات التي تكون موجودة مع الموضوع تارة ولا تكون موجودة معه تارة أخرى.
وإن حمل لوازم الذات على الذات ينقسم بدوره إلى قسمين، وهما أولًا: المجموعة التي تحتاج ـ في الحمل اللازم على الموضوع ـ إلى البرهان. وثانيًا: المجموعة التي لا تحتاج ـ في الحمل اللازم على الموضوع ـ إلى البرهان، وهي التي يتمّ التعبير عنها باللوازم البيّنة. إن اللوازم البيّنة من مصاديق الأوليات في الصناعات الخمسة التي يكفي مجرّد تصور الموضوع والمحمول فيها للتصديق بها، من قبيل قولنا: «الكل أكبر من جزئه».
إن القضية التي ترى ضرورة المحمول بالنسبة إلى الموضوع بشرط الوجود الوصفي، تُسمّى بالمشروطة العامّة وتُسمّى ضرورتها بالضرورة الوصفية، وذلك المحمول إنما يكون ضروريًا بالنسبة إلى الموضوع بشرط هذا الوصف، سواء أكان من دون الوصف بالنسبة إلى الموضوع ضروريًا أم لا، من قبيل القضية القائلة: «كل كاتب تتحرك يده أثناء الكتابة بالضرورة». إن موضوع القضية ـ في هذا المورد ـ ليس هو ذات الكاتب بغض النظر عن كونه كاتبًا، حيث لا تكون حركة يده ضرورية بالنسبة إليه في الحالات العادية، بل إن ذات الكاتب بوصف الكتابة التي عرضت عليه بالفعل، هو الذي وقع موضوعًا للقضية. وعلى هذا الأساس فإن المحمول بالنسبة إلى هذا النوع من الموضوع هو (الذات مع الوصف)، ضروري. فلو أن كاتبًا في الظروف العادية، لا يحرّك يده أثناء الكتابة، فإن هذا الأمر سوف يستلزم التناقض.
إن من بين الضرورات الأخرى التي يرد ذكرها في المنطق، هي الضرورة بشرط المحمول. عندما يتحد محمول مع موضوع في الخارج، ويوجدان بوجود واحد، سوف تكون النسبة بينهما في ظرف الاتحاد ضرورية؛ فمثلًا إن قضية: «أنا أكتب الآن بالضرورة» تحكي عن الضرورة بشرط المحمول؛ إذ لو نسب لي عدم الكتابة وأنا أكتب، فسوف يلزم من ذلك التناقض؛ بمعنى أنه لا يمكن القول: «أنا أقوم الآن بالكتابة» و«أنا لا أقوم الآن بالكتابة». لو أخذنا الكتابة هنا مع ذاتي بنظر الاعتبار، بغض النظر عن حالة الكتابة التي عرضت له، سوف تكون نسبة الكتاب لي نسبة إمكانية، وأما في الضرورة بشرط المحمول؛ فإنه يتمّ أخذ المحمول بشرط وجوده بالنسبة إلى الموضوع بنظر الاعتبار، ويجعلون الضرورة حاكمة بهذا الشكل.
لقد ميّز الفلاسفة الغربيون بين نوعين من الجهات. فتارة يجعلون الجهة وصفًا لذات القضية، ويرونها بحسب المصطلح ناظرة إلى الحكم في القضية، من قبيل قضية: ضرورة «الإنسان الواقف واقف» والتي يتمّ التعبير عنها بالجهة الناظرة إلى الحكم (de dicto Modality). وتارة يرون الجهة ناظرة إلى واجدية الموضوع بالنسبة إلى المحمول أيضًا، من قبيل: «الإنسان القائم قائم بالضرورة»، ويعبّرون عنها بالجهة الناظرة إلى الواقع (de re Modality). وفي ضوء ذلك تنقسم الضرورة بدورها إلى الضرورة الناظرة إلى الحكم (de dicto Necessity) والضرورة الناظرة إلى الواقع (de
re necessity). إن هذا هو التفسير الذي يقدّمه كريبكي وبلانتينجا عن الجهة الناظرة إلى الحكم والجهة الناظرة إلى الواقع، والتي على أساسها ستكون الضرورة الناظرة إلى الواقع هي ذات الضرورة في جهات القضايا في المنطق الإسلامي، والضرورة الناظرة إلى الحكم هي ذات ضرورة الصدق في المنطق الإسلامي، وهو الذي ذكره الشيخ الرئيس في كتاب (الإشارات والتنبيهات)
صراحة. وعمد إلى تطبيق كلام أرسطو القائم على ضرورة مقدمات البرهان بوصفه احتمالًا على ضرورة الصدق.إن كريبكي وبلانتينجا في هذا التفسير يقبلان بالضرورة الناظرة إلى الواقع، والتي هي بناء على الفلسفة والمنطق الإسلامي ذات جهة ضرورة القضايا الصادقة، بمعنى انعكاس الواقع والمادة.
وبطبيعة الحال فإن هذا ليس هو التفسير الوحيد للضرورة الناظرة إلى الواقع والضرورة الناظرة إلى الحكم؛ إذ هناك في المقابل من ينكر الضرورة العينية، وهناك من أمثال كواين من ينكر الضرورة الناظرة إلى الحكم، ويقدمون تفسيرًا آخر لهاتين الضرورتين. إن الذين ينكرون الضرورة الناظرة إلى الواقع يدّعون أنه لا يمكن في الواقع وفي نفس الأمر وصف الشيء بالضرورة أو الإمكان، وذلك لأن الضرورة والإمكان أمر نسبي وتابع لكيفية توصيفنا للشيء؛ من ذلك أنه لا يمكن الإشارة إلى اللاعب الدولي حميد استيلي، والقول: «إنه هو الشخص الذي كان يمكن أن يحرز الهدف الأول لإيران على المنتخب الوطني للولايات المتحدة الأمريكية في مونديال كأس العالم لكرة القدم الذي أقيم في فرنسا سنة 1998 م». وذلك لأن المدّعى هو أنه لو وصفنا هذا الشخص باعتباره أول من أحرز الهدف لمنتخب إيران الوطني لكرة القدم سنة 1998 م في مونديال فرنسا، ففي مثل هذه الحالة يكون
إحراز الهدف بالنسبة إليه ضروريًا، ولكن لو وصفناه باعتباره «حميد استيلي» سوف يكون إحراز الهدف بواسطته إمكانيًا. وعلى هذا الأساس فإن الضرورة والإمكان ليسا واقعية عينية، بل إن ذلك رهن بطريقة توصيفنا للشيء. وهنا سوف نتجاوز ذكر أدلة الطرفين
ونكتفي ببيان هذه النقطة، وهي أن طريقة بياننا للشيء، تعمل على تغيير موضوع القضية. لو كان موضوع القضية هو حميد استيلي، فحيث يكون الموضوع عَلَمًا واسمًا خاصًا، وإن العلَم والاسم الخاص ـ كما ذكرنا في الفصل الأول ـ لا ينطوي على أيّ معنى سوى الذات، فإن إحراز الهدف لن يكون من أوصافه الضرورية. وأما لو أخذنا هذه الذات مع اتصافها بإحراز الهدف، ففي مثل هذه الحالة سوف يتغيّر موضوع القضية، ويكون وصفه بإحراز الهدف ضروريًا. وأما إذا لم تُحدث طريقة بياننا في موضوع القضية فارقًا، وبقي الموضوع كما كان عليه سابقًا، أمكن لنا أن نستنتج أن الضرورة الناظرة إلى الواقع لا حقيقة لها.هناك من فلاسفة الغرب من يفرّق بين الضرورة المنطقية
وبين الضرورة التجريبية أو الواقعية . والذي نهتمّ ببحثه هنا هو التعريف بالضرورة المنطقية. وقد عمد بارنز إلى بيان الضرورة المنطقية على النحو الآتي: «إن الضرورة المنطقية معروفة بما يكفي: إن القضية إنما تكون ضرورية من الناحية المنطقية، إذا ـ وفقط إذا ـ كان نفيها يستلزم التناقض» .مع أيّ واحدة من الضرورات الذاتية أو الوصفية أو بشرط المحمول يمكن أن
تنطبق الضرورة في ضوء هذا المصطلح؟ إذا كان المراد من التناقض في كلام بارنز هو القضية التي تشتمل على تناقض في داخلها ويُصطلح عليها بالمتناقضة ذاتيًا، عندها يكون المراد من الضروري هو التحليل الذي يمكن أن ينطبق مع جزء من الضرورة الذاتية والوصفية. وأما إذا كان المراد من التناقض في كلام بارنز هو أن نفي القضية الضرورية سوف يؤدّي في نهاية المطاف إلى أن نواجه قضايا تناقض بعضها، ففي مثل هذه الحالة سوف تتطابق مع كل واحد من الضرورات الذاتية والوصفية وبشرط المحمول.
من الواضح جدًا أن نفي كل ضرورة بشرط المحمولية لا يستلزم تناقضًا داخليًا؛ من ذلك ـ مثلًا ـ أن قضية «أنا لا أكون في حالة كتابة، في حين أني أكتب» ليست قضية متناقضة، وذلك لأن قضية «أنا في حالة كتابة» ليست قضية تحليلية، ولكن حيث أني في حالة كتابة، إذن قضية «أنا في حالة كتابة» سوف تكون صادقة، وإن نفيها ـ أي «أنا لست في حالة كتابة» ـ سوف يكون كاذبًا، وإن الجمع بين هاتين القضيتين سوف يكون متناقضًا.
إن بعض الفلاسفة الغربيين يستعملون القضية الضرورية بمعنى القضية التحليلية. يذهب الوضعيون إلى الاعتقاد بأن جميع القضايا التحليلية ضرورية، وأن جميع القضايا التأليفية إمكانية. وفي حدود ما يتعلق بالمصطلح، يمكن القول: إن بمقدور كل شخص أن يعمل على وضع المصطلحات؛ إذ «لا مشاحّة في الاصطلاح»، ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أنه لا ينبغي تفسير المصطلح الشائع بشكل يفرغه من مضمونه ومحتواه. صحيح أن كل قضية تحليلية ضرورية؛ بمعنى أن المحمول لا يقبل الانفكاك والانفصال عن الموضوع، ولكن لا ينبغي اعتبار
(134)القضية الضرورية بمعنى القضية التحليلية، إذ لكل واحد منهما معنى مختلفًا، وإن كان يمكن أن يتصادقان في بعض الموارد. إن القضية التحليلية هي القضية التي يكون فيها مفهوم المحمول عين مفهوم الموضوع أو من الأجزاء المفهومية للموضوع، بيد أن القضية الضرورية هي التي لا ينفصل فيها المحمول عن الموضوع، سواء أكان مفهوم المحمول عين الموضوع أو من أجزائه المفهومية، أو ينفصلان عن بعضهما من الناحية المفهومية. وعلى هذا الأساس فإن قضية «المثلث له ثلاثة أضلاع» قضية تحليلية وقضية ضرورية أيضًا، بيد أن قضية «المثلث له ثلاث زوايا» إنما هي قضية ضرورية فقط، وليست تحليلية. وذلك بطبيعة الحال مع افتراض أن يتمّ تعريف المثلث بوصفه مثلثًا له ثلاثة أضلاع مغلقة، وفي هذه الحالة، على الرغم من الاتصاف بالزوايا الثلاثة ليس داخلًا في الحقل المفهومي للمثلث، بيد أن التحقق الخارجي والتمثّل الذهني للمثلث لا ينفصل عن الاشتمال على ثلاث زوايا.
إن المواد الثلاثة في المنطق عبارة عن كيفية نسبة المحمول مع الموضوع ـ على ما سبق توضيحه ـ وأما في الفلسفة، فإن المواد الثلاثة عبارة عن كيفية نسبة الوجود إلى كل موضوع. وبعبارة أخرى: إن كل شيء في الواقع ونفس الأمر إما أن يكون الوجود بالنسبة إليه ضروريًا وواجبًا، أو ممتنعًا، أو لا ضروريًا ولا ممتنعًا بل ممكنًا. وكذلك فإن القضية التي تشتمل على واحدة من الجهات، تُسمّى بالموجّهة. وعلى هذا الأساس فإن المواد والجهات في الفلسفة أخص من المواد والجهات في المنطق، إذ في الفلسفة إنما يتمّ التعامل مع الهليات البسيطة، وأما في المنطق فيتم البحث في الهليات البسيطة وفي الهليات المركّبة أيضًا.
إن واجب الوجود بدوره ينقسم إلى قسمين، وهما: واجب الوجود بالذات، وواجب الوجود بالغير، وإن الوجوب بالذات إنما يستعمل حيث يكون الوجود بالنسبة إلى ذات الموضوع ضروريًا من دون أيّ قيد أو شرط، وأن لا يكون موضوع القضية مقيّدًا بأيّ حيثية أبدًا، سواء في ذلك الحيثية التعليلية أو التقييدية. وعلى هذا الأساس فإن الوجود الذاتي في الفلسفة أخص من الضرورة المطلقة أو الأزلية؛ وذلك لأن المحمول في الضرورة المطلقة أعم من الوجود وغير الوجود، بيد أن الوجوب الذاتي في الفلسفة إنما ينحصر في محمول الوجود، وموضوعه خصوص ذات الله تعالى؛ إذ أن الله وحده هو الموجود بالضرورة دون أيّ حيثية تعليلية أو تقييديّة. وبطبيعة الحال فإننا لا ندعي هنا أن قضية «إن الله موجود بالضرورة» أو «إن الله واجب الوجود» من القضايا البديهية التي لا تحتاج إلى إثبات، بل إنه مع افتراض وجود الله، نرى أن الوجود بالنسبة إليه ضروري من دون أيّ قيد أو شرط.
إذا كان الوجود ضروريًا بالنسبة إلى الموضوع بواسطة الغير، سمّي ذلك الوجود واجبًا بالغير؛ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن الوجود بالنسبة إلى ماهية الإنسان في حدّ ذاته لا هو ضروري ولا هو ممتنع، بل هو ممكن الوجود، وما لم تكن هناك علة تجعل ممكن الوجود واجبًا فإنه لن يوجد، وعليه فإنه من خلال إعطاء الوجود من طرف العلّة يصبح ممكن الوجود واجب الوجود بالغير؛ بمعنى أن الوجود بالنسبة إلى الموجودات الإمكانية يصبح ضروريًا بالحيثية التعليلية.
والماهية المقيدة بالوجود بدورها ما لم تقم علة بإعطاء الوجود لها، وتمنحها الوجوب، لن تكون موجودة؛ وعليه فإن الضرورة بالنسبة إلى الماهية تحتاج إلى حيثية
(136)تعليلية وتقييدية؛ بمعنى أن الماهية الموجودة إنما تصبح ضرورية الوجود مع وجود العلة المفيضة للوجود. وعلى هذا الأساس لو كانت الماهية الممكنة موضوعًا في الهلية البسيطة، فإنها بالنسبة إلى ضرورة الوجود تحتاج إلى حيثية تعليلية وتقييدية، وأما إذا كان الموضوع هو وجود الإنسان، ففي مثل هذه الحالة سوف يكون وجود الممكن ضروري الوجود بشرط أن تعمل العلة على إيجاده، وعليه فإن الوجود الممكن مقيّد بحيثية تعليلية.
وعلى كل حال فإن موضوع القضية في الوجوب بالغير، مقيّد بالحيثية التعليلية، ومعنى ذلك أن الماهية الموجودة والوجود الممكن، ما داما موجودين، فإن الوجود بالنسبة إليهما يكون ضروريًا. وعليه فإن الضرورة والوجوب في الواجب بالغير مقيدان بدوام وجود الموضوع، وعلى هذا الأساس يكون قابلًا للتطبيق على الضرورة الذاتية في المنطق.
بالنظر إلى ما تمّ بيانه وتوضيحه في «الواجب بالذات» و«الواجب بالغير»، فقد اتضح أن الوجود الضروري ينسجم مع الواجب بالذات، ومع الواجب بالغير أيضًا. وعلى هذا الأساس كلما كان هناك موجود في الخارج، وتمّ بيانه على شكل الهليّة البسيطة الموجهة، أمكن تقريره على النحو الآتي: «(X) موجود بالضرورة أو بالوجوب»، ويمكن من الناحية الأدبية أن نجعل «بالضرورة» أو «بالوجود» اللذين وقعا في القضية قيدًا للنسبة، محمولان للقضية، بشرط أن نصنع منهما مشتقًا ونضيفه إلى مبدأ المحمول ونقول: «(X) ضروري الوجود» أو «(X) واجب الوجود». في كلا هذين الموردين سوف يكون المحمول «ضروري الوجود» أو «واجب الوجود»، وبالنظر إلى مفهوم «الواجب بالذات» ومفهوم «الواجب بالغير» يمكن لضروري
(137)الوجود وواجب الوجود أن يكون مصداقًا للواجب بالذات ومصداقًا للواجب بالغير أيضًا، بيد أن استعمال «واجب الوجود» في الفلسفة بشكل مطلق يراد منه هو واجب الوجود بالذات؛ حيث يكون الوجود بالنسبة إليه ضروريًا من دون أيّ قيد أو شرط.
كما سبق أن ذكرنا في وجود الجهات والمواد، ففي القضية الموجبة تكون نسبة وجهة القضية الحملية الموجبة الصادقة موجودة في الذهن، وحيث تكون القضيّة صادقة ومتطابقة مع الخارج، يمكن القول: إن هذه النسبة موجودة في الخارج بمعنى من المعاني، ولكن لا بالوجود المستقل الجوهري أو العرضي، كما هو الحال بالنسبة إلى وجود الإنسان أو البياض في الخارج، بل هي موجودة بالنظر إلى منشأ انتزاعها؛ وعلى هذا الأساس فإن الوجود الذي هو كيفية النسبة، ليس له وجود مستقل. وعليه فإن الذات أو الشيء الذي يكون الوجود ضروريًا بالنسبة إليه يكون حقيقة يعمل عقل الإنسان على تحليلها إلى الذات أو الشيء والوجود، ثم يدرك أن هذه الذات في الواقع لا تنفصل عن الوجود بأيّ وجه من الوجوه، ولذلك فإنه ينسب الوجود إلى الذات، ويجعل هذه النسبة مكيّفة بالوجود؛ ومن هنا يكون وصف الوجوب مفهومًا انتزاعيًا.
إذا ثبت الوجود للموضوع بالضرورة المطلقة ـ أي: من دون أيّ قيد أو شرط ـ فإن هذا الموضوع سوف يكون له وجود مستقل وأزلي وغير تبعي، بل وسوف يكون وجوده سرمديًا؛ وذلك لأن المحمول إذا كان ثابتًا لذات ما بالضرورة المطلقة،
(138)فإن وجوده لن يكون تابعًا للغير أبدًا، وذلك لأن الوجود التابع إلى الغير يكون في وجوده وعدمه تابعًا إلى ذلك الغير، وإن وجود ذلك الغير ليس تابعًا إلى هذا الوجود، وعليه فإنه ينعدم بانعدام ذلك الغير ويوجد بوجوده، وكذلك لا وجود له في ظرف وجود الغير، في حين يقوم الافتراض على أنه في وجوده ليس تابعًا لأيّ شرط أو ظرف. وعلى هذا الأساس لو لم تكن تلك الذات في وجودها مقيّدة أو مشروطة بأيّ شرط، فسوف تكون موجودًا مستقلًا وغير تبعي، وفي هذه الحالة لا يمكن افتراضها في ظرف وافتراض غير موجودة؛ ومن هنا يكون وجود مثل هذه الذات أزليًا وسرمديًا، ولا يمكن سلب الوجود عنها في أيّ لحظة من الزمن. إن هذا النوع من الوجود ليس زمانيًا ولا هو مقيد بالزمان؛ وذلك لأن الموجود الزمني وجود مطاط، حيث يوجد في كل جزء من الزمن جزء من الذات، ولذلك يمكن الإشارة في مقطع من الزمن إلى مقطع زمني آخر، والقول: إن هذا الشيء معدوم وغير موجود في تلك الحصّة الزمنية؛ وذلك لأن ذات تلك الحصّة الزمنية معدومة حاليًا. وعليه لا يكون لوجوده نسبة مع ذاته بشكل مطلق، في حين يقوم الافتراض على أن الوجود ضروري بشكل مطلق ومن دون أيّ قيد أو شرط. ومن هنا فإن نسبة السرمدية إلى مثل هذه الذات لا يعني أن له زمنًا لا نهاية له، بل بمعنى أن وجوده لا يخلو في أيّ زمان، وإن لم يكن مقيدًا بزمان، بل يفوق الزمان ويكون مهيمنًا عليه بحسب المصطلح.
(139)يُطلق مصطلح «البرهان» في المنطق على قسم من القياس، الذي هو بدوره قسم من الحجة. ولكي نعمل على إيضاح مرادنا من «البرهان»، يجب أن نتناول بعض الأبحاث في هذا الشأن، وذلك على النحو الآتي:
أ ـ إن لدى كل إنسان مجموعة كبيرة من التصورات في ذهنه، وهو يراكم من أعدادها وكمياتها يومًا بعد يوم. وبطبيعة الحال فإن لهذه التصوّرات مناشئ وأقسامًا، ولكن ليس لذلك أهمية كبيرة في بحثنا؛ بمعنى أنه ليس من المهم بالنسبة لنا أن نعلم من أين جاء مفهوم العلة والإله والوحدة والماء والأوكسجين والأصفر والحامض، وما هي المسارات التي سلكها الذهن للوصول إلى هذه الأمور، وإنما الشيء الوحيد الذي يهمنا هنا، هو وجود ذات هذه المفاهيم. كما أنه ليس من المهم بالنسبة لنا أن نعلم ـ على سبيل المثال ـ ما هو الفرق بين مفهوم الوحدة والحامض، وإن كانت هذه الاختلافات وتبويب التصوّرات والمفاهيم تعدّ مهمّة في محلها.
ب ـ إن كل واحد من المفاهيم والتصوّرات ـ من حيث أنه تصوّر ومفهوم ـ يحكي عن شيء نسمّيه بالمحكي. إن المفهوم والتصوّر بمنزلة المرآة التي تنعكس فيها الصورة، فإن مفهوم الأوكسجين والأرنب ـ على سبيل المثال ـ إنما يحكي عن شيء هو الأوكسجين والأرنب. حتى أنه لو انعدم العالم والكون ولم يبق أي أوكسجين وأرنب في الخارج، يبقى مفهوم الأوكسجين والأرنب يحكي عن محكيّه.
ج ـ إن تنوّع المفاهيم لا يعني بالضرورة تباينها المفهومي؛ إذ من الممكن أن يكون المفهومان المتمايزان متباينين أيضًا، من قبيل: مفهوم «الأبيض» و«الحامض»، أو لا يكونان متباينين، كأن يشتمل مفهوم ما ـ مثلًا ـ على مفهوم أو عدّة مفاهيم، من قبيل: مفهوم «المثلث» الذي يتضمّن كل واحد من المفاهيم الآتية، وهي: «الثلاثة» و«الضلع» و«المغلق».
د ـ وعلى هذا الأساس يمكن لنا القول إن كل شخص يمتلك في ذهنه، (n) من المفاهيم. فلو كان الشخص يمتلك مفهومًا واحدًا في ذهنه، عندها يكون (n = 1)، وإن كان يمتلك مفهومين في الذهن، عندها يكون لديه (n = 2)، وهكذا. إن مرادنا من الوحدة المفهومية، هو أن يقع كل مفهوم في الحدّ الأدنى بإزاء لفظ واحد، وينتقل الإنسان من هذا اللفظ إلى ذلك المفهوم. وعلى هذا الأساس فإن تركيب لفظين يدلّ كل واحد منهما على مفهوم، يدلّ بنفسه على مفهوم ثالث، من قبيل: «شخص أعمى» أو «حيوان ناطق».
أ ـ كما توجد بعض التصوّرات في ذهن الإنسان، فإنه يحتفظ في ذهنه ببعض القضايا سواء أكان يذعن بها أم لا، وسواء أكانت صادقة أم كاذبة.
ب ـ إن القضايا إما مركّبة أو بسيطة. إن القضايا المركّبة تتألف من القضايا البسيطة. وإن القضايا البسيطة بدورها هي القضايا التي تتألف ـ في الحدّ الأدنى ـ من تصوّرين، ومفادها الاتحاد بل والوحدة بين تلك الصورتين. وتُسمّى القضايا البسيطة حملية، ويُسمّى كل واحد من التصورين موضوعًا ومحمولًا. من الممكن أن يكون كل واحد من الموضوع والمحمول مؤلفًا من عدّة تصوّرات، من قبيل: «الإنسان حيوان ناطق»؛ حيث أن المحمول هنا مركّب من «الحيوان» و«الناطق».
ج ـ يمكن لكل شخص أن ينسب مفهومًا إلى مفهوم آخر؛ بمعنى أن بمقدوره أن يعمل على حمل كل واحد من المفاهيم (n) على آخر أو يسلبه منه. فإن حمل مفهومًا على مفهوم سوف ينتج عن ذلك قضية موجبة، وإن عمد إلى سلب مفهوم عن مفهوم آخر فسوف ينتج عن ذلك قضية سالبة.
د ـ يمكن حمل مفهوم على نفسه أو سلبه عنها.
هـ ـ وعلى هذا الأساس، يمكن القول: إن كل شخص يمكنه بواسطة المفهوم (n) أن يصنع قضية (2n2) أو يواجه قضية (2n2)؛ إذ لو كان لدى شخص مفهومًا، من الممكن له أن يصنع قضيتين، بمعنى أن يحمل ذلك المفهوم على نفسه أو يسلبه منها.2=12 ×2
وإن كان لديه مفهومان فسوف يكون بمقدوره أن يصنع منهما ثمانية من القضايا 8=22 ×2؛إذ لو كان لدينا مفهوم (أ) و(ب)، أمكن لنا القول:
1. (أ) هو (ب).
2. (أ) ليس (ب).
3. (ب) هو (ب).
4. (ب) ليس (ب).
5. (أ) هو (ب).
6. (أ) ليس (ب).
7. (ب) هو (أ).
8. (ب) ليس (أ).
وإذا كان لديه ثلاثة مفاهيم، فسوف يواجه ثمانية عشر قضية، وهكذا.
و ـ لو كان لدينا مفهوم واحد فقط، فسوف نواجه قضية (2n2)، وأما إذا كان لدينا مفهومان أو أكثر، فسوف نواجه أكثر من (2n2) قضية؛ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أننا من خلال امتلاك المفهومين (أ) و(ب) بالإضافة إلى القضايا الثمانية الآنفة، سوف نواجه هذه القضايا أيضًا، وهي:
9. «(ب أ)» هو «ب أ)».
10. «(ب أ)» ليس «(ب أ)».
11. «(ب أ)» هو «(أ)».
12. «(ب أ)» ليس «(أ)».
13. «(ب أ)» هو «(ب)».
14. «(ب أ)» ليس «(ب)».
15. «(أ)» هو «(ب أ)».
16. «(أ)» ليس «(ب أ)».
17. «(ب)» هو «(ب أ)».
18. «(ب)» ليس «(ب أ)».
لو كان لدينا ثلاثة مفاهيم: (A)، (B)، (C)، يمكن لنا أن نصنع من مفهوم «ABC» مع نفسه ومع كل واحد من (A)، (B)، (C) قضية. وهكذا لو كان لدينا الـ (n) مفهوماً أيضًا.
وبطبيعة الحال في بعض الموارد لا يصنع المفهومان المركبان ـ من قبيل: «الشخص غیر بصیر» قضية. نعمل على بيان عدد من القضايا ما فوق (2n2) بواسطة (m)، وحيث أن لدينا على الدوام أكثر من مفهوم واحد في الذهن، يمكن القول إن قل
شخص يواجه على الدوام بواسطة (m + 2n2) قضية حملية.
ز ـ إن قضية (m + 2n2) ليست فعلية في ذهن أيّ إنسان؛ وذلك لأن الـ (n) مفهومًا ليس له حضور فعلي في ذهن الأشخاص على الدوام، لكي يتم بواسطته صياغة تركيب منها (m + 2n2)، وعليه يمكن للإنسان أن يواجه بواسطة (m + 2n2) قضية بالفعل، وعلى هذا الأساس يمكن القول: إن (m + 2n2) قضية موجودة في ذهن كل شخص بالقوة.
ح ـ إن من بين (m + 2n2) قضية تعدّ قضية (n) من قبيل حمل الشيء على النفس، و(n) قضية سلب الشيء عن النفس؛ إذ كل واحد من تصوّر (n) يمكن حمله على نفسه أو سلبه عنها.
ط ـ إن من بين (m + 2n2) قضية لدينا (4n) قضية، حيث يحمل كل واحد من (n) على نقيضه أو كل واحد من (n) على نفس ذلك المفهوم أو سلبه عنه؛ فلو كان لدينا ـ على سبيل المثال ـ مفهومان، وهما: مفهوم «الإنسان» و«غير الإنسان»، يمكن لنا أن نستخرج من هذين المفهومين أربع قضايا؛ حيث يكون كل من الموضوع والمحمول فيها نقيضًا للآخر:
1. الإنسان غير الإنسان.
2. الإنسان ليس غير الإنسان.
3. غير الإنسان إنسان.
4. غير الإنسان ليس إنسانًا.
كما أن كل مفهوم وتصوّر يعبّر عن محكي، فإن كل قضية هي كذلك أيضًا. وعلى هذا الأساس فإن الذهن هو ظرف القضايا، كما أنه ظرف للتصورات أيضًا، بيد أن المحكي في كل قضية هو ظرف تحكي عنه القضية، وعلى هذا الأساس فإن محكي القضايا بالنسبة إلى ذات القضايا يُعدّ خارجًا، وإذا أمكن أن تكون القضية ناظرة إلى الذهن، ففي الحقيقة والواقع فإن مرحلة ما فوق الذهن تعدّ ذهنًا، ومرحلة ما دون الذهن ـ التي هي منظور إليها ـ تعدّ خارجًا؛ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ عندما يقال: «مفهوم الإنسان كلي»، تكون هذه القضية الناظرة إلى كل مفهوم للإنسان في ذهن كل إنسان تشتمل على كلية وعموم، وعليه لو تمّ تقسيم القضية إلى قضية ذهنية وقضية خارجة، فيكون ذلك بلحاظ محكي القضايا التي يكون بعضها بالنسبة إلى بعضها خارجيًا وبعضها الآخر ذهنيًا، وهذا لا يتنافى مع أن نأخذ جميع المحكيات يوصفها خارجية، ونسمي الخارج بهذا المعنى العام هو الواقع ونفس الأمر. وعليه فإن نفس الأمر والواقع محكي القضايا الذي يمكن للقضايا أن تتطابق معه أو لا تتطابق معه.
كلما كانت القضية متطابقة مع محكيها، كانت تلك القضية صادقة، وإلا فهي كاذبة. وبعبارة أخرى: في الحمليات الموجبة، كلما كان مفهوم الموضوع وكذلك مفهوم المحمول متطابقًا مع شيء، كانت تلك القضية صادقة، وفي غير هذه الصورة سوف تكون كاذبة، وفي القضايا الحملية السالبة كذلك كلما كان ذانك المفهومان غير متطابقين، فسوف تكن هذه القضايا صادقة وإلا فهي كاذبة.
(146)إن الاعتقاد
حالة تكون لدى الإنسان الذي هو متعلق تلك القضية ؛ بمعنى ان بمقدورنا أن نعتقد بقضية أو لا نعتقد بها؛ وعليه فإن اعتقادنا يتعلق بقضية. من ذلك على سبيل المثال أني أعتقد بأن «الله موجود»، وأن «هذه الصفحة بيضاء»، و«مجموع الزوايا الداخلية للمثلث تساوي زاويتين قائمتين» وهكذا.من الممكن أن يعتقد شخص ما بقضية معيّنة أو يعتقد بسلبها (وليس بنقيضها). كما يمكن له أن لا يعتقد بأيّ واحد من طرفي السلب والإيجاب، من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن لا يعتقد بالقضية القائلة «كل حيوان إنسان»، ولا يعتقد بسلبها، الذي هو: «ليس هناك أيّ حيوان إنسان».
إن واحدًا من طرق الوصول إلى الاعتقاد هو الاستدلال
؛ بمعنى أن نضم قضية أو عدّة قضايا إلى بعضها بحيث نحصل منها على قضية أخرى؛ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ من بين (m + 2n2) قضية، نأخذ القضية (X) بنظر الاعتبار التي هي مجهولة بالنسبة لنا. في حين أننا من بين (m + 2n2 - X) قضية، نعمل على تنظيم القضايا بشكل نصل من خلاله إلى القضية (X). وكلما كان لنا اعتقاد بالقضايا المستعملة، قد نعتقد بـ (X) أيضًا.هل يمكن من خلال الاستدلال أن نعتقد کل واحد من (m + 2n2) قضية؟ إذا كان كل واحد من (m + 2n2) قضية، مجهولًا، وتم إيضاحه بواسطة القضايا الأخرى في هذه المجموعة، فسوف يلزم من ذلك أن لا يكون أيّ واحد منها معلومًا؛ إذ أننا إنما يمكن لنا الاعتقاد بقضية (X1) فيما لو أمكن لنا أن نستعين بقضية (X2) و(X3)، وحيث أن كل واحد من هاتين القضيتين بدوره ليس متعلقًا للاعتقاد، وهما مجهولان بحسب المصطلح، يجب أن نستعين بـ (X4) و(X5). وكل واحد منها تابع بدوره إلى قضايا أخرى، وحيث أن مجموعة (m + 2n2) محدودة وليست غير محدودة، فإننا على هذا الأساس عندما نصل إلى آخر القضايا المجهولة، يجب علينا الرجوع والعمل على إيضاحها وبيانها بواسطة (X1) و(X2) و... وهذا دور في الاستدلال، وهو واضح البطلان. وعلى هذا الأساس فإن طريق الوصول إلى الاعتقاد لا ينحصر بالاستدلال، وعلينا أن نؤمن بأن هناك معتقدات أساسية تضع بين أيدينا معتقدات مستنتجة. بيد أنها في حدّ ذاتها لا يتمّ الحصول عليها من طريق الاستدلال.
رأينا آنفًا أننا لا نستطيع دائمًا أن نستفيد من القضايا الأخرى من أجل الوصول إلى الاعتقاد؛ ومن هنا توجد لدينا بعض المعتقدات الأساسية التي لم يتمّ الحصول عليها من طريق الاستدلال. إن هذا النوع من المعتقدات، يتمّ الحصول عليه من طرق أخرى، من قبيل: الحس أو إدراك التصوّرات.
يمكن تقسيم الحس إلى قسمين، وهما: الحسّ الظاهري، والحسّ الباطني. ويمكن لنا الوصول إلى الاعتقاد بكل واحد من هذين القسمين. إن القضايا التي نصل إليها من طريق الحسّ الظاهري، تُسمّى بـ «المحسوسات» أو «الحسيات»، من قبيل: «إن هذه الصفحة بيضاء»، والقضايا التي نصل إليها من طريق الحسّ الباطني، أو بعبارة أخرى: من طريق العلم الحضوري، تُسمّى بـ «الوجدانيات»، من قبيل: «أنا جائع». إن الوجدانيات مأخوذة من العلم الحضوري، بمعنى أن جوعي حيث يكون معلومًا لي بالعلم الحضوري، فإنني أصنع من حقيقة جوعي قضية تقول: «أنا جائع»، وأعتقد بهذه القضية. وعليه فإن المطروح في الحسّيات هو فعل وردة فعل الجسد والشيء المحسوس، حيث يتجلى تصوير حسّي في أنفسنا، وإن هذا التصوير يكون واسطة العلم والاعتقاد، وفي الوجدانيات يكون حضور ذات المعلوم مباشرة ومن دون واسطة عند إدراك الشخص، سببًا إلى الاعتقاد بالوجدانيات.
يكفي أحيانًا للوصول إلى الاعتقاد أن نجري مقارنة بين التصوّرات التي توجد هناك نسبة بينها. وبفعل الالتفات إلى هذه المقارنة، يحصل اعتقاد بها ويتمّ التعبير عنها في المنطق بالأوليات، ويقال في تعريفها: هي القضايا التي يكفي فيها مجرّد تصوّر طرفي القضية ـ من قبيل: الموضوع والمحمول في الحمليات ـ للتصديق بها، كما في قولنا: «الكل أكبر من جزئه». ويجب أن نضيف هذه النقطة إلى هذا التعريف، وهي: «أو يكفي مجرّد تصوّر طرفي القضية لتكذيبها»، كما في قولنا: «الكل ليس أكبر من جزئه». إن المناطقة حيث يبحثون عن القضايا الصادقة فإنهم لم يضيفوا هذا القيد، في حين أنه بإضافة هذا القيد، يتم تقسيم القضايا الأولية في الواقع إلى أولية الصدق، وأولية الكذب.
(149)وعلى هذا الأساس فإننا في مجموعة (m + 2n2) لدينا في الحدّ الأدنى (6n) قضية، حيث أن (3n) منها أولية الصدق، و(3n) منها أولية الكذب؛ وذلك لأن قضية (n)، هي حمل الشيء على النفس، وهي أولية الصدق، وإن قضية (n)، هي سلب الشيء عن النفس، وهي أولية الكذب. إن قضية (n) هي حمل نقيض الشيء على الشيء، وهي أوليّة الكذب، وقضية (n)، سلب نقيض الشيء عن الشيء حيث هي أولية الصدق. إن قضية (n) هي حمل الشيء على نقيضه، وهي أولية الكذب، وقضية (n) سلب الشيء عن نقيضه، وهي أولية الصدق. وعلى هذا الأساس كلما عمدنا إلى مقارنة مفهوم ما مع نفسه أو نقيضه، سوف ينتج عن ذلك ست قضايا أولية الصدق أو أولية الكذب، ولو عمدنا إلى مقارنة مفهومين إلى نفسهما ونقيضهما، سوف ينتج عنهما اثنتا عشرة قضية أولية الصدق أو أولية الكذب.
ويأتي قولنا «في الحدّ الأدنى» من أنه يحتمل أن يكون هناك محمول من الأجزاء المفهومية للموضوع أو نقيضه، وفي مثل هاتين الحالتين سوف يقوم العقل بالتصديق أو التكذيب بمجرّد تصوّرهما؛ بمعنى أن الصورة الأولى أولية التصديق، والصورة الثانية أولية التكذيب.
إن المحمولات التي تكون جزءًا من مفهوم الموضوع، تُسمّى في المنطق بـ «الذاتيات». لو أطلقنا على عدد من هذا النوع من القضايا الموجبة اسم «z»، ففي مثل هذه الحالة سوف تكون قضايانا الأولية في الحدّ الأدنى (2z + 6n)، وحيث تكون لدينا قضايا محمولها الذاتي عبارة عن موضوعاتها، من قبيل: حمل الأضلاع الثلاثة المغلقة على المثلث أو سلبها عن المثلث؛ وعلى هذا الأساس سوف يكون Z > O ويكون بالتالي 6n<(2z+6n) .
لو اعتبرنا القضايا التحليلية ـ طبقًا للتعريف ـ هي القضايا التي يكون مفهوم
المحمول فيها عين مفهوم الموضوع أو جزء مفهوم الموضوع، وتمّ حمله على الموضوع، واعتبرنا القضية المتناقضة قضية يكون فيها مفهوم المحمول عين أو جزء مفهوم الموضوع حيث يتمّ سلبه عن الموضوع، ففي مثل هذه الحالة يكون عدد من القضايا (2z + 6n) تحليلية أو متناقضة، وعدد آخر منها تحليلية أو متناقضة، ولكنها في الوقت نفسه أولية التصديق أو أولية التكذيب، وهي القضايا التي يكون موضوعها ومحمولها متناقضين من الناحية المفهومية. وعلى هذا الأساس تكون قضية «إن a ليس غير a» أو «إن غير a ليس a» أولية الصدق، ولكنها غير تحليلية. وكذلك قضية «إن a غير a» أو «غير a هو a» أولية الكذب، ولكنها ليست متناقضة.
وهنا يطرح هذا السؤال نفسه، وهو: هل عدد الأوليات ـ الأعم من الأولية الصدق والأولية الكذب ـ والتي هي ـ طبقًا للتعريف ـ يكفي مجرد تصوّر الطرفين في القضية للتصديق أو التكذيب بها، سوف يكون متساويًا مع (2z + 6n) أم هناك قضايا أولية الصدق وأولية الكذب، حيث لا تدخل ضمن مجموعة (2z + 6n)؟ في معرض الجواب عن هذا السؤال يجب أن نعمل على توضيح مصطلح البيّن بالمعنى الأعم؛ ليتضح أن مجموعة (2z + 6n) أصغر من كل الأوليات، ولكن قبل العمل على إيضاح البيّن بالمعنى الأعم لا بدّ من التذكير بهذه النقطة وهي أن المحمول في كل قضية من مجموعة (2z + 6n) إما عين الموضوع أو جزء الموضوع أو نقيض الموضوع. ولهذا السبب فإن مجرّد تصوّر الموضوع والمحمول كان كافيًا للتصديق أو التكذيب. وأما في القضايا البيّنة بالمعنى الأعم فإن المحمول على الرغم من عدم اشتماله على أيّ واحدة من الحالات الثلاثة الآنفة، إلا أن العقل بمجرد تعقل الموضوع والمحمول يحكم بصدق أو كذب القضية. لنفترض أن عبارة «شكل مغلق ثلاثي الأضلاع» تعريف للمثلث، ففي مثل هذه الحالة فإن «امتلاك ثلاث زوايا» لن يكون جزءًا من مفهوم المثلث، بيد أن كل شخص يستحضر مفهوم المثلث في ذهنه،
لن يكون بمقدوره أن لا يتصوّر «امتلاك ثلاث زوايا». ومن هنا فإن قضية «إن المثلث له ثلاث زوايا» ليست تحليلية، ولا الموضوع والمحمول فيها متناقضان، ولا هما متناقضان في ذاتهما، ولكن مع ذلك فإن كل شخص يتصوّر الموضوع والمحمول، يحكم بصدق تلك القضية، ولو قلنا: «إن المثلث ليس له ثلاث زوايا» فإنه سوف يحكم بكذب هذه القضية فورًا بمجرّد تصوّر الموضوع والمحمول فقط.
وبطبيعة الحال هناك طرق أخرى غير الاستدلال والحس وإدراك التصورات للاعتقاد بقضية ما، من قبيل: التقليد، ممّا لا يحتوي على أهمية كبيرة في بحثنا، ولذلك فإننا سوف نعرض عن ذكرها.
إن الاعتقاد إنما يكون مقبولًا فيما إذا أمكن لنا أن نقدم له تبريرًا معرفيًا، ومن هنا فإن الاعتقاد الذي يستند إلى التقليد الأعمى من دون بصيرة، لا يكون هو المراد هنا. وأما الاعتقاد المبرّر فهو جدير بالاعتناء. وبطبيعة الحال فإن هذا الكلام لا يعني أن كل اعتقاد مبرّر يكون مقبولًا وصادقًا. فقد يكون الاعتقاد مبرّرًا، ولكن لا يوجد دليل قاطع على القبول به، بل وقد يكون كاذبًا أيضًا. لنفترض ـ على سبيل المثال ـ أنك قد اشتريت كتابًا مؤخرًا، ثم ضاع منك هذا الكتاب دون أن تترك فيه أيّ علامة تميّزه من سائر الكتب الأخرى، وبعد البحث تمكنت من العثور على كتاب مماثل له تمامًا ولم يدّع شخص أن هذا الكتاب يعود له، ففي مثل هذه الحالة يحصل لديك اطمئنان أن الكتاب لك، وإن كان من الممكن أن لا يكون هو الكتاب الذي أضعته، وإنما هو مجرّد كتاب مشابه له. وعلى هذا الأساس يجب أن تكون هناك معايير على معقولية معتقداتنا، لنعمل بواسطتها على تقييم تبريرنا لها.
ذكرنا أن كل اعتقاد يجب أن يكون مبرّرًا ليكون مقبولًا إلى حدّ ما. إن الطرق التي تجعل المعتقدات مبرّرة ومقبولة إلى حدّ ما، عبارة عن: 1 ـ الاستدلال. 2 ـ الحسّ. 3 ـ إدراك التصوّرات. وفيما يلي نبحث كل واحد من هذه الطرق الثلاثة على التوالي:
إن استنباط النتيجة من المقدمة أو من المقدمات ـ أو بعبارة أخرى: الاستدلال في المنطق ـ ينقسم في بعض التقسيمات العامة إلى استدلال مباشر وغير مباشر أو حجة.
في الاستدلال المباشر يتمّ التوصّل من صدق أو كذب قضية ما إلى صدق أو كذب قضية أخرى، حيث ترتبط بمورد القاعدة الاستنتاجية؛ ففي العكس المستوي وعكس النقيض ـ على سبيل المثال ـ إنما يتمّ التوصّل من صدق القضية إلى صدق عكسها أو عكس نقيضها، أو في قاعدة التناقض يتمّ التوصّل من صدق واحد من المتناقضين إلى كذب الآخر وبالعكس. إن الاستنتاجات لا موضع للتردّد والتشكيك حولها في الأدلة المباشرة من وجهة نظر المنطق الصوري، ولذلك فإن المهم في البين هو قبول أو عدم قبول القضية الأولى التي تستنتج منها القضية الثانية؛ فلو أن شخصًا ـ مثلًا ـ لم يقبل بصدق أصل القضية، أمكن له الشك والتردّد في صدق عكسها أو عكس نقيضها. وعلى هذا الأساس فإن التقييم المعرفي الإيجابي للمعتقدات النظرية المستنتجة من الأدلة المباشرة، يتوقف على التقييم الإيجابي للقضية الأصلية، وبمجرّد الاستنتاج المباشر للقيم الإيجابية لا يتمّ إحراز تبرير الاعتقاد.
تنقسم الحجة في المنطق إلى ثلاثة أقسام، وهي: التمثيل، والاستقراء، والقياس. إن التمثيل نوع من الحجة حيث ينتقل فيه المستدل من حكم جزئي في الموضوع إلى حكم جزئي في موضوع آخر. ليس للتمثيل اعتبار معرفي في المنطق. كما أن الاستقراء نوع آخر من الحجة، حيث ينتقل فيه المستدل من الحكم بالجزئيات إلى الحكم بالكلي، والاستقراء بدوره لا اعتبار له من الناحية المعرفية. والنوع الثالث من الحجة هو القياس، حيث يكون استنتاج النتيجة من المقدمات معتبرًا من الناحية المعرفية في ضوء الشرائط المضبوطة في المنطق.
ولكن تبقى هناك نقطة واحدة، وهي أننا لو قبلنا بأن الاستنتاج في القياس والأدلة المباشرة معتبر، فهل تكون النتيجة مقبولة؟ بمعنى: هل يمكن القول إن النتيجة صادقة أيضًا؟ هنا يقال: إن القبول بالنتيجة يتوقف على القبول بمقدمات القياس وعلى قبول أو ردّ القضية الأولى في الأدلة المباشرة. وعليه فإن مجرّد كون الاعتقاد مستدلًا بأحد طريقين معتبرين لا يكفي لتبرير الاعتقاد. وعلى هذا الأساس فإن مقدمة أو مقدمات الاستدلال ـ بغض النظر عن ذات الاستدلال ـ يجب أن تكون من المعتقدات المبرّرة، وإن هذا يؤدّي بنا في نهاية المطاف إلى عقائد أساسية لا يتمّ تبريرها من طريق الاستدلال، وإن العقائد الأساسية عبارة عن الحسيّات والوجدانيات والأوليات؛ حيث يتمّ الحصول على الحسيات من طريق الحسّ الظاهري، والوجدانيات من طريق الحسّ الباطني أو العلم الحضوري، والأوليات من طريق إدراك التصوّرات.
(154)إن الحسيات هي القضايا التي يكون المحمول فيها شيئًا يتمّ إدراكه بواسطة واحد من الحواس؛ من قبيل قولنا: «هذه الوردة حمراء»، و«هذه الشكل مربّع»، و«هذا الثوب ناعم»، و«هذا الحجر بارد»، و«هذا الشراب حامض» وهكذا؛ حيث يتمّ إدراك الأحمر، والمربع، والناعم، والبارد، وما إلى ذلك من طريق الحواس، ونرى أن هذه الأمور هي من أوصاف الأشياء؛ بمعنى أن «الحمرة» ثابتة للوردة سواء أكنا موجودين أم لم نكن، وإننا إنما نحس بها بواسطة الحس، وعليه يكون تبرير اعتقادنا بالنسبة إلى الحسيات بواسطة إدراكنا الحسّي. ولكن هل يكون هذا التبرير مقبولًا من الناحية المنطقية؟ بمعنى: ألا يمكن أن نحتمل خلاف ذلك؟ ألا يحتمل أن تكون هذه الوردة التي تبدو لي حمراء، في الواقع غير حمراء؟ نرى أن العقل لا يرفض هذا الاحتمال بشكل كامل. فقد تكون قوانا البصرية بحيث نرى هذه الوردة بلون أحمر، بينما يمكن أن تراها سائر الحيوانات بلون آخر. وعلى هذا الأساس لا يمكن لنا أن نصل من طريق الحسّ على تبرير قاطع، بحيث لا يمكن احتمال خلافه.
إن الوجدانيات هي القضايا التي يتمّ الحصول عليها من طريق العلم الحضوري. عندما أعاني من الجوع، فإني أعلم بهذا الجوع بواسطة العلم الحضوري، بمعنى أنني أدرك حقيقة الجوع، وحيث أدرك حقيقة الجوع، فإني أحكم بـ «أني جائع». إن هذه القضية وإن كانت من العلم الحصولي، بيد أنها مأخوذة من ذلك العلم الحضوري، ولذلك فإن الاعتقاد بجوعي يكون مبرّرًا بسبب إدراكي لحقيقة الجوع. فهل يمكن احتمال خلاف هذا الاعتقاد؟ نرى أن احتمال الخلاف في مورد الوجدانيات ـ خلافًا للحسّيات ـ غير ممكن. وذلك لأن الحسيات لا تحضر بنفسها في النفس،
(155)وإنما يظهر لها أثر في النفس، ولذلك لا يكون احتمال الخلاف بشأنها منتفيًا، وأما في الوجدانيات، فإن ذات المعلوم يحضر عندنا، ومن هنا فإن النفس تدرك تطابق الوجدانيات بالعلم الحضوري.
وبعبارة أخرى: حيث أن ذات الجوع حاضر في النفس، فإن المنظومة الإدراكية للنفس تأخذ منه علمًا حصوليًا، وإن هذا العلم الحصولي حيث يؤخذ من العلم الحضوري فإنه يكون متطابقًا معه. وعليه فإنه في الوجدانيات حيث يكون المعلوم فيها مأخوذًا من العلم الحضوري، فلا يرد فيه احتمال الخلاف. قد يقال إن الوجدانيات غير مأخوذة من العلم الحضوري؛ بمعنى أنني عندما أشعر بالجوع، لا تكون قضية «أنا جائع» موجودة بوصفها قضية معقولة، بل هي مجرّد قضية لفظية تشير إلى حقيقة الجوع. في الجواب نشير إلى هذه النقطة، وهي أن تذكر الجوع الذي كنت أشعر به قبل ذلك بلحظات، خير دليل على أني قد شعرت بذلك الجوع في تلك اللحظة بالعلم الحصولي؛ إذ ما لم يتمّ التقاط صورة لذلك الجوع وحفظه في إرشيف الذاكرة، لا يعود بالإمكان تذكّره. وعلى هذا الأساس فإننا نقول في الجواب عن الشخص الذي لا يرى الجوع إلا مجرّد خيال لا أكثر، ويقول بأننا لا نتذكر الجوع أبدًا، يجب القول: لا معنى للخيال من دون واقعية. إنما يمكن اعتبار الجوع مجرّد خيال فيما إذا أدركنا أصل الجوع بالعلم الحصولي. وعليه لا مندوحة لنا من القبول بهذا الأمر وهو أن ندرك العلم الحضوري بالجوع مقرونا بالعلم الحصولي به.
وبطبيعة الحال لا بدّ من القبول بهذا المطلب أيضًا وهو أن العلم الحصولي في لحظة العلم الحضوري يكون مقهورًا للنفس. وكأننا حتى الآن كنا نفترض أن العلم الحصولي شيء والعلم الحضوري شيء آخر، ولذلك كنا نقول إن الوجدانيات علوم حصولية مأخوذة من العلوم الحضورية، بيد أن القول بثنائية العلم الحصولي والعلم الحضوري له متسع من البحث. إن الوجدانيات هي ذات العلوم الحضورية، غاية
(156)ما هنالك باعتبار آخر؛ بمعنى أن اعتبار العلم الحصولي غير العلم الحضوري.
لبيان هذه النظرية يجب أن نقدّم توضيحًا في مورد وضع الألفاظ للمعاني، والعلوم الحصولية من حيث هي علوم حصولية. ونحن نعمل على بيان البحث في المحسوسات. عندما تكون الأعضاء الحسيّة فاعلة؛ كأن تكون القوّة الباصرة فاعلة، فإنها تأخذ الألوان المختلفة من الأشياء، وتحضر لدى الشخص صوَر عن اللون الأخضر والأصفر والأحمر. وما دامت هذه الصوَر حاضرة في وعي النفس فإنها تشير بذاتها إلى الألوان الخارجية، ولذلك تكون حاكية عن الخارج. وعندما تلتفت النفس إلى هذه الصوَر، فإن ذات هذه الصوَر تكون معلومة للنفس بالعلم الحضوري وتكون الألوان الخارجية معلومة للنفس بالعلم الحصولي. فإذا تمّت الغفلة عن هذه الصوَر، لا يعود بمقدور النفس أن تلتفت إلى الخارج، إذ أن الصوَر التي كانت تشير إلى الخارج ليس لها وجود في إدراك النفس. إن طريق التفات النفس إلى الخارج يكمن في استحضار تلك الصور. إن هذا الاستحضار للصوَر يحدث أحيانًا على نحو الصدفة؛ بمعنى أننا لا نعلم العلة في ذلك، ولكن في الغالب يقوم الآخرون من خلال نشاطهم بإحضار تلك الصوَر في وعي الشخص وإدراكه. فتارة يتمّ القيام بذلك من خلال إحضار الشيء الخارجي ووضعه أمام عين الشخص، وتارة أخرى باستخدام اللغة التي هي طريقة أسهل للوصول إلى هذه الغاية؛ كأن يتم ـ على سبيل المثال ـ استعمال لفظ «الأصفر» لإحضار هذه الصورة، واستعمال لفظ «الأخضر» لإحضار تلك الصورة وما إلى ذلك. وعلى هذا الأساس، فإنه بعد وضع اللفظ بإزاء الصورة، كلما تمّ استعمال اللفظ سوف ينتقل السامع ـ بسبب علمه بالوضع ـ من هذا اللفظ إلى تلك الصورة. ومن هنا فإن الصوَر واسطة بين الألفاظ والأشياء الخارجية؛ بمعنى أن السامع ينتقل من طريق الألفاظ إلى الصورة، ومن طريق الصورة إلى الشيء الخارجي. وعليه فإن الصورة بمنزلة المرآة التي هي وسيلة
(157)للرؤية والعلم بالشيء الخارجي، وإن ما قيل إنما كان في مورد العلم بالمحسوسات التي تقع خارج أنفسنا. وعليه فلو أراد شخص أن يُشير إلى الشيء الخارجي لما هو موجود في داخل النفس والذي تعلم به النفس بالعلم الحضوري، لا يحتاج بعد ذلك إلى وسيط؛ فمثلًا عندما أقول: «أنا»، أكون في الواقع قد أشرت إلى نفسي بواسطة هذه المفردة مباشرة. وبطبيعة الحال فإن السامع ينتقل من لفظ «أنا» إلى صورة لي حاضرة في نفسه، ومن طريق تلك الصورة يحصل له علم بي بالعرض. وعلى هذا الأساس فإن اللفظ الدال على ذات الشخص أو على الحالات الحضورية للشخص، وسيلة للدلالة على ما تمّ الحصول عليه مباشرة بالعلم الحضوري.
وعلى هذا الأساس، فإن الوجدانيات علوم حضورية، وإن الاعتقاد بها ـ بسبب حضورها لدى النفس بواسطة العلم الحضوري ـ يكون اعتقادًا مبرّرًا ولا يُحتمل فيه الخطأ. وبعبارة أخرى: يمكن القول في مورد الوجدانيات إن العلم الحصولي والعلم الحضوري شيء واحد في الحقيقة؛ وذلك لأن حقيقة العلم الحصولي هي الكاشفية عن الأشياء الخارجية، وليست مجرّد صورة تحصل في الذهن؛ إذ ليس لمجرّد التوسط بين اللفظ والشيء ولا الصورة المأخوذة من الخارج، دخل في حقيقة العلم الحصولي، وإنما المهم هو حكاية هذه الصورة عن الخارج؛ وعليه إذا كان الشيء مرآة لنفسه، يبقى في هذه الحالة علمًا؛ لأنه يُشير إلى نفسه. وعليه فإنه من حيث كونه حاضرًا في نفسه يكون علمًا حضوريًا، ومن حيث أنه يُشير إلى نفسه بنفسه يكون علمًا حصوليًا. ونتيجة لذلك فإن هذا العلم الحصولي الذي هو في الحقيقة والواقع ذات العلم الحضوري، ولم يختلف سوى حيثيته واعتباره، فإنه يكون مبرّرًا ولا يُحتمل فيه الخلاف أبدًا.
(158)إن الأوّليات هي القضايا التي يكفي فيها مجرّد تصور طرفي القضية للتصديق بها أو تكذيبها. سبق أن ذكرنا أن من بين n مفهوم، يواجه كل شخص بالقوة أكثر من (2z + 2n2) قضية، وكذلك يواجه أكثر من (2z + 6n) قضية، وعليه يمكن القول في المجموع: (إن الأوّليات > 2z + 6n ).
كما يمكن تقسيم الأوليات بدورها إلى أربعة أقسام أيضًا، وذلك على النحو الآتي:
1. الأوليات التي يكون الموضوع والمحمول فيها عين الآخر. وبعبارة أخرى: إنها إما من قبيل حمل الشيء على النفس أو من قبيل سلب الشيء عن النفس.
2. الأوليات التي هي من قبيل حمل مجموع أو بعض الأجزاء المفهومية للشيء على نفسه أو سلب مجموع أو بعض الأجزاء المفهومية للشيء عن نفسه.
3. الأوليات التي يكون فيها ذات الموضوع في 1 و2 والمحمول، نقيض المحمول 1 و2 أو بالعكس، وتحمل على الآخر أو تسلب عنه.
4. الأوّليات التي يكون الموضوع والمحمول فيها مختلفين من الناحية المفهومية ـ أي لا يكون بينها اشتراكًا مفهوميًا، لا أنهما يشتملان على تناقض مفهومي ـ وتحمل على بعضها أو تسلب عن بعضها.
إن كل شخص يلتفت إلى هذه الطوائف الأربعة من القضايا الأولية؛ بمعنى أن يتصوّر الموضوع والمحمول، سوف يعتقد بصدقها أو كذبها. ويكمن تبريره لذلك في الاعتقاد ببداهة أو أولية هذه القضايا؛ بمعنى أن تبريرها يكون معها؛ وبعبارة أخرى: إن هذه القضايا تعمل في الواقع على تبرير ذاتها. وبطبيعة الحال فإن وضوح هذه الطوائف الأربعة ليس على نسق واحد، بل إن بعضها يحظى بوضوح أكبر.
وأكثرها وضوحًا هو الطائفة الأولى؛ بمعنى صدق حمل الشيء على النفس وكذب سلب الشيء عن النفس، وإن كان من بين هذين الأمرين يُعدّ صدق حمل الشيء على النفس أوضح من كذب سلب الشيء عن نفسه ومتقدّمًا عليه؛ بمعنى أن صدق قضية «الإنسان إنسان» مقدّم على الاعتقاد بكذب قضية «الإنسان ليس إنسانًا».
إن وضوح الطائفة الثانية أقل من وضوح الطائفة الأولى؛ إذ يوجد هنا بين الموضوع والمحمول اختلاف مفهومي على نحو الإجمال والتفصيل، فمثلًا إن وضوح قضية «الإنسان حيوان ناطق» أقل من وضوح قضية «الإنسان إنسان»؛ وذلك لوجود نوع من الاختلاف بين الموضوع والمحمول في الطائفة الثانية. وفي تقسيم آخر يمكن تقسيم هاتين الطائفتين إلى تحليلية ومتناقضة في ذاتها. إن أوليات الصدق في هاتين الطائفتين التحليليتين وأوليات الكذب في هاتين الطائفتين متناقضة في ذاتها.
وأما وضوح الطائفة الثالثة فهو أقل من وضوح الطائفتين السابقتين، ففي هذه الطائفة يقع نقيض الموضوع أو نقيض جزء الموضوع محمولًا ويُحمل عليه أو يُسلب عنه، وفي حالة الحمل يحكم العقل بكذبها بمجرّد تصوّر الموضوع والمحمول (أوّلي الكذب)، وفي حالة سلب أحدهما عن الآخر، يحكم العقل بصدقها دون تردد (أوّلي الصدق).
إن القول بأن وضوح هذه الطائفة أقل بالمقارنة مع الطائفتين السابقتين، يعود سببه من جهة إلى أن لازم حمل الشيء على نفسه هو عدم سلب الشيء عن نفسه، ولازم ذلك عدم حمل نقيض الشيء على الشيء، ومن جهة أخرى: إن لازم أولية صدق حمل الشيء على نفسه هو أوّلية كذب سلب الشيء عن نفسه، ولازم ذلك بدوره هو أولية كذب حمل نقيض الشيء على نفسه. إن هذه الطائفة من الأوليات لا
(160)هي تحليلية ولا هي متناقضة في ذاتها؛ وذلك لأن مفهوم المحمول ليس عين مفهوم الموضوع ولا هو جزء مفهوم الموضوع.
إن القسم الرابع من الأوّليات أكثر تعقيدًا من الأقسام الأخرى، ولذلك فإنه يقع في المرتبة الرابعة من حيث الوضوح، وإن كان يكفي للتصديق بها مجرّد وجود الموضوع والمحمول في القضية، ولكن يجب على النفس أن تتأمّل في الموضوع والمحمول، ليحصل ـ بعد استقرارهما التام في النفس ـ على علم بهما؛ والمثال الذي يمكن ذكره لهذه الطائفة من القضايا، قضية «الكل أكبر من جزئه». ليس هناك من يشك في هذا الحكم، وإن هذه القضية تتضح بمجرّد تصوّر الموضوع أي «الكل»، والمحمول أي «أكبر من جزئه» والنسبة القائمة بينهما؛ بحيث يعتقد بها الإنسان.
قد يقال إن هذه القضية قضية تحليلية، وتعد جزءًا من الطائفة الثانية؛ إذ عندما نعمل على تحليل «الكل» نصل إلى ذات الـ «الجزء + الجزء»، وعلى هذا الأساس يمكن لنا القول «الكل أكبر من الجزء»، بيد أننا نقول في الجواب: صحيح أن الكل هو ذات الـ «الجزء + الجزء»، ولكن لا يوجد في مفاد «الجزء + الجزء» أكبرية، في حين أن مفاد المحمول هو أكبرية الكل بالقياس إلى الجزء. وبعبارة أخرى: إن «الكل» مفهوم كمّي، إلا أن «الأكبر» مفهوم كيفي عارض على شيء يحتوي على كمية؛ ولذلك فإن المفهوم الكمّي ليس عين المفهوم الكيفي وبالعكس.
قد لا يزال يصعب على القارئ اعتبار المثال أعلاه قضية تأليفية، ولذلك من الأفضل أن نعمل في بداية الأمر على إيضاح موضوع هذه الطائفة من القضايا، ثم ننتقل بعد ذلك إلى بيان أسئلة في موردها، ومن خلال الإجابة عن تلك الأسئلة نعمل في الواقع على تشكيل محمول القضية. ومن الجدير ذكره هو أن الجواب يجب الحصول عليه من ذات الأسئلة ومن خلال الالتفات إلى الموضوع الذي تمّ بيانه
(161)بالإضافة إلى مجموعة من التعاريف. لنفترض خطين متمايزين يقطعان بعضهما في نقطتين متمايزتين. ما هي كيفية هذين الخطين؟ هل هما مستقيمان أو منحنيان؟ هل يتبلور شكل من هذين الخطين؟ إذا كان الجواب: نعم، فما هو نوع هذا الشكل المتبلور؟ وهل لهذين الخطين زاوية؟ وإذا كان له زوايا فكم هو عددها؟
إن مفاهيم الخط والنقطة والتمايز والاثنين والقطع والمستقيم والمنحني والدائرة والمربّع والمثلّث والضلع والزاوية، كلها معلومة هنا. وكذلك فإن موضوع القضية بدوره حيث يكون مؤلفًا من بعض هذه المفاهيم المعلومة، يكون هو الآخر معلومًا بالنسبة لنا أيضًا، ولذلك فإنه بالنظر إلى كل واحد من هذه الأسئلة، نصنع القضايا الآتية، ولكي لا نكرر الموضوع المركّب في كل قضية سوف نشير له بعلامة m:
1. «m عبارة عن خط مستقيم وخط أو خطين منحنيين»، وذلك لأنه لو كان كلا هذين الخطين مستقيمًا، فإننا عند رسم أحدهما في الذهن واجتياز الخط الآخر بنقطة من الخط الأول، مهما واصل الخطان مسارهما المستقيم فإنهما لن يلتقيا ببعضهما مرّة أخرى، ولن يتقاطعا في نقطة ثانية، وأما إذا كان كل واحد من هذين الخطين منحنيًا، كأن يكون لهما قوسان أدنى من 180 درجة، فإنه كلما تمّ رسم أحدهما، يمكن رسم الخط الآخر في الذهن بحيث يقع القوسان الداخليان تجاه بعضهما. وكذلك لو كان أحد هذين الخطين مستقيمًا والآخر منحنيًا، يمكن لهما أن يتقاطعا في نقطتين. وليس هناك من افتراض آخر غير هذه الافتراضات الثلاثة؛ وذلك لأن الخط إنما ينقسم إلى مستقيم وغير مستقيم أو منحني.
2. «m عبارة عن شكل هو نصف دائرة أو على هذا الشكل مراجعة الى الكتاب».
3. «m له زاويتان».
لا شيء من القضايا في (1 و2 و3) تحليلي، ومع ذلك فإن العقل يصل إليها
بمجرّد تصور الموضوع والمحمول. ومن الممكن بعد الحصول على قضايا (1 و2 و3)، أن نعرّف نصف الدائرة بخطين مستقيم ومنحن متقاطع في نقطتين متمايزتين، ولكن كما رأينا فإننا قد توصلنا إلى هذا الحكم من دون امتلاكنا لهذا التعريف.
وعلى هذا الأساس فإن الطائفة الرابعة من الأوليات عبارة عن القضايا التي لا يكون المحمول فيها موضوعًا في حد ذاته ولا جزءًا مفهوميًا لها، ولا نقيضًا لكل واحد منهما، بل هو مفهوم مغاير للموضوع، وإن العقل إنما يصل إلى العلم بمجرّد تصوّر النسبة بينهما.
إن القضايا الأساسية هي القضايا التي تقوم عليها المعتقدات النظرية على نحو مباشر أو غير مباشر، وإن خصوصية القضايا الأساسية في القياس هي أنها لا تحتاج إلى استدلال، وإلا فإنها لن تكون قضايا أساسية. ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أن كلتا مقدّمتي القياس في العلوم لا يمكن أن تكون من المعتقدات الحسّية أو الوجدانية، وذلك لأن هذه المعتقدات شخصية، في حين يجب في الحدّ الأدنى أن تكون إحدى مقدمتي القياس من الأوليات الكلية أو تنتهي إليها. وأن تكون كلتا مقدمتي القياس من الأوليات أمر معقول تمامًا، ولكن هل يمكن لكلتا مقدمتي القياس أن تكون من كل طائفة من الأوّليات الأربعة؟ يجب القول في الجواب: لا يُشترط في القياس ـ من حيث هو قياس ـ أن تكون مقدماته من أيّ طائفة من الأوليات، غاية ما هنالك أن البحث الآخر الذي يجب الالتفات إليه هو أن المعتقدات النظرية هل يمكن الحصول عليها من أيّ طائفة من الأوليات؟ يجب القول: إذا كان المعتقدان من سنخ الطائفة الأولى والثانية لن يتم العلم بمجهول من طريق القياس؛ إذ لا يمكن الحصول من تكرار حمل الشيء على نفسه على غير حمل الشيء على نفسه.
وكذلك لو كان المحمول في كلتا المقدمتين من الأجزاء المفهومية لموضوعاتهما، لن نحصل على شيء غير القضية التحليلية. ومن هنا قيل في المنطق: يجب أن لا تكون كلتا المقدمتين في البرهان من المحمولات الذاتية؛ وذلك لأن النتيجة في مثل هذه الحالة سوف تكون معلومة قبل القياس؛ من ذلك أن النتيجة في قياس «الإنسان حيوان، الحيوان جسم نام متحرّك بالإرادة، الإنسان جسم نام متحرّك بالإرادة» تكون معلومة مسبقًا، ويمكن ذكر ما يُشبه هذا البيان في مورد الطائفة الثالثة من الأوّليات أيضًا، ولذلك فإن المهم في البين هي الطائفة الرابعة؛ حيث يمكن لمقدّمتي القياس أن تكون من الطائفة الرابعة من الأوّليات. إذن يمكن القول بشكل عام: إن إحدى مقدّمتي القياس يجب أن تكون في الحدّ الأولى من الطائفة الرابعة من الأوليات أو تعود إليها، والمقدمة الأخرى يمكن أن تكون حسيّة أو وجدانية أو أيّ واحد من الأوليات. وعلى هذا الأساس فإن السنخ الرابع من الأوّليات يلعب دورًا بديعًا وفذًّا في استنتاج النظريات من البديهيات.
قلنا إن من بين الطرق التي توصلنا إلى الاعتقاد هو القياس، وإن الاعتقاد الذي يتمّ الحصول عليه من القياس يكون من جهة الاستنتاج مبرّرًا، ولكن حيث يمكن أن لا تكون مقدّمات القياس مبرّرة أو لا تكون مبرّرة على نحو القطع واليقين، فإن الاعتقاد بالنتيجة بدوره لا يمكن أن يكون مبرّرًا على نحو القطع واليقين. ومن هنا فإن المقدّمات إذا كانت مبرّرة، فإن الاعتقاد بالنتيجة سوف يكون بدوره مبررًا أيضًا. وقلنا أيضًا إن إحدى مقدّمتي القياس هي على الدوام من الطائفة الرابعة من الأوليات؛ فإن كانت المقدمة الأخرى في القياس من الأوليات أو من الوجدانيات، فإن ذلك المعتقد سوف يكون مبرّرًا قطعًا. وأما إذا كانت المقدمة
(164)الأخرى من الحسّيات؛ فإنه على الرغم من أن الاعتقاد بالنتيجة مبرّرًا، إلا أن تبريرها لن يكون قطعيًا، وإن احتمال الخلاف لا يكون غير ممكن من الناحية المنطقية. وعلى هذا الأساس فإن النتيجة في كل قياس إنما تكون مبرّرة على نحو القطع واليقين إذا كانت أولًا: لا تحتوي على أيّ مقدمة حسية، وثانيًا: أن تكون مقدمتها العقلية إما من الأوليات أو تنتهي إلى الأوليات.
إن البرهان
هو القياس الذي تكون مقدماته من اليقينيات؛ بمعنى أنه إذا كانت كلتا مقدّمتي القياس يقينية، كان ذلك القياس برهانًا. وعلى هذا الأساس لا توجد في البرهان مقدمة حسيّة، وإنما مقدمات القياسات البرهانية إما وجدانية أو أولية أو تنتهي إلى الأولية. إن العلوم البرهانية هي العلوم التي تتشكل مسائلها وقضاياها من الأوليات حصريًا أو القضايا التي تنتهي إلى الأوليات أو الوجدانيات.كما سبق أن ذكرنا فإن المقدمات يجب أن تكون من اليقينيات. وإن المقدمة اليقينية تنحصر بدورها في القضايا التي تكون وجدانية أو أولية أو تنتهي إلى الأولية. وفي الحقيقة فقد عرّفنا القضايا اليقينية هنا بالمصداق، والتعريف بالمصداق هو الآخر تعريف منهجي، بمعنى أنه لا يمكن فيه إبداء احتمال الخلاف، وعليه فإن اليقين هنا ليس مجرّد حالة نفسية فقط، إذ يمكن الحصول على اليقين النفسي من طريق الحس بل وحتى من طريق التقليد الأعمى أيضًا، وأما اليقين في القضايا اليقينية التي تقع مقدمة للبرهان، فهو اليقين الذي لا ينسجم من الناحية المنطقية مع احتمال الخلاف،
ولذلك فإنه في قضية وجدانية من قبيل «أنا جائع»، لا يوجد هناك أثناء الجوع أيّ احتمال للخلاف؛ وذلك لأن المعلوم حاضر لدى الشخص بالعلم الحضوري من دون أيّ واسطة، وكذلك فإنه في كل واحد من الأوليّات لا يمكن أن يكون هناك أيّ احتمال للخلاف من الناحية المنطقية.
إن حياة الإنسان مرتبطة بشكل تام بالمعتقدات الظنية، التي يتمّ الحصول عليها عادة من طريق الحسّ والاستقراء، ولكن كما رأينا فإننا لم نقل للقضايا الحسية باعتبار في العلوم البرهانية. إن هذا الأمر لا يعني أن المحسوسات ليس لها دور في العلوم العقلية، إذ أن أحد الأدوار المهمّة للحسّ هو جمع التصوّرات التي تشكل نسيج التصديقات، ومن بينها التصديقات البرهانية، كما أنه لا يمكن من دون امتلاك المفاهيم الحسية توفير أرضية ظهور المفاهيم الفلسفية والمنطقية.
في ضوء توظيف الحس لا يتم توفير الأرضية للمفاهيم الكلية الحسّية وغير الحسّية فحسب، بل ويتمّ الحصول على التصديقات غير الحسية في هذا الإطار أيضًا؛ فمثلًا عندما أنظر إلى هذه الصفحة أجدها بيضاء. إن قضية «هذه الصفحة بيضاء» قضية حسّية ليس لها تبرير عقلي، ولكن توجد بالإضافة إليها هذه القضية الوجدانية، وهي: «هناك صفحة تبدو لي بيضاء». إن هذه القضية الوجدانية تم الحصول عليها من نشاط الحسّ الظاهري، ويمكن القول بالنظر إلى القواعد العقلية الأخرى، من قبيل: أصل العلية: هناك شيء يوجد خارج دائرة نفسي هو علة ظهور البياض في نفسي؛ إذ أنني لست أنا من كان العلّة الموجدة له، بل إن هذا البياض يوجد في نفسي بواسطة نشاط حسّ الباصرة، وإنني منفعل بالنسبة له.
يمكن أن نستنتج من هذا الكلام أن نشاط الحسّ يؤدّي بالإنسان إلى أن يحصل
(166)على معتقدات يقينية مبررة في خارج نفسه أيضًا، وهو ما سوف نعمل على توضيحه في العنوان الآتي.
قد يبدو في بادئ النظر من خلال الالتفات إلى ما تقدّم أن يذهب التصوّر إلى حدّ القول بأن الإنسان لا يستطيع الحصول على علم يقيني خارج ساحة نفسه؛ وذلك لأن هذا العلم اليقيني إما أن يكون من الوجدانيات أو من الأوليات أو من النظريات القائمة على الأوليات:
فإن كان من الوجدانيات فسوف يلزم التناقض؛ وذلك لأنه من جهة علم وجداني متعلقه هو ذات نفس العالم أو حالاته، ومن جهة أخرى يتعلق العلم بالخارج عن النفس.
وإن كان من الأوليات، فإن القضية وإن كانت صادقة، إلا أن هذا لا يعني وجود شيء خارجي وعيني تتطابق معه القضية، بل إن هذه قضايا حقيقية هي بحكم القضايا الشرطية؛ فمثلًا عندما نقول: «إن مجموع الزوايا الداخلية للمثلث يساوي زاويتين قائمتين»، لا نعني بذلك وجود مثلث واقعًا على هذه الصفة، بل بمعنى أنه مع افتراض وجود مثلث يكون هذا الحكم ثابتًا له. ومن الواضح أن علمنا بالخارج عن أنفسنا ليس من الأوليات.
وإن كانت من النظريات، فهي لا تخرج من إحدى حالتين، وهما أولًا: إما أن تكون إحدى المقدمتين فيها من الوجدانيات، أو أن تكون كلتا المقدمتين من الأوليات. في الحالة الأولى سوف تكون نتيجة البرهان مرتبطة بالوجدانيات التي تتحقق في داخل النفس، وفي الحالة الثانية سوف تكون نتيجة القضية الحقيقية في قوة الشرطية؛ بمعنى أنه حتى في مثل هذه الحالة لا يتمّ إثبات وجود شيء خارج النفس.
نقول في الجواب عن هذا الإشكال: لنفترض أن طريق العلم اليقيني بعالم الخارج عن النفس بالنسبة إلى الناس العاديين
هو البرهان، يمكن إثبات الأشياء الواقعة في خارج النفس من طريق الأوليات البحتة؛ وذلك لأن الأوليات وإن كانت من القضايا الحقيقية والتي هي في قوّة الشرطية، بين أن هذا الكلام لا يعني أنه كلما أصبحت القضية حقيقية تكون شرطية بشكل بحت، ولا تبيّن متعلقها بأيّ وجه من الوجوه، بل يمكن العثور على قضايا أولية يكفي فيها مجرّد تصوّر الموضوع والمحمول للتصديق بالوجود العيني. إن هذا النوع من القضية إنما يوجد حصرًا في الإلهيات بالمعنى الأخص، وفي الحقيقة فإن البراهين الوجودية تدعي مثل هذا الادعاء.يُضاف إلى ذلك أن إثبات العالم الخارج عن النفس يمكن أيضًا من طريق التركيب والمزج بين الوجدانيات والأوليات، وذلك حيث نجعل حالة من الحالات النفسانية موضوعًا للحكم العقلي؛ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ عندما تظهر في نفسي صفحة بيضاء، أجعل من هذا البياض موضوعًا وأقول بأن البياض ممكن الوجود، ثم من خلال ضمّ أصل العلية ـ التي هي حكم عقلي ـ نستنتج أن هذه الحالة النفسانية معلولة لعلة، وإن علتها لا تخرج من إحدى حالتين: إما أن تكون ذات النفس، أو شيء من خارج النفس. وفي الحالة الأولى يجب أن تكون النفس عالمة بعليتها، في حين أن النفس تعلم أنها ليست علة لها، إذن يجب أن تكون علتها شيء خارج عن النفس، وعليه ليس الأمر كما لو أننا لا نستطيع الانتقال من طريق الوجدانيات إلى خارج النفس.
إن إمكان البرهان أو استحالة البرهان وصف للقضية؛ بمعنى أنه كلما جعلنا قضية ما موضوعًا، أمكن جعل محمولها «ممكن الإثبات» أو «مستحيل الإثبات». والآن يرد هذا السؤال القائل: ما هو سنخ هذه القضايا؟ وهل هي من الأوليات؟
يمكن القول في الجواب: إن بعض هذه القضايا أولي، وبعضها الآخر ليس بأولي، فإن كان موضوع القضية هو حمل الشيء على النفس الذي هو من أول الأوليات، يبدو أنها غير قابلة للبرهان؛ وذلك لأن كل قضية قابلة للبرهان إنما تتمّ البرهنة عليها بواسطة هذه القضية وأصل امتناع التناقض، ومن هنا لا يمكن اعتبار ذات هاتين القضيتين قابلتين للبرهان، ولكن بالنظر إلى النقطة ـ التي سنأتي على ذكرها ـ يمكن توسيع إمكان البرهان ليشمل الموارد أعلاه أيضًا، وبطبيعة الحال فإن بعض الصوَر بسبب وضوحها الزائد عن الحد تقع في إبهام.
بيد أن النقطة الجديرة بالملاحظة هي أنه لبرهانية أمر قابل للبرهان، هناك طريقان بشكل عام، الأول: الطريق المباشر الذي يجب الوصول من خلاله إلى المطلوب المنشود ببعض المقدمات، والآخر: الطريق غير المباشر وهو الطريق المعروف بـ «برهان الخُلف» حيث نصل فيه إلى النتيجة المنشودة من خلال ردّ نقيض المطلوب. وعلى هذا الأساس فإن كل قضية يمكن الوصول إليها بواسطة بعض المقدمات حيث لا يرد بشأنها أيّ احتمال للخلاف، أو نفي نقيضها ببعض المقدمات، تكون قابلة للبرهان، وإن كل قضية يكون القبول بها مستلزمًا للتناقض، لا تكون قابلة للبرهان. وعلى هذا الأساس يمكن الحكم في بعض القضايا على نحو أولي بأنها قابلة للبرهان أو غير قابلة للبرهان؛ وذلك لأن موضوع القضية إذا كان ينطوي على تناقض داخلي فإنه لن يكون قابلًا للبرهان، وإن كان ينطوي على ضرورة ذاتية يكون قابلًا للبرهان. إن الذين يدّعون البراهين الوجودية يقولون بهذا الرأي.
سوف نتعرّض في هذا القسم إلى المسائل الأصلية لهذا الكتاب. إن محور البحث هنا هو الإجابة عن الشبهات المطروحة في إطار عدم إمكان إقامة البرهان على إثبات وجود الله سبحانه وتعالى. وفي البداية يبدو من الضروري العمل على بيان بعض الأبحاث حول وجود الله ومعرفة البشر لله وبعض المطالب الأخرى. وسوف نذكر جميع هذه الأبحاث ضمن فصل يحمل عنوان «الله والإنسان»، وبعد ذلك نواصل مسار البحث الأصلي.
(171)إن الأبحاث التي سوف يتمّ تناولها في هذا الفصل تعدّ بمنزلة المقدمة إلى الفصول القادمة. إن هذه الأبحاث ليس لها جامع ماهوي، ولكن يمكن أن نحصل لها على جامع انتزاعي حيث هو في الواقع عبارة عن الأبحاث المرتبطة بالله التي يتعاطى معها الإنسان، ولذلك فقد اخترنا لهذا الفصل عنوان «الله والإنسان».
قبل بيان إمكان إثبات أو عدم إمكان إثبات وجود الله، يرد على ذهن الإنسان سؤال جوهري يقول: هل لوجود الله تأثير في حياته؟ وذلك لأننا إنما نحتاج إلى إثبات شيء فيما لو كان لوجوده أو عدم وجوده فائدة في حياتنا. وعليه لو أمكن إثبات شيء للإنسان دون أن يكون له أيّ تأثير في حياته، فما هي الفائدة التي تترتّب على إثباته؟ من ذلك مثلًا أن تقدير وزن الكتاب الذي تقرأه الآن وإن كان ممكنًا، ولكنك لا تكلّف نفسك عناء التعرّف على وزنه أبدًا؛ إذ ليس لذلك أيّ تأثير إيجابي في حياتك؟ ولو افترضنا أنك تعتزم السفر إلى بلد بعيد، وتسعى مهما أمكن إلى حمل خصوص الأشياء الضرورية التي تحتاج إليها في هذا السفر، وذلك لأن الوكالة التي تريد السفر معها لا تجيز لك إلا مقدارًا من البضائع التي لا يزيد وزنها على عشرين كيلوغرام مثلًا، وعليه تكون في مثل هذه الحالة بحاجة إلى معرفة وزن الحقائب التي تأخذها معك في السفر، وسوف يكون لمعرفة وزنها فائدة بالنسبة لك؛ لأنك لا تريد أن تتعرض إلى مشكلة ومتاعب تعترضك في هذا السفر بسبب حملك للوزن الزائد.
وفي مورد إثبات وجود الله قد يقال: ما هي الفائدة التي تنطوي على إثبات وجود الله؟ فنحن في حياتنا اليومية يجب أن نحتاط ونعمل على تنظيم حياتنا بحيث لا يكون هناك أيّ تأثير فيها لوجود الله أو عدمه. وبعبارة أخرى: إن علينا أن ننظم حياتنا بحيث لا نتعرّض إلى الضرر عند عدم اكتشاف وجود الله، بل ولا نكون قد خسرنا شيئًا حتى في حالة اكتشاف وجوده أيضًا
.وقيل في نقد هذا الاستدلال: «هل يمكن للشخص الذي يعتقد بوجود الله من أعماق قلبه أن يكون متساويًا مع الشخص الذي لا يعتقد بوجود الله أصلًا؟ وهل يمكن لوجود الله والاعتقاد به أن يكون عديم القيمة كما لو أنه ورقة على شجرة مغروسة في غابة تقع في مجاهيل قارة ما؟ إني على المستوى الشخصي أعتقد بأن الإنسان إذا كان معتقدًا بوجود الله أو معتقدًا بعدم وجود الله، فإن حياته سوف تنقلب رأسًا على عقب»
. يضاف إلى ذلك أن فرضية هذا الاستدلال على ما يبدو هي أن الوجود منحصر بهذه الحياة الدنيوية والمادية، وليس هناك وراء ذلك من وجود لمعاد ولا قيامة. وكأنه لا وجود للأديان السماوية في العالم، وإذا كان لها من وجود، فإنه لم يرد في النصوص الدينية كلام عن التبعية لله والخضوع له وعبادته. وعليه لو أننا قلنا بأن هناك أديانًا سماوية تدعي أن الله قد أمر الناس بأن لا يطيعوا غيره، نقول في مثل هذه الحالة: إن تصور أن يعيش الإنسان بحيث لو لم يكن الله موجودًا لن يخسر حياته، وفي الحالة الثانية لا يكون قد تضرر بسبب وجوده، لن يكون سوى خيال باطل.إن هذا النوع من الاستدلال مقرون في الواقع بهذا الافتراض، وهو أن الإنسان يجب أن يحصل في هذه الدنيا على المقدار الأكبر من اللذات والمتع الدنيوية، وبطبيعة
الحال فإن هذا الافتراض لا ينسجم مع احتمال وجود إله مفروض الطاعة، بل الاحتياط يحكم بأن يسلك الإنسان في حياته بحيث لو كان الله موجودا لن يصيبه أيّ ضرر، ولازم ذلك أن لا يكون الإنسان عديم الاهتمام بالنسبة إلى وجود الله ودراسة أدلة إثبات وجوده.
هناك طرق متعددة لمعرفة الله سبحانه وتعالى. ومن بين هذه الطرق هو طريق الشهود القلبي والعرفاني، من قبيل المعرفة التي تحصل للأنبياء وبعض الأوصياء، وفي مرتبة أدنى لدى بعض العرفاء. والطريق الآخر لمعرفة الله سبحانه وتعالى هو الطريق العقلي والفلسفي. وإن معرفة الله من طريق التحليل النفسي والاجتماعي (معرفة الله من طريق النتائج والآثار والتجربة العينية لها) تندرج ضمن هذا القسم. كما يمكن للإنسان الحصول على العلم والمعرفة بالله سبحانه وتعالى من طريق مشاهدة الأمثلة السلوكية (من قبيل: مشاهدة سلوك النبي والوصي أو ولي من أولياء الله). إن السبب الذي دعانا إلى إدراج العلم بوجود الله من طريق مشاهدة النماذج والأمثلة السلوكية في قبال المعرفة العقلية والفلسفية لله، هو أنه على الرغم من وصولنا إلى معرفة الله الفلسفية والعقلية بواسطة تحليل النماذج والأمثلة السلوكية، بيد أن الذي يتحقق على المستوى العملي هو أن الأشخاص الذين يشاهدون سلوك ونشاط النبي وتعامله مع الآخرين أو أفعاله الشخصية، يقعون تحت تأثير السلوك الحسَن والمحمود للنبي بحيث يؤمنون بعقيدته تلقائيًا ويصبحون من المؤمنين والمعتقدين بالله سبحانه وتعالى. وعلى هذا الأساس لم يحدث أيّ تحليل عقلاني في هذا الموضع. وأما الذي يقع موردًا للبحث في هذا الكتاب فهو الطرق العقلية والفلسفية.
(175)يتمّ الآن تقسيم فلاسفة الدين إلى واحد من هذه الطوائف الثلاثة الآتية:
1 . الفلاسفة الذين يعتقدون بوجود برهان معقول على وجود الله سبحانه وتعالى.
2 . الفلاسفة الذين يعتقدون بأن وجود الله سبحانه وتعالى لم يتمّ إثباته، وإن لم يكن إمكانه منتفيًا بالمرّة.
3 . الفلاسفة الذين يتوهمون أن وجود الله سبحانه وتعالى غير قابل للإثبات.
إن الطائفة الأولى يتعيّن عليها في الحدّ الأدنى أن تقدّم برهانًا واحدًا معتبرًا بلحاظ منطق المادّة والصورة. ويجب على الطائفة الثانية أن تثبت أن جميع الأدلة التي تمّت إقامتها حتى الآن مطعون فيها إما بلحاظ المادة أو بلحاظ الصورة. وأما الطائفة الثالثة فيجب عليها أن تثبت أن وجود الله غير قابل للإثبات، ولا يمكن لها ذلك إلا من خلال إثبات أن وجود الله أو مفهوم الله متناقض، كما أن مفهوم دائرة المربّع متناقض. يمكن لهذه الطائفة أن تعمل على تبويب أدلة إثبات وجود الله على أساس الحصر العقلي وإثبات التناقض في كل مجموعة منها، كما يمكن للطائفة الثانية أن تقوم بذلك من خلال الحصر الاستقرائي.
إن نشاط الإنسان أنما يصبّ على الدوام في الأمور الممكنة دون الأمور الممتنعة، ولذلك يكون من المناسب طرح هذا السؤال القائل: هل إثبات وجود الله أمر ممكن أو هو ممتنع من الناحية المنطقية؟ والشيء الذي يجب العمل هنا على إيضاحه في الحد الأدنى هو أن وجود الله ليس ممتنعًا من الناحية المنطقية، على الرغم من عدم
قدرتنا على إثبات الإمكان المنطقي لذلك قبل تقديم الأدلة التفصيلية على وجود الله سبحانه وتعالى؛ إذ يكفي لإثبات معقولية النشاط الفكري للبشر أن نثبت أن الأمور التي يتمّ بحثها لا تنطوي على امتناع ذاتي ومنطقي. وبعبارة أخرى: يكفي ـ في خصوص هذا البحث ـ أن نثبت أن النشاط الفكري للإنسان في إثبات وجود الله سبحانه وتعالى معقول، ولإثبات معقولية وجود الله سبحانه وتعالى يمكن القول: إن مفهوم الله ليس ممتنعًا بالذات ولا ينطوي على امتناع منطقي؛ إذ إنما يكون مفهوم شيء ممتنعًا بالذات فيما لو كان متناقضًا في ذاته، في حين أن المفهوم الذي نحمله عن الله ليس مفهومًا متناقضًا في ذاته. إن مفردة «الله» تدل على موجود يحتوي على جميع الكمالات، ولا يتطرّق له نقص أبدًا. وإن وجوده واجب ولا يكون تابعًا للغير. إن مثل هذا المفهوم عن الله لا ينطوي على تناقض داخلي، أو في الحدّ الأدنى لا ينطوي على تناقض ظاهري ، وإذا كان هناك من تناقض خفي، فيجب العمل على إظهاره بالبرهان. وعلى هذا الأساس حيث لا ينطوي مفهوم الله في داخله على تناقض واضح، يصبح إمكان (الاحتمال العقلي) إثبات وجود الله محرزًا، وفي هذه الحالة يكون السعي إلى إثبات وجود الله معقولًا، وإن كان لا ينطوي على ثمرة. وبطبيعة الحال فإن معقولية النشاط الفكري للإنسان في إثبات وجود الله يتوقف على حاجته إلى إثبات وجود الله، ومن هنا فإن البحث عن حاجة الإنسان إلى إثبات وجود الله يجب بحثه بشكل مستقل.
بعد القبول بإمكان إثبات وجود الله، ننتقل إلى المسألة اللاحقة، وهي فائدة البحث عن إثبات وجود الله سبحانه وتعالى بالنسبة إلى الإنسان. قد يُدعى أننا لا نحتاج إلى إثبات وجود الله، ولذلك لا تكون هناك فائدة من البحث عن إثبات
(177)
وجود الله سبحانه وتعالى. إن هذا الادعاء لا يخرج عن إحدى حالتين، وهما: إما أن لا يكون البحث عن إثبات وجود الله مفيدًا ومجديًا؛ لأن الله غير موجود أصلًا، أو لأن وجود الله من الوضوح والبداهة بحيث لا تكون هناك حاجة إلى البحث عن إثبات وجوده. أما الحالة الأولى فهي باطلة؛ وذلك لأنه لا يمكن ادعاء عدم وجود شيء إلا إذا كان ذلك الشيء متناقضًا في داخله بشكل تام، وكما تقدم أن ذكرنا فإن مفهوم الله ليس مفهومًا متناقضًا في ظاهره، وإن كان متناقضًا في الواقع، ويتم الكشف عن تناقضه بواسطة الاستدلال، بيد أن ذات الاستدلال يشكل دليلًا على وجود فائدة في البحث عن وجود الله سبحانه وتعالى.
وأما في الحالة الثانية، حيث يكون لدينا علم بوجود الله سبحانه وتعالى، فيمكن هنا بيان عدم فائدة إثبات وجود الله من خلال عدد من الصور، حيث يمكن بحثها بأجمعها تحت عنوان «العلم الفطري بوجود الله سبحانه وتعالى».
إن فطرية العلم بالله يمكن تصوّرها على أنحاء، ولكن قبل الخوض في هذه الصوَر يجب أن نعمل أولًا على إيضاح العلم الحصولي والعلم الحضوري.
إن العلم الحضوري هو العلم الذي يكون فيه المعلوم حاضرًا عند العالم دون توسّط المفهوم. وبعبارة أخرى: أن يكون العالم هو الذی یدرک نفس المعلوم و وجوده. وفي المقابل العلم الحصولي هو العلم الذي لا يكون فيه نفس المعلوم حاضرًا عند العالم، ولا يدرك العالم وجود نفس المعلوم، وإنما الذي يحضر عند العالم هو مفهومه وصورة عنه، ومن طريق ذلك المفهوم وتلك الصورة يحصل العالم على العلم بمعلومه. وعلى هذا الأساس فإن علمي ببياض الورقة التي أكتب فيها، علم حصولي؛ وذلك إذ بفعل تسليط الضوء على الورقة وانعكاسها في عيني، ترتسم
(178)صورة عن الصفحة البيضاء في ذهني، وأما علمي بحبّي لطلب العلم فهو علم حضوري، بمعنى أني أدرك هذا المعنى والميل إلى طلب العلم في نفسي مباشرة. وبالنظر إلى الاختلاف بين العلم الحضوري والعلم الحصولي، فإن فطرية العلم بالله يمكن النظر إليه من زاوية العلم الحضوري كما يمكن بيانه على أساس العلم الحصولي أيضًا؛ بمعنى أنه يمكن القول بأن العلم بالله يحصل لدى البشر بشكل فطري ومن دون توسط المفهوم والصورة، كما يحصل من طريق المفهوم والصورة أيضًا. وعلى هذا الأساس يمكن في مورد عدم حاجة البشر إلى إثبات وجود الله، الاستدلال على وجود الله من طريق فطرية العلم الحضوري، وكذلك من طريق فطرية العلم الحصولي بوجود الله.
تارة يُقصد من فطرية العلم بالله هو العلم الحضوري بوجود الله تبارك وتعالى، بمعنى أن طبيعة وجبلّة الإنسان بحيث يجد الله حاضرًا عنده على الدوام من دون توسط أيّ مفهوم. وفي هذه الحالة يمكن الاستدلال على عدم حاجة إثبات وجود الله بأن كل إنسان يتعرّف على خالقه بالعلم الحضوري، وعليه لا تكون هناك حاجة إلى إثباته.
في معرض الجواب عن هذا الاستدلال، يجب تقسيم العلم الحضوري إلى قسمين، وهما العلم الحضوري الالتفاتي، والعلم الحضوري الالتفاتي الناقص. قد يخطر على الذهن في بداية الأمر أن التعبير بالعلم الالتفاتي الناقص متناقضًا، إذ أنه لو كان علمًا فإن الشعور به موجود. يبدو أن الإشكال هنا يكمن في التعبير؛ إذ أن المراد من العلم شبه المعلوم هو العلم الضعيف في قبال العلم الشديد؛ حيث أن أثر شدّة وضعف العلم يؤدي إلى إلتفات أو عدم إلتفات الإنسان بذلك العلم؛ خذ مثلًا شخصًا يعاني من الصداع، لا شك في أن معاناة هذا الشخص طوال فترة الصداع
(179)ليست على وتيرة واحدة ونفس النسبة، بل إنه في بداية الأمر يشعر بألم طفيف ثم يشتدّ الوجع شيئًا فشيئًا، ولذلك كلما اشتدّ الألم أكثر فإن إلتفات الشخص إليه سيزداد بشكل أكبر أيضًا، إلى الحد الذي قد يصل به الأمر من شدّة الألم إلى الغفلة عن الكثير من الأمور، في حين أن الأمر لم يكن كذلك في بداية الصداع.
اتضح حتى الآن أن شدّة الألم تؤدّي إلى الالتفات الأكبر، وضعف الألم يؤدّي إلى قلة الالتفات، ولكن لم يتضح إلى الآن ما إذا كان هناك مورد يكون هناك علم ولا يكون هناك إلتفات. ولكي يتضح الأمر لا بدّ من التدقيق في مثال الصداع. إن الشخص الذي يبتلي بالصداع لا شك في أنه في مرحلة من الزمن لا يشعر بأيّ وجع، بيد أن العوامل والأسباب المؤثرة للوجع سوف تترك أثرها على الشخص بالتدريج، وإن هذا التأثير من التدرّج بحيث لو تمّ تنبيه الشخص في بعض المراحل الزمنية إلى ألم الرأس، فسوف يقول: لا أشعر بألم، ثم تأتي مراحل أخرى يبدأ فيها الشخص بالشك حول ما إذا كان يشعر بوجع أم لا، وبعد ذلك يصل إلى مرحلة يشعر فيها بالألم قطعًا ولكنه ألم خفيف. وعلى هذا الأساس فإن مراحل ما قبل مرحلة الشعور بالوجع الخفيف ليس علمًا التفاتيا، بل هو علم التفاتي تام. وبعبارة أخرى: إن بعض علومنا بحيث لا تستدعي انتباهنا إلى العلم؛ بمعنى أنه لا يكون لدينا علم بالعلم، لا أنه ليس لدينا علم. فإذا كان العلم الفطري بوجود الله بالنسبة إلى الإنسان من سنخ العلم الحضوري، فيجب أن يكون من العلوم شبه المعلومة؛ إذ ليس جميع الناس لديهم علم حضوري معلوم بوجود الله قطعًا، وعلى هذا الأساس لا توجد منافاة بين أن يكون لدى الإنسان علم فطري بوجود الله، وفي الوقت نفسه لا يكون مستغنيًا عن إثبات وجوده، وذلك لأن هذا العلم ليس معلومًا. ولكننا فيما يتعلق بموارد العلم الحضوري المعلوم بوجود الله هل نكون في غنى عن إثبات وجود الله؟ هذا هو السؤال الذي سنتعرّض إليه في البحث القادم.
(180)هناك من لديهم رؤية عرفانية إلى الله، ويشاهدونه بقلوبهم. ويمكن القول بشأنهم إن إقامة البرهان لهم لا فائدة منها؛ وذلك لأن الذي يجد الله لا يكون بحاجة إلى إثبات وجوده. إن الإثبات إنما يكون نافعًا حيث يكون الشخص في شك من شيء أو يكون منكرًا له
. إن الذي يجد الله كالذي يشعر بحرارة الجوّ، وفي الوقت نفسه يقول له شخص: هلمّ، كي أثبت لك أن الجوّ حار!إن هذا الاستدلال إنما ينظر إلى الشخص العارف، وذلك حيث يكون في حالة التجربة العرفانية، في حين أولًا: ليس جميع الناس لديهم مثل هذه الحالة، وثانيًا: إن العرفاء بدورهم لا يشاهدون الله في جميع حالاتهم. عندما يخرج العارف من الحالة العرفانية، كيف سيكون جوابه لو واجه السؤال القائل: هل الله موجود؟ إن قال في الجواب: حيث أني قد شاهدته، فهو إذن موجود، يكون هذا منه دليلًا عقليًا وفلسفيًا على إثبات وجود الله، ويستند إلى أصل امتناع التناقض، وإن كان هذا الاستدلال استدلالًا شخصيًا، ولن ينطوي على كثير فائدة بالنسبة إلى الآخرين. ثم إنه حتى العارف الذي يكون في مقام شهود الله، إذا كان عقله النظري في تلك الحالة العرفانية ناشطًا أيضًا، وطرح السؤال عن وجود الله، يجب أن يجيب عن هذا السؤال، ويجب أن يكون الجواب متناسبًا مع السؤال، بمعنى أن عقله النظري يجب عليه أن يعمل على تصويب الجواب؛ أي يجب أن يكون الجواب عن مثل هذا السؤال استدلالًا فلسفيًا، وإن جعل من تجربته العرفانية مقدمة له. وبالتالي فإن استدلاله وإن اتخذ صبغة شخصية، ولكنه استدلال معتبر وملزم.
ومن ناحية أخرى، كما ذكرنا إن الاستدلال أعلاه إذا تمّ، فإنما يثبت أن الذين
يشاهدون الله لا يحتاجون إلى استدلال، لا أن أصل إثبات وجود الله لن يكون مفيدًا بالنسبة إلى أيّ شخص وفي جميع الظروف.
قد يقال في الجواب عن الإشكال أعلاه: إن هذا الاستدلال يقوم على افتراض أن التجربة العرفانية والدينية معتبرة بمقدار ما للمعطيات الحسية من الاعتبار. في حين أن هذه المسألة موضع تأمّل، ومن بين الأبحاث المعرفية والأبستمولوجية هي: هل التجارب الدينية والعرفانية معتبرة أم لا؟
أولًا: يجب الفصل هنا بين مسألتين، إحداهما: ما هو مقدار اعتبار تجارب الأنبياء والعرفاء بالنسبة إليهم؟ والأخرى: ما هو مقدار اعتبارها بالنسبة إلى الآخرين؟ وإن الذي يقع موردًا للاهتمام في بحثنا هي المسألة الأولى؛ بمعنى ما هو مقدار استفادة الأنبياء والعرفاء من تجاربهم العرفانية ويجعلونها مقدمة في البرهان؟ إن النبي أو العارف الذي يتوصّل إلى تجربة دينية أو عرفانية، قد يقع تحت تأثيرها بشكل أقوى وأشد من معلوماته الحسية، أو أنه في الحدّ الأدنى يتأثر بالتجربة الدينية أو العرفانية بنفس مقدار تأثرها بمعلوماته الحسيّة. وعلى هذا الأساس يبدو أنه لا وجه للتشكيك في الأمور الوجدانية المأخوذة من العلوم الحضورية. وبطبيعة الحال فإن الاستدلال من طريق الشهود العرفاني ـ بالنسبة إلى غير الأنبياء والعرفاء الذين لا يمتلكون استدلالًا من طريق الشهود العرفاني ـ ليس محكمًا على نحو كبير، إلا إذا تمكنوا من إثبات وجود التجربة الدينية للأنبياء والتجربة العرفانية للعرفاء بدليل محكم.
وثانيًا: بهذا الإشكال يتم تعزيز فائدة البحث عن إثبات وجود الله حتى بالنسبة إلى العرفاء أيضًا؛ وذلك لأن شهود العرفاء إذا لم يكن قابلًا للاستناد بالنسبة إليهم، عندها يتعيّن عليهم أن يبحثوا لإثبات وجود الله عن دليل عقلاني.
يمكن تصوّر فطرية معرفة الله من طريق العلم الحصول، على ثلاثة أنحاء:
سبق أن ذكرنا أن الوجدانيات عبارة عن قضايا من سنخ العلم الحصولي الذي يتم الحصول عليه من العلم الحضوري، من قبيل قضية «أنا جائع» التي تمثّل علمي الحضوري بجوعي. وعليه فإن هذا المعنى يُعدّ واحدًا من بين تقريرات فطرية العلم الحصولي بوجود الله؛ بمعنى أن العلم الوجداني بوجود الله أمر فطري. وإن الشرط الوحيد الضروري هنا، هو أن على الشخص أن يلتفت إلى علمه الحضوري بوجود الله، لكي يتمكن من التقاط صورة له ويحصل على قضية وجدانية.
وعليه يرد السؤال هنا: هل العلم بوجود الله بهذا المعنى يؤدّي إلى أن يكون البحث عن وجود الله بلا فائدة؟ يمكن الحصول على جواب هذا السؤال ممّا أوضحناه في بحث العلم الشهودي والعرفاني بوجود الله؛ إذ عندما لا يغنينا العلم العرفاني بوجود الله عن إثبات وجوده، فإن العلم الوجداني به سوف يكون كذلك أيضًا.
إن البديهيات الأولية أو الأوليات في المنطق، عنوان يُطلق على القضايا التي يكفي مجرّد تصوّر طرفي القضية فيها للتصديق بها. قد يكون معنى فطرية العلم بوجود الله هو أن قضية «الله موجود» من الأوليات. يمكن أن نقدم تقريرين عن أولية هذه القضية:
(183)إن الإنسان إنما يحتاج إلى إثبات وجود الله فيما لو كانت مقدمات البرهان أوضح عنده من قضية «الله موجود»، في حين لا يوجد لدينا قضية أوضح من قضية «الله موجود». وعليه يبدو الأمر كما لو أن الشخص الذي يسعى إلى إثبات وجود الله يرى أن الوجودات الممكنة أكثر يقينية من واجب الوجود، في حين أن وجود واجب الوجود ضروري وحتمي، وإن ممكن الوجود هو الذي لا يُعلم وجوده
.جاء في نقد الاستدلال أعلاه: إن القول بأن مقدمات البرهان يجب أن تكون أوضح من النتيجة، كلام صائب، ولكن لا ينبغي أن نستنتج من ذلك أن النتائج الأوضح من المقدمات لا تحتاج إلى استدلال، بل يجب أن نستنتج من ذلك أن الاستدلال على النتائج الأوضح من مقدمات البرهان ليس ممكنًا، ويجب أن نستنتج في بحثنا أن إثبات وجود الله ليس ممكنًا، لا أنه ليست هناك حاجة إلى إثبات وجود الله
.يبدو أن علينا هنا أن نفصل بين الاستدلال وبين الغاية من الاستدلال. إن الاستدلال هو الوصول إلى النتيجة بعد التسليم بالمقدمات، سواء أكانت هذه النتيجة معلومة لنا قبل ذلك أو لم تكن معلومة. فليست هناك ضرورة دائمة إلى الوصول في الاستدلال من المعلوم إلى المجهول. لنفترض أن شخصًا قد أثبت نفسه من طريق مطلوب، ثم سعى ثانية إلى إثبات ذات هذا المطلوب من طريق آخر، لا يمكن القول في هذه الحالة إنه لم يقم بالاستدلال هنا. صحيح أنه لم يكتشف مجهولًا في البين، ولكنه قد استدل على معلومه. وعليه تارة تكون الغاية من الاستدلال
هي كشف المجهول، وتارة أخرى لا تكون كذلك
. وعلى هذا الأساس، لو كانت المقدمات واضحة وتوصلنا إلى نتائج أوضح منها، ففي مثل هذه الحالة لا تكون هناك ضرورة إلى إقامة الدليل، لا أن يكون الاستدلال غير ممكن. وإنما يمكن القول باستحالة الاستدلال وعدم إمكانه، حيث يؤخذ الوصول إلى المجهول بوصفه قيدًا في تعريف الاستدلال. إن لازم القبول بهذا التعريف هو أنه بعد أول برهان يقام على مطلب ما، سوف لا تعدّ سائر البراهين برهانًا، إلا بالنسبة إلى الشخص الذي لا يرتضي البرهان الأول. وبطبيعة الحال فإنه في هذه الحالة لا يكون عنوان البرهان صادقًا، لا أن نشاطه الفكري لا يُعدّ شيئًا. وعليه إذا كانت قضية «الله موجود» أوضح من قضية «ممكن الوجود موجود» لا يمكن اعتبار ذلك دليلًا على عدم إمكان إثبات وجود الله، إنما في هذا الفرض يمكن القول بأن إقامة البرهان لن تكون مجدية. ومن ناحية أخرى إذا لم يكن وجود الممكن واضحًا، وقبلنا أنه لا يمكن إثبات وجود الله من هذا الطريق، سوف تكون النتيجة هي أن إقامة البرهان على إثبات وجود الله من طريق ممكن الوجود ليس ممكنًا، ولكن لا يمكن بهذا الاستدلال رفض إقامة البرهان من طريق مفهوم الله وكذلك إقامة البرهان من طريق أصل الوجود. إن البرهان الوجودي وبرهان الصديقين لابن سينا وصدر المتألهين والعلامة الطباطبائي، هي من بين البراهين التي لا يكون فيها وجود الممكن مفروضًا. وعليه فإن أصل هذا الإشكال إنما هو في الواقع استدلال على عدم الحاجة إلى إثبات وجود الله، وليس امتناع إثبات وجود الله، ولذلك يمكن القول في الجواب عن أصل الإشكال: بالنسبة إلى الشخص الذي تكون عنده قضية «الله موجود»أوضح من أيّ مقدمة ترد في الاستدلال، لن يكون البرهان بالنسبة إليه مجديًا، لا أنه يكون غير ممكن. وأما بالنسبة إلى الشخص الذي لا تكون هذه القضية أوضح، بمعنى أن تكون المقدمات هي الأوضح فسوف يكون البرهان مجديًا.
وكأن هذا الإشكال يقوم على فرضية أن قضية «الله موجود» بالنسبة إلى جميع الأشخاص أوضح من أيّ مقدمة، في حين ليس الجميع يحمل ذات الرؤية تجاه القضية أعلاه. فهناك أشخاص في الماضي والحاضر ينكرون وجود الله أو في الحدّ الأدنى يشكون في وجوده، ولكنهم لا يشكون في أنفسهم.
إن الله سبحانه وتعالى في ضوء التعريف موجود قادر مطلق وعالم مطلق و... . وعلى هذا الأساس حيث يؤخذ مفهوم الوجود أو الموجود في تعريف الله، فسوف تكون قضية «الله موجود» من الأوليات، وإن الذي يحمل مفهوم الله في ذهنه، يكون عالمًا به بالضرورة أيضًا. وبالتالي يكون إثبات وجود الله بالنسبة إليه بلا معنى؛ وذلك لأن إثبات كل قضية سوف يتوقف في نهاية المطاف على الأوليات، وإن الشيء الذي يكون من الأوليات لا يكون مجهولًا في الأساس حتى يكون بحاجة إلى إثبات.
في بحث التقرير أعلاه يجب العمل في البداية على إيضاح معنى «الإثبات». تارة يكون المراد من الإثبات هو إثبات أمر مجهول واقعًا أو يُعدّ في الحدّ الأدنى مجهولًا. وتارة يُراد من الإثبات معنى أعم من المفهوم السابق، بمعنى أن يتمّ إثبات أن القبول بهذه القضية لا ينطوي على تناقض، وأن رفضه هو الذي يستلزم التناقض سواء أكانت تلك القضية مجهولة قبل الإثبات أو كانت معلومة وتم العمل في الوقت نفسه على بيانها على نحو عقلاني بشكل وآخر؛ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن قضية «الكل أكبر من الجزء» على الرغم من كونها معلومة بالنسبة إلى الجميع وتعدّ
(186)من الأوليات، يمكن العمل على بيانها بشكل عقلاني؛ لأن نفيها يعرّضنا إلى الوقوع في التناقض. ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أن الأوليات تنقسم إلى طائفتين، وهما أولا: الطائفة التي هي من قبيل القضية أعلاه، والتي هي على الرغم من وضوحها يتم العمل على بيانها بشكل عقلاني. إن هذه الطائفة يتمّ بيانها على أساس أصل الهوهوية وأصل امتناع التناقض. والطائفة الأخرى لا تقبل البيان والتفسير، بل هي في حدّ ذاتها تشكل مبنى لكل بيان وتفسير. إن هذه الطائفة تتألف حصريًا من أصل الهوهوية وأصل امتناع التناقض.
والآن علينا أن نرى في أيّ طائفة من هاتين الطائفتين من الأوليات أو شبه الأوليات يتمّ إدراج قضية «الله موجود». إذا كان اسم «الله» اسمًا عامًا وأن الوجود كامن في مفهومه، فإن قضية «الله موجود» سوف تكون من الأوليات قطعًا وتكون مصداقًا للطائفة الثانية التي هي مبنى لكل قضية أخرى. وأما إذا كان اسم «الله» اسمًا خاصًا وعلَمًا، فسوف تكون قضية «الله موجود» شبه أولية وليست أولية؛ وذلك لأن الاسم الخاص ـ كما سبق أن ذكرنا ـ لا يدلّ على مفهوم، ولكن يمكن القول في الوقت نفسه إن مدلول الاسم الخاص ينطوي على مفاهيم لو تم التعرّف عليها يمكن أن يرد ذكرها في تعريفه بوصفه شبه تعريف. وعلى هذا الأساس فإن القضية أعلاه إنما تكون شبه أولية فيما إذا كان لفظ «الله» قد تمّ وضعه على مدلول الموجود، ولكن يجب القول إن الوجود بالفعل ـ في كلتا الحالتين ـ لم يتم وضعه في مدلول الاسم العام والاسم الخاص، ولذلك لا تكون هذه القضية من هذه الطائفة من الأوليات أو شبه الأوليات، ولكن يمكن القول بأنها من تلك الطائفة من الأوليات أو شبه الأوليات التي يمكن لنا إقامة البرهان عليها. وبالمناسبة فإن البراهين الوجودية تعدّ من هذا القبيل. وعلى هذا الأساس لو كانت قضية «الله موجود» من هذه الطائفة من الأوليات أو شبه الأوليات، فإن إقامة البرهان عليها
(187)لن يكون من دون فائدة، وإن لم يتم العمل على جعل المجهول معلومًا، ولكن في الحدّ الأدنى يتمّ إثبات أن نفيها يستلزم التناقض.
قد يمكن أحيانًا أن تستعمل فطرية العلم الحصولي بوجود الله بمعنى ثالث، وهو نفس الفطريات في المنطق، بمعنى القضايا التي يكون الحدّ الوسط (علّة حكم المحمول على الموضوع) حاضرًا في الذهن. إن الفطريات في بعض التقسيمات تدخل في البديهيات الثانوية، في قبال البديهيات الأولية. إذا كانت معرفة الله بهذا المعنى فطرية، فإن حمل الموجود على الله يكون بحاجة إلى حد وسط هو علّة حمل الموجود على الله، ومن الواضح أن العلم بالله بهذا المعنى هو عين إثبات وجود الله. إن الذين يعتبرون أدلة إثبات وجود الله تنبيهية، قد يعتبرون وجود الله ـ بهذا المعنى الثالث ـ فطريًا.
إن طرق إثبات وجود الله متنوّعة. وفيما يلي سوف نشير إلى ثلاثة طرق رئيسة في هذا الشأن:
يُستعان تارة لإثبات وجود الله بمفهوم الله، ويتمّ إثبات وجوده من طريق مفهومه وتعريفه، من دون الاستفادة من وجود سائر الأشياء الأخرى. ويُسمى هذا النوع من البراهين بالبراهين الوجودية
، من قبيل: برهان آنسلم.ويُستعان تارة لإثبات وجود الله بوجود أصل الوجود، وليس بوجود خاص ومحدود. ويُسمى هذا النوع من البراهين في الفلسفة الإسلامية ببرهان الصديقين، من قبيل برهان الصديقين لابن سينا. إن وجود أصل الوجود يعني أن العالم ليس فراغًا في فراغ. وبعبارة أخرى: إن الوجود محيط بالعالم، وإن العالم لا يحكمه العدم، دون أن نحدّ هذا الوجود بحدّ خاص. أو بعبارة أخرى: من دون أن ننسب الوجود الی هذا او ذاك الشیء المحدود.
إن نوع البراهين التي تقام لإثبات وجود الله، هي من هذا القبيل، مثل: برهان الإمكان والوجوب. حيث تتمّ الاستعانة في هذا البرهان بوجود محدود، ويتم بذلك إثبات وجود الله. وتسمى البراهين من النوع الثالث بالبراهين الكونية
. وربما أمكن تسمية الجامع بين النوعين الأخيرين بالبرهان الكوني، والاستشهاد على هذا المطلب بكلام جيسلر، حيث يُعدّ إثبات وجود الله من طريق القبول بالوجود ـ من وجهة نظر الفلاسفة الغربيين ـ من قبيل البراهين الكونية. إن القبول بالوجود أعم من أن يكون الوجود المقبول وجودًا محدودًا أو مطلق الوجود، قال جيسلر في هذا الشأن:«إن الطريق الممكن الوحيد لجعله [البرهان الوجودي] معتبرًا ـ (إذا أمكن أن يشتمل على اعتبار في نهاية المطاف) ـ هو أن نفترض أو نقبل بأن هناك شيء موجود، وإنما يمكن للإنسان أن يستدل بأن «هناك شيء موجود، وعليه فإن الله موجود» فيما لو استدل في الواقع على نحو المعرفة الكونية. إن النقطة الأصلية تكمن في أن برهان الوجود في نفسه، ومن دون الاستفادة من هذه القضية القائلة «هناك شيء موجود»
لا يمكنه إثبات وجود الله على نحو الإمكان؛ إذ هناك على الدوام إمكان من الناحية المنطقية أن لا يكون هناك شيء موجود أبدًا، وبالتالي ونتيجة لذلك لا تكون هناك ضرورة منطقية لنؤمن بأن الله موجود»
.لو قبلنا بأصل الوجود، وعمدنا إلى تقسيمه بالحصر العقلي إلى الممكن والواجب، يجب على هذا الأساس أن نعتبر برهان الصديقين من قبيل البراهين الكونية، بيد أن الحق هو أن برهان الصديقين لم يكن له وجود في الغرب، وإن الوجود الذي يتحدّث عنه جيسلر هو وجود المخلوق ومن عوالم المحسوس. وبعبارة أخرى: إن البرهان الكوني هو البرهان الذي بواسطه من الكون إلى وجود الله، في حين أننا في برهان الصديقين نصل من خلال ذات الوجود إلى وجود الله، لا أننا نصل إليه من الوجود الخاص الذي هو مخلوق له.
وعلى كل حال، فقد عمدنا في هذا الكتاب إلى تقسيم الأدلة على إثبات وجود الله إلى ثلاثة أقسام، وأطلقنا على كل واحد من هذه الأقسام اسمًا خاصًا؛ بمعنى أن كل دليل على إثبات وجود الله يدخل في واحد من هذه الأقسام الثلاثة؛ وذلك لأن حصر الأدلة في هذه الأقسام الثلاثة إنما هو حصر عقلي، حيث أن كل برهان يكون بصدد إثبات وجود الله، لا يخرج من إحدى حالتين، فهو إما:
1 . أن يثبت وجود الله من طريق مفهوم الله أو المفاهيم الأخرى فقط ـ بغض النظر عما إذا كان هناك من وجود في العالم أم لا ـ أو ليس من طريق مجرّد مفهوم الله أو المفاهيم الأخرى، حيث يجب أن نستفيد من مصداق الوجود اضطرارًا. والحالة الأخيرة بدورها تنقسم بالحصر العقلي إلى قسمين؛ إما أن نستفيد من أصل الوجود من حيث أنه وجود الله ونعلم أنه وجود الله؛ فيكون هذا من المصادرة على المطلوب ولا يكون معقولًا، أو:
2 . أن نستفيد من أصل الوجود، ولكن لا نعلم ما إذا كان مصداقه هو وجود الله، وإنما ندرك بعد الإثبات أن ما كان مقدمة كان هو ذات وجود الله، أو:
3 . نستفيد من وجود خاص، من قبيل وجود الإنسان.
فلو عمدنا إلى إثبات وجود الله من الطريق الأول، بمعنى المفهوم البحت، أطلقنا على ذلك اسم «برهان الوجود» أو «البرهان الوجودي»، سواء أكان من طريق مفهوم الله أو المفاهيم الأخرى ـ إذا كان هذا الشيء ممكنًا ـ و ان اثبتنا وجود الله من الطریق الثانی اسمیناه برهان الصدیقین و ان اثبتناه، من الطريق الثالث، أسمينا ذلك بالبرهان الكوني.
وعلى هذا الأساس، يمكن بهذا التحليل في البراهين المفهومية أن نفترض مصداقين؛ حيث أسمينا أحدهما، وهو البرهان من طريق مفهوم الله، ببرهان «الوجود» أو البرهان «الوجودي»، وأما البرهان من طريق مفهوم غير الله، فلم يتصوّره أيّ فيلسوف حتى الآن، ولذلك ليس له اسم خاص، ومن هنا فقد أسمينا كلا البرهانين بالبرهان الوجودي أو المفهومي، ولا مشاحّة في الاصطلاح.
يتمّ تقسيم الأدلة التي تقام على امتناع إثبات وجود الله بشكل عام إلى طائفتين:
1 . الأدلة التي تنفي إثبات وجود الله بشكل عام، ولا تكون ناظرة إلى نوع خاص من أدلة إثبات وجود الله.
2 . الأدلة التي تنفي نوعًا خاصًا من أدلة إثبات وجود الله.
إن الذي يقع موردًا للبحث في هذا الفصل هو الأدلة العامة التي لا تكون ناظرة إلى نوع خاص من أدلة إثبات وجود الله، بل إما أن لا تكون ناظرة إلى أيّ نوع من أدلة إثبات وجود الله أصلًا، وتنفي إثبات وجود الله رأسًا، أو إذا كانت ناظرة إلى الأدلة، فهي لا تنظر إلى نوع خاص من الأدلة، وسوف نبحث الأدلة الخاصة في الفصل القادم إن شاء الله تعالى.
قلنا في الفصل الأول من هذا القسم: إن إثبات الإمكان المنطقي لوجود الله قبل بيان أدلة الوجود يبدو مشكلًا. فقد ذكرنا هناك أن امتناع وجود الله أو إثبات امتناع الاستدلال على وجود الله ليس واضحًا، وإذا كان وجود الله في الواقع ممتنعًا، فإنه لن يكون في غنى عن الإثبات، لذلك نكون قد أثبتنا الإمكان بمعنى الاحتمال العقلي لإثبات وجود الله، ولكن يبدو أنه يُستدل هنا على أن إثبات وجود الله ليس له إمكان منطقي؛ إذ إنما يكون هناك إمكان منطقي على وجود شيء، فيما إذا كان هناك إمكان
منطقي على عدمه أيضًا؛ ومن هنا فإن الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم يستدل على نفي وجود الله وإنكار إقامة البرهان على وجود الله، قائلًا: «كل ما أمكن تصوّره بوصفه موجودًا، يمكن تصوّره بوصفه غير موجود أيضًا، ولذلك لا يمكن العثور على أيّ موجود يتضمّن عدم وجوده تناقضًا. وعليه لا يكون هناك من وجود لأيّ موجود يكون وجوده قابلًا للإثبات»
.شبيه بهذا المعنى ما ينقله بارنز عن ديفيد هيوم (سوف نبحث هذا الأمر في هذا الفصل، وفي «استدلال ديفيد هيوم على نفي الوجود الضروري»). وفي هذا الاستدلال ـ كما في أيّ استدلال آخر ـ يجب افتراض امتناع اجتماع النقيضين، كما تمّت الإشارة إلى ذلك في ذيل هذا الاستدلال. وعلى هذا الأساس فإن فرض كلية كلام ديفيد هيوم غير مقبول؛ إذ لا يمكن القول: كل شيء أمكن لنا تصوّره موجودًا، يمكن لنا أن نتصوّره معدومًا، وذلك لأن المراد من الشيء إذا كان هو الأعم من الوجود، لا يمكن تصوّر الوجود معدومًا، والقول: «الوجود معدوم»؛ إذ أن هذا لا يستلزم التناقض فحسب، بل هو التناقض في حدّ ذاته. ومن ناحية أخرى قد ذكرنا في الموارد الثلاثة (في القسم الأول، الفصل الثالث، الفقرة الثانية) أن كل شيء إما أن يكون الوجود ضروريًا بالنسبة إليه، أو ممتنعًا أو ممكنًا. وعلى هذا الأساس لا يمكن تصوّر الوجود بالنسبة إلى بعض الأشياء، من قبيل: الأشياء الممتنعة، وأما الأمور غير الممتنعة فيمكن تصورها موجودة. والآن يرد هذا السؤال القائل: هل يمكن تصوّر جميع الأشياء غير الممتنعة معدومة أيضًا؟ بالنظر إلى المواد الثلاثة يتضح أن الأمر ليس كذلك. إن الوجود الضروري هو الوجود الذي لا يقبل العدم، إذ لو قبل العدم لن يكون بعد ذلك وجودًا ضروريًا، في حين أنه يجب أن يكون ضروريًا بحسب الفرض. وعليه فإن غير الممتنعات التي تكون ممكنة بشكل خاص بالنسبة
إلى الموضوع، يكون الوجود والعدم ممكنًا بالنسبة لها. وعلى هذا الأساس لا يمكن تصوّر واجب الوجود معدومًا. وبطبيعة الحال، لا نريد القول بهذا البيان إن واجب الوجود موجود، بل المراد هو أن واجب الوجود إذا كان موجودًا لا يمكن تصوّر عدمه. ولكن من أيّ طريق يمكن إثبات وجوده؟ يجب في ذلك الرجوع إلى أدلة إثبات واجب الوجود.
إن بعض الأدلة المذكورة على امتناع إثبات وجود الله، تقوم على النزعة الحسية، ومن هنا فإننا سوف نبحث هذه الطائفة من الأدلة تحت عنوان الحسية ووجود الله:
كان وليام الأوكامي يقول إن الشخص إذا ادعى وجود (X)، دون أن يشعر بوجوده أو بوجود أثر له، فسوف يكون بادعائه هذا ـ في الحقيقة والواقع ـ خارجًا عن الإنسانية، وليس هناك من طريق ثالث لوجود (X)، وإلا فإنه لو رفض انحصار إثبات الوجود في الموردين أعلاه، وجب عليه القبول بكل أمر غير ثابت. وعموم الناس لا يرتضون طريقًا آخر غير هذين الطريق لإثبات وجود الأشياء. ومن هنا يذهب وليم الأوكامي إلى الاعتقاد بأن طريق القبول بوجود شيء ينحصر بالحسّ والعقل. وبطبيعة الحال فإن الطريق العقلي أضعف من الطريق الحسي؛ بمعنى أنه لو ثبت وجود شيء لشخص من طريق التجربة فسوف يكون من المحال عليه أن يتخلّى عنه؛ من ذلك ـ مثلًا ـ لو أن شخصًا أحس ببرد الشتاء القارس، لن يستطيع إنكار وجود البرد بعد ذلك، وذلك لأن الشعور بالبرد لا يقبل الخطأ. وأما إذا تمّ إثبات شيء من طريق العقل، فلن يكون الأمر كذلك. إن الاعتقاد بوجود شيء من
الطريق العقلي إنما يبقى على حاله فيما إذا لم يكن هناك تفسير بديل للأمر المحسوس غير القبول بذلك الشيء، ولكن ما أن يتمكن من تقديم تفسير بديل لوجود الأمر المحسوس، لن يعود بمقدوره الإصرار على وجود ذلك الشيء بعد هذا. وعليه من الممكن لشخص أن يعمل على توظيف هذه الرؤية في مورد وجود الله أيضًا، بمعنى أن الله يجب إما أن يكون محسوسًا ليصبح وجوده مقبولًا أو من دون وجود الله لا يكون وجود الأمر المحسوس قابلًا للتفسير، ولكن حيث أن التوجيهات العقلانية في معرض المقابلة مع التفسيرات البديلة التي لا يكون وجود الله فيها أمرًا مفروضًا، فبناء على ذلك لن يكون إثبات وجود الله ممكنًا على نحو القطع واليقين. وعلى هذا الأساس تكون البراهين الوجودية وبرهان الصديقين ـ حيث لا تشتمل على إثبات وجود الله على أساس تفسير الأمر المحسوس ـ مردودة، وتكون البراهين الكونية غير مورثة لليقين بسبب التفسيرات البديلة.
نقول في معرض الجواب عن الكلام أعلاه:
أولًا: إن مقتضى الاستدلال أعلاه ليس هو امتناع إقامة البرهان على وجود الله، بل يرتضي إمكان وجود مثل هذه الأدلة، ولكنه يراها في معرض السقوط.
ثانيًا: حيث تمّ القبول في هذا الاستدلال بالتجربة والأمور المحسوسة بوصفها من الأمور اليقينية، فإن سؤالنا هو: من أين جاءت يقينية هذه الأمور؟ وهل يمكن اعتبار أمر ما يقينيًا دون أن تكون له دعامة عقلية؟ لماذا نعتبر الوجود الذي تمّ إدراكه من طريق القوى الحسية أمرًا يقينيًا؟ أليس لو أننا لا نزال نرى أن ما أدركناه لم ندركه، نكون قد وقعنا في التناقض؟ وعليه فإن دعامة يقينية المدركات الحسية عبارة عن أصل امتناع التناقض. ومن هنا لو أمكن إثبات مطلب ما بأصل امتناع التناقض وحتى من دون المدركات الحسيّة، يجب قبوله على ما هو عليه، وبذلك
(196)يتضح أن طريق إثبات شيء لا ينحصر بالمدركات الحسية أو من طريق المدركات الحسية وتبريرها.
ثالثًا: إن ادعاء حصر إثبات شيء بواحد من الطريقين أعلاه، لا يقوم بنفسه على هذا الواحد من طريقين، وبالتالي ليس هناك إلزام بقبوله؛ وعليه يمكن القبول بإمكان إثبات وجود الله من طريق مفهوم (البرهان الوجودي) أو من طريق براهين الصديقين، ما لم يكن هناك مانع يحول دون هذه البراهين. ومن هنا يمكن الحدس بأن كلام إيمانوئيل كانط قابل للمناقشة، وذلك حيث يقول بعد إنكار الوجود المحمولي في نقد البرهان الوجودي: «لو أردنا التفكير في الوجود من مجرّد طريق المقولة الخالصة، عندها لن يكون من العجيب أن لا نتمكن من الحصول على أية علامة للتعرّف على الوجود من الإمكان المحض. إن الوجود الذي يكون خارج دائرة الحس وإن كان لا يمكن القول بعدم إمكانه مطلقًا، ولكننا في الوقت نفسه لا نمتلك تفسيرًا له»
.إن إيمانوئيل كانط ـ الذي يُعدّ ضمن حلقة الفلاسفة العقلانيين ـ قد تأثر في هذا الموضع بديفيد هيوم، ولكنه لم يتجاهل العقلانية بالكامل، ومن هنا فإنه من جهة لا ينكر إمكان الوجود خارج دائرة الحس، ومن جهة أخرى بسبب تأثره بالحسيين لا يمكنه القبول بوجود شيء خارج دائرة الحسّ. ولكن السؤال ـ كما ذكرنا في نقد نظرية وليام الأوكامي ـ يقول: ما هي العلة التي يمكن بسببها القول بالوجود الحسّي لشيء ما؟ أليس ذلك بسبب الارتباط القائم بين الوجودات الحسيّة وأدواتنا الحسية، وأن أدواتنا الحسية تتأثر بها، وما لم يكن هناك شيء تتأثر به أدواتنا الحسيّة، لا يمكن تفسير هذه التأثيرات. وعليه لو أن هذه التأثيرات والمدركات على الرغم
من الحصول عليها نفترض عدم حصولها، نكون قد وقعنا في التناقض، وبسبب امتناع التناقض لا يمكن إنكار أصل وجود المحسوسات، وأما ما هي طريقة وجود المحسوسات فهو أمر آخر. وعليه لو أقيم برهان ما على وجود شيء دون اللجوء إلى التجربة، بحيث يكون إنكاره مستلزمًا للتناقض، وجب القبول بوجوده، وذلك لأن القبول بالمحسوسات بدوره إنما كان بسبب أصل امتناع التناقض.
يقال أحيانًا: لا يمكن إثبات وجود أيّ شيء من طريق الاستدلال والبرهان. وبالتالي لا يمكن إثبات وجود الله أيضًا. وبعبارة أخرى: إن قضية «(X) موجود» لا يمكن إثباتها بمقدمتين، سواء أكان (X) مجرّدًا أو ماديًا، جوهرًا أو عرَضًا، الله أو غير الله. أجل، يمكن إدراك وجود شيء بواسطة التجربة والإخبار بوجوده، من ذلك ـ مثلًا ـ يمكن القول: «إن الحرارة موجودة»؛ وذلك لأننا نشعر بالحرارة، ولكن لا يمكن لي أن أقيم الدليل على وجودها
.إن هذا الادعاء القائل بعدم إمكان إثبات الوجود بمقدمتين أو أكثر من دون الاستعانة بالحسّ، ادعاء من دون دليل. لماذا يمكن إثبات وجود شيء من طريق الحس والتجربة؟ هل يمكن الوصول إلى وجود شيء من طريق الحسّ والتجربة دون الاستناد إلى الأصول العقلية؟ الحقيقة هي أنه ما لم تكن هناك دعامة علمية للمحسوسات بالحسّ الظاهري والباطني، لا يصل الإنسان إلى العلم. فعندما نشعر بحرارة الجو داخل الغرفة، فإننا نبحث لهذه الظاهرة الحسية عن سبب وعلة؛ وذلك لأن هذه الظاهرة الحسية ظاهرة ممكنة الوجود، إذن يجب أن تكون لها علة. وعليه فإننا من طريق أصل العلية ـ الذي هو أصل عقلاني ـ وليس (حسيًا / تجريبيًا) ـ
ندرك أن ظاهرة الشعور بالحرارة معلولة لعلة خارجة عن حواسنا، نطلق عليها عنوان الحرارة، ونقول: «الحرارة موجودة». وعلى هذا الأساس لو أن مقدمات من قبيل: أصل العلية أثبتت لوحدها وجود شيء من دون الاستعانة بالحواس، وجب القبول بذلك أيضًا؛ إذ ليس هناك دليل على قبول الأصل العقلي في مورد، وعدم قبوله في مورد آخر. وعلى هذا الأساس فإن الإشكال أعلاه يقوم على الأصول الوضعية التي لا يوجد دليل على اعتبارها؛ وذلك لأن كل قضية ومعلوم غير ذات أصل الهوهوية وأصل امتناع التناقض يقوم على هذين الأصلين؛ من ذلك مثلًا أننا إنما نستطيع أن ندّعي الشعور والإحساس بالحرارة، ويكون هذا الشعور موجودًا فيما لو نفينا أصل التناقض، وإلا فليس لنا علم بالشعور بالحرارة.
يقال أحيانًا: إن إثبات الأمور المادية والمحسوسة أمر ممكن، بيد أن إثبات الأمور غير المادية وما يصطلح عليه بالمجرّدات ـ بمعنى الأمور التي تقع في ما وراء عالم الطبيعة
ـ غير قابلة للإثبات، وحيث أن وجود الله من سنخ الأمور التي تقع في ما وراء عالم الطبيعة؛ إذن لا يمكن إثباته .ولكن ما هي الخصوصية الكامنة في الأمور المادية التي تجعل من إثبات وجودها أمرًا ممكنًا، ولا تكون موجودة في الأمور غير المادية؟ إن إثبات الأمور المحسوسة رهن بأصل امتناع التناقض؛ بمعنى أننا نقول إن الأمر الحسّي موجود؛ لأن التناقض ممتنع.
وعلى هذا الأساس فإن إنكار أيّ أمر يستلزم التناقض مرفوض، وعليه يكون
وجود ذلك الأمر ثابتًا. إن عدم قبول أصل امتناع التناقض في مورد ما، يؤدّي إلى الخدش في أصل امتناع التناقض في جميع الموارد. وعلى هذا الأساس يجب القول: إن الذين هم بصدد إثبات وجود المجرّدات، ومن بينها إثبات وجود الله، يذهبون في الواقع إلى الادعاء بأن ردّ الاستدلال يستلزم القول بالتناقض، وإذا وقف شخص في وجه هذه المجموعة، تعيّن عليه أن يثبت أن نفي وجود المجرّدات لا يؤدّي به إلى التناقض. وبعبارة أخرى: قد يمكن لشخص أن يعتبر الأمور المحسوسة موجودة بمجرّد إحساسها، بيد أن هذا الاعتبار إنما يستند إلى أصول عقلانية، بمعنى أننا لو سألناه: «لماذا يرى ذلك الأمر المحسوس بالنسبة إليه موجودًا»، سوف يضطر في الجواب إلى التمسّك بأصول عقلانية بحتة، من قبيل: أصل العلية، وأصل الهوهوية، وأصل امتناع التناقض، وكما أن هذه الأصول تشكل دعامة بالنسبة إلى الأمور المحسوسة، فإنها تشكل دعامة لأي قضية أخرى أيضًا؛ إذن يجب القبول بها، ومن هنا لو تمّ إثبات وجود الله بهذه الأصول، وجب القبول بها، وإلا لن يمكن القبول بأيّ قضية أخرى.
طبقًا لهذه النظرية تكون القضايا غير الحسية بلا معنى، لا أنها ذات معنى ولكنها تكون كاذبة، وقد قرّر بلانتينغا هذه النظرية على النحو الآتي:
«إن الجملة إنما تكون ذات معنى أو يكون اللفظ ذا معنى فيما لو وقع موردًا للتحقيق بشكل تجريبي. وهذا يعني تمامًا أن يتمّ تحديد قيمة صدقها بأساليب العلوم الطبيعية. وحيث أن القضايا المرتبطة بالله (كما يُدّعى) لا تحتوي على هذه الشرائط، فإننا لو أردنا توخي الدقة، سوف تكون مجرّد قضايا من دون معنى. وحيث أن هذه القضايا المذكورة لا تحتوي على أيّ مضمون ولا تعمل على إظهار أيّ شيء أبدًا،
(200)فإنها لا تحظى حتى بفرصة وترف الاتصاف بالكذب أيضًا. في الرأي مورد البحث هناك جملة كلامية [ترتبط بالإلهيات] غير ذات معنى ومبهرجة قد تبرقعت بنقاب قضية ذات معنى»
.وبعد أن قرّر ألفين بلانتينغا هذا الإشكال، قال في معرض الردّ عليه:
«أما اليوم فإن الفلاسفة الذين يرومون التعريف بأنفسهم بوصفهم من أنصار أصل القابلية على التحقق، هم في غاية القلّة، وربما يعود سبب ذلك إلى أمرين؛ الأمر الأول: إن القول بأن تعيين «معيار قابلية التحقق» المصطلح إنما يتمّ عبر إخراج القضايا الكلامية والميتافيزيقية، دون حدوث هذا الصدام مع القضايا العلمية والقضايا المتعارفة، يبدو مستحيلًا بحسب الظاهر. يُضاف إلى ذلك أنه يبدو عدم وجود أيّ دليل على وجوب عدم إحساس المؤمن بالله أو أيّ شخص آخر يؤمن ببعض المعتقدات ـ التي يتمّ إخراجها بواسطة معيار عدم قابلية التحقيق [من دائرة الاعتبار] ـ حتى بأدنى إلزام تجاه القبول بالمعيار المذكور أبدًا. وعلى هذا الأساس سوف لن أتحدّث أكثر حول هذا النوع من الإلحاد»
.إن خلاصة نقد ألفين بلانتينغا هي أولًا: أنه على أساس ما ذكرناه في ردّ الحسيّة في الإشكالات الثلاثة السابقة، هو أن قبول التجارب إنما يستند إلى الأصول العقلانية، فإذا أردنا لتلك الأصول أن تقبل، يجب القبول بالأمور غير التجريبية القائمة على هذه الأصول أيضًا، وإن تمّ رفضها، فإن الأمور التجريبية بدورها سوف تكون عرضة للانهيار والزوال أيضًا. وثانيًا: إذا كان الشيء غير قابل للإثبات بالمعايير التجريبية، فإن هذا لا يعني أن يكون ذلك الشيء فاقدًا للمعنى. هناك لفقدان القضايا الفلسفية للمعنى تقارير أخرى، نذكرها على النحو الآتي:
كان الوضعيون من المناطقة يذهبون إلى الادعاء بأن الأحكام ما بعد الطبيعية ـ التي تعدّ الإلهيات والأخلاق من ضمنها ـ لا معنى لها؛ وذلك أولًا: لأنها لا تدّعي التحليلية. وثانيًا: لا يمكن إثباتها أو نفيها بالتجربة الحسية. من ذلك خذ بنظر الاعتبار قضية «إن الله موجود» على سبيل المثال. إن أكثر المؤمنين بالله لا يروق لهم اعتبار هذا الحكم تحليليًا بحتًا واعتباره صادقًا على أساس تعريف «الله» بوصفه «شخصًا موجودًا»، وحتى لو جعلنا هذا الحكم صادقًا بمساعدة هذا التعريف لـ «الله»، يبقى هناك متسع لطرح هذا السؤال القائل: هل هناك مصداق للفظ «الله» في عالم الواقع أم لا؟ وأما إذا اعتبرنا قضية «إن الله موجود» شيئًا أكثر من الحكم التحليلي، فهل تكون قابلة للاختبار التجريبي أم لا؟ لو أن المؤمنين يعرّفون «الله» بوصفه شخصًا يفوق عالم تجاربنا، فإننا ما دمنا نأخذ هذا الإله بنظر الاعتبار، عندها يبدو بحسب الظاهر أننا لا نستطيع إثبات أو نفي قضية «إن الله موجود» (من الناحية المنطقية) بالاعتماد على تجاربنا، وعليه فإنه بحكم أصل التحقيق تكون قضية «إن الله موجود» بلا معنى حقيقة.
... وبطبيعة الحال فإن إيير كان يقرّ بأن الذي يكون لازمًا لأصل التحقيق تمامًا، لا يعدو أن تكون القضايا ما بعد الطبيعية والإلهية أو الأخلاقية من حيث المعنى مختلفة عن القضايا التجريبية أو التحليلية، لا أنها فارغة عن المعنی بالضرورة. وهنا يمكن أن يكون هناك وجه معقول للقول بالمعنى الشعري أو العاطفي في قبال المعنى الحقيقي. ولكنه كان يُضيف ـ وحقّ له أن يُضيف ـ أن علماء ما بعد الطبيعة والإلهيين وعلماء الأخلاق يكونون قد انخدعوا لو تصوّروا أنهم يقومون بذات النشاط الذي يقوم به العلماء التجريبيون، ولكن بدقّة أكبر. كما كان يُصرّ ـ وحق له أيضًا أن يُصرّ
(202)ـ على أن هذا إذا لم يكن بالنشاط الذي يقوم به الذين يتعاطون مع ما بعد الطبيعة والإلهيات والأخلاق، عندها سوف يُفترض بهم أن يقدّموا تقريرات مقبولة عن النشاط الذي يقومون به. ولا سيّما عليهم توضيح مرادهم من القول بأن أحكامهم «ناظرة إلى الواقع»، أو قولهم بأنها تقدّم الدعم للمعرفة [البشرية]؛ وذلك لأن ظروف الاستعمال المفهوم لكل واحد من ألفاظ «الأمر الواقع» أو «المعرفة» في ما بعد الطبيعة، والإلهيات أو الأخلاق، يجب بحسب القاعدة أن تختلف عن ظروف هذا الاستعمال في العلوم الطبيعية
.هناك في هذا الاستدلال عدّة نقاط، بحاجة إلى بحث وتحليل:
1 . إن مسار الاستدلال في عدم وجود معنى لقضية «إن الله موجود» على النحو الآتي: إن هذه القضية ليست تحليلية، ولا بدّ لكي تكون ذات معنى أن تكون تجريبية بالضرورة؛ بمعنى أنه يجب أن تكون قابلة للاختبار التجريبي، وحيث أنها ليست كذلك؛ إذن يجب أن تكون بلا معنى. إن المغالطة في هذا الاستدلال تكمن في أنه يضع التجريبية في قبال التحليلية، في حين أن الذي يقابل «التحليلي» إنما هو «غير التحليلي»، وإن «غير التحليلي» ـ الذي يتمّ التعبير عنه اصطلاحًا بـ «التأليفي» ـ أعم من «التجريبي». قد تكون القضية التأليفية غير تجريبية أيضًا، مثل القضايا الإلهية، كما كان إيمانوئيل كانط يعتبر المسائل الرياضية تأليفية أيضًا. لو قيل إن الرياضيات تحليلية، وجب تفسيرها بحيث لا تكون القضايا التحليلية في الحمليات بالضرورة محصورة بحمل ذات الشيء وذاتيات الشيء على الشيء، بل إنها ـ على سبيل المثال ـ تشمل كل قضية يكون إنكارها مستلزمًا للتناقض، وفي هذه الحالة يمكن القول: إن الإلهيات بهذا المعنى تحليلية أيضًا؛ وذلك لأن نفي وجود الله على أساس برهان الإمكان والوجوب يؤدّي إلى التناقض أيضًا.
إن الدليل على وجود المغالطة في هذا الاستدلال هو أنه من أيّ نوع من أقسام القضايا يمكن اعتبار أصل قابلية التحقيق؟ فهل هذا الأصل من القضايا التحليلية أو هو من القضايا التجريبية؟ من الواضح جدًا أنه ليس من القضايا التحليلية، وإذا كان أصلًا تجريبيًا، فلن يكون كليًا.
2 . ما معنى «قابلية الاختبار التجريبي»؟ إذا كان المراد هو خصوص الاختبار من طريق الحسّ الظاهري، فسوف نتساءل ونقول: بأيّ ملاك يكون ذلك؟ فلماذا لو توصلنا إلى شيء بواسطة الحسّ الظاهري أمكن لنا أن نؤمن به، وإن توصلنا إليه بواسطة الحس الباطني أو بواسطة العلم الحضوري لا يمكننا الإيمان به؟ من الممكن أن يقال بأن مدركات الحسّ الباطني لا يمكن تعميمها وإنما هي أمور شخصية، في حين أن مدركات الحسّ الظاهري ليست كذلك. ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أن مدركات الحس الظاهري هي الأخرى شخصية أيضًا. وأما في مورد التعميم فيجب القول بأن التعميم لا يدخل شرطًا في الاختبار التجريبي. لنفترض مثلًا أن شخصًا ذهب إلى كوكب المريخ وشاهد شيئًا بأمّ عينه ثم انعدم ذلك الشيء ولم يعد له من وجود، فهل يمكن القول: حيث لم يحصل لجميع الناس علم بذلك الشيء، فسوف تكون القضية الدالة على هذا الأمر بلا معنى؟ وإذا كان المراد هو الأعم من الحس الظاهري والباطني، لا يمكن بعد ذلك اعتبار الإلهيات بلا معنى؛ وذلك لأن العرفاء يدّعون أنهم يدركون الله، وعلاوة على ذلك يدّعون أن كل شخص يتمكن من الوصول إلى المرحلة التي وصلنا إليها، فإنه سوف يشاهد الله أيضًا.
3 . لم يتمّ في الاستدلال تقديم ملاك على عدم المعنى. يضاف إلى ذلك لو أن المؤمنين بالله يعرّفون «الله» بوصفه شخصًا يفوق عالم تجاربنا، فإن قضية «إن الله موجود» ـ طبقًا لأصل قابلية التحقيق ـ سوف تكون بلا معنى تجريبي؛ بمعنى أن وجود الله لم يتمّ الحصول عليه من طريق تجربة الحسّ الظاهري. وبالمناسبة فإن
المؤمنين يدّعون بأن الله لا يمكن إدراكه بواسطة الحسّ الظاهري، ولكن لا يمكن القول: إن قضية «إن الله موجود» طبقًا لهذا الأصل، بلا معنى حقيقة؛ إن القضية التحليلية بالمعنى التجريبي بلا معنى أيضًا، بيد أنها ليست بلا معنى حقيقة. وفي الواقع فإن هذه مغالطة أخرى حيث يتمّ استنتاج عدم المعنى المطلق من عدم المعنى التجريبي؛ إذ لا يمكن نفي العام بسبب نفي الخاص. لو تمّ نفي المعنى التجريبي في قضية، لا يمكن بواسطة ذلك نفي المعنى غير التجريبي أو مطلق المعنى.
4 . يتضح من المطلب أعلاه أن العمل الذي قام به إيير في حدّ ذاته ينطوي على مغالطة أخرى؛ وذلك لأنه وإن كان لا يصرّح بأن جميع القضايا الإلهية والأخلاقية بلا معنى، ويرى لها معنى شعريًا وعاطفيًا، ولكنه يقرّ من طرف خفي بأن هذا النوع من القضايا بمفهومها الإخباري بلا معنى، وذلك لأنه يقول تلويحًا: إن كل قضية ذات معنى لا يخلو أمرها من احتمالين؛ فهي إما أن تكون إخبارية أو إنشائية (شعرية وعاطفية)، وحيث أن القضايا الإلهية والأخلاقية ليست تجريبية، فهي تنطوي على معنى شعري أو عاطفي، في حين أن التجريبية أخص من الإخبارية. وعليه فإنه بنفي الأخص ـ الذي هو التجريبية ـ لا يمكن العمل على نفي الأعم الذي هو الإخبارية.
5 . إن ما يقوم به فلاسفة ما بعد الطبيعة والإلهيات عبارة عن استنتاج النتائج من المقدمات، كما أن الشيء الذي يقوم به علماء العلوم التجريبية عبارة عن تشخيص الخصائص الموجودة في الأمور الجسمانية، وكلاهما يعتبر معطياته متطابقة مع الواقع، مع فارق أن الفلاسفة يستخرجون نتائجهم الأصلية من الأوليات، وعلماء العلوم التجريبية يستخرجون معطياتهم بواسطة الحواس الظاهرية، ولكنهما يشتركان في هذه النقطة وهي أن معطياتهما الفلسفية والعلمية تقوم على أساس الأصول العقلانية. ولهذا السبب فإنهما يذهبان إلى القول بأنها معتبرة.
لنفترض في مورد الورقة البيضاء، أن عالم العلوم التجريبية دقيق النظر أعلن قائلًا: «إن هذه الورقة بحيث تبدو لي بيضاء»، سوف نقول إن هذه القضية متطابقة مع الواقع؛ إذ في ذات الأمر حيث تبدو هذه الورقة بيضًا، لو لم تكن تبدو بيضاء، سوف تكون هذه القضية متناقضة وغير مقبولة. والفيلسوف بدوره يثبت أبحاثه الفلسفية بهذا الشكل تمامًا، غاية ما هنالك أنه في المسائل الفلسفية الأصيلة لا يستعين بالتجربة والحسّ، وإنما يستفيد من البديهيات الأولية، ويعمل على إثبات وجود الله. إنه يدّعي هنا أن عدم القبول بوجود الله يستلزم التناقض، كما أن عالم العلوم الطبيعية يرى أن عدم القبول بهذه القضية التجريبية يستلزم التناقض أيضًا. فلو استعان الفيلسوف بالحسّ وأثبت وجود الممكن، وأثبت من طریقِ برهانِ الامکانِ و الوجوبِ وجودَ الله يكون قد استعان بذات الإسلوب الذي يستفيد منه العالم التجريبي أيضًا.
على الرغم من أن فينغنشتاين لم يكن من الوضعيين، ولكنه ذهب إلى ما ذهبوا إليه من القول بأن القضايا الميتافيزيقية بلا معنى. وقد بيّن عدم مفهومية القضايا الميتافيزيقية بواسطة أصلين:
تقييم مفهومية القضية بواسطة نقيضها
إذا كانت القضية ذات معنى، فإن نقيضها سوف يكون ذا معنى أيضًا. وقد رأينا أن فيتغنشتاين كان يقول «إن فهم قضية ما يعني العلم بما سوف يكون عليه الوضع، إذا كانت تلك القضية صادقة». (4.024) فإني في تشخيص الوضع فيما إذا كانت القضية صادقة، يجب أن أتمكن من التفريق بين هذا الوضع والوضع الموجود إذا لم تكن القضية صادقة. وعلى هذا الأساس يجب أن أكون قادرًا على تصوّر كذبها؛
(206)بمعنى أن نقيضها بهذا المعنى يجب أن يكون له معنى ... . إن إشكال الأحكام ما بعد الطبيعية يكمن في أنها لا يمكن إنكارها بهذه الطريقة على نحو مفهوم.
لنفترض أننا نحكم بشأن الواقعية النهائية ـ أي ما كان يدعوه فيتغنشتاين بـ «الأشياء» ـ بحكم يتعلق بما بعد الطبيعة، من قبيل: «الأشياء (A, B, C) موجودة». ونقيض هذا الحكم هو «ليس الأمر كما لو كانت الأشياء (A, B, C) موجودة». إن هذا النقيض إذا كان ذا معنى، أمكن له أن يكون صادقًا أو كاذبًا. وأما إذا كان صادقًا فإن الألفاظ المستعملة فيه ـ وهي (A, B, C) ـ لا يمكن أن تحكي عن الأشياء؛ لأن صدق القضية يكمن في أن لا تكون هذه الأشياء موجودة. وعلى هذا الأساس فإن هذه الألفاظ (A, B, C) في ضوء نظرية فيتغنشتاين في باب المعنى، بلا معنى، وإن القضية المشتملة عليها بلا معنى أيضًا. وعليه فإنه بحكم الأصل الأولي الذي كان فيتغنشتاين يرفض ما بعد الطبيعة على أساسه، وهو أصل قابلية إنكار الاشتمال على معنى، فإن القضية التي تكون فيها هذه القضية غير مفهومة (أي: «الأشياء (A, B, C) غير موجودة»)، فإن نقيضها (أي: «الأشياء (A, B, C) موجودة») سوف يكون هو الآخر بلا معنى أيضًا [وذلك لأنه] إذا لم يكن بالإمكان إنكارها بشكل مفهوم، لا تكون غير ذات معنى. إن لبّ كلام فيتغنشتاين هو أن هذه القضايا ما بعد الطبيعية تدعي أنها بأجمعها تدور حول الواقعية النهائية (أي أنها بشأن الأمور التي كان فيتغنشتاين يسميها بـ «الأشياء»)، ومن هنا فإنها تواجه هذا الإشكال (قارن مع: 4.1272)
.إن هذا الاستدلال يرد في الإلهيات أيضًا؛ وذلك لأن وجود الله واحد من المسائل ما بعد الطبيعية.
بغض النظر عن أن الصدق والكذب في هذا الاستدلال – نظير البصر والعمى – كان يلزم أن يلحظ بعنوان العدم والملكة لا على نحو الايجاب والسلب
، فإن الذي أخذ بنظر الاعتبار للمفهومية، ونتيجة لذلك صدق أو كذب قضية ما، هو أن يمكن بالنسبة إلى القضية ونقيضها أخذ أوضاع وأحوال بنظر الاعتبار بحيث تكون تلك القضية أو نقيضها في تلك الأوضاع والأحوال موجودة أو غير موجودة. وكذلك بغض النظر عما إذا كان هذا المعيار بالنسبة إلى المفهوميّة والصدق والكذب، صحيحًا أم لا، فقد استنتج في الاستدلال على أساس هذا المعيار أن القضايا ما بعد الطبيعية بلا معنى! وبعبارة أخرى: إن الهليات البسيطة التي يكون المحمول فيها «موجودًا» بلا معنى، وكأنه لا يمكن تصوّر أوضاع وأحوال تكون فيه الهليات البسيطة الموجبة أو نقائضها صادقة أو كاذبة. إن دليل المستدل على هذا المطلب هو أننا عندما نقول: «إن (A) ليس موجودًا» مثلًا، فإن (A) لا يحكي عن شيء؛ لأنه لو كان يحكي عن شيء، وجب أن يكون ذلك الشيء موجودًا. وعلى هذا الأساس فإن لبّ الاستدلال هو أن الألفاظ الدالة على الأشياء، إنما تدلّ على الأشياء الموجودة، وعندما يتمّ سلب الوجود عن الأشياء، لن يعود لها من وجود لتكون هناك ألفاظ تحكي عنها. ومن هنا يتضح أن مجرّد معيار المفهومية لا يكفي لمفهومية القضايا ما بعد الطبيعية؛ إذ يمكن أخذ أوضاع وأحوال بنظر الاعتبار بحيث تكون القضايا ما بعد الطبيعية صادقة أو كاذبة، وحيث تمّ الإعلان في الاستدلال عن أن جميع القضايا ما بعد الطبيعية بلا معنى، يكون تقديم نموذج عن الأوضاع والأحوال لإثبات مفهومية بعض القضايا ما بعد الطبيعية كافيًا. لنفترض أنكم تسعون إلى معرفة ما إذا كان الشيء الذي يبدو في هذه الغرفة أصفر اللون موجودًا أم لا. فإن كان ذلك الشيء موجودًا في الغرفة، فإن الأوضاع والأحوال تكون على هذه الشاكلة، وهي أنه كلما كان هناك في الغرفةما يكفي من النور، ودخل إلى الغرفة شخص يتمتع بقوّة البصر، وأخذ يبحث عن ذلك الشيء، أمكن له العثور عليه، وإن ذلك الشيء سيبدو له باللون الأصفر، ولذلك يمكنه القول: «إن هذا الشيء موجود»، وأما إذا لم يتمكن من العثور في الغرفة بعد البحث في جميع أنحائها على ذلك الشيء الذي يبدو أصفر اللون، يقول: «إن ذلك الشيء غير موجود». وعليه فإن الاستدلال على عدم مفهومية القضايا ما بعد الطبيعية، لا أساس له.
يعمل فيتغنشتاين من خلال الأصل القائل: «إن حدود اللغة هي حدود العالم»، على إظهار القضايا الميتافيزيقية غير ذات معنى؛ إذ أن اللغة في الميتافيزيق تتجاوز حدود العالم، في حين أن اللغة في حدودها ذات معنى. وقد بيّن هادسون هذا الاستدلال على النحو الآتي:
«إن حدود اللغة هي حدود العالم، والعكس صحيح أيضًا» (قارن مع: 5.6)؛ لأن اللغة إنما تكون ذات معنى فيما إذا كانت تعمل على تصوير الواقع فقط؛ ولا يمكنها الوصول إلى تعبير فيما وراء الواقعية أو خارج الواقع؛ إذ لن يكون لديه في حينها شيء لكي يعمل على تصويره. وعلى حدّ تعبير فيتغنشتاين: (إذن لا يمكن القول في المنطق بأن العالم يحتوي على هذا وذاك ولا يحتوي على هذا وذاك) لماذا؟ (لأن هذا المقال يبدو أنه يستند إلى فرضية مفادها أننا نعمل على نفس بعض الإمكانات [أو الممكنات]، في حين أن الأمر لا يمكن أن يكون كذلك؛ لأن لازم ذلك عبارة عن تجاوز المنطق لحدود العالم؛ إذ بهذه الطريقة فقط يمكنه مشاهدة تلك الحدود من زاوية أخرى). (5.61) وعلى فرض صحّة نظرية فيتغنشتاين في باب المعنى، يبدو هذا الدليل معتبرًا بالكامل [إذ أننا] في ضوء هذه النظرية لا نستطيع الحديث حول شيء
لا يمكن لنا تصويره، ولا يمكن لنا تصوير شيء يكمن وراء الواقع. إذن لا يمكننا القول: «إن X يقع فيما وراء الواقعية (بمعنى أنه غير واقعي)»
.في هذا الاستدلال يتم العمل أولًا على نفي وسلب المعنى عن الميتافيزيقا وما بعد الطبيعة، ثم العمل تبعًا لذلك على نفي الإلهيات؛ وذلك لأن الإلهيات جزء من الميتافيزيقا أو أن إثبات وجود الله هو ـ في الحد الأدنى ـ مسألة من المسائل الميتافيزيقية.
في بحث هذا الاستدلال لا بدّ من العمل أولًا على بيان مراد فيتغنشتاين من مفردة «العالم». فهل مراده من «العالم» هو عالم الوجود، الأعم من الوجودات التي يجب أن تكون أو التي يمكن أن تكون؟ أو بالإضافة إلى ذلك تشمل حتى الأشياء التي ليس لها وجود، ولكن يمكن أن تكتسب الوجود، أو أنها لا تفتقر إلى الوجود فحسب، بل ولا يمكنها اكتساب الوجود أيضًا؟
يتضح من تضاعيف استدلاله أن مراده من العالم هو عالم الوجود، ولذلك فإنه كان يستنتج مباشرة أنه لا يمكن القول ما هي الأشياء غير الموجودة؛ وذلك لأن غير الموجودات ليست جزءًا من العالم ليكون بمقدورنا أن نمتلك تصويرًا عنها، والحديث عنها بألفاظ ذات معنى. إذا كان هذا الأصل مقبولًا، ففي مثل هذه الحالة لا يمكن اعتبار كل قضية ميتافيزيقية فاقدة للمعنى. بل إن خصوص القضايا الدالة على عدم وجود شيء هي التي ستكون فاقدة للمعنى، وبطبيعة الحال فإن هذا الكلام بدوره لا يعني أن كل قضية تدل على وجود شيء سوف تكون قضية ذات معنى، بل إن مفهومية القضايا الإيجابية الميتافيزيقية في نظرية فيتغنشتاين رهن بإدراك مراده من «تصوير الواقعية». فما هي الواقعية؟ فهل الواقعية هي تلك التي تعمل على
تكوين أشياء العالم فقط؟ أم العلاقات بين الأشياء هي الأخرى جزء من الواقعية أيضًا؟ فعندما يقال مثلًا: «إن القلم فوق المنضدة»، لا يكون هناك شك في أن القلم والمنضدة شيئان من واقعيات العالم، ولكن هل تكون كلمة «فوق» بدورها دالة على واقعية أيضًا؟ بمعنى أنها هل تُعدّ شيئًا من أشياء العالم؟ ومن ناحية أخرى، في أيّ معنى تم استعمال «التصوير»؟ فهل المراد من التصوير هو خصوص المدركات التي يتم الحصول عليها من طريق الحسّ الظاهري، أو المراد منه هو الأعم من الحس الظاهري والباطني، من قبيل تصوير العشق والمحبّة؟ أم يشمل المفاهيم الكلية التي هي عبرة عن تعميم للمعطيات الحسيّة أيضًا، أم بالإضافة إلى ذلك يشمل حتى المفاهيم الانتزاعية الأخرى التي تظهر في ضوء المفاهيم الحسية، ولا تكون في حدّ ذاتها حسية أيضًا؟
إذا كان المراد من «تصوير الحقيقة» هو التصوّرات الحاصلة من طريق الحسّ ـ الأعم من الظاهري والباطني ـ المقرون بتعميماته، يجب القول: إن المراد من «مفهومية القضية» هو المفهومية الحسية، ولا شك في أنه لا تكون هناك أيّ قضية ميتافيزيقية مفهومة بهذا المعنى، بيد أن القضايا الميتافيزيقية في الوقت نفسه والمفردات المستعملة فيها ذات مفهوم. وإن الفلاسفة الذين يبحثون هذه القضايا لا ينسجون على منوال الأباطيل ولا يضربون على إيقاع الترّهات. وأما إذا كان المراد من المفهومية المطلقة هو المفهومية الحسيّة، وكان كل ما لا يشتمل على معنى حسي عديم المفهوم بشكل مطلق ـ كما في قضية «ءاضیب تقرولا هذه نإ» في قبال القضية ذات المعنى القائلة: «إن هذه الورقة بيضاء» عديمة المعنى ـ وفي هذه الحالة سوف يعمل الأصل المنشود لفتغنشتاين على إبطال نفسه؛ وذلك لأن أصل «حدود اللغة هي حدود العالم» هو في حدّ ذاته ليس أصلًا حسّيًا، والدليل على ذلك أن «الحدّ» ليس من المفاهيم الحسّية. ولو قبلنا بهذا الأصل على صورته المتطرّفة، لما وجب اعتبار القضايا الميتافيزيقية
(211)وحدها بلا معنى فقط، بل ويجب اعتبار حتى مسائل الحساب بدورها فاقدة للمعنى أيضًا؛ وذلك لأن الأعداد هي الأخرى من المفاهيم الانتزاعية أيضًا. يضاف إلى ذلك أنه يجب اعتبار جميع القضايا بلا معنى؛ وذلك لأن كل قضية تنطوي على كلام عن الربط والنسبة بين شيئين، سواء أكان ذانك الشيئان حسيين أو غير حسيين، والربط والنسبة في القضية هو من قبيل «الكينونة» في القضايا الحملية الموجبة، ليس من الأمور المحسوسة. لا يمكن لشخص أن يتمسّك بهذه النظرية المتطرّفة، إلا إذا كان من الذين يحصرون مصادر معرفة التصوّرات في الحسّ فقط، في حين لا يوجد أي دليل على هذا الحصر؛ وذلك لأن هذا الأصل الذي هو في حدّ ذاته قضية تصديقية، يقوم على أصل تصديقي آخر يقول ليس هناك أيّ مصدر معرفي للتصديق إلا طريق الحس، وهذا الأصل حيث لا يكون دليلًا حسيًا، سوف يعمل على إبطال نفسه.
لو لم تكن المفردات الواردة في القضية ذا المعنى منحصرة بالمفردات التي يتم الحصول على مفاهيمها من طريق الحس، بل كانت تشمل حتى المفاهيم الانتزاعية التي يحصل عليها العقل من خلال نشاطه الذهني في معالجة المفاهيم الحسية، ففي مثل هذه الحالة يجب القبول بأن المفاهيم الحسية وغير الحسية من الناحية التصورية ذات معنى أيضًا، وإلا سوف نقع في الإفراط في تأصيل الحسّ. وعلى هذا الأساس لو كان عدم مفهومية قضية ما مشروطًا بعدم مفهومية واحد من العناصر المؤلفة لتلك القضية في الحدّ الأدنى، ولم يكن موقفنا متطرفًا في القول بالأصالة الحسية، ففي مثل هذه الحالة يجب أن نعتبر جميع القضايا الميتافيزيقية ذات معنى.
وهنا يوجد فرض معقول آخر للقضية الفاقدة للمعنى لا يرتبط بحقل التصوّرات؛ بمعنى أنه على الرغم من إمكان أن يكون لكل واحد من الألفاظ المستعملة في قضية ذات معنی علی انفرادها ، ولكن يمكن اعتبار القضية بمعنى من المعاني بلا معنى؛ فمثلًا على الرغم من وجود معنى لكل واحد من لفظ «المثلث» و«النوم»، يمكن
(212)القول بمعنى من المعاني: إن قضية: «المثلث نائم» بلا معنى، ولذلك فإن «تصوير الحقيقة» يعني أن النسبة بين عناصر قضية ما يجب أن تكون بحيث يمكن تصوّرها؛ من ذلك مثلًا أنه يمكن لنا أن نتصور إنسانا أو حيوانًا وهو في حالة النوم، ولكن لا يمكن تصور شيء مثل المثلث على هذه الحالة.
فهل اللاهوت والميتافيزيقا ـ في ضوء هذا البيان ـ بلا معنى؟ لا بدّ هنا من إيضاح المراد من «التصوير» أيضًا. فهل التصوير الذي يعمل على بيان الروابط والنسب بين التصوّرات هو خصوص الروابط والنِسَب الحسية؟ حيث في غير هذه الصورة إنما تكون القضية بلا معنى إذا كان المراد من التصوير هو التصوير الحسي، من الواضح أن القضايا الدالة ـ بحسب هذا المصطلح ـ على التصديقات غير الحسية، بلا معنى؛ بمعنى أنها فاقدة للمعنى الحسّي فقط، ولكن لا يمكن القول بشكل مطلق إن هذا النوع من القضايا بلا معنى، وإلا فحتى ذات هذا الأصل المذكور في نظرية فتغنشتاين سوف يكون ـ طبقًا لهذا المصطلح ـ بلا معنى أيضًا. إن «عدم المعنى» هنا لا يعني الإهمال والاعتباط والجزاف. إن هذا الأصل مفهوم تمامًا، وإن كان من الممكن أن لا يكون قابلًا للتصديق، ولكن على كل حال ليس له معنى حسّي. وعلى هذا الأساس فإذا كان هذا هو المعنى المقصود من عدم مفهومية الميتافيزيقا، فإن شكل الميتافيزيقًا لن يكون غير قبيح ولن يكون غير مكروه فحسب، بل لن يكون مضببًا ومغبرًّا أيضًا، في حين أنه في هذا الاستدلال من خلال إظهار عدم مفهومية الميتافيزيقا يتمّ السعي إلى عدم اعتباره وحذفه من ساحة العلم والمعرفة أو خفضه إلى مستوى وحدود الأدبيات.
إذا لم يكن المراد من «التصوير» هو التصوير الحسّي، بل كان المراد هو معناه العام، فهل يمكن اعتبار القضايا الميتافيزيقية بلا معنى؟ في ضوء تفسير عن عدم المعنى، تكون بعض المسائل الميتافيزيقية، وتبعًا لذلك الإلهيات ـ وليس جميعها ـ بلا معنى، وأما في ضوء تفسير آخر فهي ذات معنى بالكامل.
(213)لا بد في توضيح هذا المطلب من بيان الفرق بين السلب والإيجاب والعدم والملكة: في العدم والملكة يجب أن يكون الموضوع مورد البحث جديرًا بتقبّل الوصف الذي يتمّ التعبير عنه بوصف الملَكة، ولذلك كلما كان الموضوع غير متصف بذلك الوصف، على الرغم من وجود القابلية الشخصية أو النوعية للاتصاف به، فسوف يُنسب عدم تلك الملكة إلى هذا الموضوع، من قبيل العمى الذي هو عدم لملَكة البصر. إن العمى والبصر يُنسب إلى الشيء الذي يمتلك شأنية الاتصاف بالبصر؛ وأما في السلب والإيجاب فلا يُشترط أن يكون للموضوع استحقاق وشأنية الاتصاف بالوصف، ومن هنا يمكن القول: «إن الجدار غير مبصر»، ولكننا لا يمكن أن نقول: «إن الجدار أعمى». وعلى هذا الأساس، نقول: «إن عدم المعنى يمكن اعتباره بوصفه من عدم الملكة، وعندما يقع وصفًا في الجملة، فإنه يستعمل بهذا المعنى وهو أن موضوع الجملة ليس له شأنية قبول وإنطباق المحمول عليه، وعلاوة على ذلك فإن المحمول غير منطبق عليه أيضًا، وعليه فإن السؤال في هذا التفسير عن المعنى يكون عن شأنية تقبّل الموضوع بالنسبة إلى المحمول، وعليه فإن قضية «الدائرة المربعة موجودة» أو «الدائرة المربعة غير موجودة» تكون طبقًا لهذا المصطلح بلا معنى.
أما المفهومية فيمكن أخذها بنظر الاعتبار على أساس مطابقة وعدم مطابقة القضية مع الخارج؛ من ذلك مثلًا أن قضية: «الدائرة المربّعة موجودة» ذات معنى، وقضية: «تسا با تكل خادي أهر ديلك» بلا معنى.
إن كل ما يهمّ الفيلسوف هو العثور على قضايا صادقة، بمعنى القضايا المتطابقة مع الواقع. طبقًا للمصطلح الأخير لا تكون الميتافيزيقا والإلهيات بلا معنى أبدًا، وإن كانت بعض المسائل الميتافيزيقية، من قبيل: «اجتماع النقيضين غير موجود»، أو إلهيات من قبيل «إن الله ليس ناقصًا» طبقًا للمصطلح الأول بلا معنى، ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أن عدم المفهومية ليس مطلقًا.
(214)وعلى كل حال فإن المهم في البين هو العمل على تحليل أصل فتغنشتاين القائل: «إن حدود اللغة هي حدود العالم والعكس صحيح». من الواضح أن مراده من اللغة هي لغتنا نحن البشر؛ بمعنى أننا نتحدّث عن العالم وأن أفكارنا إنما تقع في مورد العالم، بيد أن المهم هو معرفة سعة وضيق دائرة العالم، وهكذا فإن المراد من اللغة ـ التي تعمل هنا في الواقع على تمثيل التفكير؛ إذ الشخص الأبكم بدوره له تفكيره الخاص أيضًا، والذي يعمل على نقله إلى الآخرين ـ هي لغة التصوّرات أو لغة التصديقات أو كلتاهما؟ إن هادسون
يُفسّر «العالم» في كلام فتغنشتاين بـ «عالمنا»، ولذلك فإنه يصوغ أصل فتغنشتاين على النحو الآتي: «إن حدود لغتنا هي حدود عالمنا». أن يكون هناك عالم واقع في حقل معرفتنا، إذ لا يمكن الحديث عن المجهول المطلق. من الواضح جدًا أن عالمنا لا يشمل العالم الذي لا يقع ضمن دائرة معرفتنا. أما مراد هادسون فهو معنى أضيق. إن مراده من «العالم» ما سوى الله، ولا يشمل الله، ومن هنا فإنه يرى أصل فتغنشتاين أساسًا لردّ ما بعد الطبيعة والإلهيات والأخلاق، ويقول:«من الواضح أن هذا الأصل مرتبط بركن ركين يتمثل بالإيمان بالله، ونعني بذلك مفهوم أن الله متعال، ويضع أمامنا هذا السؤال القائل: لو كان البناء على تعريف الله في الجانب الآخر من حدود العالم ... فهل يمكن لنا الحديث عنه بشكل ذي معنى؟»
.وعلى هذا الأساس يجب أن نؤمن بهذا الأمر بوصفه أصلًا، وهو أن المراد من «العالم» هو العالم الذي يقع تحت دائرة فهمنا، إلا أن البرهان هو الذي يبيّن حدود هذا العالم. وعلى هذا الأساس يجب دراسة مختلف الاحتمالات في مورد «العالم»،
لنرى أي منها يمكن القبول به من الناحية المنطقية. وقبل دراسة وبحث الاحتمالات يجب القول بأن أصل فتغنشتاين قد أقام بين العالم واللغة تناظرًا متساويًا؛ بمعنى أنه إذا كانت هناك لغة إذن هناك عالم، وإذا كان هناك عالم في دائرة معرفتنا إذن هناك لغة أيضًا.
سوف ندرس أصل فتغنشتاين ضمن محوري التصوّرات والتصديقات، وكأن الحدود بين التصوّرات والتصديقات ليست حدودًا قاطعة. وهل هناك بين لغتنا والعالم في محور التصوّرات تناظرًا متساويًا؟ وبعبارة أخرى: هل كل ما يجري على اللسان يقع بإزاء شيء في العالم مما يقع موردًا لعلمنا ومعرفتنا؟ وللإجابة عن هذا السؤال، يتمّ طرح هذا السؤال القائل: ما هي الأشياء المعروفة في العالم؟ هل الأشياء المعروفة في العالم إنما تخصّ الأشياء التي يتمّ الحصول عليها من طريق الحواس الظاهرية والباطنية؟ إن الجواب عن هذا السؤال هو النفي، وذلك إذ لدينا ألفاظ دالة على مفاهيم كلية. وعليه يجب أن لا يكون المراد من «العالم» هو خصوص العالم المحسوس بالحواس الظاهرية والباطنية. وتبعًا لهذا السؤال يرد هذا السؤال القائل: هل المراد من «العالم» هو خصوص العالم المحسوس ومحكي المفاهيم الكلية الذي يتم الحصول عليه من طريق تجريد المحسوسات؟ والجواب عن هذا السؤال هو النفي أيضًا؛ إذ لدينا ألفاظ تدلّ على مفاهيم نعبّر عنها بالانتزاعيات التي لا يتمّ الحصول عليها بفعل تعميم المفاهيم الحسيّة فقط، بل توجد من خلال نوع من المقارنة الذهنية بين الأشياء. وإن مفهوم العلية والوحدة والكثرة، من هذا القبيل. في عرض هذا السؤال الأخير يظهر هذا السؤال القائل: هل المراد من «العالم» كل ما هو موجود؟ يجب القول: إن الأمر ليس كذلك؛ إذ لدينا مفردات تفيد مفهوم العدم، بمعنى أن هذا المفهوم ليس له مصداق، كما أن المفاهيم الانتزاعية والتجريدية ليس لها مصداق أيضًا. وعليه حيث يوجد بين اللغة والعالم المعروف تناظر من نوع
(216)التساوي، إذن يكون العالم المعروف ليس هو العالم الموجود فقط، بل هو الأعم من العالم الموجود المعروف والمعدومات المعروفة أيضًا. وعلى هذا الأساس فإن «العالم» شاملًا للموجودات والمعدومات المعروفة وحتى الممتنعات من قبيل الدائرة المربّعة أيضًا. ومن هنا لو كان «العالم» شاملًا لمحكي المفاهيم الجزئية والكلية والحسيّة والانتزاعية، فسوف يقوم بين «اللغة» و«العالم» تناظر متساو ومتماثل، ويصبح أصل فتغنشتاين مقبولًا.
ولكن هل للغتنا ـ في حقل التصديقات ـ تناظرًا متساويًا مع العالم؟ و«اللغة» هنا عبارة عن ذات القضايا، و«العالم» هو محكي القضايا. ولا يخفى أن محكي القضايا ـ كما سبق أن أشرنا ـ هو محكي القضايا المعروفة، وعليه فإذا لم يكن محكي القضايا معلومًا لنا، فإنه لن يقع موردًا للبحث. وعليه نتساءل ونقول: هل العالم المعروف هو خصوص العالم الذي يُدرك من طريق الحسّ الظاهري والباطني فقط؟ إذا كان الأمر كذلك لا ينبغي أن تكون لدينا قضايا كلية؛ وذلك لأن القضايا الكلية ليست حسيّة، والحال أن لدينا في الحدّ الأدنى قضايا منطقية ورياضية كلية أو قضايا قطعية غير حسية؛ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن مجموع زوايا المثلث المسطّح تساوي زاويتين قائمتين، لم يتمّ الحصول عليه من طريق الحسّ. وعلى هذا الأساس فإن العالم لا ينبغي أن يكون هو خصوص العالم الحاصل من طريق الحسّ فقط. وعليه فإن «العالم» يجب أن يكون هو الأعم من العالم الحاصل من طريق الحسّ والعقل. وعليه يطرح هذا السؤال نفسه ويقول: هل «العالم» المقصود هنا هو خصوص العالم الموجود حقيقة ويتمّ التعرّف عليه من طريق الحسّ أو العقل؟ وبعبارة أخرى: هل مرادنا من «موجود حقيقة» هو أن نتمكن من نسبة الوجود إلى ذلك الشيء واقعًا؟ يجب القول إن لدينا في اللغة مفردات ليس لمحكيها وجود واقعًا؛ كأن نقول مثلًا: «القلم فوق المنضدة»، لا شك في أن للقلم والمنضدة واقعية، وأما كلمة «فوق»
(217)فإنها تحكي عن شيء ليس له وجود حقيقة. وبعبارى أخرى: ليس لدينا غير القلم والمنضدة شيء ثالث اسمه «فوق»، ولذلك فإن هذا النوع من المفاهيم يُعد من الوجود الاعتباري، بمعنى أنه ليس له وجود حقيقة. وعليه حيث يوجد هناك تناظر متساو بين اللغة و«العالم» المعروف، يجب أن لا يكون معنى العالم محصورًا في عالم لا تكون أشياؤه موجودة حقيقة، بل علينا القبول إلى هنا بأن يُعدّ محكي المفاهيم الاعتبارية المرتبطة بالأشياء الموجودة هو الآخر جزءًا من «العالم». ولكن هل الأشياء الموجودة حقيقة أو اعتبارًا، هي خصوص الأشياء المعروفة التي تتناظر اللغة معها تناظرًا متساويًا؟ إن الجواب عن هذا السؤال هو النفي أيضًا؛ إذ لدينا قضايا تنفي الوجود عن الأشياء بشكل أكيد، وهي القضايا التي يحتوي موضوعها على تناقض داخلي، من قبيل: «الدائرة المربّعة ليست موجودة»، أو على نحو أعم «اجتماع النقيضين محال». وعلى هذا الأساس يمكن القول إن العالم الذي يتناظر مع اللغة بشكل متساو، هو عالم يشتمل على الأمور الآتية:
1 . الشيء أو الأشياء التي يكون الوجود بالنسبة إليها ضروريًا، وتتم نسبة الوجود أو الخصائص الضرورية الأخرى إليها.
2 . الشيء أو الأشياء التي يمتنع أن تكون موجودة أو يمتنع أن تشتمل على بعض الخصائص.
3 . الشيء أو الأشياء التي يمكن أن تكون موجودة أو تشتمل على بعض الخصائص، أو لا تكون موجودة ولا تحتوي على بعض الخصائص.
وعلى هذا الأساس نواجه في كل علم ـ باستثناء الميتافيزيقا ـ هذه القضية الموجبة، وهي ما هو الشيء الذي يحتوي على أيّ خصائص أو نواجه هذه القضية السالبة القائلة: ما هو الشيء الذي لا يحتوي على أيّ خصائص. وأما في الفلسفة
فإما أن نواجه هذه الهلية البسيطة الموجبة، وهي ما هو الشيء الموجود، أو هذه الهلية البسيطة السالبة وهي ما هو الشيء غير الموجود.
من خلال دراسة هذه الاحتمالات يتضح أنه لا يمكن أن نستنتج من خلال أصل التناظر المتساوي بين اللغة والعالم، ما هي الأشياء غير الموجودة من الناحية المنطقية. وعلى هذا الأساس لو كان المراد من «العالم» هو العالم الواقعي الموجود، عندها لا يمكن القبول بالتناظر المتساوي بين اللغة والعالم. وللعمل على ردّ هذا الأصل بهذا التفسير يكفي أن نستعرض نفي وجود الدائرة المربعة. إن قضية «الدائرة المربّعة غير موجودة» قضية ذات معنى حقيقة، وحقيقة الدائرة المربعة تعني عدم وجود شيء هو دائرة ومربع معا، وإذا كان المراد من العالم هو عالم الموجودات فقط، وجب علينا أن نعدّ هذه القضية بلا معنى. وعلى هذا الأساس لا يمكن اعتبار الفلسفة والميتافيزيقا بلا معنى. وحتى إذا كان هناك بين اللغة والعالم الموجود تناظر متساو، لا يمكن اعتبار الفلسفة كليًا والإلهيات بتبعها بلا معنى؛ إذ أن تلك المجموعة من مسائل الفلسفة التي تبحث في وجود الأشياء، تعدّ جزءًا من الأشياء الموجودة، ولن تكون بلا معنى.
إن كل علم يتمّ الخوض في مسائله من خلال القبول ببعض الفرضيات الأولية. وفي علم الإلهيات كذلك بعد التسليم بوجود الله، يتمّ بحث سائر المسائل المطروحة فيه. ومن هنا لا يمكن إثبات وجود الله في علم الإلهيات؛ وذلك لأن وجود الله يؤخذ في هذا العلم بوصفه أمرًا مفترضًا ومفروغًا منه. لقد تمّ تنظيم هذا الإشكال على أساس نظرية فيتغنشتاين القائلة بأن مهمّة الفيلسوف تكمن في كشف «قواعد اللغة العمقية» ورسم حدود وثغور كل علم من العلوم، وحيث أن هذا الاستدلال
(219)يشتمل في حدّ ذاته على مقدمات، وأن العمل على نقدها سوف يشغل حيّزًا كبيرًا من صفحات هذا الكتاب، سوف نرجئ هذا الاستدلال والإجابة عنه في الفصل الرابع بشكل مستقل.
يذهب إيمانوئيل كانط إلى القول بأن المعرفة مزيج من المعطيات الحسّية بالإضافة إلى ما يضيفه الذهن إليها. وبعبارة أخرى: إن المعرفة تبدأ من التجربة، بيد أن المعرفة لا تنبثق من التجربة، وإنما لا بدّ من ضمّ شرائط أخرى، من قبيل: الصور الحسيّة (الزمان والمكان)، ومقولات الفهم، من قبيل: الوحدة والضرورة وما إلى ذلك؛ لكي تتحقق المعرفة. وعليه فإن التجربة هي مادّة المعرفة، وأما صورة المعرفة فيتم الحصول عليها من الذهن. ولهذا السبب يذهب إيمانوئيل كانط إلى الاعتقاد بالنومينون (أو الشيء في نفسه)، والفينومينون (أو الظاهر). يمكن للإنسان الوصول إلى الظاهر دائمًا، وأما النومينون أو الشيء في نفسه فلا يحصل له العلم به دائمًا. وعلى هذا الأساس لا يمكن إقامة برهان يستند إلى اعتبار وجود الله شيء في نفسه. وبعبارة أخرى: لا يمكن الوصول من عالم الظواهر إلى عالم وجود الأشياء.
وأنا في الحقيقة أشك في أن إيمانوئيل كانط مع ما كان يمتلكه من مثل هذه المعرفة يؤمن باستحالة إقامة البرهان على وجود الله؟ فقد ذكر هذا الإشكال في بعض الكتابات في ضوء مباني كانط على براهين إثبات وجود الله؛ انظر ـ على سبيل المثال ـ إلى هذا الإشكال:
خلافًا لتوقّع أنصار الدليل الوجودي من الذين يسعون ـ من خلال تحليل المفهوم الأكمل ـ إلى إثبات وجود الله من طريق قضية تحليلية، إلا أن إثبات وجود الله من هذا الطريق ليس ممكنًا، وعليه يجب أن يكون تأليفيًا لا محالة، إلا أن إثبات
وجود الله من طريق قضية تأليفية متأخرة عن التجربة بدوره لا معنى له، وعلى هذا الأساس يجب أن يتمّ ذلك من طريق قضية تأليفية متقدّمة على التجربة، وكل كلام إيمانوئيل كانط هو أن القضايا التأليفية المتقدّمة على التجربة إنما يمكن أن تكون صادقة في عالم الظاهر، وأما مقولات الحس ومقولات الفاهمة فلا يمكن إطلاقها على ما لا يمكن أن يكون زمانيًا ومكانيًا
.ومن دون أن نحكم على هذه النظرية التي صدع بها إيمانوئيل كانط، يمكن لنا القول بأن القبول بعالم النومينون هو في حدّ ذاته دليل على إثبات الأشياء في نفسها، كما هو دليل على أن علمنا يتعلق بعالم النومينون. وأما ما هي حقيقة وخصائص الأشياء في نفسها وما هي كيفيتها؟ وهل يمكن التعرّف على هذه الخصائص أم لا؟ فهي مسألة أخرى.
وبالمناسبة فقد تمّ الالتفات في الفلسفة الإسلامية إلى هذه النقطة، وهي أن الإنسان تحصل له معرفة في بعض الأحيان بماهية شيء ما، ولكن لا يكون له علم بوجوده، وبعكس ذلك يتعلق العلم بوجود شيء أحيانًا، في حين تبقى حقيقته وماهيته مجهولة. وعليه فإن البرهان على إثبات وجود شيء ليس سوى أن لذلك الشيء تحقق، وأما ما هي ماهيته، فهذه مسألة أخرى.
قد يرد هذا الإشكال على الذهن، وهو أنه ما لم تكن ماهية الشيء معلومة، لا يمكن إثبات وجوده؛ إذ لا يمكن إثبات المجهول المطلق. ولكن نقول في الجواب: إن معرفة الشيء الذي لا يكون وجوده معلومًا، لا صلة له دومًا بمفاهيمه الذاتية، فتارة يتم العلم بماهية الشيء من طريق آثاره ونتائجه وتارة من طريق التعريف. لنفترض أننا جميعًا لأيّ سبب من الأسباب نحمل مفهوم واجب الوجود في
الذهن، والآن نريد أن نعلم ما إذا كان لهذا المفهوم وجود خارجي أم لا، في حين أننا لا نعرف ماهيته وحقيقته، وإن كل ما نعرفه عن ذلك الشيء هو عنوان واجب الوجود، ولذلك فإن الموضوع بهذا المقدار يخرج عن المجهولية المطلقة. والخلاصة هي أننا لو قبلنا بأن علمنا لا يتعلق بعالم النومينون بشكل كلي، فإن ذات هذا القبول سوف يؤدّي إلى طيّ منظومة النومينون والفينومينون؛ إذ أن الشيء الذي لا يقع معلومًا بأيّ وجه من الوجوه، ويكون مجهولًا بالمطلق، كيف يمكن أن يقع طرفًا في التقسيم. وعلى هذا الأساس لا يمكن الخدش في برهان وجود الله من خلال منظومة النومينون والفينومينون.
إن كل قياس يشتمل على مقدمتين. وهناك من يذهب به الظن إلى عدم إمكان إثبات وجود الله بمقدّمتين في القياس. وقد أقيم هنا دليلان على عدم إمكان استنتاج وجود الله من مقدمات القياس:
إن الاستدلال على وجود الله لا يخرج عن إحدى حالتين؛ فإما أن يُذكر الله في واحد من مقدمات القياس، أو أن لا يُذكر في أيّ واحد منها. فإن لم يظهر في أيّ واحد من مقدمات البرهان، لن يمكن إثبات وجوده؛ إذ الشيء الذي لا يظهر في أيّ واحد من المقدمات، لن يظهر في النتيجة أيضًا. وبالتالي فإن هذا البرهان يجب أن يكون ساقطًا عن الاعتبار؛ إذ لا يمكن للنتيجة من الناحية المنطقية أن تكون زائدة على المقدمات، وإن كان الله مذكورًا في المقدمات، لن تكون هناك بعد ذلك حاجة إلى إثباته، ولا يكون البرهان معتبرًا.
لا بدّ من العمل أولًا على إيضاح ما هو المراد من قولهم: «إذا كان الله مذكورًا في مقدمات القياس، لن يكون البرهان معتبرًا»؟ فهل المراد من ذلك أنه كلما كان وجود الله ظاهرًا في المقدمات، سوف يعود هذا النوع من البرهان في الواقع إلى البرهان الوجودي، وإن البرهان الوجودي غير معتبر؟ إذا كان هذا هو المراد، فسوف نثبت في الفصل القادم أنه لا يرد أيّ إشكال على البرهان الوجودي.
وإذا كان المراد أن يكون الله ذاته هو المذكور وليس وجوده، ففي هذه الحالة كيف يكون البرهان غير معتبر؟ وما هو الدليل على عدم اعتباره؟ ومن ناحية أخرى، فإن ما يقال من «إن الله إذا لم يُذكر في مقدمات البرهان، فإنه في مثل هذه الحالة لن يظهر في نتيجته أيضًا»، هل المراد منه أنه لا يظهر لا ذات الله ولا وجود الله في أيّ واحد من المقدمات لا على نحو صريح ولا على نحو مستتر؟ فمن الواضح جدًا أن هذا النوع من المقدمات لا يُثبت وجود الله، وليس الأمر كذلك في أيّ واحد من البراهين التي تدّعي إثبات وجود الله؛ إذ أن الله ذاته يظهر في واحد من المقدمات.
وإن كان المراد من العبارة أعلاه أن النتيجة يجب أن تظهر في المقدمات بشكل صريح، وفي غير هذه الصورة لا يكون البرهان معتبرًا، فمن الواضح أن هذا الكلام باطل؛ وذلك لأن نتيجة البرهان ـ ولا سيّما في القياسات الاقترانية ـ لا تذكر في المقدمات صراحة، وإن كانت النتيجة موجودة في ضمن المقدمات، ولكن ما لم يحدث ترتيب في الذهن بين المقدمات، فلن يلتفت الذهن إلى نتيجة هذه المقدمات، وإن أدلة إثبات وجود الله تعمل على تنظيم المقدمات وترتيبها بحيث تتوفّر الأرضية لاستخراج النتيجة من صلب المقدمات.
(223)
إن إقامة الدليل على وجود الواجب ليس ممكنًا؛ وذلك لأن البرهان إما أن يكون لميًا حيث يحصل لنا علم بالمعلول من طريق العلم بالعلة، في حين أن الله طبقًا للتعريف موجود هو علة لكل موجود آخر. وعليه لا يمكن إقامة البرهان اللمّي في حق الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله ليس له علة كي يحصل لنا علم به من طريق علته. أو أن البرهان إنيًّا حيث يحصل لنا علم بالعلة من طريق العلم بالمعلول، في حين أنهم قالوا في المنطق: إن البرهان الإني لا يفيد اليقين؛ إذ العلم بالمعلول لا يكون ممكنًا إلا من طريق علته.
وفي الواقع فإن هذا الاستدلال هو من قبيل القياسات ذات الوجهين؛ حيث الأخذ بأيّ واحد من الوجهين ينطوي على محذور. إذن لا يمكن إقامة البرهان على الواجب. وفي القياسات ذات الوجهين يجب إما القبول بأحد الوجهين والإجابة عن المحذور الذي يرد ذكره، أو إنكار الوجهين. وقد ذكر بعض الفلاسفة من أمثال الشيخ الرئيس والعلامة الطباطبائي وجهًا ثالثًا، وقد عبّر عنه الشيخ الرئيس بالبرهان الشبيه باللم، وأطلق عليه العلامة الطباطبائي عنوان البرهان الإني المطلق، ولكن حيث أن هذا النوع من الجواب يستلزم البحث في أنواع البراهين اللمية والإنية، ولا ينسجم ذلك مع الغرض من تأليف هذا الكتاب، فإننا سوف نغض الطرف عنه، ونواصل وجهتنا نحو الوجه الثاني من الاستدلال؛ ليتضح مضمون الإشكال. إن المحذور في الوجه الثاني من القياس ذي الوجهين، عبارة عن هذه القضية القائلة: «لا يحصل العلم بالعلة من طريق العلم بالمعلول».
من الواضح أن هذه القضية ليست بديهية، ويجب إقامة البرهان عليها. وقد ذكروا لهذه القضية وجهين، سوف نبحثهما فيما يلي:
(224)الوجه الأول هو أن الحركة في البرهان الإنّي تكون من المعلول إلى العلة، وعليه ما لم يتمّ إحراز العلية الانحصارية للمعلول، لا يمكن الحصول على العلم بالعلة من طريق العلم بالمعلول؛ بمعنى أنه لا يمكن الحصول على علم بالعلة الخاصة من طريق العلم بالمعلول الخاص، وإنما يحصل العلم بعلة عامة؛ إذ من الممكن أن تكون لهذا المعلول علل بديلة؛ كأن يحصل لنا من خلال العلم بالحرارة ـ مثلًا ـ علم بوجود علة لهذه الحرارة، ولكننا لا نعلم ما إذا كانت علة هذه الحرارة هي النار أو الشمس أو الحركة أو شيء آخر؛ وعلى هذا الأساس لا يحصل لنا علم بوجود الله من طريق المعلول.
نقد: إن الجواب عن هذا الوجه هو أننا نثبت العلم بالعلة من طريق العلم بالمعلول؛ فمثلًا من طريق الممكن نثبت أن لهذا الممكن علة هي واجب الوجود، وأما الصفات الأخرى، من قبيل: أن يكون واجب الوجود هذا واحدًا، فيتمّ إثباته ببرهان آخر، بمعنى أن أدلة التوحيد هي التي تتكفّل بإثبات الإله الواحد. وعلى هذا الأساس نعود إلى القياس ذي الوجهين ونقول: هل إثبات الواجب بالمعنى العام من طريق الممكن برهان إنّي أم لا؟ لو قلنا إنه برهان إنّي، نكون قد قسّمنا البرهان الإنّي في الواقع إلى قسمين؛ قسم منه يفيد اليقين وهو الذي يُستعمل في برهان الواجب. ثم نعمل بواسطة أدلة التوحيد على تشكيل قياس إنّي آخر لنثبت به وجود الله. وإذا قلنا بأن هذا القياس ليس إنيًّا، إذن يجب أن نقول بأن القياس اللمّي على قسمين، وإن واحدًا من هذين القسمين هو الشبيه باللمّي.
وعلى هذا الأساس لا بدّ من القول بأن القياس ذا الوجهين خاطئ، وإن هناك نوعًا ثالثًا من البرهان، وهو البرهان شبه اللمّي أو البرهان الإنّي المطلق، وهو مفيد لليقين.
(225)الوجه الثاني امتناع العلم بوجود الواجب من طريق المعلول يتوقف على قاعدة ذوات الأسباب. طبقًا لهذه القاعدة لا يحصل علم بأيّ معلول إلا من طريق العلم بعلته. وعلى هذا الأساس لو أردنا الحصول على علم بعلة من طريق العلم بمعلولها، كان لازم ذلك أن تكون علته موجودة أولًا، ثم يحصل لنا علم بالمعلول من طريق العلم بعلته. إذا لم تكن العلة موجودة في مرتبة سابقة على العلم بالمعلول، ولم يكن العلم به علة لعلمنا بالمعلول، فكيف يمكن أن يحصل العلم به وأن يحصل لنا علم بوجود العلة من طريق العلم بالمعلول؟ إن الدليل على أن العلم بالمعلول لا يحصل إلا من طريق العلم بعلته هو أن العلم يتطابق مع المعلوم وإلا كان جهلًا، وحيث أن العلم يتطابق مع المعلوم فسوف تكون النسبة بين العلم بالمعلول وبين العلم بالعلة هي نفس النسبة بين ذات المعلول وذات العلة؛ بمعنى أنه حيث يكون العلم متطابقًا مع المعلوم، فإذا كان هناك معلوم معلول وكان وجوده متفرّع عن وجود علته؛ إذن سيكون العلم بالمعلول متفرّعًا عن وجود علته، وحيث أن العلم بالعلة متطابق مع معلومه، وإن المعلوم هنا هو ذات وجود العلة المتقدّمة على وجود المعلوم والعلم بوجود المعلول؛ إذن يكون العلم بالعلّة متقدمًا على العلم بالمعلول. وعلى هذا الأساس لا يمكن الحصول على العلم بالعلة من طريق العلم بالمعلول.
إن الجواب عن هذا الاستدلال هو أن هذا الأمر ليس بديهيًا؛ بمعنى أنه ليس من المعلوم بداهة إذا كان العلم متطابقًا مع معلومه؛ إذن تكون النسبة بين العلم بالمعلول والعلم بالعلة هي نفس النسبة بين ذات المعلول وذات العلة؛ وذلك لأن هذه القضية لا هي بيّنة ولا هي مبيّنة. لا شك في أن لدينا علمًا بأنفسنا ومشاهداتنا
وتجاربنا، فليس الأمر كما لو كان علمنا بهذه الأمور قد حصل من طريق العلم بعلل وجودها؛ وذلك لوضوح أن علمنا بأنفسنا هو عين أنفسنا، ومن ناحية أخرى من المعلوم أن وجودنا ليس واجب الوجود. هذا في حين أن لدينا علمًا بأنفسنا، ولا علم لنا بعلتنا؛ بمعنى أنه في الحدّ الأدنى ليس الأمر كما لو أن علمنا بأنفسنا قد حصلنا عليه من طريق العلم الحصولي بعلة أنفسنا.
لا بدّ من الالتفات إلى أن مصبّ قاعدة ذوات الأسباب في باب البرهان هو المنطق. لتوضيح هذا المطلب من المفيد هنا أن نذكر نص عبارة الأستاذ الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي في تعليقته على نهاية الحكمة
، والتي تمثل عصارة ما قاله الشيخ الرئيس ابن سينا في منطق الشفاء:«إذا كان ثبوت المحمول للموضوع معلولًا لعلة ما، كانت النسبة الضرورية بينهما لأجل وجود تلك العلة، وإلا كانت النسبة بينهما بالإمكان لا بالوجوب، وحيث إن مقدمات البرهان يجب أن تكون بحيث تنتج علمًا ضروريًا بالنتيجة، كان من الواجب أن يكون الحدّ الأوسط علّة لثبوت المحمول للموضوع إذا كان لذلك الثبوت علة، ومثل هذا البرهان يُسمّى لميًا. وأما إذا لم يكن ثبوت المحمول للموضوع معلولًا لعلة توجبه، بل كان ذاتيًا له (بالمعنى المصطلح في كتاب البرهان)؛ فلا يخلو إما أن يكون ذلك بيّنًا بنفسه فلا يحتاج إلى برهان، وإما أن يكون غير بيّن، فالعلم به يحصل إما بالاستقراء أو من طريق الملازمة بينه وبين لازم آخر بيّن، وهو برهان الإنّ المطلق. وأما الاستدلال بالمسبّب فلا يفيد علمًا بالسبب المعيّن؛ لاحتمال تحقق المسبب من غير هذا السبب، إلا إذا علم بانحصار السبب التام.
وبالتأمّل في كلامه هذا يتضح أولًا: أن الغرض من عقد هذه المسألة هو بيان
الفرق بين البرهان اللمّي المفيد للعلم الضروري والدليل الذي لا يفيد ذلك العلم، وبيان المورد الذي لا يحصل العلم الضروري فيه إلا من طريق برهان اللمّ. وثانيًا: إن المراد بالعلم ههنا هو العلم المكتسب بالبرهان دون العلم الحضوري والعلم الحصولي البديهي والعلم المتغيّر الجزئي»
.وعلى هذا الأساس لا منافاة بين أن يكون الموجود علة لجميع الأشياء، ويكون العلم به حاصلًا بواسطة معلوم آخر. وعليه يمكن القول إن قاعدة ذوات الأسباب على النحو المذكور في الإشكال، قد نشأت من الخلط بين مقام الثبوت والإثبات، إذ أن وجود المعلول في مقام الثبوت قد نشأ من وجود علته، ولكن لا يمكن جعل ذلك دليلًا على أن الوضع سيكون على هذا النحو حتى في مقام الإثبات بمعنى مقام العلم بالمعلول أيضًا. فقد يحصل العلم بذات المعلول، ولا يحصل علم بعلته. يُضاف إلى ذلك أن الذي يُضفي الاعتبار على برهان القياس الاقتراني هو صدق المقدمات مع تكرار الحد الأوسط، والحدّ الأوسط هو علة اثبات المحمول للموضوع. وعليه لا تكون هناك حاجة إلى القول بأن هذا برهان لمّي أو إنّي، ثم نبحث عن تعريفهما لننتهي إلى القول بأن لدينا برهانًا شبه لمّي أو أن لدينا برهانًا إنيًا مطلقًا. ثم إن هذا الاستدلال على فرض تماميته لا يجري في القياسات الاستثنائية، وعليه فإن البرهان الذي يتمّ بيانه من طريق القياسات الاستثنائية، يكون في مأمن من هذا الإشكال من الأساس.
ثم على فرض تسليمنا في مقام الإثبات والعلم بالمعلول أن «ذوات الأسباب لا تُعرف إلا بأسبابها»، إلا أن هذا الكلام لا يعني أن العلم بالمعلول يحصل من طريق العلم بعلته، بل مضمونه أن العالم يعلم بذلك المعلوم بواسطة أسباب وجود المعلوم؛
بمعنى أن تحقق وجود هذا العلم يتوقف على وجود علته. لا ينبغي الاستنتاج من هذا المطلب أنه يجب حصول العلم بالعلة أولًا، ثم الحصول بعد ذلك على العلم بالمعلول من طريق العلم بالعلة. إن هذه القاعدة بمضمونها الذي تقدّم توضيحه إنما تصدق في مورد علم كل موجود بالنسبة إلى معلوماته التي هي بأجمعها معلولة لله، ولكن لا من حيث أن المعلومات معلولة لله سبحانه وتعالى، وإن العلم بها لا يحصل إلا من طريق العلم بالله، بل من حيث أن وجود العلم متوقف على هذا الأمر؛ وذلك لأن علم كل ممكن مثل الممكن ذاته هو من الوجودات الممكنة، وإن وجود كل ممكن رهن بواجب الوجود. وعليه فإننا من طريق واجب الوجود يحصل لنا علم بممكن الوجود، ولكن لا ينبغي أن نستنتج من هذا الكلام أن علمنا بالممكنات يكون من طريق العلم بالواجب، وذلك لأن الذي هو في مقام إثبات علمنا بالممكنات هو ذات واجب الوجود؛ بمعنى أن واجب الوجود هو سبب وعلّة علمنا بالممكنات، لا أن العلم بواجب الوجود هو سبب علمنا بالممكنات. بلى، لو أخذنا علم الله بالممكنات بنظر الاعتبار، فسوف تكون الممكنات معلولة له، كما سيكون العلم بالممكنات من طريق العلم بذات الواجب؛ بمعنى أنه حيث أن وجود الله وجود علمي، فإن جميع الممكنات بدورها تكون معلومة له، دون أن يكون هناك أيّ شيء آخر علة لعلم الله بالممكنات.
إن الفلاسفة المسلمين الذين قبلوا بقاعدة ذوات الأسباب بالمعنى الوارد في الإشكال، كانوا في الوقت نفسه بصدد إقامة برهان فلسفي على وجود الله. إن صدر المتألهين الذي عمد ـ تبعًا للفخر الرازي في المباحث المشرقية ـ إلى إفراد فصل مستقل في الأسفار تحت عنوان «في امتناع العلم بذي السبب من غير جهة السبب»، قد ذكر هذا الإشكال وأجاب عنه؛ بمعنى أنه لم يجد تنافيًا بين القاعدة وإثبات وجود الله. ولكي نحكم بهذا الشأن سوف نذكر الإشكال وجوابه عنه:
(229)«لقائل أن يقول: إنا إذا علمنا وجود البناء، علمنا أن له بانيًا، مع أن البناء لا يكون علة للباني، بل الأمر بالعكس.
فنقول: العلم بالبناء لا يوجب العلم بالباني، بل يوجب العلم باحتياج البناء إلى بنّاء، واحتياجه إلى البنّاء حكم لاحق لذاته لازم له معلول لماهيته؛ فيكون ذلك استدلالًا بالعلة على المعلول، ثم العلم بحاجة شيء إلى شيء لمّا كان مشروطًا بالعلم بكل واحد منهما لا جرم صار الباني معلومًا لكون العلم بالإضافة إليه حاصلًا، وجميع البراهين الإنية من هذا القبيل فإنها كالبراهين اللمّية في أن العلم لا يحصل فيها إلا من جهة إضافة العلّة إلى المعلول، فإن المعلول وإن كان بحسب وجوده في نفسه معلولًا ولكن بوصف معلوليته ونقص إمكانه علة للحاجة إلى علة ما من العلل ...»
.لقد عمد صدر المتألهين هنا إلى تحليل مسار الاستدلال من العلم بالبناء إلى العلم بالبنّاء، ويثبت في كل مرحلة أن العلم قد حصل من طريق العلة. إن تفسيره عبارة عن أن الإنسان كلما شاهد بناءً، فإن طبيعة وماهية البناء من حيث أنها ممكنة الوجود، تكون علة لكي نعلم بأن هذا النوع من الطبيعة يحتاج إلى بنّاء، وعليه فإن الحاجة إلى الباني معلولة لطبيعة البناء، ولذلك حصل هنا علم بالمعلول من طريق العلم بالعلة؛ وذلك أن طبيعة كل شيء علة للوازمه. فإذا كانت طبيعة المثلث ـ طبقًا للتعريف ـ عبارة عن شكل له ثلاثة أضلاع مغلقة، فإن اشتمال المثلث على ثلاث زوايا سوف يكون من لوازمه التي لا تنفك عنه، وفي المثال أعلاه تُعدّ لوازم الشيء من معلولات ذات الشيء؛ حيث يحصل العلم بها من طريق العلم بالعلة.
وقد عمد صدر المتألهين في المرحلة الثانية إلى تحليل «احتياج البناء إلى البنّاء»،
وقال: إن هذا المفهوم من المفاهيم الإضافية، وكل إضافة ذات طرفين، وإذا أراد شخص أن يحصل له علم بالإضافة، عليه أن يحصل على علم بطرفيها أولًا. وعليه فإن العلم بطرف الإضافة ـ على حد تعبير الملا هادي السبزواري في تعليقته على الأسفار ـ علل مادية، ولذلك تقع في مرتبة متقدمة. وعليه فإن هذا العلم، أي حاجة البناء إلى بنّاء، بدوره لا يكون من طريق علم المعلول بالعلة، بل هو من طريق علم العلة بالمعلول.
إن النقطة الأساسية التي يجب الالتفات إليها هنا، هي هل مشاهدة معلول خاص من قبيل البناء أو وجود العالم الإمكاني يستوجب العلم بعلته؟ الجواب: نعم. بمعنى أن هذا المعلول له علة. وعليه يكون الاستدلال من علم المعلول بالعلة مقبولًا. وبعبارة أخرى: إن مسار الاستدلال على ما بيّنه صدر المتألهين ليس عبارة عن شيئين فقط، بل هو عبارة عن ثلاثة أشياء؛ وذلك لأن تطبيق العلم الثاني ـ بمعنى أن كل معلول يحتاج إلى علة ـ على العلم الأول ـ بمعنى أن هذا البناء معلول ـ هو في حدّ ذاته أمر ثالث لم يتمّ لحاظه في مسار الاستدلال، وإن وجود هذا الأمر الثالث يدفعنا إلى القول: إن الاستدلال في هذه الموارد من طريق علم المعلول بالعلة صحيح أيضًا. وعلى هذا الأساس كما حللنا فإن قاعدة «ذوات الأسباب» وبتعبير أدق: قاعدة «امتناع العلم بذي السبب من غير جهة السبب» لا يمكن القبول بها، بل الذي يجب علينا مراعاته في الاستدلال هو صورة الاستدلال ومادته.
إن من بين الإشكالات العامّة على امتناع إقامة البرهان الميتافيزيقي على وجود الله هو الإشكال القائم على نكتة سبق للفيلسوف الألماني إيمانوئيل كانط أن التفت إليها، وذهب في ضوء ذلك إلى الاعتقاد بعدم واقعية وجود المحمول؛ إذ كان ملتفتًا
إلى الاختلاف بين حمل البياض على الجسم وحمل الوجود عليه. ومن هذه الناحية يظهر إشكال في براهين إثبات وجود الله؛ وذلك لأن نتيجة براهين إثبات وجود الله هي «إن الله موجود»، في حين أن الوجود ليس محمولًا واقعًا، بل هو عبارة عن ربط الحكم، وعليه فإن براهين إثبات وجود الله لا تثبت شيئًا.
إن الجواب عن هذا الإشكال ـ بالنظر إلى ما تقدّم تفصيله في الفصل الثاني من القسم الأول ـ هو أن الوجود في الهليات البسيطة ليس محمولًا بالضميمة ليضيف شيئًا إلى موضوعه، كما هو الحال بالنسبة إلى البياض حيث هو محمول بالضميمة إلى الجسم. ويبدو أن هذا هو مراد إيمانوئيل كانط من المحمول الواقعي في قبال المحمول المنطقي، بيد أن إثبات أمر ليس رهنًا بالمحمول بالضميمة أو كونه محمولًا واقعيًا له، بل هو رهن بأن يتم الحصول على ذلك الأمر من المقدمات الصحيحة. إذا كان البحث في إثبات وجود شيء فيجب حصوله من مقدمات برهان هلية بسيطة يكون موضوعها هو ذلك الشيء المنشود. وكذلك في إثبات وجود الله يجب استخراجه من مقدمات قضية «إن الله موجود». لو تمّ استخراج هذه القضية على فرض صحّة المقدمات، فسوف يحصل لنا علم بصحّة البرهان. وبعبارة أخرى: إن قضية «إن الله موجود» لا تكون بلا معنى؛ وعلى هذا الأساس لو ضممنا المقدمات الصحيحة إلى بعضها واستخرجنا منها هذه النتيجة، فسوف نقول: إن هذه القضية قد تمّ إثباتها. وعلى هذا الأساس فإن الفلاسفة في براهين إثبات وجود الله ليسوا بصدد إثبات الوجود بوصفه محمولًا بالضميمة؛ ليُقال لهم بأن وجود المحمول الواقعي لا يعني المحمول بالضميمة، وإنما هم بصدد إثبات قضية «إن الله موجود» بوصفها قضية صادقة ومتطابقة مع الواقع، من دون أن يكون هناك فرق بالنسبة إليهم بين اعتبارنا الوجود محمولًا واقعيًا أو مجرّد محمول منطقي.
نقطة: إن الفلاسفة يذكرون عدم محمولية الوجود في ذيل البراهين الوجودية،
(232)ولكننا قد عددنا هذا الإشكال من الإشكالات العامة وذكرناه في هذا الفصل، والوجه في ذلك واضح؛ إذ لو لم يكن الوجود محمولًا فإننا نصل في كل برهان إلى قضية «إن الله موجود» حيث المحمول هو الوجود والذي هو غير موجود بحسب الفرض؛ وعليه لا يمكن إثبات وجود الله من أيّ طريق. وعلى هذا الأساس فإن الإشكال لا يختص بالبراهين الوجودية فقط. وقد تمّ الردّ على هذا الإشكال بواسطة البيان والتوضيح الذي ذكرناه آنفًا، ولكننا نعمل على دفعه وردّه بالتفصيل بالنظر إلى أهميته وتأثيره في فلسفة الغرب.
إن الإثبات العقلي لكل شيء رهن بأمرين، وهما: 1 ـ صورة القياس. 2 ـ مقدمات القياس.
إذا لم تكن صورة الاستدلال معتبرة من الناحية المنطقية، لا يمكن اعتبار المدعى ثابتًا أبدًا. من الواضح جدًا ـ بطبيعة الحال ـ أن الكلام ليس في أنه كلما لم تكن صورة الاستدلال معتبرة، كان ذلك المدعى مرفوضًا. إذ قد يكون المدّعى صادقًا، إلا أن الأدلة المقدّمة له مخدوشة من حيث صورة الاستدلال. وفي العادة يمكن التعرّف على المشاكل التي تحدث في صورة البرهان بسهولة، وحتى إذا بدت بعض صوَر الاستدلال معقّدة بسبب كثرة المقدمات، أمكن مع ذلك ـ من خلال بعض الخطوات المنظمة والمدروسة ـ أن نمنع من المزالق الصورية للبرهان، ولذلك فإن صورة البرهان لا تضع مشكلة كبيرة أمام الباحث والمحقق.
(233)بالإضافة إلى أن كل برهان يجب أن يكون معتبرًا من الناحية الصورية، كذلك يجب أن يكون معتبرًا من ناحية المادّة أيضًا؛ بمعنى أن تكون مقدمات البرهان صادقة. فإذا كانت مقدمات البرهان خاطئة وكاذبة، لا يمكن إثبات المدعى حتى لو كان صادقًا في حدّ ذاته.
وإن صدق المقدمات بدوره رهن بالعلم بصدقها، إذ أن مقدمات البرهان حتى إذا كانت صادقة في الواقع، ولكن لم يكن صدقها محرزًا بالنسبة إلى المستدِل، لن يحصل المطلوب منها. وعليه فإن إحراز صدق النتيجة يتوقف على اعتبار صورة الاستدلال مقرونًا بإحراز صدق مقدماتها. فإن تحقق هذان الشرطان ثبت المدّعى. وعلى هذا الأساس لا يمكن إبطال ونفي نتيجة البرهان من خلال القبول بالمقدمات والقول باعتبار صورة الاستدلال.
إن مرادنا من الصدق هو أن تكون القضية ـ أيًّا كان مضمونها ومفادها ـ متطابقة مع واقعها. فإن كان واقعها أمرًا خارجيًا، وجب أن يكون مضمون القضية متطابقًا مع ذلك الأمر الخارجي، وإن كان الواقع أمرًا ذهنيًا، وجب أن يكون مضمون القضية متطابقًا مع ذلك الأمر الذهني. ولا بدّ هنا من إضافة هذه النقطة، وهي أن القضية ـ سواء أكانت صادقة أم كاذبة ـ فرع على أن تكون ذات معنى؛ بمعنى أن الصدق والكذب من صفات القضية، وأما الكلمات التي يتم تركيبها وضمّها إلى بعضها دون أن تفيد معنى، لا تكون صادقة ولا كاذبة.
(234)إن مقتضى القضايا الحملية هو الهوهوية والعينيّة بين الموضوع والمحمول؛ لأن مهمة الذهن هي العمل على التوحيد بين هذين العنوانين، وثمرة ذلك هي الهوهوية. وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن القضية ناظرة على الدوام إلى المصداق، فحتى في مثل الحمليات التحليلية ـ التي تعمل على بيان العلاقة والارتباط بين مفهوم الموضوع والمحمول دون مصاديقها ـ تكون مهمّة الذهن هنا هي التوحيد بين مفهومين وثمرة ذلك هي عينيتهما في المصداق؛ من ذلك مثلًا عندما نقول: «إن الإنسان بالحمل الأولي حيوان ناطق بالحمل الأولي»، نكون في هذه القضية قد جعلنا مفهوم الإنسان موضوعًا، فإن هذا الموضوع يضع كل مفهوم عن الإنسان يتمّ تصوّره في أذهان البشر، مصداقًا لنفسه، ثم يعمل على توحيد المحمول من حيث أنه مثل الموضوع لا يعدو أن يكون مجرّد مفهوم لا أكثر. ونتيجة هذا الاتحاد هي أن مفهوم الإنسان في ذهن أيّ شخص يتمّ تصوّره هو عين مفهوم الحيوان الناطق، بمعنى أنه يقوم اتحاد مصداقي بين هذين المفهومين.
كما سبق أن ذكرنا (في القسم الأول من الفصل الثاني، القسم: 17)، فإن إيمانوئيل كانط يُنكر كون الوجود محمولًا بالضميمة؛ حيث كان فيرجيه يعبّر عنه بالمحمول المنطقي، وكان كانط يعبّر عنه بالمحمول الواقعي. ويبدو أن فهمنا لهذا الكلام من إيمانوئيل كانط وفيرجيه، لم يكن من دون وجه. وعلى هذا الأساس يطرح هذا السؤال نفسه، وهو: إذا لم يكون الوجود في الهليات البسيطة محمولًا منطقيًا أو واقعيًا، فلماذا عمد إيمانوئيل كانط وأتباعه حتى اليوم إلى إنكار الوجود المحمولي في خصوص البراهين الوجودية؟ ولماذا لم يعملوا على تسرية هذا الإشكال إلى سائر
براهين وجود الله، ويعلنوا مرّة واحدة أن الوجود المحمولي حيث يكون مرفوضًا، فلا اعتبار لأيّ برهان في إثبات وجود الله؟ إذ بعد إنكار الوجود المحمولي، يتمّ رفض جميع البراهين.
يبدو أن السبب في عدم تسرية الفلاسفة لإشكال الوجود المحمولي إلى جميع براهين إثبات وجود الله، هو أن هذا الإشكال كان ناظرًا إلى البرهانين الوجوديين اللذين ذكرهما أنسلم ورينيه ديكارت. في كلا هذين البرهانين كان يتمّ طرح الوجود بحيث يجب عدّه صفة لله، ومن هنا كان رينيه ديكارت يصرّح بأن الوجود مثل سائر الكمالات، يُعدّ كمالًا لله. ومن هنا فإن إيمانوئيل كانط عمد في قبال هذا التقرير إلى إنكار الوجود المحمولي؛ بمعنى أن كانط في الواقع قد أنكر كون الوجود محمولًا واقعيًا، وهو المحمول الذي لا يضيف شيئًا إلى الموضوع في صلب الخارج. ولو انتهى الأمر عند هذا الحدّ، لما كانت هناك مشكلة في البين، وأمكن القبول بعدم وجود المحمول بالضميمة بالنسبة إلى الله، وفي النتيجة يتمّ رفض برهاني أنسلم ورينيه ديكارت بسبب هذين التقريرين الخاصين، ولكن من هنا لا ينبغي استنتاج رفض أيّ برهان وجودي أيًّا كان تقريره، إلا أن المنكرين للوجود المحمولي قد اعتبروا مدعاهم عامًا، وقالوا برفض جميع البراهين الوجودية.
قد يُقال إن إيمانوئيل كانط قد أقام في الحدّ الأدنى برهانين على ردّ كل برهان وجودي؛ وذلك لأن قضية «إن الله موجود» تحليلية، ويجب علينا في كل برهان وجودي اعتبار قضية «إن الله موجود» تحليلية، وعليه يمكن لإيمانوئيل كانط بحق أن يرفض كل برهان وجودي.
إن هذا الإشكال ليس واردًا، وذلك لأن إيمانوئيل كانط لم يكن يرى إنكار المحمول مع الموضوع في القضايا التحليلية مستلزمًا للتناقض، وكان بعد ذلك
(236)يُضيف هذه النقطة قائلًا: إلا إذا كان الموضوع شيئًا لا يمكن إنكاره بأيّ وجه من الوجوه. مع افتراض هذا الاستثناء كان إيمانوئيل كانط يطرح إشكاله الثاني ويقول: «إن الوجود ليس محمولًا واقعيًا». ويبدو أن المغالطة تكمن في هذه النقطة تمامًا، وذلك لأن كانط إنما يمكنه الادعاء بأن البراهين الوجودية مرفوضة بسبب إنكار الوجود المحمولي، حيث يريد من «الوجود المحمولي» خصوص المحمول بالضميمة، وإذا لم يرد خصوص المحمول بالضميمة، لا يعود بمقدوره رفض كل برهان وجودي بشكل عام؛ إذ البرهان الوجودي الذي لا يأخذ الوجود بوصفه محمولًا بالضميمة، بل يراه في ظرف الذهن منفصلا عن الموضوع، لم يقدّم دليلًا على بطلانه. وعلى هذا الأساس فإن المهم بالنسبة إلينا في إثبات براهين إثبات وجود الله، هو صدق قضية «إن الله موجود»، سواء تم الحصول على صحّتها من طريق البرهان الوجودي، أو من طريق برهان الصديقين أو من طريق المعرفة الكونية. والمهم هو أن يقام برهان تكون مقدماته صادقة من حيث صورة ومادّة الاستدلال.
لقد عمد بعض الفلاسفة إلى تقويض براهين إثبات وجود الله، من خلال اللجوء إلى محاولة أخرى تمثّلت بإنكار الوجود الضروري أو واجب الوجود في الخارج بالمرّة، واعتبروا الضرورة والوجوب من أوصاف القضايا. وعلى هذا الأساس عمد فايندلي إلى إقامة استدلال لصالح الإلحاد، وقام بارنز بتقرير هذا الاستدلال، قائلًا:
في عام 1948 م، أقام جي. أن. فايندلي استدلالًا تمهيديًا لصالح الإلحاد، ويمكن بيان الطرح الكلي لهذا الاستدلال على النحو أدناه:
1 . إن الشيء إنما يكون هو الله اذا وفقط اذا كان متعلقًا مناسبًا للحالات الدينية فقط.
2 . إذا كان الشيء متعلقًا مناسبًا للحالات الدينية، يكون ذلك الشيء موجودًا بالضرورة.
3 . لا يمكن لشيء أن يكون موجودًا بالضرورة.
4 . لا يمكن لشيء أن يكون هو الله.
إن هذا الاستدلال معتبر. حيث يفترض المقدمة الأولى بناء على التعريف صادقة ... وقد استدلّ للمقدمة الثانية بالتفصيل، ويرى أن المقدّمة الثالثة سوف تعتبر من قبل جميع أولئك الذين يشتركون في الآراء المعاصرة [الجديدة]، صادقة
.من الواضح جدًا أن إثبات امتناع إقامة البرهان على وجود الله في هذا الاستدلال، يقوم على إنكار الوجود الضروري في الخارج. وقد أقاموا أدلة على نفي الوجود الضروري في الخارج، حيث يمكن القول إن أكثر هذه الأدلة عبارة عن تقريرات مختلفة لاستدلال واحد. إن فايندلي نفسه لم يأت بدليل على نفي الوجود الضروري، وإنما اعتبره أمرًا مسلّمًا.
إنني من خلال ملاحظتي لهذه النقطة وهي وجود امتناع واضح في مدّعى الاستدلال السابق، أبدأ استدلالي على النحو الآتي:
أ . ليس هناك شيء قابلًا للإثبات، إلا إذا كان نقيضه مستلزمًا للتناقض.
ب . لا شيء يمكن تصوّره بشكل متميّز، يستلزم التناقض.
ج . كل ما أمكن لنا تصوره موجودًا، يمكن لنا أن نتصوره غير موجود.
د . إذن ليس هناك موجود يكون عدم وجوده مستلزمًا للتناقض.
هـ . وبالتالي ليس هناك موجود بحيث يكون وجوده قابلًا للإثبات.
وإني أعتبر هذا الاستدلال قاطعًا بشكل كامل، وأرجو أن يتم بناء كل بحث عليه
.وفي الواقع فإن ديفيد هيوم في المقدمة (ج) و(د) قد أنكر الوجود الضروري؛ إذ لو تمّ فرض وجوده بوصفه أمرًا ضروريًا، لا يعود بالإمكان تصوّر عدم وجوده. ولبحث استدلال هيوم يجب بحث كل واحدة من المقدمات من حيث الصحة وعدم الصحة؛ وذلك لأن صحّة النتيجة رهن بصحة مقدمات وصورة الاستدلال، وصورة الاستدلال في استدلال ديفيد هيوم معتبرة من وجهة نظر المنطق الصوري، ولذلك فإن المهم في البين هو المقدمات المستعملة في هذه الصورة الاستنتاجية.
أما المقدّمة (أ) فهي مقبولة بدليل أننا إذا أثبتنا (X)، وقبلنا بنقيضها أيضًا، فسوف يكون لازم ذلك الجمع بين (X) و(~X)، وهذا تناقض.
وأما صحّة المقدّمة (ب) فهي غير واضحة، وهناك متسع للنقاش حولها؛ وذلك لأن عبارة «يمكن تصوّره بشكل متميّز» غير واضحة، إذ لا يُعلم في أيّ معنى قد تمّ استعمالها. ويمكن لنا تصوّر معنيين لهذه العبارة، وهما:
1 . أن تكون معاني الألفاظ المستعملة في الجملة واضحة وغير مبهمة. فإذا كان هذا هو المراد من العبارة أعلاه في المقدّمة (ب)، فإن عدم صحتها لا يحتاج إلى نقاش؛ إذ على الرغم من أن لدينا مفهومًا واضحًا عن عبارة «الدائرة المربّعة»، ولكن لا يسعنا القول بأن هذا المفهوم لا يستلزم التناقض.
2 . إن الشيء ينطبع في ذهننا مثل ما تنطبع أشكالنا في المرآة. وفي هذه الحالة هناك طائفتان من الأشياء لا يمكن تصوّرهما على هذا النحو، ولذلك فإنها تخرج عن كونها
مصداقًا لـ (ب)، إحداهما: المفاهيم المتناقضة، من قبيل: الدائرة المربعة، والأخرى: مفهوم واجب الوجود. إن هذه الأمور يتمّ تصوّرها على نحو الإجمال، ولكنها لا تتمثّل في الذهن. ونحن كذلك في واجب الوجود نشير إلى حقيقة شيء، وإلا فإننا لا نستطيع تصوّر حقيقته. «وحيث لا يمكن اصطياد العنقاء، فمن العبث أن ننصب لها الشباك» ... وفي الوقت نفسه لا يمكن الحكم في جميع الموارد ـ حيث يتمثّل الشيء في الذهن ـ بعدم استلزام التناقض، إذ هناك احتمالان في التمثّل الذهني؛ فإما أن يوجد هذا التمثّل الذهني من دون علة أو يوجد بعلة. فإن افترضنا الممكن موجودًا من دون علة، كان هذا مستلزمًا للتناقض.
ومن هنا لو اعتبرنا (ب) بالمعنى الأول، فسوف يمكن النقاش في كليته؛ لأنه يشتمل على مفاهيم متناقضة، من قبيل: «الدائرة المربّعة» أيضًا، وإن كان لا يخدش في براهين وجود الله؛ إذ أن مفهوم الله لا يحتوي على تناقض. وأما إذا تصوّرنا (ب) بلحاظ المعنى الثاني، فإنه بالإضافة إلى أن كليته سوف تكون قابلة للنقاش، فإنه لن يكون شاملًا لله أيضًا؛ إذ أن الله بالنظر إلى المعنى الثاني لا يكون قابلًا للتصوّر. ولكي يتمكن استدلال ديفيد هيوم من مواصلة جريانه، فإننا نضع مرادنا من (ب) في ضوء المعنى الأول. وعلى هذا الأساس يطرح هذا السؤال نفسه: هل يمكن القبول بـ (ج)؟ ليس الأمر كذلك قطعًا؛ إذ لا يمكن أن نتصور الشيء معدومًا بعد أن تصوّرناه موجودًا، والسبب في ذلك هو أننا لو تصوّرنا الواجب أو الممكن مع وجود علته، لا يمكن تصوّرهما معدومين أيضًا؛ وذلك لأن كليهما من جهة واجبي الوجود؛ فأحدهما واجب الوجود بالذات، والآخر واجب الوجود بالغير. ومن ناحية أخرى فإن واجب الوجود لا يجتمع مع عدمه. وعلى هذا الأساس لا يمكن أن نستنتج أنه ليس هناك موجود يكون وجوده قابلًا للإثبات، ويمكن للبراهين الوجودية والكونية، من قبيل: برهان الإمكان والوجوب وبراهين الصديقين أن تثبت وجود الله من هذه الناحية.
(240)لقد سعى بعض الفلاسفة الغربيين ـ من الذين حافظوا على وفائهم لنظرية ديفيد هيوم ـ إلى الجمع بنحو من الأنحاء بين نظرية ديفيد هيوم القائل بإنكار الضرورة وبين الاعتقاد بالله، وأن الله موجود بالضرورة. وقد ذكروا وجه الجمع هذا على النحو الآتي: إن الذي أنكره ديفيد هيوم هو الضرورة الناظرة إلى الحكم أو الضرورة (de dicto)، في حين أن الضرورة في قضية «إن الله موجود بالضرورة» هي الضرورة الناظرة إلى العين أو ضرورة (de re)، وهو ما لم يكن ديفيد هيوم يُنكره.
ولكن يجب الالتفات أولًا إلى أن هذا التفسير في حدّ ذاته لا ينسجم كثيرًا مع كلام ديفيد هيوم، وثانيًا إن لضرورة (de dicto) و(de re) تفسيرين. ففي واحد من هذين التفسيرين تعمل ضرورة (de dicto) على بيان العلاقة بين الموضوع والمحمول في قضية حملية، في حين أن ضرورة (de re) تعمل بدورها على بيان المحكي لذات هذه العلاقة التي هي من مقولة الكلام أو التفكير.
إن متن الوجود بحيث أن المحمول في متن الواقع يكون ضروريًا للموضوع. ولو ذكرنا ذات هذا الأمر ضمن قضية ما، فسوف تحتوي هذه القضية على ضرورة (de dicto). وبهذا البيان يتضح أن إنكار أحد الضرورات يساوي إنكار ضرورة أخرى، وأما في ضوء التفسير الآخر، تكون كلتا الضرورتين من مقولة الكلام أو التفكير، بيد أن ضرورة (de re) ناظرة إلى العلاقة بين الموضوع والمحمول في القضية الحمليه، حيث أن هذا التفسير لضرورة (de re) في الواقع هو عين ضرورة (de dicto) في التفسير السابق، وإن ضرورة (de dicto) ناظرة إلى صدق القضية الحملية بوصفها وحدة ـ لا علاقة المحمول بالموضوع ـ على الخارج. طبقًا لهذا التفسير لكلا
نوعي الضرورة، حيثما كانت ضرورة (de re) صادقة، تكون ضرورة (de dicto) صادقة أيضًا، ولكن في بعض الموارد قد تكون ضرورة (de dicto) صادقة، ولكن لا تكون ضرورة (de re) صادقة؛ من ذلك مثلًا بالضرورة
«أنا منشغل بالكتابة»، وحيث أني منشغل بالكتابة؛ إذن يكون أصل القضية ـ بغض النظر عن ضرورتها ـ صادق، وإذا كانت القضية صادقة ففي ظرف صدقها يكون كذبها محالًا وممتنعًا. وعلى هذا الأساس فإن صدق القضية ضروري، ولكن عندما ننسب الضرورة إلى القضية ونقول: «أنا منشغل بالكتابة بالضرورة»؛ بمعنى أن الكتابة تكون بالنسبة لي أمرًا ضروريًا، نرى أن الأمر ليس كذلك، إذ بمقدوري أن لا أكتب. وعلى العكس من ذلك كلما كان المحمول ضروريًا للموضوع، تكون كل القضية بدورها بوصفها وحدة متكاملة صادقة على الخارج بالضرورة أيضًا. وعلى هذا الأساس فإن إنكار ضرورة الصدق مع القول بالضرورة العينية ـ طبقًا لهذا التفسير لنوعي الضرورة ـ ليس معقولًا. إن الذي تمّ الاستناد له في تفسير كلام ديفيد هيوم هو هذا التفسير الثاني لكلا نوعي الضرورة. وعلى هذا الأساس لو كان التفسير الأول هو المراد، فمن الواضح عندها أنه لا يمكن القول بوجود فرق بين صحة نوعي الضرورة؛ إذ طبقًا لهذا التفسير يكون كلا نوعي الضرورة وجهين لعملة واحدة.لقد ذكر بعض الفلاسفة لكلام ديفيد هيوم وجهًا آخر للجمع يمكن في ضوئه الجمع بين الإيمان بالله وبين إنكار الضرورة أيضًا. وقد بيّن بارنز هذا الوجه على النحو الآتي:
«إن الضرورة المنطقية معروفة بما يكفي: إن القضية إنما تكون ضرورية من الناحية المنطقية فيما لو كان نفيها يستلزم التناقض. أما الضرورة العينية فهي من حيث المفهوم أكثر تعقيدًا؛ ويبدو أن لهذه الضرورة جزئين أساسيين؛ فالموجود الضروري العيني أولًا سرمدي، وثانيًا: مستقل من الناحية العليّة عن سائر الموجودات الأخرى ... يدّعى أن نظرية هيوم تنطبق على الضرورة المنطقية، إلا أن الضرورة الإلهية عينية»
.أولًا: إن البحث في البراهين الوجودية في مورد الضرورة المنطقية على طبق المصطلح أعلاه؛ وذلك لأن لفظ «الله» إذا كان اسمًا عامًا، فسوف تكون القضايا التي هي من قبيل: «إن الله كامل مطلق» أو «إن الله شيء لا يمكن تصوّر ما هو أكبر منه»، قضايا تحليلية، وأما إذا كان اسمًا خاصًا، فسوف تكون القضية شبه تحليلية، فتكون ضرورية في كلا الموردين.
وثانيًا: إن كل شيء تكون له ضرورة منطقية سوف تكون له ضرورة عينية أيضًا؛ بمعنى أن الموضوع إذا وُجد فسوف يكون المحمول معه موجودًا بالضرورة.
وثالثًا: إن هذا المعنى من الضرورة ـ كما ذكرنا في القسم الأول من الفصل الثالث تحت عنوان «الضروري والتحليلي» ـ يمثّل خروجًا عن المصطلح الشائع.
إن الضروري بهذا المعنى هو ذات التحليلي، في حين أن معنى الضرورة هو عدم إمكان فصل المحمول عن الموضوع. وبطبيعة الحال فإن كل قضية تحليلية ضرورية، ولكن ليس من اللازم أن تكون كل قضية ضرورية قضية تحليلية. ربما أمكن القول: إن أغلب الضرورات التي يرد ذكرها في المنطق ناظرة إلى المصداق دون المفهوم الصرف، ولذلك فإنها لا تكون تحليلية.
قد يُقال: في البراهين الوجودية بل وحتى في البراهين غير الوجودية، نصل إلى
قضية: «إن الله موجود»؛ وعليه لو كانت القضية المذكورة تحليلية فسوف تكون ناظرة إلى المفهوم فقط دون المصداق. والجواب عن هذا الإشكال باختصار هو أن القضايا التحليلية بدورها ناظرة إلى المصداق أيضًا.
في هذين التفسيرين تمّ نفي ضرورة وجود الله بوصف ضرورة (de dicto) أو بوصف الضرورة المنطقية، وأما في التفسير الأول بوصف ضرورة (de re)، وفي التفسير الثاني تم القبول بها بوصفها ضرورة عينية. كما تمّ بيان نفي الضرورة العينية بتقريرات أخرى أيضًا، نذكرها فيما يلي.
أقيمت مناظرة بين راسل وكابلستون سنة 1948 م، وقد تمّ بثها في البرنامج الثالث من إذاعة الـ (بي. بي. سي). وكان من بين مدعيات راسل في تلك المناظرة إنكار الضرورة العينية. حيث قال:
«أرى أن كلمة (الواجب) إنما تكون مفيدة للمعنى فيما لو تمّ إطلاقها على القضايا، وهي القضايا التحليلية؛ بمعنى القضايا التي يؤدّي نفيها إلى التناقض. وأنا إنما اعتبر الأمر الواجب وأقبل به فيما لو كان لدينا أمر لو نفيناه وقعنا في التناقض ...
ولكني أعتقد أن «القضية الواجبة» يجب أن تكون تحليلية. لست أفهم ما هو المعنى الآخر الذي يمكن أن تنطوي عليه. إن القضايا التحليلية معقّدة وهي جديدة في المنطق إلى حدّ ما. إن قضية «كل حيوان غير ناطق حيوان» قضية تحليلية، إلا أن قضية من قبيل: «هذا حيوان» لا يمكن أن تكون تحليلية أبدًا. وفي الواقع فإن جميع القضايا التي يمكن أن تكون تحليلية هي جديدة على تاريخ المنطق إلى حدّ ما ... لا يبدو من وجهة نظري شيء يمكنه أن يكون له ما بإزاء هذه المصطلحات. أرى أن كلمة «الواجب» غير ذات فائدة، إلا إذا تمّ إطلاقها على القضايا التحليلية، وإلا فإن
إطلاقها على الأشياء لن يكون مفيدًا»
.ومن هنا فإن بارنز ـ الذي يبدو أنه قد تأثر بهذا الشرح في نفي الوجود الضروري ـ قد قال: «إن في هذا نقضًا للاستعمال الإنجليزي، حيث يؤخذ الضروري بمعنى المستقل والسرمدي»
.نستفيد من عبارة راسل بوضوح أنه يحصر القضايا الحملية في القضايا التحليلية والتأليفية. فهو يعتبر القضايا التحليلية ـ بسبب كونها ناظرة إلى العلاقات بين المفاهيم وخلافها يستلزم التناقض ـ ضرورية، والقضايا التأليفية ـ لكونها ناظرة إلى الواقع وخلافها لا يستلزم التناقض ـ إمكانية. وعلى هذا الأساس فإنه في هذه العبارات يعكس نظرية الوضعيين المنطقيين بشكل دقيق. وفي الواقع فإنه لا يُبقي موضعًا للحقائق الضرورية التأليفية السابقة، ويعتبر رأي إيمانوئيل كانط الذي يدّعي القضايا الضرورية التأليفية السابقة، ليس صحيحًا. وعلى هذا الأساس يذهب برتراند راسل إلى الادعاء بأن الأمر العيني الضروري والواجب بلا معنى، وأن الضرورة في القضايا ـ وذلك في القضايا التحليلية ـ تحتوي على معنى. وعليه لا بدّ أن نبدأ من نقطة يقبل بها برتراند راسل أيضًا. وقبل البدء يجب كذلك أن نقبل بأن الألفاظ «التحليلية» و«الضرورية» ليست بمعنى واحد، على الرغم من أن كل قضية تحليلية ضرورية. إن المراد من القضية الضرورية في الحملية هو امتناع انفكاك المحمول عن الموضوع، كما أن المحمول في كل قضية تحليلية، من قبيل: «كل حيوان غير ناطق حيوان» لا يقبل الانفكاك عن الموضوع. يبدو أن كلام برتراند راسل ينسجم مع التمايز بين معنيي «التحليلي» و«الضروري»، وإذا كان راسل يُنكر هذا المعنى للضروري ويدّعي أنه لا يفهم للضروري معنى آخر غير التحليلي؛ فيجب
أن نأسى عليه بسبب قصور فهمه وفهم أمثاله، وينبغي ترقب أن يفهموا هذا المعنى من الضرورة ليبقى باب الحوار منفتحًا.
وعلى كل حال فإنه بناء على التمايز بين التحليلي والضروري، يطرح هذا السؤال نفسه: لماذا تكون القضايا التحليلية ضرورية؟ ويجب القول في الجواب: إذا لم تكن القضايا التحليلية من قبيل «المثلث له ثلاثة أضلاع» ضرورية، أمكن سلب المحمول عن الموضوع، والقول: «المثلث ليس له ثلاثة أضلاع»، في حين أن هذا القضية متناقضة في حدّ ذاتها؛ وعليه نستنتج من ذلك أن القضايا التحليلية ضرورية.
وهنا يطرح سؤال آخر نفسه أيضًا، وهو: هل يمكن للقضايا التحليلية أن تكون ناظرة إلى الواقع أيضًا؟ بمعنى أنه لو كان هناك من وجود للمثلث في الخارج، فهل يمكن القول: إن احتواءه على ثلاثة أضلاع ضروري، وعدم احتوائه على ثلاثة أضلاع ممتنع؟ لا مندوحة لنا هنا من القبول بهذا الأمر، وهو أن موضوع القضية التحليلية إذا كتب له الوجود، فسوف يجري حكم القضية التحليلية في المصداق أيضًا، ولا سيّما في ضوء النظرية التي أبرزناها في هذا الكتاب، وهي أن كل قضية ـ بما في ذلك القضايا الحملية ـ ناظرة إلى المحكي والمصداق. وإذا قيل: «إن كل مثلث له ثلاثة أضلاع» فهذا يعني أن مصداق المثلث ـ وليس مفهومه ـ له ثلاثة أضلاع، ولا شك ـ بطبيعة الحال ـ في أن مفهوم المثلث يشتمل على مفهوم ثلاثة أضلاع. وعلى هذا الأساس يمكن نسبة الضرورة إلى الخارج أيضًا. صحيح أن الضرورة ترتبط بالنسبة إلى الموضوع والمحمول في القضية، وليس لدينا في الخارج شيء مستقل باسم الضرورة، ولكن بلحاظ أن هذه القضية ناظرة إلى الخارج أو في الحدّ الأدنى في الموارد التي يتوفّر فيها مصداق لموضوع القضية، تصبح ضرورتها ناظرة إلى المصداق أيضًا. وبعبارة أخرى: إن الضرورة من المفاهيم الفلسفية ومن المعقولات الفلسفية الثانية التي ليس لها ما بإزاء خارجي مستقل، ولكن لها منشأ
(246)انتزاع خارجي، ويكفي وجود منشأ الانتزاع الخارجي في نسبة الضرورة إلى الخارج. وإن الذي ندّعيه في الضرورة العينية هو هذا المقدار، لا غير.
إذن ثبت حتى هذه المرحلة أن الضرورة في القضايا التحليلية تسري إلى العين والخارج أيضًا، بيد أن برتراند راسل يذهب إلى الادعاء بأن القضايا الضرورية تنحصر بالقضايا التحليلية. ولدراسة العلاقة بين القضايا الضرورية والتحليلية يجب العمل على إيضاح تعريف القضايا الضرورية والتحليلية. قلنا في القضايا الضرورية إن المحمول لا يمكن سلبه عن الموضوع، ولذلك فإن المهم في البين هو التعريف التحليلي. وقد عمدنا في القسم الأول من الفصل الثاني، تحت عنوان «التحليلي والتأليفي» إلى تفسير التحليلي بأنه عبارة عن أن يكون مفهوم المحمول عين الموضوع أو جزءًا منه. لو التزمنا بهذا التعريف للقضية التحليلية، يجب علينا القبول بأن القضايا الضرورية هي الأعم من القضايا التحليلية؛ إذ يمكن العثور على قضايا ضرورية لا يكون فيها المحمول جزء أو عين مفهوم الموضوع، ولكن في الوقت نفسه لا يمكن سلب المحمول عن الموضوع؛ من ذلك مثلًا في قضية «زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين»، يعدّ تساوي زاويتين قائمتين بالنسبة إلى المثلث أمرًا ضروريًا، ولكنه ليس جزء أو عين زوايا المثلث. قد يُدّعى بأن القضية أعلاه تحليلية. لقد ذهب الوضعيون المنطقيون في الأساس إلى الادعاء بأن جميع المسائل الرياضية تحليلية، ومن هنا فإنها تكون ضرورية، وعلى هذا الأساس لا يمكن العثور على قضية ضرورية ولا تكون تحليلية. لو أردنا القبول بهذا المدعى لا يسعنا سوى التخلي عن التعريف المتقدّم للقضية التحليلية؛ إذ مع الالتزام بها لا يمكن اعتبار جميع الحقائق الضرورية تحليلية؛ والسبب في ذلك أنه لو كانت تحليلية علاقة الإندراج أو عينية مفهوم المحمول في مفهوم الموضوع، عندها كلما تمّ إدراك كل واحد من مفهومي المحمول والموضوع، ولم يتمّ إدراك إندراج الأول في الثاني أو عينيتهما، فسوف يتضح أن تلك القضية ليست تحليلية. وعلى هذا الأساس يمكن الادعاء أن
(247)وجود الله من شأنه أن يكون حقيقة ضرورية، وبذلك تكون قضية «إن الله موجود» قضية ضرورية وليست تحليلية.
إن هذا المطلب يتضح بالنظر إلى كون لفظ «الله» علمًا واسمًا خاصًا، وأما إذا كان «الله» اسمًا عامًا، ففي مثل هذه الحالة يمكن القول: إن لفظ «الله» اسم لموجود لا يزول أو ما يُصطلح عليه بواجب الوجود؛ وعلى هذا الأساس تكون قضية «إن الله موجود» قضية تحليلية شبيهة بالقضية القائلة: «إن واجب الوجود موجود».
اتضح حتى الآن أن التعريف التحليلي إذا كان عبارة عن علاقة الاندراج أو عينية مفهوم المحمول في الموضوع، فسوف يكون وجود الله حقيقة ضرورية، وأما إذا رفضنا هذا التعريف للقضية التحليلية وقمنا بتعميم التعريف ليشمل حتى القضية القائلة: «إن زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين» أيضًا، يجب أن نكون في تعريف القضية التحليلية ناظرين إلى الواقعية، وأن نعمل على تعريفها على النحو الآتي: القضية التي يكون المحمول فيها ـ وليس خصوص مفهومها ـ إما مندرجًا في الموضوع أو أن يكون عين الموضوع. وعلى هذا الأساس لو عمدنا إلى تحليل حقيقة ما تحليلًا حقيقيًا، وليس مجرّد تحليل مفهومي، عندها سوف يتمّ حمل كل ما يتمّ الحصول عليه بفعل هذا التحليل على الموضوع؟ ومن هنا فإن القضايا التحليلية في الحمليات تعدّ على الدوام مساوية للقضايا الضرورية؛ إذ في هذا المعنى من التحليلية كل ما يكون في التعريف السابق للتحليلية خارجًا عن مفهوم الموضوع ولكن لا يكون منفصلًا عنه، يكون داخلًا في الموضوع وتحليليًا. لو قبلنا بهذا المعنى من التحليلية، سوف يكون من السهل علينا تمامًا أن ندعي أن قضية «إن الله موجود» قضية تحليلية، حتى إذا كان «الله» اسمًا خاصًا؛ وذلك لأنه لو كان «الله» اسمًا لموجود لا يزول، فإن حمل الوجود عليه سوف يكون ضروريًا وتحليليًا.
(248)
يذهب فايندلي ـ من خلال افتراضه القضية الضرورية تحليلية ـ إلى الاستدلال على النحو الآتي:
«إن الضرورة في القضايا إنما تعكس استعمالنا للألفاظ [بمعنى] العقود الاعتبارية في لغتنا؛ إذ من الواضح ان ما هو موجود ليس أمرًا اعتباريًا، وبالتالي فإنه ليس هناك أيّ قضية وجودية ضرورية»
.وقال بارنز في نقد استدلال فايندلي بحق:
«يكفي هنا أن نذكّر بأن مقدمات برهان فايندلي إذا كانت صادقة؛ فإن ذلك يستلزم أن تكون جميع الحقائق المنطقية والرياضية أمورًا اعتبارية واعتباطية»
.كما أن برتراند راسل ينكر تحليلية قضية «إن الله موجود»، يوجد كذلك هنا استدلال يبدو أنه تقرير آخر لنفي تحليلية القضية أعلاه أيضًا. وهذا الاستدلال على النحو الآتي: لنفترض أنه في تعريف شيء ما اسمه (X) (يمكن لهذا الـ (X) أن يكون كل شيء، حجرًا أو إنساناً أو ....)، نقول (X = a + b + c) حيث يكون (X) هنا معرَّفًا، ويكون (a + b + c) معرِّفًا له، ويكون كل واحد من a وb وc أجزاءً من المعرِّف. فلو قمنا بصياغة قضية حملية بحيث يكون موضوعها X ومحمولها Y، ففي هذه الحالة لا يخرج Y من الناحية العقلية عن واحد من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: يمكن لـ Y أن يكون عبارة عن: a أو b أو c أو المجموع من: a +
b أو b + c أو a + c أو المجموع من: a + b + c. وفي هذه الحالة يكون المحمول من ذاتيات الموضوع.
الحالة الثانية: يمكن لـ Y أن يكون نقيضًا لكل واحد من الحالات السبعة السابقة؛ بمعنى أن يكون: ~ a، ~b، ~c، (a + b)~، (a + c)~، (b + c)~ أو (a + b + c)~. وفي هذه الحالات يكون المحمول من نقائض ذاتيات الموضوع.
الحال الثالثة: يمكن لـ Y أن يكون d؛ بمعنى أن لا يكون المحمول من ذاتيات الموضوع ولا من نقائض ذاتيات الموضوع، وإنما يكون بحسب المصطلح من عرضيات الموضوع فقط.
إن مادة القضية في الحالة الأولى هي الضرورة أو الوجوب، وفي الحالة الثانية هي الامتناع، وفي الحالة الثالثة هي الإمكان.
والخطوة اللاحقة من الاستدلال على النحو الآتي: في كل واحد من القضايا التي تشتمل على واحد من المواد الثلاث، يمكن أن ندمج المواد في المحمول؛ من ذلك يمكن لنا ـ على سبيل المثال ـ في كل واحدة من القضايا الثلاثة أدناه:
1 . الإنسان حيوان بالوجوب.
2 . الإنسان لا حيوان بالامتناع.
3 . الإنسان أبيض البشرة بالإمكان.
أن ندمج الوجوب والامتناع والإمكان في المحمول بشرط أن نعمل على تحويل كل واحد من المواد إلى مشتق، وأن نعمل على تحويل كل واحد من محمولات المشتق إلى اسم، ونقول:
1 . الإنسان واجب الحيوانية.
2 . الإنسان ممتنع الحيوانية.
3 . الإنسان ممكن الأبيضية.
وعليه لو افترضنا (X) ما، بحيث يكون محموله (الذي هو Y) «موجودًا»، ونقول: «X موجود»، هل يمكن لمادة القضية أعلاه ـ ونعني بها الهلية البسيطة ـ أن تكون هي الضرورة والوجوب؟ كما لو قلنا: «X موجود بالضرورة أو بالوجوب». وعلى أساس دمج المادة في المحمول، نقول: «X واجب الموجودية أو واجب الوجود».
وهنا تظهر مشكل وهي: لو أن موحدًا نسب وجوب أو ضرورة الوجود إلى الله، فهل ينسبه إليه بوصفه واحدًا من مواد القضايا؟! لا يمكن لأيّ موحّد وفيلسوف أن يدّعي أن الوجوب الذي ينسبه إلى الله هو الوجوب المنطقي؛ إذ الوجوب المنطقي له شرطان، وهما أولًا: أن يكون المحمول من ذاتيات الموضوع؛ إذ في هذه الصورة سوف يكون لمادة القضية ضرورة ووجوب، وإنما يكون المحمول الذاتي موضوعًا، حيث يكون الموضوع قابلًا للتعريف، وهذا بدوره إنما يتحقق إذا كان الموضوع عبارة عن ماهية من الماهيات، في حين أن الله في الإيمان التقليدي ليس له ماهية، بمعنى أنه موجود ليس له تعريف. وعليه فإن محمول القضية حيث لا يكون موضوعه قابلًا للتعريف، لا يمكن أن يكون ضروريًا وواجبًا بالنسبة إلى الموضوع.
وثانيًا: لو افترضنا أن الله قابل للتعريف، فإن معرِّفه لا يمكن أن يكون هو الوجود، إذ قد ثبت في الفلسفة أن الوجود لا يقع جنسًا للمعرَّف ولا فصلًا له. ولذلك فإن الوجوب الذي ننسبه إلى الله ليس وجوبًا منطقيًا، وعليه نستنتج أن هذه الضرورة والوجوب، ليست هي الضرورة والوجوب الفلسفي.
كما سبق أن أشرنا فإن التقرير أعلاه إنما هو في بيان نفي تحليلية قضية «إن الله موجود»، وإن كان يبدو في ظاهره مختلفًا عن تقرير برتراند راسل.
لقد تمّ الفصل والتفكيك في هذا التقرير بين الضرورة المنطقية والفلسفية. إن المقدار المسلّم في هذا التقرير هو أن القضايا الضرورية تحليلية، ولكنه لم يتمّ فيها بيان ملاك كون القضية ضرورية. فإن كان المراد هو أن القضايا الضرورية هي القضايا التحليلية، وأن الضرورية والتحليلية لفظان لمعنى واحد، فإن التحليليات في هذه الصورة لا مشكلة فيها بوصفها مصطلحًا، وعلى هذا الأساس فإن القضايا الامتناعية متناقضة والقضايا الإمكانية تأليفية. وبطبيعة الحال لم يدّع أحد أن الممتنع يعني المتناقض في نفسه، وأن الإمكاني بمعنى التأليفي.
لا بدّ من الالتفات إلى هذه النقطة أيضًا، وهي أننا عندما ننسب الضرورة إلى المنطق فإن مرادنا من ذلك هو أن المنطق يتعاطى مع مثل هذا المفهوم من الضرورة، ولذلك يطرح هذا السؤال نفسه ويقول: هل الضرورة في المنطق تعني التحليل؟ يجب القول في الجواب: كلا قطعًا، وإنما الضرورة في المنطق تعني امتناع سلب المحمول عن الموضوع. وبعبارة أخرى: إن سلب المحمول عن الموضوع ليس ممكنًا، سواء أكان المحمول من ذاتيات الموضوع وما يصطلح عليه بالحمل التحليلي، أو من عرضياته اللازمة. وعلى هذا الأساس فإن القضية الضرورية يمكن لها من الناحية المنطقية أن تكون تأليفية وأن تكون تحليلية أيضًا. إن انحصار الضرورة المنطقية في التحليليات اتجاه كان يذهب إلية الوضعيون المنطقيون، وكانوا يقولون إن القضية التي لا تتناقض مع ذاتها إما أن تكون تحليلية مساوية للضرورية أو تأليفية مساوية للإمكانية. إن التأليفية الضرورية لم تكن مقبولة بالنسبة إلى هؤلاء، لکن إئمانئل کانط یصرّ في المقابل على أن القضايا الرياضية تأليفية ومتقدمة، وبالتالي فإنها ضرورية.
وبغض النظر عمّا تقدّم أعلاه من النقاشات، لنفترض أن القضية التحليلية وحدها هي الضرورية. وعلى هذا الأساس سوف لن تكون القضية الإمكانية تحليلية؛ بمعنى أن لا يكون مفهوم المحمول من ذاتيات الموضوع، ولكن لا يُستنتج
(252)من هذا التقسيم أن المحمول في القضايا الإمكانية قابل للانفصال عن الموضوع؛ من ذلك أنه كلما افترضنا أن مفهوم المثلث هو مجرّد شكل له ثلاثة أضلاع مغلقة، ففي مثل هذه الحالة لا تكون قضية «المثلث له ثلاث زوايا» تحليلية، وبالتالي فإنها تكون إمكانية؛ بمعنى أن مفهوم الاشتمال على ثلاث زوايا ليس من الأجزاء المفهومية للمثلث، ولكن هذا لا يعني أن الاشتمال على ثلاث زوايا قابل للانفصال عن المثلث.
وعلى هذا الأساس لو افترضنا أنه كلما وقع الوجود محمولًا في القضية، لا تكون القضية ضرورية أو تحليلية، فإن هذا لن يكون بمعنى انفصال الوجود عن الموضوع. وعليه فمن الممكن أن يقع الوجود محمولًا ولا تكون القضية تحليلية، ولكن في الوقت نفسه لا يكون سلب المحمول عن الموضوع ممكنًا أيضًا؛ وذلك إذ لا شك في أن الإمكان في المنطق يعني جواز انفصال المحمول عن الموضوع. وعلى هذا الأساس من الواضح جدًا أن تفسير الضروري بالتحليلي لا يقوم على أساس المنطق.
ولكن ألا يمكن أن تكون القضية التي يكون الوجود محمولًا لها، تحليلية؟ لقد تمّت إقامة دليلين في التقرير أعلاه على امتناع تحليلية الهليات البسيطة: الدليل الأول عام ويشمل جميع القضايا البسيطة، وتقرير الاستدلال هو أن الهليات البسيطة إذا كانت تحليلية يجب أن يكون الوجود الذاتي موضوعًا لها، في حين أن الوجود الذاتي ليس شيئًا؛ لأنه لا يقع جنسًا وفصلًا لأيّ شيء. وأما الدليل الثاني فهو في خصوص الهلية البسيطة التي يكون موضوعها هو الله. والاستدلال هنا على النحو الآتي: إن الوجود لا يمكن أن يكون من ذاتيات الله، لأن الله ليس له حدّ ماهوي لتذكر ذاتياته في تعريفه.
إن افتراض كل واحد من هذين الاستدلالين هو أن موضوع القضية هو الماهية،
(253)أمكن صياغة قضية تحليلية بذاتياتها، وأما إذا لم يكن موضوع القضية من الماهيات، لا يمكن بناء قضية تحليلية، إلا إذا كان المحمول عين الموضوع وكان حمل الشيء على نفسه بحسب المصطلح، من قبيل: «إن الله هو الله» حيث لا شكّ في أنها تحليلية، رغم أن هذا الاستثناء بسبب وضوحه لم يرد في تقرير الاستدلال. وعليه فإن أسّ أساس الاستدلال أعلاه هو أن القضايا التحليلية ـ باستثناء حمل الشيء على النفس ـ تنحصر بالمفاهيم الماهوية، وإن المعرِّف والمعرَّف إنما يجريان في الماهيات فقط. ولكن هل القضايا التحليلية في غير حمل الشيء على النفس محدودة بالمفاهيم الماهوية حقيقة؟ ويبدو أنه لا يوجد دليل على هذا الأمر. فلا القضايا التحليلية محدودة بالمفاهيم الماهوية، ولا حدود المعرِّف والمعرَّف تكون محدودة بالماهيات، وذلك لأن الفلاسفة المسلمين قد قسّموا المفاهيم العامّة إلى ثلاثة أقسام:
1 . المفاهيم الماهوية أو المعقول الأولي.
2 . المفاهيم الفلسفية أو المعقول الثاني الفلسفي.
3 . المفاهيم المنطقية أو المعقول الثاني المنطقي.
لو قبلنا أن المعرِّف والمعرَّف والقضايا التحليلية باستثناء حمل الشيء على النفس، تنحصر بالمفاهيم الماهوية، فلا مندوحة لنا الا اعتبار المفاهيم الفلسفية والمنطقية إما بلا معنى أو بديهية وبسيطة ولا تحتاج إلى تعريف، في حين أنه في الفلسفة والمنطق يتمّ الخوض في تعريف الكثير من هذه المفاهيم. إن هذا المأزق ينشأ من أن المناطقة المسلمين قد أجروا بحث المعرِّف والمعرَّف في المفاهيم الماهوية. ومن هنا ربما تصوّروا أن الحدود والتعاريف في المفاهيم الماهوية، في حين أن هذا التصور لا يقوم على أساس منطقي، ولذلك كثيرًا ما يحدث أن الفلاسفة لا يقدّمون تعريفًا في غير المفاهيم الماهوية، ويضعون مفهومًا عامًّا بمنزلة الجنس، ومفهومًا خاصًا بمنزلة
الفصل، وهذا ليس معقولًا، سوى أن يكون ما هو أساس للتعريف تركيب مفهوم عام ومفهوم خاص، سواء أكان ذلك المفهوم العام جنس أو كان ذلك المفهوم الخاص فصل، وبحسب المصطلح أن يكون من ذاتيات المعرِّف، أو لا يكون كذلك، وفي هذه الحالة تتمّ الاستفادة من العنوان «بوصفه جنسًا» و«بوصفه فصلًا».
وعلى هذا الأساس فإن الذي يسمع لفظ «الله»، سواء أكان يشك في وجوده أو كان ينكر وجوده أو كان يؤمن بوجوده، سوف ينتقل من هذا الفظ إلى معنى يتم التعاطي معه في ثقافة السامع. وعلى هذا الأساس لو كان «الله» يُعرف في ثقافة ما بوصفه واجب الوجود، فسوف يكون معنى ذلك أن يكون بمقدورنا القول: إن قضية «إن الله واجب الوجود» أو «إن الله موجود يكون الوجود بالنسبة إليه ضروريًا» تحليلية. نحن هنا لا نكون ملزمين بأن نرى لله ماهية. وبهذا التوضيح يتبيّن أن الوجود يمكن ذكره في تعريف شيء ما لا يكون جنسًا أو فصلًا له بحسب المصطلح؛ إذ المعرِّف لا يجب أن يكون من ذاتيات الماهية. والدليل على إمكان جعل الوجود معرِّفًا لشيء ما هو أنه يمكن لنا تقسيمه إلى الواجب والممكن، والتقسيم في حدّ ذاته يُعدّ نوعًا من التعريف، كما صرّح صدر المتألهين
بأن تقسيم الشيء إلى أقسام بمنزلة تعريفه.ومن اللازم التذكير بهذه النقطة ـ كما أشرنا إلى ذلك في القسم الأول من الفصل الأول من القسم الثالث ـ وهي أن لفظ «الله» يمكن أن يكون اسمًا عامًا كما يمكن أن يكون اسمًا خاصًا. وإن تحليلية الهليات البسيطة التي يكون موضوعها هو «الله» تقوم بدورها على أن يتمّ استعمال لفظ «الله» بوصفه اسمًا عامًا. وأما إذا اعتبرنا لفظ «الله» بوصفه اسمًا خاصًا، فسوف تكون القضية شبه تحليلية ولن تكون تحليلية تمامًا، ولكنها على كل حال تكون ضرورية.
لقد أقرّ المستدل في المطلب السابق باستحالة الدفاع عن الوجوب والضرورة وواجب الوجود بمعناه المنطقي؛ ولذلك لم يكن له بدّ من اعتبار الوجوب في واجب الوجود بمعناه الفلسفي. والمراد من الوجوب الفلسفي بدوره هو أن يكون الوجود من أشدّ مراتب الوجود. وكذلك يدّعي المستدل أن هذا المعنى من الوجوب وإن أمكن الدفاع عنه، ولكنه غير قابل للفهم أيضًا؛ وذلك أولًا: لأنّ كل منصف يذعن بأنه لا يفهم شيئًا من كون الشيء أشدّ. وثانيًا: إن استدلال الذين استدلوا على عدم مفهومية وجوب الوجود هو أن الشيء إنما يكون قابلًا للفهم فيما إذا كان عدله ومثاله موجودًا في عالم الناس، وإذا لم يكن للشيء وجود في عالم الناس لا يكون قابلًا للفهم، من قبيل الخلق من العدم الذي لا يوجد لدينا نموذج له في عالم الناس، ولذلك لا يكون القول بأن الله خالق العالم قابلًا للفهم بالنسبة لنا، وذلك لأننا لم نرَ أيّ نموذج للخلق من العدم وكون الشيء أشدّ.
كما نعلم فإن الضرورة المطلقة لله، ليست بمعنى الأزلية أو السرمدية، إلا أن هذين الأمرين من لوازم وجود الله وواجب الوجود، كما أن لازم واجب الوجود الأشد هو الوجود، بحيث أن الوجود الأشد منه لا يمكن افتراضه من الناحية العقلية. كما قلنا في بحث إنكار الضرورة المنطقية في قضية «إن الله موجود» إن وجوب الوجود المنطقي لا يوجد ما يمنعه من الناحية العقلية، ولذلك ليس من اللازم أخذ وجوب الوجود في القضايا بمعناه الفلسفي، وإن كان وجوب الوجود بمعنى الشدّة ليس وجودًا اصطلاحيًا فلسفيًا، وكأن لزوم واجب الوجود هو شدّة الوجود.
ولكن في مورد عدم إمكان فهم شدّة الوجود، يجب طرح السؤال الآتي: هل يُعقل الدفاع عن شيء لا يمكن فهمه؟ إذا كان المراد من عدم إمكانية الفهم هو أننا
(256)لا نمتلك نموذجًا في العالم الإنساني عن الخالقية والأشديّة المطلقة بحيث نكون قد توصلنا إليه بواسطة الحسّ الظاهري أو الباطني. نقول: إن الأمر كذلك، بيد أن عدم المحسوسية بالحسّ الظاهري أو الباطني في العالم الإنساني لا يعني أننا لا نفهم شيئًا عن الخالقية والأشدية.
لنفترض أننا قد استنتجنا من خلال الاستدلال أن عالم الخلق ممكن الوجود، وأنه في أصل الوجود يحتاج إلى مبدأ يوجده من كتم العدم، فسواء أكان الاستدلال تامًا أم لا، فهل الجملة التي يتمّ بيانها بعد الاستنتاج، لن تكون ذات معنى؟ لا أتصوّر أن هناك شخص يقول إن جملة «إن عالم الخلق قد أوجده خالق من كتم العدم» بلا معنى. وعلى هذا الأساس فإن الخلق من العدم قابل للفهم، رغم أننا لم نصل إلى نموذج من الخلق من العدم بواسطة الحسّ الظاهري أو الباطني. عندما نحسّ بالماء وكيف ترتفع درجة حرارته شيئًا فشيئًا، يستعدّ ذهننا هنا لإدراك مفهوم الشديد والأشد في درجات الحرارة. وكذلك عندما نقارن بين الوجودات المختلفة ونرى أن لبعضها أثرًا ونرى لبعضها الآخر آثارًا أكثر، نجد أن الموجود الثاني أشدّ من الموجود الأول، غاية ما هنالك أن الشدّة هنا في الوجود، كما أن الشدّة في المثال السابق كانت في الحرارة. وعليه فإذا افترضنا موجودًا يحتوي على ما لا نهاية له من الآثار، فسوف نقول إن هذا الموجود هو أشدّ موجود بحيث لا يمكن تصوّر موجود أشدّ منه. فهنا لم نتمكن من إدراك الأشدية في الوجود بواسطة الحسّ الظاهري ولا بواسطة الحسّ الباطني، وإن أمكن للذهن أن يصل إليه من طريق المقارنة والحساب. وعلى هذا الأساس يمكن الدفاع عن الضرورة والوجوب بمعناه المنطقي بالنسبة إلى وجود الله، وإن الضرورة الفلسفية بدورها ليست شيئًا آخر غير ذلك؛ وذلك لأن الضرورة المنطقية انعكاس للضرورة الفلسفية والعينية في الذهن، كما أن نسبة الأشديّة والخالقية إلى الله قابلة للفهم بالنسبة إلى البشر.
(257)يذهب سيغموند فرويد إلى الادعاء بأن الاعتقاد بوجود الله موضوع يراد منه تلبية الأماني، وتذهب النظرية الماركسية إلى القول بأن الاعتقاد المذكور إنما هو وسيلة يتمكن جزء من المجتمع بواسطتها من إلحاق الظلم بالجزء الآخر
.وقال بلانتينغا في الردّ على هذا الاستدلال:
«ولكن هل يمكن القول بأن هذا الادعاءات يمكن أن تشكّل أدلة على بطلان المعرفة الإلهية؟ ... إن هذا المطلب قد يساعدنا في التعرّف على المؤمنين بالله، ولكنها لا تقول شيئًا حول أحقيّة معتقدهم، بل هو غير مرتبط بهذا الموضوع أبدًا»
.بعبارة أخرى قد يذهب شخص إلى الاعتقاد بوجود الله كي تتحقق أمنياته وآماله، أو أن يبسط سيطرته على جزء من المجتمع، ولكن في الوقت نفسه قد يكون هذا الاعتقاد متطابقًا مع الواقع ولو تمّ تقديم دليل على هذا التطابق، فسوف يتضح أن هذا الاعتقاد متطابق مع الواقع. إن تطابق الاعتقاد مع الواقع منفصل عن دوافع ذلك الاعتقاد، كما أن معيار صحة أو عدم صحة معتقد ما هو الآخر منفصل عن صحّة أو عدم صحة دوافعها؛ بمعنى أنه لا يمكن الوصول من عدم مطلوبية الدافع إلى القول بعدّم صحّة المعتقد، كما أنه لا يمكن أن نستنتج من صحّة الدافع صحّة المعتقد. ومن هنا يتضح أن كل استدلال يستند إلى صحّة أو عدم صحّة الدافع نحو معتقد ما، سوف يكون محكومًا بالفشل.
إن بعض الأدلة التي تذكر لامتناع إثبات وجود الله تقوم على أساس خصائصه وصفاته. قد يبدو القبول بصفة والقيام في الوقت نفسه بإنكار وجود الموصوف متناقضًا، ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أن المراد هو أن الله ـ بناء على تعريف أو شبه تعريف ـ له صفات، بمعنى أنه لو كان موجودًا لكن متصفًا بهذه الصفات، أو أن الله من وجهة نظر المعتقدين به يتصف بهذه الصفات، ولذلك يرد هذا السؤال إلى الذهن: هل يمكن من الناحية العقلية إثبات وجود إله يتصف بهذه الصفات؟ وتذكر هنا أدلة يذهب الظن معها إلى أننا لو أخذنا الله بوصفه متصفًا بهذه الأوصاف، فإن وجوده لن يكون قابلًا للإثبات.
لقد حاولوا الاستدلال من طريقين على أن الله حيث لا يكون متناهيًا، فإنه يستحيل إثبات وجوده:
نحن نعلم مسبقًا أن الإنسان غير قادر على إثبات وجود الله؛ وذلك لأن الله غير محدود، في حين أن الإنسان محدود من الناحية الفكرية والذهنية، واللامحدود لا يمكن استيعابه في الظرف المحدود. وعلى هذا الأساس لا يمكن للإنسان أن يكون له إشراف علمي على الله. وبعبارة أخرى: إن الله ليس له ماهية ليكون إثبات وجوده ممكنًا؛ وذلك إذ لا بدّ في إثبات وجوده من الاستعانة بالمفاهيم؛ إذ ما لم ينطبع مفهوم شيء في الذهن، لن يمكن إثبات وجوده، وحيث أن الله ليس له ماهية، فإن مفهومه
لن ينطبع في أذهان البشر
.في الجواب عن هذا الاستدلال، يجب القول: إن الله حقيقة أسمى من أيّ حقيقة أخرى، بل هو أكبر من أن يمكن تصوّر أو افتراض موجود آخر أكبر منه، ولذلك فإنه لا ماهية له، بمعنى أنه لا يمكن أن نمتلك مفهومًا عن الله بحيث يكون مرآة تحكي عن حقيقته الكاملة. ولذلك لا يمكن للإنسان أن يحيط به أو يُشرف عليه من الناحية العلمية. ولكن لا ينبغي أن نستنتج من هذا الكلام أن الإنسان غير قادر على امتلاك أي إدراك أو علم عن هذه الحقيقة العلمية. إن المستحيل إنما هو الإحاطة العلمية بكنه ذاته، وإلا فلو كان أصل العلم بالله مستحيلًا، ففي مثل هذه الحالة لما انطبع حتى أصل هذا الإشكال في الذهن أيضًا؛ وذلك لأن الإشكال إنما يقوم على القول بعدم محدودية الله. وكلامنا الآن هو كيف يمكن الادعاء بأن الله غير محدود. فإذا لم يكن لدينا أيّ طريق للحصول على العلم به، كيف يمكن لنا القول بأنه غير محدود؛ إذن يتضح أن الذي لا يمكن أن يكون ممكنًا للإنسان هو العلم الاكتناهي والإحاطي بالله، وأما العلم غير الإحاطي بالله فهو غير مستحيل.
حيث أن وجود الله لامتناه؛ إذن لا يمكن إثبات وجوده؛ إذ أن اللامتناهي لا وصف له، إذ الشيء الذي يكون موصوفًا، يكون بدوره محدودًا أيضًا. فالبياض مثلًا إنما يمكن نسبته إلى القطن الذي لا يكون أحمر أو أزرق، ولذلك فإن القطن إنما اكتسب صفة البياض بسبب محدوديته. وكذلك عندما ينسب المكعب المستطيل إلى الجس حيث لا يكون كرويًا أو مخروطي الشكل وما إلى ذلك من الأشكال الأخرى. وعلى هذا الأساس ندرك بشكل دقيق أنه بسبب محدودية الشيء ننسب
إليه بعض الصفات، ولكن لا يمكن أن ننسب صفة إلى الشيء غير المحدود. وعلى هذا الأساس لا يمكن أن ننسب إلى الله ـ الذي لا تحدّه أيّ حدود ـ بوصف من الأوصاف. والآن بالنظر إلى أن الله لا وصف له، فكيف يمكن إثباته؟ وبعبارة أخرى: إن إثبات وجود X هو إثبات وجود X الذي يتصف بوصف P، ولذلك فإنه بالنظر إلى الاتصاف بوصف P، نقول إن X موجود. ولذلك لو لم يكن للشيء أيّ وصف، لا يمكن الحصول على أيّ معرفة به، وبالتالي لا يمكن لنا إثبات وجوده
.وقد جاء في نقد هذا الإشكال، ما يلي على نحو الإشارة:
«هل يمكن لنا أن نستنتج عدم الوصفية من عدم التناهي؟ لا بدّ هنا من البحث عمّا هو المراد من الوصف؟ فهل ترون الصفات الإيجابية وحدها هي الأوصاف، أم ترون الصفات السلبية من الأوصاف أيضًا. ثم هل المراد من الوصف هو الصفات العرَضية أم الصفات الفلسفية بدورها تُعدّ من الصفات أيضًا؟ إن عدم التناهي صفة فلسفية»
.إن فرضية الاستدلال أعلاه تقوم على أن كل شيء له صفة فهو محدود، والنتيجة التي تترتب على ذلك قهرًا هي أن كل شيء غير محدود ليس له وصف، ولكن إنما يمكن القبول بهذه القضية وبالتالي عكس نقيضها، فيما لو كانت هذه القضية من الأوليات أو تعود إلى الأوليات.
في حين أنه لم يرد في الاستدلال أعلاه طرح هذه الأبحاث أبدًا، وما إذا كان هذا الفرض المسبق من الأوليات أم هو شيء ينتهي إلى الأوليات. إنما هذا الاستدلال يقوم في الواقع على استقراء ناقص جدًا؛ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن كون
الشيء مكعّبًا أو كرويًا أو مخروطيًا صفة للجسم حيث لا ينسجم مع عدم محدودية الجسم. وذلك لأن الكرة أو المكعّب وما إلى ذلك من الأشكال الأخرى إنما هي جسم أو حجم له سطح، وإذا كان الجسم غير محدود عندها لن يكون له سطح. بيد أن محدودية هذه الصفات إنما هي بلحاظ هذه المفاهيم الخاصة وليس بلحاظ كونها أوصافًا. وفي قبال هذه الصفات يمكن أخذ الاتصاف بالبياض أو الحمرة بنظر الاعتبار أيضًا. فهل البياض أو الحمرة من صفات المحدود؟ ليس هناك أيّ دليل على هذه المحدودية. لو كان العالم الجسماني بأجمعه أبيض اللون، ربما لم يكن لدينا أيّ مفهوم عن البياض وغير البياض أبدًا، دون أن يكون هذا الأمر مستلزمًا لأيّ تناقض. وبعبارة أخرى: لو كان العالم الجسماني بأحمعه غير محدود وكان واحدًا حقيقة وكان ذلك الواحد غير المحدود أبيض اللون، لن يلزم من ذلك تناقض أبدًا. قد يُقال: إن كون الشيء أبيض يعني أنه ليس بأسود، ولكن هذه العبارة نفسها تنطوي على تفسيرين؛ التفسير الأول باللحاظ الأنطولوجي والوجودي؛ بمعنى أن كل أبيض في الواقع هو غير أسود أيضًا. وفي هذا التفسير يصحّ القول أيضًا: إن العالم الجسماني بأجمعه واحد لا متناه وأبيض.
والتفسير الثاني يكون باللحاظ الأبستمولوجي والمعرفي؛ بمعنى أن العلم بكون الشيء أبيض يعني العلم بعدم كونه أسود اللون. وإنما يصل الشخص إلى هذا العلم فيما لو كان له علم بالسواد أيضًا، وإنما يكون لديه علم بالسواد حيث يكون بعض العالم الجسماني متصفًا بالبياض وبعضه الآخر متصفًا بالسواد، وأما إذا كان جميع العالم الجسماني أبيض اللون أو أسود اللون، فإن البياض سوف يكون عديم المعنى. وعلى هذا الأساس فإن إدراكنا للألوان فرع عن محدودية الأشياء ذات اللون الواحد، وإن لم يلزم أيّ تناقض فيما لو كان الشيء اللامحدود له لون واحد، ولكن هل إدراك أيّ وصف يقوم على محدودية الموصوف؟ لبحث هذا السؤال والجواب
(262)عنه بالنفي يجب علينا بيان وصف المعرفة بذاتها. إن المعرفة بذاتها صفة للموجود الذي يكون عالمًا بذاته. فهل المعرفة بذاتها لدى كل موجود يكون بسبب محدوديته؟ ليس لدينا أيّ دليل على هذه المحدودية، ولذلك لو كان لموجود صفات الموجودات التي تمتلك إدراكًا وعلمًا بذاتها، يجب أن يكون لديه علم بذاته، وإن لم يكن محدودًا. قد يُقال إن علم الإنسان إنما يتعلق بالموجودات المحدودة ليمكنه الحصول على علم عنها ويصفها بوصف من الأوصاف، ولذلك حيث لا يكون الله محدودًا، فإنه لن يستطيع أن يحيط به علمًا. إن الافتراض المسبق لهذا الاستدلال هو أن العلم بشيء يساوي العلم الاكتناهي بالمعلوم، ولكن لم يقم دليل على هذه المسألة، وفي الواقع فإن هذا الاستدلال يمثل عودة إلى الطريق الأول.
لقد ذكر هادسون ثلاثة معان لاتصاف الله بكونه متعاليًا، وعلى أساس هذه المعاني يعتبر الإلهيات مرفوضة. وفي البداية سوف نذكر معاني «المتعالي»، ثم نبيّن الإشكالات على أساسها. يقول هادسون:
«أرى أنه يجب علينا أولًا أن نعمل على التفكيك بين مجموعة من المعاني المختلفة التي ذهبوا على أساسها إلى اعتبار الله متعاليًا بمعنى أنه أكبر من العالم وغير العالم. طبقًا لأحد هذه المعاني يكون الله متعاليًا من هذه الحيثية وهي أنه ليس جزءًا من العالم المكاني والزماني. إن هذا العالم مخلوق له وهو فعّال فيه، ولكن لا يجب اعتبار هذا العالم أو أيّ جزء منه عين الله. وطبقًا للمعنى الثاني يكون الله متعاليًا من حيث أن أفعاله وصفاته أكبر من أفعال وصفات سائر الموجودات التي نشاهدها أو التي يمكن لنا أن نتصوّرها. فهو يمتلك خلاقيّة لا متناهية، وحكمة لا متناهية، ورحمة لا متناهية، وما إلى ذلك من الصفات الأخرى. وطبقًا للمعنى الثالث يكون الله
(263)متعاليًا من حيث أنه لا يمكن (من الناحية المنطقية) تصوّره؛ فهو شيء لا يمكن لنا أن نتوهمه أو أن نصفه بكلام. فهو شيء متناقض أو محال من الناحية المنطقية»
.لقد ذكر هادسون إشكالًا على المعنى الأول والثاني للمتعالي. فقد عمد في هذا السياق إلى طرح سؤال على النحو الآتي:
«هل للحديث عن الله بوصفه موجودًا متعاليًا ـ بالمعنى الأول أو الثاني من المعاني التي ذكرناها آنفًا ـ معنى محصّلًا؟ إن الإشكال هنا هو كيف يمكن تصوّر فاعل إلهي لا يمتلك بدنًا جسمانيًا؟»
.ثم يعمل على ذكر هذا الإشكال بالتفصيل، ويقول مستمدًّا من مقالة لكاكس في تقرير «الله الحنّان»: «إن بعض التجارب التي تدعى بـ «اللقاء مع الله»، قد تكون من قبيل تجارب اللقاء مع شخص قد تحنن عليك»
.ثم قال بعد ذلك: «إن كل واحد من ألفاظ (اللقاء)، و(الشخص)، و(يتحنن) مثير للحيرة؛ وذلك لأن من أجزاء لقاء شخص مع شخص آخر هو الاتصاف بالجسمانية، فالشخص إنما يطلق على الموجود الذي يمتلك بدنًا، وإن التحنن على شخص يعني وجود أحداث مكانية / زمانية تصنع مفهوم التحنّن، كأن يكون قد أكرمه وأثنى عليه أو أرسل له خطابًا وهكذا»
.ثم قال في موضع آخر: «إن كاكس يُصوّر الله شخصًا نلاقيه ويتحنن علينا.
فإذا كان يتحدّث ـ كما هو واضح ـ عن إله هو من وجهة نظر المؤمنين - موجود متعال، بمعنى أنه ليس له جسم مكاني / زماني، ففي مثل هذه الحالة لا يمكن لما أسميته «جزءًا» و«حسًّا بدنيًا» أن يكون قسمًا من مراده من (اللقاء)، و(الشخص) أو (يتحنن) عند إطلاق هذه الألفاظ على الله. إذن ما هو مراده من هذه الألفاظ؟ ... إذا أردنا استعمال مفردات من قبيل: (اللقاء)، و(الشخص) أو (يتحنن) في مقام الحكاية عن الله، عندها فإن كلامنا إنما يكون له معنى في ما لو أمكن لنا أن نسقط معان واضحة على هذه المفردات. [هل] يمكن أن يكون لكم تصوّر واضح عن معاني هذه العبارة: «لقد التقيت بشخص يتحنن عليّ»، لو افترضنا أن الموجود المشار إليه لم يكن يمتلك بدنًا جسمانيًا، أيًّا كان المعنى الذي تتصوّرونه لكل واحد من هذه المفردات، ولكن ألا تشعرون أنكم على كل حال قد افترضتم وجود بدن جسماني للموجود المشار إليه وحتى حركة بدنه عادة؟»
.إن مسألة الارتباط بين الفاعل وبدن الفاعل مسألة معقّدة جدًا. فمن جهة منذ أن بذلت جهدًا كي أثبت أنه حيث لا يكون للبدن الجسماني للفاعل وجودًا ولا حركة، فإن القول بأن الفاعل ـ مثلًا ـ يتحنّن، سوف يكون بحسب الظاهر بلا معنى. ومن جهة أخرى فإنه مع ذلك كما أثبت بعض الفلاسفة المعاصرين بوضوح أن مفهوم الفاعلية [أو الفعل] لا يمكن خفضه إلى مفهوم الحركة البدنية
.وعليه لو أثبتنا إلهًا يكون جسمانيًا وزمانيًا ومكانيًا، لن يكون هذا الإله إلهًا للموحدين، ولو كنا بصدد إثبات إله متصف بالتعالي، فحيث لا يكون لدينا دليل على تعالي هذا الإله، نكون في الواقع قد قمنا بأمر عبثي، وأثبتنا أن الإلهيات مرفوضة.
إن مجموع الاستدلال أعلاه يتلخّص في هذا المطلب، وهو أن «الشخصيّة» و«اللقاء»
و«التحنّن»، يستلزم الجسمانية. ولكن حيث لم يرد في الأديان التوحيدية إطلاق عنوان الشخص على الله، فإن الشخصية أو عدمها لا تحدث مشكلة، ولكن هل هناك تدخّل للجسمانية وامتلاك المتلاقيين للبدن في تحقق معنى اللقاء؟ هكذا يكون الأمر من الناحية العملية في اللقاءات العادية؛ فعندما نقول: «التقى زيد عمرًا في المدرسة» فهذا يعني أن زيدًا ببدنه الظاهري قد التقى عمرًا ببدنه الذي يمتلكه أيضًا. وأما إذا قلنا: «التقى زيد عمرًا في المنام»، فربما يقوم بدن زيد ببعض الأفعال والانفعالات أثناء النوم لتتحقق الملاقاة في حالة النوم، ولكن لا يُشترط أن يكون قد التقى البدن الجسماني ذا الوزن لعمرو أثناء النوم، وإن كان قد التقى بدنًا في هذا المورد أيضًا.
وعليه فقد اتضح حتى الآن أن جزء معنى اللقاء ليس هو أن يكون الذي تمّ اللقاء به مالكًا للبدن الجسماني ذي الوزن، ولكن هل يُشترط أن يكون الذي يتمّ اللقاء به مالكًا لبدن ولو على نحو البدن المثالي؟إذا كان الذي يتمّ اللقاء به له بدن، فيجب أن يكون الملاقي ملاقيًا لبدنه وجهًا لوجه؛ ليقال إن أحدهما قد التقى بالآخر، ولكن لا تُشترط الرؤية في اللقاء، ولذلك لو أنك قد التقيت بشخص أعمى وتحاورتما وتصافحتما، لو قيل إنك قد التقيت بالأعمى، يكون هذا الكلام صحيحًا، وأما إذا تحدّثت إلى شخص عبر الهاتف، لا يصدق تحقق اللقاء في هذه الحالة. وعليه فإن اقتراب المتلاقيين من بعضهما وحضورهما في مكان واحد، يُعدّ جزءًا من معنى اللقاء. ومن هنا لو أنك رأيت شخصًا في المنام وأنه كان ملتفتًا إليك، فسوف يصدق اللقاء، على الرغم من أنك إذا لم تذكر عبارة «في المنام»، فإن هذا سوف يوهم السامع أنك قد رأيته في عالم اليقظة. وأما لو ذهب شخص إلى عيادة مريض في المستشفى، ولم يصل إلى سريره إلا بعد أن يكون قد فارق الحياة، عندها لا يقال إن اللقاء قد تحقق. وعليه فإن اللقاء إنما يتحقق فيما لو كان المريض باقيًا على قيد الحياة. الفرضية الأخرى أن يعقد شخص العزم على الذهاب لعيادة مريض، ولكنه بفعل الازدحام
(266)في المستشفى لم يتمكن من رؤية المريض، في حين كان بمقدوره أن يراه، ففي مثل هذه الحالة لا يتحقق اللقاء. وعليه فإن شرط اللقاء أن يكون الشخص الذي يتمّ اللقاء به مدركًا لحضور الشخص الذي جاء إلى لقائه.
اتضح حتى الآن أن اللقاء بالموجودات ذات البدن إنما يصدق فيما لو حضر بدن الشخص الذي يتمّ اللقاء به في ظرف اللقاء. لنفترض هنا أن القول بأن الإنسان له روح وجسد، وأن الروح تبقى بعد مفارقتها للجسد. لو ادّعى شخص مثل شيخ الإشراق أنه قد رأى أرسطو وأنه سأله عن مشاكل العلم وأنه قد حلّ مشاكل العلم، فهل يمكن القول بأن شيخ الإشراق قد التقى بأرسطو؟ الجواب: نعم. قد يُدّعى بأن من بين شروط تحقق مفهوم اللقاء هو حضور البدن ذي الوزن، وإن استعمال مفهوم اللقاء حيث لا يكون البدن الدنيوي موجودًا يكون استعمالًا مجازيًا، وأما لو قلنا ـ بدلًا من مطلق اللقاء ـ بأن شيخ الإشراق قد التقى بأرسطو من خلال بدنه المثالي ـ فيما لو رأى بدنًا ـ أو التقى بروح أرسطو ـ فيما لو لم يُشاهد بدنًا ـ عندها لن يكون هناك استعمال حتى على نحو المجاز أيضًا. قد يقال إنه لم يتمّ إثبات أن للإنسان روحًا وجسدًا، ولكن لا بد من العلم بأنه حتى لو لم يتمّ إثبات ذلك، يبقى هذا المثال الافتراضي مؤشرًا إلى أن من بين معاني اللقاء ليس هو البدن الدنيوي أو المثالي. فلو أثبت برهان أن الله ليس جسمانيًا، وادعى عارف أنه التقى بالله، فإن معنى كلامه هذا هو أن العارف قد حلّ في حضرة موجود عالم، وكان العارف مدركًا له، كما كان الله مدركًا لحضور العارف. وبطبيعة الحال ما لم يصل الإنسان بنفسه إلى مثل هذا الوعي، لا يمكنه تصوّر هذا النوع من العلم والإدراك. وعلى كل حال فقد أثبت بحثنا أن الحضور الفيزيقي والجسدي للمتلاقيين ليس شرطًا في تحقق اللقاء. لو كان لازم مفهوم اللقاء في اللقاءات العادية هو الحضور الجسدي، فإنه عند استعمال ذلك بشأن الله فسوف يتمّ تجريده من هذا المعنى، وفي مورد لقاء الله يمكن القول ـ كما في
(267)أيّ لقاء آخر ـ أن الملاقي يشعر بحضوره عنده، وأن الملاقى بدوره يدرك حضور الملاقي.
يتبيّن من خلال هذه التوضيحات أن امتلاك الحنّان للبدن ليس جزءًا من عبارة «التحنّن». أجل، إنما نقول إن أبًا يحبّ ولده، حيث نرى آثار حبّه؛ كأن يوفّر له فرص الدراسة دون أن يكون له طمع من وراء توفير هذا الدعم. وفي الواقع فإن هذه الحركات البدنية التي يقوم بها الوالد تدلّ على حبّه لولده. إن الأشخاص إذا أرادوا العمل بمقتضى حبّهم، يجب عليهم تحريك أبدانهم، ولكن لو أمكن لموجود أن يعمل بمقتضى تحننه من دون أن يضطرّ إلى ممارسة نشاط بدني، يبقى متحننًا، وعندما يقوم البرهان على أن الله ليس جسمًا ومع ذلك فهو حنّان، يجب القبول بذلك وإن لم نتمكن من تقديم تصوّر عن تحنن موجود من دون جسد.
لقد عمد هادسون ـ من خلال الاستفادة من مقالة بول تيليش ـ إلى توضيح المعنى الثالث للمتعالي، على النحو الآتي:
«لقد أظهر بول تيليش ... أن الله متعال، بمعنى أن نموذج «الله» «... إظهار شيء موجود فيما وراء سماء المفاهيم مطلقًا». ثم قال بعد ذلك: «إن لفظ «الله» يُحدث تناقضًا في ضميرنا الواعي؛ [إذ أنه] يستلزم شيئًا له صورة حاضرة في الضمير الواعي، وشيء عديم الصورة نحمله في الذهن واقعًا، ويتمّ إظهاره بهذا المفهوم». ثم أضاف قائلًا: «إن لفظ «الله» يشتمل على هذه الخصوصية، وهي أنه يذهب إلى ما هو أبعد من محتواه المفهومي، وإن الطبيعة الروحية التي تحتوي عليها هذه الكلمة تعود إلى هذه الخصوصية ...»
.وقال في نقد نظرية بول تيليش:
«إن تيليش ... يقول في الواقع: إن بمقدورنا أن نعلم بالشيء الذي لا نعلم به، ولا شك في أن هذا كلام مهمل. كيف يمكن لمفردة من الناحية المنطقية أن تذهب إلى أبعد من محتواها المفهومي؟ وكيف يمكن من الناحية المنطقية تصوّر شيء يقع بالمطلق في الضفّة الأخرى من سماء المفاهيم؟ يذعن تيليش بأن هذا الأمر يمثّل «تناقضًا في ضميرنا الواعي»، ولكنه يؤكد بوضوح على هذا التصوّر وهو أن هناك ـ على الرغم من ذلك كله ـ معنى محصلًا للقول بأن بمقدورنا الحصول على مثل هذا المفهوم. ويحتمل أن يكون الدليل الذي أقامه على هذا الكلام القائل بأن بمقدورنا الحصول على مثل هذا المفهوم، هو: حيث أن الله هو الله؛ بمعنى أنه حيث أن الله بحيث يكون أبعد من المنطق أو في الضفة الأخرى من المنطق، ومن هنا يمكن أن نعطي بشأنه أخبارًا متناقضة على نحو مفهوم. [بيد] أن الأمر ليس كذلك [بمعنى أنه لا يمكن أن نعطي بشأن الله أخبارًا متناقضة على نحو مفهوم] ... من الواضح جدًا أن الجواب عن هذا السؤال القائل: هل الكلام عن الله بوصفه موجودًا متعاليًا، بمعنى الموجود الذي ينطوي على تناقض، يحتوي على معنى محصّل أم لا؟ هو النفي»
.يقدّم هادسون لتعالي الله مفهومًا بحيث لا ينطوي على تناقض، وإن مقترحه في هذا الشأن، على النحو الآتي:
«أرى أن بمقدورنا أن نصوغ مفهومًا عن الله بحيث ينسجم مع كل ما يُعدّ ضروريًا في الإيمان بالله، ويكون في الوقت نفسه محفوظًا ممّا يدعوه تيليش «الطبيعة الروحية» وكلمة «الله»، بشرط أن يتمّ اعتبار الله متعاليًا؛ لمجرّد كونه قادرًا جدًا، ورحيمًا جدًا،
ومحاطًا بالغموض والأسرار جدًا. إن هذه المصطلحات الأخيرة بأجمعها قابلة للفهم جدًا. إن القول بأن ذات أو فعل الله شيء يفوق ما نشاهده أو نتصوّره أو نتخيله، أو يمكن أن نعمل على توضيحه، له معنى محصلًا بالكامل ...»
.وحاصل نقل ونقد هادسون هو أن المفهوم الذي نمتلكه عن الله يُعدّ ـ من وجهة نظر تيليش ـ متناقضًا، من قبيل مفهوم «الدائرة مربّع». ولهذا السبب لا ينبغي تصوّر الله على هذه الشاكلة. لا شكّ في أن تيليش لو أراد من «تعالي» الله هذا المعنى الذي قام هادسون بتوضيحه، فهو غير معقول جدًا. إن الشخص المؤمن بالله الذي يروم الاعتقاد بالله على نحو عقلاني، لا يمكنه أن يمتلك مثل هذا المفهوم عن الله في صقع ضميره، وإذا أراد العمل على تنشئة مثل هذا المفهوم في ضميره، يكون في الواقع قد عمل دون وعي على تنشئة أمر غير معقول في ضميره. بيد أن النكتة هي أن بول تيليش لم يرد مثل هذا المفهوم. وسوف نعمل قريبًا على توضيح مراده.
إلا أن الذي دفع هادسون إلى إظهار المعنى الثالث للمتعالي على شكل مفهوم متناقض، هو أن مفهوم «اللامتناهي» يبدو متناقضًا من وجهة نظره، كما هو الحال بالنسبة إلى مفهوم «الدائرة مربّع»؛ وحيث ورد استعمال عبارات من قبيل «ما وراء سماء المفاهيم»، و«التناقض»، و«الطبيعة الروحية» في كلمات تيليش
ـ وكانت العبارة الأولى والثالثة تستلزم اللانهاية ـ فقد استنتج من ذلك أن مفهوم الله يلقي في الواقع تناقضًا في ضميرنا. ولذلك فإنه بسبب تناقض مفهوم اللامتناهي من وجهة نظر هادسون ، عمد إلى تقديم مفهوم عن الله بحيث يحتوي على «طبيعة روحية»، وإن كان لا يحصل منه على معنى اللامتناهي. ومن هنا فإنه بدلًا من الله«القدير بلا نهاية»، و«الرحيم بلا نهاية»، و«المحاط بالأسرار بلا نهاية»، يضع الله «القدير جدًا»، و«الرحيم جدًا»، و«المحاط بالأسرار جدًا». وكذلك عندما يتعرّض إلى المعنى الثاني
من المتعالي نشاهد ذات هذا التغيير في كتابه؛ أي أنه يضع لفظ «جدًا» بدلًا من «بلا نهاية»؛ وذلك لأنه حيث يذكر المعاني الثلاثة للمتعالي ، كان يعمل على تفسير المعنى الثاني ـ الذي هو أفضلية الصفات والأفعال الإلهية على سائر الموجودات ـ بمعنى الإبداع اللامتناهي، والحكمة اللامتناهية، والرحمة اللامتناهية، وحيث يروم هنا طرح مشكلة هذا الوصف، فإنه بدلًا من عبارة «الرحيم بلا نهاية» يضع عبارة «الرحيم على النحو الأتم والأكمل»، ويعود سبب هذه الاستدارة في المعنى إلى شعوره بوجود نوع من التناقض في مفهوم اللامتناهي. (سوف نبحث لانهائية الله في بحث عدم محدودية الله).وأما النقد الذي يرد على كلام تيليش فهو أنه لم يكن يجدر به أن يستعمل مصطلح «التناقض» لتوضيح مطلبه؛ بمعنى أنه لو وضع بدلًا من ذلك عبارة «الذي يبدو متناقضًا»، أو الشيء الذي يبدو متناقضًا في بادئ الأمر، ولكنه لا يحتوي على أدنى تناقض عند التحقيق، لن يحدث هناك أيّ إشكال، بل وكان يقطع طريق التفسير الخاطئ على أمثال هادسون أيضًا.
يسعى تيليش في مقالته إلى بيان المفاهيم التي إذا أطلقناها على غير الله نفهم ما هو الشيء الذي نريده تمامًا؛ وذلك لأننا نكون قد توصلنا بشكل وآخر إلى حقيقة ذلك المفهوم، من ذلك مثلًا أننا عندما ننسب الحكمة والعلم والقدرة والحياة إلى الإنسان، تكون معاني هذه الألفاظ واضحة ومعلومة لنا بشكل كامل؛ وذلك لأننا قد رأينا حقيقة الحكمة والعلم والقدرة والحياة في أنفسنا. وعندما نستعمل هذه المفاهيم
بالنسبة إلى الآخرين فإننا نستعملها بشكل وآخر في ذات هذه المعاني. ولكن عندما ننسب هذه الألفاظ إلى الله، فإننا على الرغم من استعمال ذات هذه المفاهيم ـ التي كنا نستعملها في أنفسنا بمعنى من المعاني ـ في مورد الله، مع فارق أننا بحسب البرهان ندّعي أن حقيقة الحكمة والعلم والقدرة والحياة غير ذلك الشي الذي وجدناه في أنفسنا، لا أن هاتين الحقيقتين تحتويان على تباين مفهومي؛ إذ في غير هذه الصورة لم يكن ينبغي أن نطلقها على الله، بل إن المراد هو أن هذه الحقائق من مقولة التشكيك. عندما تسير حقيقة نحو اللانهاية، بل وتكون لانهائية واقعًا، فإننا حتى إذا استطعنا أن نفهم منها شيء، ولكننا لا نستطيع أن نقدم لها تعريفًا أبدًا، أو أن نجمع بعض المفاهيم ونقول: إن هذه الحقيقة التي تحتوي على المفهوم n، إنما تظهر حقيقة الله. وحيث أن الله ليس له ماهية، أي ليس له محدودية وجودية؛ إذن لا نستطيع الحصول عليه بشباك المفاهيم. وكما أن العارف يجد نفسه حاضرًا عنده في موقفه العرفاني ويجده بمقدار سعته الوجودية، ولكنه لا يستطيع العثور على حقيقته أبدًا، فكذلك الفيلسوف بدوره وإن كان يعرفه، ولكنه لا يستطيع حشر حقيقته في قالب المفاهيم.
وعليه يكون لدينا تصوّر ومفهوم عن الله حيث يُشير إلى تلك الحقيقة، وفي الوقت نفسه ليس الأمر كما لو كان لدينا تصوّر عنه بحيث يكون مرآة عاكسة لجميع أبعاد تلك الحقيقة، وليس هناك أيّ تناقض بين هذين الأمرين أبدًا، وإن كانا يبدوان متناقضين في الوهلة الأولى. وحيث لا نستطيع إدراك تلك الحقيقة بواسطة المفاهيم فقد ذهب تيليش إلى استعمال هذه العبارة: «إن نموذج «الله» ... إنما هو انعكاس لشيء يقع في ما وراء سماء المفاهيم مطلقًا»، أو قوله: «إن لفظ «الله» يشتمل على هذه الخصوصية وهي أنه يذهب إلى أبعد من محتواه المفهومي، وإن الطبيعة الروحية التي تحتوي عليها هذه الكلمة رهن بهذه الخصوصية». وأما ما قاله تيليش في استدلاله: «حيث أن الله هو الله» فهو ليس بالمعنى الذي فهمه هادسون بقوله: «أي حيث أن
(272)الله بحيث يكون أبعد من المنطق أو في ما وراء المنطق»، بل بهذا المعنى وهو أنه فيما يتعلق بحقيقة الله يجب قول كل ما يمكن قوله ما دام أنه لا يؤدّي إلى التناقض، وفي الوقت نفسه فإن ما يمكن قوله إنما يعني أن الإنسان قد حصل على هذا المقادر من ذلك اللامتناهي، وإنه كلما اقترب منه سيجده أبعد من أن يكون محدودًا بهذا المقدار. وعلى هذا الأساس فإنه على الرغم من امتلاكنا لتصوّر عنه يعمل على إظهاره بمعنى من المعاني، لا زلنا لا نمتلك صورة واقعية عنه بحيث تظهره على حقيقته، ولا يمكن أن تكون لدينا مثل هذه الصورة. والخلاصة هي أنه حيث يكون الله لامتناهيًا، لا يمكن لشخص أن يحيط به؛ وعليه فإنه على الرغم من إمكان حصول العلم بالله، ولكن لا يمكن الإحاطة به علميًا أبدًا.
يُستدل تارة على الوجود غير المحدود وغير المتناهي بالقول: حيث يكون الشيء لامتناهيًا، إذن لا تكون له صفة، والشيء الذي لا تكون له صفة، لا يكون قابلًا للبرهان ولا يكون وجوده قابلًا للإثبات، وإن كان من الممكن أن يكون موجودًا في الواقع، بيد أن يد البرهان لا تطاله. إن هذا الاستدلال بهذه الصورة هو ذات ذلك الشيء الذي ذكرناه في بحث «عدم اتصاف الله بصفة». والجواب عنه هو ذات الجواب الذي ذكرناه هناك؛ وعليه لا حاجة إلى الإعادة.
يتمّ الاستدلال في بعض الأحيان بالنظر إلى عدم تناهي الله ولانهائيته بالقول: إن هذا المفهوم يحتوي على تناقض داخلي، كما هو الحال بالنسبة إلى قضية «الدائرة مربّع» حيث تنطوي على تناقض داخلي. وكأن هادسون قد حصل من اللاتناهي على مثل هذا الفهم، ولذلك عمد إلى وضع كلمة «جدًا» أو «الأتم» أو «الأكمل» بدلًا
(273)من «اللامتناهي». وعلى الرغم من أن هادسون
يدّعي بأننا لو قلنا بعدم إمكان أن نقدم أخبارًا متناقضة عن الله، إلا أن هذا لا يعني أن الله محدود، بل يجب القول إنه غير محدود، ولكن بالنظر إلى الاستدارة في معنى اللامتناهي يجب القول إن المراد من ذلك هو أن عدم محدودية الله يعني أنه لا يشتمل على حدود الموجودات الأخرى، وإنما يذهب إلى ما وراء تلك الحدود؛ بمعنى أن وجود كمالاته أبعد من محدوديات الموجودات الأخرى، لا أن وجوده وكمالاته غير محدودة حقيقة. وعليه فإنه في الحقيقة والواقع غير محدود نسبيًا وليس غير محدود مطلقًا. وكأنه يبدو من وجهة نظر هادسون أن اللامحدود المطلق ينطوي بالضرورة على تناقض. بيد أن هادسون لا يوضح كيف يكون مفهوم اللامتناهي متناقضًا. وقبل كل شيء يجب عليّ التذكير بأن المفهوم إنما يكون متناقضًا واقعًا فيما لو كان مشتملًا على كلا مفهومي A و ~A؛ فإن قضية «الدائرة مربع» إنما تكون متناقضة من حيث أنها تشتمل على مفهوم الدائرة ونقيضها؛ إذ أن دائرية شكل ما تكمن في أن يكون دائرة فقط وليس شكلًا آخر.لم يقدّم هادسون دليلًا مستقلًا على تناقض المفهوم الذي أخذ فيه اللاتناهي، ولكن بالنظر إلى ما أورده من كلام تيليش، والاستدارة من لفظ «اللانهاية» إلى لفظ «جدًا»، يمكن أن نقدّم احتمالين لنظريته:
1. الاحتمال الأول هو أن الألفاظ والمفردات التي نستعملها تدلّ على مفاهيم إما حصلنا عليها من الخارج مباشرة أو تمّ فهمها في ضميرنا الواعي بواسطة النشاطات الذهنية وغير الذهنية، وأما لو قلنا إن اللفظ له معنى، ولكن لا يمكن للإنسان أن يفهمه، فإن هذا الأمر سوف ينطوي على تناقض. لنفترض مثلًا أن شخصًا قد رأى اللون الأحمر الفاتح بدرجة خاصّة لأول مرّة في حياته، فهل يمكن لهذا الشخص
الذي لم يسبق له أن رأى اللون الأحمر ولم ير أيّ لون آخر في حياته أن يفهم معنى اللون الأحمر الغامق؟ الجواب: كلا. ولكن لو رأى بعد ذلك اللون الأحمر الفاتح لونًا أحمر غامقًا، ثم رأى بعد ذلك لونًا أحمر أشد حمرة من الأحمر الثاني، ففي مثل هذه الحالة سوف يصبح ذهنه مستعدًا لفهم لون أشدّ حمرة من اللون الأحمر الثالث، وإن كان حتى الآن لم ير صورة خاصّة باللون الأحمر الأشدّ من الأحمر الثالث. والآن لو قيل لهذ الشخص: هناك لون آخر ليس بأحمر على الإطلاق، وإنما هو أصفر على سبيل المثال وأن له طيفًا واسعًا، يكون طيف اللون الأصفر قابلًا للفهم بالنسبة له، وذلك لأنه يكون قد حصل على نموذج اشتمال اللون للطيف من طريق معرفته لأطياف اللون الأحمر. ولكن لو قيل لذات هذا الشخص: خذ بنظر الاعتبار لونًا أحمر ليس هناك ما هو أشدّ حمرة منه، في مثل هذه الحالة، فإنه على الرغم من امتلاكه لنموذج يفهم من خلاله مختلف أطياف اللون الأحمر، ولكن لا يوجد في البين أيّ نموذج يشير إلى كيفية الطيف النهائي والأخير. إن مفاهيم من قبيل العلم والقدرة من هذا القبيل أيضًا؛ بمعنى أنه ما لم تصل القدرة إلى ما لا نهاية، من المعقول تمامًا أن نقول: إنه يمتلك n من القدرة، ولكن عندما تصبح القدرة لا نهائية، عندها لا يكون لدينا تصور عن قدرته. إن هذا هو ذات الشيء الذي كان تيليش يرى أنه يخلق تناقضًا في ضميرنا الواعي. إذا كان الاستدلال على هذا المقدار فإنه لن يُشير إلى أنه حيث يكون هناك أثر لعدم النهاية يكون متناقضًا. إن هذا الاستدلال إنما يثبت هذا المقدار فقط وهو أن بعض المفاهيم التي لا نمتلك لها صورة خيالية أقرب إلى الذهن، وبعضها الآخر أبعد من الذهن.
2. الاحتمال الثاني هو أنه حيث يكون هناك أثر لعدم النهاية في البين يكون الأمر متناقضًا حقيقة؛ ببيان أن الشيء يجب أن يكون في حدّ واحد، وأن لا يكون ـ في الوقت نفسه ـ في ذلك الحد ويتجاوزه، هذا هو معنى التناقض. لنفترض أن لونًا
أحمر هو في منتهى الحمرة، فلو أخذنا أيّ طيف من اللون الأحمر، وكان هذا اللون مورد البحث أشدّ حمرة منه، كان هذا تناقضًا؛ إذ عندما تقولون: إن هذا اللون أحمر، فهذا يعني أنه لا يتجاوز حدود الحُمرة، وعندما تأخذون كل حدّ من الحمرة بنظر الاعتبار، فإن هذا اللون الأحمر يجب أن يتجاوز ذلك الحد، وعليه فإن مثل هذا اللون الأحمر يجب أن يكون أحمر وليس بأحمر، وهذا تناقض. جواب هذا الإشكال هو أن اللامتناهي إذا كان وصفًا للأشياء التي تحتوي على محدودية ذاتية، وكان مرادنا من اللامتناهي ليست هو اللامتناهي النسبي، وإنما كان مرادنا هو اللامتناهي المطلق، فيتضح من ذلك أننا أخذنا موصوفًا بنظر الاعتبار هو محدود وفي الوقت نفسه غير محدود، وهذا تناقض. وأما إذا كان اللامتناهي وصفًا لشيء لا يحتوي في ذاته على محدودية، فلا يلزم منه أيّ تناقض في مثل هذه الحالة. إن الوجود من حيث هو وجود، أو الأوصاف الوجودية من قبيل العلم والقدرة من حيث هما علم وقدرة ـ لا من حيث أن العلم والقدرة وصف للموجود المحدود ـ حيث أنه لا توجد فيهما محدودية ذاتية، يمكن أن يكونا موصوفين لوصف اللامتناهي، كما يمكن أن يكونا موصوفين لوصف محدود أيضًا. لو كان الوجود محدودًا، فإن أوصافه سوف تكون محدودة بشكل طبيعي، ولكن هل الوجود الذي لا يكون محدودًا في حد ذاته ينطوي على تناقض؟ كما أن الوجود المحدود لا يؤدّي إلى تناقض فإن الوجود غير المحدود بدوره لن يؤدّي إلى تناقض أيضًا. وعليه لو أراد الإنسان المحدود أن يحيط علمًا بالموجود غير المحدود، فإنه سوف يعلم به بمقدار سعته الوجودية، وعليه سيكون علمه إجماليًا، بمعنى أنه لن يستطيع العلم بحقيقة الموجود غير المحدود.
يبدو من وجهة نظر بعض الفلاسفة، أن بعض صفات الله لا تنسجم مع وجود بعض الأشياء:
(276)1. إذا كان الله عالمًا مطلقًا، وله علم سابق بكل شيء، وبالتالي سوف يكون له علم بما سأفعله غدًا، وفي هذه الحالة فإني سوف أقوم بذلك الفعل بالضرورة حتمًا، وإلا فسوف يصبح علمه جهلًا ولن أكون مختارًا، وحيث أنني مختار، فيجب أن لا يكون الله عالمًا مطلقًا، وإن الإله الذي لا يكون عالمًا مطلقًا، لا يكون إلهًا.
إن هذا الإشكال بسبب سعة دائرته، سوف نبحثه في الفصل الخامس بشكل مستقل، وأما الجواب الإجمالي عنه فهو أن الله إذا كان عالمًا مطلقًا وله علم سابق بكل شيء، فإن علمه السابق يتعلّق بأني سوف أفعل هذا الشيء غدًا باختياري، وإنما سوف يصبح علمه جهلًا فيما لو لم أفعل ذلك الشيء باختياري.
2. لو كان الله عالمًا مطلقًا وخيرًا محضًا، فيجب أن يمنع من حدوث أيّ شرّ، ولذلك فلو كان هناك شرّ في العالم، ولم يمنع الله دون حدوثه، فيجب القول: إن هذا الإله إما أن لا يكون خيرًا محضًا أو لا يكون عالمًا مطلقًا. وعلى هذا الأساس فإن الله الذي لا يكون خيرًا محضًا أو لا يكون عالمًا مطلقًا، لا يكون إلهًا. إن هذا الإشكال هو الآخر بسبب اتساع رقعته وتنوّع موضوعاته يحتاج إلى المزيد من البسط والتوضيح. ومن هنا سوف نتناول هذا البحث في الفصل السادس بالتفصيل.
والجواب الإجمالي عن هذا الإشكال بدوره هو أن وجود الشر على افتراض أن يكون أمرًا وجوديًا، فهو من لوازم الوجودات، لا سيّما وأن الكثير من الشرور وليدة اختيار الإنسان، ولو قيل إنه على الرغم من أن الشرّ من لوازم الموجود، فلو قام الله بأمر بحيث لا يكون هذا الشر موجودًا، فإننا سوف نواجه فرضيتين: إما أن لا يخلق الله هذا النوع من الموجودات أصلًا، أو أن يخلقها ويحول دون وقوع لوازم الشرّ منها. في الحالة الأولى نكون قد خرجنا عن مسألة الشر، وفي الواقع سوف نسأل: لماذا خلق الله موجودات يكون الشرّ من لوازمها؟ قد لا يتمكن الإنسان من العثور على جواب هذا السؤال، ولكن لن يضرّ ذلك بوجود الله الحكيم. فهو حكيم
وقد خلق هذا العالم بحكمته، وهو عالم من لوازمه وجود الشرور. وفي الحالة الثانية نكون قد افترضنا أمرًا متناقضًا. فإن كان الأمر من لوازم الشيء، فإنه لن ينفصل عن ذلك الشيء، وإن الله قادر على الأمور التي لا تشتمل على تناقض داخلي، بيد أن الشيء المتناقض في ذاته، لا تتوفر له إمكانية التحقق ليتمّ طرح السؤال القائل: لماذا لم يفعل الله ذلك.
إن كل برهان يُقام من أجل إثبات وجود الله، يجب أن يشتمل على مقدمتين، في المقدّمة الأولى يكون الموضوع هو لفظ الجلالة، من قبيل: «الله» أو «خدا» أو «God» وما إلى ذلك، والمحمول فيها واحد من خصائص وصفات وذاتيات الله. من ذلك مثلًا أنه يمكن القول في البرهان الوجودي: «إن الله كامل مطلق»، أو نقول في برهان الإمكان والوجوب: «إن الله واجب الوجود»، أو نقول في برهان الحركة: «إن الله محرّك بلا تحرّك» وهكذا. وفي المقدمة الثانية يكون الموضوع هو ذات الشيء الذي وقع محمولًا في المقدمة الأولى، ومحمولها هو «الموجود» أيضًا. وعلى هذا الأساس، يمكن تنظيم البرهان الوجودي على النحو الآتي:
1 . إن الله كامل مطلق.
2 . الكامل المطلق موجود.
3 . إن الله موجود.
ويتمّ تنظيم البراهين الأخرى على هذا الأساس. في كل برهان إذا لم تكن المقدمات بديهية وغنية عن الاستدلال، يجب أن تكون مستدلّة. وعلى هذا الأساس يجب في براهين إثبات وجود الله العمل على إثبات كلتا المقدمتين، وذلك بطبيعة الحال إن لم تكونا بديهيتين وغنيتين عن الإثبات. بيد أن الذي حدث في الفلسفة والكلام
هو أن الفلاسفة والمتكلمين قد بذلوا جهدًا أكبر في بحث المقدمة الثانية، بينما بذلوا جهدًا أقل في بحث المقدّمة الأولى. وربما أمكن حتى القول بأن المقدمة الأولى في البراهين المدرسية لإثبات وجود الله قد تمّت الغفلة عنها بشكل كامل. وكأنهم كانوا يتصوّرون أنهم إذا أثبتوا واجب الوجود في برهان الإمكان والوجوب على سبيل المثال، فقد تمّ إثبات وجود الله. وبطبيعة الحال فإن فلاسفة المعاصرين قد اهتموا بقصد أو بغير قصد بالمقدّمة الأولى في خصوص البراهين الوجودية، وطرحوا أسئلة في مورد المقدّمة الأولى، وعلى الرغم من طرح هذه الأسئلة في خصوص البراهين الوجودية، ولكنها لا تختصّ بالبراهين الوجودية فقط، لأن هذه المقدمة لازمة في كل برهان سواء أكان وجوديًا أم لم يكن وجوديًا، ومن هنا فقد ذكرنا هذا البحث على هامش الإشكالات العامة.
نبدأ طرح الإشكال هنا بهذا السؤال: هل لفظ الجلالة علم واسم خاص أم هو اسم عام؟ كل واحد من هذين الاحتمالين يترتب عليه إشكال يُعرّض براهين إثبات وجود الله إلى مأزق. فإن كان لفظ الجلالة ـ من قبيل «الله» ـ اسمًا خاصًا وعلَمًا، لا يمكن اعتبار المحمول في المقدّمة الأولى وصفًا أو تعريفًا له؛ إذ أن الاسم الخاص ـ كما سبق أن أوضحنا في القسم الرابع والخامس من الفصل الأول من القسم الأول ـ لا يقبل التوصيف والتعريف؛ وعليه لا يمكن اعتبار «الكامل المطلق» في البرهان الوجودي، أو «واجب الوجود» في برهان الإمكان والوجوب، أو «المحرّك بلا تحرّك» في برهان الحركة تعريفًا أو وصفًا لله. وعلى هذا الأساس فإنه مع افتراض كون لفظ الجلالة اسمًا خاصًا وعلمًا، لا يمكن إقامة البرهان على وجوده، وذلك لأن المقدّمة الأولى بسبب استحالة تعريف لفظ الجلالة مفقودة، وتشكيل البرهان يتوقف على وجود المقدمة الأولى. واما إذا كان لفظ الجلالة اسمًا عامًا، فسوف تصبح المقدّمة الأولى كلية، والقضايا الكلية إما شرطية أو في حكم الشرطية. والقضايا
(279)الشرطية بدورها على فرض صدقها، قد لا يوفر مصداق لها. وعليه في هذا الفرض على الرغم من إقامة البرهان على وجود الله، سوف يكون مفاد النتيجة على النحو الآتي:
«إذا كان وجود كل شيء هو الله، عندها سوف يكون ذلك الشيء موجودًا». إن صدق القضية الشرطية لا يكون بوجود مقدمها؛ بمعنى أن القضية يمكن أن تكون صادقة، وفي الوقت نفسه لا يكون موضوع المقدّم موجودًا؛ وعليه فإن الإشكال بشكل عام هو أن لفظ الجلالة لو كان اسمًا خاصًا، لا يتشكّل البرهان أصلًا، وإن كان اسمًا عامًا فلا يتمّ إثبات وجوده، وعليه لا يثبت وجوده في كلتا الحالتين. ونحن هنا تارة نفترض لفظ الجلالة علمًا واسمًا خاصًا، وتارة أخرى نفترضه اسمًا عامًا ونجيب عن الإشكال بهذه الطريقة.
بالنظر إلى التوضيحات التي سبق أن ذكرناها في آلية دلالة الأسماء الخاصّة في القسم الثالث والرابع من الفصل الأول من القسم الأول، يتضح أن الإشكال في المقدّمة الأولى من البراهين على إثبات وجود الله، فيما لو كان لفظ الجلالة علمًا، سوف ينحلّ إلى إشكالين، الإشكال الأول في استعمال لفظ الجلالة ودلالته على المُسمّى؛ إذ أن استعمال لفظ الجلالة ودلالته على المُسمّى فرع عن تعقّل المُسمّى، في حين أن تعقّل ذات الله ليس ممكنًا بالنسبة إلى البشر. إن الجواب عن هذا الإشكال يتم الحصول عليه من خلال التوضيحات التي تقدّم ذكرها في القسم الأول والرابع من الفصل الأول من القسم الأول، وذلك لأن لفظ الجلالة ـ مثل سائر الأسماء الخاصّة ـ إنما يتمّ وضعه على المسمّى الخاص في الحدّ الأدنى فيما لو كان الشخص قد رأى المُسمّى أو إذا كان قد تعقّله بنحو من الأنحاء. لا شيء من هذين الطريقين يحتوي على امتناع
(280)منطقي بالنسبة إلى البشر، وذلك لأن المستحيل على الإنسان المحدود هو تعقّل كنه ذات الله المقدّسة، وليس تعقّل الذات بوصف الكامل المطلق أو واجب الوجود. في كل واحد من هذين الاحتمالين يتمّ وضع لفظ الجلالة على المُسمّى، وإن الآخرين الذين يسمعون لفظ الجلالة أو يستعملونه يريدون به الدلالة على ذات المسمّى الذي تمّ استعمال لفظ الجلالة له، من دون أن تكون هناك حاجة حتى إلى أن يتعقل هؤلاء الأشخاص ذات الله بوصفه الكامل المطلق أو واجب الوجود. إن الإشكال الثاني ينبثق في الواقع من صلب الإشكال الأول، وهو أن لفظ الجلالة قد وضع لمُسمّى ليس له أيّ معنى وصفي في مفهوم لفظ الجلالة، ففي مثل هذه الحالة يجب القول إن الله غير قابل للتعريف، بمعنى أنه لا يمكن جعل محمول المقدّمة الأولى برهانًا عليه والادعاء بأن هذا المحمول تعريف للموضوع. وعلى هذا الأساس لا يتمّ تشكيل المقدمة الأولى في البراهين الوجودية؛ وذلك لأن البراهين الوجودية وغير الوجودية تقوم على تعريف الله في المقدمة الأولى.
في الجواب عن هذا الإشكال نجعل بناء البراهين على تعريف الله موردًا للملاحظة. هل يجب تعريف الله من أجل إثبات وجوده؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب علينا أولًا بحث طرق تعريف الاسم الخاص العادي. ولتعريف مسمّى الاسم الخاص العادي يمكن الاستعانة بواحد من الطرق الثلاثة الآتية:
1 . إذا لم يكن الاسم الخاص معلومًا، أمكن لنا أن نجعله معلومًا بواسطة اسم خاص آخر، وذلك فيما لو كان لهذا المسمّى المنشود اسم خاص آخر بحيث يكون معروفًا.
2 . يمكن تعريف الاسم الخاص بواسطة الإشارة إلى المُسمّى، والقول بأن المقصود بهذا الاسم هو هذا الشخص.
(281)3 . يمكن تعريف الاسم الخاص من خلال الوصف الذي يدل على الشخص بشكل حصري، من قبيل القول: «هو الذي أحرز الهدف الأول للمنتخب الوطني الإيراني لكرة القدم على الفريق الوطني للولايات المتحدة الأمريكية في مونديال كأس العالم الذي أقيم في فرنسا سنة 1998 م»، للتعريف بنجم المنتخب الوطني الإيراني لكرة القدم «حميد استيلي».
إن الطريقين الأولين لا يجديان شيئًا في بحثنا؛ إذ في إثبات وجود الله ـ كما سبق أن ذكرنا ـ نحتاج إلى مقدمتين؛ حيث يكون موضوع المقدّمة الأولى هو لفظ الجلالة، وإذ كان المحمول فيها هو لفظ الجلالة أيضًا، لا يمكن إثبات وجوده بشكل عقلاني؛ وذلك لأن محمول المقدّمة الأولى إذا كان هو لفظ الجلالة، فلا محالة يكون الموضوع في المقدّمة الثانية هو لفظ الجلالة أيضًا، وفي هذه الصورة يتعرّض حمل الوجود في المقدّمة الثانية على الموضوع إلى إشكال، والسبب في ذلك هو أن الحدّ الأوسط في الإثبات العقلاني يجب أن يكون عنوانًا مفهوميًا. وأما في مورد الطريق الثالث، فيتمّ طرح هذا السؤال القائل: هل يمكن وصف الله؟ أليس الوصف تعريفًا، وإذا كان الوصف تعريفًا، فهل يمكن تعريف الله؟ للإجابة عن هذا النوع من الأسئلة، يجب العمل على طرحها بشكل أدق وأكثر تحديدًا، ويقال: هل يمكن تعريف الاسم الخاص؟ نقول في الجواب: إذا كان المراد من تعريف المعنى والموضوع له هو الاسم الخاص، فالجواب: نعم. فكل اسم خاص ـ بما في ذلك لفظ الجلالة ـ قد وضع للدلالة على ذات معيّنة، وإن تلك الذات المعيّنة هي معنى الاسم الخاص. وأما إذا كان المراد من التعريف هو المعاني المركّبة من العام والخاص، فالجواب: لا؛ وذلك لأن الاسم الخاص بهذا المعنى ليس له تعريف، كما أن بعض الأسماء العامة هي الأخرى بهذا المعنى ليس لها من تعريف أيضًا؛ وذلك لأن جميع الأسماء عام التي تتشكّل من المعاني المركّبة، سوف تنتهي في نهاية المطاف إلى معان عامّة، وهي معان
بسيطة وغير قابلة للتعريف، وعلى هذا الأساس لو كان لفظ الجلالة اسمًا خاصًا وعلَمًا، فلن يكون قابلًا للتعريف. وأما القول: هل يمكن وصف الاسم الخاص والتعرّف من خلاله على المُسمّى؟ فالجواب بالنظر إلى ما تقدّم: أجل، ولفظ الجلالة من هذه الناحية يكون مثل سائر الأسماء الخاصّة. وكما سبق أن ذكرنا فإن هذا النوع من الأوصاف قد يكون ضروريًا بالنسبة إلى المسمّى، ولكنه لا يكون جزءًا من معنى اللفظ، وعلى هذا الأساس لا يعود هذا النوع من الأوصاف إلى التعريف. من هنا يتضح الجواب عن سؤالنا الأصلي، وهو أننا في البراهين الوجودية لا نحتاج إلى تعريف، وإن كل ما في البين هو توصيف لفظ الجلالة. وبهذا البيان يرتفع إشكال المقدّمة الأولى، ويكون إثبات وجود الله من الناحية العقلانية ممكنًا. وعليه يمكن تنظيم البرهان الوجودي أو برهان الإمكان والوجوب على النحو الآتي:
1 . إن الله كامل مطلق أو واجب الوجود.
2 . إن الكامل المطلق أو واجب الوجود، موجود.
3 . إن الله موجود.
إن الكامل المطلق أو واجب الوجود ليس تعريفًا للفظ الله، وإنما هو وصف لمُسمّى اللفظ.
تقدّم أن موضوع المقدمة الأولى من البرهان إذا كان اسمًا عامًا، فإن الإشكال الذي يحدث هو تحوّل المقدمة الأولى من البرهان إلى شرطية؛ إذ بناء على المنطق الجديد تكون كل قضية كلية شرطية. وعلى هذا الأساس لو قلنا:
1. إن الله واجب الوجود.
2. إن واجب الوجود، موجود.
3. إن الله موجود.
وكانت كلمة الله (لفظ الجلالة) في المقدمة الأولى اسمًا عامًّا، فسوف تكون صورة الاستدلال على النحو الآتي:
1 . إن كل إله واجب الوجود.
2. إن كل واجب الوجود موجود.
3. إن كل إله موجود.
إن هذه النتيجة لن تكون مقبولة بالنسبة إلى الموحّد أبدًا. فهو بصدد إثبات الإله الواحد وليس كل إله. إن هذه النتيجة شرطية، وليس هناك أيّ قضية شرطية تثبت مقدّمها، وعليه يكون مفاد النتيجة على النحو الآتي: إذا كان الشيء إلهًا، فعندها سوف يكون موجودًا. وقد عمد بارنز إلى تقرير أحد أشكال عدم جدوائية هذا النوع من الاستدلال ـ الذي أسماه بـ «الدليل شبه الديكارتي» ـ على النحو الآتي:
«من أجل المقاصد الراهنة يمكن لنا تنظيم عقيدة الملحد على النحو الآتي:
1 . ليس هناك أيّ إله.
إن هذه [الجملة] في حساب المحمولات تكون على النحو الآتي:
(2) (∀X) (GX → ¬ E!X).
بمعنى [(2) بإزاء كل X إذا كان X إلهًا، عندها لن يكون الأمر كما لو أن X موجود بالضرورة].
ويتم تبديل علامة ما يشبه (C1) [بمعنى قضية «كل إله موجود»] إلى
(3) (∀X) (GX → E ! X).
(284)بمعنى أن [(3) بإزاء كل X إذا كان X إلهًا، عندها تكون X موجودة بالضرورة].
بيد أن (2) و(3) متناغمة فيما بينها، إذ نجد بشكل عام، إن القضــايا من نوع (AX → BX) (∀X) [بإزاء كل X إذا كان X هو A، عندها يكون X B] متناغمة مع القضايا المتناظرة من نوع (AX→ ¬ BX) (∀X) [بإزاء كل X إذا كان X A، عندها لا يكون X B]. إنها مع بعضها تستلزم [قضية] AX (∃X) ¬ [بمعنى أن الأمر ليس كما أن يكون X موجودًا فيما لو كان A موجودًا] في المجتمع الذي يكون فيه الشعب ملتزمًا بالقانون على الدوام تكون [كلتا قضيتي] «جميع المنتهكين للقانون سوف يتعرّضون للمساءلة القانونية»، و«لن يتعرّض أيّ منتهك للمساءلة القانونية» صادقة؛ إذ لن يقوم أيّ شخص بانتهاك القانون»
.وفي الواقع فإن هاتين القضيتين تكونان صادقتين بسبب شرطيتهما.
يمكن تقرير ذات هذا الاستدلال مع اختلاف يسير على لسان بعض المفكرين الإسلاميين. في المنطق الإسلامي يتمّ تقسيم القضايا الحملية إلى قسمين، وهما: القضايا الحقيقية، والقضايا الخارجية. قيل في القضايا الحقيقية بأن الحكم لا يقتصر على الأفراد الموجودين فقط، بل تشمل حتى الأفراد المفترضين والمقدّرين أيضًا. وقيل في مورد مفاد القضايا الشرطية إن هذه الطائفة من القضايا الكلية في قوّة الشرطية، وإن القضايا الشرطية ليست مثبتة لوجود المقدّم. وبطبيعة الحال فإن هذا الإشكال إنما يرد على البراهين الوجودية فقط، دون براهين الصديقين أو البراهين الكونية؛ وذلك إذ في براهين الصديقين والبراهين الكونية، وإن كانت القضية ـ التي تشتمل على لفظ الجلالة بوصفه اسمًا عامًّا ـ شرطية، ولكن يتمّ في هذه البراهين إثبات وجود المقدّم؛ إذ عندما يقوم برهان الصديقين بإثبات واجب الوجود بشكل
كلي، إنما يتمّ إثبات وجود الله بوصفه اسمًا عامًّا، بل ويمكن القول بأنه حتى لو كان هذا الإشكال ـ أي كون القضايا الكلية شرطية ـ واردًا على البراهين الوجودية، فإن البراهين الوجودية سوف تفقد استقلالها؛ إذ في البراهين الوجودية يتمّ إثبات هذه القضية، وهي «إن كان الشيء إلهًا، فهو موجود»، وإذا كانت هذه القضية صادقة، فإنها لا تثبت مقدمها، إلا إذا أثبتنا تحققها من طريق براهين الصديقين أو البراهين الكونية. إن ما ذكرناه بقولنا «مع اختلاف يسير» يعود سببه إلى أنه لا يمكن أن ننسب إلى العلماء المسلمين القول بصدق قضيّتي «إن الله موجود» و«إن الله غير موجود»؛ وذلك لأن هاتين القضيتين إذا كانتا كليتين، فتسمّيان في المنطق المدرسي بالمتضادتين، ونعلم أن القضيتين المتضادتين لا يمكن أن تكونا صادقتين، وإن كان يمكن أن تكونا كاذبتين. من ذلك مثلًا في قضيتي «كل إنسان ناطق»، و«كل إنسان ليس ناطقًا» تكون القضية الأولى صادقة، والقضية الثانية كاذبة، وأما في قضيّتي «كل إنسان هو أبيض البشرة»، و«كل إنسان ليس أبيض البشرة» فتكون كلتا القضيتين كاذبة. وفي هذا المورد حتى إذا كانت كلتا القضيتين شرطية، مع ذلك سوف تكون إحدى القضيتين كاذبة في الحدّ الأدنى، في حين تمّ في الاستدلال افتراض صدق كلتا القضيتين معًا.
البحث الآخر في هذه المسألة هو أنه لو كانت القضايا الكلية شرطية، فهل من الممكن أن تكون القضايا الشرطية التي يكون مقدّمها واحدًا وتواليها متناقضة، صادقة معًا؟ نحن نعتقد بأنه حتى تلك المجموعة من العلماء الإسلاميين من الذين ارتضوا إرجاع القضايا الكلية إلى الشرطية، أو الذين اعتبروها في قوّة الشرطية، لا يرتضون صدق القضايا الشرطية الآنفة معًا. ولكن كما ورد في استدلال بارنز فقد تمّ افتراض صدق هذا النوع من القضايا الشرطية، والملفت أنه يُستنتج من صدقها عدم إقرار المقدّم في القضايا الشرطية. ويبدو أن الوجه في عدم إقرار المقدّم في هذا
(286)النوع من القضايا الشرطية معًا، هو أنه لو كان المقدّم في هذا النوع من الشرطيات قائمًا، فسوف يلزم من ذلك التناقض، في حين أن التناقض محال، وإذا كان التناقض محالًا وممتنعًا، فلا يكون مقدّم هذا النوع من القضايا الشرطية قائمًا أيضًا، ولكن يجب القول: ما هو الدليل على صدق هذا النوع من القضايا الشرطية؟ يبدو أن صدق هذا النوع من القضايا الشرطية يقوم على هذا الأمر وهو أن قيمة صدق القضايا الشرطية تابع لقيمة عناصرها، وهذا مبنى قد ارتضاه المنطق الجديد، وإن لم يكن هناك أيّ دليل يدعم هذا الادعاء، لا سيّما إذا كانت القضايا الكلية شرطية، يجب القبول بأن هذا النوع من القضايا الشرطية لزومية، ولا أظن أن هناك من يدّعي أن القضايا الشرطية اللزومية تابعة للقيَم؛ وذلك إذ حتى علماء المنطق الجديد الذين يعتبرون صدق وكذب القضايا الشرطية تابعًا للقيَم، يعتبرون الاستلزام في القضية الشرطية استلزامًا ماديًا، والاستلزام المادّي هو الأعم من الشرطي اللزومي والاتفاقي؛ بمعنى أنه ليس هناك دخل لا لحيثية اللزومية في هذا التقييم ولا للحيثية الاتفاقية. وعليه فمع افتراض لزومية القضايا الشرطية لا يمكن اعتبار مقدمها واحدًا وتاليها متناقضًا؛ وذلك لأن مفاد القضية الشرطية اللزومية هو استلزام المقدّم بالنسبة إلى التالي، وعلى هذا الأساس تقوم في القضايا الشرطية اللزومية بين المقدّم والتالي علاقة العليّة؛ بمعنى أنه يجب أن يكون أحدهما علة للآخر، أو أن تكون لهما مع شيء ثالث علاقة العلية؛ ليحصل من طريق العلم بأحدهما علم بالآخر. وعلى هذا الأساس تصبح المسألة مرتبطة ببحث العلية. بمعنى هل يمكن لشيء أن تكون له علاقة العلية بأمرين متناقضين؟ لست أظن أن الذي يؤمن بأصل العلية يلتزم بأن تكون للشيء علاقة علية مع أمرين متناقضين، وإلا لزم من ذلك أن يكون كل شيء علّة لكل شيء، أو من طريق العلم بكل شيء يحصل علم بكل شيء، ولا ريب في أن الالتزام بكل واحد من هذين الأمرين يستلزم القول بالتشكيك التام. وعلى
(287)هذا الأساس لا يكون صدق القضايا الشرطية التي يكون مقدمها واحدًا وتاليها متناقضًا، مقبولًا.
لنعد الآن إلى المثالين اللذين ذكرهما بارنز: هل المجتمع الذي لا يقوم فيه أحد بانتهاك القانون، تكون كلتا قضيّتي «جميع المنتهكين للقانون سوف يتعرّضون للمساءلة القانونية»، و«لن يتعرّض أيّ منتهك للمساءلة القانونية» صادقة؟ في هذين المثالين يتمّ ذكر بحثين، وهما أولًا: هل مفاد هذين المثالين شرطي أم لا؟ وعلى فرض الشرطية هل يمكن لكلتا القضيتين أن تكونا صادقة أم لا؟ من الواضح جدًا أنه إذا لم يكن مفادها شرطيًا لا يمكن لكلتا القضيتين أن تكونا صادقتين معًا؛ إذ في حالة ما لم تكن القضية شرطية، يكون انتهاك المنتهكين للقانون مفترضًا، وفي هذه الحالة إذا كانت القضية الأولى صادقة إذن تكون القضية الثانية كاذبة. وإذا كانت القضية الثانية صادقة والصورة الأولى كاذبة، تكون هناك حالتان: إما أن لا تتمّ مساءلة أي منتهك للقانون، أو تتمّ مساءلة بعض المنتهكين للقانون. في الحالة الأولى تكون القضية الثانية صادقة، وفي الحالة الثانية تكون القضية الثانية كاذبة. وعليه في كلتا الحالتين لا تكون القضيتان صادقتين معًا. وأما إذا قبلنا بالفرضية الثانية وقلنا بأن كلتا القضيتين الكليتين شرطية، نقول أيضًا: لا تكون كلتا القضيتين صادقة؛ إذ في مثل هذه الحالة، سوف يكون مفاد تلكما القضيتين على النحو الآتي: «لو قام كل شخص بانتهاك القانون، سوف يتعرّض للمساءلة القانونية»، و«لو قام كل شخص بانتهاك القانون، سوف لا يتعرّض للمساءلة القانونية». نقول في توضيح هذا المطلب: توجد هناك نظريتان في مفاد القضايا الشرطية، وهما:
1 . نظرية الأدباء القائمة على إخبار التالي بشرط وجود المقدّم. وعلى هذا الأساس يكون مفاد القضية الشرطية الأولى خضوع المنتهك للمساءلة القانونية، ويكون مفاد القضية الشرطية الثانية عدم خضوع المنتهك للمساءلة القانونية، وليس
(288)هذا شيء آخر سوى التضاد في الحمليات.
2. نظرية علماء المنطق، القائمة على الإخبار عن استلزام المقدّم بالنسبة إلى التالي. وعلى هذا الأساس يكون هناك بين المقدّم والتالي في هذه النظرية نوع من علاقة العلية بنحو من الأنحاء. وعليه يتكرر السؤال السابق، وهو: هل يمكن أن تقوم علاقة العلية بين شيء وأمرين متناقضين؟ إن القبول بهذا الأمر يستلزم إنكار مفاد القضية الشرطية، وإنكار العلية، وإنكار الوصول إلى العلم. وعليه لا يمكن الحكم بالتناغم والانسجام بين قضية «كل إله موجود»، وقضية «ليس هناك إله موجود».
اتضح حتى الآن إذا كانت القضيتان المتضادتان شرطيتين، لا يمكن لهما أن تكونا صادقتين معًا، ولكن لا يزال الإشكال لم يرتفع تمامًا؛ وذلك لأن القضايا الكلية إذا كانت شرطية، فإن البرهان الوجودي سوف يكون على النحو الآتي:
ـ إذا كان كل شيء هو الله، فهو واجب الوجود أو الكامل المطلق.
ـ إذا كان كل شيء واجب الوجود أو الكامل المطلق، فهو موجود.
ـ إذا كان كل شيء هو الله، فهو موجود.
وعلى هذا الأساس، فإن نتيجة البرهان الوجودي قضية شرطية، وما لم يتمّ إثبات مقدّم القضية الشرطية، لن يتمّ إثبات وجود الله.
في الجواب عن هذه الشبهة يجب القول: لو تمّ الاكتفاء في تقرير البراهين الوجودية بهذا المقدار الذي ورد تقريره أعلاه، ففي هذه الصورة لن نصل إلى نتيجة قطعية وحاسمة، ولكن لو أمكن لنا أن نثبت من طريق الاستدلال وجود المقدّم في القضية الشرطية الثانية ـ إذ في غير هذه الصورة، سوف يلزم التناقض ـ ففي مثل هذه الصورة نكون قد تقدّمنا خطوة إلى الأمام، وإن ما قلناه من «التقدّم خطوة إلى الأمام» يعود سببه إلى أن الإشكال حتى الآن لم يرتفع تمامًا؛ وذلك لأن المقدّمة
الأولى في البرهان الوجودي شرطية، ومع تحقق المقدّم في المقدّمة الثانية من البرهان، لا يمكن الادعاء بأن المقدّم في المقدّمة الأولى قائم، وتكون نتيجة البرهان على ما هي عليه، شرطية:
1. إذا كان كل شيء هو الله، فهو واجب الوجود أو الكامل المطلق.
2. إن واجب الوجود أو الكامل المطلق ـ بسبب نفي التناقض ـ موجود.
3. إذا كان كل شيء إله، فهو موجود.
إن هذا الإشكال على هذه الصورة لا يقتصر على مجرّد البراهين الوجودية فقط، بل إن براهين الصديقين والبراهين الكونية تواجه بدورها هذا الإشكال أيضًا؛ وذلك لأن لفظ الجلالة إذا كان اسمًا عامًا، وكانت القضية شرطية، أمكن إثبات كل إله بواسطة إثبات واجب الوجود. وعلى هذا الأساس تكون صورة البرهان في براهين الصديقين والبراهين الكونية، على النحو الآتي:
1. إذا كان الشيء هو الله، فهو واجب الوجود.
2. إن واجب الوجود ـ بسبب برهان الصديقين أو البرهان الكوني ـ موجود.
3. إذا كان الشيء هو الله، فهو موجود.
في الجواب عن هذا الإشكال يجب القول: إن المقدمة الأولى شرطية ذات طرفين، وبحسب المصطلح تكون شرطية تامّة؛ لأن واجب الوجود أو الكامل المطلق تعريف أو شبه تعريف الله، ولذلك يمكن لنا أن نعكس القضية ونقول:
إذا كان الشيء واجب الوجود أو الكامل المطلق هو الله، إذن لو تم إثبات واجب الوجود أو الكامل المطلق بدليل البرهان الوجودي أو برهان الصديقين أو البرهان الكوني، يجب أن نستنتج من ذلك أن الله موجود. وعليه لو كان لفظ الجلالة اسمًا
عامًا، لن يؤدّي هذا إلى حدوث إشكال بلحاظ الشرطية، وكأن شرطية القضايا الكلية لها متسع كبير من التأمّل.
يرد هنا إشكال ثالث، وهو أن لفظ الجلالة «الله» لو أخذ في كل واحد من البراهين الوجودية وبرهان الصديقين والبراهين الكونية، بوصفه اسمًا عامًّا، فإن الإله الذي سيتمّ إثباته في هذه الصورة لن يكون هو ذات الإله الذي يرد الحديث عنه في الأديان التوحيدية؛ وذلك لأن الأديان التوحيدية تتحدّث عن الإله الشخصي، وتعمل على تنزيهه من أن يكون له شريك ومثيل. وعلى هذا الأساس ما هو الدليل الذي يدل على أن ما يتمّ إثباته هو ذات الإله الذي يرد الكلام عنه في الأديان التوحيدية؟
يمكن العمل على حلّ هذا الإشكال ببساطة، وذلك من خلال ضمّ قضية يكون موضوعها هو لفظ الجلالة بوصفه اسمًا خاصًّا، ومحمولها هو لفظ الجلالة بوصفه اسمًا عامًّا، وفي هذه الصورة يتمّ إثبات وجود الإله الشخصي ـ دون الكلي ـ الذي يتمّ الحديث عنه في الأديان التوحيدية؛ كأن يقال مثلًا: «إن الله هو الله» وهذا الحمل حيث يكون الموضوع فيه هو الاسم الخاص، والمحمول فيه هو الاسم العام، لا يكون تحليليًا.
إن المصحّح لحمل «الله» بوصفه اسمًا عامًّا على «الله» بوصفه اسمًا خاصًّا، هو أن الخصائص التي يتمّ ذكرها في تعريف الله، تقع موردًا للقبول في الأديان التوحيدية. بالإضافة إلى أن العقل يُثبت أن الله بوصفه اسمًا عامًا، لا يمكن أن يكون له من الناحية العقلية أكثر من مصداق واحد.
(291)
يرد هنا إشكال آخر وهو أنه في مقام تعريف شيء ما، يتمّ استعمال مفهوم أو عدد من المفاهيم، وغالبًا ما تكون هذه المفاهيم من لوازم ذات المعرَّف. وعلى هذا الأساس عندما يتمّ تعريف الله، يتم استعمال مفهوم ما في هذا الشأن؛ كأن يتم استعمال مفهوم واجب الوجود في برهان الإمكان والوجوب، أو يتمّ استعمال مفهوم الكامل المطلق في البرهان الوجودي، في حين أن هذه المفاهيم ونظائرها لا تخرج من بعض الحالات؛ فإما أن يكون مفهوم الله مساويًا لهذا النوع من المفاهيم، أو أن تكون هذه المفاهيم من الأجزاء الحدّية لمفهوم الله. وإن الأشياء الحدّية لشيء ما يمكن بدورها أن تكون جنسًا أو في حكم الجنس، وفي هذه الصورة سوف تكون أعم من المحدود، وقد تكون فصلًا أو في حكم الفصل، وفي مثل هذه الصورة سوف تكون مساوية للمحدود، أو أن تكون المفاهيم المستعملة في التعريف من لوازم ذات المحدود، وفي الواقع سوف يكون التعريف بالرسم. ولوازم الذات بدورها تكون تارة مساوية للمحدود وتارة أخرى تكون أعم من المحدود. وعلى هذا الأساس لو تمّ إثبات أن واجب الوجود أو الكامل المطلق أو نظائر هذه المفاهيم موجودة، لا يمكن أن نستنتج من ذلك أن الله موجود؛ وذلك إذ من الممكن أن يكون واجب الوجود أو الكامل المطلق ونظائر ذلك من الأجزاء الحدّية العامّة أو من اللوازم العامّة، ومن خلال إثبات العام لا يتمّ إثبات الخاص.
توضيح الإشكال: لو كان لفظ الجلالة اسمًا خاصًا، فإن الاسم الخاص ـ كما سبق أن ذكرنا في القسم الأول من الفصل الأول في القسم الخامس ـ لا يقبل التعريف، وعلى هذا الأساس لو استعملنا بعض العناوين للتعريف بمسمّى الاسم الخاص، فإن هذا التعريف في هذه الصورة لن يتجاوز التعريف بالرسم، وإن العناوين
(292)المستعملة تعدّ من لوازم الذات، وربما كان اللازم أعم، وفي مثل هذه الحالة، لا يتمّ إثبات الملزوم الخاص الذي هو وجود الله من خلال إثبات اللازم الأعم، على الرغم من أنه من خلال إثبات وجود الله يمكن إثبات لازمه.
أما إذا كان لفظ الجلالة اسمًا عامًا وقابلًا للتعريف، فيجب إثبات أن الإله الذي يتمّ الحديث عنه في الأديان التوحيدية يحتوي تمامًا على ذات الحدّ الذي نذكره في تعريف الله، وإن الذي نذكره بوصفه تعريفًا هو الحدّ التام لله، في حين أن إثبات هذه المسألة مشكل؛ إذ أن أقصى ما يمكن فعله هو أن نقدّم تعريفًا عن الله بشكل توافقي بحيث ينسجم مع النصوص الدينية، بيد أن المشكلة تنشأ من هنا، وهي أننا لا نستفيد من النصوص الدينية المقدّسة سوى أن الله يتصف بصفات خاصة، ولكن لا نستفيد من هذه النصوص أن الذي يتصف الله به هو حدّه التام. فيمكن أن تكون هذه الأوصاف من الأجزاء المفهومية الأعم من الله وليست من أجزاء المفهوم المتساوي مع الله أو حتى من اللوازم الأعم. وعلى هذا الأساس فإن إثبات وجود الله يعاني من مغالطة ضمنية (إيهام الانعكاس)، وهي أنه لو كانت قضية «إن الله هو واجب الوجود» صادقة، فسوف يكون عكسها، وهو «إن واجب الوجود هو الله» بشكل عام صادق أيضًا، ومن هاتين القضيتين بالإضافة إلى البرهان على واجب الوجود نستنتج أن الله موجود، في حين لا يوجد دليل على الانعكاس.
إن حلّ هذا الإشكال يكمن في أن نثبت أن الذي يتمّ حمله على الله، ويكون بمنزلة التعريف، ليس له من الناحية المنطقية أكثر من مصداق واحد. وبالتالي فإنه من خلال إثبات وحدة واجب الوجود أو الكامل المطلق ونظائر ذلك، يثبت أن الموصوف بهذا الوصف موجود وهو الله؛ وذلك لأن هذا الوصف ليس له أكثر من وجود واحد. وعليه لا يكون موصوفه أكثر من فرد واحد، وإن الله بناء على هذا التعريف يتصف بهذا الوصف، وعليه يكون الله موجودًا.
(293)وفي الفلسفة والكلام الإسلامي يتمّ ـ بعد إثبات واجب الوجود ـ إثبات توحيده في فصل مستقل، وبعد إثبات التوحيد يرتفع الإشكال المذكور بشكل كامل.
(294)
إن المراد من الأدلة الخاصة هي تلك الأدلة التي لا تكون نافية لجميع أنواع براهين إثبات وجود الله سبحانه وتعالى، وإنما هي مختصّة بنوع خاص منها.
هناك الكثير من الأدلة التي أقيمت على امتناع البراهين الوجودية. وسوف نذكر كل واحد منها ونخضعه للنقد بشكل مستقل.
إن هذا الإشكال يُنسب إلى إيمانوئيل كانط
. فهو يرى استحالة إقامة البرهان على وجود الله من طريق المفهوم؛ وذلك لأن قضية «إن الله موجود» لا تخرج من إحدى حالتين؛ فهي إما تحليلية أو تأليفية؛ بمعنى إما أن يكون مفهوم الموجود مأخوذًا في مفهوم الله، وفي مثل هذه الحالة يكون وجود الله مفترضًا بشكل مسبق، أو إذا لم يكون مفهوم الموجود مأخوذًا أو مفترضًا في مفهوم الله سبحانه وتعالى، وفي هذه الحالة لن يكون نقيضها ـ أي: قضية «إن الله غير موجود» ـ متناقضًا. إن هذا البرهان يتألف قياس ذي وجهين، بحيث يترتب محذور على كل واحد من الوجهين اللذين يتمّ ادعاؤهما.إن لبّ الإشكال يعود إلى توصية بشأن البراهين الوجودية، وهو أنه من صرف
أخذ الوجود في موضوع القضية يُستنتج الوجود الواقعي لها، وإن على المستدل أن يثبت أنه يذهب في برهانه إلى أبعد من افتراض الوجود، وأنه يُثبت الوجود الواقعي لما افترضه. وبعبارة أخرى: إذا كانت قضية «إن الله موجود» تحليلية، لا يمكن إثبات أن الله موجود واقعًا، وأما إذا أثبتنا بالبرهان أن هذه القضية صادقة ومتطابقة مع الواقع العيني، ففي مثل هذه الحالة يجب الالتزام بها؛ وذلك لأن إقامة البرهان على صدق قضية ما يُعدّ دليلًا على تناقض نقيضها، ومع نفي التناقض يمكن إثبات تلك القضية، وليس أمام العقل مندوحة سوى الإذعان والقبول.
لقد نُسب هذا الإشكال بدوره إلى إيمانوئيل كانط أيضًا. لو أني في قضية حمل الشيء على نفسه عملت على إبقاء الموضوع ونفيت المحمول، فسوف يحدث تناقض في البين ... وأما إذا أبطلنا الموضوع والمحمول معًا، فلن يكون هناك تناقض في البين، إذ لن يبقى هناك شيء ليمكن أن يكون متناقضًا. ففي إثبات المثلث ونفي الزوايا الثلاثة عنه، تكون القضية متناقضة، وأما في إنكار المثلث مع إنكار الزوايا الثلاث فلا يكون هناك تناقض. وذات هذا المطلب يجري في مفهوم الموجود الضروري مطلقًا. فإن قضية «إن الله قادر مطلقًا» حكم ضروري؛ فنحن لا نستطيع إبقاء الله ونعمل في الوقت نفسه على نفي قدرته المطلقة، ولكن لو قلنا: «إن الله غير موجود» فسوف تكون القدرة المطلقة وكل محمول آخر يكون مردودًا مع الموضوع، بحيث لا يحدث تناقض في البين
.وكليّة هذا المدّعى هي أنه لو تمّ ردّ الموضوع بجميع محمولاته في القضايا التي
يتم فيها حمل الشيء على نفسه، لا يكون هناك تناقض في البين، غير مقبولة، وإن مثال المثلث يختلف عن القضية مورد البحث، فحيث أن مفهوم المثلث وأجزاؤه غير مفهوم الوجود، فلا يحدث في هذه القضية أدنى تناقض، وأما إذا قلنا: «إن الله غير موجود»، فحيث يكون الوجود كامنًا في مفهوم الله بحسب الفرض، تصبح القضية المذكورة متناقضة في ذاتها. وبعبارة أخرى: لو لم يكن المحمول موجودًا، مع ردّ الموضوع في القضية التي يُحمل فيها الشيء على نفسه، يتمّ ردّ جميع محمولاتها، ولا يحدث تناقض في البين، من قبيل: ردّ المثلث في مثال إيمانوئيل كانط، وأما إنكار الله فهو في الواقع ردّ محمول الوجود عن الموضوع، ولذلك يحدث تناقض في البين، وذلك لأن الوجود المحمولي بحسب الفرض يحصل من تحليل الموضوع.
إن هذه النقطة جديرة بالذكر وهي أنه في الإشكالين السابقين إنما يمكن اعتبار قضية «إن الله موجود» قضيّة تحليلية فيما لو كان لفظ الجلالة «الله» اسمًا عامًا، وأما إذا كان لفظ الجلالة اسمًا خاصًا وعَلَما، فإن القضية المذكورة لن تكون تحليلية، إذ كما تقدّم أن ذكرنا في الفصل الأول من القسم الأول، إذا كان موضوع القضية اسمًا خاصًّا وعلَمًا، فأيًّا كان الوصف الذي نحمله على الموضوع، لا تتحوّل القضية إلى تحليلية. وعلى هذا الأساس قد يذهب الظن في هذه الحالة إلى عدم ورود الإشكالين السابقين، بيد أن ذات هذين الإشكالين سوف يتجليان بشكل آخر؛ وذلك لأن لفظ الجلالة «الله» إذا كان اسمًا خاصًّا وعلَمًا، فإن القضية المذكور وإن لم تكن تحليلية، ولا يرد إشكال من الناحية التحليلية، بيد أن تلك القضية سوف تكون في حكم التحليلية، ويكون الإشكالان السابقان واردين لُبّيًا، والجواب هو الجواب.
(297)نقض قضية «الكائن المريخي العاقل موجود»
إن هذا الإشكال مأخوذ من النقض الذي ذكره ماكي في كتابه، وهو أنه إذا كان ردّ النتيجة في البرهان الوجودي يستلزم قضية متناقضة في حدّ ذاتها؛ إذن يجب أن يكون من الممكن اعتبار كل غير موجود ـ بل وكل ممتنع ـ موجودًا؛ إذ يمكن تنظيم البرهان الوجودي بحيث يكون نفي الوجود مستلزمًا للتناقض؛ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن نأخذ عنوان «الكائن المريخي العاقل» بنظر الاعتبار، ونجعله موضوعًا لقضية، ونقول: «إن الكائن المريخي العاقل موجود»، وفي هذه الحالة تكون هذه القضية من قبيل حمل الشيء على نفسه، وإن نفيها، يعني «إن الكائن المريخي العاقل غير موجود» قضية متناقضة في حدّ ذاتها. فهل يمكن القول بأن الكائن المريخي العاقل موجود حقيقة، في حين نعلم أن الأمر ليس كذلك، وإننا قد عملنا على تنظيم هذا العنوان بشكل مختلق. إن هذا النقض يُثبت أن البرهان الوجودي ناقص.
إن الجواب عن هذا الاستدلال هو أنه في صدق القضية الحملية الموجبة، بالإضافة إلى وجود المحمول للموضوع، يجب أن يكون هناك عنوان الموضوع والمفاهيم المقيّدة له بالنسبة إلى ذات الموضوع أيضًا، وفي المثال النقضي، تكون الذات المريخية بالنسبة إلى الوجود والعدم متساوية. وعلى هذا الأساس رغم أن القضية مورد البحث تحليلية ونفيها تناقض، بيد أن كلتا القضيتين الموجبة والسالبة كاذبة. إن القضية الأولى وإن كانت تحليلية، ولكن من باب عدم تحقق الموضوع يكون حمل المحمول فيها كاذبًا، والقضية الثانية بلحاظ تناقضها الذاتي تكون كاذبة. وبعبارة أخرى: إن القضية التحليلية مورد البحث تكون بلحاظ الصورة التحليلية وحمل الشيء على نفسه صادقة، ولكن بلحاظ مادّتها التي هي موضوع قضية «الكائن
(298)المريخي العاقل» ـ وهي بحسب الفرض غير موجودة ـ كاذبة. وبطبيعة الحال لا ينبغي الاستغراب من كيفية إمكان أن تكون القضية وسلبها كلاهما كاذبين؛ إذ أن المستغرب إنما هو الجمع بين قضيتين متناقضتين، وإن القضيتين المتناقضتين إنما يكون لهما مصداق حيث تكون إحداهما كلية والأخرى جزئية. إن القضيتين مورد البحث إما من القضايا الشخصية التي يتمّ تحويلهما إلى قضيتين حمليتين جزئيتين، أو قضيتين مهملتين ولكن في قوّة الجزئية، أو قضيتين كليتين، وعلى كل حال يمكن أن تكونا كاذبتين معًا.
«إن جميع براهين الواجب تدور حول مدار الحقائق الموجودة، ولا يمكن لأيّ منها إثبات الواجب من خلال بحث العناوين المفهومية البحتة والذهنية المحضة، بغض النظر عن الحقائق العينية»
.وبعبارة ثانية: «يبدو أن هناك خطأ فاحشًا في برهان، من قبيل برهان أنسلم الذي ينطلق من مقدمة ناظرة إلى تصوّراتنا الذهنية؛ ليثبت وجود شيء في عالم الواقع»
.وبعبارة أخرى: «هناك من يعتقد أن البرهان الوجودي يحتوي على مغالطة واضحة؛ إذ لا يمكن من طريق [تحليل] تصوّر، تقديم حكم بشأن الواقعية الخارجية»
.في الدليل الأول تمّ نفي إثبات الواجب من طريق المفهوم الصرف، وإن في هذه العبارة ـ بغضّ النظر عن القرائن الموجودة في كلام المستشكل ـ احتمالين؛ الاحتمال
الأول: أن يتمّ إحراز وجود الواجب من خلال الحصول على المفهوم دون الاستعانة بأيّ قاعدة منطقية؛ لنفترض مثلًا أن واجب الوجود من حيث أن الوجود قد أخذ في مفهومه إذن هو موجود، فإن تمّ تقرير برهان الوجود على هذا النحو، فلا شك في عدم اعتباره، وإلا فإن الكائن المريخي العاقل يجب أن يكون موجودًا، وليس هناك أيّ برهان وجودي يدّعي ذلك. الاحتمال الثاني: أنه لا يمكن إثبات وجود الواجب بمجرّد المفهوم وسلسلة من القواعد المنطقية والبديهيات البحتة، دون الاستعانة بأن هناك وجودًا أو أن هناك وجودًا محدودًا، بل إذا تمّ إثبات الواجب فيجب أن نبدأ على الدوام من وجود تمّ إثباته إما بواسطة برهان الصديقين أو بواسطة البرهان الكوني، وعليه لن يكون هناك برهان وجودي في البين. إن هذا الاحتمال مع بعض الشواهد في المتن يؤيّد الإشكال الأول، وفي هذه الحالة سوف يشترك مع الإشكال الثاني والثالث. ولكن ما هو الدليل الذي يمكن إقامته على هذا الادعاء. لماذا لا يمكن إثبات مصداق لمفهوم من خلال امتلاك بعض البديهيات الصرفة وإقامة بعض القواعد المنطقية؟ لو صحّ هذا الكلام وأنه لا يمكن إثبات وجود شيء بصرف المفهوم، يجب القول بقرينة المقابلة: لا يمكن إثبات عدم شيء من طريق صرف المفهوم. فهل يمكن القول بأن هناك في المريخ كائن هو أبيض من جميع الجهات وليس أبيض في الوقت نفسه؟ لا شك في أننا سوف نقول في الجواب: إن هذا الافتراض غير ممكن؛ لأنه افتراض متناقض؛ إذن يمكن من صرف المفهوم إثبات عدم شيء أيضًا. وعلى هذا الأساس قد يمكن إثبات وجود شيء ما وليس وجود كل شيء من طريق المفهوم. وفي الواقع فإن المدّعى هو أن هناك ثلاثة مفاهيم في البرهان الوجودي؛ هناك مجموعة لا يكفي صرف المفهوم فيها لإثبات وجودها؛ ومجموعة يكفي صرف المفهوم فيها لنفي وجودها، وهي المفاهيم التي تحتوي على تناقض داخلي، وتكون ممتنعة الوجود، والمفهوم الذي يكفي صرف المفهوم فيه
(300)لإثبات وجوده. وفي هذا القسم يندرج خصوص مفهوم الله أو واجب الوجود أو الكامل المطلق (وهي بأجمعها عناوين لحقيقة واحدة). وعلى هذا الأساس لا يمكن اعتبار إمكان إقامة البرهان من طريق المفهوم منتفيًا بشكل كلي، فحتى إذا كانت جميع البراهين الوجودية التي أقيمت حتى الآن مخدوشة، مع ذلك لا ينتفي إمكان التقرير البرهاني من هذا النوع.
إن هاسبر في هذا الإشكال وإن كان ناظرًا إلى البرهان الوجودي الذي ذكره كل من أنسلم ورينيه ديكارت، ولكن إشكاله ينطوي على تعميم وشمول. وإذا كان إشكاله واردًا فإنه سوف يجتثّ كل برهان وجودي من الأساس، وتصبح جميع
(301)البراهين الوجودية غير ممكنة بأجمعها، بيد أن هذا الإشكال غير وارد من الأساس؛ إذ هناك احتمالان في هذا الإشكال، وهما:
1. بشكل عام، لا يمكن أن نستنتج من صرف تعريف شيء أنه موجود. إذا كان هذا هو الإشكال حقيقة، فجوابه واضح جدًا؛ إذ ليس هناك أيّ برهان وجودي يدّعي أن مجرّد تعريف شيء ما يكفي لتصديق وجوده، وإلا لأمكن اعتبار كل رطب ويابس موجودًا على أساس التعريف، بل إن البراهين الوجودية تدعي أن بعض التعاريف بل وخصوص تعريف الله، بحيث لو لم يكن موجودًا، للزم منه التناقض، ومن طريق نفي التناقض يتمّ إثبات وجود المعرَّف. وبطبيعة الحال فإن التقريرات التي ذكرت لهذا المدّعى قد لا تثبت المدّعى، أو يدّعي شخص أن المدّعى لم يتمّ إثباته حتى الآن، ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أن ضعف الأدلة التي تمّ طرحها حتى الآن، لا تشكّل دليلًا على امتناع تقديم دليل معتبر إلا إذا أقيم دليل على أن البرهان الوجودي غير ممكن، ولكن حتى الآن لم يتمّ تقديم مثل هذا الدليل.
2. الاحتمال الآخر لا يمكن في تعريف شيء ما ـ بما في ذلك تعريف الله ـ أخذ الوجود بنظر الاعتبار. وفي هذه الشأن هناك احتمالان أيضًا، الاحتمال الأول: أنه لا ينبغي الاستفادة في التعريف من مفهوم الوجود. والاحتمال الثاني: أنه لا ينبغي في التعريف الاستفادة من حقيقة الوجود. فإذا كان المراد من الإشكال هو الاحتمال الأول، فليس هناك أيّ دليل على أن الله لا يمكن تعريفه بالوجود. فنحن نستطيع أن نعرّف الله بوصفه موجودًا كليّ القدرة وكليّ العلم وما إلى ذلك. وأما إذا كان المراد من الإشكال هو الاحتمال الثاني فلم نرَ حتى الآن شخصًا أخذ حقيقة الوجود في تعريف الله؛ وذلك لأن التعريف يعني بيان مفهوم عن المعرَّف، ولذلك فإن الذي يمكن أن يرد في التعريف إنما هو مفهوم الوجود، وهو المفهوم الذي يُشير إلى حقيقة الوجود، ولو قيل إن ذات هذا الأمر ـ أي: أخذ وجود المفهوم في تعريف الله
ـ محال، فسوف نقول: ما هو الدليل على امتناعه؟ فإن مفهوم الوجود ـ مثل سائر المفاهيم ـ يمكن أخذه في تعريف بعض الأمور المذكورة. وبطبيعة الحال لا بدّ من الالتفات إلى هذه النقطة وهي أن مجرّد ذكر الوجود في تعريف شيء لا يُشكّل دليلًا على أنه موجود، ولذلك فإن البراهين الوجودية بصدد بيان هذا المطلب وهو أن أخذ الوجود في تعريف الله ليس من دون سبب، وذلك لأن الوجود هو عين ذات الله عزّ وجل، ولذلك يمكن ذكره في تعريفه أو في توصيفه بعبارة أفضل، وأن نثبت بالبرهان أن هناك شيئًا على هذه الصفة والخصوصية يجب أن يكون موجودًا وإلا لزم التناقض. وعلى هذا الأساس، بالنظر إلى الأجوبة التي قدّمناها على إشكالات البراهين الوجودية، يتضح أنه لم يتمّ حتى الآن تقديم أيّ دليل على عدم اعتبار البرهان الوجودي. وعليه لو تمّ الإعلان عن بطلان التقارير التي تمّت إقامتها حتى الآن على البرهان الوجودي، بلحاظ الاستفادة من المقدمات غير المقبولة، أمكن السعي مع ذلك إلى تقديم تقرير معتبر على هذا الأمر، إلا إذا أقام شخص دليلًا سابقًا على عدم اعتبار البرهان الوجودي، ولكن دون إثبات ذلك خرط القتاد.
يتمّ العمل في برهان الصدّيقين ـ كما أشرنا في الفصل الأول من القسم السادس ـ على إثبات وجود الواجب (الله) من مطلق الوجود، بغضّ النظر عن خصائص الموجودات. كما أشرنا أيضًا إلى وجوب الاستعانة في براهين الصديقين بمفهوم الوجود، لا بمفهوم الواجب أو الكامل المطلق. وعليه بالنظر إلى هذه المقدّمة يكون الإشكال الذي يتمّ طرحه في خصوص برهان الصديقين، على النحو الآتي: إذا كانت هناك حاجة في برهان الصديقين إلى المفهوم، فإن هذا البرهان يعود إلى البرهان الوجودي، مع فارق أنه في البراهين الوجودية تتمّ الاستعانة بمفهوم لا ينطبق إلا
على الله، وأما في برهان الصدّيقين فتتمّ الاستعانة بمفهوم الوجود، وهو المفهوم الذي يقبل الانطباق على الموجودات الإمكانية أيضًا، ولكن حيث أن الموجودات الإمكانية قابلة للزوال، يمكن أخذ ظرف ما بنظر الاعتبار بحيث لا يكون هناك أيّ وجود للموجودات الإمكانية، وفي ذلك الظرف لا ينطبق برهان الصديقين ـ في حالة الاعتبار ـ إلا على الله فقط، ويكون عين البرهان الوجودي، ولذلك فإن جميع الإشكالات الواردة على البرهان الوجودي ترد على هذا البرهان أيضًا. إذا لم تكن الاستفادة من المفهوم ضرورية في برهان الصديقين، بل يتمّ إثبات وجود الله من مطلق الوجود، سوف يكون في ذلك مصادرة على المطلوب؛ إذ يتضح بالبرهان أن مطلق الوجود هو ذات الوجود المطلق، وليس الوجودات المحدودة.
والجواب هو أنه كما أشرنا في القسم الأول من هذا الفصل، لا يوجد دليل على امتناع البراهين الوجودية، وإذا كان برهان الصدّيقين مصداقًا للبراهين الوجودية، فلن يؤدّي إلى مشكلة من هذه الناحية. إذا كان برهان الصديقين بالإضافة إلى البرهان الوجودي برهانًا مستقلة، فسوف نقول: إن برهان الصدّيقين لا ينطوي على مصادرة على المطلوب؛ وذلك لأن عنوان مطلق الوجود هو غير عنوان الوجود المطلق؛ وذلك لأن الأول يعني وجود شيء سواء أكان ذلك الوجود محدودًا أم لا، بمعنى أن الخصائص ليست هي التي تقع موردًا للنظر، وأما في الثاني فيقوم الافتراض على وجود مطلق؛ بمعنى أنه غير مقيّد بأيّ قيد، وإذا أمكن لبرهان أن يصل من مطلق الوجود ـ الذي يكون وجوده بحسب الفرض مقبولًا، ويمكن لمصداقه أن يكون موجودًا محدودًا أو غير محدود ـ فإن هذا البرهان لن يكون مصادرة على المطلوب، وإن أثبتنا بالبرهان أن ذلك المطلق الوجود هو ذات الوجود المطلق، لا أن تكون عناوينه متحدة فيما بينها أيضًا. إن المهم في البرهان هو تعدد العناوين، ولذلك من أجل اجتناب محذور المصادرة على المطلوب يكفي تعدد العنوان، وإن
(304)كانت المصاديق واحدة. ولكي نقلل من استبعاد عدم وقوع المصادرة على المطلوب بسبب تعدد العنوان، نجد الالتفات إلى استدلال برتراند راسل مجديًا:
1. لقد كان جورج الرابع (ملك إنجلترا) يسعى إلى معرفة ما إذا كان إسكوت هو كاتب رواية فيورلي. (إن هذه القضية صادقة).
2. إسكوت = مؤلف رواية فيورلي. (إن هذه القضية صادقة أيضًا؛ إذ هناك بين هذين الأمرين هوهوية، وكلاهما يشير إلى مصداق واحد).
النتيجة: طبقًا لقانون لايب نيتز إن كل صفة تنسب إلى أحد هذين الأمرين، فإنها تُنسب إلى الأمر الآخر أيضًا. وعليه فإن جورج الرابع كان يسعى إلى معرفة ما إذا كان إسكوت هو إسكوت. بيد أن هذه النتيجة ليست صحيحة؛ وذلك لأن الملك جورج الرابع كان يعلم أن إسكوت هو إسكوت. إن عدم صحّة هذه النتيجة ينشأ من أننا قد اعتبرنا الوصف المعيّن (مؤلف رواية فيورلي) هو عين الاسم الخاص (إسكوت)
.وعليه فإن النتيجة هنا إنما لا تكون معتبرة من حيث أننا قد اعتبرنا عنواني «إسكوت» الذي هو علَم واسم خاص، و«مؤلف رواية فيورلي» الذي هو تعبير وصفي، مفهومًا واحدًا، في حين أن الأمر ليس كذلك، وإن كانا واحدًا مصداقًا.
وعلى هذا الأساس يُقال: إن «مطلق الوجود» و«الوجود المطلق» واحد مصداقًا، وإن لم يكونا واحدًا من الناحية المفهومية.
في البرهان الكوني يتمّ الاستدلال بالوجود المحدود والمعلول على الله والوجود غير المحدود، ولذلك يندرج هذا النوع من البراهين في البراهين غير اللمّية، وعلى هذا الأساس لا يكون مورثًا لليقين.
ولكن كما ذكرنا في الفصل الأول، وفي قسم «امتناع البرهان اللمّي والإنّي على وجود الله»، فإن اعتبار البرهان يكون بمادّة وصورة القياس، فإذا كانت مقدمات برهان ما يقينية، وكانت صورة القياس تحتوي على شرائط معتبرة في المنطق، كان ذلك البرهان معتبرًا، سواء أكان ذلك البرهان لميًّا أو برهانًا إنيًّا. فقبل بيان البرهان لا يمكن القول إن البرهان الكوني معتبر أم لا. وإنما المهم هو بيان تقرير البرهان ليتضح ما إذا تمّت رعاية شروط البرهان فيه أم لا، إذ أن هناك في البين براهين إنّية معتبرة أيضًا.
لقد ذكر أنطوني فلو ـ في بحث له تحت عنوان «الإلهيات والبطلان» ـ مثالًا، يمكن عدّه استدلالًا ضد البرهان الكوني. وفيما يلي ننقل هذا المثال في ضوء بيان هادسون على النحو الآتي: «يتنازع رجلان في أمر مزرعة تنتشر فيها الأزهار والرياحين وأنواع النباتات والأشجار؛ فيقول أحدهما: هناك زارع يأتي ويرعى هذه المزرعة، بينما الآخر يُنكر ذلك. كلاهما لا يرى الزارع أبدًا ولا يسمعان له صوتًا، ولا يقتفيان له أثرًا حتى من خلال الاستعانة بكلاب الصيد والمطاردة، ولا يتمكنان من الإيقاع به حتى بعد إحاطة المزرعة بالأسلاك الشائكة وربطها بالمجسّات الكهربائية. ومع ذلك
كله يبقى المعتقد بوجود الزارع على إصراره ويستمرّ في الاعتقاد بوجود (زارع غير مرئي، ولا يمكن لمسه، ولا يمكن للكهرباء أن تصعقه، ولا يترك أثرًا وراءه، ولا يثير صخبًا عند مجيئه خفية ليرعى المزرعة الجميلة التي يحبّها جدًا). ويجيب المنكر: ما هو فرق هذا الزارع عن الزارع الموهوم والمعدوم؟!»
.إن المزرعة في هذا المثال بمنزلة ما سوى الله والعالم المخلوق، والزارع بمنزل الله وخالق الكون. في هذا المثال يتمسّك المعتقد بالله بأصل العلية، ويراه أصلًا يفوق التجربة، ويؤمن بأن لكل ظاهرة بل ولكل ممكن في الوجود علة أوجدته، بينما يذهب الملحد والمنكر لوجود الله إلى إنكار كليّة أصل العلية، ويرى أن كل ظاهرة يمكن إثبات علتها من طريق التجربة، تكون لها علة، وبالإضافة إلى أصل العلية يقبل بالصدفة التي تحمل التناقض في أحشائها؛ وذلك إذ يجب عليه الإذعان والإقرار بأن الشيء الذي لا يقتضي وجوده، إلا أنه في الوقت نفسه قد أصبح مقتضيًا لوجوده ويُكتب له الوجود. وهذا الأمر لا يمكن أن يكون شيء آخر غير التناقض. وعلى هذا الأساس فإن هذا الاستدلال يقوم على أصل إمكانية التحقق، ولأن ذات هذا الأصل ليس تجريبيًا يكون مبطلًا لذاته ويقوّض دعائم الاستدلال من الأساس.
لم يكن إيمانوئيل كانط بشكل عام يرى اعتبارًا للعقل النظري في إثبات وجود الله أبدًا، وكان يُحيل البراهين الكونية إلى البراهين الوجودية، وبسبب الإشكالات التي سبق له أن أثارها حول البراهين الوجودية، فقد استنتج أن العقل النظري ليس له طريق إلى إثبات وجود أو عدم وجود الله. وقد حظي استدلاله في إرجاع البراهين الكونية إلى البراهين الوجودية ـ على ما نقله عنه كابلستون ـ «من قبل الكثير من
الفلاسفة ومؤرّخي الفلسفة»
، بيد أن كابلستون نفسه لا يرتضي هذه الإحالة، ويُصرّ على استقلال البراهين الكونية. فهو يرى أن الذي يعمل كانط على بيانه في كتابه نقد العقل المحض تحت عنوان «امتناع البرهان الكوني على وجود الله» مبهم. وقد تحدّث بول إدواردز في موسوعته قائلًا: «إن منهج كانط يكمن في بيان هذا المطلب المتمثّل باتهام البرهان الكوني وأنه يقوم بشكل ضمني على أساس البرهان الوجودي، رغم الادعاء بأن الاستدلال غير التبعي [مستقل] عن وجود الله. إن انتقاد كانط مبرّر في الأصل، ولكن عندما نصل إلى تفاصيل استدلاله نجده يعاني من بعض الهفوات المنطقية المعيّنة» .هناك أمران في كتاب إيمانوئيل كانط يمثلان منشأ إشكاله على البرهان الكوني، وفيما يلي سوف نذكرهما تحت عنوان إشكال كانط:
إن الإشكال الأول لكانط هو الاستفادة من التجربة في البرهان الكوني؛ كأن يقال مثلًا: أنا موجود، وحيث أنني ممكن الوجود، إذن هناك واجب للوجود. وعلى هذا الأساس فإنه بواسطة الاستفادة من التجربة، يثبت الوجود الضروري. ولكن لا يمكن الوصول من التجربة إلى ماهية الخصائص التي يحتوي عليها هذا الوجود الضروري، ولذلك يجب البحث في هذا المورد حول المفاهيم البحتة ليتمّ الحصول على خصائص الوجود الضروري. إن الاستفادة من المفاهيم البحتة طريق يقدّمه البرهان الوجودي.
غاية ما نصل إليه من خلال الاستفادة من البرهان الكوني هو أن الموجود الضروري موجود. والآن بعد التوصّل إلى هذا المطلب يطرح هذا السؤال نفسه ويقول: كيف يمكن للموجود الضروري أن يوجد من دون أن يكون معلولًا لموجود آخر؟ إن الضرورة غير المشروطة بوصفها آخر حامل للأشياء التي لا مندوحة لنا من الاحتياج إليها، تمثل مهلكة حقيقية لعقل الإنسان. ثم يُضيف إيمانوئيل كانط قائلًا: نحن لا نستطيع تجاهل هذه الفكرة، ولا يمكننا القبول بها، بحيث يمكن لموجود أن يظهر لنا ـ بوصفه أسمى موجود بين جميع الموجودات ـ كما كان الأمر كذلك، ويقول لذاته: أنا الموجود من الأزل إلى الأبد، ليس هناك أيّ شيء يخرج عن حدود إرادتي، إلا قول من أين أتيت؟ وهنا تدفعنا جميع الدعامات إلى اليأس والقنوط.
في البرهان الكوني نصل من الموجود الممكن إلى الموجود الضروري، بيد أن هذا المقدار من الحركة الفكرية لا يكفي لإثبات المطلوب، إذ ما لم نثبت أن لهذا الموجود الضروري علمًا مطلقًا وحياة مطلقة وما إلى ذلك من الأوصاف الأخرى التي تُنسب إلى الله في الأديان التوحيدية، لا يمكن إثبات وجود الله، وإن إثبات هذه الأوصاف سوف يكون رهنًا بالبراهين الوجودية؛ إذ لا يمكن للبرهان الكوني أن يثبت هذه الأوصاف. وعلى هذا الأساس لا بدّ في إطار الاستدلال من الاستفادة من البرهان الوجودي ليثبت مدّعى الأديان التوحيدية. إن هذا هو ذات الإشكال الذي ذكرناه تحت عنوان الإشكال الأول وكان كابلستون ناظرًا إليه في تاريخ فلسفته.
في مورد صوابية أو عدم صوابية الإشكال الأول لكانط، لا بدّ أولًا من أن تكون لنا إطلالة على خصائص البرهان الوجودي. في البرهان الوجودي نأخذ بنظر الاعتبار مفهومًا، من قبيل: الكامل المطلق، أو واجب الوجود، او الوجود الذي لا يمكن تصوّر ما هو أكبر منه، ونعمل بهذا المفهوم على تقديم تعريف أو شبه تعريف عن الله سبحانه وتعالى. إن كان الله اسمًا عامًّا يمكن لمثل هذا المفهوم أن يكون تعريفًا لله، وإن القضية التي تتألّف من المعرَّف والمعرِّف تحليلية. وأما إذا كان الله اسمًا خاصًا فسوف تصبح القضية شبه تحليلية، وبهذا الاستدلال القائل: إذا لم يكن هذا المفهوم موجودًا في الخارج فسوف يؤدّي الأمر إلى التناقض، نستنتج أن هذا العنوان موجود في الخارج. وأما إيمانوئيل كانط فلا يرتضي هذا الاستدلال ويذهب إلى الاعتقاد بأن الاستدلال القائل: «إن الله كامل مطلق، والكامل المطلق موجود، إذن الله موجود»، ليس صحيحًا. والسبب في ذلك هو أن قضية «إن الله موجود» قضية تحليلية؛ إذ الوجود كامن في مفهوم الكامل المطلق، والكامل المطلق بدوره هو تعريف الله. وأما إذا كان الله اسمًا خاصًا، فإن القضية لن تكون تحليلية؛ إذ أن الاسم الخاص ـ كما سبق أن ذكرنا في القسم الأول من الفصل الأول في القسم الخامس ـ لا تعريف له بهذا المعنى، ولكن حيث أن المحمول لا ينفصل عن مُسمّى اللفظ، يكون هذا النوع من المحمولات شبه تعريف وتكون هذه القضية ضرورية، ولكن على الرغم من عدم كونها تحليلية إلا أنها تكون شبه تحليلية؛ بمعنى أنه كما أن نفي القضية التحليلية يؤدّي إلى التناقض، كذلك فإن نفي هذا النوع من المحمولات عن الموضوع يؤدّي بدوره إلى التناقض أيضًا، ولكن بعد إضافة مقدمة أخرى. إن استدلال إيمانوئيل كانط على عدم اعتبار البرهان الوجودي، أن الذي لا يكون ممكنًا في القضايا التحليلية هو حفظ الموضوع ونفي المحمول عن الموضوع، وأما إذا تمّ نفي المحمول مع الموضوع، فلا إشكال فيه من وجهة نظر إيمانوئيل
(310)كانط، ولا يؤدّي إلى أيّ تناقض أبدًا. وعلى هذا الأساس فإن مدّعى كانط هو أنه لو عمد شخص ما في قضية «إن الله موجود» إلى نفي المحمول مع الموضوع، لن يقع في التناقض؛ إذن حيث يمكن نفي قضية تحليلية أو شبه تحليلية دون السقوط في مشكلة التناقض، فإن النتيجة الحتمية التي تترتب على ذلك هي أن هذه القضية لا يمكن أن تكون نتيجة لبرهان، ومن هنا يفقد البرهان الوجودي اعتباره. إن البراهين الكونية ـ طبقًا لاستدلال كانط ـ تقوم في إثبات الله على اساس البراهين الوجودية؛ وعلى هذا الأساس تسقط البراهين الكونية عن الاعتبار. إن كانط يدرك بشكل كامل أن إرجاع البرهان الكوني إلى البرهان الوجودي إنما هو بسبب إلاله في الأديان التوحيدية؛ بمعنى أن إثبات صفات الله يقوم على أساس البرهان الوجودي.
في إطار نقد هذا الرأي يجب علينا دراسة مسار الاستدلال في البراهين الكونية. في البراهين الكونية يمكن لنا من خلال القبول بممكن الوجود أن نستنتج وجود واجب الوجود، وأما أن يكون هذا الواجب الوجود هو ذات الإله في الأديان التوحيدية وأن له ذات صفاته، فهذا ما لا يمكن استفادته من هذا البرهان بهذا التقرير. وعلى هذا الأساس لا ينبغي توجيه سهام النقد من الكنانة الكانطية إلى إثبات واجب الوجود والله من طريق البرهان الكوني؛ إذ لم تتمّ الاستفادة في إثبات أصل الوجود الضروري من التحليل المفهومي أو شبه المفهومي، ليتمّ الإرجاع إلى البراهين الوجودية، وفي الحقيقة والواقع حتى إذا كان ادعاء كانت في إثبات الوجود الضروري، هو أنه غير ممكن من طريق البرهان الكوني، ولا بدّ من تحويله إلى البرهان الوجودي، يجب القول: إنه لم يتمّ تقديم أيّ دليل على هذا المطلب. وعلى هذا الأساس يكون إثبات الوجود الضروري من طريق البرهان الكوني أمرًا معقولًا. وعليه لو أننا أثبتنا ـ قبل إقامة البرهان الكوني أو بعده من طريق التحليل المفهومي؛ أي من طريق البرهان الوجودي ـ أن الوجود الضروري ـ الذي تمّ إثباته
(311)في البرهان الكوني ـ يجب أن يكون متصفًا بالعلم المطلق والقدرة المطلقة والحياة المحضة، فهل سيضرّ هذا البرهان بالبرهان الكوني؟ نقول: لن يلحق ذلك أيّ ضرر به. لنفترض أننا قد استطعنا قبل البرهان الكوني أن نثبت أن الموجود الضروري يجب أن يتصف بجميع الصفات الآنفة، ولكن لا يتضح بهذا الاستدلال أن هذا الموجود له وجود في الواقع أم لا. يمكن لنا هنا أن نلجأ إلى البرهان الكوني، لنرى ما إذا كان هناك وجود لمثل هذا الموجود في الواقع؛ ليثبت أن الموجود الضروري موجود بجميع صفاته. وبعبارة أخرى: إن البرهان الوجودي يُثبت أن الموجود الضروري إذا كان موجودًا؛ فيجب أن يتصف بجميع هذه الأوصاف، وإن البرهان الكوني يقول إن هذا الموجود له وجود في الواقع. وعلى هذا الأساس يمكن أن نستنتج من خلال الجمع بين البرهانين ان الله موجود. ولو تمّ بعد إثبات الموجود الضروري إثبات أوصافه، سوف نصل إلى ذات النتيجة أيضًا. ومن هنا فإن حكماء الإسلام إنما يعملون على إثبات واجب الوجود أولًا، ثم يقومون بعد ذلك بإثبات خصائصه من خلال التحليل المفهومي.
وبذلك يتضح انه لا ينبغي القول بأن البراهين الكونية يتمّ إرجاعها إلى البراهين الوجودية، بل في الواقع هناك دعويان مختلفان في هذه الموارد يتمّ إثباتهما بنوعين من البراهين المختلفة. الادعاء الأول هو إثبات وجود الضروري بواسطة البرهان الكوني، والادعاء الثاني إثبات صفات واجب الوجود بالبرهان الأنطولوجي. لا بدّ من الالتفات إلى أن المراد من قولنا إن صفات الله يتمّ إثباتها بالبرهان الكوني، لا يعني أننا نثبت وجود الله من طريق هذا البرهان، ليكون البرهان الكوني لغوًا، بل نعني بذلك أن مفهوم الله ـ بغض النظر عن وجوده أو عدم وجوده ـ يجب أن يتصف بهذه الأوصاف بالضرورة، ولذلك فإن هذه الصفات تثبت لله على نحو القضية الشرطية؛ بمعنى أن الله إذا كان موجودًا فهو يتصف بهذه الصفات، ولكن
(312)هل هذا المقدّم الشرطي متحقق أم لا؟ فهذا ما يمكن لنا الحصول عليه من البرهان الكوني. وبعبارة أخرى: إن البرهان الوجودي إنما يُثبت ملازمة الأوصاف مع وجود الله فقط، وأما أن تكون هذه الصفات موجودة أم لا، فإن البرهان الوجودي ساكت عنها. عندما يثبت البرهان الكوني الوجود الضروري، وهو الوجود الذي يكون ـ طبقًا للبرهان الوجودي ـ مقرونًا على الدوام بهذه الأوصاف، نستنتج أن هذه الأوصاف موجودة أيضًا. وعليه فحتى وجود هذه الأوصاف بدورها رهن بالبرهان الكوني أيضًا.
لقد اتضح لنا حتى الآن أن لكل واحد من هذين البرهانين استقلال نسبي في هذه الموارد؛ بمعنى أن كل واحد منهما يعمل على إثبات مثبتاته بشكل مستقل دون أن يكون بحاجة إلى الآخر، بيد أنهما يتظاهران معًا ويعضد أحدهما الآخر من أجل إثبات الموجود الضروري الذي يتصف بجميع خصائصه اللازمة في الخارج. إن القول بالاستقلال النسبي للبرهان الكوني ينفي هذا الكلام من إيمانوئيل كانط القائل بوجوب تجريد هذا البرهان من الاستقلال بشكل كامل، ولكننا نريد الآن تقديم صورة عن البرهان الكوني، بحيث لا يكون مشتملًا على استقلال نسبي فحسب، بل ويضيف رصيدًا إلى استقلاله أيضًا؛ إذ يمكن الحصول في هذا الطرح على جميع صفات الله من طريق البرهان الكوني ومن دون اللجوء إلى التحليل المفهومي. إن كل صفة لها خصوصية إمكانية لا يمكن أن توجد من دون الواجب، ولذلك لو وجدنا في أنفسنا علمًا وقدرة وحياة؛ فحيث يكون وجودنا وجودًا إمكانيًا، فإن هذه الأوصاف بدورها سوف تكون موجودة فينا على نحو الإمكان. وبعبارة أخرى: إن العلم والقدرة وسائر الصفات الكمالية الأخرى تشير إلى طريقة وكيفية الوجود الممكن. فإذا كان الوجود الموصوف ممكنًا، سوف تكون صفاته ممكنة أيضًا، وإن الأمر الممكن تابع ومحتاج في تحققه إلى الواجب؛ وعليه فإن وجود الصفات الإمكانية
(313)تابع لوجود صفات الضروري، وما لم تكن هناك حياة مطلقة وواجب وعلم وقدرة مطلقة وواجبة، لا يُكتب التحقق للحياة الإمكانية وللعلم والقدرة الإمكانية أيضًا. وعلى هذا الأساس لا يتمّ من خلال برهان الإمكان والوجوب إثبات خصوص الوجود الضروري فحسب، بل ويتمّ إثبات الكثير من الصفات الضرورية أيضًا، حيث يتمّ العثور على نماذجه ومصاديقه الإمكانية في الموجودات الإمكانية.
نبدأ الاستدلال الثاني لإيمانوئيل كانط في تحويل البرهان الكوني إلى البرهان الوجودي بهذه النقطة؛ حيث يتشكّل الاستدلال الكوني من مقدمتين:
1. «إذا كان هناك شيء موجود؛ إذن يجب أن يكون الوجود الضروري مطلقًا موجودًا»
.2. «في الحدّ الأدنى، أنا موجود»
.والنتيجة هي:
3. «إن الوجود الضروري مطلقًا، موجود».
لقد وجّه إيمانوئيل كانط هذا السؤال إلى المقدّمة الأولى، وهو أننا لماذا رضخنا للمقدّمة الأولى التي هي في الواقع كبرى القياس؟ إن لسان حالنا ـ بشكل طبيعي ـ هو أن الوجود الممكن لا يقبل التوجيه والتبرير في موجوديته بسبب الخصوصية الإمكانية، من دون وجود الواجب؛ إذ يجب أن يكون هناك موجود واجب يخرجه من حدّ تساوي الوجود والعدم، ليكون وجوده وجيهًا ومبرّرًا.
وقد كرّر إيمانوئيل كانط ذات هذا السؤال في مورد الواجب أيضًا، وقال: لماذا الواجب موجود؟ وبطبيعة الحال فإن هذا السؤال لا يتمّ طرحه لتبرير الوجود الممكن؛ إذ يقوم الافتراض على أن وجود الممكن يتمّ تبريره من خلال القول بوجود الواجب. وعليه فإن كانط في الواقع يجعلنا نواجه سؤالًا مستقلًا آخر، ويقول: بغض النظر عن وجود الممكن أم لا، لماذا يكون الواجب موجودًا؟ إن الجواب عن هذا السؤال هو أن الوجود الضروري إذا لم يكن موجودًا، فسوف يلزم من ذلك التناقض؟ لو دققنا النظر فسوف نجد أننا في مقام الجواب نستفيد من البرهان الوجودي. وفي الواقع فإن إيمانوئيل كانط يقول: إنما يتمّ إثبات وجود الواجب فيما لو أجبنا عن السؤال عن لميّة وجود الواجب، وحيث يُجاب عن هذا السؤال على شكل البرهان الوجودي، إذن يعود البرهان الكوني إلى البرهان الوجودي، ولا يكون له أيّ استقلال من نفسه. وهذا هو ذات الإشكال الذي ذكره ماكي في كتاب (معجزة الإيمان)
، وبول إدواردز في دائرة معارفه . وكأن كابلستون لم يلتفت إلى هذا الإشكال من إيمانوئيل كانط. إن جوهر إشكال كانط يعود إلى الإبهام في هذا السؤال القائل: «لماذا الله موجود؟»، وما لم يتمّ تفسير هذا السؤال بشكل صحيح، لا يمكن أن تتضح المغالطة التي يرتكبها كانط في هذا الموضع.يبدو أن لكلمة «لماذا» في هذه الموارد، ثلاثة استعمالات مختلفة؛ فتارة يقال: «لماذا X موجود». والمراد من هذه الـ «لماذا» هو السؤال عن علة العلم بوجود شيء. بمعنى أنه ما هو السبب الذي دفعكم إلى الاعتقاد بأن «X موجود». لو قيل في مورد الله: «لماذا الله موجود؟»، فإن كل واحد من براهين إثبات وجود الله يدّعي الإجابة عن هذا السؤال. فإن البرهان الوجودي يقول: حيث أن الله كامل مطلق أو واجب
الوجود، إذن الله موجود. ويقول برهان الصديقين: حيث أن أصل الوجود موجود، إذن الله موجود. وعلى هذا الأساس لو أن شخصًا ـ لأيّ سبب كان، صائبًا كان أو خاطئًا ـ أعلن عن عدم اعتبار البرهان الوجودي، فإن هذا لا يكون دليلًا على عدم اعتبار البرهان الكوني أو برهان الصديقين.
تارة يتمّ استعمال كلمة «لماذا» لكي نحصل على علة تحقق وجود الشيء، بمعنى أننا نعلم أن طبيعة وذات الشيء لا تقتضي الوجود. ولذلك حيث يكون الشيء موجودًا حاليًا، نقول: «لماذا هو موجود؟» وفي الجواب يقال: لأن العلة منحته الوجود. إن السؤال عن علة وجود الشيء أضيق مساحة بالقياس إلى السؤال عن علّة العلم بوجود الشيء، ولذلك لا يمكن السؤال عن علّة وجود كل شيء، وإنما يمكن السؤال عن علة وجود الأشياء التي تكون قابلة للتعليل. ومن هنا لا يمكن السؤال عن علة وجود الواجب، وذلك لأن واجب الوجود يعني الوجود الذي ليس له علة، والشيء الذي لا تكون له علة، يكون السؤال عن علة تحققه بلا معنى وينطوي على تناقض؛ وذلك لأن معنى السؤال عنه عبارة عن: «ما هي علة الشيء الذي لا علة له؟». ويبدو أن إيمانوئيل كانط في إحالة البرهان الكوني إلى البرهان الوجودي قد خلط بين هذين المعنيين لكلمة «لماذا». فقد ذهب به الظن إلى أننا لو سألنا: «لماذا الله موجود؟» ويكون سؤالنا عن علة علمنا، يكون سؤالنا في الواقع عن علة وجود الله.
وتارة يتمّ استعمال كلمة «لماذا» في معنى ثالث، حيث يكون السؤال في هذا المعنى الثالث عن معيار وجود الشيء. إن معيار وجود شيء ما قد يكون له علّة خارجية، ولذلك فإن معيار وجود جميع الموجودات الإمكانية وجود علتها، بمعنى أنه من الواجب والممكن أن لا يكون للشيء معيار خارجي بمعنى العلة، ومن هنا يكون معيار وجود الواجب، ضرورة وجوده. ربما أمكن القول بأن كانط قد خلط
(316)بين «لماذا» بالمعنى الأول، و«لماذا» بالمعنى الثالث، في حين أن هذين الـ «لماذين» لا يُستعملان بمعنى واحد؛ فقد يعلم شخص جواب «لماذا» بمعناه الأول، ولكنه لا يعلم جواب «لماذا» بمعناه الثاني؛ من ذلك ـ مثلًا ـ لو أن شخصًا علم من طريق الإحساس أن فضاء الغرفة حار، فهو يعلم جواب الـ «لماذا» بمعنى السؤال عن علة العلم بحرارة الجو؛ لأنه قد أحسّ به، ولكن قد لا يعلم معيار حرارة الهواء، بمعنى أنه في هذا المورد لم يحصل على سبب حرارة الهواء. وبطبيعة الحال فإن الشخص الذي يحصل على جواب لماذا الثالثة، يكون قد حصل على جواب لماذا الأولى أيضًا، وهنا في مورد البرهان الوجودي، يذهب إيمانوئيل كانط في الواقع إلى القول بأنه لا يمكن الحصول على العلم بالتحقق من خلال معيار التحقق؛ بمعنى أنه لا يمكن القول: حيث أن واجب الوجود له تحليلًا ضرورة الوجود؛ إذن أعلم بأنه موجود، وأما إذا علمنا منذ البداية بثبوت المحمول للموضوع من طريق غير معيار التحقق؛ كأن نكون قد وصلنا مثلًا من طريق وجود الممكن إلى وجود الواجب، ثم نسأل: «لماذا واجب الوجود موجود»، ويكون مرادنا من السؤال هو المعنى الثالث، ففي مثل هذه الحالة يمكن القول: إن معيار تحققه هو الوجوب وضرورة الوجود؛ بمعنى أن العلة الخارجية ليست هي السبب في وجوده، وبحسب المصطلح إن هذا الوجود في موجوديته يكون مكتفيًا بذاته. ويبدو أن كانط لم يتمكن من التفريق بين النوعين الأخيرين من الـ «لماذا»، وذهب به الظن إلى أننا حيثما سألنا بلماذا، نكون في الواقع قد سألنا عن علة وجود الشيء. وبعبارة أخرى: يمكن القول إن إيمانوئيل كانط قد خلط بين السؤال عن أصل الوجود الذي هو سؤال معقول، وبين السؤال عن علة الوجود في مورد الواجب الذي هو سؤال غير معقول، إذ الشيء الذي لا علة له لا يمكن السؤال عن علته، وإن كان السؤال عن أصل وجوده معقولًا.
إن السؤال الأول يتكفل بالجواب عنه كل واحد من البراهين الوجودية والكونية
(317)وبرهان الصديقين، فإن لم يكن الجواب من طريق البراهين الوجودية مقنعًا، فإن البراهين الكونية تمتلك جوابًا مقنعًا. واما السؤال الثاني فلا يجيب عنه سوى البرهان الوجودي، بيد أن معنى هذا الكلام ليس هو أن البرهان الكوني قد فقد أصالته؛ وذلك لأن السؤال الثاني غير السؤال الأول، وتكمن مغالطة إيمانوئيل كانط في أنه قد أظهر هذين السؤالين على شكل سؤال واحد. وعلى كل حال فإن السؤال الثاني مستقل عن السؤال الأول، وحتى لو بقي السؤال الثاني من دون جواب، فإن السؤال الأول يمكنه الحصول على جوابه المطلوب.
قيل في المنطق: إن نتيجة القياس لا تذهب إلى أبعد من المقدمات أبدًا، وفي البرهان الكوني إذا بدأنا من وجود المعلول المحدود، واستفدنا وجود العلة غير المحدودة، نكون في الواقع قد وصلنا من المقدمات الضعيفة إلى نتيجة قوية، إذ عندما نقول: إن العالم المحدود معلول وإن له علة، يكون المراد هو أن العلة محدودة، وعندما يُقال إن الله علة، يُراد بذلك أن العلة غير محدودة.
صحيح أننا في برهان وجود الله نروم الوصول إلى إله غير محدود، ولكن يجب العمل على تنسيق كل برهان بشكل دقيق، والاكتفاء بذلك المقدار الذي يتمّ الحصول عليه من البرهان. وعلى هذا الأساس يجب تنظيم برهان العلية باختصار، على النحو الآتي:
1. العالم محدود.
2. كل محدود معلول.
3. العالم معلول.
4. كل معلول له علّة.
5. العالم له علة.
فهل العلة في (4) بمعنى العلة المحدودة، وفي (5) بمعنى العلة غير المحدودة؟ لم يرد في هذا البرهان مثل هذا الادعاء. من الممكن أن تكون العلة في كلا المقدمتين بمعنى العلة غير المحدودة أو المحدودة، إن هذا البرهان إنما يثبت أن العالم له علة هي علة العلل وإنها غير معلولة، وأما أن تكون علة العلل هذه غير متناهية، فهي مثل كل صفة أخرى لله لا تستغني عن البرهان، ولذلك فإن الفلاسفة يقيمون براهين مستقلة على إثبات صفات الله سبحانه وتعالى.
إن برهان إثبات وجود الله، يجب أن يُثبت واجب الوجود. في البراهين الكونية تتمّ الاستعانة بالحسّ والتجربة، بيد أن الحسّ والتجربة لا يمكنهما إثبات ضرورة شيء، وعلى هذا الأساس لا يمكن إثبات وجوب وجود الله بهذه البراهين.
في مقام الإجابة عن هذه الشبهة، ينبغي البحث في منزلة الحسّ والتجربة في البراهين الكونية. إن لهذه البراهين مقدمتين؛ في المقدمة الأولى يقوم الادعاء على أن الممكن موجود، وفي المقدّمة الثانية يقوم الادعاء على أن الممكن معلول للواجب.
إنما تتمّ الاستفادة من الحسّ والتجربة في المقدّمة الأولى، وهذه المقدّمة ـ بطبيعة الحال ـ لا تلعب دورًا في إثبات الضرورة، بل المقدّمة الثانية هي التي تشكّل دعامة لإثبات ضرورة وجود الله سبحانه وتعالى، حيث أن هذه المقدّمة تستند إلى الأصول والبديهيات العقلية المحضة دون الحسّ والتجربة. وعليه لا يكون الإشكال واردًا.
لقد اتخذ هادسون من نظرية فتغنشتاين حول «القواعد اللغوية العمقية» ـ التي يعمل الفيلسوف في بعض مهامّه على اكتشافها واستخراجها ـ دليلًا على استحالة البرهنة على وجود الله. وفيما يلي سوف ننقل هذا الاستدلال باختصار، ثم نعمل على نقده:
... إن مهمة الفيلسوف تختلف عن مهمة اللاهوتي إلى حدّ ما، ولها بُعدان:
(1). إن على الفيلسوف أن يبحث في ما يقدّمه اللاهوتي بوصفه نموذجًا متبعًا للاستفادة من التصوير؛ ليرى ما إذا كانت أجزاؤه متناغمة فيما بينها أم لا.
(2). كما يجب على الفيلسوف أن يسعى إلى فهم «القواعد اللغوية العمقية» لهذا الأسلوب ويعمل على إظهارها ... .
أرى أن فتغنشتاين كان يقول بأن هذه المهمة تستلزم أمرين في الحدّ الأدنى، وهما:
(1). اكتشاف الفرضيات السابقة التلويحية للمعتقد الديني.
(2). رسم خارطة بالحدود المنطقية لها.
في خصوص الأمر الأول يمكن لقواعد اللغة العمقية أن تبيّن لنا «أيّ شيء» هو الله. يتذكر القارئ أن لودفيغ فتغنشتاين كان يقول: إن غاية قواعد اللغة العمقية هي: «أن تثبت لنا ما هو نوع الشيء من كل شيء». إن مفهوم الله صانع الإلهيات
والعقيدة التوحيدية، على غرار مفهوم العدد والإلزام والشيء المادي، حيث تصنع هذه المفاهيم على التوالي: الحساب، والأخلاق، والعلوم الطبيعية. وكما كان آر. جي. كالينغ وود، يقول مؤكدًا: إن كل ما يقال إنما يقال في معرض الجواب عن سؤال، وإن كل سؤال يقوم بدوره على فرضية واحدة أو عدد من الفرضيات السابقة.
إن الإيمان يتعمّق في الأسئلة والأجوبة الناظرة إلى الله، كما تشتمل كل من الأسئلة والأجوبة على فرضيات خاصّة سابقة بشأن الله أيضًا ... .
إن المراد من رسم خارطة للحدود المنطقية للمعتقدات الدينية، هو اجتناب الخلط بين الأبحاث الناشئة من عدم الفصل والتفكيك بين الأسئلة والأجوبة في المعتقدات الدينية عن سائر الأسئلة والأجوبة الأخرى. إن من بين أنواع هذا الخلط في الأبحاث هو ما يرتكبه بعض الأشخاص في مقام الدفاع عن الدين أو التهجّم عليه، هو الاعتقاد بالله بوصفه شيئًا منطقيًا من سنخ الفرضيات العلمية ... لو تمّ الاعتراف رسميًا بطبيعة الكلام الديني بوصفه نوعًا فريدًا من نوعه، كما سبق لي أن سعيت في مقام البحث عن اللاهوت والإبطال ومسألة التعالي، أن أشرت الى انّ الكثير من المعضلات حول الاعتقاد الديني قابلة للحلّ ... ولكن عندما نكتشف الفرضيات التلويحية المسبقة للمعتقدات الدينية، ونعمل على رسم خارطة للحدود المنطقية لهذا الاعتقاد، فسوف نكون قد تخلّصنا من شرور جميع المسائل الفلسفية الناشئة منها؟ ... إن إظهار أن الاعتقاد التوحيدي لعبة لغوية منفصلة تمّت صياغتها من مفهوم الإله، إذا كان ممكنًا فهو مطلوب، بيد أن المسألة تكمن أصلًا فيما إذا كان لله وجود واقعي أم لا. إن القول بأن المؤمن طبقًا لأسلوب خاص يستفيد من صورة ربما كان كلامًا مهمًّا، ولكن هل هذه الصورة هي صورة لشيء له واقعية عينية خارجية؟ إن هذا الأسلوب لا يبدو وجيهًا ومبرّرًا فحسب، بل لا مفرّ منه أيضًا.
(322)والآن علينا الخوض في هذا السؤال. إن بعض الفلاسفة الجدد يبدو من وجهة نظري أنهم قالوا بتأثير من لودفيغ فتغنشتاين المتأخر: إن هذا السؤال يقوم على أساس تصوّر خاطئ. وقد تحدّث الأستاذ تي. آر. مايلز في [الدين والرؤية العلمية]
عن «خطأ الوجود المطلق»، ويقول: نحن في أبعاد خاصّة نعلم جيدا كيف نفرّق بين ما هو موجود وما هو غير موجود، أو بين ما هو واقعي وما هو غير واقعي. خذ ـ مثلًا ـ هذه الأسئلة: «هل هناك من وجود للغول في بحيرة نيس حقًا؟»، و«هل ستة أضعاف الثلاثين بنسًا تساوي تسعة جنيهات؟»، و«هل يجب على الأولاد حقًا رعاية آبائهم الطاعنين في السن؟»، و«هل يقضي حكم الله واقعًا بأن لا تتناول الأم الفقيرة التي لديها ستة أولاد أقراص منع الحمل؟». للإجابة عن هذا النوع من الأسئلة، هناك على التوالي أساليب في العلوم الطبيعية، والحساب، والأخلاق، والإلهيات. ولكن كيف نخوض في سؤال يرتبط بالواقعية أو عدم الواقعية المفهومية التي تصنع عالمًا من الكلام؛ فمثلًا: «هل هناك وجود لعالم الطبيعة حقًا؟»، أو «هل الله موجود حقًا؟». إن أسئلة من هذا القبيل ـ وكل جواب عنها ـ يقوم الافتراض فيها على أساس أننا نستطيع أن نقدّم تعريفًا لـ «موجود واقعًا» ليكون من الناحية الأنطولوجية تعريفًا نهائيًا، ونعمل على تبريره. فهل نستطيع ذلك؟ أمر معقّد، ولذلك يتعيّن عليّ أن أكتفي هنا بذكر نقطتين فقط، وهما:(1). إن عبارة «له وجود واقعًا»، تبدو بحسب الظاهر غير قابلة للتعريف، ... خذ بنظر الاعتبار كل تعريف يتمّ تقديمه لـ «له وجود واقعًا»؛ من قبيل: «الكون جزءًا من عالم الطبيعة» على سبيل المثال. إذا كان هذا التعريف صحيحًا ـ بمعنى أن هذا هو معنى «له وجود واقعًا»، في الاستعمالات العرفية ـ فالتفتوا إلى ماذا ستكون نتيجة ذلك. إن هذا الحكم القائل: «إن ما هو جزء من عالم الطبيعة له وجود واقعًا»،
يجب أن يكون في مثل هذه الحالة یبدو عند اکثر الناس طوطولوجیة و فاقدًا للأهمية، ومعادلًا لـ «إن ما هو جزء من عالم الطبيعة هو جزء من عالم الطبيعة». وإن هذا السؤال القائل: «هل الذي هو جزء من عالم الطبيعة له وجود واقعًا؟» يجب أن يكون بديهي الجواب، وأن يبدو معادلًا للقضية القائلة: «هل الذي هو جزء من عالم الطبيعة هو جزء من عالم الطبيعة؟». ولكن هل يبدو هذا الحكم وهذا السؤال على هذه الشاكلة واقعًا؟ وهل يقول القارئ بـ «أن ما هو جزء من عالم الطبيعة له وجود واقعًا؟»، وتبدو من وجهة نظره عبارة طوطولوجية شبيه بعبارة: «إن التفاحة تفاحة»؟ وهل يقول بأن السؤال القائل: «هل عالم الطبيعة موجود واقعًا؟» يمكن الإجابة عنه بمجرّد الرجوع إلى المعاجم اللغوية بشكل دقيق، كما يمكن الجواب عن السؤال القائل: «هل الأعزب ذكر غير متزوّج؟» لا أتصوّر ذلك ... لنفترض أنني أعتقد بأن الذي له وجود واقعًا هو الله. فهل أريد من هذه الجملة مجرّد هذا الشيء، وهو أن «الله هو الله»؟ كلا قطعًا. وهل لو سأل سائل وقال: «ولكن هل الله موجود واقعًا». كنت قد أجبته بالقول: «ما عليك يا عزيزي إلا أن ترجع إلى معجمك اللغوي فقط»؟! بأي معنى أخذنا X بنظر الاعتبار، فإنه إذا كان «X له وجود واقعًا« مدعيا أنه قول من الناحیة الانطولوجیة ويقدّم معرفة ، عندها لا يمكن لـ X من الناحية المنطقية أن يكون تعريفًا لـ «له وجود واقعًا». بمعنى أن أدّعي أن «له وجود واقعًا» غير قابل للتعريف.
(2). إن النقطة الثانية التي أروم قولها بشأن «له وجود واقعًا» تنشأ من هذه الحقيقة، وهي أن الناس يتحدّثون أحيانًا كما لو أن لهذا الكلام معنى محصّلًا، وهو: أن نخرج من جميع الأطر المفهومية والقوالب الذهنية؛ لندرك ما هو الشيء الذي له وجود واقعًا. ولكن ما هي الأمور التي يستلزمها هذا الاكتشاف الذي يُعدّ من الناحية الأنطولوجية كشفًا نهائيًا؟ لقد سبق لي أن ادعيت أن لكل شاكلة مفهومية
مفهومًا أو عدّة مفاهيم بناءة تخصّه: فالعلوم التجريبية لها مفهوم الشيء المادي، وللأخلاق مفهوم الإلزام، وهكذا. لنفترض أننا نقول: إن العلم بأن هذه الأمور فرضيات مسبقة ونهائية عبارة عن أنماط فكرية خاصّة، ليس كافيًا؛ يجب أن نفهم أيّ واحد من هذه الأمور له وجود واقعًا، وأيّ واحد منها ليس له وجود. يحتمل أن نبدع شاكلة مفهومية، تمتاز من العلوم التجريبية والأخلاق، حيث يمكن فيها طرح هذين السؤالين القائلين: «هل الأشياء المادية لها وجود واقعًا؟»، و«هل الإلزام له وجود واقعًا؟» والإجابة عنهما إذا أمكن. فلنسمّ هذه الشاكلة ما بعد الطبيعية وما بعد الأخلاقية M. وسوف يكون هناك لا محالة مفهوم أو عدّة مفاهيم ـ وربما مفهوم واحد باسم مفهوم الوجود المطلق ـ الذي يصنع M؛ بمعنى أن يعطوا الخصائص المنطقية لـ M إلى M. ولكن ما الذي يمكن فعله لو تساءل شخص: هل الموجود المطلق بدوره ليس مجرّد افتراض مسبق لنمط فكري، وموجود واقعًا؟ يجب أن نبدع شاكلة أخرى بحيث يمكن فيها أن نسأل هذا السؤال ـ بالإضافة إلى السؤالين المطروحين بشأن الأشياء المادية والإلزامية ـ بشكل معقول، والإجابة عنه أيضًا. ولكن يبقى مع ذلك هناك متسع لهذا السؤال القائل: هل المفهوم الصانع لهذه الشاكلة الحديث له وجود واقعًا؟ وهلم جرّا حتى نسقط في مأزق التسلسل ... .
وفي الختام أرى من الضروري أن نقول حول الدین عموما و الاعتقاد بالله (التوحید) خصوصا کلاما یقول لودفیغ فتغنشتاین علی نطاق أوسع: «إن الخطأ الذي نرتكبه هو أننا حيث يجب علينا أن ننظر إلى ما يقع بوصفه «ظاهرة أولى»، لنبحث عن التبيين، بمعنى أننا في الموضع الذي يجب أن نقول: «تتحقق هذه اللعبة اللغوية». (654) وكذلك: «إن الذي يجب القبول به، هو الأمر المفروض ـ وبعبارة أخرى ـ أساليب المعيشة». (p. 226) إن الدين مثل أيّ شاكلة مفهومية أخرى، يقوم من الناحية المنطقية على فرضية مسبقة، وهو من حيث المنطق محدود بحدود
(325)وثغور. إذا صار البناء أن تتمّ ممارسة اللعبة واختيار طريقة المعيشة، يجب القبول بتلك الفرضيات، ويجب مراعاة هذه الحدود والثغور. وفي مورد الاعتقاد بالله يجب علينا أن نتخذ القرار في التعمّق في الأسئلة والإجابات التي تتعلق بالله أم لا. إن هذا القرار من الناحية المنطقية هو من قبيل اتخاذ القرار في هذا المورد، وهو هل نخوض في العلوم التجريبية أم لا، وهل نفكر بشكل أخلاقي أم لا، أن نسلك فرعًا من فروع الرياضيات أم لا، قرار في باب أن نضفي على تجاربنا إطارًا خاصًا أم لا ... ولكن سوف يكون من الغش والخداع لو كتمنا هذه الحقيقة، وهي أنه حتى بالنظر إلى هذا التفسير الفلسفي للاعتقاد بالله، تبقى هناك مسائل فلسفية مستقرة نسبيًا، ولا تترك الشخص المعتقد بالله مرتاح البال، وأنا هنا لا أستطيع فعل شيء تقريبًا غير ذكر هذه المسائل.
(1). كيف يمكن التفريق منطقيًا بين الحديث حول الله والحديث ـ على سبيل المثال ـ حول سانتا كلوز؟ على الرغم من جميع المطالب التي سبق أن قيلت بشأن «له وجود واقعًا»، لا تزال هذه المسألة لم تشهد حلًا ... كيف يمكن أن نثبت بأسلوب مقنع من الناحية الفلسفية أن الله له وجود عيني وخارجي؟ إن علماء العلوم التجريبية يختبرون نظرياتهم بهذه الطريقة، حيث يُستنتج منها توقعات يمكن مشاهدتها حسّيًا ... ولكننا قد اقمنا الحجة علی أن المعتقدات الدینیة لانعتبرها (بالجزم لا بالرفع) کانها فرضیات علمیة
وعليه فبأيّ معنى نعتبر هذه المعتقدات ذات مبان عينية؛ بمعنى أن نعتبرها شيئًا يفوق الأوهام والخيالات العامة، من قبيل سانتا كلوز؟ ... (2) ... (3) تقع لعبة لغة الاعتقاد بالله، ولكن هل أخذ هذه اللعبة بجديّة أمر عقلاني؟ وبطبيعة الحال فإن ذات السؤال عن ماهية العقلانية أمر معقّد. ولكن لا يبعد في الحدّ الأدنى أن الشخص العقلاني أن لا يؤمن ـ من حيث كونه شخصًا عقلانيًا ـ بشيء إلا إذا
توفّرت لديه أدلة قوية لصالحه، وأن يذعن بأن ما يبدو اليوم من وجهة نظره دليلًا قويًّا، قد لا يبدو غدًا دليلًا قويًا بالنسبة إليه بالنظر إلى ظهور معلومات أكثر جامعية منها. وباختصار فإن الإنسان العقلاني إنسان شكاك، وإن كان شكّه ليس شكًّا مطلقًا ...
.يعمد هادسون هنا في ضوء نظرية «قواعد اللغة العمقية» لفتغنشتاين، إلى الاستدلال بأن وجود الله فرضية لاهوتية غير قابلة للإثبات. إن خلاصة استدلاله بلغة الفلسفة الإسلامية، هي أن كل علم من قبيل: العلوم التجريبية، والأخلاق والإلهيات، تتحدّث عن موضوع خاص: وعلى هذا الأساس فإن وجود الموضوع أمر مقبول في داخل ذلك العلم. لا معنى لأن نبحث في علم عن شيء، ولا نعلم ما إذا كان لذلك الشيء من وجود أم لا. وعلى هذا الأساس عندما نتحدّث في الإلهيات عن الله وصفاته وأفعاله ولوازمه، نكون في الواقع قد آمنا بوجوده. وبعبارة أخرى: إن مسائل كل علم هليات مركّبة، وإن موضوعها إما هو موضوع ذات العلم أو هو شيء يعود في نهاية المطاف إلى موضوع العلم، وأما في الهليات البسيطة فلا يتمّ الحديث عن موضوع العلم.
إن هادسون من خلال تقييمه الإيجابي لفرضيات العلم المسبقة، و رسم خارطة عنها، يُشير إلى هذا النقد وهو أنه صحيح أن كل علم يجب أن يقبل بموضوعه بوصفه فرضية مسبقة، ولكن يمكن توجيه سؤال جادّ إلى تلك الفرضية السابقة؛ صحيح أن وجود الله يُعدّ فرضية مسبقة في الإلهيات التوحيدية، ولكن هل هناك من معنى لهذا السؤال القائل: «هل الله موجود واقعًا»؟
يجب أن نضيف في هامش هذا النقد أن الفرضيات المسبقة في كل علم رهن إلى
حدّ ما بالعقود. إن القول بأن وجود الله هو الافتراض المسبق في الإلهيات، إنما يقوم على هذا العقد، وهو أنه يتم البحث في الإلهيات عن صفات الله، ولكن لو ادعى شخص أن مراده من الإلهيات كل مسألة تتعلق بمورد الله، سواء أكانت في مورد وجوده أو عدمه، أو كانت في مورد صفاته أو أيّ أمر آخر ... وفي هذه الصورة لا يكون وجود الله افتراضًا مسبقًا لمسألة وجود وعدم وجود الله، وإن كان يمكن أن يكون افتراضًا مسبقًا لسائر المسائل اللاهوتية.
وعلى هذا الأساس لا يمكن بشكل عام القبول بوجود الموضوع في الهليات البسيطة بوصفه افتراضًا مسبقًا، وإن هذا المطلب يُشير في الواقع إلى بحث الوجود المحمولي. إذا كان السؤال عن الوجود الواقعي لموضوع العلوم أمرًا عبثيًا واعتباطيًا، ففي هذه الحالة يجب القول بحق إن مهمّة الفيلسوف هي مجرّد دراسة تناغم الأقول واكتشاف الفرضيات المسبقة، ورسم الخرائط عن الحدود، ولا يمكن له بأيّ وجه أن يتحدّث عن الإثباب وعدم الإثبات أبدًا، في حين أن الفلاسفة كانوا يدّعون بأن مهمة الفلسفة هي إثبات الأشياء التي هي إما موجودة أو غير موجودة.
إن هادسون بعد الإشارة إلى نقده، يذكر استدلال مايلز، وهو أن السؤال عن الوجود الواقعي لعالم الكلام خطأ؛ بمعنى أنه في عالم الكلام يمكن السؤال والقول: ما هو الشيء الواقعي، وما هو الشيء غير الواقعي؛ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ لو كان عالم كلامنا هو عالم الطبيعة، أمكن السؤال والقول: «هل غول بحيرة نيس له وجود واقعًا؟»، وذلك لأن عالم الطبيعة يتألف من مجموعة من الأشياء الموجودة، من قبيل: السماء، والأرض، والإنسان، والحيوانات، والأشجار وما إلى ذلك، ويقال في البين: إن أحد أجزاء عالم الطبيعة هو «غول بحيرة نيس»، وحيث أن الإنسان لا يصل إلى اليقين بمجرّد الكلام، لذلك يكون السؤال عن وجوده الواقعي أمرًا معقولًا. ولكن في عالم الكلام هذا لا يمكن لنا السؤال عن أصل وجود
(328)عالم الطبيعة وما إذا كان موجودًا واقعًا أم لا؟ وذلك إذ في عالم الكلام هذا يتمّ أخذ فرضية وجود عالم الطبيعة أمرًا مفروغًا عنه. وكذلك في عالم الإلهيات من المعقول أن نسأل ونقول: «هل الله يتحنن على الإنسان واقعًا؟» أو «هل أوجب الله الصلاة على الناس واقعًا؟» ولكن ليس من المعقول في عالم الإلهيات أن نسأل ونقول: «هل الله له وجود واقعًا؟»؛ إذ أن الله يؤخذ بوصفه أمرًا مفروضًا في هذا العالم.
وقد أقام هادسون دليلين على هذا الادعاء:
الدليل الأول: في عالم الكلام الذي هو من عالم الطبيعة يكون من المعقول جدًا السؤال عن الوجود الواقعي لبعض الأشياء، والمراد من «الوجود الواقعي» هنا هو الكون ضمن عالم الطبيعة، ومن هنا فإن السؤال القائل: «هل غول بحيرة نيس له وجود واقعًا؟» يساوي السؤال القائل: «هل غول بحيرة نيس جزء من عالم الطبيعة؟»، وإن هذا السؤال ليس سؤالًا عن قضية تحليلية. وأما لو أننا بدلًا من السؤال عن بعض أشياء عالم الطبيعة قد سألنا عن ذات عالم الطبيعة، فسوف نواجه قضية تحليلية استفهامية؛ بمعنى أن قضية «هل عالم الطبيعة له وجود واقعًا؟» بالنظر إلى أن «له وجود واقعًا» بمعنى جزء من عالم الطبيعة، تكون مساوية لقضية: «هل عالم الطبيعة جزء من عالم الطبيعة؟» حيث هي سؤال تحليلي. في حين لا يروم شخص بواسطة «له وجود واقعًا» أن يسأل عن قضية تحليلية.
يمكن القول في نقد الاستدلال أعلاه: إذا كانت قضية «له وجود واقعًا» بمعنى «كون الشيء جزءًا من العالم»، فلا يمكن طرح السؤال السابق في مورد عالم الطبيعة، ولكن يمكن طرح السؤال القائل: هل ما نحسّه بواسطة حواسّنا ـ ونتصوّر أنه موجود في الخارج ـ موجود واقعًا بغض النظر عن حواسنا أيضًا؟ عندها يكون لسؤالنا معنى ولا يكون سؤالًا عن قضية تحليلية.
وعلى هذا الأساس فإن قضية «هل عالم الطبيعة موجود واقعًا» تساوق هذه
(329)القضية القائلة: «هل عالم الطبيعة الذي نتصوّره بحواسّنا الطبيعية موجود واقعًا؟». إن عالم كلامنا هنا في الواقع لا يقتصر على عالم الطبيعة فقط، بل يشمل عالم الوجود بشكل مطلق، سواء أكانت الطبيعة موجودة أم لا. وعلى هذا الأساس فإن عالم الطبيعة بالنسبة إلى عالم الموجود بشكل مطلق موجود خاص، ولذلك يكون هذا السؤال سؤالًا معقولًا، ولا يستلزم قضية تحليلية.
وفي هذه الحالة لا يمكن السؤال ـ بطبيعة الحال ـ عن عالم الوجود بشكل مطلق؛ وذلك لأن هذا السؤال سوف يكون سؤالًا عن قضية تحليلية. إذا كان المراد من قضية «له وجود واقعًا» بمعنى كون الشيء جزءًا من عالم الوجود؛ إذن يمكن القول: إن قضية «له وجود واقعًا» رهن بشكل كامل بأخذه متعلقًا لأيّ طبقة من الوجود، ليتضح معناها.
في ضوء هذا النقد تتضح المغالطة التي يرتكبها هادسون في سياق استدلاله؛ بمعنى أنه ليس الأمر كما لو كان السؤال عن «هل الله موجود حقًا» مساوقًا للسؤال القائل: «هل الله هو الله»، ولذلك فإنه يكون سؤالًا معقولًا. إن معنى افتراض كينونة وجود الله في عالم الإلهيات، أنه لا يمكن السؤال في أيّ عالم كلام عن وجوده الواقعي بسؤال معقول. في عالم كلام الوجود بشكل مطلق، من المعقول تمامًا أن نسال ونقول: «هل الله له وجود واقعًا؟».
الدليل الثاني: لقد كان الادعاء هو أنه يمكن السؤال في كل عالم كلام عن الوجود الواقعي للأشياء الخاصّة في ذلك العالم؛ ففي عالم الإلزامات يمكن الكلام عن الوجود الواقعي لذلك الإلزام الخاص، وفي عالم الطبيعة يمكن السؤال عن الوجود الواقعي لذلك الشيء الخاص كغول بحيرة نيس على سبيل المثال، ولكن لا يمكن السؤال عن الوجود الواقعي لذات الإلزام أو عن الوجود الواقعي لذات
(330)عالم الطبيعة. ولو قلنا بأنه يمكن السؤال عن الوجود الوقعي لهذين الأمرين أيضًا، ففي مثل هذه الحالة سوف نواجه عالم كلام جديد ناظر إلى العوالم السابقة، وفي عالم الكلام هذا تكون لدينا كذلك فرضيات مسبقة تعمل على صنع خصائص هذا العالم؛ بمعنى أن علينا أن نفترض أن الوجود بشكل مطلق فرضية سابقة لهذا العالم، وإذا ادّعى شخص أن بالإمكان توجيه السؤال السابق ـ أي: «له وجود واقعًا» ـ إلى هذه الفرضيات المسبقة، يجب العمل على بناء عالم كلام وفرضيات سابقة أخرى، وإعادة تكرار ذات هذه الأسئلة، ولن يترتب على ذلك سوى التسلسل الباطل؛ وحيث أن التسلسل باطل، إذن لا يمكن السؤال عن الوجود الواقعي للمفروضات.
نقول في نقد هذا الاستدلال: صحيح أنه لا يمكن الاستمرار في السؤال عن المفروضات بحيث نقع في التسلسل، ولكن يمكن لنا مواصلة هذا السؤال إلى حدود ما يسمح به الإمكان. سبق أن ذكرنا أنه عندما نتكلّم عن الوجود الواقعي لعالم الطبيعة والوجود الواقعي لله، يكون الافتراض السابق هنا هو أصل الوجود. وإن الوجودات مورد السؤال هي الوجودات الخاصّة، من قبيل: وجود الله ووجود عالم الطبيعة. وعلى هذا الأساس فإننا نقرّ بأننا لا نخرج عن القوالب والأطر الذهنية والشواكل المفهومية؛ إذ أن القبول الواقعي بكل موجود يستلزم القبول بالفرضيات السابقة بوصفها علومًا أساسًا، ولكن لا يلزم من ذلك وجوب القبول في كل عالم كلام بالفرضيات المسبقة لذلك العالم بوصفها علومًا أساسية. قد تكون هذه الأمور من المسائل بالنسبة إلى علوم أعلى، ولكن لا ينبغي لهذا المسار ـ بطبيعة الحال ـ أن يتواصل بحيث يتسلسل إلى ما لا نهاية، بل يجب الوقوف عند نقطة ما، وهذه النقطة هي حيث لا نستطيع تفسير قضية «له وجود واقعًا» في المرحلة الأعلى منها. وبعبارة أخرى: إلى حيث يكون السؤال عن الوجود الواقعي لشيء ما في عالم كلام
(331)معقولًا من الناحية الارتكازية، يكون هناك عالم كلام آخر يكون فيه وجود الموضوع هناك مسألة. لقد كان الفلاسفة يعتبرون الموجود بشكل مطلق أسمى عالم كلام، ويعتقدون أن موضوع الفلسفة هو الموجود بما هو موجود، ووجود الموضوع أمرًا بديهيًا، وأنه بحسب المصطلح أساسي وجوهري وغني عن البرهان، وأما وجود الله فهو مسألة في الفلسفة حيث يمكن السؤال حتى الآن عن وجوده الواقعي.
إن هذا السؤال القائل: «هل الوجود له وجود واقعًا؟» سؤال معقول، على الرغم من أن السؤال هنا ليس سؤالًا عن قضية تحليلية، والجواب عنه بدوره في غاية البساطة وهو الآخر قضية تحليلية أيضًا، من قبيل: «الوجود له وجود واقعًا». ولكن عندما نقارن هذا السؤال بهذا السؤال القائل: «هل الموجود الذي هو دائرة مربّعة موجود واقعًا؟» فسوف يتضح بشكل كامل أن قضية «له وجود واقعًا» تحتوي على معنى معقول، ويمكن تفسير قضية «له وجود واقعًا» بهذا الشكل وهو أن سلب الوجود عن الشيء مورد البحث يستلزم التناقض. قد يقال: حيثما عمدنا إلى سلب الوجود عن الموجود بوصفه دائرة مربعة، لن نقع في التناقض، بيد أن الجواب هو أن الموضوع عنوان متناقض، ولذلك لا يكون له وجود؛ وذلك لأن الشيء الذي يحتوي على تناقض في داخله، لا يكون له وجود واقعًا، وإن كنا ننسب له الوجود اعتبارًا. وعلى هذا الأساس يمكن لنا القول إن الافتراض السابق لقضية «له وجود واقعًا» بمعناه العام الذي ذكرناه مؤخرًا عبارة عن أصل الهوهوية وامتناع التناقض. وبعد القبول بهذين الأصلين التصديقيين، يمكن السؤال عن الوجود الواقعي لكل شيء، ولكن لا يمكن السؤال عن ذات هذين الأصلين، وذلك لأن هذين الأصلين هما من الأصول الأساسية واقعًا.
وعليه يجب القبول بأن قضية «له وجود واقعًا» يمكن أن تنطوي في مختلف عوالم الكلام على معان مختلفة. عندما نتكلّم عن الوجود الواقعي لسانتا كلوز، والوجود
الواقعي لله، لا نعتبر وجود سانتا كلوز واقعيًا، بينما نعتبر وجود الله وجودًا واقعيًا. وفي الواقع فإننا نعتبر «الوجود الواقعي» بهذا المعنى، وهو أنه هل هناك ـ بغض النظر عن رؤيتي وتفكيري ـ واقعية خارج وجودي بحيث تنطبق رؤية سانتا كلوز عليها في داخلي أم لا، وهكذا الأمر بالنسبة إلى وجود الله أيضًا. لم يكن هناك من خيار لهادسون في نهاية البحث إلا التسليم والإقرار بأن السؤال عن الوجود الواقعي لله ليس بلا معنى وليس خاطئًا، وبهذا الإقرار المنبثق عن ارتكازه في مورد مفهوم «له وجود واقعًا»، فقد حكم بالبطلان على كلا دليليه القائمين على عدم إمكان البرهنة على وجود الله.
(333)
إن بعض الأدلة التي تقام على امتناع إثبات وجود الله، تقوم على صفات الله سبحانه وتعالى؛ ببيان: لو قلنا بأن لله صفات وكانت هذه الصفات تتعارض مع بعض الحقائق القطعية، ففي هذه الصورة يتعرّض أصل وجود الله إلى التشكيك والسؤال. وإن من بين هذه الموارد التعارض بين علم الله المطلق وبين اختيار الإنسان.
«إن علم الله المطلق لا ينسجم مع القول باختيار الإنسان. يميل أكثر الناس إلى التفكير بأن الله إذا كان عالمًا مطلقًا، عندها لن يكون الإنسان مختارًا أبدًا، لماذا؟ لأن لازم الاعتقاد بالعلم المطلق لله هو أن يفترض في كل زمان أن الله لا يعلم بما وقع في الماضي أو يقع حاليًا فحسب، بل وكذلك يعلم حتى بالذي سوف يقع في المستقبل أيضًا، وإن علمه بالمستقبل لا يختلف عن علمه بالماضي. وعليه لنفترض ان الله يعلم أن زيدًا سوف يقوم غدًا بفعل معيّن ومألوف، من قبيل أنه سوف يأكل تفاحة على الغداء. فإذا كان الله يعلم ذلك فإن أكل زيد للتفاحة غدًا سوف يتحقق لا محالة، وإذا تحقق ذلك فسوف يستحيل على زيد أن لا يقوم بأكل التفاحة غدًا. وعندها سوف لا يكون مختارًا، وبالتالي لا يمكنه التخلف عن هذا الفعل. وعلى هذا الأساس لو كان الله يعلم مسبقًا أن شخصًا سوف يقوم بفعل خاص (A)، عندها لن يكون ذلك الشخص مختارًا بالنسبة إلى القيام بذلك الفعل، ولو أن الله كان عالمًا
مطلقًا، فسوف يكون حينها عالمًا بجميع الأشخاص وجميع ما يصدر عنهم من الأفعال قبل وقوعها. وعلى هذا الأساس لو كان الله عالمًا مطلقًا، فسوف لا يقوم أيّ شخص بعمل اختياري أبدًا»
.وعليه يجب القول في نهاية المطاف: حيث أن الإنسان مختار، ولا يشعر بأيّ جبر وإكراه في قيامه بفعل هذا النوع من الأمور، إذن لا يكون الله موجودًا؛ وذلك لأن الله لو كان موجودًا وعالمًا مطلقًا، لن تكون أفعال الإنسان اختيارية.
قال بلانتينغا بعد ذكر الاستدلال أعلاه، في نقده:
«إن هذا الاستدلال قد يبدو مقبولًا في بادئ النظر، ولكنه في الواقع يقوم على نوع من الخلط. ويمكن بيان لُبّ هذا البرهان على النحو الآتي:
(49) إذا كان الله يعلم مسبقًا أن X سوف يقوم بـ A، عندها يجب على X أن يقوم بـ A. و (50) إذا كان X يجب أن يقوم بـ A، عندها لن يكون X مختارًا في ترك A.
يُستنتج من (49) و(50) أن الله إذا كان يعلم مُسبقًا أن شخصًا سوف يقوم بعمل خاص، عندها لن يكون ذلك الشخص مختارًا تجاه ذلك العمل.
بيد أن (49) يحتاج إلى مزيد من البحث، لماذا يجب علينا القول بأن (49) صادقة؟
يقال لنا: إذ لو أن الله كان يعلم أن X سوف يقوم بـ A، يُستنتج من ذلك منطقيًا أن X سوف يقوم بـ A؛ بمعنى أنه من الضروري إذا كان الله على علم بـ P، عندها تكون P صادقة.
بيد أن هذا الدفاع عن (49) يثبت أن التعبير الأخير ينطوي على إبهام وغموض، وقد يكون بمعنى (a 49) بالضرورة إذا كان الله يعلم مسبقًا أن X سوف يقوم بـ A، عندها فإن X سوف يقوم بـ A.
أو
(b 49) إذا كان الله يعلم مسبقًا بأن X سوف يقوم بفعل A، عندها فإن X سوف يقوم بـ A بالضرورة.
إذن.
البرهان الإلحادي يحتاج إلى صدق (b 49)، بيد أن الدفاع أعلاه عن (49) سوف يثبت (a 49) فقط، وليس (b 49). إن هذا المطلب في الواقع، سوف يكون صادقًا على نحو ضروري فيما لو كان الله (أو أيّ شخص آخر) يعلم أن قضية P صادقة، عندها سوف تكون P صادقة، بيد أن مجرّد هذاالمطلب لا ينتج أن الله إذا كان الله على علم بـ P، عندها ستكون P صادقة بالضرورة. [بمعنى أن ثبوت المحمول للموضوع ضروري ] في قضية إذا كنت أعلم بأنّ «هنري» مجرّد، عندها سوف يكون هنري مجرّدا، حقيقةٌ ضروريةٌ، ولكن لا ينتج عنه إذا كنت أعلم أن هنري مجردًا، عندها ستكون قضية «هنري مجرّد» صادقة بالضروة. أنا أعلم أن هنري مجرّد، فإن الذي ينتج هو أن قضية «هنري متأهل» كاذبة، بيد أن النتيجة لا تكون بالضرورة كاذبة. وبذلك يبدو أن ادعاء عدم انسجام العلم الإلهي المطلق مع اختيار الإنسان يقوم على نوع من الخلط»
.إن نقد إلفين بلانتينغا يقوم على التمايز بين الضرورة العينية (= de re) وضرورة القضية (= de dicto). إنه في ضوء هذا التمايز يعتقد بأنه في بعض الموارد تكون ضرورة قضية (de dicto) صادقة، والضرورة العينية (de re) كاذبة، وفي بعض الموارد يكون الأمر على العكس، وفي بعض الموارد تكون كلتا القضيتين صادقة، وبحسب مصطلح المنطق الإسلامي، تكون العلاقة بين هاتين الضرورتين علاقة العموم والخصوص من وجه.
إن جواب بلانتينغا عن البرهان الإلحادي على أساس هذا التمايز، هو أن استدلالكم لا يثبت أن لازم علم الله بوقوع الفعل عن الإنسان في الزمان (t2) هو أن يكون ذلك الفعل في الزمان (t2) ضروريًا؛ بمعنى أنه لا يُثبت أن الفعل سوف يكتسب ضرورة عينية. يذهب بلانتينغا إلى زعم أن ما جاء في الاستدلال، إثبات ضرورة قضية أو ضرورة (de dicto) التي تعمل على مجرّد بيان ضرورة صدق القضية، دون ضرورة المحمول بالنسبة إلى الموضوع، ومن ضرورة القضية أو ضرورة الصدق لا يمكن استنتاج الضرورة العينية.
لو اكتفينا في الجواب بهذا المقدار، فإن البرهان الإلحادي وإن لم ينتج قضية «الله غير موجود»، ولكنه في الوقت نفسه يبقي قضية «إن الله موجود» مشكوك فيها أيضًا؛ إذ على الرغم من أنه لا يمكن التوصّل من ضرورة الصدق إلى الضرورة العينية، بيد أن هذا لا يعني أنه كلما كانت ضرورة الصدق موجودة فسوف لا تكون الضرورة العينية موجودة، ولذلك من الممكن في الأفعال الاختيارية للإنسان أن يكون الفعل
نفسه ضروريًا، وكذلك القضية التي تعمل على بيان ذلك الفعل، بمعنى أن يكون صدور الفعل عن الإنسان ضروريًا، ويكون صدق القضية ضروريًا أيضًا.
على الرغم من أن الاستدلال الإلحادي لم يتمكن من بيان الجمع بين الضرورتين، إلا أن نقد بلانتينغا بدوره لم يكن قادرًا على نفي الجمع بين هاتين الضرورتين. وبعبارة أخرى: لو أثبتنا وجود الضرورة العينية في مورد الأفعال الإنسانية، نكون في هذه الحالة قد عملنا على تعزيز البرهان الإلحادي بحسب الظاهر. يُضاف إلى ذلك أن البرهان الإلحادي يعبّر في الأصل عن الضرورة العينية. وبعبارة أخرى: إن مدّعى البرهان الإلحادي هو الضرورة العينية، والاستدلال الذي أقيم بدوره يبيّن هذا الادعاء؛ بمعنى أن الاستدلال الذي أقيم، إنما يعمل على تأييد (b 49) والذي هو بزعم بلانتينغا مفيد بالنسبة إلى الملحدين.
لتوضيح هذا المطلب، يجب علينا بيان جهات القضايا في المنطق الإسلامي باختصار. عندما نعمل على تقييم محمول القضية بالنسبة إلى الموضوع، يكون المحمول ضروريًا تارة وممكنًا (= الإمكان الخاص) تارة أخرى. وكلما كان المحمول ممكنًا بالنسبة إلى الموضوع، فإن القضية التي تخبر عن إمكانية المحمول بالنسبة إلى الموضوع، لا تخبر عن تحقق المحمول بالنسبة إلى الموضوع، بل إنما تخبر عن إمكان هذا التحقق فقط. وعلى هذا الأساس لو قيل: «الإنسان ضاحك بالإمكان»، فهذا يعني أنه لا شيء من الضحك وعدمه ضروري بالنسبة إلى الإنسان. وفي مقابل الإمكان تقع الضرورة، وهي بدورها تنقسم إلى أقسام. ومن بين هذه الأقسام الضرورة بشرط المحمول؛ القضیة انما لها ضرورة بشرط المحمول فی ظرف تحققه التی لایمکن سلبه عن الموضوع من قبيل قضية: «الإنسان ضاحك بالضرورة ما دام ضاحكًا». من الضروري الالتفات إلى هذه النقطة وهي أن الموضوع في الضرورة بشرط المحمول لا يكون مقيدًا بالمحمول لتكون القضايا بشرط المحمول من قبيل
(339)القضايا التحليلية؛ وإن قيد «ما دام» المذكور هنا ليس قيدًا للموضوع، بل لإظهار الضرورة بشرط المحمول؛ وذلك لأن علماء المنطق
يقولون في تقسيم الضرورات إن الشروط التي تستعمل في القضية إما أن تكون داخل القضية أو تدخل عليها من الخارج، وإن الشروط الداخلية إما متعلقة بالموضوع أو متعلقة بالمحمول، وبالنسبة إلى الحالة الأخيرة يذكرون الضرورة بشرط المحمول .يمكن بحث ذات هذا المطلب من الزاوية الفلسفية، وذلك بالقول: إن الوجود يساوق الوجوب؛ بمعنى أن الأشياء في الخارج وفي ظرف تحققها ضرورية الوجود. وعلى هذا الأساس فإن تحقق الفعل الإنساني يكون في ظرفه ضروريًا وليس إمكانيًا. ومن هنا فإن كل ممكن الوجود هو في ظرف تحققه ضروري الوجود؛ بمعنى أن كل ممكن مع فرض تحقق علته التامّة يكون ضروري الوجود. وعلى هذا الأساس فإن أكل التفاحة من قبل زيد على وجبة الغداء يكون ضروريًا في ظرف تحققه، وذلك لأن علته التامة في ذلك الظرف سوف تكون متحققة. وفي ضوء البرهان الإلحادي إذا كان الله موجودًا فإن أكل التفاحة من قبل زيد لن يكون فعلًا اختياريًا، وحيث يكون هذا الفعل اختياريًا، إذن لا يكون الله موجودًا.
من أجل العمل على حلّ مشكلة التعارض، نعود إلى أصل البرهان الإلحادي، ونعمل على تنظيمه بشكل آخر:
1. إذا كان الله موجودًا؛ فإنه يعلم بجميع الأحداث مسبقًا.
2. إذا كان الله يعلم مُسبقًا بأن زيدًا سوف يأكل تفاحة غدًا على وجبة الغداء،
فإن أكل التفاحة من قبل زيد يجب أن يتحقق غدًا. (بديهة)
3. إذا وجب أن يتحقق أكل التفاحة من قبل زيد غدًا، عندها لن يكون بمقدور زيد أن لا يأكل التفاحة غدًا. (بديهة).
4. من المستحيل على زيد هو أن يمتنع عن أكل التفاحة غدًا؛ بمعنى أن زيدًا لا يكون مختارًا بحيث يمكنه الامتناع عن أكل التفاحة. (بديهة عند المستدل).
5. إن زيدًا ليس مختارًا في الامتناع عن أكل التفاحة؛ بمعنى أن زيدًا فيما يتعلق بأكل التفاحة ليس مختارًا. (بديهة).
6. إذا كان الله يعلم مُسبقًا بأن زيدًا سوف يأكل التفاحة غدًا على وجبة الغداء، عندها لن يكون زيد مختارًا في الامتناع عن أكل التفاحة. (1 و5).
7. إن زيدًا مختار في الامتناع عن أكل التفاحة. (بديهة ومفروضة؛ لأن الإنسان مختار في هذا النوع من الأفعال).
8. ليس الأمر كما لو أن الله كان يعلم مُسبقًا بأن زيدًا سوف يأكل التفاحة غدًا على وجبة الغداء (6 و7).
وعلى هذا الأساس، يمكن القول:
9. إن الله ليس موجودًا. [إذ لو كان الله موجودًا؛ يجب أن يعلم مُسبقًا بأن زيدًا سوف يأكل التفاحة غدًا على وجبة الغداء، وحيث لا يعلم لن يكون موجودًا إذن].
إن هذا الاستدلال ـ كما قال بلانتينغًا ـ وإن كان مقبولًا بحسب الظاهر، ولكنه يعاني في الواقع من الخلط، بيد أن هذا الخلط لا يكمن في استعمال «الوجوب» في المقدّمتين (1) و(2) تارة بمعنى الضرورة العينية وتارة أخرى بمعنى ضرورة الصدق، بل إن المغالطة في هذا البرهان تكمن في استنتاج عدم اختيار الفاعل
من كون الفعل ضروريًا. إن هذا الاستدلال يقوم على فرضية أنه كلما كان الفعل ضروريًا، كان الفاعل مكرهًا ومجبرًا؛ في حين لا توجد ملازمة بين ضرورة الفعل وإجبار فاعله.
جاء في القضية (2) أنه حيث يكون الله عالمًا بأن زيدًا سوف يأكل التفاحة غدًا؛ إذن يكون أكل التفاحة ضروري الوجود؛ وعليه هل يمكن أن نستنتج من ضرورة هذا الفعل (أكل التفاحة)، أن فاعله مجبر أيضًا؟ لا نجد هناك أيّ سعي في البرهان الإلحادي إلى إثبات هذا المطلب، إن ضرورية الفعل بمعنى تحقق علته التامة. فإذا كان فاعل هذا الفعل إنسانًا، وقد أراد الفعل، فإن هذا الفعل بهذه الإرادة يصبح ضروري الوجود، ومع أن الفعل ضروري يكون فاعله مختارًا؛ لأنه أراد الفعل، وقام بفعله من طريق الإراده. وعليه لو تعلق علم الله بفعل البشر، فلا بدّ من ملاحظة هذه الناحية وهي: هل يعلم الله مُسبقًا أن الفعل الذي سوف يصدر من الفاعل هو الفعل الجبري أو الفعل الاختياري؟ إذا كان الله يعلم أن هناك شخصًا سوف يقحم التفاحة في فم زيد ويجبره على أكلها؛ فسوف يكون الفعل جبريًا، وإذا كان الله يعلم أن زيدًا سوف يأكل التفاحة بكامل حريته واختياره وأنه سوف يرجح أكل التفاحة على عدم أكلها؛ عندها فإن الله يعلم بالتحقق الاختياري لذلك الفعل. وفي كلتا الحالتين سوف يكون الفعل ضروري الوجود، غاية ما هنالك أن الفاعل في أحدهما مختار وفي الآخر مجبر. وبعبارة أخرى: نحن من طريق ضرورية وجود الفعل، نستنتج ضرورية وجود علته التامّة، إذ هناك بين وجود العلة التامّة ووجود المعلول ضرورة بالقياس في الطرفين. إن العلة التامّة إنما تكون موجودة فيما لو كان معلولها موجودًا، وإن المعلول إنما يكون موجودًا فيما لو كانت علته التامّة موجودة. فإذا كان الموجود هو من أجزاء العلّة التامّة لفعل ما، وكانت الإرادة والاختيار فيه قابلًا للفرض، ويتضح أن فعل ذلك الفاعل قد تحقق، فسوف يُعلم أن علته
التامّة موجودة، ولكن لا يُعلم أن فاعله مختار؛ إذ من الممكن أن يكون قد تمّ إجبار الفاعل على الفعل، وأنه قد تمّ سلب الإرادة والاختيار منه. وعليه فإن الله العالم بمثل هذا الفاعل، يكون لديه علم بجبرية أو اختيارية فعله أيضًا. إذا كان الفاعل في فعله مكرهًا ومجبرًا ـ سواء أكان الذي أجبره هو الله أو غيره ـ سوف يكون الله عالمًا بجبرية الفعل، وإن كان الفاعل في ظرف صدور الفعل مختارًا، فإن الله سوف يكون عالمًا بصدور الفعل الاختياري منه. وفي كلتا الحالتين سوف يكون الفعل ضروري الوجود.
بالنظر إلى المطالب أعلاه، فإن التالي في القضية (3)، وهو عبارة «ليس من الممكن أن ...» تُستعمل بمعنيين: أحدهما على شكل بشرط المحمول؛ بمعنى أنه مع افتراض الأكل الاختياري للتفاحة من قبل زيد، لا يكون عدم أكل التفاحة ممكنًا. والمعنى الآخر أنه لا يمتلك إرادة واختيارًا كي يختار عدم أكل التفاحة، بل هو مجبر على أكل التفاحة، وعليه فإن «عدم الإمكان» في هذا المعنى يكون بمعنى الإكراه. إذا كان المراد من عبارة «غير ممكن» هو المعنى الأول، فإن القضية (4) في هذه الصورة سوف تكون كاذبة. وإن أريد المعنى الثاني فإما أن تكون القضية (3) كاذبة، أو لا يكون لدينا أيّ دليل على صدقها. وعلى هذا الأساس لا يكون الاستدلال الإلحادي تامًا.
لقد تعرّض نيلسون بايك إلى هذه المسألة في مقالة له تحت عنوان «عدم الانسجام بين علم الله المطلق واختيار الإنسان» بطريقة مختلفة ولكنها لا تختلف كثيرًا عمّا نقلناه عن كتاب إلفين بلانتينغا، وانتقد الأجوبة التي ذكرها الفلاسفة عن هذه المسألة، ثم قال: «عندما نقول إن الله يمكنه أن يعلم مُسبقًا بوقوع الأفعال الاختيارية في
المستقبل، فما هو مرادنا من هذا الكلام بشكل دقيق؟ أرى أن مراد دمولينا هو: إن الله يعلم مُسبقًا بالأشياء التي سوف يختارها كل شخص في المستقبل، من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن الله كان يعلم في الزمان (T1) بأن زيدًا سوف يقوم باختياره في الزمان (T2) بجزّ العُشب. ولم يكن الله يعلم في الزمان (T1) بأن زيدًا سوف يقوم في الزمان (T2) بجزّ العُشب فحسب، بل وكان في الوقت نفسه في الزمان (T1) يعلم بأنه سوف يقوم بهذا الفعل باختياره أيضًا. وعلى حدّ تعبير إميل برونر «إن علم الله بالأفعال الاختيارية، قد تعلق بها مع حفظ صفة الاختيار فيها». إن الذي كان الله يعلم به في الزمان (T1) هو أن زيدًا سوف يقوم في الزمان (T2) بجزّ العُشب باختياره»
.وقال بايك في نقد الكلام أعلاه: «أرى أن هذه النظرية تعاني من عدم تناغم داخلي. إذا كان الله في الزمان (T2) يعلم (وبناء على ذلك يعتقد) بأن زيدًا سوف يقوم في الزمان (T2) بفعل X، وعليه لم يكن بمقدور زيد في الزمان (T2) أن لا يقوم بشيء سوى X (بناء على الأدلة التي تقدّم ذكرها). وعلى هذا الأساس لو كان الله في الزمان (T1) يعلم (وبناء على ذلك يعتقد) بأن زيدًا سوف يقوم في الزمان (T2) بفعل X، وعليه يكون زيد في الزمان (T2) قد قام بفعل X بغير اختياره. أن يكون بمقدور الله في الزمان (T1) أن یعتقد بأن زيدًا سوف يقوم في الزمان (T2) بفعل X باختياره، لا يبدو ممكنًا. إذا كان الله في الزمان (T1) معتقدًا أن زيدًا في الزمان (T2) بفعل X، فإن فعل زيد في الزمان (T2) لم يكن قد صدر عنه باختياره، ولكن لو أصررنا [على القول] بأن الله في الزمان (T1) كان معتقدًا بأن زيدًا سوف يقوم في الزمان (T2) بفعل X باختياره، فسوف تكون النتيجة هي أن الله في الزمان (T1) كان لديه اعتقاد
كاذب، وهي نتيجة جزافية واعتباطية وغير معقولة»
.إن المغالطة التي يرتكبها نيلسون بايك في نقده المذكور أعلاه، أنه قد تصوّر أن الفعل إذا كان ضروريًا، ولم يقم الفاعل بخلافه، وبالتالي كانت نتيجته امتناع نقيض الفعل، كان ذلك دليلًا على عدم اختيار الفاعل في القيام بذلك الفعل، في حين أن هذا التصوّر تصوّر باطل؛ وذلك إذ لو خرجنا لحظة عن علم الله المسبق بأفعالنا الاختيارية، وأخذنا فعلًا خاصًا من أفعالنا ـ كما لو كنت حاليًا منشغلًا بالكتابة مثلًا ـ بنظر الاعتبار؛ فحيث أنني لو كنت مختارًا في الكتابة، فسوف أكون قادرًا على ممارسة الكتابة وعدمها، وعندما أختار عدم الكتابة بكامل حريّتي، ففي هذا الظرف يكون نقيض ذلك ـ الذي هو الكتابة ـ ممتنعًا، وإن هذا الامتناع إنما حصل بفعل اختياري وانتخابي الحرّ، كما أنه من خلال اختياري لفعل الكتابة، يُصبح هذا الفعل ضروريًا؛ وذلك إذ في الحالة الأولى تكون سلسلة علل عدم الكتابة متحققة، وفي الحالة الثانية تكون سلسلة علل الكتابة متحققة؛ إذن يمكن القول إنه من خلال اختيار وإرادة الفعل، يصبح الفعل ضروريًا؟، كما يمكن من خلال اختيار وإرادة الترك، يصبح ترك الفعل ضروريًا، وفي الوقت نفسه فإن هذه الضرورات لا تتنافى مع الاختيار والإرادة الحرة للإنسان. وعليه لو كان الله عالمًا مسبقًا بفعل الإنسان، وكان فعل الإنسان في الواقع اختياريًا، فإن علم الله بفعل الإنسان في هذه الحالة سوف يكون متعلقًا بالفعل الاختياري للإنسان. وعلى حدّ تعبير الفلاسفة الإسلاميين: إن علم الله بالفعل الاختياري يؤكد على اختيارية ذلك الفعل، لا أنه يخرج ذلك الفعل عن دائرة الاختيار. وبعبارة أخرى: إن الفعل الاختياري ليس
هو الذي لا يكون ضروريًا في ظرف التحقق، بل هو الفعل الذي تتعلق به إرادة الإنسان ولو أن الله في الزمان (T1) علم بأن زيدًا في الزمان (T2) سوف يقوم بجزّ العُشب باختياره، إذن سوف يصبح جز العُشب في الزمان (T2) ضروريًا، وذلك لأن سلسلة علله في (T2) موجودة ومن بين أجزاء هذه العلل إرادة زيد، وعندما يصبح الفعل ضروريًا يكون تركه ممتنعًا، وعلى كل حال فإن كل واحد من ضرورة الفعل وامتناع الترك يستند إلى إرادة واختيار زيد. وعلى هذا الأساس فإن العلم الإلهي السابق لا يتنافى مع اختيار الإنسان.
إن الاعتقاد بوجود الله ليس رهنا بالبراهين العقلية، بل يمكن أن يكون بمنزلة الاعتقاد الأساسي أو الفطري بشكل كامل. إذ حتى لو لم نعتبره اعتقادًا أساسيًا وفطريًا، وكنا من جهة أخرى نعتبر جميع أدلة إثبات وجود الله مخدوشة، مع ذلك لا يمكن اعتبار الاعتقاد بوجود الله أمرًا مرفوضًا وباطلًا؛ إذ مع رفض الدليل لا يُعدّ المدّعى مرفوضًا، وإن كان المدّعى يثبت بثبوت الدليل؛ إذ يمكن في الصورة الأولى أن يكون المُدّعى صادقًا، بيد أن الإنسان لم يعثر على دليله بعد. وعلى هذا الأساس لا يمكن للذين ينكرون وجود الله أن يكتفوا في القول بنفي وجود الله بمجرّد رفض أدلة إثبات وجود الله، بل عليهم بالإضافة إلى ذلك أن يقيموا الأدلة على نفي وجود الله أيضًا.
يُعدّ ديفيد هيوم من بين الفلاسفة الذين بذلوا جهودًا في الردّ على أدلة وجود الله، وبالإضافة إلى ذلك فقد سعى إلى الاستدلال على نفي وجود الله أيضًا. وإن من بين الأدلة التي أقامها هيوم في هذا الشأن هو الدليل الذي يستند إلى مسألة وجود الشر، حيث سنعمل فيما يلي على بيانه ونقده.
يقول ديفيد هيوم: «هل يريد [الله] أن يحول دون وقوع الشرّ، ولكنه لا يستطيع ذلك؟ في مثل هذه الحالة سوف يكون عاجزًا. أم هو قادر على ذلك ولكنه لا يريد؟ وفي مثل هذه الحالة سوف يكون سيّئًا. أم هو قادر ويريد ذلك؟ فمن أين تكون هذه
الشرور؟ ولماذا يوجد الشر في العالم أساسًا؟ لا شك في أن الشرور لا تحدث صدفة. ومن هنا فإنها تنشأ من علة، فهل يأتي ذلك على خلاف قصد الله؟ ولكنه مقتدر بشكل مطلق. لا شيء يمكنه زعزعة استقرار هذا الاستدلال، وهو [استدلال] على مثل هذا الاقتضاب والوضوح والحسم»
.لمناقشة وبحث استدلال ديفيد هيوم يجب أولًا أن نعتبر القدرة المطلقة لله بوصفها أمرًا مفترضًا، وعليه نتفق مع ديفيد هيوم بأن الله إذا أراد، كان بمقدوره الحيلولة دون الشرّ كي لا يكون هناك أيّ شرور في العالم. وعليه حيث أن الشرور موجودة
في العالم، إذن لا يريد الله أن يحول دون الشر. بيد أن ديفيد هيوم يعمل ـ من خلال افتراض قدرة الله ووجود الشرّ ـ على افتراض أمرين:1. إما أن لا يريد الله أن يمنع دون وقع الشر.
2. أو هو يريد الحيلولة دون الشر، ولكن الشر مع ذلك موجود.
إن ديفيد هيوم يستنتج من الافتراض الأول أن الله ليس خيرًا، بمعنى أنه لا يمكن في هذا الافتراض أن نعتبر الله مريدًا للخير، في حين يقوم الافتراض على أن الله مريد للخير؛ وعليه فإن الله القادر على الحيلولة دون الشر، وفي الوقت نفسه لا يريد أن يحول دون وقوعه هو إله غير مريد للخير، ومن هنا ينشأ محذور التناقض.
ولكن لا بدّ من السؤال والقول: ما هو نوع هذا التناقض؟ لنأخذ بنظر الاعتبار والدًا يبتغي الخير لولده، ولكنه بالنظر إلى بعض المصالح يرضى لولده أن يتجرّع مرارة الحياة، فهل يمكن القول: حيث أن هذا الوالد لا يريد تجنيب ولده مرارة
الحياة، إذن فهو لا يريد الخير لولده؟! ومن هنا فإن المقاربة التي يذكرها ديفيد هيوم بقوله: «إن كل من يقدر على دفع الشر ولا يعمل على دفعه فهو غير محبّ للخير»، ليست صحيحة. وعلاوة على ذلك فإن هذا الاحتمال بدوره وارد وهو أن الله لا يريد زوال بعض الشرور؛ لكونها من اللوازم التي لا تنفك عن العالم الجسماني. فهل يُعقل أن يقال بأنه يجب على الله أن يخلق مثلثًا مسطّحا بشرط أن لا تكون مجموع زواياه مئة وثمانين درجة؟!
وبعد ذلك عمد ديفيد هيوم إلى بيان مقاربة أخرى، وهي: إذا كان الله قادرًا ويريد الحيلولة دون الشرور، يجب أن نستنتج من ذلك أنه محبّ للخير، ولكن عندها يطرح هذا السؤال نفسه ويقول: إذن من أين تنشأ هذه الشرور؟ يجب القول في الجواب: عندما لا تكون المقاربة الأولى مقبولة، لن تكون القاربة الثانية بدورها مقبولة بطبيعة الحال أيضًا؛ بمعنى أنه من الصحيح أن نقول: «إن الله يمكنه أن يحول دون وقوع الشرور، ولكنه لا يريد، وهو في الوقت نفسه محبّ للخير»، إذ يمكن للشرّ أن يكون من اللوازم التي لا تنفك عن عالم المادة. وعلى هذا الأساس لا يوجد أيّ قطعية في استدلال ديفيد هيوم.
وبعد ديفيد هيوم سعى الفلاسفة الملحدون من طريق مسألة الشر إلى إظهار وجود الله بوصفه أمرًا لا يمكن الدفاع عنه. وفي هذا الشأن سعى جي. إل. ماكي إلى إثبات عدم الانسجام بين الاعتقاد بوجود الله ووجود الشر.
يذهب جي. إل. ماكي إلى الاعتقاد بأنه على الرغم من أن جميع مدعيات الفلاسفة على إثبات وجود الله مخدوشة، ولكن مع ذلك لا يزال بإمكان المتألّه أن
يتمسّك باعتقاده بوجود الله؛ إذ بمقدوره الادعاء بأن وجود الله يُعرف من طريق غير عقلاني؛ ولذلك فإنه يسعى بنفسه ـ من خلال ربط الاعتقاد بوجود الله بمسألة الشرّ ـ من أجل إقامة برهان أبدي ضد الاعتقاد بوجود الله. فهو يرى أن مسألة الشرّ بالإضافة إلى أنها تثبت عدم عقلانية المعتقدات الدينية، فإنها تعمل كذلك على إثبات عدم التناغم بين أجزائها أيضًا. إن مسألة الشرّ من وجهة نظره ليست مجرّد مشكلة علمية بحيث يمكن حلها، كما أنها ليست معضلة عملية يمكن العمل على رفعها عبر اتخاذ قرار، بل هي مجرّد مشكلة منطقية. إن مسألة الشرّ إنما يتمّ طرحها حيث يكون الشخص مؤمنًا بالإله القادر مطلقًا والمحبّ للخير مطلقًا، ولذلك يمكن بيان هذه المسألة في أبسط صورها على النحو الآتي:
1. إن الله قادر مطلق.
2. إن الله محب محض للخير.
3. على الرغم من ذلك فإن الشرّ موجود.
يرى ماكي أن هذه القضايا الثلاثة متناقضة فيما بينها، ولذلك كلما صدقت قضيتان منها، كانت القضية الثالثة كاذبة. وبطبيعة الحال فإنه لا يرى أن التناقض بين هذه القضايا الثلاثة تناقضًا صريحًا، ولذلك هناك حاجة إلى بعض المقدمات والقواعد شبه المنطقية حول «الخير» و«القادر المطلق» لإظهار التناقض الكامن فيها، وإن تلك القواعد شبه المنطقية عبارة عن:
أ ـ إن الخير هو النقطة المقابلة للشر، بحيث أن الشخص المحبّ للخير يبذل كل ما بوسعه من أجل القضاء على الشر.
ب ـ إن قدرات وإمكانيات القادر المطلق لا حدود لها أبدًا.
وعلى هذا الأساس لو كان الشخص محبا محضا للخير وقادرًا مطلقًا، فإنه يقضي
على الشرّ بشكل كامل. ومن هنا فإن قضيتي: «القادر المطلق موجود»، و«الشر موجود» تبدوان متناقضتين.
لو أننا في الحدّ الأدنى لم نعتبر الله عالمًا بالشرور، لن يحدث هناك أيّ تناقض ـ و لو کان مستورا ای غیرظاهر ـ في أيّ واحد من القضايا الثلاثة الآنف ذكرها؛ إذ أن الله القادر المطلق والذي يتصف بانه محب محض للخير، ما لم يتعرّف على شرّ ويكون عالمًا به لا يقوم بدفعه. ومن هنا فقد عمد بعض الفلاسفة إلى إضافة قضية رابعة إلى القضايا الثلاثة السالفة، وهي قضية علم الله المطلق. وعلى هذا الأساس إذا كان الله عالمًا مطلقًا، وقادرًا مطلقًا، ومحبا محضا للخير، لن يكون وجود الشر في العالم أمرًا مقبولًا.
يبدو أننا في غنى عن إقحام قضية رابعة في هذا المعترك؛ إذ لازم القدرة المطلقة هو العلم المطلق. فلو لم يكن الله عالمًا بالشرور، فهل يمكن القول في مثل هذه الحالة إنه قادر؟ إن القادر المطلق إنما يُقال في الحدّ الأدنى
بالنسبة إلى الموجود الذي لا يحدّ قدرته أي حدّ من بين الحدود ما وراء المنطقية. وعليه لو لم يكن الله في مورد من الموارد عالمًا بالشرور، إذا أمكنه الحيلولة دون شرّ ولم يفعل، فسوف يشكل ذلك طعنًا في اتصافة بمحض حبّ الخير، وإذا كان جهله بالشر هو السبب في عدم تمكنه من دفعه، فإنه إما أن لا يكون قادرًا مطلقًا، في حين أننا قد افترضنا مسبقًا أنه قادر مطلق، أو هو قادر مطلق ولكن المورد يُعدّ من المحدوديات المنطقية، ويكون في الواقع من قبيل التناقض، والقدرة لا تتعلق بالمتناقض، حتى بالنسبة إلى قدرةالقادر المطلق؛ إذ القادر المطلق لا يستطيع أن يخلق دائرة مربّعة؛ لأن في خلقها محال منطقي. ولكن من الواضح أن دفع الشرّ ليس من قبيل خلق الدائرة المربّعة، وعلى هذا الأساس لو لم يتمكن الله من دفع شرّ بسبب عدم علمه به، لا يعود متصفًا بالقدرة المطلقة.
لو قيل: إن القدرة وإن كانت لا تتعلق إلا بالممكن، بيد أن تعلق القدرة بالممكن قد تستلزم المحال أحيانًا، وعندها لا تتعلق القدرة بذلك الأمر الممكن؛ خذ مثلًا القدرة على الرؤية البصرية، فإنها لا تتعلق إلا بما يمكن رؤيته بصريًا، بمعنى أن يكون متعلق الرؤية هو الجسم. فإذا لم يكن الشيء جسمًا لا تتعلق به القدرة على الرؤية البصرية. وعليه قد يمكن القول في بحث الشرّ: إن الشخص الذي لا يكون عالمًا بالشر، فإنه لا يكون قادرًا على دفعه أيضًا.
ولكننا نقول في الجواب: إن الرؤية البصرية قد تمّ تقييدها منذ البداية بواسطة العين، في حين لم يرد مثل هذا القيد في مورد قدرة الله من أول الأمر، بل ورد التصريح بأن قدرته مطلقة، بمعنى أنه قادر مطلقًا بغض النظر عن كونه عالمًا أو جاهلًا. وعليه فإنه يكون قادرًا في جميع الظروف الممكنة. ومن بين الظروف الممكنة هو أن يكون عالمًا؛ إذ أن افتراض القادر العالم لا ينطوي على تناقض. لا بد من الالتفات إلى أن المراد ليس هو أن الله في حالة الجهل قادر مطلق، وإنما حيث يكون قادرًا مطلقًا، والقدرة لا تتحقق من دون علم، فإن افتراض القادر المطلق من دون علم سوف ينطوي على تناقض، ويكون العلم من لوازم القدرة المطلقة.
وعلى هذا الأساس لا تكون إضافة علم الله المطلق ضرورية، ومع ذلك يمكن لمزيد من وضوح البحث أن نجعل علم الله المطلق من بين مقدمات بحث مسألة الشرّ أيضًا.
(352)قد يُقال إن العلم من لوازم إعمال القدرة، ولكنه ليس من لوازم أصل القدرة، ولذلك لا بدّ من أخذ علم الله المطلق في مسألة الشرّ بنظر الاعتبار. ويجب القول في الجواب عن ذلك: إن القدرة من صفات الموجود الحيّ العالم بمتعلق القدرة، ومن هنا كان القادر هو الشخص الذي إذا شاء فعل أو ترك.
في بحث استدلال ماكي، يجب أن نقدّم صورة واضحة عن تهافت القضايا. إن مجموعة من القضايا إنما تكون متهافتة وغير متناغمة أو منسجمة فيما بينها فيما لو تمّ العثور بينها على قضيتين بحيث تكون إحداهما مثبتة لنسبة، والأخرى تنفي تلك النسبة، من ذلك ـ على سبيل المثال ـ خذ المجموعة (A) بنظر الاعتبار:
A = (البشر عقلاء، ليس الأمر كما لو كان البشر عقلاء).
إن مجموعة مثل مجموعة A تنطوي على تهافت صريح؛ إذ في هذه المجموعة نسبة تعمل على نفي نسبة أخرى بشكل صريح. ولكن قد لا تشمل المجموعة في بعض الموارد على تهافت صريح، وإن كان تهافتها واضحًا، من قبيل المجموعة B.
B = (كل إنسان يفنى، سقراط إنسان، سقراط لا يفنى). في هذه المجموعة ليس هناك أيّ نسبة تعمل على نفي نسبة أخرى بشكل صريح، بيد أن تهافت هذه المجموعة واضح. لو تمّ في المجموعة B تطبيق قواعد الاستنتاج، فسوف يتمّ تشكيل مجموعة أخرى متهافة بشكل صريح (متناقضة)، إذ نستنتج من المقدمتين الأوليين من المجموعة B أن «سقراط يفنى»، وكلما أضفنا هذه النتيجة إلى المجموعة B سوف تتشكل مجموعة (B1) على النحو الآتي:
B1 = («كل إنسان يفنى»، «سقراط إنسان»، «سقراط لا يفنى»، «سقراط يفنى»).
إن المجموعة B1 متهافتة صراحة. وعلى هذا الأساس يمكننا القول إن مجموعات من قبيل المجموعة B متناقضة من حيث الصورة، ويمكن أن نصل ـ من خلال تطبيق قواعد الاستنتاج وإضافة النتائج إليها ـ إلى مجموعة متناقضة صراحة. ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أنه قد تكون هناك في بعض الأحيان مجموعة متهافة بشكل واضح، ولكننا مع ذلك لا نصل ـ من خلال تطبيق قواعد الاستنتاج وضم النتائج ـ إلى مجموعة متناقضة بشكل صريح؛ من ذلك ـ مثلًا ـ خذ المجموعة C بنظر الاعتبار:
C = («إن ساحة كرة القدم أكبر من ساحة كرة السلة»، «إن ساحة كرة السلة أكبر من ساحة كرة الطائرة»، «إن ساحة كرة القدم ليست أكبر من ساحة كرة الطائرة»).
إن المجموعة C متهافتة صراحة، ولكن لا يمكن الاعتماد في إثبات تهافتها على مجرّد قواعد الاستنتاج فقط، بل لا بد من أن نضيف إليها قضية أو عدّة قضايا من خارج المجموعة، لكي نصل ـ من خلال تطبيق قواعد الاستنتاج وضمّ نتائجها إلى المجموعة ـ إلى مجموعة متهافتة بشكل صريح. إن القضية أو القضايا التي تضاف إلى المجموعة يجب أن تكون من الحقائق الضرورية. وبعبارة أخرى: أن لا يكون كذبها ممكنًا، من قبيل: «كل شيء هوهو»، و«لا شيء أصغر من نفسه» وهكذا. كلما أضفنا إلى المجموعة C (4):
(4) كلما كانت ساحة كرة القدم أكبر من ساحة كرة السلة، وكانت ساحة كرة السلة أكبر من ساحة كرة الطائرة، عندها ستكون ساحة كرة القدم أكبر من ساحة كرة السلة.
وفي هذه الحالة نواجه مجموعة متناقضة ومتهافتة من حيث الصورة. إن القضية (4) حقيقة ضرورية.
فيما يتعلق بمسألة الشر لا يذهب ماكي إلى الاعتقاد بأن القول بوجود الله القادر
المطلق والمحب المحض للخير يتناقض أو يتهافت مع الاعتقاد بوجود الشرور صراحة أو من حيث الصورة، بل يذهب إلى الادعاء بأنه من خلال ضمّ الحقائق الضرورية أو على حدّ تعبيره من خلال ضمّ القواعد شبه المنطقية إلى القضيتين أعلاه، تتشكل مجموعة متناقضة ومتهافتة من حيث الصورة، ولو تمّ تطبيق قواعد الاستنتاج في هذه المجموعة، وأضيفت إليها نتائجها، فسوف نحصل على مجموعة صريحة التناقض والتهافت. ولذلك فإن مجموعة القضايا المتناقضة والمتهافتة من وجهة نظر ماكي، عبارة عن:
1. إن الله قادر مطلق.
2. إن الله محب محض للخير.
3. إن الشرّ موجود.
4. إن الخير هو النقطة المقابلة للشر، بحيث أن الشخص المحبّ للخير يعمل ما أمكنه من أجل القضاء على الشرّ.
5. إن قدرات القادر المطلق لا يحدّها أيّ حدّ من الحدود أبدًا.
لا شك في أنه يمكن القول بأن هذه المجموعة أو المجموعة التي تتألف من (1) إلى (3) بالإضافة إلى قضايا من قبيل القضية (4) و(5)، متهافتة. إن تهافت المجموعة يؤدّي بنا إما إلى القول بإنكار وجود الشرّ، في حين أن الشر موجود بإقرار الموحد والإلهي وإقرار الملحد وغير الإلهي أيضًا، أو أن لا نقبل بوجود الله، أو نقبل بوجود الله ولا نراه قادرًا مطلقًا ولا محب محض للخير، وكلتا هاتين الصورتين لا تسعد الموحد والمتألّه، ولذلك يجب على الموحّد ـ من خلال القبول بـ (1) إلى (3)
ورد أحد الحقائق الضرورية أو القواعد شبه المنطقية المدّعاة في الحدّ الأدنى ـ أن يُثبت أن (1) إلى (3) لا تنطوي على أيّ تهافت. يمكن بيان تهافت المجموعة (1) إلى (5) على النحو أدناه:
يمكن لنا ـ من خلال القبول بـ (1)، و(2)، و(4)، و(5) ـ أن نضيف إلى (1) و(5) هاتين الحقيقتين الضروريتين، وهما:
(6) إذا كان الله قادرًا مطلقًا ومحبا محضا للخير، ولا يمكن لأيّ حدّ أن يقيّد قدراته، وكان الشرّ يقع في النقطة المقابلة للخير، عندها فإن الله يعمل على دفع جميع الشرور.
(7) إذا قام الله بدفع جميع الشرور، عندها لن يكون هناك وجود للشر.
(8) ليس الأمر كما لو أن الله يعمل على دفع كل شر. [قياس استثنائي من (3) و(7)]
(9) ليس الأمر كما لو (أن الله لا يكون قادرا مطلقا ومحبا محضا للخير، ولا يمكن لأي حدّ أو قيد أن يحول دون بسط سلطانه وقدرته، وأن الشرّ هو النقطة المقابلة للخير). [القياس الاستثنائي من (6) و(8)].
(10) إما أن لا يكون الله قادرًا مطلقًا، أم هو غير محبّ للخير مطلقًا، أو هناك حدود لقدرته، أو أن الشر ليس هو النقطة المقابلة للخير. [إعمال النقض في (9)]
كما هو واضح فإن (10) تركيب فصل لو كان صادقًا، فيجب في الحدّ الأدنى أن يكون واحد من مكوناته صادقًا. وعلى هذا الأساس يجب أن يكون واحد من القضايا الأربعة الآتية صادقًا:
(11) «إن الله ليس قادرًا مطلقًا».
(12) «إن الله ليس محبا محضا للخير».
(13) «إن قدرات الله لا يحدّها حدّ أو قيد».
(14) «إن الشرّ لا يقع في النقطة المقابلة للخير».
كما نلاحظ فإن (11) يتناقض مع (1)، و(12) يتناقض مع (2)، و(13) يتناقض مع (5)، و(14) يتناقض مع (3). وعليه فإن المجموعة من (1) إلى (7) غير متناغمة، ومتناقضة فيما بينها صراحة.
إن هذا الاستدلال يقوم إلى هنا على أصل امتناع التناقض؛ بمعنى أنه حيث تمّ القبول بامتناع التناقض، فإن نتيجة ذلك هي أن القبول بالقضايا من (1) إلى (7) سوف يؤدّي إلى التناقض. حيث أن القضية (3) في الاستدلال أعلاه، مقبولة من قبل الملحد والموحّد أيضًا، يبدو أن الاستدلال يتجه لمصلحة الملحد، إلا إذا عمد الموحّد إلى إنكار القضايا من (4) إلى (7). وأما إذا لم يتمّ القبول بأصل امتناع التناقض في الاستدلال، كما يُستفاد التشكيك في هذا الأصل من بعض عبارات ماكي، ففي مثل هذه الحالة يكون أصل امتناع التناقض محكومًا بالقدرة الإلهية، والملحد لا ينتفع بشيء من استدلاله، إذ أن الملحد إنما يمكنه أن يستنتج أن الله غير موجود حيث يكون التناقض مستحيلًا، وأما إذا لم يكن التناقض محالًا، فإن الموحّد يدّعي أن ما ترونه شرًّا، ليس له وجود.
وعلى هذا الأساس لا يمكن لنا القول بأن الله غير موجود، ومن هنا يحق لنا ـ على غرار بلانتينغا ـ أن نتجاهل استدلال ماكي الذي يدّعي أن قدرة الله على المحالات العقلية من لوازم الإيمان العُرفي بالله. وعليه فإن المهم في البين هو انتقاد إحدى المقدمتين (4) و(5) لماكي. إذا كانت (4) و(5) من بين الحقائق الضرورية في العالم، فإن استدلال ماكي مع القول بأصل امتناع التناقض سوف يكون معتبرًا،
ولكن على حدّ تعبير بلانتينغا فإن «ماكي بدوره يرفع اليد، وهو يعتقد بأن بعض المقدمات الملحقة» أو «القواعد شبه المنطقية» تمسّ الحاجة إليها، قلما تحرّك من أجل العثور على مقدمات ملحقة تكون صادقة بالضرورة، بالإضافة إلى المجموعة A تنتج بشكل صوري تناقضًا صريحًا»
.في نقد (4) و(5) يجدر بنا القول: لو كانت القضية من الحقائق الضرورية، لوجب أن تكون صادقة في جميع الأوضاع والأحوال، ولا يمكن تصوير وضع أو حالة من الأمور بحيث تكون القضية في ذلك الوضع وتلك الحالة كاذبة. من الممكن ـ بطبيعة الحال ـ أن نبقي قضية ما ثابتة في وضع خاص، وتكون في ذلك الوضع من الحقائق الضرورية؛ من ذلك ـ مثلًا ـ أن أكون حاليًا منشغلًا بالكتابة، فإن أخذنا هذه القضية بلحاظ الوقت الراهن، فسوف تكون من الحقائق الضرورية، أو أن زوايا المثلث بمقدار 180 درجة من الحقائق الضرورية، بيد أن هذه الحقيقة الضرورية مقيدة بدوام
ذات المثلث، فلو تغيّر شكل المثلث، لا يلزم من ذلك أن يكون الشكل المتغيّر له زوايا، فضلًا عن أن تكون هذه الزاوايا بمقدار 180 درجة. وعلى هذا الأساس نقول: هل القضية:(4) إن الخير هو النقطة المقابلة للشر، بحيث أن الشخص المحبّ للخير يعمل ما أمكنه على رفع الشرّ. حقيقة ضرورية؟ يقول بلانتينغا في عدم ضرورة (4) ما يلي:
«لنفترض أنك كنت تعلم بأن زيدًا ... قد سقط في بئر، وكذلك علمت بأن صديقًا آخر قد سقط في مأزق مماثل على مسافة مماثلة ولكن في الجهة المقابلة الأخرى.
وكذلك لك أن تتخيّل أنك إنما تستطيع أن تنقذ واحدًا منهما، ولا تستطيع العمل على انقاذهما معًا. وعلى هذا الأساس فإن كل واحد من هذين الشرين بحيث أن العمل على دفعه مقدور لك، وأنت على علم بكلا الأمرين، ومع ذلك لا تستطيع العمل على دفعهما معًا، ولا تفرّط في فضيلة الخير [حبّ الخير] من خلال العمل على دفع أحد الشرين في الحدّ الأدنى؛ إذ لا تستطيع فعل ما هو أكثر من ذلك لكونه خارج حدود قدرتك ووسعك. وعلى هذا الأساس فإن حقيقة أنك لم تقم بإنقاذهما، لا يعني أنك لست شخصًا صالحًا. وعلى هذا الأساس فإن القضية (4) سوف تكون كاذبة؛ بمعنى أن هذه ليست حقيقة ضرورية بل ولا حتى حقيقة [ولو غير ضرورية] بحيث يعمل الموجود على دفع جميع الشرور التي يطلع عليها ويمكنه دفعها»
.ثم أورد لنقد القضية (4) نقضين آخرين
؛ أحدهما حيث يكون دفع الشر مستوجبًا لدفع خير أكبر من الشرّ الموجود، والآخر حيث يكون دفع الشر مستوجبًا للوقوع في شرّ أعظم منه؛ كأن يتمّ العمل على تسكين جرح في ساق شخص بواسطة بتر ساقه. تكفي هذه الموارد الثلاثة بحق كي لا تكون القضية (4) من الحقائق الضرورية.والآن قد يمكن للملحد أن يعمل على تجديد قواه، وأن يعمد بدلًا من القضية (4) إلى وضع قضية أخرى أمام أعيننا، ويقول: «إن الموجود المحبّ للخير مطلقًا، والقادر مطلقًا، والعالم المطلق، يعمل على دفع كل شرّ يستطيع دفعه بشكل صحيح»، وعلى هذا الأساس يدّعي أن المجموعة أدناه (= المجموعة A) غير متناغمة:
1. إن الله قادر مطلق ومحب محض للخير وعالم مطلق.
2. الشرّ موجود.
3. إن الموجود المحبّ للخير مطلقًا، والقادر مطلقًا، والعالم المطلق يعمل على دفع كل شرّ يستطيع دفعه بشكل صحيح.
4. لا وجود لأيّ قيود خارج دائرة المنطق بالنسبة إلى ما يمكن للقادر المطلق أن يفعله
.يقول بلانتينغا: إذا كان A متناقضًا من حيث الصورة، أمكن لنا بواسطة تطبيق قواعد الاستنتاج أن نستنتج بأعضائه الثلاثة استنتاج نقيض العضو الرابع. إذا كانت المجموعة A متناقضة من حيث الصورة ولصالح الملحد، يجب الوصول ـ من خلال (1) و(3) و(4) ومن خلال تطبيق قواعد الاستنتاج ـ إلى نقيض القضية (2)؛ بمعنى أنه لا بدّ من الاستنتاج بأنه ليس هناك من وجود لأيّ شرّ، في حين أن نتيجتها هي أنه لا وجود لأيّ شر يمكنه دفعه بشكل صحيح. إن هذه القضية تنسجم مع كل واحدة من هاتين القضيتين:
1. هناك شرّ بحيث لا يقدر حتى الله على دفعه بشكل صحيح.
2. ليس هناك وجود للشرّ أصلًا.
وعلى هذا الأساس، لو أراد الملحد أن يصل إلى نتيجته المنشودة، فليس أمامه من سبيل سوى إدخال القضية (5) إلى دائرة المعترك:
5. إن الله إذا كان هو العالم المطلق، والقادر المطلق، والمحب المحض للخير، عندها يمكنه دفع جميع حالات الشرّ بشكل صحيح.
من الواضح أن القضايا من (1) إلى (5) متناقضة من حيث الصورة، ومن
القضايا (1)، و(3)، و(4) و(5) يمكن الوصول إلى نقيض القضية (2). يرى بلانتينغا أن القضيتين (3) و(4) تُعدّ من الحقائق الضرورية، ولذلك فإنه يوجّه نقده إلى القضية (5). إذا كانت القضية (5) بدورها من الحقائق الضرورية، فسوف يتمّ إثبات مدّعى الملحد القائم على أن القضيتين (1) و(2) تحتويان على تناقض ضمني.
يذكر بلانتينغا لعدم صوابية القضية (5) صورة حيث تقوم فيها ملازمة بين وجود الشر والخير الأفضل، بحيث كلما تمّ القيام بدفع شرّ لا يقترن بوجود خير أفضل، وفي هذه الحالة من الواضح أن دفع الشرّ يؤدي إلى شرّ أكبر منه. وقد عمد بلانتينغا في نقده أولًا إلى ذكر مثال مصطنع على النحو الآتي: لو أن خدشًا سطحيًا على يد شخص كان يؤدّي إلى تحقق فرحة كبيرة وعارمة لدى شخص آخر. من الواضح في هذه الحالة أن دفع الشر القليل عن الشخص الأول سوف يؤدّي إلى دفع خير كثير بالنسبة إلى الشخص الثاني، ودفع الخير هذا أسوأ بكثير من وجود الشرّ الأول. إن هذا المثال المصطنع يُثبت أن الله العالم المطلق والقادر المطلق ومحب محض للخير لا يستطيع في جميع الأحوال دفع كل شرّ بشكل صحيح؛ إذ حتى لو كان قادرًا على دفع الشر القليل، ولكنه لن يكون قادرًا على دفع هذا الشرّ القليل بشكل صحيح؛ وذلك إذ في المثال المذكور يؤدّي دفع الشرّ القليل إلى وقوع شرّ أعظم.
إن بلانتينغا بعد ذكر هذا المثال المصطنع، يلتفت إلى هذه الحقيقة وهي أن هناك أشخاصًا يُبدون استقامة وصمودًا في مواجهة البؤس والألم، وإن هذا الصمود يُعدّ في حدّ ذاته خيرًا أكبر من الشر. ومن ناحية أخرى فإن صمود الشخص وصبره على المحن يؤدّي إلى تأسي الآخرين الذين ينظرون إلى روعة صموده ويستلهمون منه العزم والقوّة، وهذا بدوره خير آخر، بحيث لو أراد الله أن يحول دون ذلك الشرّ فسوف يمنع من تحقق هذا الخير العظيم. وهذا هو الجواب الذي يقدّمه بلانتينغا عن المسألة.
ولكن هل هذه القضية (5) كاذبة حقًا؟ لبيان صحّة أو عدم صحة القضية (5) يجب علينا مناقشة مضمونها. والمهم في البين مناقشة عبارة: «دفع الشرّ بشكل صحيح». يبدو أن المراد من هذه العبارة أن لا يتمّ في الحدّ الأدنى دفع الشر بحيث يؤدّي إلى حدوث شرّ أكبر. وعلى هذا الأساس فإن احتمالات دفع الشرّ تكون كالآتي:
1. أن يؤدّي دفع الشرّ إلى وقوع شرّ مساو له.
2. أن يؤدّي دفع الشرّ إلى وقوع شرّ أقل منه.
3. أن يؤدّي دفع الشرّ إلى وقوع شرّ أكبر منه.
4. أن لا يؤدّي دفع الشرّ إلى وقوع أيّ شرّ آخر.
يعمل بلانتينغا على تصوير الأمر بحيث يتطابق مع الاحتمال الثالث؛ بمعنى أنه يرسم الظروف والشرائط بحيث يؤدّي دفع الشرّ إلى وقوع شرّ أكبر، وحيث أن الله محب محض للخير فإن لازم ذلك أن يقوم في مثل هذه الحالة بدفع الشرّ القليل. إن هذه الملازمة في الواقع من الحقائق الضرورية فهي ضرورية الصدق، وإن الله بدوره لا يستطيع إبطال ما هو ضروري الصدق، وعلى هذا الأساس يُعدّ عدم قدرة الله محدودية منطقية.
لا يبدي بلانتينغا اهتمامًا بالاحتمالات الثلاثة الأخرى. فمن بين تلك الاحتمالات لا يحتوي الاحتمال الأول والثاني على أهميّة تذكر؛ إذ من الممكن لبلانتينغا أن يقول في الاحتمال الأول: إن الله لا يدفع الشر بشر مثله؛ لأن هذا سيكون لغوًا وعبثًا. وكذلك في الاحتمال الثاني قد يقول: إن الله يدفع الشر الكثير بالشر القليل حتمًا. والاحتمال الثالث هو الاحتمال الذي يدّعي أن الله لا يقوم بدفع هذا النوع من الشر؛ وذلك لأن دفع الشر في مثل هذه الصورة يؤدّي إلى دفع خير أعظم، الأمر الذي يستلزم بدوره شرًّا كثيرًا.
بيد أن الالتفات إلى الاحتمال الرابع مهم، إذ يمكن لله أن يقوم بدفع شر دون أن يؤدّي إلى شر آخر، بيد أن بلانتينغا لم يذكر هذا الاحتمال. وقد يدافع بلانتينغا عن نفسه ويقول بأن الله يستطيع في مثل هذه الحالة أن يدفع الشرّ بشكل صحيح وهو يفعل ذلك حقًا، وعليه لا ينبغي التعرّض لهذا المثال. وبعبارة أخرى: إن هذا الافتراض لا صلة له بالقضية (5)؛ إذ البحث يدور حول ما إذا كان دفع الشرّ بوقوع شرّ آخر ممكنًا بالنسبة إلى الله أم لا؟ إن النقطة الجديرة بالالتفات هي أن هذا الاحتمال الرابع الذي يبدو أنه لا صلة له بالمسألة مورد البحث، يرتبط بها على نحو كامل؛ إذ في الاحتمال مورد البحث حيث الشرّ يلازم الخير الكثير، هل يمكن حقًا دفع الشر بشكل صحيح بحيث لا يؤدّي إلى تحديد قدرة الله من الناحية المنطقية؟! في المثال المصطنع أعلاه لو قام الله بالقضاء على كلا الشخصين معًا، عندها لن يشعر الشخص الأول بالألم ولا الشخص الثاني يفوته الشعور بالفرح، ولذلك فإن الشرّ بدوره سوف يكون مرتفعًا في هذه الصورة أيضًا، وهذا الاحتمال ممكن بالنسبة إلى الله من الناحية المنطقية. وعلى هذا الأساس ليس لدينا دليل على كذب القضية (5)، ويبدو أن القضية (3) ـ التي كان بلانتينغا يراها من الحقائق الضرورية ـ ليست صادقة أصلًا، ناهيك عن أن تكون من الحقائق الضرورية؛ إذ كما تمّ تصويره آنفًا يمكن لله من خلال القضاء على الممكنات التي يُصيبها الشر أن يعمل على دفع الشر، وقد يكون من لوازم دفع الشر انعدام جميع العالم الجسماني، ولكنه لا يفعل ذلك من الناحية العملية، أو يمكنه في الحدّ الأدنى أن لا يفعل ذلك. وبعبارة أخرى: إن وجود الشرور فرع عن وجود العالم الجسماني، ومن الممكن على الله أن لا يخلق عالم الممكنات أو عالم الطبيعة من رأس، وبانتفاء موضوع الشر، تنطوي مسألة الشر بشكل كامل. وعلى هذا الأساس لا يكون وجود الشر ضروريًا من الناحية المنطقية.
نختزل المجموعة A في القضيتين أدناه:
1. إن الله قادر مطلق، وإنه محب محض للخير، وعالم مطلق.
2. الشرّ موجود.
لقد سعى ماكي من خلال إضافة القواعد شبه المنطقية أو سائر الحقائق الضرورية إلى إثبات عدم تناغم المجموعة A، ولكننا قد رأينا أن الحظ لم يكن حليفه، بيد أن عدم اعتبار دليل واحد، لا ينهض دليلًا على رفض المدّعى. وعلى هذا الأساس يطرح هذا السؤال نفسه: هل المجموعة A متناغمة؟ لا يمكن الاكتفاء هنا بأن المجموعة A لم يتمّ اثبات عدم تناغمها ؛ إذ من الممكن في الواقع أن تكون المجموعة A غير متناغمة، ولا يوجد بأيدينا طريق لإثبات عدم تناغمها، وإذا كانت المجموعة A غير متناغمة في الواقع، لا يكون الاعتقاد بوجود الله القادر المطلق والمحب المحض للخير والعالم المطلق صادقًا؛ وذلك لأن وجود الشرّ يقيني. لإثبات عدم تناغم المجموعة A لا بدّ من إضافة حقيقة أو حقائق ضرورية إلى المجموعة. إن العثور على الحقائق الضرورية وإضافتها إلى المجموعة من أجل إثبات عدم تناغمها أصعب بكثير من إثبات تناغمها، وذلك لأن ضمّ الحقائق الإمكانية لإثبات عدم تناغم مجموعة ما لن يكون مجديًا. خذ بنظر الاعتبار الاحتمالات الأربعة التي ذكرناها في معرض الردّ على بلانتينغا. كان من بين هذه الاحتمالات أن يتمّ دفع خير كثير بدفع شرّ قليل. بمجرّد هذا الاحتمال لا يمكن اعتبار المجموعة A غير متناغمة، إذ من الممكن أن يكون المتحقق هو الاحتمال الرابع وفي هذه الصورة لا يتمّ إثبات عدم التناغم. وبعكس ذلك ما لو أردنا إثبات تناغم مجموعة ما، إذ يكفي أن نأخذ بعض الأوضاع والأحوال بنظر الاعتبار لتكون المجموعة A صادقة في تلك الأوضاع
والأحوال؛ إذ لو كانت المجموعة A غير متناغمة، فسوف تكون غير متناغمة حتى في تلك الصورة أيضًا. وعلى هذا الأساس لا ضرورة إلى إضافة الحقائق الضرورية لإثبات تناغم مجموعة ما.
المجموعة المتناغمة وغير المتناغمة
1. إذا كانت مجموعة ما غير متناغمة فيما بينها، فسوف تكون قضية واحدة من هذه المجموعة في الحدّ الأدنى كاذبة. ولذلك فإن عدم تناغم المجموعة A لا يكون لصالح الملحد دائمًا. قد يدّعي بعض الأشخاص أن المجموعة A غير متناغمة، ولكنهم مع ذلك يؤمنون بالله القادر المطلق ومحض المحبّ للخير والعالم المطلق؛ وذلك لأن عدم تناغم المجموعة A قد يكون بسبب كذب القضية (2) وليس بسبب كذب القضية (1)، إذ أن عدم تناغم المجموعة A إنما يكون لصالح الملحد فيما لو كانت القضية (2) صادقة. ومن هنا يتضح أن الذين يعتبرون الشرّ مجرّد وهم، يقولون بعدم تناغم المجموعة A؛ إذ لو كان الشر وهمًا سوف تكون القضية (2) كاذبة، ولا صلة لها بالله أيضًا، وذلك لأن الشر ليس أمرًا وجوديًا ليكون معلولًا لله، وبذلك يتمّ الخدش في اتصاف الله بكونه محبا محضا للخير.
2. إذا كانت مجموعة ما متناغمة، فهذا يعني أن أعضاءها يمكن أن يكونوا صادقين، لا أنهم يكونون صادقين ولهم مصاديقهم. ولذلك لا يمكن من خلال إثبات تناغم المجموعة A أن نستنتج أن الله موجود. وعلى هذا الأساس لا نكون ـ من خلال إثبات تناغم المجموعة A ـ في غنى عن إثبات وجود الله.
لقد تحدّث بلانتينغا عن إثبات إمكان تناغم المجموعة، قائلًا:
«إن من بين الطرق نحو التقدّم، والسعي إلى إثبات هذا المطلب، هو أن المجموعة A بالمعنى المنطقي العام متناغمة أو ممكنة على نحو ضمني. ولكن ما الذي يمكن فعله من أجل إثبات هذا الأمر؟ على الرغم من وجود طرق متفاوتة للوصول إلى هذا المطلب، بيد أنها بأجمعها تتشابه مع بعضها في جهة مهمّة. إنها بأجمعها تصل إلى هذه النتيجة: لإثبات أن مجموعة من قبيل S متناغمة، تصوّروا حالة ممكنة (حتى إذا لم تكن متحققة بالفعل)، بحيث لو بلغت مرحلة الفعلية، فإن جميع أعضاء S سوف تكون صادقة. إن هذا الأسلوب من تقديم النموذج يُسمّى S ... من ذلك مثلًا أن سلوكيًا ساذجًا وقليل العلم قد يعتقد أن التفكير في الواقع ليس سوى حركات الحنجرة. علاوة على ذلك أنه قد يعتقد بأن القضية P = «إن زيدًا لم يحرّك حنجرته بعد الثلاثين من أبريل»، لا تنسجم مع القضية Q = «إن زيدًا قد فكّر إلى حدّ ما طوال شهر مايو» (بالمعنى المنطقي العام). ربما أمكن لنا في مقام الجواب أن نذكّر بأن القضية P تتناغم بحسب الظاهر مع قضية R = «لقد أمضى زيد أوقات فراغه في فترة النقاهة ـ بعد إجراء عملية جراحية لحنجرته في الثلاثين من أبريل ـ بتأليف مقالة رائعة حول نقد العقل المحض لإيمانوئيل كانط (في شهر مايو)». وعلى هذا الأساس فإن التركيب العاطفي لـ P وR سوف يكون متناغمًا بحسب الظاهر، بيد أن هذا التركيب يستلزم بوضوح القضية Q (أنت إذا لم تشحذ فكرك لا تستطيع كتابة ولو مقالة بسيطة في نقد العقل المحض لإيمانوئيل كانط). وفي هذه الحالة سوف تكون القضيتين P وQ متناغمتين ... إن القضية R متناغمة مع القضية P، ولذلك فإن القضية المركبة « P وR» ممكنة وتصف حالة ممكنة، وأما القضية المركبة «P وR» فهي تستلزم Q.
(366)ومن هنا إذا كانت قضية «P وR» صادقة، تكون قضية Q صادقة أيضًا، ولذلك فإن القضيتين P وQ سوف تكونان صادقتين كلتاهما. وعلى هذا الأساس فإن هذا المورد سوف يكون في الواقع واحدًا من موارد بيان حالة ممكنة لو بلغت مرحلة الفعلية، فسوف يكون جميع أعضاء المجموعة مورد البحث (والتي هي في هذا المورد عبارة عن مجموعتي P وQ) صادقًا. كيف لهذا المطلب أن ينطبق على موضوع بحثنا؟ ... إن المسألة سوف تكون هي إثبات أن (1) و(2) (إن الشر موجود) متناغمتين.
وكما رأينا يمكن لهذا الأمر أن يتحقق من خلال العثور على قضية من قبيل R المتناغمة مع (1)، وأن تكون بحيث أن (1) و(R) تستلزمان (2). إن القضية التي يمكن أن تضمن هذا الغرض، عبارة عن:
3. إن الله يخلق العالم الذي يحتوي على الشرّ، وهو يمتلك سببًا وجيهًا في هذا الشأن.
إذا كان (3) متناغمًا مع (1)، عندها ينتج عن ذلك أن تكون (1) و(3) (وبذلك تكون مجموعة A) متناغمة»
.هناك للتناغم بين (3) و(1) ـ كما قال بلانتينغا ـ طريقان؛ الطريق الأول: أن نعمل على بيان أوضاع وأحوال تتناغم مع (1)، وفي الوقت نفسه أن يؤدي تركيبها العاطفي مع (1) إلى استلزام وجود الشر. الطريق الآخر: أن نبيّن بشكل دقيق ما هو السبب الذي يدعو الله إلى السماح بوقوع الشرّ
. وبطبيعة الحال لو تمّ بيان السبب الذي يدعو الله إلى السماح بوقوع الشر، فإن ذلك سوف يكون أجدى وأكثر مدعاة إلى الاطمئنان من أن نعمل على مجرّد إثبات تناغم الشرّ مع وجود الله، بيد أن الذي يكفي بالنسبة إلى بحثنا هو الطريق الأول.إن تمايز هذين الطريقين يكمن في أننا في الطريق الأول يجب أن نثبت أن القضية التي تبيّن أوضاعًا وأحوالًا خاصة تتناغم مع القضية (1). حتى إذا لم تكن هذه القضية صادقة، ولكن لا ينبغي أن تكون كاذبة بالضرورة. وبعبارة أخرى: يكفي إمكان الصدق، حتى وإن كانت كاذبة في العمل، خلافًا للطريق الثاني حيث يجب أن نبيّن قضيّة صادقة؛ بمعنى أن نبيّن بشكل دقيق ما هو السبب الذي يدعو الله إلى السماح بوقوع الشر، ولذلك فإن الطريق الثاني حيث يحتاج إلى قضية صادقة، يكون أكثر تعقيدًا وصعوبة من الطريق الأول. وعلى هذا الأساس سوف نكتفي في هذا الكتاب بالمقدار الكافي. ولكن هذا لا يعني أن نأخذ الأوضاع والأحوال غير الواقعية بنظر الاعتبار على الدوام، بل من الممكن أن تحظى الأوضاع والأحوال الواقعية بالاهتمام من حيث هي ممكنة، لا من حيث هي صادقة. إن ما نقوله من أخذ أوضاع وأحوال بنظر الاعتبار بحيث تكون متناغمة مع القضية (1) وتركيبها العاطفي مع القضية (1) يستلزم القضية (3)، حتى وإن لم تكن تلك الأوضاع والأحوال صادقة؛ بمعنى أن هذه الأوضاع والأحوال الافتراضية حيث تكون من الأمور الممتنعة تتوفر لها إمكانية التحقق، ولو أن الله أوجد هذه الأوضاع والأحوال، فإن القضية التي تحكي عنها سوف تكون صادقة، وكلما أضيفت تلك القضية إلى المجموعة A، فسوف يتضح أن المجموعة A متناغمة. إن هذه الأوضاع والأحوال الافتراضية تثبت أن وجود الشرّ في العالم يعود سببه إما إلى أن هذه الأوضاع والأحوال موجودة، وإن السبب الذي يدعو الله إلى وجود الشر بدوره هو هذا الأمر، أو أن هناك أوضاعًا وأحوالًا مماثلة هي السبب الذي يدعو الله إلى وجود الشرّ.
من أجل إثبات تناغم المجموعة A علينا العمل أولًا على تبويب الشرور، وأن نلاحظ تناغم المجموعة A بالنسبة إلى كل طائفة من الشرور. يمكن تقسيم الشرور بلحاظ المصداق إلى أربعة أقسام:
1. الشرور الميتافيزيقية أو الفلسفية: إن تلك الطائفة من الموجودات التي تعاني من نقص وجودي تعدّ مصداقًا للشرّ الميتافيزيقي والفلسفي. وبعبارة أخرى: إن جميع الموجودات الإمكانية هي مصداق للشرّ الميتافيزيقي، لأن الشرّ في هذا المعنى يُطلق على الموجود الناقص.
2. الشرّ الشعوري أو العاطفي: تلك الطائفة من الحالات المريرة التي تعرض على البشر، من قبيل: الألم والعذاب والحزن والإخفاق وما إلى ذلك من مصاديق الشرّ العاطفي.
3. الشرّ الأخلاقي: الأفعال التي لا تكون مقبولة من الناحية الأخلاقية، ويتمّ القيام بها على يد البشر، تعدّ من مصداق الشرّ الأخلاقي.
4. الشرور الطبيعية: الأحداث التي تقع في الطبيعة، من قبيل: الزلازل، والطوفان، والسيول وما إلى ذلك تعدّ من مصاديق الشرور الطبيعية.
لا شك في أن الشرور الميتافيزيقية تقع خارج دائرة بحث الشرور التي يتمّ تداولها حاليًا في فلسفة الدين. كما أن الشرور الطبيعية في حدّ ذاتها ليست شرًّا، بل هي شرّ من حيث أن وقوع هذا النوع من الحوادث الطبيعية، تثير المشاعر العاطفية من قبيل: الألم والعنت والنصَب والحزن لدى الإنسان، وإلا فما هو نوع الشر الذي ينطوي عليه الزلزال والطوفان وما إلى ذلك، بغض النظر عما إذا كان الناس موجودين أو غير موجودين؟ إن الزلزال إنما يكون شرًّا من حيث أن وقوعه يؤدّي إلى الإضرار بحياة الإنسان. وعليه فإن المهم في بحث الشرور إنما هي الشرور الأخلاقية والشعورية / العاطفية.
في هذه المرحلة يتعيّن علينا بيان التناغم بين وجود الله العالم المطلق والمحب المحض للخير والقادر المطلق وبين وجود الشرور الأخلاقية. وقد بدأ بلانتينغا استدلاله على الشكل الآتي:
«إن العالم الذي يشتمل على مخلوقات تتمتع بالاختيار على نحو ملحوظ (وتقوم بالأعمال الصالحة اختيارًا أكثر من ارتكابها للأفعال القبيحة) مع افتراض تساوي جميع الشروط، أفضل من العالم الذي لا يحتوي على أيّ مخلوق مختار. يمكن لله أن يخلق كائنات مختارة، ولكنه لا يستطيع إجبارها على اختيار الأفعال الصائبة؛ إذ في هذه الحالة لن تكون في نهاية المطاف مختارة بشكل ملحوظ، ولن تقوم بالصواب باختيارها. وعلى هذا الأساس يجب على الله من أجل أن يخلق كائنات قادرة على فعل الخير الأخلاقي، أن يخلق كائنات قادرة على ارتكاب الشر الأخلاقي أيضًا، وهو لا يمكنه أن يمنح هذه المخلوقات حرية اختيار فعل الشر، ويقوم في الوقت نفسه بمنعها من ارتكاب الشر. وللأسف الشديد كما ثبت فإن بعض مخلوقات الله أثناء ممارستهم لحرية الاختيار يقترفون الأخطاء، وهذا هو منشأ الشرّ الأخلاقي. ومع ذلك فإن حقيقة أن المخلوقات المختارة تجنح نحو الخطأ من حين لآخر، لا يُعدّ مخالفًا لقدرة الله المطلقة، ولا ناقضًا لكونه خيرًا؛ إذ لم يكن بمقدوره المنع من وقوع الشرّ الأخلاقي إلا من طريق القضاء على إمكان الخير الأخلاقي ... إن جوهر الدفاع الاختياري لهذا المدّعى هو أن الله ربما لم يكن بمقدوره خلق عالم مشتمل على الخير الأخلاقي (أو المشتمل على ذلك المقدار من الخير الأخلاقي الذي يشتمل عليه العالم الراهن) إلا من خلال خلق عالم يشتمل على الشرّ الأخلاقي أيضًا، وفي هذه الحالة قد يكون لدى الله سبب وجيه لخلق العالم المشتمل على الشرّ»
.لقد ذكر بلانتينغا إشكال التنافي بين الجبر العلّي والاختيار، وقد عمل على دفعه بحق. ثم ذكر إشكالًا آخر عن ماكي واصفًا إياه بأنه أقوى من الإشكال السابق. حيث ذكر إشكال ماكي على النحو الآتي:
«لو أن الله خلق البشر بحيث أنهم في اختياراتهم الحرّة يختارون الخير تارة والشرّ تارة أخرى، لماذا لم يتمكن من خلقهم بحيث لا يختارون إلا الخير على الدوام؟ لو لم يكن هناك أيّ منع منطقي في الانتخاب الاختياري الحر من قبل الإنسان في مورد واحد أو عدد من الموارد المختلفة، فإن الانتخاب الحرّ للخير لن يكون ممتنعًا من قبله من الناحية المنطقية في جميع الموارد. وعلى هذا الأساس فإن الله لم يكن أمام أمرين في الاختيار بين إيجاد منظومة آلية معصومة وإيجاد الكائنات المختارة التي ترتكب الخطأ أحيانًا، بل كان أمامه خيار أفضل، وهو خلق كائنات تعمل بكامل حريتها، ولكنها في الوقت نفسه لا تختار إلا فعل الخير دائمًا. ومن الواضح بداهة أن إخفاقه في الاستفادة من هذه القدرة لا يتناغم مع قدرته المطلقة، ولا ينسجم مع سلطانه القهري المطلق أيضًا»
.على نحو ما قرّره إلفين بلانتينغا فإن إشكال ماكي القائل بأن الله إذا كان قادرًا مطلقًا، فإن القيود على قدرته سوف تكون مجرّد قيود منطقية، وعلى هذا الأساس فإن قدرته المطلقة تنسجم مع العالم الذي يتحقق فيه الخير الأخلاقي من دون أيّ شرّ، وبناء على قدرته المطلقة، يكون بمقدوره أن يخلق مثل هذا العالم الممكن. ونتيجة الاستدلال هي أنه حيث كان الله هو المحب المحض للخير، فهو يخلق أفضل العوالم الممكنة ألا وهو العالم الذي لا يكون فيه أيّ شكل من أشكال الشرّ. إن الشخص الملحد يفهم من هذه النتيجة أن العالم الراهن حيث يشتمل على الشر، إذن لا يكون
هو العالم الأفضل. وعليه فإن هذا العالم لم يخلقه الله القادر المطلق ومحض المحبّ للخير، ولذلك لا يكون الله موجودًا.
وفي المقابل يذهب إلفين بلانتينغا إلى الادعاء بأن الله ليس قادرًا على خلق كل عالم ممكن، ويعود السبب في ذلك إلى اختيار الإنسان وحريته في القيام بكل فعل أو تركه، ولو تدخّل الله في العالم المشتمل على الأفعال الاختيارية للإنسان، فإن ذلك سوف يؤدّي إلى سلب الاختيار من الإنسان. ولذلك فإن بلانتينغا يدخل في بحث العوالم الممكنة، ويعمل في نهاية المطاف على توجيه البحث إلى هذه الناحية وهي أن الشخص في الأوضاع والأحوال الخاصة يمكنه أن يقوم بارتكاب الفعل أو تركه؛ بمعنى أن الشخص مختار حقًا بين الفعل والترك، وإن هذا الاختيار يعود إلى الشخص لا إلى الله. وعلى هذا الأساس لو أن الشخص في هذا البحث كان مختارًا في فعل الخير على جميع الأوضاع والأحوال، كما هو مختار في تركه، واختار فعل الشرّ، فسوف يتحقق عالم يوجد فيه الشر، وإن الله على افتراض تقريره لاختيار الشخص لا يكون قادرًا على دفعه، لأن الله لو منع من وقوع الشر، فسوف يسلب اختيار الإنسان في مثل هذه الحالة. وعلى هذا الأساس مع افتراض أن العالم كله خير ومن دون أيّ شرّ عالم ممكن؛ فحيث أن فعليته رهن بانتخاب الأفراد الذين يتمتعون بحرية الاختيار، قد لا يتحقق هذا العالم؛ وعليه يمكن أن لا يكون العالم الذي هو خير كله ولا يقع فيه أيّ شرّ، داخلًا ضمن دائرة قدرة الله. إذن يمكن لنا أن نستنتج هنا أن الله من وجهة نظر بلانتينغا غير قادر على خلق كل عالم. وقد بدأ بلانتينغا خطوته اللاحقة بهذا السؤال: هل يستطيع الله أن يخلق عالمًا مشتملًا على خير أخلاقي من دون شرّ أخلاقي؟ يجيب بلانتينغا عن هذا السؤال بالنفي. ولإثبات عدم قدرة الله على إيجاد مثل هذا العالم الممكن، يأخذ بنظر الاعتبار عالمًا يكون فيه الأشخاص متصفين بالشرّ المطلق، ويقول في تعريف الشرّ المطلق:
(372)«(33) إن الشخص P يعاني من الشرّ المطلق، اذا و فقط اذا وقعت هذه الامور ادناه؛ فإنه بالنسبة إلى كل عالم من قبيل W الذي يكون فيه P مختارًا بشكل ملحوظ، ويقوم فيه بفعل كل ما هو صحيح، وكان هناك فعل من قبيل: A وجانب كامل جدًا في عالم من قبيل: S’، بحيث
أ ـ يكون S مشتملًا على كون A ملحوظًا إلى حدّ كبير من الناحية الأخلاقية، بالنسبة إلى P.
ب ـ أن يكون S’ شاملًا لاختيار P في القيام بفعل A.
ج ـ يكونS’ مندرجًا ضمن W وليس شاملًا للقيام بـ A من قبل P، ولا امتناع P من القيام بـ A. و
د ـ لو تحقق S’ فعليًا، فإن P سوف يخطئ في القيام بـ A».
«عند التأمّل في هذا التعريف، عليك أن تتذكّر في الواقع أن (د) يجب أن يكون صادقًا في العالم الراهن، وليس في العالم W، إن المهم فيما يتعلق بمفهوم الشرارة المطلقة، هو أن الشخص إذا تعرّض لذلك، عندها لن يكون داخلًا في قدرة الله أن يمنح الفعلية والتحقق لعالم يكون فيه هذا الشخص متصفًا بالاختيار على نحو ملحوظ، ومع ذلك لا يرتكب الخطأ؛ بمعنى العالم الذي يكون هذا الشخص وحده هو منشأ الخير الأخلاقي فيه، ولكنه لا يوجد الشرّ الأخلاقي ... من الواضح أن هذا الإمكان موجود حيث يكون هناك أشخاص يتعرّضون لهذه الشرارة، ومن الممكن بشكل أعم أن يتعرّض الجميع لذلك لو بلغ هذا الإمكان مرحلة الفعلية، عندها حتى إذا كان الله قادرا مطلقا، لم يكن بمقدوره أن يخلق أيّ واحد من العوالم الممكنة التي لا تحتوي على غير الأشخاص الموجودين في الواقع [وهم موجودون حاليًا] والتي تحتوي على الخير الأخلاقي من دون أيّ شر أخلاقي؛ إذ يجب عليه
من أجل هذه الغاية أن يخلق أشخاصًا يتصفون بالاختيار على نحو ملحوظ (وإلا لما وُجد أيّ خير أخلاقي أبدًا) ولكنهم يتعرّضون للشر المطلق أيضًا، إن هذا النوع من الأشخاص في كل عالم كان بمقدور الله أن يضفي عليه الفعلية، ويكون هؤلاء الأشخاص فيه يتمتعون بالاختيار في الحيثية العملية من الناحية الأخلاقية بشكل ملحوظ، فسوف يرتكبون ولو خطأ واحدًا في الحدّ الأدنى. وعلى هذا الأساس فإن ثمن خلق عالم يكونون فيه منشأ للخير الأخلاقي، هو خلق عالم يرتكبون فيه شرًّا أخلاقيًا أيضًا»
.وفي الخطوة اللاحقة يذكر بلانتينغا هذه المسألة وهي أن الناس في هذا العالم الراهن وإن كانوا يرتكبون الشرّ المطلق، ولكن لا يزال هذا الاحتمال قائمًا وهو أن الله كان بمقدوره أن يخلق عالمًا مشتملًا على الخير الأخلاقي من دون شرّ أخلاقي؛ بمعنى أنه كان يستطيع أن يخلق بدلًا من كل واحد منا أشخاصًا آخرين لا يفعلون إلا الخير، ولو كان قد فعل ذلك، لكان بمقدوره أن يخلق عالمًا مشتملًا على الخير الأخلاقي من دون أيّ شرّ أخلاقي، وفي هذه الصورة لن تكتسب الشرور ضرورة، ولذلك فإنه يربط بحث الشرّ المطلق بمسألة الذات والذاتي. ويستنتج من هذا الارتباط وجود هذا الإمكان وهو أن الشرّ المطلق يستولي على جميع الناس. وعلى هذا الأساس فإن الشرّ المطلق من ذاتياتهم، ومن هنا لا يمكن لله أن يخلق عالمًا يقوم فيه الناس مع وجود الشرارة المطلقة ، يتمتعون بالاختيار، ومع ذلك لا يصدر عنهم غير فعل الخير دائمًا وأبدًا. وعلى هذا الأساس فإن افتراض أن الناس متصفون بالشرارة المطلقة إنما يمكنه أن يخلق ـ من خلال إيجاد أشخاص يتمتعون بالاختيار ـ عالمًا يحتوي على الخير الأخلاقي، وحيث أن كل شخص في الافتراض المذكور يمتلك القدرة على ارتكاب الشرّ المطلق، فإنه سوف يرتكب بعض الشرور
في الحدّ الأدنى، وحيث أن الشرور المطلقة من ذاتياتهم، فإن الله في الفرض المذكور لا يستطيع أن يخلق عالمًا مشتملًا على الخير الأخلاقي من دون شرّ أخلاقي. وعلى هذا الأساس من الممكن أن لا يستطيع الله أن يخلق عالمًا مشتملًا على الخير الأخلاقي من دون شرّ أخلاقي. وفي الخطوة الأخيرة ينتقل بلانتينغا في الدفاع عن الاختيار إلى الاستدلال على النحو الآتي:
«لا بدّ من التذكير بأن غاية دفاع مذهب الاختيار عن البيان الصوري هو أن يثبت أن القضية (1) إن الله عالم وقادر مطلق ومحب محض للخير، تنسجم مع القضية (3) الشرّ موجود. إن الذي وجدناه حتى الآن هو أن القضية (35) لا تدخل ضمن قدرة الله؛ بحيث يخلق عالمًا يشتمل على خير أخلاقي دون شرّ أخلاقي.
قضية ممكنة ومنسجمة مع قدرة وعلم الله المطلق. ولكن في هذه الصورة من الواضح أن هذا القضية سوف تنسجم مع (1). وعلى هذا الأساس يمكن الاستفادة من هذه القضية لإثبات انسجام القضية (1) مع (3)، إذ يمكن أخذ هذه القضايا بنظر الاعتبار:
(1) إن الله قادر وعالم وخير مطلق.
(35) إن الله لم يكن قادرًا على أن يخلق عالمًا مشتملًا على خير أخلاقي من دون خلق عالم مشتمل على الشرّ الأخلاقي.
(36) إن الله قد خلق عالمًا مشتملًا على خير أخلاقي.
من البديهي أن هذه القضايا منسجمة؛ بمعنى أن التركيب العطفي لها عبارة عن قضية ممكنة، ولكن حتى لو أخذت هذه القضايا مع بعضها، سوف تنتج القضية (3)، وهي أن الشر موجود.
وذلك لأن القضية (36) تثبت أن الله قد خلق عالمًا مشتملًا على الخير الأخلاقي.
وهذه القضية بالإضافة إلى القضية (35) تنتج أن الله قد خلق عالمًا مشتملًا على الشرّ الأخلاقي، ولكن إذا كان العالم المذكور مشتملًا على شرّ أخلاقي، عندها سوف يكون مشتملًا على الشرّ. وعلى هذا الأساس فإن القضية (1) مع القضية (35) و(36) منسجمة مع بعضها، وتنتج القضية (3)، وبالتالي سوف تكون القضية (1) منسجمة مع القضية (3)، وتصبح المجموعة A متناغمة. ولا بدّ من التذكير بأنه ليس من اللازم إحراز صدق القضية (35) و(36) ليتمّ استعمالهما في هذا البرهان، أو يتمّ احتمالهما بشكل قوي أو شيء من هذا القبيل، بل من الضروري أن تكون متناغمة مع القضية (1) فقط، ولذلك لا يوجد أيّ تناقض في المجموعة A، وبذلك يبدو أن دفاع المذهب الاختياري قد حقق نجاحًا»
.إن بلانتينغا في الاستدلال أعلاه يعمل أولًا على إخراج العالم ـ الذي توجد فيه الأفعال الاختيارية للإنسان من حيث أنها ترتبط بهم مباشرة ـ من دائرة قدرة الله. إن عبارة بلانتينغا هنا أشبه بكلمات بعض المتكلمين الإسلاميين وهم المعروفون بالمفوّضة. إن الله في ضوء رأي المفوّضة قد فوّض أفعال الناس الاختيارية إليهم، ولم يعد له أيّ تأثير فيها.
وخلافًا لهم يذهب الأشاعرة إلى القول بالجبر، ولا يرون للإنسان أيّ تأثير في أفعاله. يمكن القول على الرغم من أن عبارة بلانتينغا منسجمة مع القول بالتفويض، بيد أن الذي يكفي لاستدلاله هو نفي الجبر عن الناس والقول باختيارهم، والذي تمّ بيانه تحت عنوان «الأمر بين الأمرين» في مذهب أهل البيت، إذ أن الذي يشكّل النواة المركزية لاستدلاله هي الإرادة الحرّة واختيار الإنسان في أفعاله، ولا فرق بين أن تكون إرادته مؤثرة بشكل تام أم لا.
هذا كل ما كان يحتاج إليه بلانتينغا، وهذا المقدار بدوره هو الذي يكفي لتناغم المجموعة A، ولكنه حيث وجد نفسه عالقًا أمام إمكان الأشخاص المعصومين الذين يختارون الأعمال الصالحة دائمًا، رأى الحل في بيان نظرية الشرّ المطلق، وسعى إلى إثبات الإمكان الذاتي لها بالنسبة إلى الناس، وبذلك يعتبر دفع الشرور غير مقدور لله من الناحية المنطقية.
يبدو أن طريقة الحلّ المذكوره من قبل بلانتينغا مرفوضة، وذلك لأن نظرية الشرور المطلقة للإنسان تتناقض مع اختياره؛ وذلك لأن الإنسان المختار هو الشخص الذي يكون قادرًا في مختلف الشرائط والظروف على القيام بالفعل أو تركه. لنفترض أن الشخص في هذا العالم الممكن إنما يمكنه القيام بفعل واحد فقط بشكل اختياري، فإذا كان مختارًا في ذلك، فإنه من الناحية العقلية سوف يكون قادرًا على القيام بذلك الفعل أو تركه، وعليه فإن الشخص المختار بالنسبة إلى ذلك الفعل الواحد سوف يكون أمام عالمين ممكنين، ولو أن ذات هذا الشخص كان مختارًا في القيام بفعلين، فسوف يواجه أربعة عوالم ممكنة، ويمكن بيان هذه العوالم الأربعة على النحو الآتي:
1. العالم الممكن الذي يقوم فيه بكلا الفعلين.
2. العالم الممكن الذي يترك فيه كلا الفعلين.
3. العالم الممكن الذي يقوم فيه بالفعل الأول وترك الفعل الثاني.
4. العالم الممكن الذي يقوم فيه بالفعل الثاني وترك الفعل الأول.
وإذا كان هذا الشخص مختارًا في القيام بثلاثة أفعال، فسوف يواجه ثمانية عوالم ممكنة. ففي أحد العوالم الممكنة يختار القيام بجميع الأفعال الثلاثة، وفي عالم ممكن آخر يترك جميع الأفعال الثلاثة، وفي العوالم الممكنة الستة الأخرى يختار فعل
بعض الأفعال وترك بعض الأفعال الأخرى. وإذا كان الشخص مختارًا تجاه أربعة أفعال، فسوف يكون أمام ستة عشر عالمًا ممكنًا. وإذا كان بشكل عام مختارًا تجاه n من الأفعال، فسوف يواجه 2n من العوالم الممكنة، بحيث يقع في طرف من هذه العوالم الممكنة، عالم ممكن حيث يقوم الشخص بكل n من الأفعال، وفي الطرف الآخر يقوم بترک کل n من الافعال ، وبين هذين العالمين الممكنين هناك عوالم ممكنة يقوم فيها عدد من n الفعل، وبعضهم الآخر يقوم بتركه. وعلى هذا الأساس فإن كل شخص مختار بلحاظ مقدار اختياره يواجه 2n من العوالم الممكنة، وبين 2n من العوالم الممكنة هناك عالم ممكن حيث يقوم الشخص بأفعال الخير فقط، ويتم افتراض عالم ممكن آخر ترتكب فيه أفعال الشر فقط. وعلى هذا الأساس فإن الشرّ المطلق ـ في ضوء التعريف الذي يقدّمه بلانتينغا ـ يعني أن الشخص في كل واحد من العوالم الممكنة؛ بمعنى أنه في كل واحد من 2n من العوالم الممكنة يرتكب في الحدّ الأدنى فعلًا قبيحًا واحدًا، وهذا تناقض؛ إذ من جهة لا يقوم الشخص في أحد العوالم الممكنة بأي عمل خاطئ أبدًا؛ بمعنى أن شرارته في هذا العالم الممكن لا تصل إلى مرحلة الفعلية، ومن ناحية أخرى نفترض أنه يحتوي على شرّ مطلق في كل عالم ممكن؛ بمعنى حتى في ذلك العالم الذي لم يصل فيه شرّه إلى مرحلة الفعلية يحتوي على شرّ مطلق، ويكون قد ارتكب فعلًا قبيحًا واحدًا في الحدّ الأدنى. ومثار العجب هو أن بلانتينغا من جهة يقبل بأن الشخص إذا كان يتصف بالشر المطلق، فإنه يرتكب الخطأ في كل عالم ممكن، ومن ناحية أخرى يرى إمكان أن يكون الناس في عالم معصومين من الخطأ، ومن ناحية ثالثة لا يرضى بالجمع بين هذين العالمين. ومن هنا فإنه يستنتج أن العالم الممكن الذي يخلو من جميع أنواع الشرّ غير مقدور لله. في حين إذا كان الجمع بين الأمرين الممكنين ممكنًا في حدّ ذاته، فلماذا لا يكون مقدورًا لله؟ إن الجمع بين الأمرين الممكنين إنما يكون مستحيلًا إذا كان مستلزمًا للتناقض،
وحيث يكون هناك تناقض، لا يكون مقدورًا لله، لا من حيث أنه أمر ممكن. ومن هنا فإنه مع افتراض اختيار الإنسان، لا يمكن اعتبار الشر المطلق ذاتيًا في الإنسان.
وعلى هذا الأساس مع افتراض إمكان عالم يكون فيه الناس معصومون من الناحية الأخلاقية، فإن الجواب الذي يجب تقديمه إلى ماكي هو أن نلتفت إلى أننا في مسألة الشرور لا ينبغي أن نذكر افتراضًا ممكنًا يستلزم حذف الكثير من الموجودات أو حذف نوع من الموجودات من دائرة الوجود. إن البحث في مسألة الشرور لا يكمن في أن الله لماذا لم يخلق مجرّد عدد قليل من الأشخاص المعصومين بدلًا من خلق ما يزيد على سبعة مليارات إنسان، بل البحث يدور حول ما إذا كان بمقدور الله بخلقه لهذا العدد من الأشخاص الموجودين حاليًا أن يضفي الفعلية من الناحية المنطقية على عالم لا يكون فيه شرّ. كما ذكرنا فإن كل شخص في أحد العوالم الممكنة إنما يقوم بأفعال الخير فقط. وعلى هذا الأساس فإن افتراض عالم ممكن بحيث يقوم فيه جميع الناس بأفعال الخير فقط، ولا يصدر عنهم أيّ شرّ، أمر ممكن. ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أن هذا العالم الممكن كما هو رهن بخلق الله، كذلك هو رهن باختيار الناس وإرادتهم الحرّة أيضًا؛ بمعنى لو أن جميع الأشخاص قد انتخبوا الخير في اختيارهم، عندها سوف يتحقق هذا العالم، وأما لو عمد شخص واحد في الحدّ الأدنى إلى اختيار ارتكاب شرّ بدلًا من ذلك، فسوف لا يوجد عالم لا يحتوي على شرّ، بل سوف تكون فعليته ممتنعة؛ إذ لم يُكتب التحقق لعلّته التامّة. بل على العكس من ذلك سوف يتحقق عالم يوجد فيه الشر؛ لأن علته التامّة قد بلغت مرحلة الفعلية. وعلى هذا الأساس فإنه في الفرض المذكور؛ أي في فرض اختيار الشر بواسطة شخص واحد، لن يكون الله قادرًا على خلق عالم لا يوجد فيه أيّ شر ويكون الناس فيه مختارين، وإن عدم القدرة هذه إنما يعود سببها إلى امتناع هذا النوع من العالم المفترض، لا إلى عدم قدرة الله. وبعبارة أخرى: إن العالم الذي لا
يوجد فيه أيّ شرّ ممكن الوجود في حدّ ذاته، وإن كل ممكن الوجود يكون مع وجود علته التامّة واجب الوجود بالغير، ومع عدم وجود علته يكون ممتنع الوجود بالغير، وإن القدرة إنما تتعلق بالممكن دون الممتنع سواء أكان امتناعه ذاتيًا أو غيريًا. وعلى هذا الأساس فإن العالم الذي يوجد فيه شرّ أخلاقي؛ من حيث أن شرّه يستند إلى الاختيار الحرّ للإنسان يصبح ضروري الوجود، وإن العالم الذي يحتوي على الخير من دون شرّ يكون ممتنعًا بسبب عدم تحقق علته التامّة، وعليه فإن العالم الذي يحتوي على الشرّ لا يتنافى مع وجود الله العالم مطلقًا والقادر مطلقًا ومحض المحبّ للخير.
لنعد الآن إلى الأسئلة التي أثارها ماكي. لقد كان سؤاله هو: لماذا خلق الله الناس بحيث يعمدون في اختياراتهم الحرة، إلى اختيار فعل الخير أحيانًا وفعل الشرّ أحيانًا؟ ولماذا لم يخلقهم بحيث يختارون الخير دائمًا؟
في الجواب عن هذا السؤال يجب القول: من الممكن أن يكون الله قد خلق الناس بحيث يمكنهم اختيار فعل الخير أبدًا، ولكنهم حيث كانوا أحرارًا في اختيارهم، سوف يكون بمقدورهم على الدوام اختيار الخير أو الشر، أو يختارون الخير تارة ويعملون على ترجيح الشرّ تارة أخرى. أجل، يمكن القول إن الله كان بمقدوره أن لا يخلق الناس ولا يكتسب الشرّ الأخلاقي فعلية، وفي هذه الصورة سوف تتحقق الفعلية لعالم لا يوجد فيه أيّ شرّ أخلاقي، بيد أن هذا الإمكان سوف يكون على حساب حذف الأشخاص المختارين من دائرة الوجود، ومثل هذا الافتراض خارج عن المسألة مورد النظر في بحث الشرور.
وعلى هذا الأساس كما لا يمتنع من الناحية المنطقية أن يختار جميع الناس فعل الخير باختيارهم، كذلك لا يمتنع من الناحية المنطقية أن يختار جميع الناس أو بعضهم فعل الشر باختيارهم أيضًا. وكما أنه باختيار فعل الخير سوف يكون وجود الخير
(380)ضروريًا، ومن خلال اختيار فعل الشرّ يكون وجود الشر ضروريًا أيضًا؛ بمعنى أن الشخص إذا اختار الشر فسوف يكتسب الشرّ فعلية، وإن الله مع افتراض منح حرية الاختيار إلى الشخص لا يمكنه أن يحول دون اختياره.
قد يُقال إن وجود الشر الأخلاقي ضروري في العالم، بيد أن يكون مقداره على ما هو عليه حاليًا فلا ضرورة له أبدًا؛ بمعنى أنه من الممكن أن يكون عالمًا يكون فيه الخير الأخلاقي أكثر من الخير الأخلاقي الموجود في العالم الراهن. وعلى هذا الأساس فما هي الضرورة التي تحتّم أن يكون مقدار الشر في هذا العالم بهذا المقدار الذي يصيب الناس بالفعل.
يجب القول في الجواب: إن الشرّ الأخلاقي يستند إلى الفعل الاختياري للإنسان، كما أن العالم الذي لا يوجد فيه أيّ شر أخلاقي عالم ممكن، ولكن بسبب اختيار الشرّ بواسطة الإنسان يتحوّل هذا الإمكان إلى الامتناع بالغير. وكذلك الأمر بالنسبة إلى مقدار الشرّ الذي يكون أقل من الشر الموجود في العالم الراهن هو الآخر أمر ممكن، ولكن بسبب اختيار الشرّ الأكثر بواسطة الإنسان يصبح العالم المشتمل على الشرّ الأقل ممتنعًا، كما أن العالم الذي يحتوي على شرّ أكثر من الشرّ الموجود في العالم الراهن أمر ممكن، ولكن بسبب عدم فعلية العلّة التامّة له ـ والذي تكون إرادة الإنسان الحرّة واحدة من أجزاء تلك العلّة التامة ـ فإنه بدوره لا يكتسب الفعلية ويصبح ممتنعًا بالغير. وعلى هذا الأساس فإن العالم الذي يحتوي على شرّ أخلاقي أقل أو أكثر من العالم الراهن، عالم ممتنع. ولهذا السبب فإنه لا يكون متعلقًا لقدرة الله، وإن العالم الراهن بمقدار الشر الموجود فيه حيث يكون متعلقًا لإرادة الإنسان الحرّة، لا يكون متعلقًا لقدرة الله ويكون ضروري الوجود.
(381)قلنا إن الشرور الطبيعية، من قبيل: الطوفان والزلازل والبراكين والسيول هي في حدّ ذاتها ليست شرورًا، وإنما الذي يكون شرًّا هو الألم والعنت والحزن والغم الذي ينشأ بسبب هذه الشرور الطبيعية. يمكن للفيلسوف الملحد هنا أن يحشد قواه الفكرية ويعمل على توجيه الاستدلال من الشرور الأخلاقية إلى الشرور الشعورية ـ العاطفية، وهي الشرور التي لا تكون معلولة لاختيار البشر، ولا تعدّ ـ بحسب المصطلح ـ شرًّا أخلاقيًا. وقد يقول هذا الفيلسوف الملحد: إذا كان الله قادرًا مطلقًا ومحبا محضا للخير، وكان عالمًا مطلقًا؛ إذن يتعيّن عليه الحيلولة دون وقوع هذا النوع من الشرور، وهي الشرور التي لا يكون للإنسان دخل في حدوثها.
يبدو أنه من الضروري الالتفات هنا إلى بعض النقاط:
أولًا: إن بعض الشرور الشعورية ـ العاطفية معلولة لإرادة الإنسان الحرّة، وليست معلولة للشرور الطبيعية. إن الشخص الذي يقتل شخصًا آخر، إن الشرّ الأخلاقي فيه يكون علّة للشرّ الشعورية ـ العاطفية.
وثانيًا: قد يكون بعض الشرور الشعورية - العاطفية أو بعض الشرور الطبيعية التي تكون منشا للشرور الشعورية ـ العاطفية، معلولة للشرور الأخلاقية. ومن هنا لا يمكن نفي الإمكان العقلي لهذا الاحتمال بأيّ وجه، وذلك بالقول: حيث إن الناس مذنبون فإن الله جعل الزلزلة والطوفان وما إلى ذلك جزاء على أعمالهم.
وثالثًا: قد تكون بعض الشرور من لوازم الموجودات الطبيعية والجسّمانية؛ وذلك لأن الأجسام تؤثر في بعضها بشكل طبيعي أو تتأثر ببعضها، وقد يؤدّي هذا التأثير والتأثر إلى استلزام الشرور الشعورية ـ العاطفية. وعلى هذا الأساس فإنه بالنظر إلى ما تقدّم من النقاط، قد تكون الشرور التي تؤدّي إلى إيذاء الناس معلولة
(382)لسوء اختيارهم أو معلولة لشرورهم الأخلاقية أو معلولة للتأثير والتأثر الطبيعي بين الموجودات الطبيعية والجسمانية. وعلى جميع هذه الأحوال الثلاثة، لا تكون الشرور الشعورية ـ العاطفية منسجمة مع وجود الله العالم المطلق والقادر المطلق والمحب المحض للخير؛ ولذلك تكون الشرور الشعورية ـ العاطفية بسبب هذه الاحتمالات من الأمور الضرورية في العالم.
(383)إن هذا البحث هو في الواقع عبارة عن دراسة لمسألة الشر برؤية مختلفة، ولذلك فقد أفردنا له فصلًا مستقلًا في هذا الكتاب.
«هناك بحث شهير للأستاذ أي. فلو تحت عنوان [اللاهوت والبطلان
] حيث يعمل فيه على توظيف حكاية مفادها: أن هناك رجلين يتجادلان حول مزرعة فيها الكثير من النباتات والأزهار، ويقول أحدهما: هناك زارع يأتي ويرعى هذه المزرعة، بينما الآخر يُنكر ذلك. كلاهما لا يرى الزارع أبدًا ولا يسمعان له صوتًا، ولا يقتفيان له أثرًا حتى من خلال الاستعانة بكلاب الصيد والمطاردة، ولا يتمكنان من الإيقاع به حتى بعد إحاطة المزرعة بالأسلاك الشائكة وربطها بالمجسّات الكهربائية. ومع ذلك كله يبقى المعتقد بوجود الزارع على إصراره ويستمرّ في الاعتقاد بوجود (زارع غير مرئي، ولا يمكن لمسه، ولا يمكن للكهرباء أن تصعقه، ولا يترك أثرًا وراءه، ولا يثير صخبًا عند مجيئه خفية ليرعى المزرعة الجميلة التي يحبّها جدًا). ويجيب المنكر: ما هو فرق هذا الزارع عن الزارع الموهوم والمعدوم؟ إن شبه هذا [الاعتقاد بوجود هذا الزارع] بالاعتقاد بوجود الإله الرؤوف الذي يحكم هذا العالم المشتمل على كل من الخير والشر، شبه واضح.يُنبّه فلو إلى «أن الادعاء بأن الوضع على هذه الشاكلة بالضرورة، يتماهى مع إنكار أن الوضع ليس على هذه الشاكلة» (وقد كتب في الهامش: إن مرادي هو أن P
من حيث المادة يتساوى مع «لالا P»؛ بمعنى أن له ذات القيَم المنطقية الموجودة في «لالا P»). ثم يستنتج من هذا المطلب أنه «إذا لم يكن هناك شيء ينكر الكلام الذي هو علی الاظهر ادعاء، ففي مثل هذه الحالة لا يكون هناك كذلك شيء يدّعيه هذا الكلام، وعلى هذا الأساس لا يكون الكلام المذكور في الحقيقة ادعاء». ومن هنا يجب على المؤمنين أن يستعدوا إلى الإجابة عن هذا السؤال القائل: «ما الذي يجب أن يقع أو ما الذي وقع حتى يكون بالنسبة لك برهانًا على نفي رحمة الله أو دليلًا على نفي وجود الله؟». ولكن يبدو أن الحكم النهائي والقطعي في حقل الاعتقاد الديني هو أن المؤمنين لن يتخلوا عن هذا الاعتقاد على جميع الأحوال. وعليه فإن الاعتقاد إما أن لا يقبل البطلان وعليه يكون بلا معنى، أو قابلًا للبطلان وعليه لا يكون دينيًا»
.في سياق الاستدلال يجب القول: إن الإله المقبول في الأديان التوحيدية، هو الإله الرؤوف والرحيم، وحيث أن الإله الرحيم الذي يكون قابلًا للبطلان ويكون في الوقت نفسه دينيًا، غير قابل للإثبات. وكذلك فإن الإله غير القابل للبطلان بسبب عدم مفهوميته غير قابل للقبول، وعليه فإن إله الأديان التوحيدية غير قابل للإثبات.
إن هذا الاستدلال في الواقع يمثّل قراءة أخرى لمسألة الشرّ مع التأكيد على مسألة إمكان الإبطال وعدم إمكان الإبطال. وقبل نقد وبحث هذا الاستدلال لا بدّ من التذكير ببعض النقاط:
1. إن بيان هذا الإشكال المذكور حول «رحمة الله» هل هو ذات مسألة الشرّ أم لا، يعود سببه إلى أنه في مسألة الشر يتمّ الالتفات إلى حبّ الله للخير، وأن الموجود
المحبّ للخير إنما هو محبّ للخير بسبب رحمته؛ وذلك لأن الموجود الرحيم إذا لم يكن محبًّا لخير الإنسان، عندها لن يكون هناك ما يفرض عليه القيام بالمنع من حدوث الشرور.
2. كما سبق أن ذكرنا في «الصفات الأخرى لله» على نحو الإجمال، وفي الفصل السادس على نحو التفصيل، أن صفة حبّ الله للخير لا تكفي لتشكل مسألة الشرّ مشكلة بالنسبة إلى المعتقدين به، بل لا بدّ من أخذ علمه المطلق وقدرته المطلقة بنظر الاعتبار أيضًا. وهنا لا بدّ كذلك من أخذ رحمة الله مع علمه المطلق وقدرته المطلقة بنظر الاعتبار أيضًا، ثم العمل بعد ذلك على بيان المشكلة، وذلك لأن الله إذا لم يكن عالمًا بشر، أو حتى أن يكون عالمًا به ولكنه غير قادر على منعه، عندها لن تجدي رحمته شيئًا.
3. إن الافتراض المستتر في المسألة هو أن رحمة الله، وإمكان البطلان الإلهي، عبارة عن محدودية حياة الناس بالحياة الدنيوية، وكأنه لم يرد في الأديان التوحيدية كلام عن الآخرة، والارتباط الوثيق بين الأعمال الإنسانية في الحياة الدنيوية والحياة الأخروية. وعلى هذا الأساس لو واجه الإنسان الكثير من المشاكل في عالم الدنيا، علينا أن لا نستبق الأحداث ونستنتج مباشرة أنها حيث تشكل بؤسًا للإنسان فهي شرّ إذن؛ وذلك لأن هذا الأمر يُشبه قولنا: إن اشتمال الرحم على الجنين يمثّل شرًّا بالنسبة إليه، دون أن نأخذ مرحلة ما بعد ولادته وخروجه إلى الدنيا بنظر الاعتبار.
4. إن مشكلة رحمة الله إنما تبدو مشكلة بالنسبة إلى فلاسفة الدين من حيث تجاهلهم المقصود أو غير المقصود لبعض صفات الله المذكورة في الأديان التوحيدية. إن الله كما هو رحيم فهو شديد العقاب أيضًا، وإن كانت رحمة الله في الثقافة الإسلامية متقدمة على غضبه، كما ورد في بعض الروايات: «يا من سبقت رحمته غضبه». وعلى
كل حال فإن الله قد خلق جنة وخلق نارًا أيضًا، ولذلك لا يمكن أن نستنتج من رحمته مباشرة ونقول: إذن لا يتحقق هناك أيّ شر. أو على العكس لا أن نستنتج من وجود الشرّ أن الله قد غضب على شخص؛ إذ من الممكن أن يكون إيصال الشر في الدنيا مقدمة لخير عظيم سوف يحصل عليه الشخص لاحقًا، ومن هنا يجب على السالك إلى الله أن يكون في الثقافة الإسلامية أبدًا بين الخوف والرجاء؛ بمعنى أن يرجو رحمة الله ورأفته، وأن يخشى ولا يرى نفسه في مأمن من غضب الله ونقمته.
5. إن الأعمال التي يقوم بها الإنسان في الدنيا تؤدّي إلى حدوث آثار إيجابية أو سلبية في حياته. إن هذه الأعمال بناء على كونها صالحة أو طالحة، يُطلق عليها في الثقافة الإسلامية مصطلح جزاء العمل في الدنيا.
6. يمكن تقديم تفسيرين لتقدّم رحمة الله على غضبه:
التفسير الأول: إن الله سبحانه وتعالى كما يتصف بالرحمة على العباد، ويدفع عنهم بعض المآسي رأفة بهم، فإنه يتصف في الوقت نفسه بصفة أخرى تستوجب منه كلما ارتكب الإنسان أفعالًا قبيحة غضب الله عليه، ولكن على الرغم من اتصاف الله بهاتين الصفتين في عرض واحد، إلا أن صفة الرحمة تتقدّم على صفة الغضب، وفي المجموع فإن رحمته تتغلب على غضبه. وفي الواقع فإن كل حادثة مريرة تقع للشخص إما أن تنشأ من مبدأ غضب الله أو من منشأ رحمته، وإن كان الإنسان حيث لا يحيط علمًا بكل شيء ويجب أن يكون بين الخوف والرجاء، ربما لا يستطيع تحديد ما إذا كانت الحادثة قد وقعت له بسبب رحمة الله عليه أو غضبه منه.
التفسير الثاني لتقدم رحمة الله على غضبه: هو أن كل فعل يعرض على الإنسان إنما يكون من منطلق الرحمة به، حتى إذا كان الله غاضبًا عليه.
بعد بيان هذين التفسيرين ومقبوليتهما، يجب علينا القول: إن الذي يؤدّي إلى
إشكال فيما يتعلق بمسألة رحمة الله، ويستوجب بحث قابلية البطلان في البين هو التفسير الأول دون التفسير الثاني، على الرغم من أن الرحمة من زاوية أخرى طبقًا للتفسير الثاني تبتلي بذات الإشكال الأول؛ أي من الممكن القول: لو كان كل بؤس يعرض على الإنسان ناشئًا ـ في ضوء التفسير الثاني للرحمة ـ من رحمته العامّة، عندها لا يمكن اعتبار رحمته قابلة للبطلان.
بعد بيان التذكيرات اللازمة، ندخل في تقرير المحور الأصلي للاستدلال. قلنا في هذا الاستدلال إن المعتقد إما أن يكون قابلًا للبطلان ومن دون معنى (المعتقدات الدينية)، أو غير قابل للبطلان وله معنى (المعتقدات غير الدينية). ولكي يكتسب هذا الاستدلال صورته المنطقية، نذكّر بأن القضية إما أن تكون تحليليلة وطوطولوجية أو تأليفية. وحيث أن القضايا التحليلية بحسب الادعاء ليست ناظرة إلى الواقع، فإنها خارجة عن محل بحثنا، ولذلك يقول هادسون في توضيح استخراج مقدمات الاستدلال:
«يمكن لنا أن نفعل شيئًا بحيث تكون قضية «إن الله يرأف بنا» ـ في ضوء التعريف ـ قضية صادقة. لو تمّ تعريف كلمة «الله» بأنه «الشخص الذي يرأف بنا»، عندها سوف تكون قضية «إن الله يرأف بنا» قضية طوطولوجية، وإن إنكار أن الله يرأف بنا سوف يكون متناقضًا. بيد أن النقطة تكمن هنا وهي أن المؤمنين يدّعون لمعتقداتهم صدقًا أكثر من الصدق المنطقي، وحيث أن الأمر كذلك، يجب عليهم أن يثبتوا صدق معتقداتهم بشيء أكثر من التمسّك بتعريف لفظ «الله»»
.وعلى هذا الأساس فإن قضية «إن الله رحيم» قضية تأليفية، وليست تحليلية أو شبه تحليلية. وإذا كانت القضية أعلاه تأليفية، فإنها إنما تكون قابلة للبطلان وذات
معنى فيما لو تمّ بيان ما هو الشيء الذي يؤدّي إلى إثبات أن رحمة الله، وما هو الشيء الذي يؤدي إلى رفض رحمة الله.
إن استدلال فلو هو أن المؤمن بالله إذا أراد أن يكون مؤمنًا، لا يمكنه أن يرسم صورتين، يكون الله في إحداهما رحيمًا وفي الأخرى غير رحيم؛ وذلك لأن الله على كل حال وفي جميع الأوضاع والظروف رحيم، وإذا تمّ افتراض أن الله في بعض الصوَر والحالات رحيم وفي بعضها الآخر غير رحيم، وإن كان قد رضخ لقابلية البطلان، ولكن هذا يكون على حساب فقدانه لإيمانه؛ لأن المؤمن لا يستطيع التخلي عن معتقده الديني.
ومن أجل بحث ونقد هذا الاستدلال، سوف نقوم بتحليله على كلتا الصورتين؛ التحليلية أو التأليفية:
أ. إذا كانت قضية «إن الله رحيم» قضية تحليلية أو شبه تحليلية، هل سنكون قد خرجنا عن محل البحث؟ صحيح أن القضايا التحليلية ليست ناظرة إلى المصداق بحسب الظاهر، إلا أن هذا الكلام لا يعني أنها ليست ناظرة إلى المصداق في جميع الظروف؛ من ذلك ـ مثلًا ـ لو تماهينا مع الوضعيين المنطقيين في قولهم إن جميع المسائل الرياضية تحليلية، فهل يعني ذلك أن هذه الأحكام ليست ناظرة إلى المصداق؟ لنفترض أن لدينا مثلثًا في الخارج، فهل يمكن لنا القول بأن مجموع زواياه لا تساوي زاويتين قائمتين؟ إذا كان التساوي مع زاويتين قائمتين يحصل من تحليل المثلث، فإن كل مثلث خارجي في حالة إثبات وجوده سوف يشتمل على هذه الأحكام. وبطبيعة الحال فإن القضية التحليلية لا تعمل على إثبات وجود موضوعها، ولكن لو أقيم استدلال معقول، ففي هذه الصورة سوف يكون المحمول ضروريًا بالنسبة إلى الموضوع، وفي هذه الحالة يكون الحكم ناظرًا إلى المصداق. وعلى هذا الأساس لو
(390)تمّ إثبات وجود الله، وكانت رحمة الله بناء على التعريف أو شبه التعريف جزءًا من مفهوم الله، ففي مثل هذه الحالة سوف تكون رحمة الله ضرورية. إذن يمكن القول بأن رحمة الله في عين ضرورتها المنطقية، يمكن أن تكون لها ضرورة عينية أيضًا؛ وذلك لأن كل ضرورة منطقية فيما لو تمّت البرهنة على وجود الموضوع، سوف تكون ضرورة عينية أيضًا. وعليه يمكن الادعاء بأن المتدينين يمكنهم ادعاء رحمة الله بوصفها ضرورة عينية، وهي ضرورة تمثّل انعكاسًا للضرورة المنطقية.
إن احتمال أن تكون القضية آنفة الذكر شبه تحليليلة، يرد من حيث أن الله إذا كان اسمًا خاصًّا وعلمًا، فإن حمل الأوصاف عليه لن يكون تحليليًا، بل هو في الواقع تأليفي، إلا أنه من التأليفيات الضرورية وفي حكم التحليلية، ولذلك فإننا نتحدّث عنها بوصفها شبه تحليلية، وإلا فإنه لا توجد واسطة بين التحليلية والتأليفية.
ب. إذا لم تكن القضية أعلاه تحليلية أو شبه تحليلية، بل كانت تأليفية اعتيادية، يجب حتى على هذا الافتراض إيضاح معنى قابلية البطلان وعدم قابلية البطلان أيضًا. كان الوضعيون يقولون: إن كل قضية تحليلية ضرورية، وإن القضية التحليلية في الأساس تعني القضية الضرورية، وبقرينة المقابلة تكون كل قضية تأليفية قضية إمكانية. وعلى هذا الأساس لا يمكن للقضية التأليفية أن تكون قضية ضرورية، وإن كان من الممكن أن يكون هناك محمول ثابت للموضوع دائمًا، بيد أن افتراض ان الموضوع یحتوي على المحمول غیر مرفوض ؛ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن جميع الغربان سود، ولم يُرَ غرابًا أبيض أبدًا، ومع ذلك لا يكون افتراض تحقق وجود الغراب الأبيض غير ممكن. وفي البحث مورد النقاش من الممكن أن يكون الله رحيمًا منذ الأزل وإلى الأبد، بيد أن عدم رحمته لا ينطوي على امتناع منطقي، في حين أن المؤمن بالله لا يستطيع الاعتقاد بأن الله لا يكون رحيمًا في افتراض أو صورة خاصّة. فهو يرى أن الله رحيم ورؤوف دائمًا وأبدًا، وعليه فإن القضية التأليفية إذا
(391)أريد لها أن تكون ذات معنى، فيجب أن تكون قابلة للبطلان. يكمن إشكال هذه النظرية في أن نفيها لضرورة تأليفية القضية المتقدّمة، خلافًا لإيمانوئيل كانط الذي كان يقبل بتأليفية القضية الضرورية المتقدّمة، ولكن على كل حال يجب علينا في كل تعريف نقدّمه للتحليلية إما أن نقبل بأن لدينا قضية تأليفية متقدّمة، أو أن نعتبر القضية أعلاه وأمثالها هي الأخرى قضية تحليلية أو شبه تحليلية. بعبارة أخرى: إما أن نقبل بأن جميع الأحكام الضرورية للمثلث تحليلية، وفي هذه الحالة تكون القضية أعلاه وأمثالها تحليلية أيضًا؛ إذ لو كان كل حكم في الرياضيات يتمّ إثباته بالبرهان قضية تحليلية، يجب علينا القبول بأن كل حكم في أيّ علم ـ سواء في الفلسفة أو في غير الفلسفة مما يتم إثباته بالبرهان ـ قضية تحليلية أيضًا؛ وذلك لأن المباني الأصلية للبرهان في الرياضيات وفي العلوم البرهانية الأخرى مشتركة، وهي عبارة عن أصل امتناع التناقض وأصل الهوهوية.
إن الاحتمال الآخر في القابلية على البطلان هو أن تكون القضية التأليفية الضرورية مقبولة، ولكن يمكن بيان أوضاع وأحوال يكون الحكم فيها ثابتًا، أو أن نعمل على بيان أوضاع وأحوال لا يكون الحكم فيها ثابتًا، بيد أن هذه الأوضاع والأحوال تكون ممتنعة بسبب وجود جهات أخرى. لنفترض أن كتابتي أثناء الكتابة مع توفّر جميع عللها التامة ضرورية، ولكن يمكن لنا افتراض أن واحدًا من العلل التامة للكتابة لم يكن متحققًا؛ ففي مثل هذه الحالة لا تتحقق الكتابة، ولكن مع توفّر العلّة التامّة لا يكون عدم تحقق المعلول ممكنًا.
وعلى هذا الأساس يتمّ تنظيم الاستدلال على النحو الآتي، وهو أنه على فرض الاعتقاد بوجود الله، فإن كل حادثة تقع للإنسان ـ سواء أكانت تجلب له السعادة أو التعاسة ـ لا يمكن وصف الله بعدم الرحمة، ولكن لا من جهة أن الله رحيم دائمًا وضرورة، بل من حيث أنه لا يمكن تصوّر حالة يكون فيها الله ـ على فرض المحال ـ ليس رحيمًا.
(392)في معرض الجواب عن هذا الإشكال، لا بدّ من أخذ النقاط أدناه بنظر الاعتبار:
أولًا: إن الإنسان كائن مختار، ويمكنه أن يختار القيام بفعل ليس في صالحه.
ثانيًا: إن الله يتصف بالغضب؛ حيث يمكن للإنسان بسبب ارتكاب الأفعال القبيحة أن يقع موردًا لغضب الله.
ثالثًا: إن لرحمة الله ـ كما سبق أن ذكرنا في النقطة السادسة ـ تفسيرين.
رابعًا: لا ينبغي حصر حياة الإنسان بهذه الحياة الدنيوية فقط.
وعلى هذا الأساس إذا كان الله رحيمًا؛ فهذا يعني أنه يقوم في المجموع بما يكون في مصلحة الإنسان، إلا إذا قام الإنسان بسوء اختياره باقتراف بعض الأعمال القبيحة التي تعود عليه بالضرر ولن تجلب له السعادة نتيجة لذلك.
قد يُقال إن هذا الكلام لا ينسجم مع القول بالرحمة العامّة لله (= التفسير الثاني). ولكن الجواب هو أن هذا لا يتنافى أبدًا مع الرحمة الإلهية العامة؛ وذلك لأن الإنسان بسبب اقترافه لهذه الموبقات يكون مستحقًا للعذاب الإلهي، وإن الله سبحانه وتعالى يمكنه من الناحية المنطقية أن يقوم بواحد من أمرين: إما أن يقضي على هذا الشخص ويزيله من صفحة الوجود، أو أن يبقي وجوده وينزل به العقاب الذي هو من لوازم أفعاله القبيحة؛ وحيث أن الإنسان بطبعه لا يحبّ الفناء؛ إذن يتمّ ترجيح أصل بقائه وإن كان مقرونًا ببعض البؤس والعنت؛ ولأن الله سبحانه وتعالى رحيم فإنه يحفظ له أصل وجوده. ومن ناحية أخرى بالنظر إلى اتصاف الله بالحكمة، يجب طرح السؤال الآتي: هل تقتضي حكمته أن يرحم هذا الشخص بالمعنى الخاص من الرحمة؟ وعلى هذا الأساس حيث يكون الله رحيمًا فإنه يقوم في المجموع بما تكون نتيجته في نهاية المطاف لمصلحة الإنسان، وإن هذه القضية قابلة للبطلان؛ بمعنى أنه يمكن افتراض حالة لا يكون فيها الله رحيمًا، وإن كانت هذه الحالة ممتنعة.
(393)لنفترض أن شخصًا في مجموع حياته لم يقترف عملًا قبيحًا يستحق عليه العذاب الإلهي، فإن الله سبحانه وتعالى سوف يقدّر الأمور في مجموع حياته الدنيوية والأخروية بحيث تنتهي لصالحه. فحتى إذا انقضت جميع أيام حياته في الدنيا بالبؤس والشقاء بما لا يجلب له السعادة بطبيعة الحال، يكون الله مع ذلك رحيمًا به؛ بمعنى أنه سوف ينعّمه في دار النعيم في حياة الآخرة. كما يمكن أن نفترض لمثل هذا الشخص أن يدخله إلى جهنم وأن يخلّده في العذاب ـ وهو ما لن يكون أبدًا ـ فلن يكون رحيمًا في مثل هذه الحالة. وعلى هذا الأساس لو افترضنا أن الله لا يتصف بالغضب والانتقام، أو افترضنا أن أفعال الشخص لا تنتهي بضرره، فعلى الرغم من أن بعض أفعاله تكون قبيحة، في هذه الصورة يمكن القول إن الله في مجموع الدنيا والآخرة قد أعطاه برحمته حياة هانئة. وعلى هذا الأساس فإن الله في هذه الحالة سوف يكون كل ما يقدّمه للإنسان ـ سواء في الدنيا أو الاخرة ـ بدافع من رحمته؛ وذلك لأن الذي يتحقق ويكون تحققه بالضرورة أيضًا إنما هو بسبب رحمته ورأفته؛ إذ الفرض يقوم على أن دعامة رحمة الله هي البرهان، وفي الوقت نفسه يمكن تصوّر حالات بالنسبة إلى الإنسان بحيث لا يمكن لها أن تتحقق بالضرورة؛ بحيث لو أنها تحققت فإن تحققها سوف يضرّ برحمة الله. إن ما نقوله بشأن حالات يمكن تصوّرها لا يعني أن هذه الحالات يمكن لها أن تكون موجودة، بل هي مجرّد تصوّرات لحالات لا يمكن لها أن تتحقق، كما لو تصوّرنا مثلثًا لا تكون مجموع زواياه مساوية لزاويتين قائمتين. وعليه لو أن شخصًا أطلق على هذا النوع من الحالات ـ المتناقضة في واقعها ـ عنوان أنها بلا معنى، لن يغيّر ذلك في واقعية المطلب شيئًا، ولا تخرج بتسميتها بلا معنى عن الأبحاث الفلسفية، ويكون لها في الوقت نفسه معنى معقول، ويترتب على بحثها بحسب المصطلح فائدة عملية. وإن هذه التسمية في حدّ ذاتها تمثل استدارة نحو النظرية الوضعية التي كانت تعتبر القضايا التأليفية ذات المعنى ممكنة لا ضرورية.
(394)قد يُقال إن قابلية بطلان قضية «إن الله رحيم» بمعنى قابلية بطلانها في الدنيا؛ بمعنى أنه يمكن أن نثبت في الدنيا ما إذا كان الله رحيمًا أم لا؟ وعلى هذا الأساس فإن ذكر قابلية البطلان الأخروي في الجواب عن الإشكال القائل: «هل الله رحيم في مجموع الدنيا والآخرة أم لا؟» ليس مفيدًا. يجب القول في الجواب: لا بدّ في إثبات صفة الرحمانية أو عدم الرحمانية لله أن نعمل على تقييم واقعية هذا الوصف في مجموع حياة الإنسان، وإذا لم تكن حياة الإنسان محدودة بالدنيا، يجب العمل على تقييم رحمانية الله في مجموع عالمي الدنيا والآخرة.
كما أننا عندما نلاحظ رأفة الوالدين بالنسبة إلى أولادهم على سبيل المثال، لا نأخذ مرحلة خاصة من حياة الولد فقط، ونحصر تقييمنا لرأفة الأبوين تجاه الولد في تلك المرحلة الخاصة من حياته فقط، وإنما نأخذ في ذلك جميع مراحل حياة الولد بنظر الاعتبار أيضًا.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
(395)ابن سينا، حسین بن عبدالله، الإشارات و التنبيهات مع الشرح للشيخ الطوسي، نشر الكتاب، ط 2، 1403 هـ.
ـــــــــــــــــــ، كتاب القياس من الشفاء، القاهرة، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، 1383 هـ.
پلانتينگا، ألوين، فلسفه دين، خدا، اختيار و شر، ترجمه إلى اللغة الفارسية وقام بشرحه: محمد سعيدي مهري، قم، مؤسسه فرهنگي طه، 1376 هـ ش.
ـــــــــــــــــــ، كلام فلسفي (سلسلة مقالات)، ترجمها إلى اللغة الفارسية: إبراهيم السلطاني / أحمد النراقي، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط، 1374 هـ ش.
پيترسون، مايكل، وآخرون، عقل و اعتقاد ديني، ترجمه إلى اللغة الفارسية: أحمد نراقي / إبراهيم سلطاني، طهران، انتشارات طرح نو، 1376 هـ ش.
الجوادي الآملي، عبد الله، تبيين براهين إثبات خدا (سلسله بحث هاي فلسفه دين)، قم، مركز نشر إسراء، ط 1، 1397 هـ ش.
چالمرز، ألن. اف.، چيستي علم، ترجمه إلى اللغة الفارسية: سعيد زيبا كلام، طهران، شركت انتشارات علمي و فرهنگي، 1374 هـ ش.
راسل، برتراند، عرفان و منطق، ترجمه إلى اللغة الفارسية: نجف دريابندري، طهران، شركت انتشارات سهامي كتابهاي جيبي، 1362 هـ ش.
رايشنباخ، هانس، پيدايش فلسفه علمي، ترجمه إلى اللغة الفارسية: موسى أكرمي، طهران، شركت انتشارات علمي و فرهنگي، ط 1، 1371 هـ ش.
السبزواري، الملا هادي، شرح المنظومة، تصحيح: حسن حسن زادة الآملي، ج 1، نشر ناب، ط 1، 1369 هـ ش.
الشيرازي، صدر الدين محمد، الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة العقلية، ج 3، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1981 م.
ـــــــــــــــــــ، رسالة التصوّر والتصديق، الجوهر النضيد، قم، انتشارات بيدار.
الطباطبائي، السيد محمد حسين، بداية الحكمة، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1405 هـ..
ـــــــــــــــــــ، نهاية الحكمة، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1404 هـ..
كاپلستون، فردريك، تاريخ فلسفه، از وولف تا كانت، ترجمه إلى اللغة الفارسية: إسماعيل سعادت ومنوچهر بزرگمهر، ج 6، طهران، شركت انتشارات علمي و فرهنگي و انتشارات سروش، ط 1، 1372 هـ ش.
كارناپ، رودلف، مقدمهاي براي فلسفه علم، ترجمه إلى اللغة الفارسية: يوسف عفيفي، طهران، انتشارات نيلوفر، ط 2، 1373 هـ ش.
كانط، إيمانوئيل، تمهيدات، ترجمه إلى اللغة الفارسية: غلام علي حداد عادل، طهران، مركز نشر دانشگاهي، 1367 هـ ش.
گيسلر، نورمن. ال، فلسفه دين، ترجمه إلى اللغة الفارسية: حميد رضا آيت اللهي، طهران، انتشارات حكمت، 1357 هـ ش.
لاريجاني، صادق، فلسفه تحليلي 3: دلالت و ضرورت، قم، انتشارات مرصاد، 1375 هـ ش.
المطهري، مرتضى، شرح مبسوط منظومه، ج 1، طهران، انتشارات حكمت، ط 3، 1367 هـ ش.
ـــــــــــــــــــ، شرح منظومه (المختصر)، ج 1، طهران، انتشارات حكمت، ط 1، 1360 هـ ش.
مدرس زنوزي، آقا علي، رسالة حلمية، طهران، انتشارات علمي و فرهنگي.
محمد زاده، رضا، مقدمه اي بر مقاله «پيرامون اشاره»، مجلة أرغنون، العدد: 7. 8، خريف وشتاء عام: 1374 هـ ش.
مصباح اليزدي، محمد تقي، تعليقة على نهاية الحكمة، قم، انتشارات سلمان فارسي، 1405 هـ.
ملكيان، مصطفى، جزوه كلام جديد (إثبات وجود خدا)، مصدر مخطوط متوفر في مؤسسة طه.
ـــــــــــــــــــ، جزوه كلام جديد (إثبات وجود خدا)، محاضرة ألقيت في مؤسسة الإمام الصادق عليهالسلام؟.
ـــــــــــــــــــ، جزوه كلام جديد (إثبات وجود خدا)، مصدر مخطوط متوفر في مؤسسة طه.
مكي، جي. إل.، «شرّ و قدرت مطلق»، ترجمه إلى اللغة الفارسية: محمد رضا صالح نجاد، مجلة كيان، السنة الأولى، العدد: 3.
موحد، ضياء، «گوتلوب فرگه و تحليل منطقي زبان»، مجلة أرغنون، العدد: 7 ـ 8، طهران، مركز مطالعات و تحقيقات فرهنگي وزارت فرهنگ و ارشاد اسلامي، خريف وشتاء، 1374 هـ ش.
هادسون، وليام دونالد، لودویگ ویتگنشتاین، ترجمه إلى اللغة الفارسية: مصطفى ملكيان، طهران، انتشارات كدّوس، ط 1، 1378 هـ ش.
هيك، جان، فلسفة دين، ترجمه إلى اللغة الفارسية: بهرام راد، طهران، انتشارات بين المللي الهدى، 1372 هـ ش.
(399)
التفتازاني، تهذيب المنطق، ضمن كتاب (الحاشية على تهذيب المنطق)، للمولى عبد الله اليزدي، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1415 هـ.
Barns, Jonathan, The Ontological Argument, London, Macmillan, 1972.
Mackie, J. L., The Miracle of Theism, Oxford University Press, 1982.
Haspers, John., An Introduction to Philosophical Analysis, London, Routlelge, 1990.
Kempsmith, Norman, Kakt’s Critque of pure Reason, New Jersey, Humanities press, 1992.
Kripke, Saul A., Naming and Necessity, Wiley-Blackwell, 1980
Plantinga, Alvin, The Nature of Necessity, Clarendon Press, 2010.
Geach, P. T, Translations from The Philosophical Writings of Gottlob Ferege, ed. P. T. Geach, Oxford, Basil Blackwell, 1977.
The Encyclopedia of Philosophy, V. 7, Ed, Paul Eedwards, U. S. A., Macmillan, 1967.
(400)