فهرس المحتويات

مقدمة المرکز | 11

تمهيد | 15

الإشارة إلى أهميّة الموضوع وضرورته وبيان ذلك | 16

سوابق البحث | 18

 هدف هذا البحث وموارد استعماله | 22

منهج البحث | 22

تعريف المسألة وبيان أسئلة البحث | 23

مميزات البحث | 24

هيكليّة البحث | 24

القسم الأوّل:
بيان بعض آراء عبد الكريم سروش في الوحي ونقدها

الفصل الأوّل: مراحل مدعيات سروش حول الوحي ونقدها | 29

ادّعاء سروش الأوّل | 29

نقد ادّعاء سروش الأوّل | 31

الادّعاء الثاني: الوحي بمنزلة عسل النحلة | 37

الادّعاء الثالث: القرآن رؤيا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم  |  37

 تبيين الادّعاء الثالث (رؤيويّة الوحي) | 38

المقدّمة الأولى: منهج البحث (ظاهراتي) | 38

المقدّمة الثانية: كلمة الرؤيا ومفهومها | 39

تبيين أساس الادّعاء الثالث | 40

الشواهد الدالَّة على رؤيويّة الوحي | 41

نقد الناقدين وأجوبة سروش | 43

تقييم رؤيويّة الوحي ونقدها  | 46

النقد الأوّل: المغالطة المنهجيّة  | 49

النقد الثاني: مغالطة التعميم  | 53

المنام والرؤيا على ثلاثة أقسام | 53

النقد الثالث: مغالطة التمثيل | 55

النقد الرابع: مغالطة الإبهام | 56

النقد الخامس: المغالطة اللغويّة | 59

النقد السادس: مغالطة القياس مع الفارق  | 61

النقد السابع: المخالفة لسيرة أولياء الدين | 63

النقد الثامن: إنكار الدين | 63

النقد التاسع: عدم تعارض القرآن مع العلم | 64

الوحي عند المتكلّمين  | 66

الوحي عند العرفاء والفلاسفة | 66

الفصل الثاني: النقد المبنائي لنظريّة سروش في الوحي | 77

 المبنى اللغوي | 77

لغة القرآن في مقام المفردات | 78

نقد مباني سروش اللغويّة في مقام المفردات | 82

لغة القرآن في مقام القضايا ونقد نظريّة سروش | 83

مباني سروش الابستمولوجيّة | 89

نقد مباني سروش الإبستمولوجيّة | 90

مباني سروش الهرمنيوطيقيّة | 91

نقد مباني سروش الهرمنيوطيقيّة | 94

مباني سروش الدينيّة | 99

التجربة الدينيّة | 99

نقد نظريّة التجربة الدينيّة | 103

الإجمال والإبهام  | 103

المنهجيّة | 105

التفسير بالرأي | 108

الخلط بين الوحي والتجربة العرفانيّة | 108

مغالطة القديم والجديد  | 109

العرضي والذاتي في الدين | 110

المنهجيّة | 115

الإجمال والإبهام | 116

الخلط بين (الذاتي والعرضي)، و(المقدّمة وذي المقدّمة)  | 116

قياس الإسلام مع سائر الأديان والفرق | 118

الاستفادة من الشرطيّات كاذبة المقدم لإثبات عرضيّة الدين  | 118

دلالة استنباط علل الشرائع على العرضي في الدين | 119

الادّعاء من دون دليل | 120

نظريّة الدين الأقلّي | 121

العلوم التجريبيّة والدين الأقلِّي | 123

نقد العلوم التجريبيّة والدين الأقلِّي | 124

علم الكلام والدين الأقلّي | 128

نقد علم الكلام والدين الأقلّي | 128

علم الفقه والدين الأقلِّي | 130

نقد علم الفقه والدين الأقلِّي | 131

علم الأخلاق والدين الأقلِّيّ | 133

نقد علم الأخلاق والدين الأقلِّي | 134

نظريّة القراءات المختلفة للدين  | 136

الفصل الثالث: النقد البرّاني لنظريّة سروش في الوحي  | 137

السؤال الأوّل: الوحي بمنزلة تجربةٍ تشبه تجربة الشعراء | 137

جواب السؤال الأوّل | 138

السؤال الثاني: النبيّ خالق الوحي والمانح للصورة على مضمونٍ غير مصوّر (المعنى من الله واللفظ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) | 140

جواب السؤال الثاني | 140

السؤال الثالث: الظروف الحاكمة على حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي التي أوجدت القرآن | 142

جواب السؤال الثالث | 143

السؤال الرابع: قابليّة الخطأ في الوحي في بعض الأمور الخاصّة | 144

جواب السؤال الرابع  | 144

السؤال الخامس: القرآن كلام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم |  146

جواب السؤال الخامس | 146

السؤال السادس: الشعر بوصفه إبداعًا فنيًّا وسيلةٌ لفهم الوحي | 148

جواب السؤال السادس | 148

السؤال السابع: الاستعانة بالمولوي | 150

جواب السؤال السابع | 150

السؤال الثامن: بشريّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم |  151

جواب السؤال الثامن | 152

السؤال التاسع: الخطيب ومكبّر الصوت (ميتافيزيقا القرب وميتافيزيقا البعد) | 154

جواب السؤال التاسع  | 155

السؤال العاشر: تأثّر الوحي بثقافة العصر | 156

جواب السؤال العاشر | 157

السؤال الحادي عشر: الخطأ في القرآن وعلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم |  158

جواب السؤال الحادي عشر | 158

السؤال الثاني عشر: تفضيل رأي عمر على رأي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم | 161

جواب السؤال الثاني عشر | 162

السؤال الثالث عشر: تعارض ظاهر القرآن مع العلوم البشريّة | 163

جواب السؤال الثالث عشر | 164

تحليلٍ ونقدٍ مسألة السماوات السبع | 166

تحليل ونقد مسألة مسّ الشيطان | 167

تحليل ونقد رجم الشيطان بالشهاب | 168

تحليل ونقد تأويل أجنحة الملائكة | 170

تحليل ونقد حديث تأبير النخيل  | 172

القسم الثاني:
تبيين ونقد آراء محمّد مجتهد شبستري المتعلّقة بالوحي

مقدّمة | 175

الفصل الأوّل: رؤية مجتهد شبستري الهرمنيوطيقيّة والتفسيريّة ونقدها | 179

نظريّة مجتهد شبستري التفسيريّة العامّة | 182

نظريّة مجتهد شبستري التفسيريّة الخاصّة  | 189

نقد نظريّة مجتهد شبستري التفسيريّة الخاصّة | 192

ثلاثة أحكام لمجتهد شبستري في المفسّرين التقليديّين | 194

نظريّة مجتهد شبستري في الفهم | 197

مفروضات ومسبوقات المفسِّر | 201

الاهتمامات والتوقّعات الهادية للمفسِّر | 202

أسئلة المفسِّر من التاريخ | 203

ترجمة المتن في الأفق التاريخي للمفسِّر | 206

نقد نظريّة مجتهد شبستري التفسيريّة  | 208

النقد الأوّل: للتفسير معنيان | 209

النقد الثاني: المسبوقات المعرفيّة على قسمين | 212

النقد الثالث: عدم إطلاق بعض المسبوقات على جميعها | 215

النقد الرابع: فهم المتن ودلالته لهما مراتب | 216

النقد الخامس: لزوم التقيّد بنيّة المؤلّف  | 218

النقد السادس: عدم إمكان الجمع من محوريّة المفسِّر ومحوريّة المؤلّف | 219

النقد السابع: عدم إمكان الجمع بين المنهج الهرمنيوطيقي والظاهراتي | 221

النقد الثامن: عدم عموميّة مقبولات عصر الحداثة | 222

النقد التاسع: لا تستطيع مقبولات عصر الحداثة أن تكون معيار تنقيح المسبوقات المعرفيّة | 224

الفصل الثاني: نقدُ مجتهد شبستري للقراءة الرسميّة للدين، ونقدُ نقدِه | 227

نقد مجتهد شبستري للإسلام الفقهي وردّ نقده | 227

المورد الأوّل: تعارض الإسلام الفقهي مع الديمقراطيّة  | 227

المورد الثاني: الإسلام الفقهي يستلزم العنف | 228

المورد الثالث: عدم اعتبار الإسلام الفقهي علميًّا | 230

المورد الرابع: الإسلام الفقهي والأزمات | 231

المورد الخامس: مباني الإسلامي الفقهي | 236

الفصل الثالث: ‌تبيين رؤية مجتهد شبستري حول الوحي ونقدها | 241

الفصل الرابع: نقد مقالة (كيف انهارت المباني الفقهيّة والكلاميّة) | 251

ملاحظات حول أصل مدّعى مجتهد شبستري | 252

أدلّة مجتهد شبستري الستّة على المدّعى  | 253

الدليل الأوّل | 253

نقد الدليل الأوّل | 254

الدليل الثاني | 254

نقد الدليل الثاني | 255

الدليل الثالث | 258

نقد الدليل الثالث | 259

الدليل الرابع | 259

نقد الدليل الرابع | 260

الدليل الخامس | 260

نقد الدليل الخامس | 261

الدليل السادس | 262

نقد الدليل السادس | 262

المصادر | 265

العتبة العباسية المقدسة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية رؤى نقدية معاصرة 10 ما وراء الشأن البشر نقد آراء سروش ومجتهد شبستري حول الوحي الشيخ عبد الحسين خسروپناه تعريب وتلخيص هاشم مرتضى

ما وراء الشأن البشري

نقد آراء سروش ومجتهد شبستري حول الوحي

 

(1)

بسم الله الرحمن الرحيم

(2)

العتبة العباسية المقدسة

المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية

رؤى نقدية معاصرة 10

 

ما وراء الشأن البشري

نقد آراء سروش ومجتهد شبستري حول الوحي

 

تأليف:

الشيخ عبد الحسين خسروپناه

 

تعريب وتلخيص:

هاشم مرتضی

 

(3)

العتبة العباسية المقدسة

المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية

 

 

 

 

رقم الايداع في دار الكتب والوثائق ببغداد (219) لسنة ٢٠٢5م

ما وراء الشأن البشري، نقد آراء سروش ومجتهد شبستري حول الوحي (رؤی نقدیة معاصرة - 10)

تأليف: الشيخ عبد الحسين خسروپناه

تعریب وتلخیص: هاشم مرتضی

الناشر: العتبة العبّاسيّة المقدّسة /المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة

الطبعة: الأولىٰ،  2025 م

 ملاحظة: اصل هذا الكتاب مطبوع باللغة الفارسية تحت عنوان ( فراتر از امر بشري ) من قبل معهد الثقافة والفكر الاسلامي عام 1402 هـ.

www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

(4)

الفهرس

مقدمة المرکز11

تمهيد 15

الإشارة إلى أهميّة الموضوع وضرورته وبيان ذلك  16

سوابق البحث18

هدف هذا البحث وموارد استعماله 22

منهج البحث22

تعريف المسألة وبيان أسئلة البحث 23

مميزات البحث 24

هيكليّة البحث24

القسم الأوّل:
بيان بعض آراء عبد الكريم سروش في الوحي ونقدها

الفصل الأوّل: مراحل مدعيات سروش حول الوحي ونقدها29

ادّعاء سروش الأوّل: 29

نقد ادّعاء سروش الأوّل31

الادّعاء الثاني: الوحي بمنزلة عسل النحلة 37

الادّعاء الثالث: القرآن رؤيا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم  37

 تبيين الادّعاء الثالث (رؤيويّة الوحي) 38

المقدّمة الأولى: منهج البحث (ظاهراتي) 38

المقدّمة الثانية: كلمة الرؤيا ومفهومها 39

تبيين أساس الادّعاء الثالث 40

الشواهد الدالَّة على رؤيويّة الوحي41

نقد الناقدين وأجوبة سروش43

تقييم رؤيويّة الوحي ونقدها46

النقد الأوّل: المغالطة المنهجيّة49

النقد الثاني: مغالطة التعميم53

المنام والرؤيا على ثلاثة أقسام: 53

(5)

الفهرس

النقد الثالث: مغالطة التمثيل55

النقد الرابع: مغالطة الإبهام 56

النقد الخامس: المغالطة اللغويّة 59

النقد السادس: مغالطة القياس مع الفارق61

النقد السابع: المخالفة لسيرة أولياء الدين63

النقد الثامن: إنكار الدين63

النقد التاسع: عدم تعارض القرآن مع العلم 64

الوحي عند المتكلّمين 66

الوحي عند العرفاء والفلاسفة66

الفصل الثاني: النقد المبنائي لنظريّة سروش في الوحي 77

 المبنى اللغوي 77

لغة القرآن في مقام المفردات 78

نقد مباني سروش اللغويّة في مقام المفردات 82

لغة القرآن في مقام القضايا ونقد نظريّة سروش83

مباني سروش الابستمولوجيّة 89

نقد مباني سروش الإبستمولوجيّة 90

مباني سروش الهرمنيوطيقيّة91

نقد مباني سروش الهرمنيوطيقيّة94

مباني سروش الدينيّة 99

التجربة الدينيّة 99

نقد نظريّة التجربة الدينيّة103

الإجمال والإبهام103

المنهجيّة 105

التفسير بالرأي108

الخلط بين الوحي والتجربة العرفانيّة108

مغالطة القديم والجديد 109

العرضي والذاتي في الدين110

المنهجيّة 115

الإجمال والإبهام  116

الخلط بين (الذاتي والعرضي)، و(المقدّمة وذي المقدّمة) 116

(6)

الفهرس

قياس الإسلام مع سائر الأديان والفرق 118

الاستفادة من الشرطيّات كاذبة المقدم لإثبات عرضيّة الدين118

دلالة استنباط علل الشرائع على العرضي في الدين119

الادّعاء من دون دليل120

نظريّة الدين الأقلّي121

العلوم التجريبيّة والدين الأقلِّي123

نقد العلوم التجريبيّة والدين الأقلِّي 124

علم الكلام والدين الأقلّي 128

نقد علم الكلام والدين الأقلّي128

علم الفقه والدين الأقلِّي 130

نقد علم الفقه والدين الأقلِّي 131

علم الأخلاق والدين الأقلِّيّ133

نقد علم الأخلاق والدين الأقلِّي 134

نظريّة القراءات المختلفة للدين  136

الفصل الثالث: النقد البرّاني لنظريّة سروش في الوحي137

السؤال الأوّل: الوحي بمنزلة تجربةٍ تشبه تجربة الشعراء  137

جواب السؤال الأوّل 138

السؤال الثاني: النبيّ خالق الوحي والمانح للصورة على مضمونٍ غير مصوّر

(المعنى من الله واللفظ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) 140

جواب السؤال الثاني 140

السؤال الثالث: الظروف الحاكمة على حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم 

هي التي أوجدت القرآن 142

جواب السؤال الثالث 143

السؤال الرابع: قابليّة الخطأ في الوحي في بعض الأمور الخاصّة  144

جواب السؤال الرابع 144

السؤال الخامس: القرآن كلام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم  146

جواب السؤال الخامس  146

السؤال السادس: الشعر بوصفه إبداعًا فنيًّا وسيلةٌ لفهم الوحي 148

جواب السؤال السادس  148

السؤال السابع: الاستعانة بالمولوي  150

جواب السؤال السابع 150

السؤال الثامن: بشريّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم  151

(7)

الفهرس

جواب السؤال الثامن 152

السؤال التاسع: الخطيب ومكبّر الصوت

(ميتافيزيقا القرب وميتافيزيقا البعد) 154

جواب السؤال التاسع 155

السؤال العاشر: تأثّر الوحي بثقافة العصر 156

جواب السؤال العاشر 157

السؤال الحادي عشر: الخطأ في القرآن وعلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم 158

جواب السؤال الحادي عشر  158

السؤال الثاني عشر: تفضيل رأي عمر على رأي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم 161

جواب السؤال الثاني عشر 162

السؤال الثالث عشر: تعارض ظاهر القرآن مع العلوم البشريّة  163

جواب السؤال الثالث عشر 164

تحليلٍ ونقدٍ مسألة السماوات السبع 166

تحليل ونقد مسألة مسّ الشيطان 167

تحليل ونقد رجم الشيطان بالشهاب 168

تحليل ونقد تأويل أجنحة الملائكة   170

تحليل ونقد حديث تأبير النخيل  172

القسم الثاني:
تبيين ونقد آراء محمّد مجتهد شبستري المتعلّقة بالوحي

مقدّمة 175

الفصل الأوّل: رؤية مجتهد شبستري الهرمنيوطيقيّة

والتفسيريّة ونقدها  179

نظريّة مجتهد شبستري التفسيريّة العامّة   182

نظريّة مجتهد شبستري التفسيريّة الخاصّة 189

نقد نظريّة مجتهد شبستري التفسيريّة الخاصّة 192

ثلاثة أحكام لمجتهد شبستري في المفسّرين التقليديّين 194

نظريّة مجتهد شبستري في الفهم  197

مفروضات ومسبوقات المفسِّر   201

الاهتمامات والتوقّعات الهادية للمفسِّر 202

أسئلة المفسِّر من التاريخ  203

ترجمة المتن في الأفق التاريخي للمفسِّر  206

نقد نظريّة مجتهد شبستري التفسيريّة  208

(8)

الفهرس

النقد الأوّل: للتفسير معنيان209

النقد الثاني: المسبوقات المعرفيّة على قسمين212

النقد الثالث: عدم إطلاق بعض المسبوقات على جميعها 215

النقد الرابع: فهم المتن ودلالته لهما مراتب 216

النقد الخامس: لزوم التقيّد بنيّة المؤلّف 218

النقد السادس: عدم إمكان الجمع من محوريّة

المفسِّر ومحوريّة المؤلّف 219

النقد السابع: عدم إمكان الجمع بين المنهج

الهرمنيوطيقي والظاهراتي 221

النقد الثامن: عدم عموميّة مقبولات عصر الحداثة 222

النقد التاسع: لا تستطيع مقبولات عصر الحداثة أن تكون

معيار تنقيح المسبوقات المعرفيّة         224

الفصل الثاني: نقدُ مجتهد شبستري للقراءة

الرسميّة للدين، ونقدُ نقدِه227

نقد مجتهد شبستري للإسلام الفقهي وردّ نقده 227

المورد الأوّل: تعارض الإسلام الفقهي مع الديمقراطيّة227

المورد الثاني: الإسلام الفقهي يستلزم العنف 228

المورد الثالث: عدم اعتبار الإسلام الفقهي علميًّا 230

المورد الرابع: الإسلام الفقهي والأزمات231

المورد الخامس: مباني الإسلامي الفقهي  236

الفصل الثالث: ‌تبيين رؤية مجتهد شبستري

حول الوحي ونقدها 241

الفصل الرابع: نقد مقالة

(كيف انهارت المباني الفقهيّة والكلاميّة)251

ملاحظات حول أصل مدّعى مجتهد شبستري252

أدلّة مجتهد شبستري الستّة على المدّعى 253

الدليل الأوّل  253

نقد الدليل الأوّل 254

الدليل الثاني  254

نقد الدليل الثاني255

الدليل الثالث  258

نقد الدليل الثالث  259

الدليل الرابع  259

نقد الدليل الرابع  260

الدليل الخامس 260

(9)

الفهرس

نقد الدليل الخامس 261

الدليل السادس 262

نقد الدليل السادس 262

المصادر  265

(10)

 

 

مقدمة المرکز

يُعتبر الفكر المعاصر مكوّنًا أساسيًّا في المنظومة الفكريّة الإسلاميّة، ويتبلور هذا الفكر على أرض الواقع حينما تشهد الساحة ظهور فكرٍ «آخر» بصفته ثقافةً وسلسلةَ مفاهيم دلاليّة منافسة، فالزمان والمكان إلى جانب المنافسة التي تحدث على ضوء مجموعةٍ مِن المفاهيم التي يطرحها «الآخرون»، كلّها أمورٌ تحفّز المدارس الفكريّة والثقافات الأصيلة للعمل على التأقلم مع الظروف الجديدة، وفي الحين ذاته تحفّزها على السعي للحفاظ على حيويّتها وخصوصيّاتها التي تميّزها عن «الآخر». غير أنَّ التاريخ شهد في بعض مراحله، إقبال العلماء المسلمين على التراث الفلسفي الإغريقي باعتباره نطاقًا منسجمًا مِن الناحية الدلاليّة وذا مضامين عميقة، لدرجة أنّ بعض الفلاسفة مِن أمثال الفارابي وابن رشد ولجوا في فضائه الفكري، وحاولوا إقامة تعريف لمعانيهم ورؤاهم الدينيّة متلائمًا مع هذا الآخر الدخيل. ففي العصر الراهن، باتت الثقافة والحضارة الغربيّتان الحديثتان المتقوّمتان على أسسٍ علمانيّةٍ وتوسّعيّةٍ، تمثّلان «الآخر» بالنسبة إلينا ولسائر الثقافات غير الغربيّة. النظام الدلالي المنبثق مِن الفكر الغربي قد أسفر عن إيجاد تحدّياتٍ كبيرةٍ لـ«ذاتنا الإسلاميّة» بفضل تفوّقه سياسيًّا واقتصاديًّا، ويتّسع نطاق هذا التحدّي أكثر يومًا بعد يومٍ؛ لذلك طرحت العديد مِن الحلول لمواجهته، وقد استسلم بعضهم لواقع الأمور، فراحوا

(11)

يبحثون عن الحلّ في العالم الغربي نفسه، لذا دعوا بانفعالٍ إلى ضرورة ملاءمة «ذاتنا» مع هذا «الآخر»، إلا أنَّ آخرين سلكوا نهجًا مغايرًا، ودعوا إلى تفعيل تراث «ذاتنا»، وأكّدوا على أنّ الحلّ لا يتبلور في ديار منافسنا. نعم، تراثنا المعاصر هو ثمرةٌ لكلّ حلٍّ يمكن أنْ يطرح في هذا المضمار.

وفي هذا السياق، بادر المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجيّة عبر مجموعة مِن الباحثين إلى استطلاع المشاريع الفكريّة لأبرز العلماء والمفکّرين في العالم الإسلامي مِن الذين تنصبّ نشاطاتهم الفكريّة في بوتقة الفكر المعاصر؛ وذلك بهدف بيان واقع مسيرة إنتاجهم الفكري وكيفيّة تبلور آرائهم بصياغتها النهائيّة. وفي هذا النمط مِن الدّراسات، عادةً ما يتمّ تسليط الضوء على مسيرة الإنتاج الفكري الهادف إلى إيجاد خلفيّاتٍ ومبانٍ فكريّةٍ ونظريّاتٍ تحت عنوان «المنهجیّة التأسیسیّة» مِن خلال دراسة وتحليل مدى نجاح الفكر المعاصر أو إخفاقه بشكلٍ صريحٍ وشفّافٍ.

يتضمن هذا الجزء دراسة نقدية لآراء المفكرين الإيرانيين المعاصرين عبد الكريم سروش ومحمّد مجتهد شبستري حول مفهوم الوحي، مع التركيز على تحليل جذورها الفكرية وبيان تناقضاتها مع المبادئ الإسلامية. يناقش الكتاب النظريات الظاهراتية عند سروش، التي تصف الوحي كتجربة ذاتية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو كرؤى تحتاج إلى تفسير، والتي يرى المؤلف أنها تضعف الطبيعة الإلهية للوحي وتتعارض مع النصوص القرآنية الواضحة. كما يتناول نقد رؤية شبستري التي تعتمد المنهج الهرمنيوطيقي، والتي تسعى إلى فصل النص القرآني عن قدسيته وعصمته.

يركز الكتاب على تحليل ثلاث اتجاهات رئيسة تناولها المفكران مع بيان سبب

(12)

اتّّخاذهما لهذه الآراء: الاتجاه المبنائي الذي يهتم بالمباني المعرفية واللغوية والهرمنيوطيقية للوحي، الاتجاه الظاهراتي الذي يبحث في ماهية الوحي وأركانه، والاتجاه الوظيفي الذي يتناول آثار الوحي في المجالات الفقهية والسياسية والاجتماعية. من خلال هذا التحليل، يقدم الكتاب نقداً شاملاً لنظريتي سروش وشبستري، مبيناً خطورة محاولاتهما لفهم النص القرآني بعيداً عن إطاره الإلهي وعصمته.

وفي الختام، نتقدّم بالشكر الجزيل لجميع الزملاء الذين أسهموا بشكل أو بآخر في تحقيق هذا العمل، وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علی رسوله الأمين وآله المیامین.

(13)
(14)

 

 

تمهيد

 لقد اختصّ أنبياء الله تعالى بصفاتٍ مميزّةٍ بسبب الرسالة الخطيرة وسفارة ذات الله المقدسة التي تحمّلوها، وتعدّ هذه الصفات من لوازم البعثة التي لا تنفك عن شأن الهداية الملقاة على عاتقهم من قبل الله تعالى. وقد ذكرت الكتب الكلاميّة هذه الصفات تحت عنوان: (خصائص النبيّ)، وهي ثالث مسألةٍ تُبحث في النبوّة بعد مسألة (إثبات ضرورة بعثة الأنبياء) و(طرق معرفة النبيّ وإثبات نبوّته).

أمّا الصفات المميَّزة فهي:  1. العصمة.  2. العلم والحكمة اللدنيّة. 3. حسن الخلق وسائر المقامات الأخلاقيّة والمعنويّة. 4. الإعجاز. 5. تلقي الوحي النبوي.

 الصفات الأربع الأولى يمكن عدّها تمهيدًا للصفة الخامسة، أي تلقّي الوحي النبويّ، كي يكون تلقّي الوحي أيضًا مركز اللطف والحكمة والفضل والكرامة الإلهيّة في موضوع هداية الإنسان[1]. وعلى ما روي عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام، فإنّ أعظم المصيبة هي فقد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وانقطاع الوحي[2].

(15)

تقضي فطرة الإنسان السليمة، وعقل البشر السليم، وجود استعداد الوصل إلى الكمال والسعادة الأبديّة في الإنسان، والوصول الى الكمال هو هدف خلق الإنسان والحياة الدنيا، ومن الواضح أنّ العقل والحسّ وحتى الشهود، من أفضل الأدوات لنيل هذه الحقيقة، ولكن لا يمكن الاكتفاء بها؛ لأنّه مضافًا إلى وجود عدة لصوص في هذه الطريقة لتشويش أدوات المعرفة العادية، توجد منطقةٌ معرفيّةٌ لا ينالها الحسّ والعقل، بل تحتاج إلى أداةٍ أخرى هي الوحي. فالوحي مصدرٌ معرفيٌّ آخر ما وراء المصادر المعرفيّة المتعارفة، ويُعدّ من خصائص أنبياء الله، ويصعب علينا إدراك حقيقته، لكن نتمكّن من حيازة بعض آثاره وعلائمه فقط، وهي القرآن والأوصاف النبويّة.

الإشارة إلى أهميّة الموضوع وضرورته وبيان ذلك

 مع قطع النظر عن ضرورة وجود خاصيّة تلقّي الوحي الإلهي ــ الذي تنشأ ضرورته من براهين لزوم الهداية ــ فإنّ بيان حقيقة الوحي وتبيين كيفية تلقّيه بوساطة النبيِّ، يُعدّ من المسائل التي بُحثت ونوقشت تارةً من قبل منكري الوحي، وتارةً أخرى من قبل دراسات الفلاسفة والعرفاء المتعلّقة بمعرفة الوجود، كما ذكرت النصوص الوحيانيّة وكلمات الأنبياء والأوصياء معنى الوحي وأقسامه وكيفيّته، وأصبح أيضًا مدار البحث بين مفسِّري النصوص المقدّسة.

 نعم المائز الكبير بين آراء المتقدّمين والمتأخّرين، التشكيك والتردّد في ماهية الوحي اللغوية من جهة، ومصدر الوحي من جهة ثانية. وهذه الآراء تطرح في

(16)

الأغلب من قبل من يُسمَّى بالمتنوِّر الديني، وبتأثيرٍ مباشرٍ وواسعٍ من النظريّات الهرمنيوطيقيّة واللسانيّة لدى بعض علماء الغرب التي سرت إلى الساحة العلميّة والدينيّة، وأدّت إلى مباحث وردّات فعلٍ متنوّعة.

 ومع قطع النظر عن الدواعي العلميّة والبحثيّة الصرفة - سواء عند الموافقين للآراء الحديثة أم المخالفين - التي توجب تنشيط المعرفة الدينيّة وتطويرها، فإنّ إنكار ماهية الوحي اللغويّة، ونفي أثر المبدأ الإلهي في المحتوى اللغوي، يهدف إلى زعزعة الأنظمة الدينيّة المستحكمة كالفقه والكلام (وهما العنصران الأساسيّان في عمليّة الاستنباط من النصوص الدينيّة)، وإلى خرق السدود المستحكمة التي بناها التفقّه والاجتهاد في الاسلام أمام التيّارات الفكريّة والثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة الموجودة في عالمنا المعاصر.

 إذ من الطبيعي جدًّا، وبعد خلوّ ترسانة هؤلاء عند السجال العلمي مع أصحاب الرؤية الاجتهادية والمجتهدين أو أمام قوة الكلام الإلهي، من الطبيعي أنْ يلجأوا إلى التشكيك في قلب الاجتهاد النابض والرؤية العلميّة الدينيّة، أي في ماهية الوحي اللغويّة واتّصال النصوص الوحيانيّة بالمبدأ الإلهي، كي يقوموا كما يزعمون برفع التضاد بين الرؤية الكونيّة الدينيّة وبين رؤى الإنسان والعالم المعاصرين، وذلك من خلال محو صورة المسألة من أساسها.

 لقد نهج عبد الكريم سروش ومحمّد مجتهد شبستري هذا المنهج، وزعما أنّ الوحي (رواية النبيّ لرؤيا نبويّة) و(كلام محمّد). ونحن هنا نتعرّض إلى آراء سروش الظاهراتيّة، ورؤية مجتهد شبستري الهرمنيوطيقيّة بالنقد والتحليل.

(17)

سوابق البحث

ربما يُعدّ نصر حامد أبو زيد أوّل من قال في الوحي أنّه من كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، وقد استفاد أبو زيد كثيرًا ممّن سبقه من مفكّري مصر[1]، وبعض اللغويّين[2]، مضافًا إلى تأثّره الكبير بالهرمنيوطيقا الفلسفيّة لدى غادامير في مختلف كتبه[3]. وقد سعى أبو زيد أنْ يستعين بمجموعةٍ من أفكار هؤلاء في تبيين نظريّة ماهية الفهم وفهم النصّ المقدّس لا سيّما القرآن. وقد استفاد من آرائه في وقتنا الحاضر عبد الكريم سروش ومحمّد مجتهد شبستري بغية الوصول إلى أهدافهما الخاصّة.

وقد قام كثيرٌ من علماء الحوزة والجامعة بمواجهة آراء سروش وشبستري، بالرد والنقد من خلال المحاضرات، والمناظرات، والمذكرات، والبحوث، والكتب، ممّا لا نستطيع الإشارة إليها كلّها هنا، نعم كان الوحي ولا يزال من المسائل الأساسيّة المتداولة بين المتكلّمين وسائر علماء الدين، بنحو لا يمكن أنْ تجد قولًا حديثًا لا يوجد له أساسٌ في الماضي، ولكن ما ينفع القارئ هنا تحت عنوان (سوابق البحث) اطّلاعه على رأينا حول الوحي، وسنشير إلى أهمّه فيما يأتي.

لقد استعمل الوحي في القرآن في أربعة معانٍ: الإشارة الخفيّة[4]، والأمر الغريزي والتكويني[5]، والإلهام النفسي أو الشعور والإحساس الباطني[6]، والإلهام

(18)

الغيبي والرسالي الموحى من الله إلى الأنبياء بهدف تبليغ الرسالة الإلهيّة وهداية الناس، وقد استعمل الوحي أكثر من سبعين مرّةً في القرآن[1].

والقرآن الكريم مضافًا إلى بيانه لمختلف معاني الوحي، قد اهتم ببيان أنواع الوحي النبوي أيضًا، وجعلها ثلاثة:

1- الوحي الإلهي المباشر إلى النبيّ.

2- الوحي المباشر عن طريق الملك.

3- الوحي عن طريق الحجاب وباقي الأمور[2].

وتشير آياتٌ أخرى إلى الوحي عن طريق الرؤيا[3]، وعن طريق روح الأمين[4]، والوحي المباشر[5]، وينقسم الوحي في تقسيمٍ آخر إلى التكويني والتشريعي، فالوحي التشريعي هو مجموعة التعاليم والأحكام التي أنزلها الله بشكلٍ دفعيّ أو تدريجيّ تحت عنوان الشريعة والدين، والوحي التكوينيّ عبارةٌ عن القابليات وغريزة الموجودات والقوانين الكلّيّة الحاكمة على المنظومة الكونيّة الجارية بأهداف معيّنة.

نحن بالاعتماد على تعاليم القرآن، نعتقد بأنّ القرآن وحيٌ كلّه، قد نزل لفظه ومعناه من قبل الله تعالى، والقرآن كتابٌ لم يحرّف ولا يقبل التحريف خلافًا لكتب الشرائع السابقة، وهو أيضًا حجّةٌ دائمةٌ ومعجزةٌ تدلّ على صدق دعوى نبوَّة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله، وتسدّ بأعجازها أبواب إنكار الملحدين.

(19)

إنّ إعجاز القرآن واضحٌ وجليٌّ للعرب وللمختصّين بالبنى الأدبيّة والبلاغيّة العربيّة، ولكن من لم يعرف اللغة العربيّة لا يواجه مشكلةً أيضًا في إدراك إعجاز القرآن؛ لأنّه قد ثبت أنّ اليهود والمشركين والكفّار رغم وجود دواعي الإنكار، لم يتمكّنوا من تحدّي القرآن من صدر الإسلام إلى يومنا الحاضر، والحال أنّ الله تعالى قد أنزل هذا القرآن العظيم بما فيه من جوانب إعجازيّةٍ بلاغيّةٍ وعلميّةٍ وغيبيّةٍ وتشريعٍ متقنٍ وعظيمٍ ومنسجمٍ على رجلٍ أُمّي.

يُعدّ الوحي من سنخ العلم الحضوري بل من أكمله، وهو عبارةٌ عن مشاهدة الحقيقة التي تُعدّ قوام الإنسان، والإنسان بعلمه الحضوري الخالص يجد نفسه، ويجد مقوّم وجوده، أي الله وكلام الله، والوحي النبويّ نوعٌ من المواجهة مع الله تعالى، لكنّه لم يكن من قبيل التجربة الدينيّة التي يقول بها بعض فلاسفة الغرب؛ لأنّ الوحي النبويّ مشهودٌ ومسموع.

إنّ تعاليم الدين تُلقى من الله تعالى على النبيّ بوساطة ملك الوحي أو من دون وساطته، والنبيّ يسمعها بأذنه الباطنيّة، ويرى الملك بعينه الباطنيّة. والوحي النبويّ مقرونٌ بالعصمة ولا يتطرّق إليه الخطأ، ولكن التجربة الدينيّة - ومن حيث كونها تجربة دينيّة - غير مصونةٍ من الخطأ، وتؤثّر فيها قبليات المجرّب وفروضه وعقائده وأفكاره الخاصّة وتتسبّب في تشويش انعكاسها للواقع، كما أنّ مشاهدات العرفاء الباطنيّة غير مصونةٍ من الخطأ وتصرّف الشيطان، وتحتاج إلى معيارٍ وميزانٍ كالعقل القطعي والنقل المعصوم.

لم يكن النبيّ في أمر الوحي إلّا قابلًا ومتلقيًا للوحي، ولم يكن خالقًا وفاعلًا فيه، أي لم ينشأ الوحي من داخل النبيّ، ولم يكن جبرئيل عقل النبيّ - كما يقول

(20)

بعض الباحثين - لأنّ هذا الزعم مضافًا إلى كونه يعاني من مشكلةٍ عقليّةٍ في اتحاد القابل والفاعل، يخالف صريح آيات القرآن أيضًا، التي تدلّ على أنّ النبيّ كان قابلًا لمحتوى الوحي وألفاظه، وكان موجودٌ مفارقٌ لوجود النبيّ وعلى صورة الملك، مأمورًا بإيصال محتوى الوحي وألفاظه من الله تعالى إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله [1].

وبناءً على هذا فإنّ الوحي النبويّ لم يكن وحيًا نفسيًّا، كما ذكره بعض فلاسفة الغرب، واعتقدوا أنّ الوحي النبويّ ينشأ من عقل النبيّ وروحه، لم يكن له منشأ خارجي وغيبي. نعم قد شهد التاريخ مصلحين بهممٍ عاليةٍ ونوايا خيِّرة، سعوا لإنقاذ الناس، لكن لم يأتوا بتعاليم وبرامج جامعةٍ وكونيّةٍ نبويّة، تجمع بين الروح والجسم، والظاهر والباطن، والمادّة والمعنى، والدنيا والآخرة، والمُلك والملكوت، والحياة الفرديّة والأسريّة والاجتماعيّة.

كما يتّضح ممّا مرّ أنّ الوحي النبويّ لم يكن نبوغًا أيضًا، ومن قال بأنّ الأنبياء نوابغ مخطئ، فهؤلاء يعتقدون بأنّ منشأ الوحي هو نبوغ الأنبياء الذاتي، وينكرون المنشأ الخارجي للوحي، مضافًا إلى أنّ النوابغ لم يكونوا كالأنبياء معصومين علمًا وعملًا، كما لا تقاس المعارف والمفاهيم الوحيانيّة مع أيّ أنواع النبوغ البشري من حيث العمق والسعة. ومن جهة أخرى فإنّ الأنبياء قد صرّحوا - خلافًا للنبواغ - بأنّ تعاليمهم وأوامرهم التي جاؤوا بها لهداية الناس لم تنشأ من نبوغهم، بل تنشأ من عالم الغيب ومن العلم الإلهي، وأخيرًا فنحن نعتقد بختم النبوّة، والحال أنّ الخاتميّة لا معنى لها في موضوع النبوغ.

(21)

هدف هذا البحث وموارد استعماله

نحن في كتابنا هذا، نهتمّ بتحليل ونقد آراء عبد الكريم سروش ومحمّد مجتهد شبستري حول الوحي، ونسعى لإبراز هدفهما الأساس عند تبيين آرائهما الوحيانيّة ونقدها؛ لذا نتطرّق هنا إلى بعض المباحث التي ربما لا علاقة لها بالوحي مباشرة من قبيل آراء سروش حول الدين، ونقد شبستري للقراءة الرسميّة للدين، وقد قمنا بنقدها وبعبارة أدقُّ أنّ لمعرفة الوحي اتّجاهات مختلفة من قبيل: الاتجاه المبنائي، والاتجاه الظاهراتي، والاتجاه الوظيفي.

فالاتجاه المبنائي يهتمّ بمباني الوحي الدينيّة والمعرفيّة واللسانيّة والهرمنيوطيقيّة، أمّا الاتجاه الظاهراتي فيشير إلى ماهية الوحي وأركانه، وفي الاتجاه الوظيفي يُبحث عن آثار الوحي الفقهيّة والسياسيّة والإجتماعيّة. ولمّا كان هذان المؤلِّفان قد تطرّقا إلى هذه الأبعاد الثلاثة سوية، فنحن أيضًا نتطرّق إليها. ولكن ما هو الأهمّ في هذه المباحث، نقد آراء عبد الكريم سروش حول ظاهراتيّة الوحي، وآراء محمّد مجتهد شبستري حول هرمنيوطيقا الوحي.

منهج البحث

كانت مباحث هذا الكتاب حصيلة دوراتٍ مضغوطةٍ ثلاث، تطرّقنا في دورتين إلى بيان آراء عبد الكريم سروش الوحيانيّة ونقدها، وخصّصنا دورةً واحدةً لبيان آراء محمّد مجتهد شبستري ونقدها، ثمّ انتشرت ملفات هذه الدورات ولاقت إقبالًا، وبعد عقدٍ من الزمن كنت أزعم عدم الحاجة إلى نشر محتوى تلك الدورات بعد نقد آرائهما من قبل فضلاء الحوزة والجامعة، غير أنّ إلحاح أتباع شروس وشبستري على

(22)

ترويج آرائهما الباطلة، وحاجة المجتمع إلى ردّ هذه الآراء، بعد إصرار بعض الأحبّة ذلك كلّه دعاني إلى تدوين محتوى تلك المباحث مع ما يقتضيه المقام من تطوير في المنهجيّة، وإضافة بعض المطالب، وقمنا بنشره بمنهج التوصيف والتحليل والاستفادة من النصوص المكتبيّة.

تعريف المسألة وبيان أسئلة البحث

لقد لفتت الآراء الهرمنيوطيقيّة واللسانيّة لبعض علماء الغرب، أنظار بعض المتنوّرين المعاصرين إلى مسألتين أساسيّتين، جعلوهما مستمسكًا لنيل أغراضهم، إحدى تلك المسألتين تتعلّق بماهية الوحي اللغويّة، والأخرى تتعلّق بمسألة مصدر الوحي.

وقد استطاع علماء الشيعة بالتفقّه والاجتهاد في المسائل الفقهيّة والكلاميّة، الصمود أمام التيّارات الفكريّة والثقافيّة والاجتماعيّة المعاصرة، وإظهار حيويّة الإسلام لأهل العالم، ولو أنكر بعض المتنوّرين المخدوعين بالغرب ماهية الوحي اللغويّة، بهدف التقليل من الصيغة الإلهيّة في إرسال الوحي، فإنّ سبب ذلك يعود إلى علمهم بأنّ منشأ هذه الحيويّة التي منعتهم من تحقّق أحلامهم، إنّما هو اعتقاد علماء الشيعة العميق بإلهيّة النصّ القرآني وعصمته، واعتقادهم بأهل البيت عليهم‌السلام، وعلموا بوضوح أنّ هذا المعتقد ما دام قائمًا في المجتمع، وما دام الناس يعتقدون بمرجعيّة القرآن وأهل البيت للإجابة على متطلبات العصر، لا تتحقّق أحلامهم في لحوق المجتمع بالغرب.

 إنّ إفهام الآخرين بالنقطة المركزيّة التي اعتمد عليها عبد الكريم سروش ومحمّد مجتهد شبستري في المباحث التي ذكروها حول الوحي، تغنينا عن الخوض

(23)

في كثيرٍ من المباحث الأخرى. فنحن هنا نسعى للفت نظر القارئ الكريم إلى هذه النقطة. ويمكننا ذكر السؤال الرئيس لهذا البحث بالنحو الآتي: ما هو الدالّ المركزي وما هي مباني عبد الكريم سروش ومحمّد مجتهد شبستري في التطرّق الى مسألة الوحي، لا سيّما من وجهة نظرٍ ظاهراتيّةٍ وهرمنيوطيقيّة.

وهنا ترد أسئلةٌ فرعيّةٌ كثيرة، نشير فيما يلي إلى أهمها:

1- كيف تطرّق سروش وشبستري إلى مسألة الوحي وبأيّ اتّجاه؟

2- ما الأفكار والشخصيات التي تأثّرا بها؟

3- ما الخلل الوارد في آرائهما؟

4- ما نتائج آرائهما وآثارها؟

مميزات البحث

 إنّ ميزة هذا البحث تتلخّص في بيان وتحليل آراء عبد الكريم سروش ومحمّد مجتهد شبستري حول الوحي -كما أشرنا إليه سابقًا- ونقد آراء سروش في ظاهراتيّة الوحي، وآراء مجتهد شبستري في هرمنيوطيقا الوحي، مع تبيين منطلقات آرائهما أيضًا، وبعبارةٍ أخرى لحظنا موقفهما من الوحي من حيث الاتّجاه المبنائي والظاهراتي والوظيفي، مع بيان سبب اتّخاذهما لهذه الآراء.

هيكليّة البحث

 تحدّثنا في القسم الأوّل تحت عنوان: (بيان بعض آراء عبد الكريم سروش في الوحي ونقدها) عن سير تطوّر آراء سروش حول الوحي، ثمّ ذكرنا نظريّته حول رؤيوية الوحي ونقدناها. ثمّ نذكر مباني سروش اللغويّة والمعرفيّة والهرمنيوطيقيّة

 

(24)

والدينيّة حول الوحي، كما ننقد في المبنى الديني آراءه في التجربة الدينيّة، والذاتي والعرضي في الدين، والدين الأقلي. وفي الخاتمة نتطرّق إلى أهمّ الأسئلة المطروحة في هذا المضمار مع الإجابة الإجماليّة عليها.

 أمّا القسم الثاني فنذكر آراء محمّد مجتهد شبستري في الوحي ونقدها، إذ نذكر نظريّته التفسيريّة واللغويّة والوحيانيّة وننقدها ضمن أربعة محاور:

1- بيان رؤيته التفسيريّة ونقدها.

2- الإشارة إلى نقده للإسلام الفقاهتي، ونقد نقده.

3- بيان آرائه الوحيانيّة والدينيّة ونقدها.

4- نقد بحثه الأخير تحت عنوان: (كيف انهارت المباني الفقهيّة والكلاميّة).

 وختامًا أشكر الأخ الفاضل الدكتور القمي لاهتمامه بتدوين هذا الكتاب، كما أشكر زوجتي الفاضلة حيث راجعت الكتاب. وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربّ العالمين

(25)
(26)

 

 

 

القسم الأوّل:
بيان بعض آراء عبد الكريم سروش
في الوحي ونقدها

(27)
(28)

الفصل الأوّل:
مراحل مدعيات سروش حول الوحي ونقدها

لقد طرح سروش في العقود الأخيرة مدعيات عدّة حول الوحي، بدأت منذ عام 1377ش في كتاب (بسط التجربة النبويّة)، ووصلت عام 1386ش إلى ادّعاء أنّ القرآن من كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، وانتهت أخيرًا إلى الاعتقاد برؤيويّة الوحي.

ادّعاء سروش الأوّل:

ورد الادّعاء الأوّل لسروش في كتاب (بسط التجربة النبويّة)، حيث جعل الوحي تجربةً نبويّة، وقال كما أنّنا نمتلك التجربة الحسّيّة نمتلك أيضًا التجربة الدينيّة. إنّ التجربة الحسّيّة عبارةٌ عن التلقّي الحسّي مع تفسير المجرِّب، وتنشأ من الشرائط البيئيّة للمجرِّب، وكذلك التجربة الدينيّة، أي أنّها نوعُ تلقٍ مع إضافة تفسير المجرِّب. وعليه فإنّ التجربة النبويّة مصداقٌ من مصاديق التجربة الدينيّة، ولها الحكم نفسه. ففي التجربة النبويّة تحصل للنبيّ تجربةٌ قلبيّةٌ معنويّةٌ ونورانيّةٌ إلهيّةٌ، وهو يقوم بتفسيرها متأثّرًا بشخصيّته ومحيطه الذي يعيش فيه، وحاصل هذا التفسير يكون وحيًا، فالوحي صنعة النبيّ متأثّرًا بخصائص شخصيّته النفسيّة ومحيط حياته[1].

(29)

وطبقًا لهذا المدّعى، فأنّ الوحي هو تفسير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للنورانيّة الإلهيّة الحاصلة له، وليست النورانيّة وحيًا؛ لأنّها مبهمة، بل الوحي هو تفسير تلك النورانيّة المبهمة.

بيان ذلك: بناءً على رؤية سروش فإنّ للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تجربةً باطنيّةً تكوّن شخصيّته، وله أيضًا تجربة خارجيّة تنشأ من محيطه الخارجي، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في تكاملٍ تدريجيّ مستمرٍ دائمًا، وبعد ثلاثٍ وعشرين سنة من التكامل وصل الى تلاوة الآية: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (المائدة: 3)، ومعناها أنّ اليوم اكتملت تجربته الدينيّة، بمعنى أنّك تستطيع أنْ تفسّر النورانيّة الإلهيّة بشكل أفضل، وذلك لاكتمال التجربة الباطنيّة والخارجيّة.

فبناءً على هذه النظريّة لم تدلّ الآية على بيان جميع الحقائق في القرآن من قبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، ولم يكن المراد من إكمال الدين اكتمال الحدّ الأعلى من محتوى القرآن، بل إنّها تعني اكتمال تجربة النبيّ الدينيّة والتي أدّت إلى تورّم الدين، وهذا التكامل قد حصل في البسط التاريخي لحياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وخلاصة رأي سروش أنّ الدين نتيجة تجارب النبيّ الفرديّة والاجتماعيّة، ولو عاش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر لأمكن ازدياد حجم القرآن ممّا هو عليه الآن، وعليه فإنّ سروش يرى أنّ الإسلام عبارةٌ عن حركةٍ تاريخيّةٍ وبسطٍ تدريجي الحصول لتجربة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله التي تعدّ انعكاسًا لكثيرٍ من الحوادث الواقعة في عصره[1].

(30)

نقد ادّعاء سروش الأوّل

إنّ هذه الدعوى لم تكن تفسيرًا جديدًا لحقيقة الدين والوحي؛ لورود هذه الآراء فيما مضى في اللًّاهوت المسيحي بتفاصيل أكثر. وقد اهتمّ كلٌّ من شلايرماخر، وويليام جيمز، وبراودفوت، وريتشارد سوين برن وغيرهم من مفكّري القرن التاسع عشر فصاعدًا، بنشر آرائهم حول التجربة الدينيّة، وحاولوا إرجاع حقيقة الدين أو حقيقة الوحي إلى نوعٍ من التجربة مع لحاظ تعاريف وقيود خاصّة، والحال أنّ حقيقة الدين والوحي عندهم تتغاير مع التجربة الدينيّة تمامًا، ويظهر هذا التغاير الماهوي من خلال رؤيةٍ خاطفةٍ إلى هذه الآراء ومقارنتها مع ما يُفهم من حقيقة الدين والوحي بالمنهج الظاهراتي.

إنّ الدين عبارةٌ عن حقائق دالّةٍ على الرؤية الملكوتيّة للمعرفة والعمل والفعل الدنيوي، أمّا التجربة الدينيّة - كما سنعرف من تعريفها - فإنّها الإحساس أو الإدراك المعنوي والقدسي الناشئ من العوامل الداخليّة (الحالات المعنويّة) والخارجيّة (الأمور الاجتماعيّة) للشخص المجرِّب، خلافًا للدين الذي يكون منشأه إلهيًّا.

لا يوجد تعريفٌ واحدٌ متّفقٌ عليه بين الجميع للتجربة الدينيّة[1]، فقد عرّف شلايرماخر الدين - بعد ذكر اختلافه مع الميتافيزيقا والأخلاق والعرفان - بأنّه نوعٌ من الإحساس - وليس الإدراك - في الاتّكاء التامّ على موجودٍ وحقيقةٍ مطلقةٍ تمتاز عن الكون[2]، أو أنّه وعيٌ ذاتيّ بالوجود المتكل على الغير بنحوٍ مطلق، المعادل

(31)

للوجود المتكل على الله تعالى[1].

وزعم آلستون أنّ التجربة الدينيّة من سنخ الإدراك، ولم يكن متعلّقها مجهولًا كما هو الحال عند شلايرماخر، بل يمكن معرفة الإدراك والمدرِك والمدرَك، وهو يقبل الصدق والكذب عن طريق تطابق المدرَك بالذات (الصورة الذهنيّة) مع المدرَك بالعرض (الخارج)[2].

ويرى براودفوت أنّ التجربة الدينيّة - أعمّ من الإحساس أو الإدراك - حقيقةٌ لا تنفك عن المجرِّب أبدًا، وهذا التفسير ينشأ عن المجرّب، وهو نتيجةٌ لعللٍ مختلفةٍ منها القبليّات المعرفيّة[3].

وعدّ سوين برن التجربة المعنويّة - أعمّ من أن تكون بوساطة شيءٍ محسوسٍ ومتعارفٍ أو شخصي - والتجربة العرفانيّة - أعم من كونها قابلةً للتوصيف أم لا- وتجربة الأنبياء الوحيانيّة التي تحصل من دون وساطة شيءٍ محسوس، عدّها جميعًا من أنواع التجربة الدينيّة المختلفة[4].

وعليه فإنّ سروش وغيره من مفكّري العالم العربي وغير العربي المعاصرين، قد كوّنوا رؤيتهم حول حقيقة الوحي القرآني بتأثير هذه الآراء والنظريّات، وقد ذكرنا النقد التفصيلي لهذه الرؤية في كتاب (كلام نوين إسلامي) وقسم التجربة الدينيّة، وكتاب (سروش، دين ونوانديشي) قسم النبوّة، وبسط التجربة النبويّة. ونشير هنا

(32)

إلى بعض النقود بشكلٍ إجمالي:

أوّلًا: هذا الكلام يُعدّ من مباحث الظاهراتيّة، وهو مردودٌ بالمنهج الظاهراتي نفسه؛ فعندما نتوجّه نحو القرآن بالمنهج الظاهراتي، ينكشف لنا بوضوحٍ تعارض هذه النظريّة مع الآيات القرآنيّة الدالّة على ماهية الوحي، وسنذكر فيما يلي بعض الآيات المصرّحة بذلك:

التلقي الصرف للوحي: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (النمل: 6)، وقوله تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) (المزمل: 5).

نزول بعض أقسام الوحي على النبيّ عن طريق الملك: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (الشعراء: 193-194).

استمرار النزول أو تأخّره وكونه خارجًا عن الإرادة: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (مريم: 64).

عدم إمكان التصرّف في أيّ شيءٍ من الوحي: (وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (يونس: 15).

نزوله عن الله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا) (الإنسان: 23).

فهذه الآيات تدلّ بوضوح على أنّ القرآن وحيٌ إلهي، نزل بإرادة الله تعالى حصرًا، ولم يكن للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أي دورٍ في نزوله.

قد يقال: إنّ لسروش تحليلًا جوانيّا لهذه الآيات، حيث يقول إنّ جميعها تصوّر النبيّ وتفسيره، أي أنّ النبيّ قد تخيّل أنّ الأمر هكذا، فعبّر عمّا في ضميره بهذه اللغة،

(33)

وبعبارةٍ أخرى تقتضي رؤية سروش أنّ المنهج الظاهراتي يجري في تفسير أو رواية الوحي لا الوحي نفسه. ونقول في الجواب: إنّ الرؤية المتداولة في هذا الموضوع هي ما ذكرناها، مضافًا إلى أنّ سروش لم يبيّن النسبة بين التفسير النبويّ والتجربة النبويّة، ولم يُبيِّن طريقة معالجة هذه الآيات.

ثانيًا: إنّ هذا المدّعى يفقد الاتّجاه الاستدلالي وحتّى المنهج الهرمنيوطيقي، وهو في الواقع إقحام نموذجٍ محرّفٍ ومتناسقٍ مع مفهوم الوحي في اللَّاهوت المسيحي على الوحي الإسلامي، مضافًا إلى أنّه يبيّن الشاكلة التجريبيّة للوحي، وقد تغافل أو أغفل النظريّتين الأخريتين حول حقيقة الوحي، وهما نظرية القضايا ونظرية الأفعال القوليّة. وهذا العمل من حيث المنهجيّة - أي الاسترسال بالكلام والتنظير من دون ردّ الأقوال الأخرى أو التعرّض لها - يُعدّ ابترًا.

ثالثًا: الإشكال الثاني على هذه النظريّة الخلط بين التجربة الدينيّة والوحي، وإهمال الاختلافات الأساسيّة بين الوحي والتجربة الدينيّة، إذ إنّ من مميّزات الوحي التي تفقدها التجارب الدينيّة هي:

1- عدم تأثّر الوحي بثقافة العصر.

2- إرتكاز صدق الوحي في نفس النبيّ وحصول الإطمئنان له.

3- اشتمال الوحي على التشريع والتكليف.

4- تحدِّي الوحي.

5- اختلاف الوحي عن سائر كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

6- الشاكلة اللغوية للوحي: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) (النساء: 164)، (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) (طه: 113)، (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) (الشعراء: 195).

7- كون الوحي إلهامًا لا اكتسابًا.

 

(34)

رابعًا: لقد ذهب سروش في مدعاه الأوّل إلى أنّ منشأ الوحي هو النبيّ إنطلاقًا من النورانيّة الإلهيّة. وقد ذكر قيد (النورانيّة الإلهيّة) لأجل تمييز نظريّته عن آراء بعض المستشرقين الذين عدّوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نابغةً خدع الناس بصناعة القرآن، وآراء أمثال فرويد ودوركايم في منشأ الدين، إذ جعلاه وليد العقد الجنسيّة أو صنيع التعارض بين العامل وصاحب العمل أي العبد والمولى زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، ولكن التدقيق في نتائج نظريّة سروش، يظهر عدم وجود أيّ ترجيحٍ بين كلامه وكلام هؤلاء، ولا يغيِّر قيد (الابتناء على النورانيّة الإلهيّة) الوارد في هذه النظريّة من نتائجها.

خامسًا: لا يمكن الاكتفاء في موضوع معرفة الوحي بمجرّد الادّعاء، فمدّعى أصحاب معرفة الوحي إمّا أن يُؤيّد بالإستدلال العقلي، وإمّا أن ينسجم مع الشواهد النصّيّة. فالعقل يُثبت أنّ الإنسان يحتاج إلى مصدرٍ غير العقل والتجربة لأجل اكتشاف علاقة الدنيا بالآخرة. فالعقل والوجدان والفطرة تُثبت وجود الله والحياة بعد الموت، ووجود علقةٍ بين الدنيا والآخرة، ولكن العمل الذي يوجب السعادة في الدنيا أو الشقاء في الآخرة، لا يُفهم من خلال الحسّ والتجربة.

إنّ البشر يفهم بنحوٍ عامٍّ حسن العدل وقبح الظلم، لكنّه غير قادرٍ على معرفة كثيرٍ من مصاديق الظلم والعدل؛ لذا نرى بين أفراده اختلافًا دائمًا حول مصاديق الظلم والعدل. فنحن يمكننا فهم أصل ارتباط الدنيا بالآخرة بالاستدلال العقلي، كما يمكننا فهم لزوم أصل الثواب والعقاب الأخروي بالاعتماد على الحكمة والعدل الإلهي، ولكن لا يمكننا إدراك العمل الموجب للثواب، والعمل الموجب للعقاب بالعقل. فالعقل يحكم أنّ الله بناءٌ على عدله وحكمته يلزم أنْ يعيِّن مصدرًا معرفيًّا للإنسان ينير له الدرب، وهذا المصدر هو الوحي، ولا ينسجم مع عدل الله وحكمته تأثير محيط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وشخصيّته على هذه المعارف وتغيير مسيرها.

(35)

وبعبارةٍ أخرى أنّ كلام سروش يخالف العقل، وقد ذكرنا في النقطة الأولى أنّنا لو فحصنا كلام سروش بالمنهج الظاهراتي ــ أي إذا لحظنا محتوى القرآن في ذلك ــ لرأينا عدم وجود مؤيّدٍ قرآنيّ لكلام سروش، بل الأدلة قائمة على خلافه؛ فقد دلّت آياتٌ كثيرةٌ على أنّ هذا الكتاب كلام الله وبيانه وتبيانه، ولم يضف إليه النبيُّ شيئًا[1]. وحتى زمن نزول القرآن لا بدّ أن يكون بإذن الله[2]. وعليه فإنّ مراجعة نصّ القرآن يُظهر خطأ نظريّة سروش حول الوحي.

سادسًا: يرى سروش أنّ بعض آيات القرآن قد نزلت بسبب وقائع زمنيّة خاصّة - كالآيات المتعلّقة بأبي لهب وغزوة بدر وأُحد ونحوها - ممّا يدلّ بزعمه على تأثّر القرآن بشرائط محيطه. ونقول في الجواب: نحن نذعن أيضًا بنزول بعض الآيات بسبب وقائع زمنيّة خاصّة، لأنّ القرآن لا يخصّ أهل السماء، بل نزل لأهل الأرض، ولمّا كان هذا النزول في تلك المدّة، وكانت الأولويّة لهداية ذلك المجتمع، فمن الطبيعي أنْ تختصّ بعض الآيات بتلك الحوادث المتعلّقة بذلك الزمن، ولكن الأمر المهمّ أن الله تعالى في هذه الآيات يعطينا حكمًا كلّيًّا لا يختصّ بذلك الزمن، مضافًا إلى أنّ القرآن قد يتطرّق إلى مباحث لم تكن موجودةً لدى ثقافة أهل ذلك الزمان[3].

(36)

الادّعاء الثاني: الوحي بمنزلة عسل النحلة

لقد بيّن سروش عام 1386ش نظريّته بنحوٍ آخر حاصلها أنّ النبيّ لم يكن كالببغاء كي يستمع من الله، ومن الملك ثم يكرّر ما سمعه، بل أنّه كالنحلة التي تمتص شهد الوردة، ثم تحوّله إلى العسل. إنّه كالشاعر، أي يرى نورًا ويجد إلهامات، فيحوِّلها إلى شعرٍ أو نثرٍ جميلٍ بحسب قدرته وسعته الوجوديّة وشرائطه الزمنيّة، فقدرة الشاعر وسعته الوجوديّة مهمّة جدًّا في شاعريّته، فربّما يجد شخصٌ شهودًا أعلى من شهود المولوي أو حافظ، ولكنّه لعدم مقدرته الشعريّة لا يتمكّن من تدوينها بالنحو المطلوب، وبشكل مؤثّر، فللظرف الزمني تأثيرٌ كبيرٌ على الشاعر؛ لذا نرى تأثيرات زمن حافظ والمولوي في أشعارهما، وعلى سبيل المثال لو لم يكن حسام الدين الشلبي ربما لم يتمكّن المولوي من إنشاد أشعاره هكذا. وقد ذكر سروش نظريّته هذه في عدّة بحوثٍ، وسمّى كتاب المثنوي المعنوي بـ (حسامي نامه).

وكما أشرنا فإنّ هذا المدّعى لم يكن كلامًا جديدًا للتجربة الدينيّة، بل أنّه نفسها ولكن بعباراتٍ أُخرى، ويرد عليه ما ذكرناه سابقًا، وسنتعرض إلى نقده بشكلٍ مستقلٍّ لاحقًا.

الادّعاء الثالث: القرآن رؤيا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله

لقد ذهب سروش في مدّعاه الثالث إلى أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله راوٍ للرؤيا الرساليّة[1]، هذا المدّعى يختلف عن المدّعيات التي مضت، فسروش يعتقد هنا أنّ النبيّ قد رأى منامات، ثم بيّنها؛ فتكوّن القرآن من مجموع تلك البيانات، وهذه المنامات تحتاج إلى

(37)

من يعبرّها ولم تكن بحاجةٍ إلى مفسِّرٍ أو مترجم، أي لا يصحّ ترجمة القرآن وتفسيره، بل القرآن بحاجةٍ إلى التعبير[1].

 تبيين الادّعاء الثالث (رؤيويّة الوحي)

المقدّمة الأولى: منهج البحث (ظاهراتي)

يصرّح سروش «أنّ ما يذكره في بحثه لم يكن أنطولوجيا الخيال والمثال والحضرات الخمس أو معرفتها[2]، بل أنّه ظاهراتيّة الخيال وبيان خصائص رواية الرؤيا»[3]. الظاهراتيّة عند هوسرل أنْ نجعل الواقع داخل قوس (ايبوخة)[4]، مع تعليق الفرضيّات القبليّة التجريبيّة والميتافيزيقيّة المتعلّقة بعالم الطبيعة، وأن ندرسه من حيث كونه ظاهرة ظهرت لنا[5].

وعليه فإنّ مدّعى سروش - في كون الوحي رؤيا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ونتيجة قوّته

(38)

المتخيّلة؛ ولذا يريد أنْ يعرف أوصافها وخصائصها مع قطع النظر عن القوة وعالم الخيال - مدّعى ظاهراتي حول الرؤيا[1]. نعم إنّ سروش لم يجعل القرآن رؤيا النبيّ، بل إنّه رواية رؤيا النبيّ وصلت إلينا، وهو يسعى إلى كشف ظاهرة رواية تلك الرؤيا. ولازم هذا الاتجاه الظاهراتي إهمال المباحث الكلاميّة، أي أنّ هذا البحث لا يتلازم مع قبول أو ردّ الوحي والنبوّة، أو الحقّ والباطل، والكفر والإيمان. بل يسعى الى مجرّد فهم كيفيّة رواية ظاهرة الوحي -التي هي رؤيا النبيّ- لنا، فرواية هذه الرؤيا لها أسرارٌ ورموزٌ وأقفالٌ يسعى سروش بزعمه إلى حلّها وفتحها.

المقدّمة الثانية: كلمة الرؤيا ومفهومها

يؤكّد سروش عدم إصراره على كلمة (الرؤيا)، ويمكن استبدالها بكلماتٍ أُخر مثل المكاشفة، والواقعة، والمثال، والخيال المتّصل، والخيال المنفصل[2]، وحتى كلمات من قبيل: الإقليم الثامن، وجابولقا وجابولسا، وأرض الملكوت، أمّا سبب اختيار كلمة (الرؤيا)، فمنشأه أمران:

ابتعادها من الإبهامات المعقّدة والمفاهيم القديمة والميتافيزيقيّة؛ إذ إنّ أكثر الناس قد جرّبوها ويعرفونها.

 تكشف حقيقة التجربة النبويّة بنحوٍ أفضل، وأجلى[3].

(39)
تبيين أساس الادّعاء الثالث

 يعتقد سروش أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله راوٍ قد روى لنا بكلّ صدقٍ المنامات الرساليّة والرمزيّة بلسان العرف واللغة العربيّة الواضحة من دون مجازٍ وكناية. والمقصود من قيد (بكلّ صدقٍ) ليس الصدق الإبستمولوجي، بل الصدق الأخلاقي، أي أنّه بيّن ما رآه حقيقة، ولكن لا نعلم أنّ ما رآه هل يتطابق مع الواقع أم لا، فالمقصود هو الصدق المخبري لا الصدق الخبري، أنّ سروش يعتقد أنّ القرآن كتاب مناماتٍ ويحتاج إلى معبّرين يعبِّرون لنا الحقائق التي ذكرت بلسانٍ رمزيّ خاصٍّ بالرؤيا وظهرت للنبيّ؛ لذا لا بدّ أنْ نستخدم لفظ التعبير بدل الترجمة أو التفسير عند تبيين القرآن[1].

 يعتقد سروش أنّ المفسّرين يتخيّلون أنّ خطابات القرآن وأوامره ونواهيه وردت بلغة اليقظة؛ لذا يقومون بترجمتها بلغة اليقظة أيضًا، ويقومون بتفسير وتأويل إبهامه وإغلاقه في مقام بيان المصاديق، والحال أنّ لسان القرآن ولغته لغة المنام والرؤيا، ويحتاج إلى مُعبِّر، وعلى المعبِّر أن ْيقرّب لنا ما رآه في عالم الرؤيا المليء بالغموض والأسرار، نعم لم يكن النبيّ مُعبِّرًا، بل أنّه راوٍ لمناماته[2].

 ويعتقد سروش أنّ رؤيويّة الوحي لم تُفقد الوحي قوّته وغناه، بل تزيد عليهما؛ لأنّ المفسّرين يجعلون الوحي من مسموعات النبي، ونظرية سروش هذه تجعله من مرئيّاته، وفي هذه النظريّة يكون النبيّ راويًا لمشاهداته، وليس ناقلًا لمسموعاته، ويقول سروش إنّ المفسّرين يرون أنّ النبيّ سمع خبر القيامة من الله أو الملك ثمّ

(40)

نقله لنا، ونحن نرى أنّه رأى القيامة والجنّ والملك والشيطان والعرش والكرسي، ثم بيّنها لنا. إنّهم يقولون إنّ الله قد قصّ على النبيّ قصّة سجود الملائكة لآدم وعصيان الشيطان، ثمّ قام النبيُّ بنقلها إلينا، ولكن نحن نقول إنّ النبيّ قد رأى جميع ذلك بعين الرؤيا ثم بيّنها لنا، ولكنّ حكاية هذه الرؤيا بنفسها مليئةٌ بالأسرار والرموز، فالنبيّ في الرؤيا قد يدور حول نفسه، يقتبس الوجوه الأخرى، ويجلس مجلس الأنبياء، فيكون تارةً آدم، وتارةً إبراهيم، وأخرى موسى، فيتكلّم عن لسانهم، ويكشف عن تجاربه الباطنيّة باسم موسى وعيسى وإبراهيم؛ ولذا يكون اسم أحمد اسم جميع الأنبياء[1].

الشواهد الدالَّة على رؤيويّة الوحي

يرى سروش أنّ جميع شواهده التي يدّعيها إنّما هي ظاهراتيّة، أي يعتقد بوجود خصائص في القرآن تؤيّد مدّعاه. وهذه الشواهد هي:

إنّ نصّ القرآن نصٌّ رمزيٌّ غائمٌ مشّوس، ويشبه النصوص الفنيّة والخياليّة وكتب المنامات، ومليءٌ بالتناقضات[2]، نظير عبارة: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) (الأنفال: 17). فهي عبارةٌ متناقضةٌ تتناسب مع عالم الرؤيا، إذ الفلاسفة يفرّون من التناقض، ولكن العرفاء يتوافقون مع التناقض ويميلون إليه[3].

أسلوب الالتفات، أي الانتقال المتكرّر من الخطاب إلى الغيبة، وبالعكس؛ وهذا ممّا يتوافق مع الرؤيا.

(41)

التفكيك بين العلّية والزمان[1]. وعلى سبيل المثال فإنّ الآية السابعة والأربعين من سورة الحج تقول: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ). فهي تدلّ على عدم واقعية الزمان، فكيف يعادل يومٌ واحدٌ ألف سنة؟ فهل هذا يتبع المواضعة؟ فتعلم منه أنّ الزمان مفكّك، وهذا يتناسب مع عالم الرؤيا والمنام. ومثله ما يقال: (الشباب الذين لا يهرمون)، و(حور العين الباكرة دائمًا)، و(الخمر الذي لا يُسكر ولا يوجب الصداع)، و(الحليب الذي لا يفسد)، و(الثوب الذي لا يَخْلق).

استعمال صيغة الماضي عند وصف الجنة والنار وما لا يُرى[2]. وعلى سبيل المثال ورد في القرآن: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ)، و(وَجِيءَ بِالنّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ)، و(وَسِيقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنّمَ)، و(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ)، و(وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ.. وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

الفاصلة بين المنامين، وقوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ)، يعني أنّ النبيّ كان يريد تارةً بيان رؤياه قبل أنْ ينتهي منامه، فهذه الآية منعته من ذلك، وأوصته ببيانه بعد اكتماله.

ما قاله أمير المؤمنين عليه‌السلام من أنّ رؤيا الأنبياء وحي[3].

تنوّع المناظر والوقائع التي يرويها النبيّ، كقصص الأنبياء، ونزول الملائكة ليلة القدر، وضرب الملائكة للظالمين عند الموت، وأهوال القيامة، وجلوس الله على العرش، وغروب الشمس في عين حمئة، وسجود الملائكة لآدم، ومجادلة إبراهيم

(42)

مع الله، وقصّة أصحاب الكهف، وقصّة المعراج والإسراء[1].

ثمّ يقول سروش بأنّ العلّامة الطباطبائي قد تكلّف عند تفسير هذه الآيات والروايات والحال أنّها مجرّد تقارير للرؤيا، ولا بدّ من تعبيرها لا تفسيرها، ويرى سروش أنّ الجدل القائم حول جسمانيّة المعراج أو روحانيّته ناشئٌ من عدم الالتفات إلى حقيقة رؤيويّة المعراج[2].

نقد الناقدين وأجوبة سروش

 لقد انتقد كثيرٌ من المفكِّرين نظريّة رؤيويّة الوحي، وقد انتخب سروش بعض هذه النقود وأجاب عليها، ونحن هنا نذكر تلك النقود وجواب سروش، ونترك الحكم عليها إلى القسم الأخير[3]:

 الإشكال الأوّل: المنام ليس حجّة ولا اعتبار له، فلو كان الوحي منامًا لسقط من الحجيّة والاعتباريّة. وعلى سبيل المثال لو رأى شخصٌ في المنام أنّه مدينٌ بمالٍ لشخص آخر، فإنّه لا يلزم نفسه بهذا الدَيْن، ولكن لو وجد في زاويةٍ من بيته ورقة، والتفت إلى أنّها سندٌ لدَينٍ سابق، فإنّه سيهتم بها ويقوم بأداء دَيْنه.

 جواب سروش: إنّ مدعي الوحي كذلك أيضًا، فهل ادّعاء الوحي حجّة؟ لا، إنّ المؤمنين رأوا الحجيّة في الوحي بأيّ دليلٍ كان، والآن بإمكانهم جعل الرؤيا النبويّة حجّةً أيضًا. فهذه الرؤية البرَّانية للمنام يمكنها أنْ تجري على الوحي أيضًا، فلو لم نرَ الحجيّة للمنام لزم ألّا نرى الحجيّة للوحي أيضًا، ولو اعتقد المؤمنون بحجيّة الوحي، أمكنهم القول بحجيّة المنام أيضًا.

(43)

الإشكال الثاني: إذا كانت دعوة النبيّ أمثال أبي جهل إلى الإسلام، تعني إيمانه بمضمون منام النبيّ، أمكن لأبي جهل أنْ يدعو النبيّ إلى الإيمان بمناماته، فأيّ ميزةٍ توجد لرؤيا النبيّ على رؤيا أبي جهل؟

 جواب سروش: هذا الإشكال يمكنه أنْ يرد على الوحي أيضًا، فإذا قال النبيّ لأبي جهل: (آمن بالوحي المنزل عليّ)، أمكن لأبي جهل أنْ يقول للنبي أيضًا: (آمن بالوحي المنزل عليّ).

 الإشكال الثالث: إنّ القرآن طلب المبارزة في آيات التحدّي كي يأتوا بسورةٍ مثل القرآن. فكيف يمكن تفسير هذه الآيات بالاعتماد على نظريّة رؤيويّة الوحي؟

 جواب سروش: إنّ الحكم على أنّ هناك من يتمكّن من الإتيان بمثل القرآن أو لا يتمكّن متروكٌ لأهل الفن، ولا يمكن الاكتفاء بمجرّد الادّعاء بإمكان ذلك. فلو تمكّن شخصٌ بذلك فليأتِ به كي يحكم أهل الفنّ فيه، والآن أنّنا لو افترضنا أنّ النائمين يريدون الإتيان بمناماتٍ تشبه القرآن أو يرد ذلك الأيقاظ، فإنّهما سيّان، إذ رؤيويّة الوحي لا تغير شيئًا حول التحدِّي.

 الإشكال الرابع: لقد تكرّرت كلمة (نزل) وما شابهها من قبيل: (نزول، إنزال وتنزيل) أكثر من مائة مرّة في القرآن، وهي تدلّ على أنّ الله تعالى أنزل حقائق خالصةً لهداية الناس.

 جواب سروش: إنّ المنام نزول أيضًا، ولكنّه نزولٌ من دون صورةٍ وشكل. ولم يكن معنى النزول في القرآن النزول الحقيقي من الأعلى إلى الأسفل، بل إنّها استخدمت في معنى مجازيّ واستعاريّ يتوافق مع المنام، ومن غير الممكن القول بخلوص الوحي حتّى من الاختلاط باللغة العربيّة، فللغة العربيّة قيودٌ كثيرة؛

(44)

وعليه فإنّ حقيقة الوحي الخالصة مقيّدةٌ باللغة العربيّة، مضافًا إلى أنّ تدفق ذهن النبيّ من فعل الله أيضًا، فلو ظهر من ذهن النبيّ شيءٌ كان فعل الله، وأمكن نسبته إلى الله، والقول بأنّه أنزله، فالله قادرٌ وفاعلٌ مطلق.

 الإشكال الخامس: تؤدّي رؤيويّة الوحي إلى عبثيّة الفقه، وإلى الإباحيّة ونفي الشريعة. ومع قبول هذه النظريّة تسقط آيات الأحكام من الاعتبار، فالأحكام الشرعيّة من قبيل ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ، و﴿أَقِمِ الصّلَاةَ، تحتاج في حجّيّتها إلى حجّيّة ظاهر القرآن، والقول برمزيّة ألفاظ القرآن يساوي نفي حجّيّة الظاهر واعتباره.

 جواب سروش: أولًا لا أصالة للفقه، ولا يُعدّ الفقه جوهر الدين، بل أنّه أمرٌ عرضيّ، وله تاريخٌ محدّد. ولا يمكن أنْ نزن إيمان المؤمنين بمقدار تقيّدهم بالفقه، وثانيًا: إنّ تنحية الفقه لا يستلزم الإباحيّة، لأنّ الدين - مضافًا إلى الفقه - يحتوي على الأخلاق، فالتقيّد بالأخلاق الديني يمنع الإباحيّة، فالقول برؤيويّة الوحي لا يضرّ الأخلاق الدينيّة.

 الإشكال السادس: إنّ القائل بهذا القول هو أوّل من لا يحترم كلامه، إذ إنّه في استخدامه الكثير لآيات القرآن يتعامل معها وكأنّها ألفاظٌ نُطقت في اليقظة، ونزلت من قبل الله عينًا، فلو كان لسان القرآن لسان المنامات ويحتاج إلى تعبير، فما الذي جوّز لك أنْ تفسّر ألفاظ القرآن لتأييد نظريّتك؟

 جواب سروش: أوّلًا إنّ هذا العمل جدلي، والهدف منه إبطال حجّة الخصم الذي يرى حجيّة ظواهر ألفاظ القرآن، وثانيًا إنّ معنى لزوم التعبير للرؤيا لم يكن بمعنى عدم بقاء أيّ لفظٍ على معناه الأصلي، كي تتغيّر على سبيل المثال معاني حروف

(45)

الإضافة مثلًا، فبعض المسموعات والمرئيّات في المنام - على حدّ تصريح المعبّرين للمنامات - تكون بعيدةً من عالم اليقظة، وبعضها تكون قريبةً عنه، فالمنام كالبحر الواسع له عمق وساحل.

 الإشكال السابع: لا يمكن إبطال نظريّة رؤيويّة الوحي، لأنّ أيّ آيةٍ يتمسّك بها خصومك لإبطال ادّعائك، لم تكن عندك إلّا رؤيا.

 جواب سروش: هذا الإشكال يرد على الرأي الآخر أيضًا.

 الإشكال الثامن: يقول القرآن:(إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) (الطارق: 13-14)، فلا يمكن أنْ يكون منامًا.

 جواب سروش: القول الفصل لا ينافي عالم الرؤيا.

 الإشكال التاسع: إنّ الأمر والنهي ينافي عالم الرؤيا.

 جواب سروش: لا توجد أيُّ منافاةٍ بينهما، إذ يقال للنائم في منامه: (اذهب، اسمع، تكلّم)، فهل هذه الخطابات تحوّل لسان النوم إلى لسان اليقظة، وتجعل السامع والقائل اثنين؟ كما يمكن مخاطبة الإنسان نفسه في حديث النفس بالأمر والنهي.

تقييم رؤيويّة الوحي ونقدها

 قبل التطرّق إلى نقد نظريّة رؤيويّة الوحي[1]، تجدر الإشارة الى المناهج المتبعة في فهم القرآن؛ إذ توجد عدّة مناهج رئيسة في ذلك:

(46)

    المنهج اللساني.

    منهج الهرمنيوطيقا الفلسفيّة.

    المنهج التاريخي.

    المنهج الظاهراتي[1].

    المنهج العقلي الفلسفي.

 ونقول في مقام بيان كلّ منهجٍ ما يأتي:

إنّ المنهج اللساني يعتمد على فهم القرآن من خلال قواعد ومصطلحات اللسان، ويلزم فيه توفّر القبليّات الأداتيّة لفهم القرآن، علمًا بأنّ هذا المنهج يدور مدار المؤلّف، أو يلحظ النصّ والمؤلّف سويّة، وهذا المنهج هو منهج علم الأصول.

إنّ منهج الهرمنيوطيقا الفلسفيّة يعتمد على المفسِّر، ويمكن فيه تحميل قبليّات وفرضيّات كثيرة على النص. يعتقد أنصار الهرمنيوطيقا الفلسفيّة بعدم إمكان اجتناب تحميل أنواع القبليّات والفروض المسبقة على النصّ، وسواء قبلنا أم لم نقبل فإنّ هذه القبليّات موجودةٌ وتؤثّر على فهم المتن، من قبيل تفسير القرآن برؤيةٍ فلسفيّة، كلاميّة، عرفانيّة، علميّة، وحتى إلحادية وماركسيّة وشيوعيّة وليبراليّة.

 نحن نعتقد بوجود الإشكال في التفسير الهرمنيوطيقي الفلسفي، ويعتقد أنصار الهرمنيوطيقا الفلسفيّة سواء وُجد الإشكال أم لم يوجد، بعدم وجود فهمٍ لم يعتمد على القبليّات والفروض المسبقة، ولكن نحن نقول: ليس الأمر على إطلاقه، إذ من الصحيح اعتماد الفروض والقبليّات الأداتيّة لتحقّق الفهم، ولكن من الممكن أيضًا ترك هذه الفروض والقبليات ووضعها إلى جانب بعد تحقّق الفهم، ثمّ القيام

(47)

بنقده من منطلق رؤيتنا الخاصّة وعلومنا المسبقة، وعلى سبيل المثال أنّ من الجائز قيام الغير بشرح كلام شخصٍ ما أفضل من صاحب الكلام، ولكن مع هذا لا يقبل مدّعاه، ويقوم بنقده بالاعتماد على علومه المسبقة وقناعاته، وهذا الأمر دليلٌ واضحٌ على إبطال الهرمنيوطيقا الفلسفيّة، فلو لم يمكن ترك القبليّات المسبقة بتاتًا، لما تحقّق الحوار بين اثنين أبدًا، ولفقد الفهم معناه.

إنّ المنهج التاريخي يعني البحث في حياة المؤمنين وسلوكهم وآرائهم لفهم النصّ الديني، ويُستعمل هذا المنهج في علم النفس الديني وعلم الاجتماع الديني، وعلى سبيل المثال فإنّ علم النفس الديني يبحث في سلوك المؤمنين، وكذلك يبحث علم الاجتماع الديني في الأنظمة الموجودة في المجتمع الديني من قبيل جهاز الحوزة والمتنوّرين وهكذا، ثمّ يقوم بمقارنتها، وربما يُستخدم المنهج التاريخي للبحث في تاريخ آراء العلماء، كما فعل السيد حسين المدرسي في كتابه (مكتب در فرايند تكامل) حيث يرى أنّ معرفة الشيعة بالأئمّة في صدر الإسلام كان على أساس أنّهم علماء أبرار، وعدم لحاظ أوصاف ما فوق بشريّة كالعصمة لهم[1]. وهذا الكلام غير صحيح وهو منهجٌ وضعيٌّ راج في بعض المجاميع العلميّة الأمريكيّة.

المنهج الظاهراتي يقابل المنهج التاريخي، إذ يرى أنصاره عدم إمكان الوصول إلى الحقيقة عن طريق الفحص والبحث التاريخي، إذ البحث التاريخي يكتفي بوصف آراء الآخرين في الزمن التاريخي، ويعجز عن كشف صحّتها أو عدم صحّتها. ولأجل الوصول إلى الفهم الصحيح يلزم وضع الظاهرة بين قوسين (أبيوخة)، ثم البحث عنها، فالظاهراتيّة تعني معرفة الواقع كما يظهر للإنسان.

(48)

يرى هنري كوربان - خلافًا للمدرسي - بأننا لسنا بحاجةٍ إلى تاريخ الدراسات في الإمامة، بل لو بحثنا في ماهية التشيّع لرأينا أنّ قوامها وجوهرها (الولاية)، وعليه فلا بدّ من لحاظ الإنسان الكامل كإلامام، نعم هناك من لفّق بين المنهج التاريخي والمنهج الظاهراتي، واستعان بهما معًا. وإنّ المنهج العقلي الفلسفي هو ذاته الإلهيّات بالمعنى الأخصّ المذكور في الفلسفة الإسلاميّة.

 وبعد أنْ أجملنا القول في هذه المناهج الخمسة، نقول في نقد نظريّة رؤيويّة الوحي:

النقد الأوّل: المغالطة المنهجيّة

 يدعي سروش التمسك بالظاهراتيّة لبيان وجهة نظره[1]، وعند البحث الظاهراتي عن رؤيويّة الوحي، لا بدّ أنْ نبحث دلالة القرآن المتوفر لدينا بوصفه نصًّا لغويًّا - بمعزل عن أيّ فرضيّاتٍ مسبقة - على الرؤيويّة أو عدمها. فبخصوص رؤيويّة الوحي لا بدّ التأكّد من أنّ نصّ القرآن هل يدلّ على ذلك أم لا؟

 وبعبارةٍ أخرى يكشف البحث الظاهراتي للقرآن دلالة نصّ القرآن على حقيقته، فهل القرآن يكشف عن نفسه لنا بأنّه رؤيا ومنام؟ أو أنّه يكشف لنا بكونه حقائق أنزلها الله على النبيّ لهداية البشر؟ فمن يعرف القرآن يرى صحة الشقّ الثاني بوضوح.

 نعتقد أنّنا لو بحثنا في القرآن من دون أيّ مسبوقاتٍ ذهنيّة، لدّل بنفسه على عدم رؤيويّته بوضوح لا لبس فيه. وعليه فإنّ النقد الأوّل على نظريّة رؤيويّة الوحي هو أنّنا لو واجهنا نصّ القرآن مواجهةً ظاهراتيّةً صادقةً خاليةً عن المسبوقات الذهنيّة؛

(49)

لأذعنّا بسهولةٍ أنّ القرآن لا يؤيّد رؤيويّة نفسه فحسب، بل يردّها بشدّة.

 وبعبارة أخرى إنّ رؤيويّة القرآن افتراضٌ يفوق النصّ ولا يتحصّل من نصّ القرآن أبدًا. ولو أنّ سروش تمسّك لإثبات مدّعاه بالهرمنيوطيقا الفلسفيّة - على رغم بطلان هذا المنهج - لكان منطقيًّا قابلًا للتبرير. إذ إنّ رؤيويّة القرآن لا تتحصّل بالظاهراتيّة، والتمسك بذلك خطأٌ فاحشًا. والخلاصة أنّ المنهج الظاهراتي لم يثبت نظريّة رؤيويّة الوحي فحسب، بل يدلّ على عكسه، فلو ترك الإنسان الافتراضات الأداتيّة، وواجه القرآن مباشرةً؛ لرأى أنّ القرآن يعرض نفسه على الإنسان كحقائق نزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حالة اليقظة، ويُخبر عن حقائق ويُبيِّن القيم.

 النقد المنهجي الآخر لسروش أنّه يصرّح عند بيان كثيرٍ من المباحث، بمتابعة التوصيف والمعرفة من الدرجة الثانية، ولا علاقة له بصحّة الكلام الفلاني أو خطئه، ومع قطع النظر عن أنّ تقريره هل هو صحيح أو لا؟ وهل هو كلِّيٌّ أو لا؟ فإنّه ينحو تارةً نحو المعرفة من الدرجة الأولى، ويتلاعب ليجعلها المبنى والاساس، وعلى سبيل المثال فإنّ سروش في مبحث القول بالصرفة[1]، أو نقله لنظريّة الفخر الرازي بأنّ جمع المصاحف كان سبب حفظ القرآن[2]، كان في الواقع بصدد الاستناد إليها وقبولها. وعليه فإنّ نقدنا عليه في عدم بيان منهجه في البحث بشكلٍ واضح.

 يلزم سروش تحديد موقفه من مباحث الوحي؛ فهل يعدّها معرفةً من الدرجة الأولى أو من الدرجة الثانية؟ فإنْ كانت من قبيل الدرجة الأولى فيجب أن يلتزم بذلك في جميع البحث، وإنْ كانت من قبيل الدرجة الثانية، فيلزمه البناء على ذلك

(50)

في جميع البحث. وعلى سبيل المثال عندما يستشكل الشيخ السبحاني على سروش، ويُبطل تفسيره للسماوات السبع المبتني على الهيئة البطلميوسيّة، يجيب سروش بأنّه لا علاقة له بخطأ هذه النظريّة أو صوابها، بل إنّه يُقدّم بحثه من خلال المعرفة من الدرجة الثانية، وبصدد بيان تأثّر القرآن بها. لكنّه عندما يريد إثبات رأيه يستند إلى كلام ابن عربي لإثبات عدم علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بتأبير النباتات[1]، والرواية مرسلة حتى عند أهل السُنّة، فيتحوّل بحثه إلى المعرفة من الدرجة الأولى.

 فلو أراد سروش البحث على طريقة المعرفة من الدرجة الأولى، فيجب عليه التزام ذلك في فهم جميع الآيات والروايات. فاستناد سروش إلى رأي بعض المفسّرين في تفسير قوله تعالى: (فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ) (البقرة: 23) - أي عدم قدرة الأُمي من إنزال سورة، وربما لم يتحقّق إعجاز القرآن لو أُتي به على يد أمثال أفلاطون مثلًا- هو استنادٌ غير صحيح، ولا ينسجم مع باقي آيات القرآن؛ لأنّ الآيات تصرّح أنّ الجن والإنس لو اجتمعوا - مع قطع النظر عن الأمّية أو عدم الأمّية والعلم - لم يتمكنوا من الإتيان بمثل القرآن: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (الإسراء: 88).

 فكيف يتمسّك سروش في تفسير هذه الآية الواحدة بكلام مفسِّرٍ من تفسيرٍ مجهولٍ ويجعله معيارًا، ولم يتمسّك بالآية الصريحة الأخرى التي تصرّح عدم قدرة الجنّ والإنس على الإتيان بمثل القرآن؟ إنّ بيانه هنا لم يكن من الدرجة الثانية بل إنّه معرفةٌ من الدرجة الأولى، وعليه لا بدّ من فحص مدعيات سروش ودلائله ومستنداته واحدةً تلو الأخرى.

(51)

يعتقد سروش لزوم بيان معنى استواء الله على العرش في قوله تعالى: (الرّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[1] (طه: 5). أي أنّ كلام الله تعالى في قوله: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) (النساء: 164)، يكون من الصفات الخبريّة كما هو الحال في قوله: (الرّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)؛ لأنّ الله لا يتكلّم. ثمّ أنّه وبالاستناد على هذا الأمر يريد أنْ يستنتج أنّ هذا الكلام من النبيّ؛ إذ ليس لله كلامٌ أساسًا. فهذه النظريّة تخالف صريح قوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)، فالفاعل والمفعول فيها واضحان، فالله تكلّم مع موسى، وليس موسى هو المتكلّم.

 وورد في اللغة العربيّة أنّ (كلّم) يكون بمعنى أظهر، فالله تعالى أظهر لموسى، والمقصود هو إظهار الألفاظ -أي خلق الله الألفاظ لموسى- ويستقيم المعنى من دون تأويل. فالكلام لم يكن بالأساس من الصفات الخبريّة، والله تعالى متكلّم، ولكن على أساس (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: 11). فكلام الله لا يعني جسمانيّته ووجود اللسان له، فعلينا الاحتفاظ بالجوانب الأدبيّة على الأقلّ عند بيان معانيها.

 والخلاصة أنّ إشكالنا إشكالٌ منهجيٌّ واضح، فسروش يعمل وفق ما ينفعه، ويتنقّل بين المعرفة من الدرجة الأولى والمعرفة من الدرجة الثانية، أو يأتي بالروايات المرسلة، فلو كان البحث من الدرجة الأولى، يمكن أنْ يلج البحوث كالفقهاء، فسروش الذي يدّعي البحث العرفاني، لا يمكنه التكلّم في الآيات والروايات من دون التفقّه، ومن دون رعاية القواعد الأدبيّة والرجاليّة، وليس المقصود من الفهم العرفاني تفسير الآيات كما يشاء، فالعرفاء أنفسهم يؤكّدون على هذا الأمر أيضًا،

(52)

وقد صرّح الملّا عبد الرزاق القاشاني في مقدّمة كتاب التأويلات لابن عربي[1]، أنّ بعض هذه التأويلات لم تكن تفسيرًا، بل يمكن أنْ يشملها قوله: «من فسّر القرآن برأيه فلقد كفر»، فذوقيات العارف تختلف عن التفسير، فمن أراد التفسير لا بدّ أنْ يراعي القواعد البتّة.

النقد الثاني: مغالطة التعميم

 المنام والرؤيا على ثلاثة أقسام:

أنْ تتحقّق الرؤيا في الخارج كما رُؤيت في المنام، كرؤيا إبراهيم عليه‌السلام يذبح ابنه، وكان تأويلها وتحقّقها فعل ذلك في الخارج.

الرؤيا الصادقة التي تحتاج إلى التعبير، كرؤيا يوسف عليه‌السلام في سجود القمر والشمس والنجوم، وكان تعبيرها سجود والديه وأخوته له.

الرؤيا الناشئة من حالات الإنسان النفسانيّة والوقائع اليوميّة، حيث تنعكس في خياله، وقد تكون غير مفهومة ومشوّشة، أي (أضغاث أحلام) كما في القرآن.

 ليس للنوع الأوّل تعبيرٌ، بل له تأويلٌ وتحقّق، بأن يتحقّق في اليقظة ما رُؤي نفسه في المنام. وبعبارةٍ أخرى أنّ التعبير فيها يعني تحقّقها الخارجي في اليقظة، كما لا تعبير أيضًا للنوع الثالث أي أضغاث الأحلام، وهي تبيّن اختلال الرائي الذهني والنفسي، وتدلّ على التشويش، ويبقى النوع الثاني الذي يكون صادقًا ويحتاج إلى تعبير المُعبِّر.

فلو قبلنا أنّ القرآن رؤيا، فمن أيّ الأقسام سيكون؟ فمن أين لنا أنّه من القسم

(53)

الثاني المحتاج إلى المُعبِّر؟ فلماذا لا يكون من القسم الأوّل؟ أي يكون مبيّنًا لحقائق موجودةٍ، أو ستوجد عينها في الواقع؟ فقد وردت حقائق كثيرةٌ في القرآن تحقّقت عينها في الماضي، فيمكننا تصوّر حقائق أُخرى رآها النبيّ في المنام ستتحقّق في عصر النبيّ أو فيما بعده، فيمكن أنْ تكون على سبيل المثال الجنّة والنار ونعم الجنة وعذاب النار الواردة في القرآن، رؤيا لوقائع تتحقّق لاحقًا عينًا.

 فسؤالنا لسروش أنّ القرآن لو كان رؤيا النبيّ، فلماذا لم يكن من هذا القبيل؟ وما هو دليلك على عدم إدخال وحي النبيّ الذي تجعله في عداد الرؤيا في هذا القسم، بل تجعله من القسم الثاني المحتاج إلى المُعبِّر؟ وربما يدّعي بعضهم أنّ الرؤيا النبويّة من القسم الثالث أي أضغاث أحلام، فعلى صاحب فرضيّة رؤيويّة الوحي إبطال هذا الفرض أيضًا للوصول إلى المطلوب.

 وبعبارةٍ أخرى قد وقع سروش هنا في مغالطة التعميم الخاطئ، أي أنّ ادّعاءه يتحقّق في قسمٍ واحدٍ من أقسام الرؤيا، ولكن أدلّته وشواهده على افتراض تماميّتها وهي غير تامةٍ، ترنو إلى إثبات الرؤيا بالمعنى العام، ويمكننا متابعة هذه المغالطة في أماكن أخرى من أقوال سروش، وذلك حينما ينقل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّ الرؤيا درجةٌ من درجات النبوّة[1]، ويستنتج أنّ الوحي - مع عموميّته - حقيقةٌ مناميّة. وقد غفل سروش عن أنّ الإمام عندما يقول بأنّ الرؤيا قسمٌ من أقسام النبوّة، فإنّه يقصد أنّ الأنبياء قد يكون لهم رؤيا وحيانيّة، ويتلقّون بعض المعارف الوحيانيّة في المنام، وليس جميع وحي الأنبياء منامًا ورؤيا.

 ويرتكب سروش هذه المغالطة أيضًا حينما يقول لإثبات مدّعاه: أنّ القرآن

(54)

عندما يتكلّم عن القيامة والجنّة والنار، يستعمل الفعل الماضي، وهذا يدلّ على أنّ هذه الآيات لا تخبر عن المستقبل، بل تقرير عن ظواهر رُؤيت - أي في الرؤيا - في الماضي[1].

 ونحن نقول: لا يصحّ هذا التعميم أيضًا؛ لأنّ لفظ الماضي لم يستخدم في جميع أخبار القرآن المتعلّقة بالحوادث المستقبليّة، بل قد استعمل الفعل المضارع أيضًا في عدّة موارد، كالآيات الثالثة إلى الثالثة عشر من سورة القيامة المتعلّقة بالقيامة وبيان وقائع ذلك اليوم، إذ استخدم منها فعل المضارع مضافًا إلى الفعل الماضي.

 والإشكال الآخر في استناد ماضوية بعض الأفعال المتعلّقة بالحوادث المستقبليّة، أنّ هذا الاستعمال فيه لحاظٌ بلاغي، إذ إنّ فصحاء العرب قد يستعملون الفعل الماضي لبيان ما يحدث في المستقبل، وبهذا يثبتون قطعيّة وقوع تلك الحادثة[2].

النقد الثالث: مغالطة التمثيل

 يرى سروش وجود مشابهةٍ كبيرةٍ بين القرآن والرؤيا، ويستنتج أنّ القرآن رؤيا. والإشكال الواضح على هذا الكلام أنّ مجرّد وجود بعض التشابه بين الوحي والرؤيا لا يدلّ على وحدة حقيقتهما. فليس للتمثيل قيمةٌ معرفيّة، والاستدلال المبتني على التمثيل لا يستقيم أبدًا، وهو باطلٌ في المباحث الفقهيّة[3]، فضلًا عن المباحث العقديّة.

(55)

مضافًا إلى أنّ أئمّة الدين قد فرّقوا بين الوحي والرؤيا، وعلى سبيل المثال ما قاله أمير المؤمنين عليه‌السلام في جواب الزنديق الذي سأله عن الوحي، حيث أشار إلى تقسيمات الوحي من قبيل: ما يرسله عن طريق الملك، والنَكْت في القلوب[1]، وتكليم الله تعالى. فالرؤيا في هذه الرواية وما شابهها تكون قسيم الوحي وتختلف عنه.

النقد الرابع: مغالطة الإبهام

 إنّ كلام سروش في تبيين هذه النظريّة - كما هو الحال في سائر أقواله - مشوبٌ بالإبهام، فهو لا يبيّن غرضه من الكلام عندما يُطلقه، ويحاول أنْ يتلاعب بالألفاظ والكلمات ليوهم أنّ الأمر قد تمّ، ويسدّ الطريق أمام النقد باستخدام العبارات والألفاظ المبهمة، وعلى سبيل المثال فإنّه يتكلم عن الرؤيا – لا سيّما في مقالة محمّد، راوي رؤياهاى رسولانه 3 - بكلام غير موزون، حيث يعرّف عالم الرؤيا تارةً منفصلًا عن عالم التفكّر المعرفي، وتارةً أخرى يرى أنّ عالم الرؤيا يختلف عن عالم التناقض، ألا يعلم سروش أنّ التناقض وعدم التناقض يتعلّقان بأُمورٍ قابلة للتفكير؟ فلو لم يكن عالم الرؤيا عالم التفكّر، فلا علاقة له بالتناقض وعدم التناقض.

 ثمّ إنّ سروش بعد الإشارة إلى قوله تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (النساء: 82)، يستنتج أنّ القرآن يتعلّق بعالم الرؤيا؛ لأنّ الاختلاف ينحصر في عالم اليقظة، ولا طريق له إلى عالم الرؤيا[2].

 ونقول في الجواب:

(56)

أوّلًا: من قال أنّ الاختلاف والنزاع لا طريق له إلى الرؤيا؟ إذ يمكن الادّعاء أنّ جميع الناس قد جرّبوا الحرب والنزاع والخلاف في المنام، فلا يوجد أيّ معنى محصّلٍ لكلامه أنّ الاختلاف والنزاع لا طريق له إلى الرؤيا.

 ثانيًا: لو سلّمنا أنّ الأمر كما يقول، وامتازت الرؤيا بعدم ورود النزاع فيها، فإنّ هذا الأمر مجرّد تشابهٍ بين الرؤيا والوحي، فكيف يعقد سروش - لمجرّد المشابهة - تقارنًا بين الوحي والرؤيا؟ أليس الكشف والشهود لا يتطرّق إليه الاختلاف أيضًا؟ فلماذا لم يجعل سروش الوحي من قبيل الشهود؟

 إنّ نظريّة رؤيويّة الوحي متأثّرةٌ بالنزعة الإنسانويّة، وفي هذا المناخ فإنّ الواقع المقبول ينحصر فيما يمكن بيانه بالأدوات والمصادر المعرفيّة البشريّة، فلا يمكن قبول الدين بنحوٍ كلّي بناء على مباني النزعة الإنسانويّة، فأنصار الإنسانويّة عند المواجهة مع الدين إمّا أنْ يكونوا ملحدين ينفون الدين رأسًا، وإمّا أنْ يذعنوا ببعض الدين وينفوا بعضه الآخر، وهذا العمل كفرٌ بحدّ ذاته أيضًا، كما في قوله تعالى: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) (النساء: 150).

 فالإنسانوي الملحد عندما لا يتمكّن من تبيين حقيقة الوحي بالمباني الإنسانويّة يقوم بنفيه رأسًا، ولكن من يحاول أنْ يبقى على إيمانه ودينه، ويحافظ على النزعة الإنسانويّة أيضًا، فعندما يواجه مسألة الوحي يحاول تبيينه بنحوٍ لا يتعارض مع المباني الإنسانويّة، فإنّه يرى عدم وجود طريقٍ إلى فهم حقيقة الوحي وتبيينه بالعلم الحصولي من جهة، ومن جهةٍ أخرى وجد مفهومًا في العلم الحضوري تحت عنوان الرؤيا، وقد جرّبه الإنسان مرارًا وله مشابهات مع الوحي، ويمكنه بالتمسّك به لإعطاء تفسيرٍ متناسقٍ مع المباني الإنسانويّة؛ لذا يقوم بالتنظير لرؤيويّة الوحي.

(57)

ومن الواضح عدم وجود أيّ ثمرةٍ لهذا الجهد، ولوجود التشابه بين الوحي والرؤيا؛ لا يمكن ادّعاء القيام بتيين حقيقة الوحي؛ لأنّ القول برؤيويّة الوحي لا يغيّر شيئًا، وبمقدار الإبهام الموجود في حقيقة الرؤيا، يوجد إبهامٌ في حقيقة الوحي أيضًا. نعم إنّ جميع الناس أو أغلبهم قد جرّبوا الرؤيا ويعرفونها، ولكن هل يعرفون حقيقة الرؤيا؟ إنّ حقيقة الرؤيا مبهمة تمامًا، ولم يتمكّن بيان حقيقتها لا الفلاسفة ولا العرفاء ولا علماء النفس. إنّ سروش يجعل الوحي رؤيا، ويزعم أنّ معرفة الناس بالرؤيا وتجربتهم لها تحلّ لغز حقيقة الوحي، ويغفل عنّ أنّ وجود الوحي ربّما يكون واضحًا ويقينيًّا كوجود الرؤيا، كما أنّ حقيقة الرؤيا مبهمةٌ ومجهولةٌ كحقيقة الوحي أيضًا. فهذا الجهد لمعرفة الوحي عبثٌ لا طائل تحته.

 ويمكن القول بخصوص الوحي أنّنا نثبت بالبرهان العقلي أنّ الله الحكيم ولأجل هداية الناس، لا بدّ أنْ يرسل إليهم المعارف عن طرق تختلف عن الطرق المعرفيّة المتعارفة، فنحن ندرك ضرورة وجود معارف كهذه، وإنْ أمكن ألّا نعرف حقيقتها وكيفيّة حصولها للنبيّ، أي يمكن قبول ضرورة الوحي كأمرٍ واقعي من دون أنْ يكون رؤيا، ومن دون أنْ نعلم كيفيّة حقيقة الوحي، كما نذعن بوجود الله ونجهل كنه ذاته.

 وبخصوص الوحي، نحن لا نحتاج إلى كشف حقيقته، ويكفينا أنْ نعلم كون الوحي من سنخ الشعور والمعرفة، يضع أمورًا واضحة تحت اختيار النبيّ، ويقوم النبيّ بتبليغها إلينا، وتستوجب سعادتنا.

 إنّ القرآن بحاجةٍ إلى الترجمة، وربما يحتاج في بعض الموارد إلى البيان والتفسير، وهذا على عهدة الله والرسول بمقتضى قوله تعالى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ

(58)

عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (القيامة: 16-19).

 وخلاصة النقد الرابع أنّ مغالطة الإبهام تحصل عندما يستعمل المتكلّم أو المؤلّف كلماتٍ لها تفاسير متعدّدة، أو تكون مبهمةً بنحوٍ لا يمكن نقد الكلام[1]. نعم صحيح أنّنا نعرف الرؤيا وجرّبناها، ولكن مع هذا فإنّ حقيقة الرؤيا في غاية الإبهام، فجعل الوحي رؤيا لا يساعدنا على فهم حقيقة الوحي فحسب، بل يزيد الأمر صعوبةً وتشويشًا.

النقد الخامس: المغالطة اللغويّة

 يتمسّك سروش لإثبات مدّعاه ببعض الآيات القرآنيّة، فهل هو يتمسّك بالقرآن مع اعتقاده أنّ لغة القرآن لغة الرؤيا؟ أو أنّه يرى لغته لغة اليقظة؟ فلو اعتقد أنّ لغة القرآن لغة اليقظة لكان هذا ناقضًا لأصل مدعاه ولا نقبله منه. كما أنّ القول برؤيويّة لغة القرآن يمنع تمسّكه به لإثبات مدّعاه؛ لأنّ الآيات التي يستند إليها حالها حال سائر الآيات التي تحتاج إلى مُعبِّر، ولا تفهم من دون تعبير، وما نستخلصه من كلام سروش أنّه عندما يستند إلى الآيات التي يقصدها يجعل لغة القرآن لغة اليقظة، ويسعى من خلال استخدام مختلف قواعد فهم النصوص المتعارفة، الاستدلال بالقرآن على ما يروم إثباته.

 وربما يقول سروش في الجواب عن هذا الإشكال - وكما قال وأشرنا إليه سابقًا - إنّ الاستناد إلى هذه الآيات إنّما هو من باب الجدل؛ إذ لمّا كان الخصم يرى أنّ لغة القرآن لغة اليقظة، فأنا أيضًا أستعين به لأُثبت أنّ القرآن يدلّ على رؤيويّة

(59)

نفسه، فهذا جواب سروش، لكنّه يغفل عن أنّ البيان الجدلي والاعتماد على مقولات الخصم الخاطئة إنّما تجوز منطقيًّا للإجابة عن إشكالات الخصم في المقام الثاني بعد إثبات أصل المدّعى بالبرهان. ولكن سروش يقوم في المرحلة الأولى لإثبات مدعاه وقبل أنْ يسمع نقد المخاطَب بالاستناد إلى بعض الآيات - من خلال الارتكاز الذهني في حجيّة ألفاط القرآن وأنّ لغتها لغة اليقظة - ويسعى لإثبات رؤيته من خلال دلالة معاني القرآن الظاهريّة، وعليه فإنّ إثبات رؤيويّة لغة القرآن بالاستناد إلى لغة اليقظة للقرآن، نقضٌ للغرض ودورٌ واضح. فمدّعى سروش هكذا: (إنّ متن القرآن - من حيث أنّه يفتي بعدم اعتبار متنه – معتبر).

 والجواب الآخر لسروش أنّ القول بالرؤيويّة ونسبيّة لغة المنام لا تعني عدم ثبات الكلمات على معانيها الأصليّة، وأنْ تتغيّر مثلًا حتى معاني حروف الإضافة. إذ بتصريح المعبّرين أنّ بعض المسموعات والمرئيّات في المنام ربما تكون بعيدةً عن عالم اليقظة وبعضها الآخر قريبة منه. فالرؤيا كالبحر الواسع له عمقٌ ووسطٌ وساحل.

 وجواب سروش هذا لا يخلو من إشكال أيضًا، وذلك:

 أوّلًا: إنّ هذه الإجابة تعدّ رجوعًا عن المدّعى الأوّل؛ لأنّه ادّعى فيه رؤيويّة جميع الوحي ورمزيّته، وعدم إمكان ترجمته وتفسيره، وحاجته إلى تعبيرٍ من مُعبِّر، ولم يتطرّق إلى موضوع العمق والوسط والساحل.

 ثانيًا: لو كان لرؤيا الوحي مراتب مختلفةٌ من العمق، ولو اختصّت الرؤيويّة بالجانب العميق فقط، والتي تحتاج إلى معبِّر، وكانت سائر المراتب أقرب إلى اليقظة، ويمكن فهمها من دون الحاجة إلى المعبِّر، فما هو سبب تعميم سروش حكم البعض على الكلّ، وجعل مطلق الوحي في عداد الرؤيا؟!

(60)

ثالثًا: لو سلّمنا ذلك، ولكن على سروش أنْ يبيّن أيّ الآيات أقرب إلى لغة اليقظة، أيّ يبيّن معياره للتمايز بين العمق والوسط والساحل من معاني القرآن، فهل كلّ ما استند إليه سروش لإثبات مدّعاه يكون من قبيل الوسط، وما استند إليه خصومه لإبطال كلامه يعدّ من أعماق القرآن؟

 ونحن نقول إنّ القرآن نزل بلسانٍ عربي، وسواء اتّجهنا نحوه اتّجاهًا ظاهراتيًّا أم لغويًّا، فإنّه يدلّ بنفسه على عدم كونه رؤيا، فمنهج سروش لا هو ظاهراتي ولا هو لغوي، بل إنّه سواء علم أم لم يعلم يحمّل افتراضاته المسبقة على فهم القرآن بالمنهج الهرمنيوطيقي الفلسفي.

النقد السادس: مغالطة القياس مع الفارق

 يقيس سروش لإثبات مدّعاه معارفَ القرآن بالعلوم البشرية، ويستنتج أنّ القرآن مشوَّشٌ لا يندرج تحت منظومةٍ وقواعد خاصّة، خلافًا للعلوم التي لها بدايةٌ ونهايةٌ ومقدّمةٌ وخاتمةٌ، وتتكوّن من فصولٍ وأقسامٍ منتظمةٍ ومدروسة. فنرى مثلًا أنّ آيةً من القرآن تبدأ بموضوعٍ عقدي، ثمّ تتحوّل إلى توصيةٍ أخلاقيّةٍ من دون وجود أيّ علاقةٍ خاصّة، ثمّ تبيّن حكمًا شرعيًّا، ثمّ بحثًا تاريخيًّا، فلا يوجد أيّ نظمٍ فيها، لذا فهي أشبه بالنصوص الأدبيّة والفنيّة منها إلى متن علمي، وتكون ككتب المنامات، ومليئة بالتناقض[1].

كلام سروش هذا لا يخلو من إشكال:

 أوّلًا: يقع في مغالطة التمثيل وقد مرّ بيانها، وعُلم أنّ مجرّد مشابهة القرآن

(61)

لبعض المنامات لا يستوجب القول برؤيويّة القرآن؛ إذ توجد أمورٌ أخرى غير الرؤيا ربما ينالها التشويش والاضطراب، كالشهود والمكاشفة العرفانيّة والكهانة، فلماذا لم يشبّه سروش الوحي بالشهود العرفاني، ولم يجعله من سنخ المكاشفة؟ ولماذا لم يتّهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكهانة كما فعل مشركو عصره، ولماذا لم يشبّه التشويش في كلامه بالتشويش في كلام الكهنة؟

 ثانيًا: إنّ أصل هذا الادّعاء في عدم انتظام القرآن وتشويشه غير صحيح؛ إذ من غير الصحيح تشبيه القرآن وقياسه بالكتب العلميّة، فهل يصحّ قياس علم الفقه بعلم الفيزياء، ثم يوصف الفقه بعدم الانتظام والتشويش؛ لأنّه لا يجد فيه الانتظام الموجود في الفيزياء؟ أو على العكس ينسب الفيزياء إلى عدم الانتظام إذا لم يجد فيها ما وجد في الفقه من انتظام؟ فالجواب سلبي، إذ طلبُ نظم الفقه من الفيزياء، أو طلبُ نظم الفيزياء من الفقه طلبٌ في غير محلّه؛ وذلك للاختلاف الموجود في النظام التعليمي الفلسفي والكلامي والفقهي عن النظام التعليمي الموجود في العلوم الأساسيّة التطبيقيّة، وهذا الاختلاف لا يستوجب رمي العلوم بعدم الانتظام.

 ثم لا وجود لأيّ تشويشٍ في القرآن، بل أنّه يسير في الهدف المحدّد له في تعليم الناس وتهذيبهم؛ فإنّ القرآن لا يريد تربية الناس ليكونوا فلاسفةً أو فقهاءً أو متكلّمين أو علماء فيزياء، نعم ربّما أمكن اكتشاف بعض الحقائق العلميّة من بعض آيات القرآن، لكن هدف القرآن الأساسي هو شيء آخر.

 إنّ هدف القرآن هداية الناس وتربيتهم مع ما يحملونه من توجّهاتٍ نفسيةٍ

(62)

مختلفة[1]؛ لذا فلا ينبغي للقرآن أن يتكلّم بلغة الكتب العلميّة أبدًا، بل لا بدّ أن يحكي القصص ويستخدم التمثيل، ويتطرّق في آيةٍ واحدةٍ إلى معلومةٍ عقديّةٍ وأخلاقيّةٍ معًا، وأن يتكلّم إلى جانب التوحيد عن الإحسان إلى الوالدين، إذ من رسائل القرآن عقد القِران بين العقيدة والأخلاق، فللقرآن أسلوبه الخاصّ المفيد لفهم العوام وفهم الخواص العميق؛ وعليه فإنّ نظم القرآن يتناسب مع الهدف الذي يرسمه لنفسه، ولا يصحّ أن ننسبه إلى التشويش - كما فعل سروش - بسبب عدم تناغمه مع الكتب العلميّة.

النقد السابع: المخالفة لسيرة أولياء الدين

 إنّ نظريّة رؤيويّة الوحي تخالف سيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، وأهل بيته عليهم‌السلام النظريّة والعمليّة، إذ إنّ سيرة أئمّة الدين في التعامل مع القرآن في الجوانب العقديّة والفقهيّة والأخلاقيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، لم تبتنِ على رؤيويّة القرآن أبدًا، ولم يصلنا حتى مورد واحد يدلّ على تعاملهم مع القرآن معاملة الرؤيا، وفي قبال ذلك وردت نصوصٌ كثيرةٌ تدل على أنّهم فسّروا القرآن وأوّلوه - بمعنى بيان المصاديق - ولم يقوموا بتعبيره إطلاقًا.

النقد الثامن: إنكار الدين

 لا بدّ من سؤال أصحاب رؤيويّة الوحي بما يأتي: هل إنّ معارف القرآن - من قبيل: الله المعاد، والجنّة، النار، والصراط، والهداية، والضلالة، والصلاة، الصوم،

(63)

والحجّ، والحدود، والقصاص، والجزاء، والعقاب ونحوها- هل لها واقعٌ أم لا؟ فلو اعتقدوا أنّ هذه الألفاظ والمعاني لا تدلّ على أمورٍ واقعيّة، بل تكون مجرّد تعابير شعريّةٍ ومناميةٍ لأمورٍ تبعث الاطمئنان والهدوء في الحياة الدنيويّة هذه، لكانوا بذلك قد أنكروا الدين والتديّن، ولكن لو اعتقدوا بأنّ هذه الأمور موجودة كحقائق عينيّة أو ستكون، والقرآن بصدد بيان تلك الحقائق ليوصلنا إلى السعادة والهداية، فحينئذٍ لا مجال للحديث عن رؤيويّة القرآن، إلّا إذا قصدوا الرؤيا الصادقة - أي القسم الأوّل، وإلى حدٍّ ما يمكن شموله للقسم الثاني من الأقسام الثلاثة التي مرّت - وعليه فإنّ هذا الإشكال ناظرٌ إلى قراءةٍ خاصّةٍ لنظريّة الرؤيا.

 والخلاصة أنّ الهدف من الدين والوحي لو كان هداية الناس وإيصالهم إلى السعادة - وهو كذلك - فإنّه لا يتوافق مع نظريّة الرؤيا؛ لأنّ رؤيويّة الوحي - التي يقول بها سروش - تستلتزم إنكار الدين والتديّن، وتؤدّي إلى إنكار الهداية الإلهيّة، وهي أيضًا تستلزم عبثيّة بعثة الأنبياء.

النقد التاسع: عدم تعارض القرآن مع العلم

 يسرد سروش لتأييد مدّعاه شواهد من القرآن، ويذهب إلى أنّها تخالف العلم، ويستنتج منها أنّ للقرآن لسانًا رؤيويًّا غير علميّ وغير واقعي، وعلى سبيل المثال يستشهد بقوله تعالى: (وَإِنّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ) (الحج: 47). ويقول: كيف يُصدّق هذا؟! فاليوم الواحد أربعة وعشرون ساعة، ولا يمكن أن يساوي ألف سنةٍ أبدًا[1].

(64)

ونقول في الجواب: نفترض أنّ بعض آيات القرآن تعارض نتائج العلم، ولكن ما هو التلازم بين التعارض والقول برؤيويّة القرآن؟ ألا يمكن القول بأنّ هذه المعاني المعارضة للعلم، تعدّ من باطن القرآن وتحتاج إلى تفسيرٍ باطني؟ ومع قطع النظر عن هذا فلماذا جعل سروش في مورد التعارض بين العلم والقرآن، العلم أصلًا والقرآن فرعًا؟ ولماذا لا يقول بخطأ العلم، لا سيّما أنّ مبنى أمثال سروش في العلم وقابليّته للتكذيب لم يسمح لهم النظر الوضعي إلى العلم. مضافًا إلى كون اليوم الواحد يعادل ألف سنة، وإنْ خالف نظريّة نيوتن غير أنّه يتوافق تمامًا مع نظريّة أينشتاين. كما قد ورد في بعض المدارس الفلسفيّة أنّ اليوم لا يختصّ بالعالم والزمان المادّي، بل لكلٍّ من عالم السرمد وعالم الدهر يومٌ يخالف اليوم المادّي.

النقد العاشر: مقارنة ادّعاء سروش بكلام العرفاء والفلاسفة والمتكلّمين

 يعتقد سروش أنّ كثيرًا من آرائه توجد في النظريّات المذكورة في القرون الإسلاميّة الوسطى وهذه المقولة: (إنّ النبوّة مقولةٌ عامّةٌ وتوجد في مختلف أصناف الناس)، توجد في الإسلام الشيعي وكذلك عند العرفاء، إنّ الشيخ المفيد -المتكلّم الشيعي البارز- لم يعتقد بنبوّة أئمّة الشيعة، غير أنّه ينسب إليهم جميعًا خصائص الأنبياء، كما أنّ العرفاء يرون أنّ تجربتهم تعدّ من سنخ تجربة الأنبياء.

 وينبغي هنا أوّلًا الاهتمام بادّعاء سروش المتكرّر دائمًا اذ يقول: (أقبل الإيمان والإسلام العرفاني، لا إيمان الفقهاء والإيمان الفقهي)، وثانيًا هل يوجد تعارضٌ - عند الحديث عن مباحث معرفة الوحي - بين المتكلّمين من جهة، وبين آراء العرفاء والفلاسفة من جهة ثانية، أم لا؟

(65)
الوحي عند المتكلّمين

 لا يرى المتكلّمون للنبيّ دورًا فاعليًّا في إنشاء الوحي، وإنْ كان له دورٌ موضوعي، وبعبارةٍ أخرى أنّ الدور القابلي للنبيّ في تلقّي الوحي أبرز من دوره الفاعلي، ويفرّق المتكلّمون بين الوحي القرآني والأحاديث النبويّة والحديث القدسي، ويرون أيضًا أنّ صياغة النبيّ واضحة في الحديث القدسي، وهي معدومة في الوحي القرآني كون ألفاظه من الله تعالى، ولم يكن للنبيّ دورٌ في إنشاء الوحي وكذلك صياغته[1].

الوحي عند العرفاء والفلاسفة

 يقول العرفاء في مباحث العرفان إنّ مقام النبوّة هو الإخبار عن الحقائق الإلهيّة والمعارف الربّانيّة من حيث الذات والصفات والاسم. والنبوّة في هذا المقام تنقسم إلى نبوّة التعريف ونبوّة التشريع، نبوّة التعريف هي معرفة الذات والصفات والأسماء والأفعال، ونبوّة التشريع تشتمل - مضافًا إلى نبوّة التعريف - على تبليغ الأحكام، والتأديب بالأخلاق، والتعليم بالحكمة والقيام بالسياسة.

 فالعرفاء يدخلون السياسة ضمن النبوّة التشريعيّة ويعدّونها جوهر رسالة الأنبياء، وأطلقوا على هذه النبوّة اسم الرسالة، والمقصود من النبيّ هو الإنسان الكامل المبعوث من قبل الله، ليعرّف الناس على حوائجهم ويبعدهم عن الذنوب والآثام، ويتمسّكون بالآيات القرآنيّة من قبيل: (لَقَدْ مَنّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ

(66)

وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[1].

 ويقسّم العرفاء النبوّة في بحثٍ آخر من مباحث العرفان النظري إلى النبوّة المطلقة والنبوّة المقيّدة، النبوّة المطلقة هي العلم بالحقائق الإلهيّة والدقائق الربَّانية كما هي في تحقّقها، وعليه فالنبوّة تستلزم معرفة حقائق الممكنات أعم من الموجودة وغير الموجودة، وكذلك معرفة الماهيات المعدومة والأعيان الثابتة. أمّا النبوّة المقيّدة فهي الإخبار عن الحقائق الإلهيّة، أي معرفة الذات والأسماء والصفات والأحكام الإلهيّة[2].

 وبناءً على رؤية العرفاء، فإنّ الأنبياء يتلقّون العلوم الإلهيّة عن طريق الوحي الخالص الإلهي حصرًا، لمعرفتهم بعجز العقل عن إدراكها. وللعرفاء في مباحث الولاية أيضًا كلامٌ يشبه هذا لتقارب مباحث النبوّة والولاية، ويرون أنّ للنبيّ والرسول بحسب الظاهر والشريعة مقام التصرّف في الخلق، وللنبيّ الحقّ في تحقّق الأحكام الإجتماعيّة والسياسيّة[3].

 فالوحي عند العرفاء نزول الأعيان الثابتة على النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله، فالله تعالى يُنزل جبرئيل على النبيّ عندما يكون في عالم الطبيعة والمثال والعقل، ويعطيه الحقائق، وبعدما يتجاوز النبي حتى جبرئيل ويتكلّم مباشرة مع الله، سوف يتلقّى الوحي مباشرةً من دون حاجة إلى وساطة جبرئيل، وهذا ما ورد

(67)

التصريح به في كتب العرفاء، حيث لم يكن محتوى الوحي من جانب الله فقط، بل إنّ صياغته تكون من قبل الله أيضًا، وتوجد صورة هذه الصياغة في الأعيان الثابتة والعلم الإلهي.

 يقول القونوي: «أمّا الوحي التشريعي فواصلٌ من حضرة الربّ إلى جبرئيل، ومن جبرئيل إلى الأنبياء وأصحاب الشرائع عليهم‌السلام»[1]. ويقول الفناري أيضًا: «إنّما هو في الإلقاء الملكي في التنزّل القلبي، أو في التجلِّي الذاتي الخاصّ»[2]. ويصرّح الخرقاني في مصباح الأنس - الذي يتعلّق بمحمّد بن حمزة الفناري ويشتمل في أغلبه على نقل أقوال القونوي والجندي وابن عربي والخرقاني - يصرح بأنّ جميع حقائق الكتب توجد في القرآن، وقد نزل جميعها من قبل الله.

 ويقول القيصري في مقدّماته على شرح الفصوص، قبل أنْ يدخل في شرح الفصّ الآدمي، وبعدما يقول: (اعلم أنّ الكشف لغة رفع الحجاب)، فيذكر مراتب الكشف وأنواعه، ويقول بعد تقسيم الكشف إلى المعنوي والصوري: «وأعني بالصوري ما يحصل في عالم المثال من طريق الحواس الخمس، وذلك إمّا أنْ يكون على طريق المشاهدة كرؤية المكاشف صورة الأرواح متجسّدة والأنوار الروحانيّة، وإمّا أن يكون على طريق السماع كسماع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الوحي النازل عليه كلامًا منقولًا»[3].

(68)

أي أنّ النبيّ سمع الوحي بالكشف الصوري، والمقصود من السماع هو ما يحصل بالحواس الخمس، وله ألفاظٌ وصورةٌ ومادّةٌ نزلت على النبيّ، لا أنّ النبيّ هو الذي خلقها. وكذلك الأمر بخصوص موسى عليه‌السلام، أو على سبيل المثال يمكن الإشارة إلى ما ذكره العرفاء في الفرق بين الإلهام والوحي، فقد قالوا في الوحي: «إنّ الوحي قد يحصل بشهود المَلَك وسماع كلامه، فهو من الكشف الشهودي المتضمّن للكشف المعنوي»[1]. فهذا تصريح بأنّ النبيّ يرى المَلَك، ويسمع كلامه، ويتلقّى الألفاظ والمعاني من الله تعالى، أي أنّ حقيقة الوحي ما نزل من الألفاظ والمعاني على النبيّ، لا أنّ النبيّ يضعها بتأثيرٍ من محيطه وثقافة عصره.

 فلم نجد أيّ واحدةٍ من دعاوي سروش في كلمات العرفاء. ويقصد السيِّد الخميني قدس‌سره في كلامه من أنّ جبرئيل يصعد وينزل بأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله،[2] أنّ النبيّ يصل إلى مقامٍ يتعدّى طور جبرئيل والملائكة، ويتمكّن من إنزال جبرئيل، لا أنّ الكلام الذي يتلقّاه من جبرئيل كلامه، وعليه لا يصحّ ما نسبه سروش إلى العرفاء.

 أمّا كلام الفلاسفة حول الوحي، فقد قسّم الكندي المناهج إلى منهج الحسّ ومنهج العقل، ومنهج الوحي والمعرفة الوحيانيّة، ومنهج العلم الإلهي وعلم النبيّ، ويجعل العلم إمّا إلهيًّا وإمّا بشريًّا، ولم يتطرّق إلى حقيقة الوحي. ويظهر أنّ الفارابي هو أوّل من تكلّم عن حقيقة الوحي والمباني الفلسفيّة، ثمّ تلاه ابن سينا،

(69)

وشيخ الإشراق، وملّا صدرا.

 يرى الفارابي أنّ قوام الإنسان وفصله الأخير كونه ناطقًا وعاقلًا، ثمّ يقسّم العقل إلى نظري وعملي، والعقل النظري عنده هو العقل المنفعل، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد[1].

 أمّا ابن سينا فقسّم هذه المراحل إلى أربعة: 1- العقل الهيولاني. 2- العقل بالملكة. 3- العقل بالفعل. 4- العقل المستفاد. إنّ العقل الهيولاني أو العقل المنفعل يحتوي على صرف الاستعداد للعقلانيّة والاستدلال، أمّا العقل بالملكة -الذي أضافه ابن سينا - فهو العقل المُدرك للبديهيّات من دون أنْ يتمكّن من الاستنتاج، والعقل بالفعل هو العقل الذي يتمكّن من الاستدراك والاستنباط من البديهيّات، ويتمكّن من معرفة المجهولات عن طريق البديهيّات. أمّا العقل المستفاد فيرى ابن سينا أنّ العقل المستفاد هو العقل بالفعل ذاته، لكنّه بلغ مرحلةً يتمكّن فيها - مضافًا إلى استفادته من البديهيّات - من الارتباط بالعقل الفعّال الذي يُعد العقل العاشر. وجبرئيل هو العقل العاشر، فعقل النبيّ المستفاد يرتبط مع العقل الفعّال، ويتلقّى منه الحقائق[2].

 فالبيان الأنطولوجي للوحي عند الفلاسفة، يتعلّق ببيان الارتباط بين عقل النبيّ المستفاد مع العقل الفعّال، وينظر الفلاسفة إلى العقل الفعّال نظرة أكثريّة، ويرون أنّ العقل الفعّال يساعد عقل الإنسان لكشف المعقولات وانتزاع المعقول

(70)

من المحسوس، وكذلك يساعده على ارتقاء العقل الهيولاني كي يصل إلى العقل المستفاد، ويساعده أيضًا على انتقال الوحي الإلهي إلى العقل المستفاد.

 وليعلم أنّ الفارابي وابن سينا لا يرون فرقًا بين النبيّ والحكيم في امتلاك العقل المستفاد، ويرون أنّ المائز بين الفيلسوف والنبيّ، ينحصر في أنّ النبيّ مضافًا إلى استفادته من العقل المستفاد والاتّصال بالعقل الفعّال لتلقي الوحي، يتمكّن من تلقّي الحقائق الوحيانية أيضًا بالحدس والقوّة المتخيِّلة[1].

 نعم إنّ الخيال الذي ينسبه الفارابي وابن سينا إلى الأنبياء، لم يكن القوّة الخياليّة الجعليّة التي تؤلّف بين الصور الحسّيّة، وتستحدث صورةً كاذبةً في ذهن الإنسان، بل إنّ قوّة الخيال في النبيّ قويّة بحيث تتمكّن من تلقّي ألفاظ الوحي، وصورة الوحي اللفظيّة، وشكل الملائكة المثالي.

 تشير الفلسفة إلى الوحي الكلّي والوحي الجزئي، فالنبيّ يتلقّى الوحي الكلّي عن طريق رُقيّ عقله إلى العقل المستفاد وارتباطه بالعقل الفعّال، لكن يتلقّى الوحي الجزئي عن طريق رُقيّ قوّته الخياليّة، أي بناءً على كلام ابن سينا الذي لا يقبل عالم المثال المنفصل، عندما تشتدّ قوّة خيال النبيّ، ويقوى خياله المتّصل، يرتبط مع أرواح الأفلاك، ويجد عن طريقها الصور الملكيّة والألفاظ الوحيانيّة، أي يرتبط عقل النبيّ المستفاد مع العقل الفعّال (أي جبرئيل)، ويتلقّى الوحي الكلي حينئذٍ، وعليه فإنّ النبيّ ليس هو واضع الألفاظ، بل كاشف الألفاظ، لأنّ المقام مقام العلم[2].

(71)

أما شيخ الأشراق فإنّه يقبل تحقّق عالم المثال المنفصل في الخارج، ويعتقد أنّ خيال النبيّ عندما ينمو ويترقّى ويرتبط بالمثال المنفصل، يرى الملائكة وألفاظ الوحي في المثال المنفصل ويسمعها؛ لذا يسمع الوحي الجزئي، أي يشاهد ملائكة الوحي ويسمع كلامهم، ويصل إلى مختلف أقسام الوحي عن هذا الطريق[1].

 فتحصّل أنّ النبيّ يتعرّف على مختلف أقسام الوحي عن طريق العقل المستفاد أي القوّة العاقلة، وعن طريق قوّة التخيّل، وبهذا البيان فإنّ عمل عقل النبيّ وخياله بخصوص الوحي لم يكن خلقًا وإبداعًا، بل كشفًا. بخلاف الشاعر حيث يخلق الصورة بقوّة خياله.

 وبعد هذا البيان نقوم بتحليل ونقد ادّعاء سروش الدال على تطابق كلامه في الوحي مع أقوال الفلاسفة والعرفاء، فنقول:

 أوّلًا: لا يوجد خلافٌ بين العرفاء والفلاسفة والمتكلّمين، بل اتّفقوا على عدم وجود أيّ دورٍ إيجاديّ للنبيّ في الوحي، بل حتى ألفاظ الوحي وصناعته، إنّما هي من قبل الله (خلافًا للأحاديث القدسيّة).

 ثانيًا: لا ينطبق كلام سروش في معرفة الوحي مع كلام العرفاء، ويظهر عدم اطّلاعه على أقوال العرفاء، واكتفى بقراءة المثنوي المعنوي، نعم إنّ المولوي قد تأثّر بابن عربي بوساطةٍ واحدةٍ، ولكن من أراد فهم عرفان العرفاء، يلزم عليه على الأقلّ قراءة آثار عرفاء القرن السابع إلى التاسع من أمثال: ابن عربي، والخرقاني، والقاساني، والقيصري، وابن تركة، والقونوي، والجندي وغيرهم، والحال أنّ

(72)

سروش لم يستند الى أيّ واحدٍ من هؤلاء ويكتفي في مكانٍ واحد بالاستناد على كتاب مصباح الهداية للسيِّد الخميني، مع أنّ السيِّد الخميني يصرّح بكلام العرفاء ويقول بنزول كشف النبيّ الصوري من قبل الله تعالى[1]، ولكن سعى سروش من خلال الاستشهاد بجملةٍ واحدةٍ من كلام السيِّد الخميني ليحرِّف الأمر لصالحه.

 يرى العرفاء أن النبيّ هو التعيّن الأوّل - وله مصطلحاتٌ أخرى من قبيل: مقام الأحديّة، وأحديّة الجمع، والحقيقة المحمّديّة - وهذا المقام هو مجمع الأسماء والصفات الإلهيّة على النحو الإندماجي، ويلي بعد هذا المقام مقام التعيّن الثاني الجامع للأسماء والصفات الإلهيّة على نحوٍ تفصيلي، ثمّ يأتي بعده مقام الأعيان الثابتة، والفيض المقدّس، وعالم الخلق المتعلّق بالأرواح، والمثال، والطبيعة، والهيولا.

 وكلامنا هنا عن النبيّ الناسوتي الواقع في هذه الدنيا، أي لم يكن البحث في قوس النزول، بل البحث يقع في قوس الصعود[2]، فالنبيّ يقول في قوس الصعود: (رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه: 114)، ويتكامل، والمقصود من النبيّ في مقولة (النبيّ يقوم بإنزال جبرئيل)، إنّما هو الحقيقة المحمّديّة، لا الوجود الجسماني الدنيوي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

 وكلام سروش: (لا اختلاف في ظاهرة الوحي بين باطن النبيّ وخارجه) لا يصحّ؛ لأنّ العرفاء يقولون بنفس الأمر في التعيّن الأوّل، والتعيّن الثاني، وعالم

(73)

الأرواح، وعالم المثال، وعالم الطبيعة، ولا يعتقدون أبدًا بأنّ جبرئيل في العالم الخارجي لم يكن له تعيّنٌ خارجي. نعم صحيح أنّ جميع الكمالات تجتمع على نحو البساطة في التعيّن الأوّل، لكنّها لم تجتمع فيه على نحو التعيّن، أي أنّ حصول تعيّن مرتبة جبرئيل لم يكن في التعيّن الأوّل، بل في عالم الأرواح، وكما أنّ للتعيّن الأوّل نفس الأمر، فكذلك لعالم الأرواح نفس الأمر أيضًا، ولجبرئيل أيضًا في ذلك العالم نفس الأمر، وله تعيّن، وعليه فإنّ جبرئيل المتعين لم يكن في التعيّن الأوّل، بل خارج عن التعيّن الأوّل.

 وهذا الأمر يصدق أيضًا على سائر الموجودات، بمعنى أنّ جميع كمالات الإنسان موجودةٌ في الذات القدسيّة، ولكنّها لم تكن هناك على نحو التعيّن والجسمانيّة، إذ لو كان كذلك لزم التركيب، وتنتفي البساطة، فالعرفاء عندما يذكرون مبحث العينيّة - أي رابطة الحقيقة والرقيقة - ويرون أنّ جميع الكمالات موجودةٌ في الله على نحو البساطة، ولكنّهم مع هذا يقولون بالتعيّن ونفس الأمر والكثرة في التجلّيات.

 إنّ ما نسبه سروش إلى العرفاء لم يقل به أيّ عارف؛ إذ العرفاء يعتقدون بصحّة وجود الأرواح حقيقة، ويقولون بوجود جبرئيل وإسرافيل وعزرائيل وميكائيل وسائر الملائكة، ووجود عالم المثال وعالم الطبيعة، ولكن يرون أنّ جميعها تجلّيات؛ لأنّ جميع هذه الكمالات موجودةٌ على نحو البساطة في التعيّن الأوّل والهويّة الغيبيّة، ولكنّها لا توجد هناك على نحو الحدود والتعيّن، فالعرفاء مضافًا إلى العينيّة يبحثون عن الغيريّة أيضًا. وليت سروش يدلّنا على كلام العرفاء

(74)

هذا حول الوحي، وقد ادّعى أنّ ايمانه إيمان العرفاء.

 والآن آن الاوان للنقد المبنائي الفوقاني لنظريّة رؤيويّة الوحي، والذي سنبيِّنه في فصلين.

(75)

 

 

الفصل الثاني: النقد المبنائي لنظريّة سروش في الوحي

 تبتني نظريّة سروش في الوحي على عدّة مبانٍ، ويمكننا رؤية تأثير هذه المباني في نظريّته، وعليه وقبل الدخول في المباحث الفوقانيّة، نقوم بالمداقّة في هذه المباني ونقدها، لنقف على سبب تلوّث مياه هذه النظريّة. وهذه المباني هي:

المبنى اللغوي

المبنى الإبستمولوجي

المبنى الهرمنيوطيقي

المبنى الديني

 علمًا بأنّ سروش لم يذكر هذه المباني بشكلٍ منقّحٍ، ولم يصرّح بها، بل قمنا باستخراجها من طيّات حواراته وكتاباته.

 المبنى اللغوي

 ما يُستفاد من مجموع كلام سروش حول موضوع لغة الوحي، أنّه كما يرى معنائيّة لسان القرآن التصوري والمفهومي، ويرى أيضًا معنائيّة لسان القرآن في القضايا، لكنّه في الواقع لا يعتقد بكون لسان القرآن لسانًا معرفيًّا في كثيرٍ من موارده، بل يرى وظائف أخرى للغة الدين تبعًا لفلاسفة التحليل.

 يرى سروش أيضًا أنّ القرآن عندما يتحدّث عن السماء والأرض وسائر

(77)

الظواهر الطبيعيّة، لم يكن بصدد بيان الواقع ونفس الأمر، ولم يرد بيان الواقع الخارجي وفق ما عليه العرب والناس أيّام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، بل إنّ النبيّ يذكر اعتقاداته المتطابقة مع اعتقادات القوم، وعليه لمّا كان سروش يرى أنّ علم النبيّ كعلم قومه يقبل الخطأ، فلا يمكن أنْ يكون لسان القرآن لسانًا يكشف الواقع ويتطابق معه، بل إنّه لسانٌ يشبه الواقع ولا يتطابق معه؛ لذا لا بدّ من القول وفق كلام سروش بأنّ النبيّ كأنّه كان بصدد أنْ يكون لسانه معرفيًّا ومبيّنًا للواقع الوقت في الوقت نفسه، ولكن كلا الأمرين في هالة من الإبهام.

 أما الآن وبعد بيان قبليات سروش اللغويّة، نتطرّق إلى أنّ البحث عن لسان القرآن يقع في مقامين: مقام المفردات، ومقام القضايا.

لغة القرآن في مقام المفردات

يُبحث في مقام المفردات عن معنى الكلمات، والتساؤل عن قصد الشارع المقدس عندما يستعمل كلمات مثل: الماء، والإنسان، والقمر، والأرض؟ وكذلك يُبحث أيضًا في مقام المفردات عن الصفات الإلهيّة. اذ إنّ صفات الباري على قسمين:

الصفات المشتركة مع الإنسان.

الصفات غير المشتركة مع الإنسان، كصفة القيوميّة الخاصة بالله تعالى.

 الصفات المشتركة مع الإنسان على قسمين أيضًا:

الصفات المشتركة مع الإنسان بالإشتراك المعنوي، بمعنى إمكان نسبتها إلى الله تعالى ومن دون قيود، كما تنسب إلى الإنسان، كصفة العلم، إذ إنّ علمنا يختلف عن علم الله تعالى في بعض الخصائص والأحكام.

 

(78)

الصفات المشتركة مع الإنسان بالإشتراك اللفظي، وهي التي لا يمكن إطلاقها على الله تعالى كإطلاقها على الإنسان، كصفة اليد والوجه.

 إنّ آراء علماء الإسلام في لغة القرآن في المفردات لم تكن واحدة؛ فيرى أكثر المفسّرين أنّ المخاطب بالمفردات من غير الصفات الإلهيّة، كالسماء والأرض والقمر، هو عموم الناس، فقد بيّن الله تعالى هذه المفردات بلسان العرف العام، وعلى سبيل المثال لا يقصد القرآن من مفردة (الماء) العنصر المتكوِّن من H2O، بل إنّه المائع السيال الرافع للعطش، نعم قد اكتشف العلم بمرور الزمن أحكامًا للماء وقال إنّ هذا المائع السيّال الرافع للعطش يتكوّن من H2O. فعند هؤلاء المفسّرين إنّ قضية (الماء هو H2O) لم تكن قضيّةً ضروريّةً بشرط المحمول، اي أنّها لم تكن مثل قضيّة (H2O، هو H2O)؛ لأنّنا لا نكتشف في القضيّة الأنطولوجيّة معلوماتٍ جديدة، ولكن تعطينا قضية (الماء هو H2O) معلوماتٍ جديدة، وعليه فإنّ معطيات العلوم الجديدة ليس لها دورٌ في تحليل معنى الكلمات، وتعدّ مجرّد أحكامٍ لهذه الكلمات وحقائق لها، وعليه عند استعمال هذه الكلمات في القرآن من قبيل: (الإبل، الماء، الأرض، السماء، البروج) وغيرها، يُقصد منها معانيها العرفيّة والعلميّة، علمًا بأنّ مصطلح العرف مشتركٌ عند مفسِّري الشيعة والسُنّة.

 وهناك تقسيمٌ آخر لصفات الباري تعالى حيث تنقسم إلى اثنين:

الصفات الخبريّة التي تعدّ من المتشابهات.

الصفات غير الخبريّة أو العقليّة وهي الصفات المحكمات وغير المتشابهة، وتشمل الصفات الذاتيّة والفعليّة[1].

(79)

وعلى سبيل المثال في قولنا: (الله العالم) وإنْ كانت صفة العلم مشتركةً بين الله والإنسان، لكنّها ليست من الصفات المتشابهة، بل تقع ذيل الصفات غير المتشابهة والمحكمة، مع فارق أنّ علم الله تعالى حضوريٌّ فعليٌّ وواجبٌ، أمّا علم الإنسان فإمكاني حصولي وانفعالي، وعلى سبيل المثال أنّ الله قابضٌ باسطٌ رازق، وهي صفات الفعل، ولكن منشأها الذات الإلهيّة، فغضب الله في قوله: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) (الزخرف: 55). وكذلك روح الله في قوله: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (الحجر: 29) تكون من صفات الفعل وغير متشابهة، خلافًا للصفات الخبريّة كاليد والوجه والاستواء على العرش، حيث لو افترضنا معناها الظاهري، لما أمكن نسبتها إلى الله تعالى بعنوان صفة الذات والفعل.

 توجد آراء مختلفة في الصفات الخبرية:

ذهبت المجسمة والمشبهة إلى نسبة هذه الصفات إلى الله تعالى بمعانيها وكيفيّاتها الإنسانيّة.

ذهب أكثر المتكلّمين شيعةً وسُنّةً إلى استحالة نسبة هذه الصفات إلى الله تعالى؛ لاشتمالها على الصفات الإنسانيّة؛ لذا وردت أقوالٌ مختلفةٌ عنهم في تأويل هذه الصفات، وهي كالتالي:

ذهبت الأشاعرة الى حمل هذه الصفات على الله تعالى بمعناها المتبادر والعرفي، ولكن لأجل عدم الوقوع في التشبيه يضيفون هذه الجملة: (إنّ لله سبحانه وتعالى وجهًا ويدًا بلا تشبيه ولا تكييف)، وهناك من يستبعد الإنسان عن فهم معاني الصفات الخبريّة[1].

(80)

ذهبت المعتزلة إلى التأويل، ولزوم حمل هذه الصفات على خلاف معناها الظاهري، فتكون اليد بمعنى القوّة، والاستواء بمعنى العلم الإلهي[1]. وذهب إلى هذا القول بعض علماء الشيعة أيضًا.

ينفي قسمٌ آخر من علماء الشيعة - كالأصوليّين والفلاسفة أمثال ملّا صدرا - التأويل والتشبيه ويرى ملّا صدرا في كتاب مفاتيح الغيب والمظاهر الإلهيّة أنّ لهذه الصفات معاني مشتركة، ولهذه المعاني المشتركة مصاديق مختلفة، توجب ظهور بعض القيود في تلك المصاديق، فاليد لم تكن بمعنى اليد الجارحة؛ لأنّ وظيفة اليد رفع الأشياء ونقلها من مكانٍ إلى مكانٍ واستحداث التغيير فيها، فهذه الجارحة مصداقٌ من مصاديق اليد، والمصداق الآخر لها هو القوّة والقدرة، ونحن عند إطلاقها على الله تعالى لم نلحظ المعنى المشترك مع قيود الإمكانيّة والتشبيهيّة، بل ننسب ذلك المعنى المشترك إلى الله تعالى.

 فالشيخ السبحاني قد بحث هذا الأمر في مباحثه الأصوليّة، ويرى أنّ كثيرًا من هذه الكلمات عندما تُستعمل بمفردها وخارج نطاق الجملة، يكون لها معنى تشبيهيّ، ولكنّها بعد استقرارها في الجملة تختلف دلالتها التصديقيّة، أي نحن حينئذٍ نبحث عن كشف الدلالات التصديقيّة والاستعماليّة. فاليد عندما تستعمل خارج الجملة، تكون بمعنى اليد الجارحة، لكنّها عندما تقع في سياق الجملة لم تكن بمعنى اليد الجارحة لزومًا، وعلى سبيل المثال لا يقول أحدٌ بأنّ معنى اليد في جملة (الإمارة في يد الأمير) هي اليد الجارحة، والوقت نفسه لم يقم أحدٌ بتأويل اليد أيضًا في هذه الجملة، بل يفهم منها ومن دون تأويل معنى القدرة والإحاطة، أي يفهم أنّ الإمارة تحت قدرة الأمير وسلطته.

(81)

وبعبارةٍ أخرى أنّ قراءة سياق الجملة تعيننا في كشف الدلالة التصديقيّة والاستعماليّة، وربما يفهم الإنسان في الدلالة التصوريّة معنى خاصًّا بمجرّد صدور اللفظ من الشخص أو من الموجود المتلفّظ أو حتى عند احتكاك شيئين وما يحصل منهما من صوت، فهذه المعاني غير مهمّة، بل المهمّ وما نبحث عنه، إنّما هو دلالة الالفاظ التصديقيّة لاصطياد مراد المتكلّم، وبناءً على هذا لا تحتاج الصفات الخبريّة إلى التشبيه والتأويل[1].

نقد مباني سروش اللغويّة في مقام المفردات

 أوّلًا: من الاشكالات المطروحة على سروش أنّ المفردات التي اعتقد أنّها رمزيّةٌ ومناميّةٌ كـ (يد الله)، لم تحتج في الواقع إلى التشبيه والتأويل، ومن جهةٍ أخرى يوجد اختلافٌ بين الصفات الخبريّة وغير الخبريّة، فالكلام لم يكن من الصفات الخبريّة، وكذلك سائر الصفات المشتركة بين الإنسان والله تعالى، فإنّها لم تكن خبريّة، ولم يقل أيّ متكلّمٍ وحتى المسيحيّة أنّ الحدّ الفاصل بين الصفة المشتركة بين الإنسان والله تعالى إنّما هو الصفات الخبريّة، حتى أنّ توماس أكونياس الذي طرح نظريّة التمثيل، لم يدّعِ أنّ هذه الصفات صفاتٌ خبريّة.

 ثانيًا: إنّ الألفاظ التي غيّرَ الشرعُ معانيها كالصلاة مثلًا، تحمل على المعنى الذي حملها عليه الشارع المقدس، ولكن باقي الألفاظ تُحمل على المعاني العرفيّة، وعليه عندما نريد بيان معنى كلمةٍ في القرآن، علينا أنْ نبحث عن المفاهيم العرفيّة والمعاني الواردة في عصر النزول حتمًا؛ لذا هناك من يقدّم المعاجم اللغويّة كالعين

(82)

على لسان العرب. كما أنّ يمكن الاستفادة من بعض الروايات التي قامت ببيان معنى بعض الكلمات.

 وعليه عندما يستعمل الله تعالى كلمة النار في القرآن، تكون بالمعنى نفسه الذي يفهمه العرف، ولكن لأجل ألّا يختلط على العرف، ويظنّ أنّ معنى المدلول المطابقي متساوٍ مع المصداق العيني الموجود في ذهنه، يوضّح القرآن الفرق بين مصاديق نار جهنّم، ومصاديق نار الدنيا[1].

 فهناك تفاوتٌ تشكيكيّ بين نار الدنيا ونار الآخرة، ولكن المفهوم والمعنى سيّان، فبناءً على هذا حتى ملّا صدرا الذي لا يقبل المعاد الجسماني بالجسم المادّي، يصرّ على معناه القرآني ويكره التأويل، ويعتقد بلزوم اكتشاف معاني الألفاظ الحقيقية[2]، وعليه لا يصحّ كلام سروش في أنّ المفسّرين والفلاسفة قاموا بتأويل معاني الألفاظ.

لغة القرآن في مقام القضايا ونقد نظريّة سروش

 لا بدّ هنا من الإلتفات إلى عدّة نقاط:

إنّ اللغة ظاهرةٌ إجتماعيّة، ولا يتمكّن الإنسان من تغييرها كيفما يشاء، وكذلك الأمر في الاصطلاحات العلميّة، ولا يصحّ لشخصٍ أنْ يؤسّس نظامًا فلسفيًّا لا يفهمه غيره، فعندما يتّهم سروش مخالفيه بأنّهم لا يفهمون كلامه، فهو دليلٌ على وجود نقصٍ في بيانه وكلامه. ولا بأس من جعل مصطلحٍ جديد، والإشكال يكمن في عدم القدرة على إفهام الآخرين لهذا المعنى، وعلى سبيل المثال فقد وضع ملّا

(83)

صدرا مصطلح (أصالة الوجود) وتمكّن من تبيينه. فلا يحقّ لأحد أنْ يطرح نظريّةً من دون أنْ يقوم بتوضيحها، كي لا يتهم الآخرين عندما يواجه نقدهم، بعدم فهم كلامه.

 ولمّا كانت اللغة ظاهرةٌ اجتماعيّةٌ عرفيّةٌ تُستعمل لمن يفهم تلك اللغة، فلا يمكن أبدًا تفسير لسان الشارع المقدّس من حيث المدلول المطابقي، بالمعاني المتولّدة بعد عصر الشارع، فهذا الأمر لا يصح، ويُخرج اللغة عن كونها أمرًا اجتماعيًّا، نعم يمكن أنْ يحتوي المدلول المطابقي على مداليل التزاميّة تكون أوسع من فاهمة ذلك العصر، أي لا إشكال في أنْ يتكلّم المتكلّم بحيث يفهم مداليل كلامه الالتزاميّة أُناسٌ متعمّقون يأتون فيما بعد، ولكن ليس من المعقول أنْ يتكلّم الإنسان بنحوٍ يعجز مخاطَبه عن فهم مدلوله المطابقي والالتزامي معًا. وهنا لا يمكن إقامة البرهان العقلي؛ لأنّ مباحث اللغة مباحث اعتباريّة، وما يمكن التمسّك به إنّما هو كيفيّة استعمال اللغة عند العقلاء بما هم عقلاء.

إنّ هدف الشارع المقدّس الهداية، وهذا ما أجمع عليه العلماء، وأذعن به سروش أيضًا[1]. وبعد قبول هذا الأمر لا يمكن القول بأنّ لغة القرآن تخلو من الاستعمالات المعرفيّة؛ لأنّ الهداية تعني أنّ الهادي يقصد ايصال المهتدي إلى المقصد؛ لذا لا يمكن التكلّم باللسان الرمزي، لعدم تحقّق الهداية حينئذٍ، وعليه لمّا كان لسان الدين لسان الهداية لا بدّ أنْ يكون حقيقيًّا، ولو كان رمزيًّا في موردٍ من الموارد، سيحتوي لا محالة على قرينةٍ تدلّ على إثباته أو عدم إثباته، ولا بدّ أنْ تكون القرينة عقلائيّةً أو عقليّة. وعلى سبيل المثال لا يمكن استعمال اليد في الآية: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (الفتح:

(84)

10) بمعنى يد الإنسان، لوجود القرينة العقليّة على عدم جسميّة الله تعالى، وورد التصريح أيضًا بقوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: 11)، كما يدلّ سياق الجملة على عدم إرادة اليد الجسمانيّة، فمع وجود هذه القرائن لا يمكن إعطاء تفسيرٍ تشبيهيّ، فلا يصحّ كلام سروش في عدّ لغة القرآن لغةً رمزيّةً في كثيرٍ من موارده، وكلامه هذا يخالف الطريقة العقلائيّة والعقليّة؛ لأنّ الله تعالى يتكلّم بالعرف العامّ، واللغة في العرف العامّ لها استعمالاتٌ وأقسام، والأصل في اللغة واللسان الإخباري إنّما هو إيصال المعرفة والمعنى.

إنّ القول بخبريّة صفة التكلّم في قوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) (النساء: 164)، نظير ما في قوله: (الرّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5)، بالدليل الذي استشهد به من (أنّ الله تعالى لا يتكلّم فموسى هو الذي تكلّم مع نفسه)، غير صحيح، ولا توجد أيّ قرينةٍ تدلّ عليه، بل يوجد في هذه الآية فاعلٌ إلهيٌّ يأمر موسى، فهل يُعقل أنْ يأمر الإنسان نفسه؟ هذا ما يخالفه العرف العامّ.

من الخطأ أيضًا تشبيه الوحي بالشعر؛ لأنّ هدف الشاعر ليس انتقال المعنى، بل إثارة المشاعر في الغالب، كما أنّ لسان الشعر ليس عرفيًّا، فالوحي ليس كالشعر، لا في منشأ الصدور ولا في المحتوى، فلغة القرآن أوّلًا لغة العرف العام، ولغة العرف العام لغةٌ معرفيّةٌ معنائيّة، فلغة القرآن لغةٌ معرفيّةٌ معنائيّة، وثانيًا أنّ لغة القرآن لغة الهداية، فلا تكون رمزيّة؛ ولذا ينفي الله تعالى في القرآن نسبة الشعريّة إليه، ويقول: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ).

إنّ التفسير من حيث المنهجيّة قد يكون ترتيبيًّا، وقد يكون موضوعيًّا، يبدأ التفسير الترتيبي من بداية القرآن إلى سورة الناس، وهنا لا بدّ من الإلتفات إلى

(85)

السياق، فمن يحمل الحروف على المعاني المختلفة لم يلتفت إلى السياق، وعلى سبيل المثال يقول فرعون للسحرة الذين آمنوا بموسى: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) (طه: 71)، فيقول كثيرٌ من المفسّرين في تفسير هذه الآية أنّ (في) هنا بمعنى (على) لعدم إمكان الصلب داخل النخلة، بل يصلب عليها، والنقطة المهمّة أنّ الحكيم عندما يتكلّم علينا أنْ نفسّر كلماته بشكلٍ حكيمٍ أيضًا، فالله تعالى كان بإمكانه استعمال (على) بدل (في)، فيبدو أنّ هناك أمرًا خاصًّا في استعمال (في)؛ لذا نحن هنا لا نأخذ (في) بمعنى (على) ونفسّرها وفق معناها الظرفي، ونقول إنّها تعني هنا شدّة غضب فرعون؛ لأنّ هؤلاء السحرة كانوا سلاح فرعون الوحيد أمام موسى عليه‌السلام، فعندما آمنوا بموسى عليه‌السلام، أصبح فرعون خالي اليد أمام موسى، وقال لهم من شدّة غضبه بأنْ تُقطع الأيادي والأرجل على نحوٍ متعاكسٍ، وأنْ يصلّبهم داخل النخيل، أي بحيث يتصوّرون أنّهم داخل النخيل من شدّة العذاب؛ لذا فإنّ للسياق أهميّةً مضاعفةً سواء في التفسير الترتيبي أم الموضوعي.

 وهناك تفسيرٌ ثالثٌ نطلق عليه التفسير الترابطي، فالمفسّر هنا عند تفسير الإيمان مثلًا، لا يبحث عنه في الآيات المشتملة عليه فحسب، بل يبحث في كلماتٍ من آياتٍ أخرى ترتبط به كالإسلام، فيتحصل من ذلك معانٍ مختلفة ومترابطة على نحو الشبكة، والحال نسأل سروش: هل أنّ كلامك عند تفسير قوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا)، بجعلها بمعنى تكلّم موسى مع نفسه، أو تجعل الآيات المبدوءة بـ(قل) بأنّها خطاب للنفس، هل هذا يتطابق مع سياق التفسير الترتيبي أو الموضوعي أو الترابطي؟ أنت قمت أوّلًا بحذف دور الله في خلق الألفاظ، وقلت باختصاص المحتوى به، ثمّ تعدّيت وجعلت المحتوى متأثّرًا بالثقافة الموجودة زمن

(86)

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، أي قد حذفت دور الله تعالى حتّى في المحتوى، والآن قمت بحذف حضور الله تعالى في الآيات أيضًا، وتقول عندما تأتي في الآية كلمة (قل) لا تعني أنّ الله تعالى يكلّم النبي. فهذا الأمر لا يتطابق مع السياق، فمن يريد أن يتكلّم معك لا بدّ أن يفهم سياق كلامك.

 يمكننا الوصول إلى معانٍ أعمق من النصّ فيما لو عرفنا أوصاف المتكلِّم، فهذا الأمر يكون أكثر خصوصيّةً وضرورةً في نصّ فيلسوف كملّا صدرا مثلًا؛ لكونه مؤسّس الحكمة المتعالية، وتكون هذه المعرفة أعظم خصوصيّةً وضرورةً بخصوص القرآن الكريم! فمن نقود الشيخ السبحاني دام‌ظله لسروش ما نقله سروش من رواية عن ابن عربي حول عدم اطّلاع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على تأبير النخيل، فهذا الإشكال يرد على ابن عربي أيضًا؛ لأنّه يجعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوس النزول التعيّن الأوّل والحقيقة المحمّديّة، قد وصل في قوس الصعود إلى ختم النبوّة والإنسان الكامل، فكيف لمن بلغ ذلك أنْ يجهل مسألةً عرضيّةً يعرفها العرب آنذاك حول تأبير النخيل؟ فمن غير المعقول بل القبيح أنْ يوصي أحدٌ الناسَ بما لا علم لديه فيه، ويتسبّب بذلك ضرر الناس، فالعجب من ابن عربي كيف ينقل روايةٍ كهذه وينسب هذا الأمر السخيف إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. ونقول:

أوّلًا: نحن نعتقد أنّ القرآن - وفقًا للروايات الواردة - جامعٌ لكلّ العلوم والحقائق، وفيه علم ما كان وما يكون؛ لأنّ شارع مقدّس والله تعالى حكيم وعالم على الإطلاق، نعم يستفيد المخاطب منه بحسب مستواه الإدراكي، ولا منافاة بين احتواء القرآن على معانٍ طوليّةٍ وعرضيّةٍ منسجمةٍ ومتناسقةٍ متعدّدةٍ رغم محدوديّة ألفاظه؛ لأنّ هذه الألفاظ المحدودة تدلّ على مداليل مطابقيّةٍ محدودة، وهي تدلّ

(87)

أيضًا على مداليل التزاميّة مختلفة، وهذه المداليل الالتزاميّة بإمكانها الاستمرار إلى الأبد، فبالاعتماد على هذه النقطة اللغويّة يمكن القول عقلًا بأنّ القرآن يحمل معاني متعدّدة، ويريد الشارع المقدّس منه أيضًا معاني متعدّدة، ومتى ما أراد الإنسان الكامل الذي له الإشراف والإحاطة بنظام الوجود، الاطّلاع على هذه المعاني الباطنيّة والمداليل الالتزاميّة انكشفت له.

ثانيًا: يفسّر سروش بعض الآيات خلافًا لمعانيها المتعارفة، ويبدو أنّ لديه شبهاتٍ حول معرفة الله ظهرت في طيّات كلامه شاء أم أبى، فهو يقول في البداية بنسبيّة المعرفة الدينيّة [1]، ثمّ يلتزم بعرَضَيّة الدين[2] الشامل بلوازمه الإمامة والوحي والنبي وحتّى الله تعالى؛ لأنّ سروش لو أذعن بالحكمة الإلهيّة وعلم الله المطلق، لا يمكنه الالتزام بلوازم كلامه المتقدّم، فلو جعل القرآن نازلًا من قبل الله تعالى الحكيم، لا يمكنه القول بوجود أخطاء فيه، حتّى لو جعل خالق القرآن نبيًّا يُعدّ خاتم الأولياء والإنسان الكامل - على حدّ تعبير العرفاء- المحيط بجميع الوجود والقادر على إنزال جبرئيل، فلا يمكن لمن بلغ هذا المقام الجهل بمعرفة الإنسان ومعرفة الطبيعة، وأن يتكلّم خطأً.

 وبعبارةٍ أخرى، طبقًا لمعاني سروش ورؤيته حول النبي - حيث بلغ مرتبة يتمكّن من إنزال جبرئيل – يلزمه عند حصول التعارض بين آيات القرآن والعلم الحديث، الوقوف لصالح القرآن، فهل يمكن تصوّر جهل صاحب تلك الدرجة الرفيعة، بالمسائل الطبيعيّة؟ فمن المعلوم أنّ سروش يقصد معنى آخر من كلمات

(88)

العرفاء -علم أو لم يعلم - فجبرئيل ونزوله الذي يقصده، جبرئيل ونزول آخر؛ لذا وقع في نتائج خاطئة.

مباني سروش الابستمولوجيّة

 لم يتطرّق سروش إلى المباحث الابستمولوجيّة بشكلٍ صريح، ولكن يمكن التعرّف على مبانيه من خلال كتاب (قبض وبسط تئوريك شريعت) - المختصّ بمباحث المعرفة الدينيّة - وما ذكره من إشاراتٍ في بحث (بشر وبشير)، و(طوطي وزنبور) حول تعارض العلم والدين، وعلى سبيل المثال يمكننا اكتشاف نقاطٍ كثيرةٍ من ادّعائه في تطرّق الخطأ إلى القرآن وعلم النبي[1]. إذ يقول: أليس الذين تمسّكوا بالتأويل قد أذعنوا بوجود تعارضٍ بين ظواهر القرآن مع العلوم البشريّة، فالتأويل ليس في واقعه إلّا اللجوء من علمٍ بشريّ إلى علمٍ بشريّ آخر.

 ثمّ يتمسّك بكلام السيِّد الطباطبائي في مسألة استراق السمع من قبل الشياطين ورجمهم بالشهاب، وكذلك موضوع السماوات السبع، ثم يقول: قد قام البعض بتأويل هذه الآيات، قال البعض أنّ القرآن يتناغم مع ثقافة العرب، والبعض الآخر قال برمزيّة ثنائيّة لغة العلم والدين، واعتقد البعض أنّ مضمون الوحي لا يتحمّل الصدق والكذب. ثمّ يقول سروش بعد هذا الكلام أنّ جميع الآيات تعدّ من العرضيّات ولا مدخليّة لها في الدين ورسالة النبيّ، ثم يخاطب الشيخ السبحاني ويقول: لا أظنّ حصول نتيجة لكم في إصراركم على أنّ السماوات سبعٌ، أو أنّ الشهب ترمي الشياطين وتحرقهم كي لا تسمع كلام الملائكة.

(89)

وقد ذهب سروش في مباحثه إلى نوعٍ من النسبيّة التي تُعدّ في الواقع نظريّة كانط حول تفكيك النومين عن الفنومين[1].

نقد مباني سروش الإبستمولوجيّة

 يصرّح سروش في المباحث الخارجيّة المتعلّقة ببحثه عن الصراطات المستقيمة، التي ألقاها بشكلٍ شفهي، أو في كتاب (قبض وبسط تئوريك شريعت) يصرّح بأنّه ينتمي إلى الواقعيّة ويجعل الصدق بمعنى مطابقة الواقع، ويعتقد بوجود الواقع. والأمر اللافت للنظر بخصوص انتماء سروش إلى المذهب الواقعي، أنّ حدود واقعيّته تقتصر على وجود الواقع وأنّ المعرفة الصادقة هي المعرفة المتطابقة مع الواقع؛ لأنّ نظريّته لا تحتوي على معيارٍ نتمكّن به من فهم قضيّة (التوحيد صادق أو التثليث) فالإبستمولوجيّون لا يرون شخصًا كهذا منتميًا إلى المذهب الواقعي[2]؛ لأنّ الواقعي من يقبل أركان الواقعيّة الثلاثة: 1- وجود واقع ونفس الأمر وراء الذهن والمعرفة. 2- مطابقة معارفنا مع الواقع في الجملة. 3- وجود معيارٍ لكشف الصدق[3].

 ولكن سروش يقبل ركنين من هذه الأركان الثلاثة، إذ يصرّح أنّ معرفة البشر الدينيّة خليطٌ من الحقّ والباطل والآراء المتعارضة والأفهام المختلفة المتجدّدة المتغيّرة[4]، وبعبارةٍ أخرى هو يذعن بوجود الواقع، وأنّ الصدق ما طابق الواقع،

(90)

ويقبل بصدق بعض المعارف ولكن لا يقبل بوجود معيارٍ لكشف الصدق؛ لذا يفتي بنسبيّة المعرفة الدينيّة، ولم يقبل بالركن الأساس في المعرفة الدينيّة، كما أنّه لا يقبل الركن الثالث في نطاق المعرفة العلميّة أيضًا.

 وبعبارةٍ أخرى صحيح أنّ سروش يقول بنفس الأمر والواقع في المعرفة الدينيّة، ويجعل الصدق بمعنى المطابقة مع الواقع، ويقول بصدق بعض معارفنا ومطابقتها مع الواقع، ولكن لمّا كان ينفي معيار كشف الصدق، يقع في خانة النسبيّة، ومن المعلوم أنّ الشخص النسبيّ لا يقول بوجود الواقع.

 هذا الإشكال يرد على كانط أيضًا؛ لأنّه يقبل النومين (الشيء في نفسه)، ويقترب من الواقعيّة[1]، لكنّه يتحدّث لاحقًا عن عدم تطابق الفنومين مع النومين من جهة خاصّة[2]. ونتساءل: كيف يقول إذن بوجود النومين؟ إنّ كلامه في تأثير الخارج على الذهن، وعبوره عن معبر الزمان والمكان ودخوله في القوالب الاثني عشر لتتولّد المعرفة، هذا الكلام بحثٌ أنطولوجيٌّ، وهو نومين يحكي عنها من خلال الفنومين، حتى أنّ قضية (المعرفة نسبية) يدلّ على وجود واقعٍ واحدٍ ما؛ لأنّ المعرفة طبقةٌ من طبقات الواقع.

مباني سروش الهرمنيوطيقيّة

 لسروش حول النصّ الديني مدعيان: 1- تاريخيّة النصّ الديني، 2- تاريخيّة فهمنا للنصّ الديني. كان بإمكاننا ذكر الأوّل في المباني الوحيانيّة، والثاني في المباني اللغويّة، لكنّ المبنى الهرمنيوطيقي مبنى مستقلٌّ في عرض المباحث السابقة، ولكن

(91)

لتوضيح وبيان كلا المدعيين لا سيّما المدعى الأوّل، أفردنا له مبحثًا مستقلًّا تحت عنوان البنى الهرمنيوطيقي لسروش، قد أشار سروش إلى أحداهما في (قبض وبسط تئوريك شريعت) بشكلٍ تفصيلي، وذكر الآخر في (بسط تجربه نبوي).

 نستكشف من الشواهد الموجودة في طيَّات كلام سروش، اعتقاده بتاريخيّة جميع معارف الإنسان واستنباطاته من الدين؛ ولذا تتعرّض للخطأ، والتفسير الذي يذكره للوحي والدين تفسيرٌ تاريخيّ، بمعنى اعتقاده بأنّ فهم البشرعن الدين لم يكن حصيلة الظروف التاريخيّة فحسب، بل الوحي القرآني أيضًا حصيلة الظروف التاريخيّة الخاصّة التي كوّنته، ونتاج ذهن النبيّ، الذي يتّصف بما يتّصف به الذهن البشري من حدود ونواقص. وقد صرّح بهذا الأمر في أماكن مختلفةٍ من بحوثه، وقد لخّص رؤيته هذه في بحث (رؤياى رسولانه (6)).

 وعلى سبيل المثال يقول إنّ ما جاء به القرآن حول سائر الأديان والوقائع التاريخيّة والموضوعات العلميّة الأرضيّة لا يلزم أنْ تكون صحيحة؛ لتاريخيتها ونزولها بحسب اقتضاء ظروف ذلك الزمان والعقائد التي كان يعتقد بها النبيّ. ويقول في مكانٍ آخر إنّ ظواهر الدين تتكون بشكلٍ تاريخيّ وثقافيّ، ولا موضوعيّة لها في يومنا الحاضر.

 ويقول في مكان آخر: إنّ فهم القران التاريخي والبشري يسمح لنا بترجمته[1]، كما يعتقد أنّ طابع القرآن الحواري يكشف بوضوحٍ عن الفنون البلاغيّة، ويكشف عن اهتمام ذهن النبيّ بالناس وحوادث المجتمع، سواء عندما يقول (يسألونك) أم

(92)

لم يقل، فكأنّ القرآن حوارٌ مستمرٌّ ذو وجوهٍ بين الله والإنسان والطبيعة والتاريخ الذي يعيش فيه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، وجوابٌ لأسئلة ذلك الزمان[1]. ويقول في مكانٍ آخر بعد المباحث التمهيديّة إنّ النبيّ بشري وتاريخي، كما أنّ النصّ الذي جاء به بشريّ وتاريخيّ أيضًا.

 ويقول في كتاب (قبض وبسط تئوريك شريعت) لأجل الوصول إلى المعنى في النصّ الصامت، لا بدّ من التمسك بقبليّات المفسِّر التي هي أعمّ من العلوم والفلسفة؛ لذا يشير في كتابه هذا إلى نوعين من القبض والبسط، ويقول بإمكان تبيين مدّعيات القبض والبسط في ثلاثة أصول:

إنّ فهم الشريعة (صحيحًا كان أم سقيمًا) مستمدٌّ بأجمعه من معارف الإنسان ومتلائمٌ معها، ويوجد حوارٌ مستمرٌ بين المعرفة الدينيّة والمعارف غير الدينيّة، ويسمّي هذا الأصل بأصل التلاؤم والتغذية.

لو حدث القبض والبسط في المعارف البشريّة، لتعرّض فهمنا عن الشريعة لذلك أيضًا.

إنّ معارف الإنسان (فهم الإنسان عن الطبيعة والوجود: العلم والفلسفة)، تتحوّل وتنقبض وتنبسط (أصل التحوّل)، ومع تغيير المعارف البشريّة تتغيّر المعارف الدينيّة أيضًا.

 ويبيِّن سروش في مكانٍ آخر أنّ لكتابه السابق ثلاثة أركان:

أوّلًا: الإخبار عن التحوّل والتكامل في الفكر الديني (توصيف).

ثانيًا: الكشف عن سرّ ذلك التحوّل وسببه (تبيين).

(93)

ثالثًا: ترغيب الضائعين في ساحل البحر بالسباحة وتكميل معارفهم الدينيّة (توصية).

ويمكن تلخيص مدّعى سروش على النحو الآتي:

 النصّ الديني صامت، يقوم المفسّر بالاعتماد على أفقه المعنائي - الذي يشتمل على القبليات المعرفيّة، والانتظارات، والأسئلة، والسلائق، والمعلومات - بتفسير ذلك النصّ الصامت ويُلبسه المعاني. ولأجل إثبات مدّعاه يستند سروش إلى الشواهد التاريخيّة، ويقول إنّنا عندما نراجع تفاسير المفسّرين - مع قطع النظر عن صحّة فهمهم أو عدم صحّته - نرى أنّ تفاسيرهم متأثّرة بالمسبوقات العلميّة الخاصّة بزمانهم، فالطباطبائي مثلًا لم يفسّر السماوات السبع وفق الهيأة البطلميوسيّة، ولكن من سبقه قام بذلك، وبعبارةٍ أخرى قد اعتمد سروش لإثبات مدّعاه على الهرمنيوطيقا الغادامريّة - التاريخيّة للوحي وظهوره، وعلى نظريّة قبض وبسط الشريعة.

نقد مباني سروش الهرمنيوطيقيّة

 قبل الشروع بالنقد لا بدّ من الالتفات إلى أنّ هذا الكلام لم يكن جديدًا، إذ مباني سروش الهرمنيوطيقيّة هي مباني غادامر ذاتها. ففي الهرمنيوطيقا الفلسفيّة لدى غادامر، يكون النصّ الديني وسائر الظواهر صامتًا، ويقوم المفسّر بتفسير النصّ وفق خلفيّاته وفروضاته المعرفيّة، أعمّ من المسبوقات، التوقّعات، الأسئلة، المذاقات[1].

 لم يستخدم سروش هرمنوطيقا غادامر في تفسير النصّ الديني وفهمه، بل استعان به حتى في فهم وتحقيق سائر الظواهر كالوحي أيضًا، بمعنى أنّ حقيقة

(94)

الوحي مولودةٌ من النبيّ، والبيئة المحيطة به، بمعنى أنْ يتكوّن جدلٌ وحوارٌ بين النبيّ وبيئته بحيث يتولّد منه الوحي؛ لذا يعدّ سروش إلى جانب أمثال نصر حامد أبو زيد ومحمّد أركون، الذين يُعدّون من الإصلاحيّين الراديكاليّين القلائل الذين يدافعون عن تاريخيّة القرآن، وعليه يرى أنّ القرآن لم يكن نتيجة الشرائط التاريخيّة الخاصّة المتكوّن فيها فحسب، بل ناشئ من ذهنيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وما يحتويه من حدودٍ بشريّة.

 أمّا الآن فنشير إلى نقد مباني سروش الهرمنيوطيقيّة:

 أوّلًا: إنّ سبب ذهاب سروش إلى كون القرآن وليد حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله التاريخيّة، يعود إلى رؤيته التاريخيّة للوحي، فلو قام بإثبات حاجة الإنسان إلى الدين بالضرورة المنطقيّة، واعتقد بحصول الإنسان على السعادة من خلال إرسال الوحي؛ لما تفوّه بهذا الكلام أبدًا. نعم إنّ الحكيم الذي أنزل الوحي، سيعتمد لا محالة على الأرضيّة التاريخيّة الصحيحة لهداية الناس؛ لأنّه يقصد هداية هذا الإنسان، وأنّ هذا الوحي سيُنقل إلى الآخرين عن طريق هذا الانسان ذاته، ولكن هذا يخصّ الجوانب التاريخيّة الصحيحة؛ لأنّ خالق هذا الوحي حكيم، ولا يستعين أبدًا بالأرضيّة التاريخيّة الخاطئة. وعليه فإنّ سروش بعد مقارنته لتعاليم القرآن مع القصص العلميّة، والقول بنظريّة قبض الشريعة وبسطها، يصل إلى نتيجة تخطئة الوحي.

 ثانيًا: أشرنا إلى مدخليّة المسبوقات المعرفيّة في تفسير النصّ الصامت عند سروش، غير أنّه لم يشر إلى أنواعها وكيفيّة الاستفادة منها في تفسير النصوص. إذ إنّ المسبوقات المعرفيّة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

(95)

1- المسبوقات الأداتيّة أو المستخرجة.

2- المسبوقات الاستفهاميّة.

3- المسبوقات المفروضة قسرًا.

 المسبوقات الأداتيّة هي قواعد الفهم المنطقيّة، فلأجل فهم النصّ لا بدّ من الاستعانة بالقواعد الأدبيّة والبلاغيّة من صرفٍ ونحوٍ وفنون البلاغة وقواعد اللغة العامة - كقاعدة العامّ والخاصّ والمطلق والمقيد- وإلّا لم نتمكّن من فهم النصّ، فكل نصٍّ مكتوب - سواء فيه الديني أم غير الديني - يحتاج إلى هذه القواعد.

 أمّا ما يخصّ المسبوقات الاستفهاميّة، فنقول بعدما وصلنا إلى بعض المعنى من خلال القواعد المذكورة في القسم الأوّل، تتولّد مجموعةٌ من الأسئلة عن طريق كشف هذه المعاني وتعاملها مع الحوادث الخارجة عن النصّ، ومن خلال عرض هذه الأسئلة على النصّ يمكننا الوصول إلى معانٍ أعمق، وكشف مداليل التزاميّة أخرى، علمًا بأنّ هذه المداليل تقع في طوال المداليل السابقة. إذ المداليل المطابقية تُعدّ من قواعد كشف صحّة المداليل الالتزاميّة والمعاني الأعمق، بمعنى أنّ المداليل التزاميّة إذا لم تتطابق مع المدلول المطابقي، لم يكن الفهم صحيحًا. وعليه فإنّ المداليل الالتزاميّة يمكنها أنْ تستمر إلى ما لا نهاية، ومن هنا يكون كلام غادامر في عدم وجود نهاية لمعاني النصّ؛ صحيحًا. لإمكان احتواء كلّ نصٍّ على معانٍ طوليّةٍ وعرضيّةٍ منسجمةٍ ومتعدّدة؛ لأنّ كلّ نصٍّ يحتوي على مدلولٍ مطابقيّ ومدلولٍ التزامي، وللمدلول الإلتزامي مدلولٌ إلتزاميّ آخر وهكذا يستمرّ الأمر.

 نعم إنّ المؤلّف الذي له فهم محدّد، لا يستطيع إرادة جميع مداليل النصّ الإلتزاميّة، فلم تكن مرادةً للمؤلّف بأجمعها، ولكن إذا كان النصّ نصًّا دينيًّا أبدعه

(96)

الشارع المقدّس الحكيم والعالم على الإطلاق، فيتمكّن من إرادة ما لا نهاية له من المعاني؛ لذا يمكن عدّ ما لا نهاية له من معاني النصّ مرادة للشارع المقدّس؛ ولذا أيضًا لا عجب لو قيل إنّ المعصوم والإنسان الكامل يتمكّن من فهم علم ما كان وما يكون وما هو كائن من القرآن؛ لأنّ القرآن يحمل ما لا نهاية له من المداليل المطابقيّة والالتزاميّة، ويشتمل على المداليل الالتزاميّة البيّنة بالمعنى الأخصّ، والبيّنة بالمعنى الأعم، وغير البيّنة بالمعنى الأخصّ وغير البيّنة بالمعنى الأعم، ويمكن أنْ يستمرّ المدلول غير البيّن بالمعنى الأعمّ إلى ما لا نهاية له، لذا أمكن القول بأنّ القرآن يحمل جميع الحقائق من الأوّلين والآخرين.

 أمّا القسم الثالث فهو المسبوقات المفروضة قسرًا، بمعنى تحميل الإنسان رأيه وعقيدته على النصّ من دون الالتفات إلى القواعد الأداتيّة والاستفهاميّة فيقع في التفسير بالرأي.

 وخلاصة القول نحن لا ننفي تأثير المسبوقات المعرفيّة على النصّ، ولا ندّعي إمكان فهم النصّ من دون الاستعانة بالمسبوقات المعرفيّة؛ لأنّ فهم أيّ نصّ - ومنه النصّ الديني - يحتاج إلى المسبوقات، ولكن ليعلم أنّ بعض المسبوقات هاديةٌ وبعضها الأخر مضلّلة، فالمسبوقات الهادية تكون معيار الفهم، أمّا المسبوقات المضلّلة تُسيء إلى الفهم.

 ثالثًا: يستعين سروش بالاستقراء لأجل إثبات التحوّل في المعرفة الدينيّة ويستشهد بالأمثلة[1]، ونحن نقول له إنّ جميع تلك الأمثلة تكون من باب الاستقراء الناقص، ولا تفيد اليقين والإثبات، لا سيّما على مبنى سروش من انحصار

(97)

الاستقراء في الإبطال دون الإثبات؛ لذا ليس له التمسّك بتحوّل المعرفة الدينيّة؛ لأنّ هذا الادّعاء إثباتي، والحال أنّ الاستقراء عنده ينحصر في الإبطال فقط، مضافًا إلى وجود نماذج نقضيّةٍ كثيرةٍ لإبطال هذا المدّعى.

 إنّ مدّعى سروش يكون موجبةً كلّيّةً مسوّرةً بسورين، أي أنّه يعتقد (إنّ كلّ معرفةٍ بشريّةٍ تؤثّر على كلّ معرفةٍ دينيّة)، والحال أنّ الأمر ليس كذلك، لوجود كثيرٍ من المعارف البشريّة لا تأثير لها على المعارف الدينيّة، وعلى سبيل المثال فإنّ كثيرًا من المفسّرين رغم أنّهم عاشوا فترة حاكميّة الهيأة البطلميوسيّة، ومع معرفتهم الكاملة بها، لم يستعينوا بها عند تفسيرهم لقوله تعالى: (السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ)[1]. ومن جهةٍ أخرى وبعد إبطال هذه الهيأة اليوم، نرى أنّ بعض المفسّرين يفسّرون الآية وفق تلك المعطيات، وعليه لو أثّرت القضايا العلميّة على كيفيّة تفسير الآيات لكان ذلك في بعض الأحيان وعلى بعض الآيات.

 والخلاصة أنّ مدّعى سروش في القبض والبسط لا يمكن إثباته منهجيًّا؛ لأنّ الاستقراء لا يفيد اليقين أوّلًا، وثانيًا توجد شواهد استقرائيّة نقضيّة، وثالثًا حتى لو صحّ المدعى تاريخيًّا لما أمكن أنْ يكون توصيةً منطقيّة؛ لأنّ هذا الاستدلال بحاجةٍ إلى الإثبات، أي يلزم على سروش بيان كيفيّة الوصول من المنهج التاريخي إلى المنهج المنطقي، فتوصيف المنهج التاريخي وبيانه وشرحه هو منهجٌ تاريخيّ فقط، يبيّن ما حدث في مقام التحقّق حصرًا، وهو غير قادرٍ في مقام الإلزام على الزام أيّ واقعة.

 ومن جهةٍ أخرى، لا يرى سروش إفادة الاستقراء لليقين، بل يراه إبطاليًّا فقط، وعليه أنّ جميع العلوم الجديدة لا تكشف عن الواقع كما هو وفق المنهج الاستقرائي

(98)

والمبنى الإبطالي، فليس لسروش تخطئة مدّعى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في القرآن وفقًا للنتائج العلميّة؛ لذا ربما تكون النتائج العلميّة خاطئة.

مباني سروش الدينيّة

 يمكن تسمية آخر مبنى من مباني سروش في معرفة الوحي بالمبنى الديني، حيث استعان فيه بأربعة نظريّات: 1-التجربة الدينيّة، 2- الذاتي والعرضي في الدين، 3- الدين الأقلّي، 4- القراءات المتعدّدة للدين.

التجربة الدينيّة

 إنّ سروش في جوابه للشيخ السبحاني عدّ الوحي إلهامًا وتجربةً تحصل للشعراء والعرفاء، وإنْ كانت تجربة النبيّ أعلى وأوضح منها بمراتب، يعتقد سروش بالدور البارز لشخصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في تكوّن النصّ القرآني، وقد أثَّر فيه تاريخ حياته، حياته في صباه وحتى حالاته الروحيّة، ووالداه.

 وكلام سروش هذا يتضمّن أمرين:

1- الوحي من سنخ التجربة.

2- تجربة النبيّ وليدة حياته التاريخيّة، أي أنّ التجربة لا تتحقّق بمفردها، ولم تنزل على قلب النبيّ دفعة، بل أنّها وليدة حالاته الروحيّة والنفسيّة والفرديّة.

 وعلى حدّ تعبير سروش لسنا بصدد إنكار البعد السماوي للوحي، فللوحي والتجربة الدينيّة بُعدها السماوي والإلهي أيضًا، نعم لها بُعدٌ أرضيّ وبشريّ وتأريخي، يغفل عنه الناس، ويريد هو إظهاره وبيان كيفيّة احتواء الطبيعة لما وراء الطبيعة وتورختها[1].

(99)

وفي الواقع أنّ سروش ولأجل معرفة منهجيّة تفسير النصوص الدينيّة، يستعين في كتابه القبض والبسط بالهرمنيوطيقا الفلسفيّة لغادامر، غير أنّه هنا يستعين به لتبيين الوحي نفسه والحقائق الدينيّة، أي أنّ بحثه غير ناظرٍ إلى النصوص الدينيّة، بل ناظرٌ إلى الوحي ذاته حيث عدّه من سنخ التجربة الدينيّة.

 فطبقًا لرأي سروش تكون النبوّة والوحي نوعًا من التجربة والكشف، وكما يقال اليوم: الوحي هو التجربة الدينيّة ذاتها. وفي الواقع أنّ مقوّم شخصية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو التجربة والوحي الذي يوجد نحوه عند سائر أرباب التجربة ومنهم العرفاء، مع فارق أنّ تجربة الانبياء الدينيّة مضافًا إلى احتوائها على خصائص متعدّدة كاليقين والاطمئنان، تحتوي على أمرٍ خاصٍّ ومنحصرٍ هو الإحساس بمهمّةٍ جديدة، والسعي نحو تنفيذ هذه المهمّة، والحال أنّ تجربة العرفاء الدينيّة تخلو عن هذه الخاصيّة، وعليه بناء على رؤية سروش فإنّ التجربة الدينيّة وحدها لا تجعل الإنسان نبيًّا، ومجرّد رؤية المَلَك والعلم بما وراء الغيب وعالم الشهادة لا تستوجب النبوّة، بل أنّ خصوصيّة النبوّة الإحساس بوجود مهمّةٍ جديدةٍ لا بدّ من تنفيذها.

 حاول سروش في البداية تشبيه التجربة النبويّة بتجارب العرفاء والمكاشفات العرفانيّة، ولكن سعى في بحثه الأخير تشبيه الوحي بالشعر، بمعنى نزول مرتبة الوحي عنده من التجربة العرفانيّة الى مقارنتها بالشعر، فكما يبدع الشاعر في حياكة شعره، يبدع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضًا في توليد الوحي[1].

 قد بيَّنا لحدّ الآن أربع نقاط حول مفهوم النبوَّة عند سروش:

(100)

1- مفهوم النبوّة هو الوحي.

2- الوحي هو التجربة الدينيّة.

3- يشترك غير النبيّ معه في التجربة الدينيّة.

4- الفارق الموجود بين تجربة النبيّ الدينيّة وأصحاب التجارب الأخرى، هو الإحساس بالمسؤوليّة والمهمّة الملقاة على عاتقه من خلال تجربته.

 وقد بيّن سروش هذه النقاط في كتاب (بسط التجربة النبوّية)، فبعد ما عرّف النبوّة بأنّها نوعٌ من التجربة، أضاف بأنّ التجربة على قسمين: 1- تجربة داخليّة. 2- تجربة خارجيّة. فللنبيّ في تجربته الداخليّة سيرٌ ذو مراتب، بمعنى أنّ النبوّة - أي القرب من عالم المعنى - بما أنّها نوعٌ من التجربة، أمكن تعميق هذه التجربة، فكما أنّ الشاعر والعارف يصير أشعر وأكثر عرفانًا يصبح النبيّ أكثر نبوّةً أيضًا. وقد تمسّك سروش لإثبات مدّعاه بأمثال قوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه: 114).

 لذا يعتقد سروش أنّ تكرار التجربة النبوّية، تجعله أكثر علمًا ونبوّةً، فالتجربة النبويّة تتكرّر دائمًا، وليس المراد أنّ ينزل الوحي على النبيّ لمرّةٍ واحدة، أو يصعد إلى المعراج لمرّةٍ واحدةٍ، ثمّ يلبث بعده في زاويةٍ، ويعتمد على تلك التجربة فقط. ثمّ يتمسّك سروش بالحديث القدسي المشهور حول تقرّب العبد إلى الله بالنوافل، حتّى يصبح الله يده ورجله وعينه وأذنه[1].

 أمّا بخصوص التجربة النبويّة الخارجيّة، فيعتقد سروش أنّ حضور النبيّ في المجتمع يوجب بسط دينه كما يوجب بشريّته، فالإسلام حركةٌ تاريخيّةٌ وبسطٌ

(101)

لتجربة النبيّ التدريجيّة الحصول؛ لأنّ كثيرًا من الحوادث في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله - من قبيل أعمال اليهود، وغزوة بدر، وزواج زوجة زيد - قد انعكست في القرآن، فلو عاش النبيّ مدّةً زمنيّةً أكثر لأمكن للقرآن أنْ يكون أوسع من هذا، فكم من حادثةٍ لم تقع من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، ولم يُجب عليها النبيّ، وكم حادثة وقعت حينذاك - كمزج الإسلام بالسياسة - وتمّ تحميلها على الإسلام[1]. وبعبارةٍ أخرى عندما يقال إنّ الإسلام دينٌ سياسي، فمعناه أنّ الإسلام التحم مع السياسة، فلو لم يلتحم مع السياسة ما كان الإسلام دينًا سياسيًّا، ولو عمّر النبيّ أقل من عمره هذا لأصبح القرآن أقلّ من هذا الموجود، ولو مات النبيّ قبل المبعث لم يكن هناك قرآن البتّة، فهذه الموارد إنّما هي تأثيراتٌ حصلت من تجربة النبيّ الخارجية[2].

 ثمّ يدّعي سروش بعد بيان معنى النبوّة والتجربة الخارجيّة والداخليّة، أنّ الحجية والولاية الدينيّة متعلّقة بالنبيّ فقط، وبعد ختم النبوّة لم تكن شخصيّة أيّ أحدٍ بعده سندًا لكلامه. فالوحي النبويّ وتجربته، يكونان جوابًا للأسئلة وحلًّا للمشاكل، وإقناعًا للأذهان، وبيانًا للطرق، ومتن الواقع[3]. أي أنّ تجربة النبيّ الدينيّة هذه قد انبسطت وختمت بالخاتميّة، ولم يكن لأيّ شخصٍ بعده هذه الولاية النبويّة، ولم يكن كلام أيّ شخصٍ بعده مقبولًا من دون استدلال[4].

 وبهذا الادّعاء يدع سروش الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام في زاوية، ولم يعدّ تجربتهم

(102)

جزءًا من التجربة الدينيّة النبويّة، أي أنّ تجربة الأئمّة الدينيّة - خلافًا لتجربة النبيّ الدينيّة - لم تكن قوام الدين[1].

نقد نظريّة التجربة الدينيّة

الإجمال والإبهام

 أوّل نقدٍ يتوجّه إلى هذه النظريّة إبهامها وإجمالها، فقد ادّعى سروش أنّ الوحي من سنخ التجربة الدينيّة، ومصطلح (التجربة الدينيّة) مصطلحٌ غربيّ ظهر في اللَّاهوت الليبرالي لنقد الكتاب المقدّس، ويعتمد على محوريّة الإنسان، غير أنّ مؤسّسي هذه النظريّة لم تكن لهم رؤيةٌ واحدةٌ لبيان هذا المصطلح وتفسيره، فأمثال شلايرماخر -الفيلسوف والمتكلّم الألماني- جعل في كتابه الإيمان المسيحي التجربة الدينيّة هي الإحساس بالاتّكاء والاعتماد المطلق على المبدأ أو القوّة المائزة عن الكون. وذهب البعض إلى أنّ التجربة الدينيّة من سنخ الإحساس ولم يعطها أيّ قيمة معرفيّة، وقد ذهب إلى هذا رودولف أُتو وقال إنّ التجربة الدينيّة مجموعةٌ معقّدةٌ من الأحاسيس تظهر بأشكال مختلفة. وذهب آخرون أمثال ويليام آلستون إلى أنّها من سنخ الإدراك الحسّي وبنيتها تشبه بنية التجربة الحسِّية، أي كما يوجد في أيّ إدراك: مُدرِك ومُدرَك وظاهرة، يوجد في التجربة الدينيّة أيضًا ثلاثة أجزاء:

1- المجرِّب للتجربة الدينيّة.

2- الله الذي يقع تحت التجربة.

3- ظهور الله وتجلِّيه على المجرِّب[2].

(103)

لذا قد يقال في مبحث الإدراك إنّ المعلوم بالذات قد يتطابق مع المعلوم بالعرض، فيكون الإدراك حينئذٍ صادقًا، وقد لا يتطابق معه فيكون الإدراك كاذبًا. فهنا عندما تكون التجربة من سنخ الإدراك أمكن أنْ تكون صادقةً أو كاذبة.

 وهناك تفسيرٌ ثالثٌ ذكره والتر ستيس في كتاب العرفان والفلسفة، ذكر فيه نظريّة أصالة الطبيعة في التجربة الدينيّة[1]، لم نتطرّق إليه، ولكن يوجد تفسيرٌ آخر عند برادوفوت، يرى عدم انفكاك التجربة عن التفسير، أي يعتقد بعدم وجود تجربةٍ دينيّةٍ غير مفسَّرة، بل أنّ كلّ تجربةٍ تكون مفسَّرة في الواقع، فكلّ تجربةٍ تحصل للإنسان، قد وصل إليها عن طريق تفسيرٍ ناشئٍ من مقولاته العقديّة. إنّ العارف في الوهلة الأولى يجد بالعلم الحضوري تجربةً ومعرفة، ولكن عندما يريد تحويلها إلى العلم الحصولي، يستعين بمقولاته الذهنيّة، وعقائده حتى أنّ التجربة العرفانيّة التي تعدّ من سنخ التجربة العرفانيّة للعارف، هي وليدة مقولات العارف[2]. أي قد تكون تجربة العارف العرفانيّة أشعريّة أو معتزليّة أو شيعيّة أومسيحيّة أو بوذيّة أو يهوديّة، وعليه لا توجد تجربةٌ دينيّةٌ خالصةٌ أبدًا.

 فمع لحاظ هذه الآراء المذكورة في التجربة الدينيّة، فإنّ سؤالنا الأوّل لسروش أنّك عندما تجعل الوحي من سنخ التجربة الدينيّة، فبأيّ التفاسير منها تتمسّك؟ إذ إنّ سروش قد يقيس الوحي بالشِّعر ممّا يعني أنّه من سنخ الإحساس، ويشير في مكانٍ آخر إلى دور التاريخ في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كالوالدين وأيام الطفولة والأحوال

(104)

الروحيّة، ممّا يدلّ على قبوله لنظريّات برادوفوت[1]، وعليه يلزم على سروش بيان اعتماده على أيّ واحدٍ من تفاسير التجربة الدينيّة.

المنهجيّة

 نحن لا نعتقد بأنّ الوحي تجربةٌ دينيّةٌ بالمعاني التي مرّ ذكرها، ونعتقد بوجود خلطٍ بين مقولة الوحي والتجربة الدينيّة. فالطريق الصحيح لمعرفة الوحي سؤال أصحاب الوحي عن حقيقته، كما فعل الأستاذ السبحاني حيث قام ببيان الوحي عن طريق الآيات القرآنيّة.

 ولكن يقول سروش في مباحث التجربة النبويّة لمّا كان الوحي لم ينزل علينا، فإنّ أفضل طريق لمعرفة الوحي الاستعانة بأصحاب الكشف والشهود، ويستعين في مكانٍ آخر بالشعراء والشعر. لكننا نعتقد أنّ الكشف والشهود لدى العرفاء وكذلك شعر الشعراء بما أنّها لا ترقى إلى مرتبة الوحي، فلا يمكن الاستعانة بها لتفسير الوحي، وليس لنا طريقٌ منهجيّ لمعرفة الوحي سوى الوحي نفسه.

 وبعد مراجعة القرآن وروايات أهل بيت العصمة والطهارة عليهم‌السلام ينكشف لنا عدم سنخيّة الوحي القرآني مع التجربة الدينيّة، فلا التجربة الدينيّة من سنخ الإحساس الذي يقول بها شلايرماخر، ولا التجربة الدينيّة من سنخ الإدراك الذي يقول بها آلستون، ولا التجربة الدينيّة من سنخ التجربة الدينيّة المفسّرة التي يقول بها برادوفوت. فالقرآن يصرّح بأنّ الوحي من الله تعالى لفظًا ومعنى وهو حقٌّ ومحتواه حقٌّ أيضًا، أي أنّ مبدأه الفاعلي ومحتواه حقّ لا يتطرّق إليه الكذب، ولم يكن موقع

(105)

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في تحقّق الوحي بعنوان المبدأ الفاعلي، بل له الموقع القابل فقط، ولا أثر لمسبوقاته وخصائصه في إنشاء الوحي.

 إنّ استعمالات الوحي في القرآن عبارةٌ عن:

1- الإلقاء الطبيعي أوالتدبير التكويني.

2- الإلقاء الغريزي.

3- الإلقاء القلبي.

4- الإلقاء الإشاري.

5- الإلقاء الشيطاني.

6- الإلقاء النبويّ.

 الوحي الرسالي على حدّ تعبير القرآن وحيٌ عامٌ يشمل الوحي التكويني والتشريعي، وهناك وحيٌ خاصٌّ يذكره القرآن أيضًا يشمل الوحي التشريعي فقط، وهناك أيضًا وحيٌ أخصّ يشمل الوحي التشريعي من دون توسّط الملك. يقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (الشورى: 51). فالوحي في قوله: (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ) وحيٌ تشريعيّ خاصّ، أي لم يكن عامًا فلا يشمل التكويني، والوحي الوارد في الابتداء (إِلاّ وَحْيًا) وحيٌ أخصّ يشمل الوحي التشريعي من دون توسّط الملك.

 إنّ البحث في الآيات التالية:

(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) (الشورى: 52).

(تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) (البقرة 252، آل عمران 108).

(ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) (آل عمران 44، يوسف 102).

(106)

(لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) (القيامة: 16).

(ولَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأقاوِيلِ*لَأخَذْنا مِنهُ بِاليَمِينِ*ثُمّ لَقَطَعْنا مِنهُ الوَتِينَ)(الحاقة 44-46).

يدلّ على أنّ للوحي الوارد في القرآن عدّة خصائص:

1- إنّ الوحي أمرٌ إلهي.

2- ليس للنبي الحقّ في تغيير الوحي وتبديله.

3- إنّ الألفاظ وتلاوة الآيات القرآنيّة من الله تعالى أيضًا.

 وهناك خصائص أخرى للوحي في القرآن، من قبيل أنّ الوحي ناشئٌ من علم الله وحكمته، أو أنّه يتناسب مع فهم المخاطبين، أو أنّه لم يتطرّق إليه الخطأ، وقد حفظه الله من الزلل، وليس المقصود من الحفظ الحفظ الظاهري فقط، بل أنّ الله يمنع من تحريفه وتغييره الباطني أيضًا، فالوحي معصوم، وهنا يرد سؤال يقول: هل يمكن جعل الوحي تجربةً دينيّةً بعد تجميع الآيات المعرّفة له؟

 التجربة الدينيّة وليدة المجرِّب، ويؤثّر فيها مسبوقاته المعرفيّة، وقابلة للخطأ. فالأحكام التي ينسبها سروش إلى الوحي تبتني على جعله تجربةً دينيّة، ولكن نستحصل من الآيات القرآنيّة التي تصرّح بخصائص الوحي أنّه لم يكن تجربةً دينيّة. مضافًا إلى دلالة البرهان العقلي على ضرورة حاجة الإنسان إلى الوحي.

 فبعد إثبات وجود الله بالبرهان العقلي، وبعد إثبات علمه وحكمته وصفاته وجماله وجلاله، يحكم العقل بحاجة الإنسان إلى مصدرٍ معرفيّ آخر باسم الوحي للوصول إلى الهداية والكمال ينزل من قبل الله. فلو جعلنا الوحي تجربةً دينيّة، ينثلم برهان ضرورة بعثة الأنبياء وضرورة حاجة الإنسان إلى الوحي. وبعبارةٍ أخرى

(107)

أنّ البراهين العقليّة الدالّة على ضرورة بعثة الأنبياء، والبراهين العقليّة المبتنية على حاجة الإنسان إلى الدّين، تنفي كون الوحي تجربةً دينيّة.

التفسير بالرأي

 النقد الثالث لمدّعى سروش هو التفسير بالرأي، فتفاسير سروش للوحي تُعدّ تفسيرًا بالرأي، فالأمور التالية:

(إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلًا ) (المزمل: 5).

(إِنّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيّا لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: 2).

(إِنّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ) (النساء: 105).

 تدلّ بوضوح على عدم صحّة مدّعى سروش، وكذلك الآية السابعة والثلاثين من سورة الأحزاب الدالّة بوضوح على منع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من التأثّر بالثقافة الجاهليّة، بل يلزم عليه مخالفتها وتغييرها من دون خوف[1].

الخلط بين الوحي والتجربة العرفانيّة

 النقد الرابع الموجود لمبحث (بسط التجربة النبويّة) الخلط بين الوحي والتجربة العرفانية، ويقول سروش إنّ المائز الوحيد بينهما أنّ العرفاء لم يشعروا بالمسؤوليّة وإلقاء مهمّة على عاتقهم، ولكن الأنبياء يستشعرون هذا الإحساس.

(108)

ونقول في ردّ هذا الكلام:

 أوّلًا: هناك كثيرٌ من العرفاء يستشعرون إحساس المسؤوليّة للقيام بهداية الناس، أليس العرفاء الذين يؤسّسون الفرق الصوفيّة ويصبحون قطب الفرقة ويجتمع حولهم المريديون ويقومون بالإرشاد وإعطاء الوصايا، ينطلقون من منطلق الإحساس بالمسؤوليّة، فما هو الفارق بين هؤلاء العرفاء والأنبياء؟

 ثانيًا: تختلف حقيقة الوحي عن حقيقة الكشف والشهود؛ فإنّ كشف العرفاء وشهودهم يتضمّن رؤية بواطن هذا العالم وطبقاته الخفيّة، وعلى حدّ تعبير الأدبيّات الفلسفيّة العرفانيّة، يتمكّن العرفاء من طي عالم المُلك والوصول إلى عالم الملكوت وكشف أسرار تلك العوالم بنحو أدقّ وأكثر، غير أنّهم لا يستطيعون تجاوز هذه المرحلة، والحال أنّ الأنبياء يتمكّنون من تجاوز عالم الجبروت والوصول إلى عالم اللَّاهوت. فالجبروت هو عالم الملائكة وشأن النبيّ أعلى من الملائكة.

 كما يوجد احتمال الخطأ في تجارب العرفاء؛ لذا وضع العرفاء قواعد لمعرفة الكشف الصحيح عن الزائف، وهي: 1- المطابقة مع القرآن والسُنّة. 2- وجود الأستاذ. 3- العقل. وعليه فإنّ القرآن هو المعيار للتجارب العرفانيّة، ولا يوجد احتمال الخطأ في الوحي؛ لذا لا يحتاج إلى معيارٍ وميزانٍ آخر. نعم لا بدّ من إثبات حجيّة الوحي بالمنهج العقلي أوعن طريق برهان الإعجاز، أو أي طريق آخر.

مغالطة القديم والجديد

 توجد مغالطةٌ في كلام سروش يُطلق عليها مغالطة القديم والجديد. يقول سروش: «إنّ العيد للمؤمن لا يعني إلّا تجديد لباس الإيمان، لا بدّ من عدم الرضوخ

(109)

لأيّ شيء قديم، حتى الإيمان القديم، وحتى الهداية القديمة وحتى الربّ القديم، فلا بدّ من تجديد النظر حولها للوصول إلى معرفةٍ جديدةٍ عنها»[1].

 ومن المعلوم أنّ هذا الكلام لا يصحّ في جميع الموارد التي ذكرها، فهل كلّ قديمٍ خطأ وكلّ جديدٍ صحيح؟ فلو آمنّا بالله بالاستدلال وإن تعلّق هذا الاستدلال بـ(1400) سنة قبل، فهل يلزم تغييره؟

العرضي والذاتي في الدين

 النظريّة الثانية لسروش المندرجة ضمن المباني الدينيّة، الذاتي والعرضي للدين، التي يُعبّر عنها أحيانًا بجوهر الدين وصدفه. وعليه نقوم هنا في البداية ببيان نظريّته وتحليلها.

 يصرّح سروش في حواره مع الشيخ السبحاني أنّ التلقي البشري والتاريخي للقرآن، يُساعد على التفرقة بين الجوانب الذاتيّة والعرضيّة في القرآن، إذ إنّ بعض جوانب الدين قد تشكّلت على نحوٍ تاريخيّ وثقافيّ، ولا موضوعيّة لها اليوم، وعلى سبيل المثال، فإنّ هذا الأمر يصدق على العقوبات الجسديّة التي أقرّها القرآن، بمعنى أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لو عاش محيطًا ثقافيًا آخر ربّما لم ترد هذه القوانين في رسالته.

 إنّ وظيفة المسلمين اليوم ترجمة رسالة جوهر القرآن بمرور الزمن، وعليه يصرّح سروش لمّا كان محمّدٌ عربيًّا فالقرآن عربيّ أيضًا، فأنّه قد عاش في الحجاز بين القبائل؛ لذا تصطبغ الجنّة أيضًا باللون العربي والقبلي، والخلاصة فإنّ تاريخ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله يتجلّى في جميع القرآن[2].

(110)

إنّ الذاتي والعرضي في الدين أو مبحث جوهر الدين وصدفه، ذُكر لأوّل مرّةٍ من قبل هيغل في المسيحيّة، إذ كان هيغل مسيحيًّا معتقدًا مطلعًا على عالم الحداثة والفلسفة الجديدة لا سيّما فلسفة كانط، وكان بصدد الجمع بين فلسفة عصره والمسيحيّة من دون ترك المسيحيّة؛ لذا قام بإعطاء رؤيةٍ جديدةٍ عن المسيحيّة، وألّف كتابًا حول استقرار الشرائع في المسيحية، وذكر هناك نظريّة جوهر الأديان، وقسّم الأديان إلى إنسانيّةٍ وغير إنسانيّة، فالدين الإنساني عنده الدين الذي تكون شريعته وأحكامه الشرعيّة أقلّ، بمعنى أنّ الدين المليء بالشرائع والأحكام لا يكون دينًا إنسانيًّا. ويعتقد أنّه لما كانت بعض تعاليم المسيحيّة تعارض العلم ونتائج العالم الحديث، فهي من عرضيّات الدين، والمهم في المسيحيّة هو الجوهر.

 وقد تأثّر سروش بهيغل في هذا المبحث وطرحه تحت عنوان الذاتي والعرضي في الأديان[1]. ويقول إنّ تعاليم الدين تنقسم إلى قسمين: ذاتي وعرضي، فالعرضيّات هي الأمور التي يمكن أنْ تكون على نحوٍ آخر، خلافًا للذاتيّات التي لا يتحقّق الدين بدونها، ويؤدّي تغييرها إلى نفي الدين.

 ثمّ يضيف أنّ التقسيم إلى الذاتي والعرضي يختلف عن التقسيم إلى القشر واللبّ أو الطريقة والشريعة، والتعابير الواردة عند العرفاء والصوفيّة، فالذاتي والعرضي من تقسيمات الدين لا المعرفة الدينيّة، والحال أنّ الشريعة والطريقة والحقيقة، أو أحوال المتديّنين كالإسلام والإيمان، إنّما تتعلّق بالمعرفة الدينيّة.

 وعليه فهناك ثلاثة تقسيمات:

(111)

1- التقسيم المتعلّق بالمعرفة الدينيّة.

2- التقسيم المتعلّق بحال المتديّنين.

3- التقسيم المتعلّق بالدين ذاته. فالذاتي والعرضي من تقسيمات الدين نفسه.

 يعتقد سروش أنّ البحث عن العرضيّات أنفع من البحث عن الذاتيّات؛ لذا يصبّ اهتمامه على العرضيات، نعم إنّه يشير إلى ذاتيّاتٍ ثلاثة كما أنّه يذكر عرضيات الدين كالتالي: اللغة العربيّة، والثقافة العربيّة، والتصوّرات والتصديقات، النظريّات والمفاهيم المستعملة لدى الشارع، والحوادث التاريخيّة المذكورة في الكتاب والسُنّة، وأسئلة المؤمنين والمخالفين وأجوبتها، وأحكام الفقه والشرائع الدينيّة، والمجعولات، والتمارين الدينيّة لدى المخاطبين وقدرتهم عليها.

 يرى سروش أنّ الإسلام وأيّ دينٍ آخر يصبح دينًا بذاتيّاته لا عرضيّاته، والمسلم مسلمٌ بالتزامه بذاتيّات الدين، وعليه عندما لم تعتقد أنت بالحوادث التاريخيّة القرآنيّة، أو لم تعتقد بأسئلة وأجوبة الموافقين والمخالفين الواردة في القرآن، وبالأحكام والشرائع الموجودة فيه، وبجميع التصوّرات والتصديقات والنظريّات التي استعملها الشارع، فلو لم تعتقد بجميع هذا لا يمسّ إسلاميّتك وتديّنك أي شيء؛ لأنّ جميع هذه الأمور تعدّ من العرضيّات.

 ولأجل أن يُثبت سروش نظريّة الذاتي والعرضي في الدين، يقوم بمقارنة مع كتاب المثنوي المعنوي، ويُعدّ اللغة الفارسيّة، والنظم، والأدبيّات العربيّة المستعملة فيه والكلمات التركيّة، وتأخير تدوين المثنوي عن الدفتر الأوّل، وحالات مخاطب المثنوي المختلفة كحسام الدين وغيره، وتأثيرهم على المثنوي، وجود الحسد والأعداء في فترة تدوين المثنوي الذي طال لمدّة خمسة عشر عامًا، ورود بعض الألفاظ المستهجنة

(112)

والركيكة فيه، والعلم، والثقافة والحوادث والمصطلحات المستعملة في زمن المثنوي، يعدّ سروش هذه الموارد جميعها من عرضيّات هذا الكتاب[1].

 ثمّ يضيف سروش بعد هذا التمثيل قائلًا: نظرًا لتكوّن الدين التدريجي والتاريخي وكذلك المتون الدينيّة، فإنّ تفكيك بنائه المتكلِّس، وطرح شرطيّات كاذبة المقدّم وخلاف الواقع، واستقراء مقاصد الشارع، واستنباط علل الشرائع، وكشف الوسائط ووسائل تكوّن الدين والحوادث الدخيلة فيه، وتنقيح توقّعاتنا من الدين، وفحص العناصر التي يمكن استبدالها أو لا يمكن استبدالها في الشريعة، إنّ هذه الموارد جميعًا هي الطرق العامّة لمعرفة ذاتيّات الدين وعرضيّاته[2].

 أي إنّ إحدى طرق تشخيص الذاتي والعرضي في الدين، الاستعانة بالشرطيّات الكاذبة بمعنى أن نتساءل: هذه الحادثة إذا لم تقع ولم تحدث، هل كانت تنزل هكذا آية؟ فلو كان الجواب سلبيًّا علمنا أنّ الموضوع المبحوث في الآية يُعدّ من العرضيّات الدينيّة، والطريق الآخر لمعرفة الذاتي والعرضي استنباط العلل والشرائع، فنتساءل على سبيل المثال عن سبب جعل حدّ السرقة قطع اليد، فلو كانت الحكمة درع الآخرين عن ارتكاب السرقة، فنقول لنا طرق أخرى لذلك، وعليه يكون هذا الحكم عرضيًّا.

 فسروش هنا قام بإعطاء معايير تعيننا على تشخيص القضايا الذاتيّة والعرضيّة الواردة في القرآن، ثمّ يذكر أمثلةً من قبيل عربيّة لغة الإسلام والثقافة العربيّة، والحور العين، والإبل، والفيل، والحصان، والتمر، والرمّان، والعنب، والزيتون،

(113)

والتين، واللغات غير العربيّة من قبيل: المرجان، والياقوت، وإبليس، والصراط والقسطاس الوارد في القرآن، والتي يتجاوز عددها المئتين، وكذلك الكلمات المستعملة في القرآن والمأخوذة في الغالب من الخطاب التجاري العربي لتلك الفترة كالصراط، والسبيل، والبيع، والتجارة، والقرض، الربا، وما يتعلّق بالأقوام والقبائل، الجغرافيا، المراودات السياسية والتاريخية، جميع الأسئلة والقصص والحوادث والحروب والإشكالات والعداء والإيمان والنفاق والتهمة والطعن والشكاوى، واسم الأشخاص، فجميع هذه الموارد من العرضيّات عند سروش.

 والأمر المهم الآخر أنّ الدين لا يعطينا تصوّراتٍ جديدة، كما أنّ تصديقاته وتركيباته الجديدة إنّما هي تابعةٌ للتصوّرات. وبهذا البيان عندما تكون التصوّرات عرضيّة، وبما أنّ التصديقات تتولّد من التصوّرات، وتصبح جميع تصديقات القرآن ونظريّاته عرضيّة، فالأسئلة والأجوبة الواردة في القرآن والسنّة، والحوادث التاريخيّة الواردة فيها وكذلك الأحكام الفقهيّة وشرائع الدين تكون عرضيّة كلها.[1] 

 يحصر سروش ذاتيّات الدين في ثلاثة فقط:

1- إنّ الإنسان لم يكن إلهًا، بل هو عبد الله (الاعتقاد).

2- إنّ السعادة الأخروية من أهم أهداف حياة الإنسان، وأهمّ غايات الأخلاق الدينيّة (الأخلاق).

3- يلزم حفظ الدين والعقل والنسل والمال والنفس في الحياة الدنيويّة، التي تُعدّ مقاصد الشريعة (الفقه).

 وليعلم أنّه يجعل آليّة حفظ الموارد الواردة في البند الثالث عرضيّة أيضًا. وبما

(114)

أنّ سروش يعتقد أنّ قرآنيّة القرآن إنّما هي بسبب ذاتيّاته لا عرضيّاته، فلو نحّينا جميع الموارد من القرآن، واكتفينا بهذه الثلاثة لكفانا؛ لأنّ هذه الثلاثة جزءٌ القرآن، والباقي ليس جزءًا من القرآن.

ويستعين سروش هنا ببعض ما ذكره الشاه ولي الله الدهلوي من عرفاء ومحدّثي ومتكلّمي الهند في القرن الثامن عشر، ومؤلّف كتاب (حجّة الله البالغة) المعروف، حيث يجعل أحوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، وقومه أمرين عرضيين مؤثّرين في تشريع الشريعة[1]. إنّ الإشكال الأساس الوارد على سروش تورّطه في التمثيل، حيث يريد تطبيق ما وصل إليه بخصوص المثنوي المعنوي على القرآن الكريم.

 نقد نظريّة الذاتي والعرضي في الدين

المنهجيّة

 أوّل نقد يُوجّه إلى سروش حول نظريّته الذاتي والعرضي الديني، هو النقد المنهجي. إنّ منهجيّة سروش المعتمدة على معيار التفكيك بين ذاتيّات الدين وعرضيّاته غير تامّة؛ لأنّ إحدى معاييره دلالة تكوّن الدين التاريخي والتدريجي وكذلك تكوّن المتون الدينيّة الإسلاميّة، على عرضيّات الدين، وهذا الكلام غير صحيح، وذلك أنّ دين الإسلام رغم تكوّنه التدريجي، ورغم نزول الآيات بشكل تدريجي وبحسب الحوادث والوقائع، غير أنّها يمكنها أنْ تكون من ذاتيّات الدين في الوقت نفسه.

 لقد حدثت وقائع كثيرةٌ في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله غير أنّ الشارع المقدّس لم يُنزل فيها

(115)

آية، بل اكتفى بنزول الآيات لبعض الموارد الخاصّة، وذلك بأنّ الله تعالى حكيم، وقد أراد - اقتضاءً للمصلحة - إنزال ذاتيّات الدين وعرضيّاته اللازمة بشكلٍ تدريجيّ وتفهيمها للناس، إذ إنّ تفهيم جميع الأمور دفعةً واحدةً لا جدوى فيه، فلا بدّ من تعليم الدين الخاتم بشكل ٍهادئ كي ينتشر الإسلام إلى الآخرين، والمنهج الأفضل في هذه الحالة هو التدرّج، وعليه فإنّ حكمة النبيّ الأكرم وحكمة التكوّن التدريجي والتاريخي - لا بمعنى التاريخيّة الهايدغريّة والغادامريّة - لا تدلّ على العرضيّات إطلاقًا.

الإجمال والإبهام

 لقد اختصر سروش في تبيين المبادئ التصوريّة، وعلى الباحث والمنظّر أنْ يبيّن مصطلحاته المستعملة بشكلٍ جليّ، فسروش عند استعمال الذاتي والعرضي لم يبيّن المعاني التي يقصدها من هذه الألفاظ المشتركة، إذ إنّ المراد من الذاتي يمكن أنْ يكون الذاتي الوارد في الباب الإيساغوجي أو الذاتي المستعمل في البرهان، كما أنّه سكت عن بيان غرضه من العرضي وأقسامه، أي العرضي اللازم والمفارق، فلو كانت الموارد التي ذكرها سروش تحت عنوان العرضيّات، لو كانت من العرضي اللازم، أمكنها أنْ تكون حينئذٍ عالميّةً وما فوق التاريخ.

الخلط بين (الذاتي والعرضي)، و(المقدّمة وذي المقدّمة)

 لقد خلط سروش بين (الذاتي والعرضي) و(المقدّمة وذي المقدّمة)، فمن الموارد التي استشهد بها أنّ تعاليم الدين في القرآن غير متساوية، فعندما يقول القرآن على سبيل المثال: (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم

(116)

لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ) (البقرة: 183)، نفهم أنّ التقوى أهمّ من الصوم، وأنّ الصوم شرّع للوصول إلى التقوى، ثمّ يستشكل سروش على الفقهاء في فتواهم صحّة صيام من يرتكب في صيامه المحرّمات كالغيبة والتّهمة.

 فيرى سروش طبقًا لهذه الآية أنّ المباحث الفقهيّة والأحكام من العرضيّات، والتقوى من الذاتيّات، أي يعتقد أنّ حقيقة الدين وجوهره التقوى، والحال أنّ القرآن قد جعل في هذه الآية الصيام مقدّمةً للتقوى، ولم يكن المقصود القول بعرضيّته.

 نحن نعتقد وبشكل عام أنّ ما يعدّه سروش من عرضيّات الدين، نراها مقدمات تعين الإنسان على الوصول إلى الهداية والسعادة الواقعيّة. وبعبارةٍ أخرى أنّ هذه المقدّمات من العرضيّات اللازمة، لأنّ النصوص الدينيّة تصرّح بأنّ الإنسان لو تخلّى عن هذه التعاليم والتصديقات لم ينل الهداية، ولم يصل إلى السعادة. يقول القرآن: (إِنّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الإِسْلامُ) (آل عمران:19)، والإسلام مجموع الشرائع والأحكام والعقائد.

 لم يكن الدين في الإسلام مقتصرًا على الفقه، بل يشمل الفقه والأخلاق والعقائد وحقيقة التديّن التمسّك بجميع هذه الموارد، فعندما يطلب الفقيه العمل بالفقه، لم يقصد إهمال الأخلاق أو العقائد، فالفقيه نفسه الذي يصحّح صيام المغتاب والمتّهم، يفتي بحرمة الغيبة والتّهمة، غير أنّه لا يراهما مبطلين للصوم، فعدم بطلان الصوم بالغيبة، وحرمة الغيبة، كلاهما حكمان فقهيان، ولا يصحّ عدّ أحدهما فقهيًا نرفضه والآخر غير فقهي نقبله، كما فعل سروش.

(117)
قياس الإسلام مع سائر الأديان والفرق

 يبدو أنّ سروش وقع في القياس الخاطئ بين الإسلام والمسيحيّة، أو بين الإسلام الشيعي والتصوّف، إذ إنّ رؤيته نحو الوحي لم يكن لها موطئ قدم في الإسلام والفرق الإسلاميّة كالأشعريّة والاعتزال، بل هي وليدة نوعٍ من الفكر الإلتقاطي المسيحي البروتستانتي المطعّم بأشعار مولانا.

 فمن جهة نرى أنّ سروش متأثّرٌ بشاه ولي الله الدهلوي الصوفي الهندي، ومن جهة أخرى متأثّر بهيغل المسيحي، وهذا ما أوقعه في مشاكل أدّت إلى ظهور نظريّة جوهر الدين وصدفه، فبما أنّ كتاب المسيحيّة المقدّس لم يكن سماويًّا وإلهيًّا، لا تحدث أيّ مشكلةٍ في عدّ بعضه جوهرًا وبعضه الآخر صدقًا، وعلى سبيل المثال يمكن لشخص أنْ يقدّس مثلًا الشاعرحافظ الشيرازي، ولايقبل الوقت في الوقت نفسه بعض تعاليمه، ولكن هذا الأمر غير واردٍ بخصوص الوحي الإلهي، ولا يمكن نسبته أيضًا إليه.

الاستفادة من الشرطيّات كاذبة المقدم لإثبات عرضيّة الدين

 يستعين سروش بالشرطيّات كاذبة المقدّم، والمخالفة للواقع لإثبات العرضي في الدين، ونعتقد أنّ هذا لا يدلّ على عرضيّة الآيات القرآنيّة؛ لأنّ صدق القضايا الشرطية لا يكون بصدق المقدّم والتالي، بل بصدق التلازم، فقوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (الأنبياء: 22)، يعدّ من الشرطيّات كاذبة المقدّم، أي أنّ مقدّمها باطل، ويستنتج من نقيض التالي نقيض المقدم، ولكن القضيّة صادقة، ولم تكن خلاف الواقع، وعليه لا يصحّ القول بأنّ كلّ قضيّةٍ كاذبة المقدّم تكون خلاف الواقع، فلم يكن هذا الأمر معيارًا لمعرفة الذاتي والعرضي.

(118)

يعتقد سروش أنّ الحوادث الواقعة زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله - كغزوة بدر وأُحد - لو لم تحدث فلربّما ظهرت أحكام أخرى، ونحن نقول: أوّلًا أنّ هذا المدعى ينقصه الدليل المستحكم، وثانيًا أنّ الله تعالى فعّال لما يشاء بمعنى أنّه يقدّر الحوادث، وله أن ينزل هذه الأحكام ذاتها حتى مع وجود حوادث أخرى.

 والمدّعى الآخر لسروش – لا سيّما في بحث الطير والنحلة - أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لو عمّر أكثر لأصبح القرآن أوسع، والحال أنّنا نعتقد حتى لو حصل هذا الأمر وعمّر النبيّ أكثر ممّا عاش، لعُدّ كلامه اللّاحق ضمن الحديث النبويّ وتبيين القرآن، كما هو الحال في كلمات الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام التي ليست قرآنًا، بل تبيّنًا للقرآن.

 وبشكلٍ عام فإنّ التوسّع في هذه الفرضيّات، لا ينتج سوى الشبهات العقديّة بين الناس. ويمكن أن يكون المقدّم في هكذا قضايا عكس تلك الحوادث الكثيرة الحادثة زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، وكان تالي هذه القضايا ضعف الأشخاص الذين صنعوا هذه القضايا، إذ يمكن لكلّ شخصٍ بيان احتمالاتٍ متعدّدةٍ لتالي هذه الفرضيّات.

دلالة استنباط علل الشرائع على العرضي في الدين

 جعل سروش استنباط علل الشرائع دليلًا على عرضيّة الأحكام الفقهيّة، والحال أنّنا نعتقد عدم صحّة هذا المدّعى؛ لأنّ الإنسان لا يستطيع أبدًا كشف العلّة التامّة للأحكام والشرائع بعقله، نعم يمكنه الوقوف على بعض الحِكَم من دون كشف العلّة التامّة.

 والأمر المهم أنّ سروش قد أغفل كثيرًا من الأحكام الشرعيّة التي يؤيّدها العلم الحديث، كأحكام الشارع في الطهارة والأكل والشرب ونمط الحياة، وتشبّث

(119)

بالمتعارضات الموجودة بين العرف والأحكام الفقهيّة، وهي أحكام القصاص والديات والحدود، وادّعى أنّ حكمة جعل هذه الأحكام لا تتوافق مع حاجة العصر الحاضر، فالسؤال الذي يُطرح هنا أنّ سروش لماذا يُغفل تأييدات العلوم التجريبيّة الجديدة لكثيرٍ من الأحكام الشرعيّة، ويتمسّك بالتعارض العرفي القليل الموجود مع الأحكام؟!

الادّعاء من دون دليل

 إنّ كلام سروش مليئ بمدّعياتٍ لا دليل عليها، حتّى المعايير التي يذكرها لا تنطبق على مدعياته، علمًا بأنّ معاييره أيضًا لا تتجاوز الادّعاء وتواجه إشكالاتٍ عدّة، وعلى سبيل المثال يدّعي سروش أنّ الحوادث التاريخيّة والأسئلة التي سُئل بها النبيّ والأجوبة الصادرة عنه، كلّها من عرضيّات الدين، ونحن نسأله عن معياره في هذا المدعى.

 إنّ الحوادث الواقعة في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تنحصر بما ورد في القرآن، وعلى سبيل المثال ذُكرت أسماء أربعة وعشرين نبيًّا في القرآن من بين مائة وأربعة وعشرين ألف نبيّ، وذلك أنّ القرآن لم يكن كتاب تاريخ، بل إنّ ما ذكره من تاريخ الأنبياء وغيرهم، ذكره لتعلّقه بهداية الناس والأحكام العقديّة والأخلاقيّة والفقهيّة، وبهذا قوّى تديّن الناس بشكل تدريجي وهادئ، حتى أنّ قوله تعالى: (تَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ)(المسد: 1)، يحتوي على دلالاتٍ إلتزاميّةٍ متطابقة مع الدلالة المطابقيّة تكون في امتداد هداية الناس وتعليمهم.

 وبناءً على هذا فإنّ القرآن لم يتطرّق إلى جميع حوادث حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، بل اكتفى

(120)

منها بما ينفع في مقام هداية الإنسان، مضافًا إلى وجود الآيات الناسخة والمنسوخة في القرآن، وعليه إذا صحّ مدّعى سروش كان على الله تعالى بيان عرضيّات الدين كما بيّن الآيات المنسوخة، والحال أنّ هذا لم يتحقّق، فقبول مدّعى سروش يعني عجز الله عن بيان وفهم ما ذكره سروش ضمن عرضيّات الدين والعياذ بالله.

 إنّ ما ورد في النصوص الدينيّة يخالف كلام سروش، وعلى سبيل المثال إنّ رواية: «حلالُ محمّدٍ حلالٌ أبدًا إلى يوم القيامة، وحرامُه حرامٌ أبدًا إلى يوم القيامة»[1]، تشمل مضافًا إلى الحلال والحرام الأوّلي، الحلال والحرام الثانوي أيضًا، وبعبارةٍ أخرى أنّ جميع الأحكام الأوّلّية والثانويّة تعدّ جزءًا من الدين وتكون ثابتة، وليس الأمر كذلك بأنْ تكون الأحكام الأوّلّية ثابتةً والأحاكم الثانوية متغيّرة، بل كلّما تحقّق موضوع الحكم تحقّق ذلك الحكم أيضًا. هذا الأمر يدلّ على انعطاف الفقه، إذ يبيّن أحكامه الخاصّة وفق متطلّبات الزمان والمواضيع المختلفة، وعلى سبيل المثال يجب الصوم على المكلّفين، ولكن لو مرض المكلّف حرم عليه الصوم، فهذان الحكمان - أحدهما أوّلي والآخر ثانوي- ثابتان إلى الأبد، ولا يحلّ شيءٌ آخر محلّهما.

نظريّة الدين الأقلّي

 الرؤية الثالثة لسروش ضمن مبانيه الدينيّة نظريّة الدين الأقلّي، وهذه النظريّة - كنظريّة الذاتي والعرضي في الدين- وإنْ أمكن عدَّها من نتائج رأي سروش في حقيقة الوحي، ولكن يمكن عدّها من جهة أخرى ضمن مبانيه الدينيّة أيضًا. إنّ

(121)

المبنى والنتيجة يشيران إلى حيثيّتين مختلفتين يمكن قبول كليهما، فالدين الأقلّي قد أثّر من جهة في ظهور نظريّة سروش الوحيانيّة، ومن جهة أخرى يعدّ وليد رؤيته حول الوحي.

 وكما يلوح من كتب سروش ومؤلّفاته، أنّه يلج المباحث من منطلق الدين الأقلّي، ويعتقد أنّ شأن النبوّة الرئيس لم يكن السياسة، فقبول الدين الأقلّي ونفي السياسة عن الدين من قبل سروش، يدلّ على أنّه وضع توقّعاتٍ خاصّةً من الدين من ذي قبل، ثمّ قام بالبحث في الوحي طبقًا لتلك التوقّعات.

 يعتقد فوكو أنّ الخطاب يتكوّن من مجموعة نظريّاتٍ منسجمةٍ ودوال مرتبطةٍ تدلّ على رسالةٍ واحدة، ولهذه الدوال المرتبطة دالٌ مركزيٌّ واحد، تدور حوله جميع الدوال الأطراف، أي أنّ لكلّ خطابٍ دالًّا مركزيًّا، وعلى سبيل المثال فإنّ الدكتور شريعتي يمتلك منظومةً فكريّةً وخطابًا، والدالّ المركزي في خطابه دنيويّة الإسلام أو الاستفادة من الدين لإعمار الدنيا، ليبدلّ الإسلام الفردي إلى الإسلام الاجتماعي؛ لذا نرى أنّ جميع مباحثه - من قبيل بروتستانتيّة الإسلام، وأدلجة الدين، وإسلام أبي ذر، وإسلام أبي علي، ونظريّة الأمّة والإمامة، التشيع الصفوي والعلوي - تدور مدار هذا الدالّ المركزي.

 إنّ سروش أيضًا يمتلك خطابًا ومنظومة فكريّة تستند على الدوال الأطراف المتنوّعة، فنظريّات: القبض والبسط في الشريعة، بسط التجربة النبويّة، الذاتي والعرضي في الدين، الدين الأقلّي، التعدّدية الدينيّة، رؤيويّة الوحي، فهذه النظريّات جميعها دوال تكوّن منظومته الفكريّة، نعم إنّ أصل هذه المباحث لم يكن جديدًا، بل إنّ جميعها مأخوذ من الآخرين، غير أنّه قام بتبيئة هذه المفاهيم وتطبيقها على

(122)

الإسلام، فالدالّ المركزي عند سروش هو نفي الحكومة الدينيّة والاعتقاد بالعلمانيّة.

 إنّ الوحي عند سروش من إنتاج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، ولم يكن للإمام أيّ حجيّة، إنّ جميع الإشكالات التي ذكرها سروش لحدّ الآن لإثبات الدالّ المركزي تتعرّض إلى أفعال الله أي الدين، والوحي، والنبوّة والإمامة، ولكنّه أمام إشكالٍ أساسٍ آخر، وهو مسألة التوحيد في الربوبيّة، ونحتمل أنّه يتطرّق إليه لاحقًا. فالإشكال الذي يلزم على سروش الإجابة عليه، أنّ الله الحكيم والعالم على الإطلاق والحائز للربوبيّة التكوينيّة والتشريعيّة بناءً على التوحيد في الخالقيّة والربوبيّة، كيف يمكن أنْ يخلق الإنسان بهذه الخصائص، ثمّ يتركه لحاله؟ إذ إنّ ربوبيّته التشريعيّة تقتضي أن يعلّم الإنسان نمط الحياة.

 والخلاصة أنّ الدال المركزي عند سروش هو العلمانيّة، وبتعبيرٍ أدقّ فصل الدين عن الحكومة، وهو يستفيد من جميع الدوال الأخرى للوصول إلى هذه النقطة، فمسألة الدين الأقلِّي تُعدّ من تلك الدوال. هذا التحليل لم يكن تحليلًا سياسيًّا، بل هو تحليلٌ علميّ نصل إليه من خلال مجموع بحوثه وكتبه وحواراته.

العلوم التجريبيّة والدين الأقلِّي

 يدّعي سروش أنّ نظريّة الدين الأقلّي التي تحدّث عنها في كتاب (بسط التجربة النبويّة) بالتفصيل تمتدّ إلى أربع ساحات:

1- ساحة العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة.

2- ساحة العقائد والكلام.

3- ساحة الفقه.

4- ساحة الأخلاق.

(123)

يعتقد سروش في ساحة العلوم الطبيعيّة أنّ الدين لم يكن بصدد تعليم العلوم الطبيعيّة والتجريبيّة، ولم يتوقّع أيّ واحدٍ منّا أن يعلِّمنا النبيّ الفيزياء أو الكيمياء أو النجوم أو الطبّ أو الهندسة أو الجبر، ولو وردت ثمّة إشاراتٌ إلى هذه العلوم في بعض الروايات تكون بالعرض تمامًا، أي أنّ هذه الأمور لم تكن من الأمور الجوهريّة في الدين، وفقدانها لا يُعدّ نقصًا في الدين، ولم تكن رسالة النبيّ الأساسيّة تعليم هذه العلوم. وهذه النتيجة التي توصّل إليها سروش تحمل في طيّاتها بركاتٍ كثيرة، منها رفع التعارض بين العلم والدين.

نقد العلوم التجريبيّة والدين الأقلِّي

أوّلًا: هذا الكلام مجرّد ادّعاء لم يُقم عليه أيُّ دليل، ومن جهة أخرى يمكن لشخص أنْ يدّعي وبالاستناد إلى أنّ القرآن جامعٌ لجميع العلوم والحقائق، وفيه علم ما كان وما يكون وما هو كائن، أنّ الدين مكلّفٌ ببيان العلوم الطبيعيّة أيضًا، وأنّ النصّ الديني يتحمّل جميع الحقائق وعدم استنباط هذه العلوم من القرآن دليل ضعفنا[1]. فادّعاء سروش أوّلًا لا دليل عليه، وثانيًا يمكن لخصمه إثبات نقيض ادّعائه بالتمسّك بالدلائل النقليّة.

ثانيًا: حتّى لو لم نتوقّع من الدين التطرّق إلى العلوم التجريبيّة، فكلام سروش رغم هذا لا يدلّ على أنّ ما ورد في النصوص الدينيّة من الطبيعة والكون والأمور الطبّية كانت بالعرض وخارجة عن دائرة الرسالة، إذ ربما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل

(124)

البيت عليهم‌السلام بصدد بيان إعجاز القرآن العلمي عند ذكر هذه الأمور، ودعوة غير المؤمنين إلى الإيمان من هذا الطريق.

ثالثًا: إنّ أمثال سروش عند مشاهدة التعارض بين تعاليم الدين ونتائج العلم، يمكنهم بدل الإشكال على الدين جعل تعاليم الدين كفرضيّةٍ علميّةٍ، والقيام بدراسةٍ تجريبيّةٍ لها ونشر نتائجها. فالعلماء اليوم ربّما ولأجل بناء فرضيّةٍ واحدةٍ يصرفون مبالغ طائلة، في حين أنّ الدين قد قدّم هذه الفرضيّات مجانًا.

وعلى سبيل المثال إنّ بعض كبار العلماء أمثال الشيخ البهائي والمرحوم النراقي، قد استفادا من بعض روايات الأئمّة عليهم‌السلام حول النجوم فوائد رياضيّةً ونجوميّةً دقيقةً تتطابق مع نتائج علم النجوم المعاصر. أنا لا أعتقد أبدًا بالتفسير العلمي، ولكن قد ترد في المدلول المطابقي للرواية أمورٌ تتطابق مع نتائج العلم، وقد عبّر بعض العلماء عن هذا بتعبير إعجاز الدين العلمي.

وبناءً على هذا فنحن نتمكّن - بالمقدار الذي نستفيد من آيات القرآن وكلمات الأئمّة عليهم‌السلام - من استخراج الفرضيّات العلميّة وإيجاد التحوّل في العلم. وهذا المدّعى لا ينافي قبولنا للمنهج العقلي والتجريبي في العلوم الطبيعيّة، لا سيّما عندما نلتفت إلى أنّ الأئمّة عليهم‌السلام، قد أوصوا بالاستفادة من المنهج التجريبي والعقلي للوصول إلى نتائج جديدة.

رابعًا: يدعي الوضعيّون أنّ العلوم وليدة الاستقراء والتجربة، وهذا الكلام لا اعتبار له عند الفلاسفة أبدًا، ومن المستبعد عدم التفات سروش إلى هذا الأمر. يعتقد جميع الفلاسفة أنّ جميع العلوم - التجريبيّة، والطبيعيّة والإنسانيّة - تبتني على مبانٍ ميتافيزيقيّة، وهذه المباني تؤثّر في اتّجاه هذه العلوم بشكلٍ ملحوظ.

(125)

ونحن نعتقد أنّ الإسلام يهيّئ المباني الميتافيزيقيّة للعلوم الإنسانيّة والطبيعيّة، وبناءً على هذا نعتقد بالعلم الديني وغير الديني، ويمكن أنْ نتجاوز هذا ونقول لما كانت الطبيعة فعل الله، يلزم أن يعلّمنا الله منهج فهم الطبيعة، فلو اقتبسنا منهجيّة معرفة الطبيعة ومنهجيّة معرفة الإنسان من الدين، أمكننا استحداث رؤيةٍ جديدةٍ في العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة والتجريبيّة، فللدين دورٌ في توليد العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة والتجريبيّة.

إنّ مدّعى سروش هنا يتضمّن دعويين:

1- إنّ الدين دخل هذه المساحات على النحو الأقلّي.

2- إنّ ورود الدين في هذه المساحات كان بالعرض.

ونحن نقول: إنّ قسمًا كبيرًا من حضور الدين في هذه المساحات أكثريّ وقسمًا قليلًا منه أقلّي، والحضور الأقلّي للدين في هذه المساحات لم يكن بالعرض، بل بالذات ولتقوية إيمان المتديّنين.

وبعبارةٍ أخرى نعتقد أنّ وظيفة الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام منح الرؤية الدينيّة للإنسان، والرؤية الدينيّة لا تنحصر في العبادات والمسائل المتعلّقة بمعرفة الله، بل تتدخّل الرؤية الدينيّة وغير الدينيّة في المعاملات والسياسات والاجتماعيّات وغيرها أيضًا.

وما يستدعي العجب أنّ الغربيّين ألّفوا كتبًا كثيرةً حول الفنّ الديني والفيلم الديني والسينما الدينيّة والتقنيّة الدينيّة والعلم الديني وغيرها من الأمور، ويربطون الدين بجميع الظواهر وحقائق العالم الحديث، ولكن سروش ما زال يكرِّر نظريّات القرن التاسع عشر، ويدّعي لزوم عدم توقّع تطرُّق الدين إلى هذه الأمور.

(126)

إنّ سروش مبتلى هنا بمغالطةٍ خفيّة؛ فهو وأمثاله زعموا عندما يقال إنّ الدين يتطرّق إلى المباحث العلميّة، الصناعيّة، التقنيّة وغيرها، أنّ معناه إمكانيّة استخراج أجوبةٍ هذه الأسئلة من النصوص الدينيّة، في حين أنّ للعلم الديني معنى آخر[1]، ولا يجوز عند نفي معنى واحدٍ من معاني العلم الديني، نفي سائر المعاني الأخرى.

خامسًا: يعمِّم سروش حكم العلوم التجريبيّة للعلوم الإنسانيّة أيضًا، ويعتقد أنّ الدين الإسلامي كما لم يأتِ لتعليم العلوم التجريبيّة، لم يكن بصدد تعليم العلوم الإنسانيّة أيضًا، بمعنى أنّ الدين أقلّيّ في العلوم الإنسانيّة. وقد وقع هنا في مغالطة (جمع العلوم في علمٍ واحد)، لكنّ العلوم الإنسانيّة المتعدّدة لا بدّ من تفكيكها.

كان الوضعيّون يعتقدون في البداية أنّ العلوم التجريبيّة تنقسم إلى علومٍ طبيعيّةٍ وعلومٍ إنسانيّة، بمعنى دخول العلوم الإنسانيّة في العلوم التجريبيّة، ولكن اليوم لا يعتقد أحدٌ بهذه الرؤية، فالعلوم الإنسانيّة اليوم مضافًا إلى تفرّعاتها التجريبيّة، لها تفرّعاتٌ غير تجريبيّة، ففي الاقتصاد مثلًا عندنا الاقتصاد التجريبي، والذي يقسّم إلى الخاصّ والعامّ ويحاول اكتشاف العلاقات الاقتصاديّة بين الظواهر، ولنا المدرسة الاقتصاديّة المذكورة تحت عنوان العقائد والإيديولوجيا الاقتصاديّة، وقد كُتب فيها كتبٌ عدّة. وهذا الأمر نفسه يجري في علم النفس وعلم الاجتماع، مضافًا إلى علم النفس التجريبي الذي يحاول كشف العلاقات النفسيّة بين الظواهر، توجد مدارس نفسيّة تصل اليوم إلى ثلاثين مدرسة.

أعتقد أنّ دين الإسلام أكثريّ في المدارس الاقتصاديّة والنفسيّة والاجتماعيّة،

(127)

ويمكننا استخراج هذه النظريّات في عصر الغيبة لتكوين منظومةٍ متكاملة[1]. وهذا الكلام نفسه يجري في علم السياسة أيضًا، فللدين أنْ يزوّدنا بالأخلاق السياسيّة والفقه السياسي وغيرها، نعم نحن نعتقد في ساحة الاقتصاد التجريبي وعلم الاجتماع التجريبي، لزوم الاستفادة من التجربة.

علم الكلام والدين الأقلّي

يعتقد سروش أنّ حضور الدين في علم الكلام أقلّيّ أيضًا، ولم يتمكّن أيّ شخصٍ من إثبات أنّ علم الكلام أكثريّ في موضوع ذات الله وصفاته، بل العكس أكثر معقوليّة، ويقول على سبيل المثال: نحن نعتقد أنّ أيّ شيءٍ لا يغيب عن علم الله، ولكن بخصوص علم الله لما في العالم، فقد ذكر الملّا صدرا سبع نظريّاتٍ، واختار هو نظريّة ثامنة[2]. ولا يمكن القول بأنّ رأيه المختار هو الرأي الدينيّ الأرثوذكسي. فلو كان الدين بصدد البيان الأكثري هنا، للزم عليه بسط الكلام بشكل أكثر لكنّه لم يفعل، لذا وقع الخلاف بين الحكماء الإلهيّين، ممّا يُنبئ عن ترك الأمر لاكتشاف العقلاء والفلاسفة[3].

نقد علم الكلام والدين الأقلّي

ترد مجموعة إشكالاتٍ على هذه النظريّة نشير فيما يلي إلى بعضها:

أوّلًا: هذا المدّعى غير تامّ، إذ يلزم قياس الحدّ الأقل أو الحدّ الأكثر في الدين بالنظر

(128)

إلى غاية حقيقة الدين في كلّ مورد، فغاية الدين هداية الإنسان وسعادته، وعليه يلزم السؤال في كلّ مورد: هل بيّن الدين في كلّ موضوعٍ ما يتّصل بسعادة الإنسان أم لا؟

ففي ساحة الكلام ليس من الصحيح طرح هذا السؤال: (هل الدين ذكر كلّ ما يمكن أنْ يقال حول الله أم لا؟)؛ إذ نحن نذعن بوجود بعض المسائل حول معرفة الله ومعرفة المعاد لا علاقة لها بسعادة الإنسان، ولم يتطرّق إليها الدين أيضًا. ولكن هذا الأمر لا يدلّ على أنّ الدين أقلّيّ. والطريف أنّ سروش عندما يذكر في مباحثه الأخرى كمال الدين، يتّخذ المنهج نفسه، ويقول يلزم قياس كمال الدين على ضوء غايته.

ثانيًا: بما أنّ الله تعالى غير محدود، فيستحيل أنْ يذكر الدين كلّ ما يتعلّق بالله تعالى، ويلزم من افتراض تطرّق الدين لجميع تلك الأمور تقييد الله وهو خلاف الفرض.

ثالثًا: إنّ كلام سروش (إنّ الدين لم يقل جميع ما يمكن أنْ يقال في الله) يتضمّن التناقض؛ لأنّ بعض حقائق الألوهيّة غير قابلة للفهم رغم كونها واقعيّةً وحقيقيّة، فالرواية القائلة (لا تفكّروا في الله)[1] ظاهرها النهي لكنّها في مقام النفي، أي أنّكم لا تستطيعون أبدًا التفكّر في ذات الله والتعرّف على كنه الله، حتى أنّ صفات الله التي هي عين الذات لم تكن قابلةً للفهم؛ لأنّ الإنسان محدود والله غير محدود، ولايحيط المحدود كنه غير المحدود[2]، وبعبارةٍ أخرى تحتوي هذه المسائل على الإمكان النفس الأمري.

(129)

رابعًا: المثال الذي ذكره سروش لا ينقض الدين الأكثريّ في ساحة علم الكلام، لأنّ النظريّات السبعة التي ذكرها الملّا صدرا آراء فلسفيّة حاول الفلاسفة من خلالها فهم كيفيّة علم الله بالمنهج العقلي، وهذا الأمر لا علاقة له بعدم بيان الآيات والروايات كيفيّة العلم الإلهي مثلًا.

فإذا كان تفسير ملّا صدرا لعلم الله أجمع وأتمّ من بيان غيره، ولم يرد عليه ما ورد على سائر الأقوال، فإنّما سببه مراجعة ملّا صدرا للنصوص الدينيّة واقتباس رأيه منها، ثمّ تقديم البيان الفلسفي له، الأمر الذي لم يفعله سائر الفلاسفة. وإذا اختلفت آراء الأشاعرة والمعتزلة عن رأي الإماميّة، فإنّما سببه اختلاف مصادرهما الروائيّة حول الله مع مصادر الشيعة الروائيّة، وعليه لا يدلّ اختلاف الفلاسفة في علم الله على أنّ النصوص الدينيّة لم تبيّن ذلك، ويا ليت لسروش يبيّن لنا أيّ سؤالٍ يتعلّق بعلم الله لم يذكره القرآن والسُنّة مع لحاظ قدرتنا على فهمه؟ فلا كبرى مدّعى سروش تامّة، ولا الأمثلة التي ذكرها.

علم الفقه والدين الأقلِّي

يعتقد سروش أنّ الفقه وتوقّعاتنا من الدين في نطاق الأدلّة النقليّة أقلّية أيضًا، ويقول بأنّ الأحكام الفقهيّة - أعمّ من العبادات والمعاملات والوصايا الطبّية والمسائل الاقتصاديّة - لو كانت لإدارة المجتمع وحلّ المشاكل الاجتماعيّة وتنظيم أمور الدنيا، فقد تمّ بيانها بالنحو الأقلّي، لو جعلنا الأحكام الفقهيّة مجرّد أعمالٍ عباديّةٍ وتكليفيّةٍ، فلا دور لها في المسائل الاجتماعيّة أصلًا، أي أنّ الأحكام العباديّة لم تكن اجتماعيّة أبدًا، وحتى لو لم نفترض أنّ الأحكام الفقهيّة عباديّةٌ محضةٌ، بل يترتّب عليها مسائل اجتماعيّة دنيويّة، فمع هذا لا يخرج الفقه من دائرة الأحكام، ويتلخّص في الفعل والترك والحلال والحرام، وهذا لا ينسجم مع التخطيط والبرمجة للحياة[1].

(130)
نقد علم الفقه والدين الأقلِّي

ترد هنا الإشكالات المطروحة في المبحث السابق أيضًا، وهي أنّ الفقهاء يقولون إنّ الفقه علمٌ يتعلّق بأحكام أفعال المكلّفين[1]، أي لم يدّع الفقهاء أنّ الفقه بصدد إعطاء برامج ومخطّطاتٍ للإنسان، بل يقتصر على أحكام الأفعال أعمّ من الأحكام التكليفيّة والوضعيّة والأوّلّية والثانويّة والواقعيّة والظاهريّة والفتوى والحكم الحكومي. وعليه يلزم على سروش إثبات مدّعاه في أنّ الفقه بصدد بيان الأحكام على النحو الأقلِّي. ولم يتمكّن أيّ شخصٍ من ذكر مثالٍ واحدٍ يتعلّق بأفعال المكلّفين لم يتمكّن الفقه من بيان حكمه؛ لأنّ للفقه قابليّة الإجابة على أفعال المكلّفين الفرديّة والعباديّة وغير العباديّة (ما من فعل إلّا وله حكم).

كان المرحوم إقبال والمرحوم شريعتي يعتقدان أنّ الاجتهاد محرّك الشيعة، لكن يقول سروش إنّ الفقه لا علاقة له بالمسائل الاجتماعيّة، والحال - خلافًا لرأي سروش - حتّى الأحكام العباديّة الفقهيّة مليئة بالمسائل الاجتماعيّة، وعلى سبيل المثال تتطرّق الخطبة الأولى في صلاة الجمعة إلى المسائل العباديّة والتقوى، ولكن الخطبة الثانية تختصّ بالحوادث الواقعة المعاصرة، حتّى أنّ المستشرقين يذعنون بعدم إمكان فصل الجانب الاجتماعي في الدين عن الجانب الفردي.

يتمكن سروش من نفي نظريّة أكثريّة الفقه إذا قام بسرد المباحث والمسائل التي عجز الفقه عن الإجابة عليها. فالفقه يدّعي قابليته لاستنباط الاحكام؛ لأنّ الإنسان يواجه في كلّ فترةٍ زمنيّةٍ وفي كلّ عصرٍ ومكانٍ أسئلةً جديدةً لم يُجب عليها أحدٌ لحدّ الآن، وهذا الأمر يسري حتّى في سائر العلوم إذ لا يمكن القول بعدم اكتناز أيّ علمٍ أدوات الاستكمال.

(131)

ونقول في ردّ مدّعى سروش بأنّ الفقه لا يحتوي على برنامجٍ ومخطّطٍ للحياة: يعد الحُكم من أهمّ أركان البرنامج والمخطّط، وأهم أركان العقلانيّة الأداتيّة الذي يمدّ ويساعد المخطّطات، وهذا الحكم يتمّ تأمينه من الفقه، وبعبارةٍ أخرى إنّ تدوين المخطّط بحاجةٍ إلى أدواتٍ مختلفةٍ منها الفقه، إذ من المؤكّد أنّ برنامج حياة المسلم المتديّن يختلف عن برنامج نظيره غير المتديّن أو المتديّن بسائر الأديان، ووجه التفاوت يعود إلى نوع الأحكام والأخلاق والعقائد التي يتمسّك بها الأشخاص.

فالمسلم مثلًا لا يستعمل في برامجه الترفيهيّة ما لا يجوز شرعًا؛ لأنّ الشارع المقدّس نهى عنها، وعليه فإنّ التخطيط الديني يقتضي الحكم الديني، وهذا الأمر لا يخصّ الحياة الفرديّة، بل يشمل الحياة الأسريّة والاجتماعيّة والسياسيّة.

وعلى سبيل المثال نرى المتديّن الذي يتّجه نحو السياسة، يستفيد من تعاليم الدين في برامجه، وفي الواقع أنّ جميع الدين والعقل الذي يعدّ من مصادر الدين، جاء لتأمين برنامج الحياة الدنيويّة، وعليه قد وقع سروش هنا في مغالطة الجزء والكلّ، وتوقّع من الجزء الكلّ، أي توقّع من الفقه جميع الدين، وعندما يتكلّم عن الدين، يقصد القرآن والسُنّة، وينحّي العقل الذي يُعدّ من أهم مصادر الدين.

فلا بدّ من طرح السؤال هكذا: هل يتمكّن الدين من تأمين برنامج لحياة الإنسان بالاعتماد على مصادره الأربعة: القرآن والسُنّة والإجماع والعقل أم لا؟ أنّنا نعتقد بالعقلانيّة الدينيّة التي تقابل العقلانيّة العلمانيّة، وهذه العقلانيّة وليدة العقل المستقلّ النظري والعملي والآيات والروايات، أمّا العقلانيّة العلمانيّة فهي وليدة المباني العلمانيّة الخاصّة. فالعقلانيّة تنقسم إلى دينيّة وغير دينيّة. أما العقل النظري والعملي فلا يتّصف بالديني وغير الديني، فالفقه لا يدّعي إعطاء برنامج للحياة

(132)

بمفرده، بل لا بدّ من النظر إلى جميع الدين وقابليّته لذلك.

والبحث الآخر أنّنا لو سعينا وتمكَّنا من تأمين المباني الميتافيزيقيّة للعلوم؛ والقيام بتأسيس علومٍ طبيعيّةٍ وإنسانيّةٍ إسلاميّةٍ بالاعتماد على تلك المباني الميتافيزيقيّة، وتشكيل مجتمعٍ إسلاميّ مع علوم طبيعيّةٍ وإنسانيّةٍ إسلاميّةٍ، فمن الطبيعي زوال كثيرٍ من هذه الشبهات.

علم الأخلاق والدين الأقلِّيّ

يحتوي الإسلام على أحكامٍ أخلاقيةٍ كثيرة، ولا يمكن القول بأنّ جميع التعاليم التي تتحدّث عن الفضائل والرذائل والسعادة والشقاء لا توجد في الدين، إنّ سروش عندما يريد إثبات مدّعاه في الدين الأقلِّي، يُقسِّم القيم الأخلاقيّة إلى قسمين:

1- القيم الأخلاقيّة المخدومة.

2- القيم الأخلاقيّة الخادمة.

إنّ خادميّة القيم الأخلاقيّة ومخدوميّتها تُلحظ بالقياس إلى الحياة، أي توجد مجموعةٌ من القيم الأخلاقيّة تنفع الحياة، وتوجد قيمٌ أخلاقيّةٌ أخرى تكون الحياة لأجلها، ويُطلق على القسم الثاني القيم المخدومة، وعلى القسم الأوّل القيم الخادمة. ثمّ يضيف سروش أنّ قسمًا كبيرًا من علم الأخلاق يتكوّن من القيم الخادمة، والنسبة القليلة منه يتعلّق بالقيم المخدومة.

بهذا التقسيم تُصبح جميع القيم الدينيّة خادمةً تقوم الحياة بتغييرها، ويطلق سروش عليها عنوان الآداب أو الثقافة لا الفضائل[1]. ويصرّح أنّ الصدق ليس حسنًا بذاته، والكذب ليس قبيحًا بذاته، بل إنّ مدار حسن الأفعال وقبحها نتائجه

(133)

التي تظهر في الحياة[1]. وعليه نحن اليوم مضطّرون لتغيير القيم وفقًا للحياة الحديثة، وتدوين أخلاقٍ جديدة، وحاصل ما يتوصّل إليه سروش عدم فائدة الأخلاق الدينيّة للوضع الراهن.

نقد علم الأخلاق والدين الأقلِّي

لقد خلط سروش في مبحث (الدين الأقلّي والأكثري) بين الأخلاق والآداب، فالآداب غير الأخلاق؛ إذ إنّها تتغيّر بحسب مقتضيات كلّ عصر، يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام بهذا الخصوص: «لا تقسروا أولادكم على آدابكم»[2]، أمّا الأخلاق فهي الفضائل والرذائل التي تصنع الملكات الإيجابيّة والسلبيّة. إنّ جميع القيم المذكورة في الدين تعدّ قيمًا مخدومةً لا خادمة، وهدفها إيصال الإنسان إلى السعادة، بمعنى أنّنا لو خرجنا عن هذا الطريق واستبدلنا أخلاقًا أخرى، لم نصل إلى تلك السعادة الأبديّة التي قرّرها الشارع لنا؛ لذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله: «إِنّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ».

ولا بدّ من عدم إغفال أمرين:

1- كما نواجه في الفقه المسائل المستحدثة، ونقوم بتشخيص حكمها عن طريق الاجتهاد، فكذلك الأمر في الأخلاق، أي نواجه المسائل الأخلاقيّة المستحدثة - كالأسئلة المطروحة في أخلاقيّات الطبّ الاحترافي - والتي يلزم الإجابة عنها بالاجتهاد وتحديث الأخلاق، وبعبارةٍ أخرى أن تتمكّن الأخلاق الإسلاميّة من الإجابة عن المسائل المستحدثة.

2- نظرًا لتغيّر بعض الأحكام الأخلاقيّة - كتجويز الكذب مثلًا في بعض

(134)

الحالات - ذهب سروش إلى تغيّر الأخلاق؛ لأنّه عند تغيّر المقام يتغيّر الآداب المتعلّقة به أيضًا[1]. ولم يلتفت إلى أنّ هذه التغيّرات تتعلّق بالموضوع وبتغيّر الموضوع يتغيّر الحكم أيضًا، وعلى سبيل المثال فإنّ حفظ النفٍس المحترمة واجب، والكذب قبيح أخلاقًا، وعند تزاحم هذين الحكمين - مثلًا من يبحث عن نفسٍ محترمة ليقتلها ويسألك عنها - لا بدّ من تقديم الأهمّ ــ أي حفظ النفس المحترمة ــ على المهمّ، أي قبح الكذب. فالكذب في هذه الظروف لا يعني أنّ الكذب أصبح حسنًا، وهذا لا يدلّ على نسبيّة الأخلاق أبدًا. إنّ إشكالنا الأساس عدم صحّة تقسيم الأخلاق إلى الخادم والمخدوم.

 توجد في فلسفة الأخلاق نظريّتان:

1- النظريّة الغائية

2- النظريّة التكليفيّة

يعتقد البعض ككانط أنّ الأخلاق يلزم ألّا تكون لأجل غاية؛ لأنّها تفقد حينئذٍ قيمتها الأخلاقيّة، فتقسيم سروش هذا - الأخلاق الخادمة والمخدومة - مبتنٍ على نظريّة الأخلاق الغائية، لكننا في مبحث الحسن والقبح الذاتي والعقلي ندور مدار التكليف لا الغاية، ولكن نظرًا لوجود وصايا كثيرةٍ للوصول إلى الكمال نكون غائيين أيضًا، وعليه نعتقد بإمكان الجمع بين الغائية والتكليفيّة، فلو بحثنا الأمر من زاوية الحسن والقبح في الأفعال صرنا تكليفيّين، ولو بحثنا الأمر من زواية الحسن والقبح الفعلي صرنا غائيين.

(135)

نظريّة القراءات المختلفة للدين

إنّ نظريّة القراءات المتعدّدة في الدين وليدة الهرمنيوطيقا الفلسفيّة، وهي نظريّة القبض والبسط في الشريعة نفسها المبتنية على المباني الهرمنيوطيقيّة، وقد أشرنا إلى نقدها سابقًا ولا نعيد الكلام مرّة أخرى.

(136)

 

 

الفصل الثالث:
النقد البرّاني لنظريّة سروش في الوحي

 

مضافًا إلى ما مرّ من نقدٍ لنظريّات سروش، يمكن دراسة نظريّاته ونقدها من وجهة نظرٍ أخرى؛ لأنّ كلامه حول الوحي الإلهي يتضمّن شبهاتٍ أو مبتلى بلوازم يكون التطرّق إليها ذا أهميّة خاصّة؛ لذا سنتكلّم في هذا القسم عن هذه النقود، وما سنذكره لاحقًا إنّما هو أسئلةٌ مستخرجةٌ من الشبهات التي ذكرها سروش، ونذكر جوابها مع محوريّة أجوبة آية الله السبحاني.

السؤال الأوّل: الوحي بمنزلة تجربةٍ تشبه تجربة الشعراء

يعتقد سروش أنّ الوحي إلهام، وهو تجربةٌ كتجارب الشعراء والعرفاء، وإنْ كانت تجربة النبيّ ذات مرتبةٍ أعلى، فالنبيّ كالشاعر ينقل الإلهام باللسان واللغة التي يعرفها، والطريقة التي هو خبيرٌ فيها، والعلوم التي يكتنزها، ونحن نفهم الوحي في العصر الحديث من خلال الاستعانة بالاستعادة الشعريّة والأدبيّة، كما قال أحد فلاسفة الإسلام إنّ الوحي أعلى درجات الشعر ومراتبه[1]. فما هو الإشكال الوارد على كلام سروش هذا؟

(137)

جواب السؤال الأوّل

إنّ هذا الكلام على الرغم من ظاهره الحديث، لم يكن جديدًا، بل هو مطابق لما قاله مشركو قريش حول القرآن، أي كما أنّ امرَأَ القيس يخلق المعاني والألفاظ في ضوء الإلهام الذي يتلقّاه، فكذلك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله يخلق معاني الآيات وألفاظها. ومن المعلوم أنّ غرضهم من الشعر لم يكن الشعر المنظوم، بل مواجيد الإنسان وتخيّلاته الناتجة عن الفكر سواء أكانت منظومة أم منثورة.

فالقرآن ينقل عن لسانهم هذه النظريّة وينقدها: (وَيَقُولُونَ أَئِنّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ) (الصافات: 36)، وأيضًا: (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (الطور: 30). فهم يقيّمون القرآن من ثلاثة طرق مفادها أنّ القرآن صناعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله:

1- يقولون تارةً بأنّه أفكارٌ متناثرة.

2- ويقولون ثانيةً بأنّه تقوّلَ القرآن على الله.

3- ويقولون ثالثةً إنّه شاعرٌ قولب خياله بهذا القالب، كما في قوله تعالى: (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ...)(الأنبياء: 5).

ويرد القرآن على هذا الكلام بقوله: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ * قَلِيلًا مّا تُؤْمِنُونَ) (الحاقة: 41). وفي آيةٍ أخرى: (وَمَا عَلّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) (يس: 69)، والخلاصة أنّ المشركين عدوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الشعراء.

وترد على رأي سروش الأمور الآتية:

أوّلًا: إنّ محتوى نظريّة سروش لا تتعدّى هذا القول، أي قد جعل سروش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رديفًا للشعراء، وإن أضاف على كلام المشركين قوله (ولكنّه في مرتبةٍ أعلى) غير أنّ هذه النظريّات تنشأ من منشأٍ واحدٍ، فلو قال سروش إنّ إلهام

(138)

الشعراء ينشأ من داخلهم، وإلهام النبيّ من الله تعالى، فحينئذٍ يكون عطفه لهاتين النظريّتين بعضهما على بعض عطفًا للمباين على المباين، ينتج تشبيهًا مخلًّا.

ثانيًا: لم يذكر سروش دليلًا معتبرًا لنظريّته، فإذا كان القرآن على طراز إلهامٍ شِعريّ وإنْ بمستوى أرفع، فلماذا تحدّى الغير وادّعى أنّ الناس لم يتمكّنوا من الإتيان بمثل سورةٍ واحدةٍ مثله؟ ويمكن القول لسروش: إنّ تفسيرك هذا للقرآن لم يكن سوى تجربةٍ شعريّة، أي أنّ نفسك صنعت هذه الفكرة وارتسمت في ذهنك، وأجرتها على لسانك وقلمك من دون أنْ يستبطن واقعًا، فلو كان القرآن من سنخ الشعر وأعمال الشعراء ولا قيمة خالدة له، فكلامك من هذا القبيل أيضًا.

ثالثًا: يحاول سروش في تقرير نظريّته حول شاعريّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنْ ينظر إلى الموضوع من زاويةٍ ظاهراتيّةٍ؛ ليبيّن ظاهرة الوحي طبقًا للاستعارات الشعريّة، والحال أنّ هذا الأمر ذاته محلّ خلافٍ؛ لماذا تمّ استخدام هذه الاستعارة؟ كما يشير سروش في مكانٍ آخر بأنّنا ولأجل معرفة أوصاف وضمير بعض الأشخاص كالأنبياء مثلًا، نشبّه حالةً من أحوالهم بأنفسنا، وعلى افتراض التغاضي عن هذا الإشكال لا بدّ أنْ يتحمّل ذلك الشيء هذه الاستعارة، والحال أنّ القرآن قد ردّ الاستفادة من هذه الاستعارة بخصوص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، وقال: (وَمَا عَلّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) (يس: 69).

(139)

السؤال الثاني: النبيّ خالق الوحي والمانح للصورة على مضمونٍ غير مصوّر (المعنى من الله واللفظ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله).

لقد استعان سروش بالاستعارة الشعريّة وذهب إلى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يشعر في داخله بأنّ قوّةً خارجيّةً تمتلكه كما هو الحال في الشعراء، ولكن خالق الوحي هو النبيّ في الواقع. يرى سروش أنّ الإلهام سواء أكان داخليًّا أم خارجيًّا لا أثر له؛ لعدم وجود أيّ فارقٍ في مرحلة الوحي بين الداخل والخارج[1].

ويؤكّد سروش خالقيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للوحي بنحوٍ آخر أيضًا، ويقول: ما يتلقّاه النبيّ من الله إنّما هو مضمون الوحي، ولكن لا يمكن إبلاغ ذلك المضمون للناس؛ لأنّه أعلى من مستوى إدراكهم، بل حتى أعلى من مستوى الألفاظ، فلا صورة لهذا الوحي، وعلى النبيّ إكساء هذا المضمون بالصورة اللفظيّة ليكون تحت متناول الجميع. وعليه - وطبقًا لنظريّة سروش- تكون المفاهيم والمعاني من الله تعالى أمّا الشكل والصورة من إبداع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، ويكون القرآن عملًا مشتركًا بين الله والنبيّ، أي المعاني من الله والصورة من النبيّ، فما هو الإشكال الوارد على هذه النظريّة؟

جواب السؤال الثاني

بناءً على ما ذكره الشيخ السبحاني، يلوح من كلام سروش أنّ القرآن تجلّي شخصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الباطنيّة، والذي يُطلق عليه اصطلاحًا (الوحي النفسي)، وهذه النظريّة - أي تفسير الوحي في ضوء نظريّة التجلّي الباطني - قد طُرحت لأوّل مرةٍ

(140)

من قبل المبشّرين، أي القساوسة والمستشرقون لا سيّما المستشرق درمنغم[1]، حيث سعى وبجهودٍ طفوليّةٍ إلى البحث عن مصادر معرفيّةٍ للقرآن، منها تجلّي الشخصيّة الباطنيّة.

يقول سروش في بيان نظريّته: «إنّ عقل محمّد الباطني - أو وفقًا للّغة المعاصرة - شخصيّته الباطنيّة، قد اكتشف زيف الشرك، وقد قام بعبادة الله لأجل الوصول إلى مقام النبوة، واعتزل في غار حراء، وهناك بلغ إيمانه الوجداني مرتبةً عالية، وتوسّع أفق أفكاره، وتضاعفت بصيرته. وقد بلغ في هذه المرحلة من القوّة بحيث أصبح مؤهّلًا لهداية الناس. كان دائم الفكر إلى أنْ استيقن بأنّها النبوّة التي ابتعثه الله بها لهداية الناس. وهذه المعرفة ظهرت له وكأنّها نازلةٌ من السماء، وأنّ الله خاطبه عن طريق جبرئيل».

إنّ ما يميّز شعور الشعراء عن شعور الأنبياء، هو الأمر الذي لم يهتم سروش به. يرى الشعراء أنّ مصدر الإلهام في داخلهم بينما يراه الأنبياء في خارجهم، ولكن سروش لم يهتم بأهم نقطة التمايز، ولم يجعل أيّ دورٍ لجوانيّة الإلهام أو برانيّته، والحال أنّ النقطة المائزة الأساسيّة هي هذه النقطة بالتحديد. فمن لم يكن متوغّلًا في المسائل الفلسفيّة والعرفانيّة، لم يتمكّن من تفكيك حدود هذين الإلهامين والشعورين، ولأجل عدم القدرة على التفكيك هذه، قال مشركو قريش: كيف يستقبل شخص الإلهام من خارج ذاته ويؤمر بهداية الناس؟ ويذكر القرآن كلامهم هذا بقوله: (أَكانَ لِلنّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنا إلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) (يونس: 2).

(141)

لقد قدّم مناوئو القرآن على مرّ التاريخ ولأجل الوقوف أمام الوحي المحمّدي تصوّراتٍ وتفاسير مختلفة، مع اتّحاد ماهية جميع هذه التصوّرات الباطنة في جميع تلك الأعصار، وقد تغيّر اليوم شكل شبهات أبي جهل وأبي سفيان، وتمّ عرضها كسلعةٍ جديدةٍ وكدراسةٍ علميّةٍ حديثة.

لقد جعل السؤال الأوّل جميع الأمور ناشئةً من قبل النبيّ سوى الارتباط الضعيف بالله، ولكن هنا قد جُعلت المعاني من قبل الله والقالب من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، أي يكون الوحي نوعًا من المشاركة بين الله والنبيّ، ويلزم علي سروش بيان دليله على مدّعاه. فهل الله القادر على إنزال المفاهيم غير قادرٍ على القوالب[1]؟ لقد أثبت سروش مدّعاه بعدم إمكان تلقّي ألفاظ الوحي وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، تلقّى مضمون الوحي فقط، أثبته من خلال مجرّد الاستبعاد فقط. والدليل الوحيد الذي يمكن أنْ يُقدّم عن سروش أنّه يرى أنّ حقيقة الوحي نوعٌ من التجربة الدينيّة، وهذا الدليل تمّ نقده حتى من قبل المسيحيّين أنفسهم.

السؤال الثالث: الظروف الحاكمة على حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هي التي أوجدت القرآن

عرفنا أنّ سروش يجعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تارةً خالق القرآن بشكلٍ مستقلٍّ ويؤكّد على دوره المحوري، وتارةً أخرى يعقد مشاركة بينه وبين الله، وتارةً ثالثةً يجعل الظروف المحيطة بحياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مولّدةً لهذه المفاهيم والأفكار والمعاني، وبعبارةٍ أخرى يجعل الزمان خالقًا للقرآن الكريم، أيّ أنّه أثرٌ لحياة النبيّ، وأبويه، وزمن طفولته،

(142)

وحتى الحالات النفسيّة.

يعتقد سروش أنّ قراءة القرآن تدلّ على أنّ النبيّ كان يفرح تارةً ويكون في غاية الفصاحة، وكان يحزن تارةً أخرى ويتضجّر ويكون عاديًّا في استرسال كلامه. فيرى سروش أنّ هذه الموارد تدلّ على بشريّة الوحي[1]، وعليه يرى سروش أنّ للنبيّ دورًا موضوعيًّا في مسألة الوحي، إذ لم يكن متلقّيًا صرفًا، بل تؤثّر فيه الظروف الحاكمة وما يدور في ذهنه. فما هو الإشكال في هذا الكلام؟

جواب السؤال الثالث

يحاول سروش بكلامه هذا عدّ القرآن كتابًا بشريًّا مائة بالمائة، متأثّر بالظروف الحاكمة على حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، كسائر الكتب المتأثرة بحياة مؤلّفيها، وبعبارةٍ أخرى تأثير نزعات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والثقافة الحاكمة في ذلك العصر على تدوين القرآن.

ونحن نتساءل أمام هذه الإشكاليّة: لو كان الأمر كذلك حقيقة، فلماذا ينفي القرآن جميع هذه الأمور، ولم يرَ عاملًا مؤثّرًا في تكوين القرآن سوى الوحي؟ ونشير هنا إلى بعض الآيات التي تتعارض مع بشريّة القرآن:

قال تعالى: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) (النجم: 3-5). وقال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم: 1). وقال تعالى: (إِنّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيّا لّعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: 2). وقال تعالى: (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) (الأنعام 92).

(143)

فمع هذا الكلام الصريح كيف نعدّه بشريًّا، والحال أنّ أحدًا لم يشكّك في صدق محمّد الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله، فرؤية سروش هذه ناتجةٌ من تطبيق نظريّة المعرفة الكانطيّة على ظاهرة الوحي. فموضوعيّة النبيّ في الوحي تؤدّي إلى القول بتصرفه في الوحي، ومعناه أنّ الانسان لا يصل إلى كلام الله وأنّ القرآن الحالي غير خالص. ولو نظرنا إلى كيفيّة تصرّف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الوحي لحصلت تلك النتيجة نفسها أيضًا؛ لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إمّا أنّه قد تصرّف في جميع معطيات الوحي وبشكل منتظم، أو في بعض تعاليمه وبملاكاتٍ خاصّة، وفي كلا الحالتين - أي سواء كان التصرّف في جميع التعاليم أم في بعضها - فإنّ قابليّة الاعتماد على الوحي تُسلب نهائيًّا.

السؤال الرابع: قابليّة الخطأ في الوحي في بعض الأمور الخاصّة

يقول سروش: «يرى كثيرٌ من المفسّرين اليوم أنّ الوحي في المسائل الدينيّة الصرفة كصفات الله، والحياة بعد الموت وقواعد العبادات، لم يكن مصونًا من الخطأ، وقد أذعنوا بأنّ الوحي في المسائل المتعلّقة بهذا العالم وبالمجتمع الإنساني قد يخطأ. فما ذكره القرآن حول الحوادث التاريخيّة، سائر الأديان وسائر المواضيع العلميّة الأرضيّة لا يلزم أنْ يكون صحيحًا بالضرورة، ويستدلّ هؤلاء المفسّرون في الغالب أنّ هذه الأخطاء في القرآن لا تخدش نبوّة النبيّ؛ لأنّ النبيّ قد هبط إلى مستوى معرفة الناس ومجتمعه وتكلّم بلغتهم»[1]. فما هو الإشكال الوارد على هذا الكلام؟

جواب السؤال الرابع

السؤال الذي يُطرح هنا، من هم هؤلاء المفسّرون الإسلاميّون الذين ينقل

(144)

عنهم سروش ويستعمل كلمة (كثيرًا) و(الأغلب) فيهم؟ إنّهم لم يكونوا سوى المستشرقين وأتباعهم أمثال رئيس القاديانيّة ومن تأثّر بهم كبعض مفكِّري مصر، إنّ سروش يُغفل كبار مفسِّري العالم الإسلامي منذ أربعة عشر قرنًا في الماضي والحاضر، ويستند إلى كلام هذه الثلّة.

ومع قطع النظر عن هذا، ما هو وجه التفرقة في الحكم بالخطأ؟ بأنْ يكون النبيّ صادقًا مائة بالمائة فيما يخصّ ما وراء الطبيعة، ولكن في المسائل العينيّة والملموسة يجانب الحقيقة؟ ومجرّد إشارة بعض المفسّرين إلى ما ذكره سروش لا يكون دليلًا على عمومية هذا الأمر. يُعدّ القرآن علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أعظم منح الله تعالى له: (وَأَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ، وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء: 113). ولكن سروش - رغم وجود هذه الآيات - يخطو خطوةً إلى الأمام ويقول: لي رأيٌ آخر، لا أتصوّر أنّ علم النبيّ أكثر من علم أهل زمانه فيما يخصّ الأرض والكون وجينات الإنسان، وهو لم يمتلك العلم الذي نمتلكه اليوم، وهذا لا يخدش بنبوَّته؛ لأنّه كان نبيًّا ولم يكن عالمًا[1].

ويظهر أنّ استدلال سروش على تخطئة الوحي، يبتني على بشريّة بعض جوانب تكوّن الوحي؛ لأنّه يجعل البشريّة ملازمةً للخطأ، ولكن حتى لو قبلنا أنّ مجرّد مضمون الوحي أُلقي إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، لم ينتج هذا الأمر منطقيًّا خطأ النبيّ في تبديل المضمون إلى ألفاظ وكلام، نعم صحيح أنّ الإنسان يجوز عليه الخطأ، ولكن لا يمكن تفسير (جائز الخطأ) بـ (واجب الخطأ).

(145)

السؤال الخامس: القرآن كلام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله

يصف سروش منتقديه بمن ألبس الأشعريّة القديمة لباس التقدّس الحديث[1]. أي كما أنّ الأشاعرة ينفون العلل الطبيعيّة لما يحدث في الطبيعة، وينسبونه إلى فعل الله مباشرة، فكذلك ينسب منتقدو سروش الوحي النازل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الطبيعة، إلى ما وراء الطبيعة مع حذف وساطة الطبيعة.

يستعين سروش بمقولة الفلاسفة والعرفاء الدالة على أنّ: (الله مبدأ المبادئ، ويقع في طول العلل الطبيعية، وكلّما يحدث في العالم يكون بإذنه، وعلمه وإرادته، ويعدّ فعله)، وعندما يستند إلى هذه المقولة يكون بصدد إثبات مدّعاه من عدم وجود المنافاة بين القول بأنّ القرآن كلام محمّد، وأنّه كلام الله في الوقت نفسه[2]. ويصرّح ويقول: «إنّ محمّدًا كتاب كتبه الله، وعندما كان يقرأ محمّد كتاب وجوده وذاته، يصبح قرآنًا، وكان القرآن كلام الله. إنّ الله هو الذي ألّف محمّدًا، ومحمّد ألّف القرآن، والقرآن كتاب الله، كما خلق الله النحلة وخلقت النحلة العسل، وكان العسل نتيجة الوحي»[3]. فهل يمكن ردّ هذا الكلام؟

جواب السؤال الخامس

لا إشكال في كلام سروش عندما يجعل جميع أفعال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أفعال الله، وما نقصده نحن أيضًا من أنّ القرآن كتاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، هو أنّ القرآن كتاب الله الذي أنزله على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن:

(146)

أوّلًا: إنّ لحاظ العلل الطوليّة فيما يحدث في الطبيعة، لا يعني قبض يد الله في جميع الحوادث الطبيعيّة، كما لا يعني عدم قدرة الله على إيجاد فعلٍ في الطبيعة من دون توسّط العلل، أو بوسائل لا نعرفها.

ثانيًا: لسروش كلماتٌ أُخر تخالف قصد الجميع، كلمات تصف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكاشف، والمدرّس، والمتكلّم، والسامع، والواضع، والشارع، والمتصرّف في جميع الأمور، بنحو يلوح منها أنّ الله تعالى قد أرسل المعلِّم فقط، أمّا باقي الأمور فإنّها تدور مدار تجاربه وأعماله، فهذا المعلِّم كان يدرّس تارةً المطالب المتعالية، وقد يقيّد تارةً بتلامذة الشيطان، وقد يفرح تارةً وقد يحزن، وكان كلامه يتعالى تارةً ويتهاوى أخرى، كالنحلة التي تتغذّى من كلّ شيء، له كشوفاتٌ معنويّةٌ متعاليةُ تارةً، ويواجه أسئلةً شيطانيّةً من قبل مخاطبيه، يستعين بمعلوماته التي تصل في النهاية إلى المبادئ العالية، ومنها إلى مبدأ المبادئ وغاية الغايات الذي لا تسقط ورقةٌ إلّا بإذنه، ولا تعطي أيّ نحلةٍ عسلًا إلّا بوحيه.

إنّ سروش يجعل القرآن حصيلة حالات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الخاصّة، ولكن يشير إلى سورة تبت (سورة المسد)، ويقول إنّ دلالة تلك السورة وبلاغتها وعباراتها لا تكون أعلى من سائر كلام النبيّ غير القرآني. فكلام سروش هذا يدلّ بوضوحٍ على محوريّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في خلق القرآن وتأثير حالاته النفسيّة من فرحٍ وحزنٍ على القرآن. فهل هذه الكلمات - مع قطع النظر عن أيّ تبرير- تساعد على إيمان الناس لا سيّما الشباب أم أنّها تنسف إيمانهم؟

(147)

السؤال السادس: الشعر بوصفه إبداعًا فنيًّا وسيلةٌ لفهم الوحي

يعتقد سروش بأنّنا ولأجل التعرّف على ظاهرة الوحي الخفيّة، يمكننا الاستعانة بظاهرة الشعر - الأكثر معروفيّة - أو بالإبداع الفنّي بشكلٍ عامٍّ لفهم الوحي بشكلٍ أفضل. وهذا يقتصر على مقام التصوّر فقط. ألم يقل الغزالي بأنّنا لأجل فهم ظاهرة الوحي، يمكننا أنْ نستعين بظاهرة الوسوسة الشيطانيّة؟ لأنّ (الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ) (الأنعام: 21).

فالشعر اليوم بمنزلة إبداعٍ فنّيّ متعالٍ يختلف تمامًا عمّا كان يجري في ذهن أمثال أبي جهل وأبي لهب، فالاستعانة بالفنّ لتقريب معنى الوحي لا يقلّل من شأن القرآن ولا يعلو من شأن أبي لهب[1]. وبعد هذا البيان يرى سروش أنّ استخدام مصطلح (الفن المرموز) أفضل ممّا استعمله العلّامة الطباطبائي حيال الوحي أي (الشعور المرموز)[2]. فما هي نقاط الخلل في كلام سروش هذا؟

جواب السؤال السادس

إنّ الوحي من الألفاظ المشتركة، أي التي لها أكثر من معنى، ونهتمّ هنا بذكر معنيين له: أحدهما بمعنى القوّة المعرفيّة الخاصّة التي يمتلكها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، ويتلقّى بها رسالة الله تعالى - وهذا ما يقصده العلّامة الطباطبائي عند استخدامه مصطلح (الشعور المرموز) للوحي - والمعنى الآخر يُعنى به الرسالة نفسها ومحتواها. فيرى العلّامة الطباطبائي أنّ الوحي بما أنّه غير مجهولٍ لنا بنحوٍ مطلق، ومن جهةٍ أخرى لا يمكن تبيين هذه الظاهرة للإنسان بشكلٍ تامّ، فهذان الأمران يجعلان الوحي شعورًا

(148)

مرموزًا[1]. ولكن يعتقد سروش أنّ الوحي نوعٌ من الإبداع الفنّي المتعالي كما يستخدم اليوم الشعر كفنٍّ إبداعيّ متعال.

إنّ المقارنة بين الشعر والفنّ من أخطاء سروش، ويمكن توجيه نقدين لما ذكر:

أوّلًا: كيف ادّعى سروش أنّ الشعر اليوم يعني الإبداع المتعالي؟

ثانيًا: حتى لو سلّمنا بأنّ الشعر إبداعٌ متعالٍ، ستتضاعف المشكلة؛ لأنّ الإشكال الرئيس ليس الإبداع المتعالي أو غير المتعالي، بل المشكلة هي الإبداع نفسه.

إنّ الوحي لا علاقة له أبدًا بإبداع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، مضافًا إلى أنّ هذه الرؤية لا تتوافق مع القرآن والفكر الإسلامي، فلو كان كان النبيّ يمتلك تلك القوّة الإبداعيّة، فمعناه تدخّل تلك القوّة في تكوين مضمون الوحي، ولو جعلنا الوحي فنًّا مرموزًا، أو إبداعًا متعاليًا لارتبط أيضًا بإبداع النبيّ.

والمشكلة الأساسيّة بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والكفّار كانت هذه، أي الإبداع، إذ كانوا يرون الوحي كلامًا غريبًا وعجيبًا وحصيلة قوّة إبداع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، ولا فرق عندهم في تعالي هذا الإبداع أو عدم تعاليه. بمعنى أنّهم لو اعتقدوا أنّ موجودًا متعاليًا - كأحد الأصنام أو الله تعالى- قد منح هذا الإبداع للنبيّ، لم تنحلّ المشكلة أيضًا.

وليُعلم أنّ أيّ واحدةٍ من المقولات الفنيّة أو الشعريّة في الرؤية الجديدة اليوم لا تحمل ثقلًا معنائيًّا معرفيًّا، وتحدث إشكالاتٍ أخرى عند استعمالها في الوحي. والنقطة المهمّة التي تهدم بنيان سروش تمامًا أنّ الوحي في القرآن نوعٌ من الارتباط بالغيب، والاطّلاع على الغيب لا يتناسب لا مع القوّة الشاعريّة ولا الفنّ، فالنبيّ يطّلع على الغيب وهذا الاطّلاع يحمل في طيّاته بُعدًا معرفيًّا.

(149)

السؤال السابع: الاستعانة بالمولوي

يعتقد سروش أنّ الاستشهاد بأبيات المولوي استشهادٌ بتجارب عارفٍ حكيمٍ له موقعٌ متعالٍ وراسخٌ في العرفان الإسلامي، وأنّ الاستشهاد بشعره لا يعني التوسّل بالشعريّات، والمولوي ناظم للمثنوي المعنوي وليس شاعرًا. فيعرف روح القدس، ويرى الإنسان بمنزلة بحرٍ عميقٍ له بطونٌ تتناغم هذه البطون بعضها مع البعض، ويرى أنّ هذه المناجاة هي أسرار روح القدس، وحتى الكلام في المنام مع الآخرين يجعله كلامًا مع النفس، ومن هنا يفتح نافذةً لفهم الوحي والإلهام، وكأنّما يحصل تلاطمٌ في شخصية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عند تلقّي الوحي، حيث يتكلّم الجانب المتعالي فيه مع الجانب الداني، وهذا كلّه يحدث بإذن الله وبعين الله الحاضر في كلّ مكانٍ ومحيطٍ بكلّ شيء. فهل يوجد إشكالٌ في المنهج الذي يذكره سروش هنا[1]؟

جواب السؤال السابع

من أهمّ الإشكالات الواردة على رؤية سروش ابتناؤها على مغالطة حذف السياق، فالآراء المختلفة التي يشير إليها سروش، وما يتوسّل به من كلمات الشعراء وعرفاء الإسلام، يكون له معنى في سياق سائر معارفهم، أيّ أنّ منظومة فكرهم تُعدّ سياقًا يكسي المعنى على كلماتهم. فعندما نستلّ جملةً من سياقٍ خاصٍّ ونستعملها في سياقٍ آخر سوف تُنتج معنى آخر، فما يستند إليه سروش من كلام الآخرين يُعدّ من هذا القبيل.

إنّ منظومة المولوي وحافظ وسائر الشعراء الكبار الفكريّة تعود إلى القرآن،

(150)

فعند وجود الأصل لا بدّ من الرجوع إليه وعدم الرجوع إلى الفرع، وعند إرادة فهم متشابهات أشعارهم لا بدّ من الرجوع إلى محكمات القرآن، فلو سكت القرآن عن التحدّث عن الوحي، لم يتمكّن المولوي وغيره فكّ معناه المغلق، فسروش لم يستعمل أشعار المولوي في سياق تفسير آيات القرآن، والحال يلزم فهم أشعاره في هذا السياق، وبعد مراجعة آثار سروش يلوح منه أنّه وخلافًا لمدعاه لم يكن يعرف القرآن كمعرفته لأشعار المثنوي المعنوي، ومعرفته للقرآن تقتصر على معرفة اختلاف بعض المفسّرين مع بعض في بعض الآيات. فتحليل الوحي من دون الالتفات إلى معطيات القرآن كالرمي في الظلام وكبناء الفكر على بيت العنكبوت.

السؤال الثامن: بشريّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

يعتقد سروش أنّ الشيخ السبحاني لم يطّلع على ما قاله سروش حول إلهيّة نفس النبيّ؛ لذا زعم أنّ بشريّة النبيّ تعني الهوى والكمال. ثمّ يضيف قائلًا: على افتراض أنّ وحي النبيّ كان بشريًّا مائة بالمائة وغير إلهي، فمع هذا لا يمكن استنتاج نشأته من الهوى، والحال أنّ هذا الوحي بشريٌّ مائة بالمائة وإلهيٌّ مائة بالمائة، أي أنّه ما وراء الطبيعة والمقدّر بأقدار الطبيعة بالوقت نفسه، وما وراء التاريخ والمقيّد بالتاريخ في الوقت نفسه، وأمر منه نُزّل إلينا[1].

الطبيعة وإنْ كانت إلهيّة، ولكن مع هذا فانّ كلّ شيءٍ في الطبيعة طبيعيّ، وكلّ شيءٍ في البشر بشريّ وكلّ شيءٍ في التاريخ تاريخيّ؛ ولذا فإنّ وجود النبيّ في تكوين الوحي موضوعيٌّ لا طريقي، فالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بشرٌ نُزِّل عليه القرآن وجرى منه.

(151)

وذكر سروش أيضًا أنّ أسهل تصوّرٍ إنّما هو تصوّر الفلاح والشجرة، فالفلّاح يزرع البذرة والشجرة تثمر الفاكهة، فكلّ شيءٍ في الفاكهة - من اللون والطعم والفيتامينات - مرهونٌ بوجود الشجرة، نعم إنّ زرع الشجرة وإثمارها إنّما هو بإذن الله، ولا يتردّد الموحّدون في ذلك، بل أنّ وجود الشجرة عين أمر الله، وإذنه، وهذه الأمور ليست كالأمور الاعتباريّة حيث الآمر شخص، والمنفّذ شخص آخر. فما هو النقد المتوجّه إلى هذه النظريّة؟

جواب السؤال الثامن

إنّ القرآن الكريم يخالف نظريّة سروش هذه بوضوح، إذ لم يرسم أيّ دورٍ موضوعيّ للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يجعل كلام الله ثمرة الشجرة النبويّة، بل طبقًا للقرآن فإنّ الله يُنزل الوحي من دون أي تصرّفٍ وتدخّلٍ لأفكار النبيّ البشريّة، ويلقيه على لسانه:

(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا) (الشورى:7).

(إِنّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيّا لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف:2).

(وَأُوحِيَ إِلَيّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ) (الأنعام: 19).

(قُلْ إنّما أَتّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيّ مِن رَبِّي) (الأعراف: 203).

(وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ) (طه: 114).

(وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (النساء: 82).

يصرّ القرآن على صيانة الوحي الإلهي من أيّ نوعٍ من الامتزاج بكلام غير الله، حتى روحيّات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الظاهرة والمتعالية، والحال أنّ سروش يصرّ على عكس هذا.

(152)

كانت إشارة الشيخ السبحاني تعليقًا على ما قاله الكاردينال جون يوس تووان، مسؤول الحوار مع المسلمين في الفاتيكان حيث قال: «إنّي غير مستعدٍ للحوار الدينيّ مع المسلمين؛ لأنّهم يؤمنون بشيءٍ لم نؤمن به، إنّهم يقولون أنّ الوحي الإلهي نزل على قلب رسول الله بشكلٍ صافٍّ ومن دون أيّ تدخّلٍ بشري، ثمّ جرى على لسانه ووصل إليهم من دون تدخّلٍ أيّ شيءٍ فيه». إنّ نظريّة سروش القائلة بأنّ الوحي الإلهي ثمرة الشجرة النبويّة، تُخرج الوحي عن صفاته ونقائه، وتصبغه بصبغةٍ بشريّةٍ وإنْ كان الله تعالى هو غارس تلك الشجرة.

فإذا أصبح الوحي الإلهي ثمرة شجرة النبيّ الطيّبة، يعني هذا أنّ لشخصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الدور الفاعلي والقابلي للوحي، ولو صحّ هذا فلماذا يخاطب القرآن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إنّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وقُرْآنَهُ * فَإذا قَرَأْناهُ فاتّبِعْ قُرْآنَهُ * ثمّ إنّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (القيامة: 16-19).

فإذا كانت المعاني من الله والقالب من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، فلماذا النهي عن العجلة في قراءة القرآن؟ ولماذا الأمر بمتابعة تلاوة جبرئيل؟ فلو كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول بما يتلقّاه من الوحي باختياره وعلمه فلماذا الاستعجال في القراءة؟ ولماذا يأمره القرآن بمتابعة جبرئيل؟ إنّ التمعّن في هذه الآيات يدلّ على أنّ الوحي بنقائه ومفاهيمه وألفاظه - التي تعدّ عند الحكماء نوعًا من تنزّل الغيب إلى الشهود - قد نزل على قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، وجرى على لسانه ولم يؤثّر أيّ أحدٍ على فاعليّة القرآن. فهل يصح - بعد لحاظ هذه الآيات - القول بوجود الأثر الفاعلي للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في القرآن؟!

إنّ حاصل هذه النظريّات - حتى لو صدرت بنيّةٍ حسنة - مساعدةُ من يحاول التقليل من شأن الوحي؛ ليصطبغ شيئًا فشيئًا بالصبغة البشريّة، للقيام بإدراج

(153)

آرائهم ونظريّاتهم إلى جنب كلام الوحي، ومن ثمّ التقليل من شأن الوحي الإلهي. وذلك أنّ أحدًا لم ينكر بشرية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، كما تدلّ الآية: (قُلْ إنّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيّ...) (الكهف: 110). فهو بشرٌ كسائر البشر غير أنّه يُوحى إليه.

ومن الأدلّة الواضحة على أنّ الوحي لم يكن ثمرة الشجرة النبوّة، بل كان تاجًا مرصّعًا على روح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ النبيّ كان ينتظر نزول الوحي، وعلى سبيل المثال كان اليهود يعيّرون المسلمين في صلاتهم نحو قبلة اليهود، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ينتظر نزول جوابٍ قاطعٍ من قبل الله، وكان ينتظر الوحي، كما يقول القرآن: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة: 144).

السؤال التاسع: الخطيب ومكبّر الصوت (ميتافيزيقا القرب وميتافيزيقا البعد)

يعتقد سروش أنّ الميتافيزيقا التي يقدّمها إنّما هي ميتافيزيقا القرب والوصال، أمّا ميتافيزيقا أمثال الشيخ السبحاني إنّما هي ميتافيزيقا البُعد والفراق. إنّه يعتقد أنّ التصوّر الموجود عن الله والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في أذهان هؤلاء، كأنّه تصور الخطيب ومكبّر الصوت أو المذياع، حيث يتكلّم الخطيب وينشر المذياع كلامه، أي أنّ دور النبيّ دور الطريقيّة ومكبّر الصوت والأداتيّة المحضة، فأين هذا من نزول القرآن على قلب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ كما لو زعمنا أنّ القرآن نزل على لسانه لا قلبه.

ثمّ يضيف أنّ الصورة التي يُقدّمها هو من خلال قوله تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق: 16) إنّما هو هي صورة النفس والجسم، أو بنحو أسهل صورة

(154)

الفلّاح والشجرة التي مرّت. ثمّ يقول في قبال من يخالفه: كأنّ الخطيب يتمكّن من إلقاء أيّ كلامٍ في مكبّر الصوت (من الشعر والفلسفة والرياضيات، وبأيّ لغة عربيّة أو إنكليزيّة أو صينيّة، أو غيرها)، ولكن طبقًا لتصوّري فإنّ الشجرة لا تثمر أيّ فاكهة، فشجرة التفاح تثمر التفاح لا الكرز، والقول بأثمار الشجرة لأيّ فاكهةٍ يُعدّ من الأشعريّة المحضة، وحتّى في مثال الخطيب ومكبّر الصوت، فإنّ مكبّر الصوت يلقي بعض القيود الصوتيّة على الخطيب[1].

فهل تشبيه سروش هذا وتمثيله للوحي صحيح؟ وما هي الإشكالات الواردة عليه؟

جواب السؤال التاسع

لقد شبّه سروش اعتقاد المسلمين في الوحي الدالّ على نقائه وعلوّه من الاختلاط بالبشريّات، قد شبّه هذا الاعتقاد بالخطيب ومكبّر الصوت، ويرد عليه:

أوّلًا: هذا التشبيه غير صحيح إطلاقًا؛ إذ لم نعتقد أنّ مقام الربوبيّة ومقام الرسالة تشبه الخطيب ومكبّر الصوت، بل نعتقد أنّ الله هو المرسل وأنّ النبي هو الرسول، فالرسوليّة تبتعد عن مكبّر الصوت بفراسخ ولا يمكن عقد المقارنة والمشابهة بينهما؛ إذ على الرسول أنْ يصل في الكمالات الروحيّة والمعنويّة إلى مراتب يحوز فيها على الأُذن البرزخي فضلًا عن الأُذن المادّي كي يسمع صوت الملائكة، وتكون عينه عينًا برزخيّةً كي ترى الملائكة، ويصل من حيث القوّة الروحيّة إلى شهود عالم الغيب مع كونه في عالم المادّة، ليتلقّى الوحي من دون خوفٍ والتباسٍ، ومن دون أنْ يتصرّف فيه قيد أنملة، ويوصله إلى أتباعه، ثمّ يقوم بتبيين تلك الآيات

(155)

وتعليمها.

ثانيًا: إنّ الإشكال الأساس يعود إلى نظريّة المعرفة عند سروش لا الميتافيزيقا، إذ إنّ وضع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الميتافيزيقي يُعدّ مقدّمةً لهذا الحدث المعرفي لا نفسه. وقد ابتلى سروش في الاستناد إلى كلام الفلاسفة بالخلط بين المقدّمة وذي المقدّمة. أنّ الميتافيزيقا تكون مقدمة الوصول إلى تلقّي كلام الله، فلو لم يكن قربًا لم يتحقّق إلقاء كلام الله على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

السؤال العاشر: تأثّر الوحي بثقافة العصر

يرى سروش أنّ القرآن حصيلة الظروف الزمانيّة التي عاشها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، ويلزم عند ترجمته وتفسيره في زمانٍ ومكان آخرين مراعاة المنهج المتّبع عند ترجمة الأمثال من ثقافة خاصّةٍ إلى ثقافة أخرى[1].

ويعتقد أنّ كلام الفلاسفة فضلًا عن كلام العرفاء يؤيّد هذا الأمر، أليس يقول الحكماء – لا سيّما ملّا صدرا- إنّ كلّ حادثٍ مسبوقٌ بمادّةٍ ومدّة، أي كلّ حادثٍ يتولّد في ظروفٍ زمانيّةٍ ومكانيّةٍ خاصّة، فحادثة الوحي النبوي ولدت أيضًا في ظروفٍ مادّيّةٍ وتاريخيّةٍ خاصّة، ولها المدخليّة التامّة في تكوّنه، وتكون بمنزلة علّة الوحي الصوريّة والماديّة. ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ الأمر أعمق من موضوع اللفظ والمعنى، فإنّ القصّة هي قصّة الصورة وعدم الصورة، واللفظ إحدى الصور. والخلاصة أنّ ما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله يتأطّر بحدوده العلميّة والوجوديّة والتاريخيّة

(156)

والخصال وغيرها، ولا مناص لأيّ مخلوقٍ منها[1].

هل استخدم سروش هذه القاعدة الفلسفيّة هنا بشكل صحيح أم لا؟

جواب السؤال العاشر

لقد طبّق سروش القاعدة الفلسفيّة القائلة: (كلّ حادثٍ زمانيّ مسبوقٌ بالمادّة والمدّة) على الوحي، واستنتج أنّ الوحي الإلهي لمّا كان حادثًا فلا يشذّ عن هذه القاعة، أي أنّ حادثة الوحي المحمّدي حدثت في شرائط مادّيّةٍ وتاريخيّةٍ خاصّة، ولهذه الظروف مدخليةٌ تامّةٌ في تكوّن الوحي.

ونقول في جوابه:

أوّلًا: إنّ تحقّق ظاهرة الوحي بحاجةٍ إلى استعدادٍ نفسيّ وتهيّئ من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، ولكن جميع هذه الأمور تعدّ مقدّمة نزول الوحي، ولم تكن الوحي ذاته، إنّ هذه الأمور تتحقّق في أفقٍ زمنيّ، ولكن الوحي يحصل في أفق ما وراء الزمان.

ثانيًا: إنّ هذا الكلام مستبعد تمامًا من مؤلّف كتاب (نهاد نا آرام‌ جهان‌)؛ لأنّ القاعدة المذكورة - بشهادة البرهان وكلمات الحكماء أمثال صدر المتألّهين والمحقّق السبزواري وغيرهما - تخصّ الحادث المادّي ولا علاقة لها بالمجرّدات، لا سيّما مقولة العلم والمعرفة وأعلى منهما مسألة الوحي الإلهي، فسروش قد طبّق هذه القاعدة على المجرّدات، واستنتج ما يحلو له.

(157)

السؤال الحادي عشر: الخطأ في القرآن وعلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

يعتقد سروش أنّ المقصود من الخطأ في القرآن هو ما يعدّه العرف البشري خطأً، وهو التعارض مع ما وصل إليه العلم البشري، ويعتقد أنّ القرآن لم يبيّن تعليم الله تعالى النبيّ جميع العلوم، ولم يدّع النبيّ ذلك أيضًا، ولم يتوقّع أيّ أحدٍ علم النبيّ بجميع الروحانيّات والإلهيّات والطبّ والرياضيات والموسيقى والفلكيّات، كما أنّ القرآن يقول أيضًا: (وَعَلّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) (النساء: 113). ولم يقل: علّمك كلّ ما لم تكن تعلم، أي كما يقول المناطقة إنّ القضيّة المهملة في قوّة الجزئيّة. مضافًا إلى أنّه يأمر النبيّ بقوله: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)(طه: 114).

يعتقد سروش أنّ من يقول بأنّ علم النبيّ الرياضي والطبيعي والدنيوي - عدا العلم الديني والأسرار الربوبيّة والملكوتيّة - متساوٍ مع علم أهل زمانه، لم يكن مجانبًا للصواب، أو على الأقل لم يتكلّم بما يخالف ضروريات الدين[1].

فما تقولون في الردّ على نظريّة سروش هذه؟

جواب السؤال الحادي عشر

أوّلًا: بخصوص قوله تعالى: (وَعَلّمَكَ مَا لَمْ تَعْلَمُ) نقول إنّ عموم مفسرّي الشيعة وأهل السُنّة قد فهموا من الآية الامتنان الإلهي وكثرة علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، ولم يفهم أيّ واحدٍ منهم محدوديّة علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. فهناك ثلاث مساحاتٍ أساسيّةٍ ذكرها مفسِّرو الشيعة والسنّة بخصوص ما وهبه الله تعالى من العلوم والمعارف للنبيّ، وهي:

(158)

1- العلم الديني.

2- العلم الدنيوي.

3- العلوم الميتافيزيقيّة.

وقد ذهب بعض المفسّرين كالعلّامة الطباطبائي إلى تلازم هذه الآية مع عصمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المطلقة، يرى العلّامة أنّ هذا العلم لم يكن من سنخ العلوم العادية والمتداولة، بل لا بدّ من عدّه علمًا لَدُنيًّا، كما أنّ هذا العلم غير إنزال الكتاب، وإنْ كان عن طريق الوحي. والخلاصة أنّ للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نوعًا من العلم الإلهي يعينه في الأمور الشخصيّة والإجابة على مسائل الناس. كما يرى العلّامة أنّ العصمة مرتبةٌ من العلم تصون الإنسان من ارتكاب الذنب، وعليه فإنّ الغرض من الآية أنّنا وهبنا لك العصمة بهذا العلم[1]. ومن العجب أنّ سروش كيف فهم من الآية المذكورة محدوديّة علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثانيًا: إنّ قوله تعالى: (قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) قسمٌ من الآية التي تأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدم الاستعجال في تلقّي الوحي من جبرئيل، وعدم تلاوتها قبل اكتمال نزولها. فبناءً على هذا الأمر طُلب من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنْ يسأل الله تعالى ازدياد العلم.

فمع لحاظ كلام العلّامة وظاهر الآية، يكون الغرض من الآية طلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله زيادة العلم بسبب نزول الآيات، وفي المآل يكون طلب ازدياد العلم ناظرًا إلى الأسرار التي تنكشف له جرّاء نزول الوحي، وعليه تنصرف الآية عن طلب ازدياد العلم في ساحة العلوم البشريّة.

مضافًا إلى أنّ العلوم اللدنيّة المفاضة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الأعلى مصونةٌ من

(159)

الخطأ والخلل؛ بسبب عدم تطرّق الخطأ إلى العلم الإلهي؛ وعليه يمكن الاستفادة من هذه الآية تكامل علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في ضوء الوحي الإلهي.

ثالثًا: يقول الشيخ السبحاني لسروش: إنّ كلامك الدال صريحًا وتلويحًا على أنّ رسول الله نبيٌّ وليس عالمًا، كلامٌ مبهمٌ، فعبارة (أنّه نبيّ) دالة على رفعة المقام، وعبارة (ليس عالمًا) نفي علمه عن العلوم والمعارف البشريّة، وكأنّك لا ترى عدم علمه بهذه الأمور معيبًا.

يقول القرآن: (وَعَلّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة: 31)، فلم يكن المراد من الأسماء الألفاظ والعبارات، بل حقائق الأشياء، فالآية تدلّ على أنّ الله عرض الأسماء على آدم فاطّلع على حقائقها وأسرارها، فهل يصحّ بعد هذا عدّ خاتم الأنبياء وأشرفهم وأفضلهم جاهلًا بأبسط العلوم حتّى علوم تلك البرهة الزمنيّة؟ يقول تلميذ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المبرّز أيّ أمير المؤمنين عليه‌السلام : «سَلوني قَبلَ أن تَفقِدوني»، ومن المسلّم به أنّ كلامه لا يتعلّق بالعوالم الغيبيّة فقط، بل له عموميّة، فهل يمتاز علي عليه‌السلام بهذه الخاصية، ويفقدها أستاذه الكبير؟ (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (الصافات: 154).

رابعًا: إنّ التكامل الأحادي عين النقص، إنّ كلام سروش في تكامل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في العوالم الغيبيّة إنْ لم يكن مبالغًا فيه يكون في حدّ إثبات الكمال، يصل النبيّ إلى مرتبة يعجز جبرئيل عن متابعته، ويصل إلى القرب بحيث يقترب أكثر ممّا يُتصوّر، فكيف هذا النبيّ المتكامل في الأمور الغيبيّة يصل في مقام الشهود إلى أعلى المراتب، وتكون علومه الطبيعيّة والفلكيّة في عداد علوم العرب الجاهليّة؟ التكامل الأحادي يكون بمنزلة الطفل الذي ينمو قلبه دون أن ينمو عقله وسائر أعضائه، فلو كان علم

(160)

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في العلوم الطبيعيّة في طراز علم العرب الجاهلي فما معنى هذه الآيات؟ وهل العربي الجاهلي كان مطّلعًا على مضمونها؟

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الذاريات: 49).

(وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الّذِي أَتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ إِنّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل: 88).

(فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنّا لَقَادِرُونَ) (المعارج: 40).

هل العربي الجاهلي كان مطّلعًا على قانون الزوجيّة في الموجودات الطبيعيّة، وكل ذرّةٍ من ذرّات العالم؟ الآية الثانية تتعلّق بحركة الجبال في هذا العالم لا القيامة بدليل قوله: (صنع الله)؛ لأنّ يوم القيامة لم يكن يوم الصنع البتّة، بل يوم الدمار والخراب، فهل العربي الجاهلي كان مطّلعًا على عدد المشارق والمغارب المذكورة في الآية الثالثة؟

السؤال الثاني عشر: تفضيل رأي عمر على رأي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

يستعين سروش لإثبات محدوديّة علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بروايةٍ تدلّ على أنّ النبيّ فضّل رأي عمر على رأيه في الأسرى، فبناءً على رأي أهل السُنّة وعلى ما ورد في كتب التاريخ والتفسير أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله استشار أصحابه بعد غزوة بدر في كيفيّة التعامل مع الأسرى، فكان رأي أبي بكر إطلاق سراحهم بالفدية، واقترح عمر قتل جميع الأسرى، فالنبي بعد مدحه لرأي أبي بكر أمر بإطلاق سراح الأسرى مقابل الفدية، وبعد هذه الحادثة نزلت الآيات المؤكّدة على قتل الأسرى، فالله رجّح رأي عمر على رأي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، فنُسب إلى النبيّ أنّه قال: (لو نزل العذاب ما نجى إلّا

(161)

عمر بن الخطاب). كان يعتقد الخليفة الثاني - كما نُقل عنه - أنّ عدم التفات النبيّ إلى كلامه أدى إلى انكسار المسلمين يوم أُحد، وقد عدّ جميع علماء أهل السُنّة هذه الحادثة من مآثر عمر.

فهل يصح الاستناد إلى هذه الروايات؟

جواب السؤال الثاني عشر

أوّلًا: إن هذه الرواية عند علماء الشيعة من موضوعات بلاط الخلافة لإثبات تفضيل الخليفة الثاني على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، ولرسم صورةٍ مقبولةٍ عنه، نعم هناك من علماء أهل السُنّة من ناقش فيها.

ثانيًا: هذه الرواية تنافي عصمة النبيّ المطلقة وعدم خطئه، وتدلّ على الحدّ الفاصل بين الشيعة والسُنّة في موضوع العصمة.

ثالثًا: آيات سورة الأنفال المدّعاة لا تدلّ على التخطئة والعتب وتأييد عمر.

رابعًا: يدلّ ظاهر الوثائق التاريخيّة المنقولة عند أهل السُنّة أنّ عمر ما كان يرى للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شأنًا أكثر من الاجتهاد، وحتى بعد عزم النبيّ كان يصرّ على رأيه، ويجعل كلامه في عرض كلام النبيّ، بل حتّى أعلى منه.

خامسًا: مع لحاظ قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ) (الأنفال: 33). الدالة على أنّ وجود النبيّ مانعٌ من نزول العذاب، يحصل تعارضٌ حقيقيّ بين هذه الآية والرواية المذكورة؛ إذ إنّ ظاهر هذه الرواية أنّ العذاب يشمل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضًا، على الرغم من أنّ القرآن جعل وجوده مانعًا من نزول العذاب.

سادسًا: زعم عمر أنّ عدم أخذ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله برأيه كان سببًا في انكسار المسلمين

(162)

يوم أُحد، ولكن الوثائق التاريخيّة تدلّ على أنّه كان من الفارّين يوم أُحد، وكان ضمن المعاتبين من قبل الله، أليس الفرار من الحرب هو الذي سبّب انكسار المسلمين واستشهاد سبعين شخصًا؟

فمع لحاظ هذه الرواية وسائر الروايات التي استند إليها سروش لتأييد رأيه واستدلّ بها، يرد هذا السؤال على سروش: هل أنّه لم يحقّق في سند هذه الروايات ومحتواها؟ أو أنّه ولج في ساحة علوم الحديث بعينٍ كفيفة؟ فلو ادّعى خبرويّته في علم الحديث - كما يلوح منه ذلك - لا بدّ من سؤاله أنّه هل يسوغ إثبات نظريّتك بالتمسك بأيّ روايةٍ مجعولةٍ أو منافيةٍ لشأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ وهل يمكن الاستناد في أمرٍ تاريخيّ إلى آثار ابن عربي؟

فمجموع هذه الأمور تدلّ عند المحقّقين على ضعف كتابات سروش بنحوٍ واضح، وقلّة اطّلاعه على المصادر التاريخيّة المتقنة والأصيلة.

السؤال الثالث عشر: تعارض ظاهر القرآن مع العلوم البشريّة

يعتقد سروش بوجود تعارض - قد يصل إلى الشدّة - بين ظواهر القرآن والعلم، وقد تمسّك العلماء لحلّ التعارض بطرقٍ مختلفة، فإمّا أنْ نتمسّك بالتأويلات البعيدة كما هو الحال عند العلّامة الطباطبائي، أو نكون كالمعتزلة والسيد الطالقاني نحمل هذا التّعارض على نحو مجاراة ثقافة العرب، أو نقول كبعض اللَّاهوتيّين المسيحيّين بالتفرقة بين لغة العلم ولغة الدين، ونعدّ جميع لغة الدين استعاريّة، أو نكون كبعض المعاصرين - ولي الله الدهلوي - في عدّ محصول الوحي غير قابل للصدق والكذب، أو نجعل المعنى من الله واللفظ من النبيّ.

(163)

ثمّ يضيف سروش قائلًا أنّ الجواب مهما كان، فإنّه يعدّ هذه الآيات من العرضيّات التي لا مدخليّة لها في رسالة النبيّ ورسالة الدين الأساسيّة؛ لذا يتساهل فيها ويمرّ عليها مرور الكرام، أو يرجّح طريقة المعتزلة للفرار من تكلّفات المتكلّمين[1].

فما هي الإشكالات في نظريّة سروش حول تعارض ظواهر القرآن مع العلوم البشريّة؟ وما هو موقفنا تجاه هذا التعارض؟

جواب السؤال الثالث عشر

لا يوجد أيّ تعارضٍ بين العلم والوحي المصون من الخطأ، ولو لاح تعارضٌ مّا لا يخلو من أمرين:

  1. أنّ علم الإنسان يتكامل ويتحوّل ويتقدّم إلى الأمام، ولم يكن ثابتًا وصحيحًا مائة بالمائة. فما نعدّه اليوم علمًا ربما يتكامل غدًا أو يتغيّر، فيذهب التعارض الظاهري.

  2. أنّ فهمنا للوحي يكون فهمًا ناقصًا يؤدّي إلى توهّم التعارض، وعلى سبيل المثال طرحت نظريّة الداروينيّة أو تكامل الأنواع يومًا مّا، وارتعشت فرائص البعض، وفكّروا أنّ نظريّة تكامل الأنواع كيف تنسجم مع خلقة آدم بشكلٍ مستقلّ؛ لأنّه طبقًا لهذه النظريّة ترجع جميع الموجودات الحيّة إلى موجودٍ جزيئيّ واحدٍ تكامل على شكل أنوع. ولم تلبث مدّة إلّا وتحولَت الداروينيّة إلى النيوداروينيّة، ثمّ إلى نظريّةٍ ثالثةٍ قائلةٍ بالطفرة أو (الموتاسيون). والآن أيضًا فإنّ جميع تلك الآراء لا تتجاوز الفرضيّة، ولم تثبت علميًّا.

والآن ننقد ما ذكره سروش:

(164)

أوّلًا: يبتني استدلال سروش على قياسٍ خاطئ، لأنّ جميع الحلول والتأويلات الواردة لحلّ التعارض تشترك في كون الكلام هو كلام الله لا ذهنيّات شخص الرسول، ولكن جواب سروش يختلف عن هذه الإجابات، ولم يدخل في الإطار الإسلامي؛ إذ يعتقد أنّ هذه الآيات من عرضيّات الدين لا دخل لها في رسالة النبي، والحال أنّ أيّ واحدٍ من المفسّرين لم يجعل لهذه الآيات المدخليّة في الرسالة، بل يعتقدون بورود هذه الموارد في الكلام الإلهي، ولا بدّ من البحث عن جوابٍ لها.

وبعبارة أخرى أنّ نقطة الخلاف بين سروش وسائر المفسّرين هي أنّ المفسّرين - خلافًا لسروش - لا يعتقدون بعودة هذه الآيات إلى الشرائط التاريخيّة وثقافة العرب أو القيود الموجودة في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، بل يعترفون بأنّها كلام الله، ولا بدّ من تأويلٍ مناسبٍ لها.

ثانيًا: لقد وقع سروش في مغالطة الاشتراك اللفظي في معنى العرضيّات، حيث يعتقد أنّ العرضيّات أمورٌ لا دخل لها في جوهر الرسالة، فهذا أمرٌ لا يحلّ المشكلة هنا، بل يلزم على سروش جعلها عرضيّةً بمعنى الاتّفاق أو القابلة للحذف، أنّه وصل من العرضي بالمعنى الأوّل إلى العرضي بالمعنى الثاني، أي من عدم مدخليّتها في جوهر الرسالة إلى لزوم تركها جانبًا، والحال لا يمكن الوصول إلى هذا الاستنتاج.

ثالثًا: لو قبلنا كلام سروش وجعلنا الآيات عرضيّة، يُطرح السؤال عن صدق هذه الآيات أو كذبها، أو كونها تقبل التأويل؟ وعند الإجابة يُرجعها سروش إلى شخصيّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، ويعدّها ضمن جانبه البشري، وبعبارةٍ أخرى بما أنّه لا يتحمّل عناء تأويلها يلوح منه نسبتها إلى الكذب (والعياذ بالله)، الذي تورّط به النبيّ من حيث لا يشعر.

(165)

فمع قطع النظر عن تعارض هذه الرؤية مع القرآن، وإغفالها عصمة النبي، يُطرح هنا سؤال عن سبب اتجاه سروش نحو التكذيب بدل التأويل للوصول إلى صدق الآيات؟ فلا شكّ في أنّ الأصل الأوّلي في تفسير كلام الغير هو الصدق إلّا إذا قام الدليل على الكذب. فسروش عند مواجهة التأويل أو التكذيب، اختار الشق الثاني من دون تقديم أيّ دليل.

إنّ مشكلة سروش الفلسفيّة لم تكن اعتماده على الفلسفة الجديدة - فيما لوعثرنا على مبانٍ فلسفيّةٍ أساسيّةٍ عنده - بل إنّ مشكلته العجلة الفلسفيّة والنظرة الإفراطيّة في تحليل الوحي. فالفلسفة الجديدة لم تكن فلسفةً واحدة، بل إنّها مجموعةٌ كبيرةٌ من الفلسفات، ينبغي للمحقّق عدم تبنّي إحداها إلّا بعد الفحص الصحيح.

تحليلٍ ونقدٍ مسألة السماوات السبع

ذكر المفسّرون تفاسير مختلفةً حول مسألة (السماوات السبع)، ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ القرآن عندما يتكلّم عن سبع سماوات، يجعل كلّ ما يشاهده الإنسان ضمن سماء الدنيا كما يقول: (وَلَقَدْ زَيَّنّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ...) (الملك:5)، فالسماوات الستّ الأخرى، لم تكن بمنظار الإنسان، عسى أنْ تتقدّم العلوم وتكشف تلك السماوات. ومن جهةٍ أخرى يجعل القرآن عالم المادّة لا سيّما العوالم العليا في توسّعٍ مستمر، أي يُضاف بشكلٍ مستمرٍ على عرض الكون وطوله، وإنْ لم يكن ذلك محسوسًا، كما في قوله تعالى: (وَالسّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنّا لَمُوسِعُونَ) (الذاريات: 43) فمع لحاظ هاتين الآيتين، لا يكون عدم اكتشاف العلم لأكثر من سماءٍ واحدةٍ دالًا على نفي سائر السماوات.

(166)

تحليل ونقد مسألة مسّ الشيطان

يعتقد سروش أنّ من جملة أدلّة تعارض ظواهر القرآن مع العلم الحديث، أنّ القرآن يجعل الجنون بسبب مسّ الشيطان[1]. يقول سروش: «لقد توسّع السيِّد الطالقاني في كتابه «پرتوی از قرآن» عند تفسير قوله تعالى: (الّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (البقرة: 275). وقال بكلّ صراحة إنّ القول بسببيّة مسّ الشيطان للجنون من عقائد العرب في الجاهلية، وقد تكلّم القرآن بلسان القوم». وهذا ما تبنّاه أيضًا بعض المفسّرين العرب[2].

قال الشيخ السبحاني في جوابه:

أوّلًا: إنّ السيِّد الطالقاني ذكر ثلاثة احتمالات في تفسير هذه الآية: أ- مسّ الشيطان والإبتلاء بمرض الصرع والاختلال النفسي جرّاء ذلك. ب- الميكروب الذي ينفذ إلى الجهاز العصبي. ج- منشأ الوسوسة وابتعاث الأوهام والتمنيات. فبناءً على ظاهر كلامه وما ذكره من الاحتمالات، يكون الاحتمال الثالث هو رأي السيِّد الطالقاني.

فكلام السيِّد الطالقاني القائل: «بما أنّ أكل الربا يعدّ انحرافًا عن مسير الإنسانيّة والطبيعة، ويصاب المرابي بالخبط في الفكر والعمل وتترسّخ عنده صفة العدوان وسوء النظر إلى الناس، يكون قلقًا دائمًا وغير مستقرٍ ويتخبّط، وهذا ما يظهر على سلوكه الظاهري وكلامه ونظره وحركاته»[3]. فكلامه هذا يدلّ على أنّ قوله السابق

(167)

(منشأ الوسوسة وابتعاث الأوهام والتمنيات) يشير إلى هذا الأمر، ويظهر أنّ كلامه هذا يدلّ على اختياره لهذا المعنى، وعليه لا يصحّ مدّعى سروش أنّ السيِّد الطالقاني فسّر الآية بما يتوافق مع ثقافة العرب في الجاهليّة.

ثانيًا: لو افترضنا صحّة مدخليّة الشيطان والجنّ في مرض الصرع والاختلال العصبي والنفسي، فلا ينافي هذا استنادها إلى الأسباب الطبيعيّة؛ لأنّ تأثير الأسباب غير الطبيعية في الحوادث الطبيعيّة يقع في طول الأسباب والعلل الطبيعيّة لا في عرضها، كما أنّ تأثير الإرادة الإلهيّة في ظهور الحوادث التي لا يمكن إنكارها يعدّ من هذا القبيل. وعليه فإنّ العلم البشري التجريبي يحقّ له الإثبات لا النفي. فللعلم أنْ يقول إنّ العامل المادّي الفلاني يؤثّر في الجنون، فلا يُستبعد تأثير العوامل الغيبيّة في ذلك أيضًا، وكما يقول العلّامة الطباطبائي إن مدلول الآية لا يعني أكثر من أنّ بعض أنواع الجنون يستند إلى مسّ الشيطان، فاستناد الجنون إلى عللٍ كالشياطين لا يوجب بطلان العلل الطبيعيّة، بل تقع العلل غير الطبيعيّة في طول العلل الطبيعيّة لا عرضها، ومع قطع النظر عن جميع هذا، فإنّ مجموع الآية لا يدلّ على معنى واضح في مخالفة العلم حتى نقول إنّ الوحي الإلهي قد تكلّم وفق ثقافة تلك الأيّام[1].

تحليل ونقد رجم الشيطان بالشهاب

يقول الشيخ السبحاني في معرض كلام سروش القائل: «بأنّ أستاذكم العلّامة السيِّد محمّد حسين الطباطبائي يصرّح في تفسير الميزان وبكلّ صدقٍ علميّ عند تفسير استراق السمع من قبل الشياطين ورميهم بالشهب السماويّة ببطلان تفاسير

(168)

جميع المفسّرين السابقين المبتنية على الهيئة القديمة وظواهر الآيات والروايات، حيث ظهر اليوم بطلانها العيني واليقيني». فهنا يقول السبحاني: «عجبًا، ما هو الإشكال في كلام العلّامة الطباطبائي سوى أنّه قال ببطلان فهم المفسّرين، إذ لا يمكن عدّ الفهم البشري صحيحًا في جميع الموارد، مضافًا إلى أنّنا ذكرنا أنّ العلم التجريبي يحقّ له الإثبات فقط دون النفي. فموضوع رمي الشياطين بالشهب من المسائل الغيبيّة لا سيّما قد وردت كلمة (الملأ الأعلى)، وهذا المقام مقام التجرّد وأرفع من مقام المادّة قطعًا، وعليه يكون الشهاب المستعمل لطردهم متناسبًا مع ذلك المقام، ويظهر أنّ كلام العلّامة لا سيّما لحاظ قوله: (إنّ الغرض من السماء لا سيّما مع وجود كلمة (الملأ الأعلى) ربما يكون عالم الملكوت الذي هو مسكن الملائكة) يكون صحيحًا».

يقول سروش في مكان آخر: «لا أتصوّر أنّكم تقبلون صعود الجنّ إلى السماء، ورميهم بالشهب». ونحن نقول في الجواب: لماذا لا نقبل؟ أليس هو نصّ سورة الجن الصريح وهل العلم الجديد قد أنكر وجود الجنّ؟ وهل العلم الجديد أنكر وجود الشهب ورميها للجنّ؟ إنّ العلم الجديد ساكت أمام هذه القضايا، وإنْ أذعنت بعض العلوم وجود الجنّ وإحضار الأرواح ونحوهما. وحتى لو لم تقبل العلوم هذه الموارد، فإنّها صامتة أمامها.

وبما أنّ المنهج التجريبي والاستقرائي لا طريق له إلى معرفة هذه الظواهر، فما هو الإشكال لو اعتمدنا على ظهور الآية في الإذعان بوجود هذه الحقائق؟ وهل يلزم الإعراض عنها بمجرّد استبعاد العلم الجديد لها؟ وهل الاستبعاد يحلّ محلّ الاستدلال؟

نحن نذعن بأنّ بعض المفسّرين قدّموا تفسيرًا علميًّا لبعض الآيات، ونحن

(169)

نتساءل من وجهة نظر منهجيّة ونقول هل هذه التفاسير صحيحة أم لا؟ وعلينا أن نبحث عن معيارٍ منطقيّ عن زمن إمكان تقديم تفسيرٍ علميّ ممنهج، فهل التفاسير غير المنضبطة التي يقدّمها البعض تكون دليلًا لنكون مثلهم؟ فتاريخ العلم يصف لكم هكذا حالات، ولكن منطق العلم لا يجوّزها.

تحليل ونقد تأويل أجنحة الملائكة

من أهمّ الأسئلة التي تُوجّه إلى سروش: مدى استمرار تأويلاته؟ هل لها حدّ أم لا؟ إنّ المفسّرين والفلاسفة الذين قاموا بالتأويل - كابن رشد وملّا صدرا - يعتقدون بعدم جواز تأويل آيات القرآن، إذ لكلّ كلمةٍ في القرآن معنى ذاتيّ وجوهريّ لا بدّ من حمل الآيات عليه لا على المصاديق المتعارفة والمعروفة الموجودة في أذهاننا عن تلك المعاني والمفاهيم. وعلى سبيل المثال أنّ اليد والوجه لهما معنيان جوهريّان لا بدّ من نسبتهما إلى الله.

إنّ ملّا صدرا يخالف التأويل بشدّة، وإنْ قام به في بعض الأحيان، لكنه يقدم معيارًا لذلك التأويل، وهو أنّ ظاهر الآيات إذا لم يتوافق مع الأدلّة القطعيّة العقليّة، نتمكّن من ترك ظاهر الآية وحمل معنى آخر عليها من خلال الاستعانة بالدلائل العقليّة اليقينيّة. وقد ذكر ابن رشد مبحث التأويلات في فصل المقال، وهذا هو معيار باقي المفسّرين والفلاسفة والمعتزلة وكلّ من يقول بالتأويل، أي إذا امتلكنا دليلًا قطعيًّا يقينيًّا وعقليًّا، يجوز لنا رفع اليد عن ظاهر الآية وحملها على معنى آخر يخالف ظاهرها.

لا يحقّ لسروش أنْ يفتح باب التأويلات في جميع القرآن من خلال ذكر مثال أو

(170)

مثالين عن الحكماء والمفسّرين، إذ كان هؤلاء يمتلكون المعيار عند التأويل، فلنسأل سروش عن معياره؟ فلو قبل معيار الفلاسفة، أمكنه القيام بالتأويل إذا خالف ظاهر الآية الدلائل العقليّة اليقينيّة. علمًا بأنّه لا يوجد تعارضٌ بين الأدلّة العقليّة والمعاني الظاهريّة للنار والحور والصراط والميزان؛ وعليه يمكن انتساب المعنى الظاهري لهذه الكلمات الواردة في آيات القرآن.

فلو لم يمتلك سروش معيارًا للتأويل، يلزمه شمول التأويل لجميع القرآن، ويمكن حينئذٍ القيام بتأويل حتى الآيات الدالّة على وجود الله والآخرة، أي يمكن ادّعاء أنّ المعنى الظاهري للآيات التي تتكلّم عن الله نحو قوله: (اللّهُ لَا إِلَٰهَ إِلّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) أو (قُلۡ هُوَ ٱللّهُ أَحَدٌ) لم تكن مرادة، بل لها معانٍ باطنيّة وتأويليّة، والمقصود من الله مثلًا مجموعة من المحاسن لا الوجود الخارجي الواجب الوجود والجامع لجميع الصفات الكماليّة. أو عندما يتحدّث القرآن عن وجود الآخرة والجنّة والنار، فلم يكن المقصود وجود حياةٍ جديدةٍ لنا بعد الموت، بل المقصود أنّ الإنسان لو كان حسنًا وخلوقًا ومؤدبًا في هذه الدنيا، لأصبحت حياتنا الدنيويّة جنّة، ولو كنّا في عناد وتباغض لصارت دنيانا جحيمًا، فالجنّة والنار تكونان جنّة ونار دنيويّينِ لا علاقة لها بتلك الدنيا وتلك النشأة. وبعبارةٍ أخرى سوف لا يكون لأيّ آيةٍ معنى معرفي، ولو كان لها معنى وحكاية عن الواقع ونفس الأمر لا يكون دليلًا على الصدق والمطابقة مع الواقع. وهذا إشكالٌ مهمٌّ آخر يمكن الإشارة إليه في مبحث القبض والبسط ونظريّة المعرفة الدينيّة لا بدّ من الإلتفات إليه.

(171)

تحليل ونقد حديث تأبير النخيل

يقول الشيخ السبحاني إنّ حديث تأبير النخيل رُوي في صحيح مسلم، وللمحقّقين كلامٌ في هذا الحديث، ولي بيانٌ حوله في كتاب (الحديث النبويّ بين الرواية والدراية) يظهر أنّه لم يصل إليكم [في خطابه للدكتور سروش] فهل مضمون هذا الحديث يتطابق مع حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فلنفترض أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن نبيًّا ولا عالمًا، ولكنّه تربّى وعاش في منطقةٍ مليئةٍ بالنخيل والتمور، فهل يُعقل أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يجهل هذه السنّة الإلهيّة القديمة التي لا تخفى على عرب الجاهليّة مضافًا إلى ما يرد عليه من نقود نشير إليها فيما يلي:

أوّلًا: هذه الرواية وردت في مصادر أهل السُنّة فقط، ولم تتطرّق إليها المصادر الشيعيّة، وقد فهم أهل السُنّة من هذه الروايات عدم جواز الرأي والاستحسان في الأمور الدينيّة فقط، أمّا باقي الأمور الدنيويّة فلا ضير فيها. فهذه الرواية ونحوها من الروايات تؤكّد على عدم عصمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الخطأ والنسيان، وتجوّز الصغائر عليه في غير الأمور الدينيّة كما تُشعر هذه الروايات أنّ النبيّ كان يتدرّج في معرفته بالعلوم، وكان يضاف على علمه بتقدّم عمره، مضافًا إلى دلالاتها على تساوي علمه مع علم سائر الناس من بني عصره أو أدنى منهم.

ثانيًا: إنّ استناد ابن عربي الى هذه الرواية إنّما هو لإثبات قاعدة استماع الإنسان الكامل إلى من هو أدنى منه مرتبةً وأعلى منه علمًا، كما أنّه يشير إلى معيار ورود الخطأ في علم الإنسان ومصونيّة العلم من الخطأ من خلال تمسّكه بهذه الرواية، فالعلم الذي ينشأ من عقل الانسان قد يصاب بالخطأ، أمّا العلم النازل من الله لا يتطرّق إليه الخطأ أبدًا؛ ولذا كان خطأ النبيّ في هذه الحكاية ناشئًا من غفلته عن مقام المراقبة

(172)

وعدم تجنّبه من إبداء الرأي من غير شهود. علمًا بأنّنا لا نقبل هذا الكلام.

ثالثًا: توجد مناقشاتٌ في هذه الرواية من وجهة نظرٍ شيعيّة، منها أنّها لم ترد في أيّ مصدرٍ من مصادر الشيعة الروائيّة وغير الروائيّة، ولم يُوثّق أيّ واحدٍ من رجالها في كتب الشيعة الرجاليّة. الأمر الآخر عدم تطابق سياق الرواية مع أحوال زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، فهل يُعقل لمن عاش أكثر من أربعين سنة في جزيرة العرب، ألّا يعلم شيئًا حول تأبير النخيل؟ مع رواج هذا الأمر حينذاك بحيث حتّى الأطفال يعرفونه ولا يخطِئون فيه، وعلى فرض عدم اطّلاع النبيّ على تأبير النخيل، فهل يُعقل لحكيم أنْ يأمر بما لا علم له به؟! ألا يكون التدخّل في أمرٍ كهذا خلاف الحكمة؟!

والأمر الآخر لماذا سأل الناسُ النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما لهم به علم. ولماذا لم يقولوا للنبيّ إنّ هذا الأمر ضروريٌّ للنخيل؟ لأنّه طبقًا لما قاله ابن عربي أنّ الإنسان الكامل إذا رأى من هو أدنى منه أكثر منه علمًا لاستمع الى كلامه.

والأمر الآخر أنّ نبيًّا يخطأ هذا الخطأ الكبير في الأمور العاديّة والطبيعيّة، كيف يكون مصونًا من الخطأ فيما هو أهمّ منها كالوحي؟ كما أنّ هذه الرواية تتنافى مع الآيات القرآنيّة الدالّة على لزوم متابعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مطلقًا، وقد قال هو صلى‌الله‌عليه‌وآله في قصةّ شماتة عمرو بن العاص من قبل قريش بسبب كتابة كلّ ما يقوله النبيّ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله: بأنّ كلّ ما يخرج من فمه فهو حقّ. ومع قطع النظر عن جميع ما ذكرناه فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبناءً على الأدلّة العقليّة والنقليّة المذكورة في محلّها، معصومٌ من أيّ خطأ ونسيان، والروايات المتعارضة إذا لم يمكن تأويلها كانت موضوعة.

فمع لحاظ ما ذُكر ذيل رواية تأبير النخيل، يظهر ضعف استدلال سروش، لا سيّما أنّه قد أخذها من كتاب الفتوحات، والحال أنّ المنهج العلمي الصحيح يحتمّ

(173)

النقل عن المصادر الأساسيّة، ولعلّه رام صرف أذهان القرّاء عن المصدر الأساس، ولكن مع هذا فإنّ هذا العمل يتعارض مع الشأن العلمي للبحوث التي تروم التنظير، مضافًا إلى أنّ سروش ليس له تتبّعٌ كاملٌ في كتب ابن عربي، إذ وردت هذه الرواية في موارد مختلفة عند ابن عربي لأغراض متفاوتة.

والأمر الأخير في نقد سروش، ألم يكن ملتفتًا إلى اللوازم الفاسدة لهذه الرواية والمشاكل الحاصلة منها؟ ألم يتمكّن من الإمعان الصحيح في علم الحديث، وعرض هذه الرواية على الأصول الكلاميّة والحديثيّة المتسالم عليها قبل نقله لها؟ إنّ الإلتفات إلى هذه الإشكالات يدلّ على أنّ سروش رغم الشأن العلمي الذي يزعمه لنفسه، يتمسّك لتمرير آرائه بأيّ شيءٍ ومن دون الالتفات إلى اللوازم المنهجيّة، حتّى بمثل هذه الروايات موضوعة.

(174)

 

 

القسم الثاني:
تبيين ونقد آراء محمّد مجتهد شبستري
المتعلّقة بالوحي

مقدّمة

لقد اختصّ القسم الأوّل من الكتاب بنقد آراء عبد الكريم سروش حول الوحي، وفي القسم الثاني نتطرّق إلى آراء محمّد مجتهد شبستري حول الوحي. إنّ مجموع ما نُشر عن مجتهد شبستري - ككتاب هرمنوطيقا الكتاب والسُنّة، نقد للقراءة الرسميّة للدين، تأمّلات حول القراءة الإنسانيّة للدين، وغيرها من البحوث المنشورة له - يكون بحكم كبرى كلّية حول التفسير والفهم، وعمدة مباحثه تعدّ تطبيقًا لهذه الكبرى الكلّية على بعض المصاديق.

يتطرق شبستري وبناءً على رؤيته التفسيريّة إلى مباحث جديدة من قبيل: الديمقراطيّة، وحقوق الإنسان، والمجتمع المدني، والتعدّديّة الدينيّة، وحقوق المرأة وغيرها من المباحث، ويسعى للقول بصحة هذه المباحث الجديدة المذكورة في العصر الحديث - سواء قُبلت أم نُقدت -، وفي المقابل تكون القراءة الرسميّة للدين الموجودة في المجتمع غير صحيحة، وعلى سبيل المثال يقول بصحة تفسير الحداثة لحقوق الإنسان أو الديمقراطيّة - أي الديمقراطيّة الليبراليّة -، وبتخطئة

(175)

المفاهيم الدينيّة الدالّة على الشورى والبيعة؛ لأنّها تتعلّق بالماضي ولا تنفع اليوم.

كما يحكم مجتهد شبستري على المساعي التي تحاول تقديم قراءةٍ دينيّةٍ للديمقراطيّة أو قراءةٍ دينيّةٍ لحقوق الإنسان بأنّها مساعٍ فاشلة، ويرى أنّ غاية ما يمكن استنباطه من القرآن والسُنّة والمصادر الدينيّة، مفاهيم عامّة وكلّية كأصل العدالة، ويلزم علينا اليوم البحث عن مصاديق العدالة في الإعلان الدولي لحقوق الإنسان، لا حقوق الإنسان المستنبطة من الفقه.

وفي الواقع يقدّم مجتهد شبستري رؤيةً تفسيريّةً خاصّة للمفاهيم الحديثة، وبين هذين الأمرين الكبرويَين والصغرويَين، له بحثٌ وسطيّ أيضًا يتعلّق بنقد القراءة الرسميّة للدين، أو بعبارةٍ أخرى القراءة الفقهيّة للدين.

يتعلق أهمّ بحثه في كتاب (نقد القراءة الرسميّة للدين) بنقد القراءة الفقهيّة للدين، ويرى أنّ القراءة الفقهيّة للدين ولدت بعد الثورة الإسلاميّة في إيران وبعد التصويت على الدستور، نعم يعتقد شبستري أنّ الدستور مبنيٌّ على حالةٍ حداثويّة، غير أنّ البعض فسّره في ضوء الفقه، وجاؤوا بقانونٍ فقهيّ وحاولوا تأسيس حكومةٍ فقهيّة، وعليه وطبقًا لرؤيته التفسيريّة يحكم بخطأ هذا الأمر[1].

إنّ أهم مباحث شبستري نظريّته التفسيريّة التي تختلف بشكلٍ جذريّ مع فهم جميع المسلمين، فهو التفت بنحوٍ تدريجي إلى لزوم حلّ إشكاليّة أخرى بعد موضوع الحكومة الفقهيّة، وهي مصدر الفقه أي الوحي والقرآن والسُنّة؛ لأنّه لو جعل الوحي - أي القرآن الذي تحدّث عن جميع الأمور الأساسيّة - كلام الله، ثمّ قام بمخالفته لكان ردًّا لكلام الله ومبارزةً له، وعليه قام طبقًا لنظريّته التفسيريّة

(176)

ببيان رؤيته حول الوحي، وذهب إلى أنّ الوحي القرآني لم يكن كلام الله، بل كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ويمكننا رسم مسيرة مباحث شبستري هكذا: يبدأ بالبحث عن الهرمنيوطيقا، ثمّ يتطرّق إلى المصاديق الحديثة، ثمّ يلتفت إلى لزوم نقد القراءة الرسميّة والفقهيّة عن الدين؛ لأنّها الأساس في نظريّات الديمقراطية الدينيّة والمنظومة الفقهيّة والحكومة الإسلاميّة، كما يرى شبستري أنّ الوحي النبويّ قراءةٌ دينيّةٌ عرضها النبيّ بوصفه بشرًا.

ولو أردنا ذكر مسيرة مجتهد شبستري الفكريّة بتسلسل منطقي، فلا بدّ من التطرّق ابتداءً إلى نظريّته التفسيريّة، ثمّ نظريّته حول الوحي، ثمّ نظريّته حول الفقه، ثمّ المصاديق التي ذكرها من قبيل الديمقراطيّة، وحقوق الإنسان وما شاكل. ولكن لم نتمكّن هنا من التطرّق إلى مباحثه المصداقيّة، ولكن سنقوم في النهاية بتحليل بحثه الأخير (كيف انهارت المباني الفقهيّة والكلاميّة).

(177)
(178)

 

 

الفصل الأوّل:
رؤية مجتهد شبستري الهرمنيوطيقيّة
والتفسيريّة ونقدها

قبل التطرّق إلى نقد مباحث مجتهد شبستري الهرمنيوطيقيّة وذكر أهم نواقصها، لا بدّ من الإشارة إلى مقدّمتين:

المقدّمة الأولى: كانت الهرمنيوطيقا إلى القرن التاسع عشر الميلادي نظريّة تفسير النصوص الدينيّة ومنهجيّة لتفسير النصوص المقدّسة. وبناءً على هذا حاول الهرمنيطيقيون بيان قواعد فهم النصّ، وبعبارةٍ أخرى كان علم الهرمنيوطيقا يعني بيان قواعد فهم النصّ.

ثمّ أصبحت الهرمنيوطيقا من القرن التاسع عشر بمعنى نظريّة فلسفيّة للمعرفة على يد الفيلسوف والمتألّه البروتستاني المعروف شلايرماخر، وكان المقصود من المعرفة والفهم في هذه النظريّة هو فهم النصوص ومعرفتها. ولكن النصّ والمتن هنا أُخذ بمعناه العام ولم يقتصر على المتون الدينيّة، بمعنى شموليّة النصّ والمتن لجميع النصوص المقدّسة وغير المقدّسة، القديمة والجديدة، المحكيّة والمكتوبة. وفي الواقع قام شلايرماخر بإعطاء منهجيّةٍ عامّةٍ لفهم مطلق المتون، لا منهجيّة خاصّة تختصّ بفهم النصوص الحقوقية أو الدينيّة.

(179)

والأمر الآخر الموجود في هرمنيوطيقيا شلايرماخر، استعانته بالمباني الفلسفيّة لفلاسفة القرن الثامن عشر، فشلايرماخر مضافًا إلى كانط قد استعان بعقلانيّة عصر التنوير وكذلك العصر الرومانطيقي في القرن الثامن عشر.

ثمّ من تكلّم بعده عن الهرمنيوطيقا من الفلاسفة، أمثال ديلتاي، وهايدغر، وغادامر، وريكور، كان غرضهم تلك النظريّة الفلسفيّة للفهم، غير أنّ كلّ واحدٍ منهم قام بتبيين النظريّة بطريقةٍ خاصّة، فاختلفت النظريّات بعضها مع بعض، ومع نظريّة شلايرماخر أيضًا.

وعلى سبيل المثال لم يكن اهتمام ديلتاي فهم المتن فقط، بل أنّ موضوعه الهرمنيوطيقي كان أعمّ من فهم المتون، إذ اشتمل على فهم أفعال الإنسان، وبناءً على هذا عُدتّ هرمنيوطيقا ديلتاي أمام منهجيّة الوضعيين - الذين تمسّكوا بالمنهج الاستقرائي والتجريبي للعلوم الإنسانيّة والعلوم الطبيعيّة أيضًا - بمنزلة منهجيّة العلوم الإنسانيّة، حيث لم يرتضِ ديلتاي منهج الوضعيّين للعلوم الإنسانيّة، بل كان يراه خاصًّا بالعلوم الطبيعيّة؛ لأنّ العلوم الإنسانيّة هي علم معرفة أفعال الإنسان، ولا يمكن اكتشاف أفعال الإنسان بالمنهج التبييني ودراسة كشف العلل؛ لأنّ أفعال الإنسان تشتمل على النيّة والقصد، ولا بدّ من لحاظ قصد المؤلّف والفاعل، ففي المتن المكتوب مثلًا ما دمنا لم نفهم قصد المؤلّف لم نفهم معنى المتن، وفي الواقع أنّ معنى المتن هو قصد المؤلّف ذاته، فمعرفة أفعال الإنسان في العلوم الإنسانيّة، منوطةٌ بمعرفة قصد الفاعل الإنساني في أفعال الإنسان، وهذا ما لا يتحصّل بالمنهج الوضعي، ولكنّه يتحصّل بالمنهج الهرمنيوطيقي.

فالهاجس الذي ذكره ديلتاي، تبنّاه بعده هايدغر وغادامر، وقد طرح هايدغر

(180)

لأوّل مرّة وتبعه غادامر مصطلح الهرمنيوطيقا الفلسفيّة، وهي تعني عندهما نظريّة الفهم الفلسفيّة، أو نظريّة فهم الفهم، والخلاصة أنّ الهرمنيوطيقا الفلسفيّة تعني البحث الفلسفي في ماهية الفهم ومعرفة أثر الخلفيّات المعرفيّة وغير المعرفيّة المؤثّرة في ولادة الفهم، أي البحث عن مدى تأثير انتظارات المفسِّر، ومسبوقاته، ومذاقاته، وأسئلته في فهم المتن المكتوب أو المحكي وفي أفعال الإنسان وحتى الظواهر الطبيعية، نعم للهرمنيوطيقا معنى خاصّ آخر، لا سيّما ما قاله غادامر في كتاب (Truth and Method) حول ما هو الفهم.

وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ تلقّي مجتهد شبستري ومباحثه حول الهرمنيوطيقا الفلسفيّة وتركيزه على هذه المباحث، لم تكن مجرّد ذكر أسئلة الهرمنيوطيقا الفلسفيّة بالمعنى الأوّل، بل يريد منها المعنى الثاني أي الهرمنيوطيقا بالمعنى الخاصّ. وهو يعتقد بلزوم متابعة غادامر في عملية فهم المعرفة الدينيّة والمتون الدينيّة.

المقدّمة الثانية: (التنويريّون النيواعتزاليّون) مصطلح أطلق على المفكِّرين المسلمين الذين أذعنوا نوعًا مّا بالهرمنيوطيقا الفلسفيّة الهايدغريّة والغادامريّة، ولقد تمسّك المفكّر المصري نصر حامد أبو زيد ومجتهد شبستري بها أكثر من غيرهما، ويلوح من كتب نصر حامد أبو زيد: مفهوم النص، ونقد الخطاب الديني، وإشكاليّات القراءة وآليّات التأويل، وتأثير هرمنيوطيقا غادامر الفلسفيّة، نعم إنّه قد تأثّر أيضًا بمن قبله من المفكّرين المصريّين أمثال الشيخ محمّد عبده، وأمين الخولي، ومحمّد أحمد خلف الله، وبعض اللغويّين أمثال سوسور. وقد حاول نصر حامد أبو زيد الاستعانة بمجموع هذه المباحث، وبيان نظريّة ماهية الفهم وفهم المتون المقدَّسة لا سيّما القرآن.

(181)

يُعدّ محمّد مجتهد شبستري المفكّر المتنوِّر الإيراني من أكثر من تمسّك بالهرمنيوطيقا الفلسفيّة الغادامريّة من أصحاب المدرسة الاعتزالية الحديثة، وقد تطرّق إليها في كتبه وبحوثه، وحاول تطبيق هرمنيوطيقا غادامر الفلسفيّة على فهم الدين والفهم الديني، وتقديم نظريّته الفلسفيّة بهذا الخصوص.

وما يميّز شبستري عن أبي زيد، أنّه مطّلعٌ على دروس الحوزة في الفقه والأصول ونظريّات التفسير لعلماء المسلمين التقليديّين، وتمكّن من الاستفادة منها في تقديم نظريّته التفسيريّة، فهو وإنْ قام بنقد نظريّة المفسّرين التقليديّين ولكنّه استفاد منها أيضًا، وبعبارةٍ أخرى يحاول مجتهد شبستري تطبيق نظريّة المفسّرين التقليديّين لخدمة نظريّة غادامر التفسيريّة، وعند بيان التعارضات بينهما يحاول الإشارة إلى المشتركات، وهذا ما لا نجده عند أبي زيد.

نظريّة مجتهد شبستري التفسيريّة العامّة

نقوم في البداية ببيان نظريّة مجتهد شبستري التفسيريّة، وفي المرحلة الثانية نقوم بنقدها. لمّا كان المفسّرون قد اهتموا بتفسير القرآن، فيجب أن يمتلكوا نظريّةً تفسيريّةً، وكذلك الفقهاء المنشغلون بعلم أصول الفقه الذي يُعدّ نظريّةً معرفيّةً. يشير مجتهد شبستري إلى هذين الفريقين، ويعتقد أنّ علماء الإسلام - سواءٌ المفسّرون منهم أم الفقهاء - لم يطّلعوا على الهرمنيوطيقا الفلسفيّة؛ ولذا لم يمتلكوا معرفةً مقبولةً وعقلائيّةً قابلةً للدفاع عن الكتاب والسُنّة[1].

وبعبارة أخرى فإنّ المفسّرين المسلمين مضافًا إلى جهلهم بالمسبوقات المعرفيّة

(182)

للمتون، لم يلتفتوا إلى الفاصلة التاريخيّة بين المؤلّفين والمفسّرين، فالمؤلّف يعيش مثلًا قبل أكثر من ألف سنة، أمّا المفسِّر يعيش في القرن العشرين[1]، كما يعتقد شبستري أنّ علم أصول الفقه الحاوي لمباحث الألفاظ وعلم الدلالة، لم يكن داعمًا للمباحث الهرمنيوطيقيّة ونظريّة الفهم الفلسفيّة[2]، أي نواجه مباحث في علم الهرمنيوطيقا ونظريّة الفهم الفلسفيّة لم يتطرّق إليها أصول الفقه. والسؤال الذي يُطرح هنا: ما هي الهرمنيوطيقا الفلسفيّة، وما هي الأمور التي تقدّمها لنا أكثر ممّا يقدّم أصول الفقه؟

أمّا الأن ولأجل التعرّف على الهرمنيوطيقا الفلسفيّة عند مجتهد شبستري، نشير إلى سبع نقاطٍ منتقاةٍ من كتبه لا سيّما كتاب هرمنيوطيقا الكتاب والسُنّة، ونقد القراءة الرسميّة للدين:

1- تذهب الهرمنيوطيقا الفلسفيّة إلى أنّ الكتاب والسُنّة لا ينطقان بمفردهما، بل يفسّران في ضوء المقبولات الفلسفيّة والكلاميّة والعرفانيّة والأدبيّة السابقة، أيّ المقبولات الخاصّة، فلا يمكن القيام بالتفسير مع خلوّ الذهن من أيّ مسبوقات[3]، وبعبارةٍ أوضح ما لم تكن هناك فرضيات خاصّة لا يمكن إنطاق المتن.

2- كما أنّ الفهم لا يمكن من دون فرضياتٍ مسبقة، ومن دون معلوماتٍ سابقة، كذلك لا يمكن من دون سؤالٍ وأسئلة؛ إذ الفهم يبدأ بشكل أساس من

(183)

السؤال، والسؤال يبتني على مسبوقاتٍ معرفيةٍ عدّة، أي للمفسّر معلومات مسبقة، وفرضيّات فلسفيّة وكلاميّة وعلميّة وعرفانيّة، وهذه الفرضيّات تكون أسئلة للمفسِّر، وبعرضها على المتن يبدأ المتن بالنطق[1].

3- لا يمكن لذهن المفسِّر أنْ يكون خاليًا من أيّ معلومات مسبقة، ولكن لا ينبغي تطبيق المتن وفق معلومات المفسِّر المسبقة[2]، أي يلزم حدوث حوارٍ بين المتن والمسبوقات المعرفيّة، ولا يصحّ تطبيق المسبوقات على المتن من جهةٍ واحدة.

4- للأديان الوحيانيّة تجربة خطاب، (أي تمّت مخاطبة الأنبياء ويعدّ هذا الخطاب من جنس التجربة الدينيّة)، ولا بدّ من فهم هذا الخطاب، وحقيقة الفهم حوار بين المفسِّر والمتن، ولا يصحّ الحوار الأحادي من طرف واحدٍ كي لا يكون فهم الخطاب الديني بمنزلة المجاهيل العلميّة[3].

والأمر المهمّ هنا أنّ الفهم يتحقّق فيما لو تحاور المفسِّر والمتن مع بعضهما، نعم لا ينبغي عند الحوار أنْ ينظر كلّ واحدٍ إلى الآخر بوصفه حقيقةً خارجيّةً كالماء وأجزائه. فالعالِم - في المجهولات العلميّة - يبحث عن كشف المجهول بمنهج التبيين والاستقراء والاختبار، ولا يكون الأمر كذلك في الحوار، ففي الكشف لا دور للمجهول في الكاشفيّة عن نفسه، ولكن في الحوار تكون الفاعليّة لكلا الطرفين في عمليّة الفهم. فالفهم في الواقع يكون حصيلة الحوار والتعامل بين

(184)

المفسّر والمتن، فضرورة الحوار بين المفسِّر والمتن يُعدّ من أركان نظريّة الفهم والتفسير عند مجتهد شبستري. كما أنّه يتطرّق إلى ماهية الأديان التوحيديّة أيضًا في معرض كلامه.

5- عرفنا أنّ الفهم يحتاج إلى مسبوقاتٍ وفرضيات، ويتكوّن منهما أسئلة، فلو لم يتم تنقيح المسبوقات والعلائق وانتظارات المفسِّر من المتن، ستكون الأسئلة غير صحيحة؛ ممّا يؤدّي إلى إجاباتٍ خاطئةٍ بطبيعة الحال، فالوصول إلى إجابةٍ صحيحةٍ بحاجةٍ إلى مواجهة المتن بأسئلةٍ صحيحةٍ كي يحدث حوارٌ صحيح؛ وعليه فإنّ فهم المتن فهمًا صحيحًا منوطٌ بعرض الافتراضات الصحيحة على المتن، وتنقيح المسبوقات والتوقّعات والعلائق بشكلٍ صحيح[1].

6- لا بدّ من معرفة مقصود المؤلِّف والمتكلِّم ومرادهما الجدّي[2]، إنّ شبستري قد استفاد في النقاط الخمس المذكورة من هرمنيوطيقا غادامر، غير أنّه في هذه النقطة يستفيد من علم الأصول. إنّ الهرمنيوطيقا المنهجيّة تقع قبل الهرمنيوطيقا الفلسفيّة؛ لأنّ الفلسفيّة تتمحور حول المفسِّر، وتقصد بالحوار حوار المفسِّر مع المتن، لا حوار المؤلِّف مع المتن، ولكن في الهرمنيوطيقا المنهجيّة نتطرّق إلى نيّة المؤلِّف وقصده. وفي أصول الفقه يتمّ الحديث عن قصد المؤلِّف ومراده الجدّي والدلالات التصديقيّة الأوّليّة والثانويّة.

يقول شبستري في هذه النقطة، يلزم على المفسِّر فحص الافتراضات المسبقة ليقف على المعاني التي كان بإمكان المؤلّف أو المتكلّم قصدها أوعدم قصدها،

(185)

أي عليه أنْ يعرف قصد المؤلّف ونيّته، ولكن قبل هذا هناك عقبةٌ من المفروضات أمام المفسِّر تحكم نيّة المؤلّف. وبعبارةٍ أخرى على المفروضات أن تبيّن المقاصد التي يمكن للمؤلِّف قصدها وعدم قصدها، أي قدرة المؤلِّف أوعدم قدرته على ذلك بحاجة إلى تحكيم وهذا التحكيم يتحصّل من خلال المفروضات[1].

ثمّ يضيف شبستري ويقول يلزم في عمليّة فهم المتن الوحياني دراسة الأحوال الثقافيّة والاجتماعيّة المصاحبة لزمن ظهور المتن الديني، أي من المفروضات اللازمة لفهم القرآن معرفة الأحوال الثقافيّة في العصر النبويّ، ولكن بعد فهم معنىّ النص الديني في ظرفه التاريخي، يلزم القيام بعصرنته لفهمه في العصر الحاضر[2].

وعلى سبيل المثال أنّ النساء في العصر النبويّ كانت لهنّ مرتبةٌ نازلةٌ أدنى من الإنسانيّة، ولكن جاء الإسلام وأعطاهنّ حقوقًا في أمور من قبيل تعدّد الزوجات، ودية المرأة، والإرث وسائر الأمور. أمّا اليوم فكيف يلزم ترجمة هذه الأمور لتكون مقبولةً في العصر الحاضر القائل بتساوي حقوق المرأة والرجل؟ فلو قلنا إنّ رسالة القرآن الأساسيّة العدالة مع النساء، لا مصاديق العدالة في العصر النبوي، فيلزم علينا تغيير مصاديق العدالة في العصر الحاضر.

7- إنّ من الصعب تشخيص إنطباق علائق المفسِّر ومفروضاته مع علائق المؤلِّف ومفروضاته لا سيّما لو كانت هناك فاصلةٌ زمنيّةٌ بينهما، بمعنى أنّ هذا التشخيص لمّا كان صعبًا، فالأفضل عدم الخوض في معرفة مفروضات المؤلِّف

(186)

وعلائقه ومتطلّباته، والمهمّ هو مفروضات المفسِّر الذي لا بدّ من تنقيحها، وكذلك معرفة أحوال صدور المتن في عصر المؤلِّف[1].

إنّ النقطة السابعة تبيّن مراد مجتهد شبستري من الفهم الصحيح وغير الصحيح، أي يبيِّن أنّ الفهم الصحيح أو غير الصحيح لا علاقة له بالمطابقة مع نيّة المؤلّف أو عدم المطابقة. فقد ذكر في النقطة السادسة لزوم معرفة مراد المؤلّف الجدّي، ثمّ أضاف: على المفسّر أنْ يبيّن من خلال مفروضاته النيات التي يتمكّن المؤلّف من إحرازها أو لا يتمكّن. ومعرفة نيّة المؤلّف تحتاج إلى مفروضات المؤلّف، ولكن بما أنّ التعرّف عليها صعب، يستنتج إمكان صحّة أكثر من قراءةٍ واحدةٍ للمتن، ويمكن نسبة تفاسير صحيحة متعدّدة إلى المتن الديني أو أيّ متن آخر، وبهذا يتم قبول التعدّديّة المعرفيّة داخل الدين والوصول إلى الحقّ النسبيّ لا المطلق[2].

يرى شبستري بإمكانيّة تعدّد الفهم الصحيح؛ لأنّ الأسئلة الصحيحة، وقبلها المفروضات المنقّحة يمكنها أنْ تتعدّد، أي يقوم المفسِّر بطرح أسئلةٍ متعدّدةٍ صحيحةٍ بمفروضاتٍ منقّحةٍ مختلفةٍ تؤدّي كلّها إلى الفهم الصحيح. وما يؤكّد عليه مجتهد شبستري لزوم تنقيح المفروضات من خلال مقبولات العصر الحاضر، وفي الحال يرى أنّ الفهم عصري ويمكن امتلاك فهمٍ صحيحٍ في كلّ عصر، نعم يلزم عصرنة المفروضات حتمًا. فلو اعتمد شخصٌ في مفروضاته المسبقة على المباحث الفلسفيّة المنقّحة من العصر الماضي، فلا قيمة لها، فلو أردنا امتلاك مفروضاتٍ فلسفيّةٍ للمتن،

(187)

فلا بدّ أن الاعتماد على المفروضات الفلسفيّة للعصر الحاضر.

وعلى سبيل المثال أنّ الهيئة البطلميوسيّة مرفوضةٌ في العصر الحاضر، فيلزم عدم مواجهة المتن بهذه المفروضات، بل يلزم التوجّه نحوه بالمفروضات العلميّة المعاصرة، وبما أنّنا نروم الحوار مع المتن، يمكن لذلك الحوار من تنقيح المفروضات، فالإنسان عند مراجعة المتن الديني مثلًا، لا بدّ أن يكشف عن توقّعه وانتظاره من المتن الديني، فلو كان انتظاره من الدين أو إحدى مفروضاته (أنّ الدين جاء لرفع حوائجنا المعنويّة لنملتك تجربةً معنويّةً) فهذا الإنسان لا بدّ أن لا ينتظر من المتن تبيين حقوق المرأة أو النظام السياسي أو الفقه الاجتماعي؛ لأنّ هذه الأمور تعدّ من توقّعاته الخارجة عن الدين، فبناءً على هذا أنّ انتظارنا من الدين يعدّ من أهمّ المفروضات التي نتوجّه بها إلى الدين، ولا يمكن للدين أن يهب لنا انتظارنا من الدين، بل لا بدّ من تنقيحه وتشخيصه خارج نطاق الدين، ثمّ التوجّه نحو الدين.

ما تمّ بيانه لحدّ الآن يتعلّق بنظريّة مجتهد شبستري التفسيريّة العامّة، وملخّصها: أنّ رؤيته التفسيريّة متأثّرةٌ كثيرًا بالهرمنيوطيقا الفلسفيّة لدى غادامر، مع إضافة عناصر محلّيةٍ داخليّةٍ عليها كعلم الأصول؛ لذا تطرّق إلى مبحث مراد المؤلِّف الجادّ، واعتقد بلزوم معرفة مراد المؤلِّف الجادّ، واعتقد أيضًا بأنّ هذا الأمر يتحقّق من خلال الاستعانة بالمفروضات المسبقة، أي أنّها تشخّص المراد الذي قصده المؤلّف أو المتكلّم أو الذي لم يقصده. كما أنّه يبني فهم مراد المؤلِّف على الهرمنيوطيقا الفلسفيّة.

تعني ماهية الفهم عند شبستري تأثير المفروضات، والعلائق، والتوقّعات وأسئلة المفسِّر في النصّ، وما دامت هذه المفروضات لم تنقّح، فلا يتحقّق الفهم الصحيح. فتنقيح المفروضات والمسبوقات المعرفيّة مضافًا إلى تأثيرها في عمليّة فهم المتن، تؤثّر على معرفة قصد المؤلِّف أيضًا.

(188)

يرى مجتهد شبستري أنّ المفروضات المنقّحة هي التي يقبلها العقلاء في كلّ زمان، فلو واجه شخصٌ المتن بمفروضاتٍ منقّحة، يحصل له معرفةٌ أو معارف متعدّدةٌ من المتن، أي لا إشكال من الوصول إلى التعدّديّة المعرفيّة، وعليه يمكن أنْ تكون أكثر من قراءةٍ صحيحةٍ في النصّ الواحد، ونسبة عدّة تفاسير صحيحة إليه، وفي الواقع يمكننا تكوين نوعٍ من التعدّديّة المعرفيّة الصحيحة داخل الدين (عدا التعدّديّة الخارجيّة). والمعرفة الصحيحة هنا لم تكن بمعنى المطابقة التامّة مع نيّة المؤلّف، بل المطابقة بالمعنى المتعارف المبتنية على المفروضات المنقّحة، التي تعيننا على معرفة المتن، ومعرفة قصد المؤلِّف.

نظريّة مجتهد شبستري التفسيريّة الخاصّة

لقد اهتمّ مجتهد شبستري في نظريّته التفسيريّة العامّة بمباحث دينيّةٍ كالوحي القرآني، ولكن هنا يسعى لبيان نظريّةٍ تفسيريّةٍ للقرآن بمساعدة نظريّته التفسيريّة العامّة. وبعد تبييننا لنظريّته التفسيريّة العامّة، نبيّن تأثّر رأيه في الوحي بهذه النظريّة، أي نسعى هنا بيان تلقّي مجتهد شبستري للوحي القرآني وفق نظريّته التفسيريّة. وخلاصة كلامه ولبّه حول الوحي القرآني هو: دلالة الشواهد المختلفة على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يدّعِ استناد معاني القرآن وألفاظه إلى الله تعالى، وبعبارةٍ أخرى ليس القرآن كلام الله، بل كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

إنّ الرؤية السائدة المجمع عليها تقريبًا أنّ القرآن من الله تعالى في لفظه ومعناه، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ناقلُ الوحي ومبيِّنُه للناس، فالنبيّ مبيّنٌ القرآن ومفسِّره، وتفسيره هذا متطابقٌ مع الواقع؛ لكونه معصومًا، ولكن يعتقد مجتهد شبستري أنّ الوحي

(189)

القرآني لم يكن من الله، لا في لفظه ولا في معناه، والنبيّ رغم تجربته القائمة على تعليم الله له، لم يدّعِ هذا المدّعى[1].

فمجتهد شبستري يذعن بوجود الله، وأنّ للنبيّ تجربةً مع الله، ولكن هذه التجربة الدينيّة هنا تكون بالمعنى الذي ذكره شلايرماخر، أي أنّ الله بصفة المعلِّم نقل إلى النبيّ الإحساس المعنوي، والنبيّ بدوره قام بتحويله إلى اللفظ والمعنى، نعم إنّ شبستري لم يدّعِ أنّ له تفسيرًا هرمنيوطيقيًّا لهذا المعنى، بل يعتقد أنّ النبيّ لم يدّعِ لنفسه هذا المدّعى بأنّ القرآن كلام الله، ويقيم شواهد عدّة لتأييد كلامه سواء من داخل الدين أم خارجه، وهذه الشواهد هي:

1- لو كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مجرّد مذياع[2]، لما أمكنه إيصال دعوته إلى المخاطبين؛ لأنّه حينئذٍ لم يتمكّن من عقد حوارٍ مع الناس؛ لأنّ الحوار يحصل عندما يتكلّم الإنسان عن نفسه، لا أنْ يكرّر كلام شخصٍ آخر[3]، والحاصل لو كان الانسان مجرّد مذياعٍ وناقلٍ لكلام الآخرين لم يحصل الحوار، ولكن لمّا كان النبيّ قد حاور الناس، وتكلّم معهم، فهو لم يكن مجرّد مذياع، بل هو مبينٌّ لرأيه وكلامه لفظًا ومعنى.

2- لو لم تكن آيات القرآن كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، فلا تتحقّق لإرادة المتكلّم الجدّية ودلالاته التصديقيّة، وبالمآل لم تتحقّق المعرفة للمخاطب[4]، أي أنّ الفهم

(190)

والمعرفة تتحقّق للمخاطب عند وجود إرادةٍ جادّةٍ لدى المتكلّم.

وقد ورد في علم الأصول دلالة الألفاظ التصوّريّة، وكذلك الدلالة التصديقيّة الأوّلّية والثانويّة، والفهم عند المخاطب يبتني على الدلالة التصديقيّة والإرادة الجادّة[1]، وعليه فإنّ المتكلّم أي النبيّ، تكون عنده إرادةٌ جادّةٌ فيما لو كان اللفظ والمعنى من عنده، وإذا لم تكن آيات القرآن من النبيّ، لم تكن ثمّة إرادة، وبعبارة أخرى لو كان النبيّ بحكم مكبّر الصوت لكان لكلامه دلالة تصوّريّة من دون دلالةٍ تصديقيّةٍ، وحينئذٍ لم تحصل أيّ معرفة للمخاطب، والحال أنّنا نعتقد بأنّ النبيّ كان قاصدًا لإيصال المعرفة من خلال الآيات التي بيّنها، كما قد تحقّقت هذه المعرفة للمخاطب.

3- إنّ هدف البعثة النبوِّية تحريك الناس وتثويرهم، فلو كان مجرّد أداةٍ نقّالة ومذياع، سوف لا يتحقّق هذا الهدف، بل أنّه يتحقّق إذا كان الكلام كلامه، وله إرادة جادّة[2].

4- لقد اتُّهم المشركون النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في عصر بعثته ــ كما ورد في القرآن ــ بالساحر والشاعر والكاهن، وهذا يدلّ على أنّ النبيّ لم يكن مجرّد ناقلٍ لألفاظ الله، بل قد حدثت تجربةٌ إلهيّةٌ لدى إنسانٍ خاصّ. وبعبارة أخرى أنّ أعداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في عصره كانوا يعتقدون بأنّ كلام النبيّ كلامه بنفسه؛ لذا نسبوه إلى السحر والشعر والكهانة، أي الكلمات التي ولدت من تجربته، وتبدّلت إلى كلماتٍ قرآنيّةٍ، فلو اعتقدوا أنّ القرآن كلام الله لما كان نسبة الشاعر والساحر والكاهن إلى النبيّ نسبةً صحيحة.

(191)

نقد نظريّة مجتهد شبستري التفسيريّة الخاصّة

لا يدّعي مجتهد شبستري أنّه قد استفاد من الهرمنيوطيقا الفلسفيّة، ولكن من الواضح اعتماده على مفروضاتٍ يستعين بها في تفسير ظاهرة الوحي القرآني، فهو يتجاهل تجميع النصوص الدالّة على التنزيل والإنزال وإرسال الوحي من الله على قلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، ويقوم بتفسير القرآن وفق مفروضاته وتلقّيه الخاص.

يعتقد مجتهد شبستري أنّ الرسالة النبويّة تعدّ رؤيةً خاصّةً وتفسيرًا للعالم وللإنسان، وقد انعكست في القرآن، أي أنّ الرسالة النبويّة نوعٌ من التفسير، فللنبيّ رؤيةٌ خاصّةٌ نحو العالم والإنسان قد انعكست في القرآن، وعليه لا يمكن عدّ محتوى القرآن أخبارًا نازلةً على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، قد قام ببيانها للناس، أو قرّرها لهم بمعيَّة التفسير. وبعبارةٍ أخرى أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد تكلّم في القرآن حول المباحث الأنطولوجيّة والأنثروبولوجيّة والإبستمولوجيّة وفق التجربة النبويّة، لا أنّ القرآن عبارةٌ عن حقائق حول الكون، فنبوّة النبيّ تفسيرٌ شخصيٌ، أو قل رؤية خاصّة للعالم والإنسان، وعليه قد قام النبيّ ببيان رؤيته للناس لفظًا ومعنى. والخلاصة أنّ القرآن لم يكن أخبارًا نازلةً من قبل الله، بل وليد رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولمزيدٍ من البيان نقول: إنّ المباحث الواردة في القرآن إمّا إخباريّة وإما إنشائيّة، والقضايا الإخباريّة والإنشائيّة قضايا تبيّن تحت عنوان (معارف القرآن) كأنطولوجيا القرآنيّة، الأنثروبولوجيا القرآنيّة والإبستمولوجيا القرآنيّة. فبناءً على رؤية شبستري لم تكن هذه القضايا أخبارًا عن حقائق كونيّة، بل هي إخبارٌ عن رؤية النبيّ الخاصّة نحو الكون وتفسير التجربة النبويّة، فما ورد من وصفٍ في القرآن عن الجنّ، والملك، والجنّة والنار، لم تكن بمعنى الإخبار عن حقائق الكون، بل هي إخبارٌ عن تجربة النبيّ ورؤيته حول العالم والإنسان.

 

(192)

والقسم الثاني من التعاليم ما يتعلّق بالأحكام العباديّة والاجتماعيّة، وهذه وليدة رؤية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضًا، التي ظهرت طبقًا للظروف الثقافيّة والاجتماعيّة السائدة آنذاك في المجتمع، وعلى سبيل المثال كانت عبادة الأصنام هي السُنّة الرائجة حينذاك، واقتضت رؤية النبيّ لحاظ تلك الظروف الثقافيّة والاجتماعيّة، واستبدالها بعبادة الله الواحد الأحد، أو أنّ تعامل الرجال مع النساء آنذاك كان كذا، ولذا حكم النبيّ بنوعٍ خاصٍّ من التعامل معهنّ، وعليه ينبغي عدم جعل قضايا القرآن النبويّ قضايا ذات معرفةٍ وقابلةٍ للصدق والكذب، أي لا ينبغي أوّلًا أنْ نتوقّع فيما أخبر به القرآن عن الكون أنْ يكون كذلك، وثانيًا ليس لأحكام القرآن العباديّة الحجيّة والشموليّة لجميع الأزمان.

ونحن نقول: لو قبلنا هذا الكلام من شبستري لم يكن لموضوع البعثة والنبوّة أيّ معنى، فلو فُقد الصدق والكذب فُقد الترجيح أيضًا، ولو فُقد الترجيح لم يكن للنبوّة والبعثة والحكمة والهداية الإلهيّة أي معنى، أي إذا كان القرار خلوّ القضايا القرآنيّة من إيصال المعرفة ومن الصدق والكذب، فما هو المرجّح لكلام النبيّ على كلام عبدة الأصنام؟ فعبدة الأصنام عبدوا وفق رؤيتهم، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضًا عبد الله الواحد وفق رؤيته.

نعم نذعن بأنّ لكلّ شخصٍ تجربةً مع الله تتولّد منها رؤيةٌ خاصّةٌ، وتجري بسببها على لسانه كلماتٌ خاصّة، ولكن لو جعلنا القرآن هكذا أيضًا، فما هو الفارق بين تجارب النبيّ وتجارب غيره؟ ولماذا نهتم بكلام النبيّ ورؤيته؟ فلو كان الأمر كما يقول مجتهد شبستري لكان جميع ما فعله المسلمون من تضحيات وجهاد وحروب لغوًا.

والخلاصة أنّ لهذه النظريّة لوازم لو أذعن بها الإنسان لأصبح مادّيًّا، ولم يبق

(193)

شيءٌ باسم الدين، وبعبارةٍ أخرى لا فرق بين لوازم كلام مجتهد شبستري مع لوازم كلام من لم يعتقد بأيّ عقيدةٍ دينيّةٍ وكان كافرًا. إنّ المشركين ومخالفي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أطلقوا عليه لقب الساحر والشاعر والكاهن، ومخالفيه الجدد جعلوا منشأ الدين العوامل النفسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة ونحوها، وقد زاد مجتهد شبستري عبر المباحث الهرمنيوطيقيّة في تشويش الأمر بنحوٍ أكبر، وجعل منشأ الدين عوامل معرفيّة، أي فهم النبيّ ورؤيته وتلقّيه.

يذعن مجتهد شبستري بأنّ أيّ قضيّةٍ من قضايا القرآن لم تعطِ معرفةً، ولم تحتمل الصدق والكذب، وعليه يكون الله نسبيًّا وفق نظريّته، وهذا يدلّ على أنّ الخلفيّة الهرمنيوطيقية التي تعتمد عليها بحوثه إنّما هي خلفيّة معرفيّة، فعليه اتّخاذ الموقف في البداية من المباحث الإبستمولوجيّة. ويظهر ممّا مضى أنّه يقول بالنسبيّة في المباحث المعرفيّة، ولم يعتقد بوجود معيار للصدق والكذب ويجعل المعرفة أمرًا شخصيًّا تمامًا، وهو لم يمتلك رؤيةً واقعيّةً في المعرفة، بل رؤيته مثاليّة تمامًا وإفراطيّة، وعليه سنقوم بنقد رؤيته من جذورها المعرفيّة كما حاول هو نقد القراءة الفقهيّة من جذورها.

ثلاثة أحكام لمجتهد شبستري في المفسّرين التقليديّين

أشرنا إلى إمكانيّة تقسيم مباحث مجتهد شبستري إلى ثلاثة أقسام: القسم الأوّل رؤيته في الهرمنيوطيقا أو المباحث الكبرويّة، وتعدّ مباحث هذا القسم توصيفًا لنظريّته التفسيريّة، أي ما هي الهرمنيوطيقا الفلسفيّة؟ ما هي أصولها ومباحثها ومبادئها؟ يقول شبستري: للهرمنيوطيقا الفلسفيّة معنى أعم ومعنى أخصّ، المعنى

(194)

الأعمّ هو أيّ جهدٍ فلسفيّ لتقديم نظريّةٍ حول المعرفة، والمعنى الأخصّ هو نظريّة غادامر حول المعرفة[1].

ويرى في المعنى الأعم أّن شلايرماخر - الفيلسوف الديني والمتألّه المسيحي البروتستانتي - قد تبنّاه في بداية القرن التاسع عشر، وأجاب عن سؤال: ما هو فهم النصّ؟ وهذا السؤال خلافًا للأسئلة الهرمنيوطيقيّة الكلاسيكيّة السابقة سؤالٌ فلسفي[2]، بمعنى أنّ الهرمنيوطيقا قبل شلايرماخر كانت كلاسيكيّةً أو منهجيّة -على حدّ تعبيرنا- لأنّها تبيّن مجموعةً من القواعد والأصول المنهجيّة ومن الينبغي واللاينبغي الهرمنيوطيقي، وجاء شلايرماخر وطرح سؤالًا فلسفيًّا لأوّل مرة، فقال: (ما هو فهم المتن؟) وفي الواقع قد سأل عن ماهية فهم المتون، وكان يقصد التعرّف على مقدّمات فهم المتن غير التجريبيّة.

نعم إنّ مصطلح (الهرمنيوطيقا الفلسفيّة) ولد بعد شلايرماخر، وقد استمرّ عمل شلايرماخر في الهرمنيوطيقا الفلسفيّة بعده أيضًا، وسعى الفلاسفة أمثال درويزن، وديلتاي، وهايدغر، وغادامر، وهيرتش، وبتي، وريكور إلى تقديم نظريّاتٍ مختلفةٍ لعمليّة الفهم وطرح آرائهم حول الهرمنيوطيقا الفلسفيّة، ولم يقتصروا على فهم المتون، فقد كان شلايرماخر بصدد تقديم نظريّةٍ فلسفيّةٍ لفهم المتون، ولكن الفلاسفة من بعده توسّعوا في المتن، وسعوا لفهم الحياة وفهم الوجود.

وبعبارة أخرى كانت نظريّة جميع هؤلاء الفلاسفة هي الفهم، لكن أوسع من فهم المتون التي طرحها شلايرماخر. والخلاصة أنّ الهرمنيوطيقا الفلسفيّة قد

(195)

تكون بالمعنى الأعمّ أي الجهد الفلسفي لنظريّة المعرفة، وقد تكون بمعنى نظريّة المعرفة التي ذكرها غادامر. ويرى شبستري أنّ عدم الالتفات إلى هذه النقطة في إيران أدّى إلى ظهور أخطاءٍ كبيرة؛ إذ لم يفرّقوا بين الهرمنيوطيفا الفلسفيّة بالمعنى الأعمّ والهرمنيوطيقا الفلسفيّة بالمعنى الأخصّ، ويزعمون أنّ كلّ من تكلّم عن الهرمنيوطيقا إنّما يقصد هرمنيوطيقا غادامر الفلسفيّة. يؤكّد شبستري أنّه يبحث عن الهرمنيوطيقا الفلسفيّة بالمعنى الأعمّ، ويروم تبيين نظريّته الفلسفيّة حول المعرفة[1].

أشرنا إلى أنّ الهرمنيوطيقا المنهجيّة تتحدّث عن الأصول والينبغي واللاينبغي المعرفي، أي ما نصنع لتكون المعرفة صحيحة؟ ولكن البحث في الهرمنيوطيقا الفلسفيّة يجري عن عملية الفهم والمعرفة، أي من أين يبدأ الفهم وإلى أين ينتهي؟ فالهرمنيوطيقا الفلسفيّة توصف عملية الفهم، وقد تصل من بطن هذا التوصيف إلى الينبغي واللاينبغي.

إنّ مجتهد شبستري في القسم الأول من مباحثه الثلاثة يبحث عن تقديم نظريّةٍ فلسفيّةٍ في المعرفة والفهم. ويعترف في مبحثه الأوّل من كتاب (هرمنيوطيقا الكتاب والسُنّة) أنّ مفسّري الوحي الإسلامي قاموا بتفسير القرآن وفق مسبوقاتهم وتوقّعاتهم من الكتاب والسُنّة[2]، لذا سمّى كتابه بهذا الاسم، أي عمليّة تفسير الوحي. وبناءً على رؤيته لا بدّ من تقييم تفسير المفسّرين برؤيةٍ من الدرجة الثانية، ثمّ يضيف أنّ أنديتنا العلميّة ما زالت تزعم لزوم التوجه إلى الكتاب والسُنّة وتفسيرهما بذهنٍ خالٍ من أيّ فهمٍ وعُلقةٍ وتوقّع، وأصحاب هذا الرأي لم يعتقدوا بإمكانية هذا الأمر فحسب، بل يرون وجوبه.

(196)

يقول شبستري: عندما نقوم بدراسة معرفة هؤلاء المفسّرين برؤيةٍ من الدرجة الثانية نرى أنّ معرفتهم مبتنيةٌ على المسبوقات والعلائق والتوقّعات، أي هناك فرّق بين ما يقولون وبين ما يعملون. وعليه يحكم شبستري على المفسّرين التقليديّين بحكمين، حكم في كلامهم، وحكم في عملهم. والحكم الثالث أنّ مفكّري الإسلام لم يلتفتوا إلى ارتباط علم الفقه والأصول بسائر العلوم[1]. لذا يتمّ تحليل فتوى العالم الديني ونقدها عبر نقد مبانيه الأصوليّة، والحال أنّ لكلّ فقيهٍ مسبوقاته المعرفيّة الخاصّة، وعلى سبيل المثال عند نقد فتوى الفقيه، لا بدّ ألّ ا نقتصر على مبانيه الأصوليّة، والبحث عن صحّتها أو عدم صحّتها أو كيفيّة استخدامه لها، بل ربّما تحمل الفتوى مباني أنثروبولوجيّة أو اجتماعيّة أو نفسيّة أو فلسفيّة وكلاميّة، وهذا ما يغفله مفكّرو الإسلام.

الحكم الثالث لشبستري يحتوي على نقد، وذلك أنّ للفتوى مضافًا إلى المباني الأصوليّة مباني أخرى من علوم أخرى، ولم يلتفت الماضون لمباني المسبوقات وما له دخل في عمليّة الفهم[2].

نظريّة مجتهد شبستري في الفهم

لننظر الآن إلى نظريّة مجتهد شبستري حول الفهم. يعتقد شبستري أنّ الفهم نوعٌ من المعرفة، ولا بدّ من وجود نظريّةٍ ومنهج. يوجد نوعان من المعرفة: 1- المعرفة التبيينيّة. 2- المعرفة التفهّميّة. وعلى سبيل المثال يعتني الوضعيّون كثيرًا بالمعرفة التبيينيّة، أمّا الهرمنيوطيقيّون فالمعرفة التفهّميّة هي محل عنايتهم الكبيرة.

(197)

والفهم نوعٌ من المعرفة، ولا بدّ أن يحتوي على نظريّةٍ خاصّة، ويتوقف فهم المتون على تفسير المتون، وحتى لو كان فهم معنى نصٍّ ما متّفقا عليه ولا يوجد خلافٌ في معناه بسبب دلالة المتن على المعنى تلقائيًّا، فهذا لا يعني أنّه مستغنٍ عن التفسير، أي عندما نواجه نصًّا متّفقًا على معناه وفهمه عند الجميع، لا يعني هذا عدم حاجته إلى التفسير بأنّ يدلّ المتن على المعنى تلقائيًّا، بل تحدث هنا أيضًا عملية الفهم حتمًا ويوجد تفسير مّا، ولكن بما أنّ المعرفة القبليّة لدى الجميع مشتركة، فقد فهموه على وتيرةٍ واحدة.

المعرفة التبيينيّة التي يطرحها الوضعيّون، تعني في الغالب معرفة العلل وعوامل حدوث الظاهرة، وعلى سبيل المثال عندما نضع مقياس الحرارة في الماء المغلي يصعد المؤشّر نحو الأعلى، وعندما نسأل عن سبب هذه الحركة نكون بصدد المعرفة التبيينيّة في الواقع، فالسؤال عن (كيف) و(لماذا) يقع في حيّز المعرفة التبيينيّة، ولكن في المعرفة التفهّميّة والهرمنيوطيقيّة نبحث عن العملية التي تؤدّي إلى فهم المتن.

وبعبارةٍ أخرى نبحث في المعرفة التفهّميّة عن معرفة المتن وباطن الظاهرة لا معرفة العوامل الخارجيّة المؤثّرة على الظاهرة. وفي الواقع أنّ الهرمنيوطيقيّين أمثال شلايرماخر وديلتاي، قد ذكروا هذه المباحث لأنّنا عندما نريد الفهم نبحث عن فهم المعاني الكامنة داخل المتن، أي نريد أنْ نعرف قصد المؤلّف في إبداع هذا النصّ أو الكلام.

والخلاصة هناك نوعان من المعرفة: 1- المعرفة التبيينيّة التي ذكرها الوضعيّون وتبحث عن علل الظواهر. 2- المعرفة التفهّميّة التي ذكرها الهرمنيوطيقيّون وتبحث عن معنى المتن سواء المكتوب أم المسموع أم الأفعال الإنسانيّة[1]، أمّا مجتهد شبستري

(198)

فإنّه لم يذكر هذا الفارق، بل ركّز على النقطة المهمّة لديه، وهي توقّف فهم المتون على تفسير المتون، أي ما دامنا لم نعطِ تفسيرًا للمتن فلن نتمكّن من فهمه، وبعبارة أخرى أنّ الفهم متوقّفٌ على التفسير.

يرى شبستري أنّ تفسير المتن يتوقّف على ثلاث رؤى نقديّة:

1- إنّ الفهم الصحيح لأيّ نصّ يتوقّف على تفسيره الصحيح حصرًا، وعليه يذعن شبستري أنّ الفهم إمّا صحيح وإمّا خطأ، ولكن بما أنّه يجعل الفهم متوقّفًا على التفسير، فالفهم الصحيح يتوقّف على التفسير الصحيح.

2- يمكن تقديم تفاسير متعدّدةٍ لكلّ متن، ولم يكن فهم المتن من المسائل البديهيّة، أي لأجل فهم المتن لا بدّ من تفسيره، فالتفسير مصدر والفهم اسم مصدر، التفسير عمليّة الفهم والفهم نتيجة التفسير، فالتفسير مقدّم على الفهم، ولمّا كان ممكنًا تقديم تفاسير متعدّدة، فيمكن وجود أفهام متعدّدة أيضًا.

(199)

3- لا بدّ من تشخيص معنى المتن الصحيح واختياره وتبريره وترك التفاسير الخاطئة أو غير المناسبة، وعليه فإنّ للمتن معنى، هذا أوّلًا، وثانيًا إنّ معنى المتن إمّا صحيح وإمّا خطأ، وثالثًا لا بدّ من اختيار المعنى الصحيح وتبريره، أي يلزم الاستدلال للمعنى الصحيح كي يعلم سبب صحّته، ورابعًا لا بدّ من ترك التفاسير الخاطئة. فالكلام يقع هنا عن (التفسير)، و(الفهم)، و(المعنى)، والمعنى مقرون بالمتن، والفهم والتفسير مقرونان بالمفسِّر، مع فارق أنّ التفسير يكون من مساعي المفسِّر، والفهم حصيلة جهد المفسِّر.

فالمفسِّر يعرف معنى المتن، ولكن بما أنّ عمليّات التفسير مختلفة، يكون حاصل عمليّة التفسير مختلفًا أيضًا، وإذا كان حاصل التفسير متفاوتًا، أمكن أنْ يتفاوت المعنى الصحيح أيضًا، أي يمكننا الوصول إلى عدّة معانٍ صحيحةٍ من المتن، ولكن لا بدّ من قبول المعنى الذي له مبرّر، أي المعنى الذي يقوم الاستدلال لصالحه ويمكن إثباته[1].

يقول مجتهد شبستري بخصوص هذه النقطة، إنّ القول باحتياج المتن إلى التفسير يبنى على رؤيتين نقديّتين، يلزم إضافتهما إلى النقاط أعلاه:

1- إنّ المتن يختلف عن المعنى؛ لذا يمكن أنْ يكون المتن واحدًا والمعنى متعدّدًا.

2- لا يكون المعنى منفصلًا وغريبّا عن المتن، نعم إنّ المعنى غير المتن لكنّه غير منفصلٍ عنه، بل له ارتباطٌ وثيقٌ به، والخلاصة لا يمكن تفسير المتن كما يحلو لكلّ أحد، من دون ضوابط.

والآن وقد عرفنا أنّ للمتن معنى، وأنّ المعنى غير المتن، وأنّ معنى المتن لم يكن

(200)

بديهيًّا، بل يحتاج إلى الفهم، والفهم أيضًا يحتاج إلى التفسير، يُطرح هنا سؤال عن مقوّمات التفسير ومقدّماته؟ وبعبارةٍ أخرى لمّا كنّا قد وصلنا من المعنى إلى الفهم، ومن الفهم إلى التفسير، فعلينا أن نخطو خطوةً أخرى إلى الوراء، ونبيّن كيفيّة تحقّق تفسير المتن، وما هي مقوّماته ومقدّماته؟

يعتقد شبستري أنّ تفسير المتن بحاجةٍ إلى خمس مقدّماتٍ ومقوّمات:

1- مفروضات ومسبوقات المفسِّر المعرفيّة.

2- الاهتمامات والتوقعات الهادية للمفسِّر.

3- أسئلة المفسِّر من التاريخ.

4- تشخيص معنى المتن المركزي، وتفسير المتن كمجموعةٍ في محور ذلك المركز.

5- ترجمة المتن في الأفق التاريخي للمفسِّر[1].

ما ذكرناه لحدّ الآن يتعلّق بعمليّة فهم المتن والتفسير، أي عندما يؤدّي أيّ شخصٍ هذه العملية يصل إلى الفهم وتشخيص معنى أو معاني المتن، وبعبارةٍ أخرى إنّ معنى المتن لم يكن بديهيًّا، ولا يتمكّن أيّ شخصٍ الوقوف عليه، بل لا بدّ من طيّ المقدّمات والمقوّمات، ولأجل التعرّف على النقاط الخمس المذكورة بشكلٍ أكثر، نقوم بتوضيحها من عبر الاستعانة بكتاب شبستري:

مفروضات ومسبوقات المفسِّر

يعتقد شبستري بخصوص المقدّمة الأولى - أي مسبوقات ومفروضات المفسِّر المعرفيّة - بأنّها ليست مختصّةً بتفسير المتن، بل أنّ لكلّ جهدٍ علميّ مفروضاتٍ

(201)

ومسبوقات، أي أنّ المفسِّر أو العالِم أو المؤلِّف لا يتمكّن من الوصول إلى المعرفة من دون امتلاك أيّ معرفةٍ مسبقة، فالمعرفة لا تحصل من العدم، والإنسان الذي يخلو ذهنه من أيّ معرفةٍ مسبقةٍ لا تحصل له أيّ معرفة، وهذا ما يقابل المادّيّين أو التجريبيّين البريطانيّين؛ فإنّ نظريّة التجريبيّين أمثال فرانسيس بيكون وجون استيوارت مل تقول: إنّ ذهن الإنسان كاللوح الأبيض، فالإنسان يتوجّه نحو الطبيعة بذهنٍ فارغٍ ليكتشفها. ولكن قام أنصار الوضعيّة المنطقيّة وما بعد الوضعيّة - وإنْ كانوا من التجريبيّين الإفراطيّين - بنقد هذه الرؤية، وقالوا باستحالة هذا الأمر، والواقع أنّ المؤلّف قبل أنْ يبدأ بالكتابة يقوم بجمع وتحليل المعطيات، أي لا يمكن الوصول إلى المعرفة من دون مسبوقاتٍ معرفيّة، كما أنّ أيّ متنٍ لا يُدوّن دفعة واحدة ومن دون مقدّمة، بل هو سيرٌ من مرحلةٍ إلى مرحلة، وتكميل فهم المرحلة السابقة مقدّمة إلى فهم المرحلة اللاحقة، أي هناك دائمًا مفروضات ومسبوقات معرفيّة، تنمو في مراحل الفهم المختلفة، وتكون مقدّمةً للمعارف اللاحقة.

الاهتمامات والتوقّعات الهادية للمفسِّر

بخصوص هذه النقطة يرى مجتهد شبستري أنّ اهتمامات المفسِّر وتوقّعاته تسوقه نحو سؤال المتن وفهمه، فهي من مقدّمات فهم المتن ومقوّماته. ويبدو أنّ الإنسان يتحرّك نحو السؤال بدافع داخلي، ويواجه مجموعةً من الأسئلة، ففي الدرجة الأولى يواجه الإنسان مجموعة من الأسئلة تتوقّف حياته على الإجابة عنها، من قبيل المعيشة، والحكومة، والسياسة، والاقتصاد، والوجود، والمستقبل وغيرها من الأمور التي يواجهها الإنسان طيلة حياته، وتتولّد منها الأسئلة.

(202)

ثمّ إنّ الإنسان يقوم بطرح كلّ سؤالٍ وفق اهتمامات وتوقّعات خاصّة، وهذه الاهتمامات والتوقّعات تتناسب حتمًا مع مسبوقاته المعرفيّة التي تعدّ مقوّمات أسئلته. فلو استبعد الإنسان تنقيح هذه السلسلة المترابطة بين المسبوقات والاهتمامات والتوقّعات لأجل الوصول إلى تفسير وفهم صحيح، فحينئذٍ لا نستبعد أنْ يتوقّع شخصٌ إجابةً تاريخيّةً من متنٍ فلسفيّ، أو يبحث في متنٍ تاريخي عن جوابٍ فلسفي، ومثله من يبحث في النصّ الديني عن أجوبة تتعلّق بالعلوم التجريبيّة.

يرى شبستري أنّ تأليف التفاسير الكبيرة أمثال تفسير الطنطاوي كان على هذا المنوال، ويرى أنّ سبب ذلك الاهتمامات والتوقّعات والمفروضات المعرفيّة غير المنقّحة، فبما أنّ المتون الدينيّة تتحدّث عن معنى الوجود ومستقبل الإنسان، فمن الصعب بمكان تنفيح المسبوقات والأسئلة والاهتمامات والتوقّعات المتعلّقة بتفسير هذه الألغاز، وله أهميّةٌ مضاعفةٌ بخصوص سائر المتون.

والخلاصة فيما يتعلّق بالنقطة الثانية يوجد أمران:

1- التأكيد على دور الاهتمامات المفسّر وتوقّعاته في عملية التفسير.

2- لزوم تنقيح هذه الاهتمامات والتوقّعات والأسئلة بشكلٍ صحيح.

أسئلة المفسِّر من التاريخ

يرى شبستري بخصوص المقوِّم أو المقدّمة الثالثة أنّ المسبوقات المعرفيّة والاهتمامات والتوقّعات والأسئلة والوقوف على سائر تفاسير المتن، تدعو المفسِّر إلى البحث عن معنى المتن، لمعرفة ما يريد قوله؟ وهنا لا بدّ أن يعمل المفسِّر شيئًا

(203)

نُطلق عليه (السؤال من التاريخ) أو (الاستماع إلى التاريخ). وهو يعني البحث عمّا قاله صانع المتن وكان بصدد إيصاله إلى المخاطَب.

وهنا يتّجه البحث عند شبستري نحو المؤلِّف، أي يلزم على المفسِّر معرفة قصد المؤلِّف ونيّته، وعليه أنْ يبيّن أمورًا عدّة بالفحص التاريخي الصحيح:

1- ما هي الاهتمامات والتوقّعات التي ساقت المؤلِّف إلى صناعة هذا المتن؟

2- ما هي الظروف التاريخيّة التي تكلّم فيها المؤلِّف؟

3- كيف كانت الظروف التاريخيّة للمخاطَبين؟

4- ما هي قابليّاته اللغويّة في التكلّم والتأليف؟

فالإجابة على هذه الأسئلة تتم عن طريق التحليل التاريخي فقط. ويضع شبستري الاستفادة من القواعد والقوانين اللغويّة والمحاورة التي يسمّيها القدماء بقواعد التفسير، يضعها في هذه المرحلة، كما أنّ جميع مباحث علم الأصول في الألفاظ تقع في هذه المرحلة، ثمّ يضيف مجتهد شبستري ويقول: ولأجل أنْ نعرف ما يقوله المتن - أي مساءلة التاريخ - لا بدّ من القيام بالأمور الآتية:

1- البحث عن معاني الكلمات والجمل اللغويّة.

2- البحث عن رسالة المتن.

3- المراد الجدِّي للمؤلِّف أو المتكلّم.

4- التأثيرات التي تحصل من المتن.

يقول مجتهد شبستري: كلّ ما قيل لحدّ الآن يعدّ من أدوات فهم المعنى الذي قصده صانع المتن، غير أنّ الاستفادة من هذه الأدوات يتوقّف على مجموعة من الأحكام واتّخاذ المواقف. فالمسألة المهمّة البحث عن معيار هذه الأحكام، ومنشأ اتّخاذ هذه المواقف.

 

(204)

نعم إنّ المتن يفيد المعنى، ولكن هذا المعنى إنّما يتحصّل فيما لو بيّن المفسِّر من ذي قبل المعنى الذي يسوّغ قصده أو لا يسوّغه من قبل صانع المتن، فتشخيص هذا الأمر بحاجةٍ إلى محكّ ومعيار، والمباحث المتعلّقة بهذه المعايير لم تبيّن إلى الآن كما ينبغي.

فهناك أسئلة تُطرح وتقول: هل يتمكّن المفسِّر من تكوين هذه المعايير من دون لحاظ وضعيّته وظروفه التاريخيّة؟ وهل يمكن الإصغاء إلى التاريخ ليتحدّث إلى المتن، ويوصل ما قصده صانع المتن عينًا؟ ألم تكن اهتمامات وتوقّعات المفسِّر في أفقه التاريخي مانعًا أمام هذا الأمر؟ فالحاكميّة هنا للمفسِّر، وهو الذي يلزم عليه تعيين هذا القصد والحاجة.

تشخيص معنى المتن المركزي وتفسير المتن كمجموعةٍ في محور ذلك المركز

يقول مجتهد شبستري بخصوص المقدّمة الرابعة: المقصود من معنى المتن المركزي، النظريّة الأصليّة التي يدور حولها المتن، ولا بدّ من كشف هذه النظريّة الأصليّة، وأنْ يُفهم جميع المتن مع افتراض ابتنائه عليها، ولا يمكن كشف هذا المعنى المركزي من دون معيارٍ، وطريقة اكتشافه أن نسأل التاريخ ونستمع إليه، أي يلزم فهم المعنى المركزي للمتن، والذي يدور باقي أجزاء المتن حول محوره، يلزم فهمه بالمقدّمة الثالثة.

إنّ أنصار نظريّة الخطاب يقولون إنّ لكلّ منظومةٍ فكريّةٍ دالّا مركزيًّا، ودوالًا فرعيّة، وينحصر إمكانيّة تفسير المتن فيمن يقول بوجود وحدة في المتن فقط، ويذهب إلى أنّ للمتن مضافًا إلى معاني كلماته وجملاته معنى عامًّا وتامًّا بلحاظ كونه متنًا واحدًا. وبعبارةٍ أخرى لا يمكن فهم شيءٍ آخر سوى المعنى التامّ، فهناك وحدة، وإذا كان ثمّة كثرة فلا بدّ من إرجاعها إلى الوحدة المعنائيّة.

(205)

ترجمة المتن في الأفق التاريخي للمفسِّر

يقول مجتهد شبستري بخصوص المقدّمة الخامسة: تكون هذه المقدّمة ضروريّة فيما لو كان زمن تكوّن المتن وزمن تفسيره مختلفين، بأن يعيش المفسِّر في أفقٍ تاريخيّ يغاير الأفق التاريخي لتكوين المتن، فالقرآن مثلًا ظهر قبل ألف وأربعمائة سنة في أفقٍ تاريخيّ خاصّ، ونحن اليوم في أفقٍ تاريخيّ آخر. فهنا في الواقع عالمان متفاوتان وتجارب متفاوتة، فحينئذٍ لا بدّ من ترجمة معنى المتن في أفق تاريخ المفسِّر بحيث تترجم التجارب إلى تجارب.

وبعبارةٍ أخرى إنّ فهم تجارب الماضين منوطة ٌبالأسئلة الناشئة من تجارب الحاضرين، وسبب هذا الاختلاف في التجارب تاريخيّة حياة الإنسان؛ لأنّ للإنسان حياةً تاريخيّة، وتوجد في الثقافات والحضارات والأديان والرؤى الكونيّة المختلفة تجارب مختلفة، فتجربة الإنسان عن نفسه وعن الكون في عصر تبعيّته المطلقة للقوى الطبيعيّة وعدم إمكان التسلّط عليها، تختلف عن تجربته عن الكون في هذا العصر بعد تسلّط الإنسان على قوى الطبيعة وتسخيرها لصالحه، فهاتان التجربتان مختلفتان البتّة؛ فقد كانت تجربة البشر في عصر التبعيّة لما وراء الطبيعة، والحال أنّ تجربة البشر اليوم مادّيّة وإنسانويّة، كما أنّ تجارب أهل الغرب وأهل الشرق اليوم مختلفة، وعليه فإنّ مفتاح فهم المتون السابقة يكمن في فهم تجارب الإنسان في ذلك العصر.

وهنا ينبّه شبستري على عدّة نقاطٍ مهمّة:

الأولى: إنّ السعي لفهم تجارب الماضين لا يعني الموافقة على تجاربهم، بل نريد الوقوف على تجارب الماضين فقط، أي يتمكّن المفسِّر من المواجهة النقديّة لتلك التجارب.

 

(206)

والثانية: عندما يحاول المفسِّر تفسير متون العصور القديمة، قد يصاب بانحرافين: الانحراف الأوّل أنْ يحافظ على شكل بيان المتن السابق - والذي لا يكون قابلًا للفهم للمخاطبين وللمفسِّر- ويقوم بقولبة البيان الأصلي للمتن بشكلٍ ظاهريّ ويبيّنه للمخاطبين. الانحراف يحصل بعنوان ترجمة المتن في الأفق التاريخيّ المعاصر، وبدل أنْ يقوم بإنطاق المتن، يقوم بأخذ المؤيّدات من المتن لأسئلته ومسبوقاته المعرفيّة، ويُسقط المتن عليها.

يعتقد مجتهد شبستري أنّ التفسير الصحيح يحصل عند مواجهة المفسِّر ومخاطبيه مع المتن، وعندما يلوح في الأفق إرهاصات ظهور المعنى الخفي. ويقول: إنّ المشتركات الإنسانيّة تكون أرضيّةً لفهم العصور المختلفة[1].

والأمر الآخر الذي يذكره مجتهد شبستري أنّ الشرط الأساس للفهم إنّما هو تنقيح المسبوقات المعرفيّة، والاهتمامات والتوقّعات، ولا يمكن صيد معنى المتن بمقدّماتٍ ومقوّماتٍ غير منقّحةٍ وضعيفة، وعليه يلزم على المفسِّر أوّلًا تنقيح مسبوقاته واهتماماته وتوقّعاته تمامًا، ويجعلها تحت محكّ الآخرين، ويقبل نقدهم بكلّ رحابة صدرٍ ليقوم بتصحيحها وتنقيحها. إنّ الحكم في مختلف تفاسير المتن الواحد لا يكون مجديًا من دون الحكم في مقدّمات ومقوّمات تلك التفاسير، وعليه لا بدّ من البحث عن اختلاف المفسّرين والفقهاء في مبانيهم المتسالمة عندهم[2].

وسنقوم بعد قليلٍ بنقد رؤية مجتهد شبستري، ولكن ما ينبغي ذكره بخصوص

(207)

كلامه الأخير، أنّه أشار إلى موضوع التنقيح، ولكن لم يبيّن ما هو منهج التنقيح؟ أو ما هو معيار التنقيح؟ إنّه يعتمد على حكم الآخرين وقبولهم ليكون هو المعيار والملاك، ويبدو منه قبول نوعٍ من المقبوليّة والإنسجام كمعيارٍ نهائي، إذا حصلت المقبوليّة تجاه أمر مّا أمكن القول بأنّه قد تمّ تنقيحه.

وهنا يرد سؤال يقول: هل يمكن العثور على مسبوقاتٍ معرفيةٍ مقبولةٍ لدى الجميع؟ ففي الغالب لا يتحقّق هذا الأمر، أي ما يتحقّق في الغالب قبول فئةٍ معينةٍ لبعض المسبوقات، وقبول فئةٍ أخرى لمسبوقاتٍ أُخرى. يعتقد مجتهد شبستري أنّ ما ورد في مباحث الألفاظ في علم الأصول يتعلّق بالدلالة اللغويّة وعلم السيمانطيقا، وما ورد البحث عنه في هذه المقالة يتعلّق بعلم تفسير المتون وفهمها أي الهرمنيوطيقا[1]. وهو بكلامه هذا يريد إظهار عدم قدرة مباحث الألفاظ في علم الأصول للقيام بما ذكره وتبنّاه في مباحثه هذه، أي أنّ مباحث الألفاظ لا تعالج إلّا جزءًا من موضوع مساءلة التاريخ فحسب، والحال أنّه ذكر خمس مقدّمات.

الى هنا بيّنا المباحث المتعلّقة بالقسم الأوّل الدالّة على نظريّة مجتهد شبستري الفلسفيّة حول الفهم.

نقد نظريّة مجتهد شبستري التفسيريّة

سنشير هنا إلى أركان وأجزاء ومقدّمات نظريّته التفسيريّة المبتنية على الهرمنيوطيقا الفلسفيّة، وسنقوم بعمليّة النقد بعد ذكر كلّ نقطة - وفيه تكرارٌ لما ذكرناه-.

(208)

النقد الأوّل: للتفسير معنيان

يعتقد شبستري أنّ فهم معنى المتن متوقّفٌ على تفسيره، ولا يفهم أيّ شخصٍ أيّ معنى من دون التفسير، وأنّ لكلّ متنٍ معنى خاصًّا ليس بديهيًّا واضحًا، ويتوقّف فهمه على التفسير، ولم يتحصّل التفسير أيضًا بسهولة، بل يحتاج إلى مقوّمات، وأنّ لكلّ متنٍ تفاسير عدّة.

إشكالنا الأوّل يتعلّق بنوع تلقّي مجتهد شبستري للتفسير، فللتفسير في العلوم القرآنيّة معنى عامّ وخاصّ، المعنى العامّ هو كشف معاني القرآن سواء كانت ألفاظ القرآن مشكّلة أم غير مشكّلة. وبعبارةٍ أخرى: التفسير هو معرفة أحوال كلام الله بمقدار وسع الإنسان من جهة كونه قرآنًا، وكذلك دلالاته على مراد الله، سواء كانت الدلالة قطعيّة أم ظنّيّة[1]. وعليه فإنّ المعنى العامّ للتفسير يشمل جميع دلالات المعنى، أي أنّه يشمل الدلالات التي هي من سنخ النصّ، والظاهر، والمجمل، والمبهم. فعندما نكشف معنى الآية المجملة نقوم بتفسيرها، وعلى سبيل المثال نحن نفهم نصًّا من قبيل: (لا إله إلا الله)، أي نفهم التوحيد منه، ولا يفهم أحدٌ منه الشرك، نعم ربّما يقال إنّ (لا إله إلا الله) فيها دلالاتٌ التزاميّةٌ خفيّةٌ نحصل عليها بالتأمّل، ولكن معناها المطابقي واضح، ولا يحتاج إلى مزيدٍ من التأمّل.

وذكر المفسّرون أنّ المعنى الثاني والخاصّ للتفسير، إنّما هو كشف المعاني الخفيّة في القرآن، أي للقرآن معانٍ خفيّة، ويوجد فيه أمورٌ توجب الإبهام والانغلاق في

(209)

بعض المسائل، والأهم منها ما يتعلّق بأسلوب القرآن البياني[1]، يتحمّله الإنسان لأجل كشف ذلك المعنى الخفي[2].

وعليه فإنّ معنى واحدًا من معاني التفسير - الدالّ على كشف معاني القرآن الخفيّة - يحتاج إلى الجهد الفكري والبحث العلمي، فليس الأمر كما يصوّره مجتهد شبستري في الانغلاق التفسيري؛ لأنّ للنصوص معاني واضحة يمكن فهمها بسهولة، نعم لا نقول بأنّ المفسِّر لا يحتاج إلى أيّ مسبوقاتٍ معرفيّة، ولكن ليس لازمًا أيضًا أنْ تكون المسبوقات تخصّصيّةً ومتطوّرةً حتمًا.

وعلى سبيل المثال يجب على مفسّر القرآن الاطّلاع على اللغة العربيّة، ولكن يمكنه فهم كثيرٍ من الآيات حتى بأدنى معرفة للقواعد العامّة العربيّة بشكلٍ بدائي، وعدم المعرفة الكاملة بالصرف والنحو والمعاني والبيان والبديع لا يمنع فهم الآيات، وعلى سبيل المثال عندما كان يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في صدر الإسلام (لا إله إلا الله) يفهم حتى الأمّي أنّ المقصود رفض عبادة الأصنام ولزوم عبادة الله الواحد.

وبعبارةٍ أخرى إنّ المدلول المطابقي للكلام كان واضحًا للجميع، إذ لم تدوّن حينذاك قواعد اللغة العربيّة، وكان الناس يتكلّمون ويعرفون اللغة العربيّة على النحو الفطري، وفي الواقع كان الفهم يتحقّق لعرب صدر الإسلام من دون التعقيدات التفسيريّة التي يشير إليها مجتهد شبستري، وأفضل دليلٍ على إمكان الشيء وقوعه، وعليه فلا يحتاج التفسير لزومًا إلى المقوّمات أي الاهتمامات

(210)

والتوقّعات والأسئلة التي تزيد من تعقيد الفهم، بل نرى في كثيرٍ من الموارد إمكان الفهم من دون طي هذه المراحل، وفهم كهذا هو التفسير بالمعنى العامّ.

التفسير يعني الفهم، ولكنْ لمجتهد شبستري معنى خاصّ للتفسير يبني عليه الفهم، أي يرى أنّ التفسير غير الفهم؛ لأنّ التفسير جهدٌ وسعيٌ يتوقّف عليه الفهم الذي يُعدّ نوعًا من المعرفة، ونحن نقول بعدم لزوم هذا الجهد وهذا العمل؛ لأنّ الفهم كثيرًا ما يحصل من دون طي هذه المراحل التفسيريّة، وهذا يدلّ على وجود الفهم من دون التفسير بالمعنى الذي يقصده مجتهد شبستري.

لم يقصد مجتهد شبستري من المتن المتن المكتوب فقط، بل يشمل المتن المسموع، والقديم، والجديد، والفنّي، والبسيط وحتّى الحوارات العاديّة بين الناس، ومن الواضح ظهور أفهامٍ متعدّدةٍ وكثيرةٍ في مواجهة الناس مع المتون المسموعة والمكتوبة من دون الحاجة إلى التفسير بالمعنى الذي يقصده مجتهد شبستري.

والحال نحن لا نقبل ما قاله مجتهد شبستري حول التفسير وما يحيطه من انغلاقٍ وصعوبات، وما ذكره من توقّف الفهم على عملياتٍ معقّدة؛ لأنّ الفهم إذا كان بمعنى مطلق الفهم، وكان المتن أيّ متنٍ بشكل مطلق، وكان التفسير بالمعنى الخاصّ لا العام، فلا يمكن القول حينئذٍ أيضًا بأنّ فهم معنى متنٍ مّا متوقّفٌ على التفسير بالمعنى الخاصّ، أمّا إذا جعلنا التفسير بمعناه العامّ، فيكون حينئذٍ مرادفًا للفهم، ولم يكن علّة الفهم.

(211)

لنقد الثاني: المسبوقات المعرفيّة على قسمين

يتعلّق الإشكال الثاني حول تأكيد مجتهد شبستري على المسبوقات المعرفيّة، فهو يعتقد ابتناء التفسير على السؤال الموجّه للمتن، كما أنّ السؤال يبتني على الاهتمامات والتوقّعات والمسبوقات المعرفيّة، ونحن نقول إنّ المسبوقات على قسمين:

1-المسبوقات المتعلّقة بتحقّق الفهم.

2- المسبوقات المتعلّقة بقبول الفهم.

وبحثنا هنا يتعلّق بالقسم الأوّل (تحقق الفهم)، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

أ- المسبوقات الأداتيّة.

ب- المسبوقات الاستفهاميّة.

ج- المسبوقات المفروضة والإلزاميّة.

المسبوقات الأداتيّة: هي الأدوات والفنون المؤثّرة في فهم المتن، كمعرفة اللغة العربيّة في فهم القرآن -الصرف، النحو، المعاني، البيان والبديع - التي تعين على الفهم الأعمق. وكمعرفة القواعد اللغويّة العامّة مضافًا إلى القواعد الخاصّة، مثل معرفة تخصيص الخاصّ بالعامّ أو تقييد المقيّد بالمطلق، وكذلك الحال فيما يخصّ مباحث الألفاظ الواردة في علم الأصول. وهناك قواعد عامّة لغويّة ونفسيّة أخرى من قبيل النظريّات المطروحة حول اللسان وماهيّته وعمله أي ما هو ماهية اللسان؟ وهل حقيقته وضع اللفظ والمعنى أو كشف مراد المؤلِّف، أو شيء آخر؟ وهل عمله مجرّد نقل المراد إلى المؤلِّف وعلى المفسّر بذل الجهد للوصول إلى مراد المؤلِّف ونيّته، أو أنّ للّسان دورًا غير تفهّمي أيضًا؟ على سبيل المثال هل اللسان من سنخ الفعل، فكما أنّ الإنسان يفعل بيده ورجله ونظره بعض الأفعال، يفعل بلسانه أيضًا بعض

(212)

الأعمال كالتشجيع والتوهين والذمّ والاستهزاء؟ فهذه البحوث بحوثٌ لسانيّةٌ عامّة، ومن كان عارفًا بها أمكنه فهم كلام المؤلّف بنحو أفضل.

ثمّ إنّ المسبوقات المعرفيّة الأداتيّة غير متساوية في جميع المتون، إذ كلّما كان المتن معقّدًا احتاج إلى مسبوقاتٍ أداتيّةٍ أكثر، وعلى سبيل المثال كلّما استعمل المؤلّف قواعد أدبيّة دقيقة، احتاج المفسّر إلى مسبوقاتٍ أداتيّةٍ أدقّ - كمباحث المعاني والبيان والبديع - وكما يلزم عند المواجهة مع المتن الوقوف على أنّه هل متنٌ تخصّصيّ وعلميّ أم لا؟ ويلزمه أيضًا التعرّف على مؤلِّفه، فهذه المسبوقات تعيننا على فهم المتن.

ولهذه المسبوقات دورٌ أيضًا في محاورات الناس العامّة، ولكنّها غير معقّدةٍ، فمثلًا عند شراء كتابٍ من صاحب المكتبة يكفينا في عمليّة الفهم معرفة السعر والكتاب والبائع عند شرائه، وعليه فإنّ فهم أيّ متنٍ بحاجةٍ إلى مسبوقاتٍ أداتيّة، ولكن ليس كما يقوله مجتهد شبستري ويؤكّد عليه من لزوم معرفتنا لجميع النظريّات اللسانيّة ومباحث الهرمنيوطيقا وما شاكل، إذ يحصل الفهم والتفاهم لدى شرائح المجتمع رغم عدم معرفتهم بهذه المباحث.

المسبوقات الاستفهاميّة: يمكن عدّ هذا القسم ضمن القسم الأوّل، إذ تعدّ من ضمن أدوات الفهم، ولكن لأهميّتها نضعها في قسمٍ مستقلّ، فعندما نواجه متنًا دقيقًا له أهميّة قصوى، ونكون بصدد استخراج مداليله الالتزاميّة غير البيّنة أو البيّنة بالمعنى الأعم، فإنّ بعد معرفة النظريّات اللسانيّة، يكون معرفة المؤلِّف وقصده واستنطاق المتن والسؤال عنه مهمًّا جدًّا، ويلزم استنطاق المتن من خلال أسئلةٍ متعدّدةٍ ومتنوّعة، نعم لم يكن المتن صامتًا بل ناطق، ويبدأ بالكلام من خلال

(213)

مسبوقاته الأداتيّة الأولى ووقوفه على العلقة الموجودة بين اللفظ والمعنى، ويضع مدلوله المطابقي بين أيدينا، ولكن عندما نكون بصدد كشف الدلالة الالتزاميّة البيّنة بالمعنى الأعمّ أو دلالته الالتزاميّة غير البيّنة يلزم استنطاق المتن حينئذٍ، كالطالب الذي يستمع إلى دلالات كلام أستاذه المطابقية والالتزاميّة البيّنة ويفهمها، ولكن مع هذا يسأل الاستاذ، وبسؤاله هذا يُنطِق الأستاذ بشكل أكثر لاستحصال معانٍ جديدةٍ منه، فلو لم لم تكن تلك الأسئلة لم يبيّن الأستاذ هذه المطالب الجديدة. فالمتن كذلك أيضًا، ولا بدّ من استنطاقه، نعم لا بدّ أن نعرف بأنّ المتن عند استنطاقه ربّما لا يجيب على أسئلتنا، فمثلًا لو سألناه بما هو لغو فسوف يكون المتن ساكتًا، ولكن إذا كان للسؤال نوع علاقةٍ بالمتن أمكن للمتن أنْ يعطينا الدلالة الالتزاميّة المرتبطة.

المسبوقات الإلزاميّة: ونعني بها أنْ يُحمّل الإنسانُ المتنَ - مضافًا إلى أسئلته من المتن- عقيدتَه أو رؤيتَه، وبدل أنْ يستنطق المتن، يُجبر المتن على أنْ ينطق وفق نظره الشخصي، وهذا ما يُطلق عليه في الموروث الديني بالتفسير بالرأي.

وغالبًا ما نسمع الهرمنيوطيقين يردّدون هذه المقولة: (إنّ كلّ التفاسير تعدّ تفسيرًا بالرأي، وليس لنا تفسيرٌ من دون رأي). وهذه مغالطة ليس إلّا، فإذا كان الغرض عدم وجود أيّ تفسيرٍ من دون مسبوقات، فهو صحيح، لاحتياج كلّ تفسيرٍ إلى مسبوقات - على الأقلّ المسبوقات الأداتيّة - كي نتمكّن من الوصول إلى الفهم، ولكن ليعلم أنّ كلمة (الرأي) هنا اصطلاح، وهذا الاصطلاح ظهر زمن الخليفة الأوّل، واستُعمل زمن الخليفة الثاني كمنطق للفهم؛ لذا نعتقد أنّ الخليفة الثاني هو مؤسّس علم أصول الفقه عند أهل السُنّة واستمرّ هذا زمن الخليفة الثالث أيضًا، وكان من أعمال أمير المؤمنين عليه‌السلام المهمّة ردّ منطق الرأي، فكان (عليه السلام) مخالفًا للتفسير بالرأي.

(214)

وعليه عند تفسير المتن لا يلزم أن نقوم بتحميل المسبوقات على المتن حتمًا لنفهمه. إذ من الواضح أنّ هذا الأمر غير صحيح، وإذا كان الأمر كما يُدّعى، لم يفهم أحدٌ أحدًا، فيكون التعليم والتربية والهداية حينئذٍ لغوًا ومن دون معنى؛ لأنّ كلّ شخصٍ يُلزم المتن بمسبوقاته.

قد أشرنا أنّ مجتهد شبستري يعتقد بلزوم علم المفسِّر بنيّة المؤلّف، بمعنى أنّ للمؤلّف توقّعات وأسئلة ومسبوقات معرفيّة يلزم للمفسّر العلم بها، ولكن يضيف شبستري بعد هذا أنّ المفسّر من خلال مسبوقاته والتوقّعات التي بحوزته، يلزم عليه بيان التوقّعات التي يلزم على المؤلّف أن يحتويها، أي يلزم على المفسّر تنقيح وتعديل توقّعات المؤلّف، وبناءً على هذا لا يحقّ للمؤلّف أن تتكون عنده التوقّعات كيف ما كانت.

ولكن نقول نحن: ليس المفسِّر خالق المتن، بل المؤلّف هو خالق المتن وله أن يتوقّع منه ما يحلو له، وعلى المفسِّر السعي نحو كشف تلك التوقّعات، فكون المفسِّر يقبل توقّعات المؤلّف أو لا يقبلها، فإنّه بحث آخر، ونحن هنا بصدد بيان عمليّة الفهم أو تحقّق الفهم؛ فلا نتعرّض إلى ذلك البحث.

النقد الثالث: عدم إطلاق بعض المسبوقات على جميعها

الإشكال الآخر على مجتهد شبستري أنّه وقع في مغالطة الكلّ والجزء، أي تلقّى بعض المسبوقات بعنوان كلّها، كان عليه أن يبيّن تقسيم المسبوقات إلى أداتيّةٍ واستفهاميّةٍ وإلزاميّةٍ؛ كي يُعلم أيّ منها لازمًا، وأيّ منها غير لازم، وعلى سبيل المثال أنّ فهم المدلول المطابقي والالتزامي البيّن لا يحتاج إلى مسبوقات استفهاميّة؛ لأنّها تأتي في فهم المتون الإلتزامية وغير البيِّنة.

(215)

كما أنّ فهم المتن البسيط لا يحتاج إلى جميع المسبوقات الأداتيّة، فكلّما كان المتن دقيقًا وصعبًا يهدف إلى أهدافٍ مهمّة، احتاج إلى مسبوقاتٍ أداتيّةٍ أكثر، فلسان العرف والحوارات العامّة بحاجةٍ إلى مسبوقاتٍ أداتيّةٍ أقلّ، فبعض المسبوقات هادية وبعضها الآخر مضلّة، فيلزم تفكيكها والتمييز بينها؛ ليستعان بالمسبوقات الهادية، ونتجنب المضلّة.

النقد الرابع: فهم المتن ودلالته لهما مراتب

لقد بيّن مجتهد شبستري لزوم تناسق الاهتمامات والتوقّعات والأسئلة مع المسبوقات المعرفيّة. وقد ذكر أنّ الاهتمامات والتوقّعات لم تكن مجرّد حالة نفسيّة، بل تعدّ من مقولة عملية الفهم والتفسير، بمعنى أنّ هذه الاهتمامات والتوقّعات تكون منشأ ظهور الأسئلة، وتكون الأسئلة منشأ ظهور فهم المتن. وكلام مجتهد شبستري القائل (بأنّنا نهتمّ ونلتفت إلى الاهتمامات والتوقّعات التي تولّد الأسئلة) كلامٌ صحيحٌ في بادئ النظر، ولكن الأمر المهمّ أنّ لفهم المتن ومدلوله مراتب.

وقد أشرنا إلى أنّ إحدى مراتب فهم المتن، هو المدلول المطابقي أو الالتزامي البيِّن، ويكفي فيه مسبوقات المعرفيّة الأداتيّة، ولا حاجة إلى سؤال المتن، كما أنّه يستغني عن الاهتمامات والتوقّعات التي تولّد الأسئلة.

وربّما تكون الاهتمامات وتوقّعات المفسِّر من سنخ المسبوقات المفروضة التي لا تعين على فهم المتن فحسب، بل تسيء إلى الفهم أيضًا، وتُبعد المفسِّر عن مراد المؤلِّف، ونحن نعتقد أنّ التوقّعات والاهتمامات المقبولة هي التي تؤدّي إلى توجيه السؤال إلى المتن حصرًا، وتقوم باستنطاقه وتجعل الدلالات الالتزاميّة للمتن تحت

(216)

اختيار المفسّر. وعليه فإنّ أسئلة المفسّر الناشئة من توقّعاته لا بدّ أن تتناسق مع المتن، فإذا كان المتن فلسفيًّا مثلًا، وكانت توقّعات وأسئلة المفسّر مباحث وجوديّة، تناسق المتن حينئذٍ مع هذه الأسئلة بشكلٍ طبيعيّ ويقوم بالإجابة، ولكن إذا كانت أسئلة المفسِّر طبيّةً لم يتجاوب المتن معها؛ لأنّ توقّع المفسِّر توقّعٌ في غير محلّه.

وعليه، فإنّ من المسبوقات الأداتيّة، التعرُّف على مؤلّف المتن وخصائصه العلميّة، فلو كان المتن فلسفيًّا يلزم أن تكون التوقّعات فلسفيّة أيضًا، وعليه فإنّ قوله: (السؤال من المتن يولد من خلال الاهتمامات والتوقّعات، ويلزم تناسق الاهتمامات والتوقّعات والأسئلة مع سائر المسبوقات) كلامٌ صحيحٌ في بادئ النظر، ولكن قوله: (إنّ كلّ فهمٍ يحتاج إلى تفسير، وكلّ تفسيرٍ يبتني على أسئلة، والأسئلة تبتني على الاهتمامات والتوقّعات) كلامٌ غير صحيح ولا نقبله.

لقد التفت مجتهد شبستري إلى أنّ لكلّ فهمٍ مسبوقاتٍ معرفيّة، فظنّ أنّ لكلّ فهمٍ مسبوقاتٍ معرفيّة خاصّة، ثمّ استنتج أنّ كلّ الأفهام تحتاج إلى تفسير، ويلزم أنْ يكون ذلك التفسير معتمدًا سؤال المتن، كما أنّ السؤال يتولّد من الاهتمامات والتوقّعات، نعم يكون الأمر في الأغلب هكذا، أي لكلّ قارئٍ اهتمامات وتوقّعات نفسيّة أو غير نفسيّة ينتخب من خلالها متنًا للقراءة.

وبعبارةٍ أخرى يمكن القول بالتسامح العرفي إنّ (كلّ فاهمٍ له اهتمامات وتوقّعات خاصّة يتّجه بها نحو المتن)، ولكن لا يصحّ القول إنّ (لكلّ مفسِّرٍ اهتمامًا وتوقّعًا خاصًّا يتولّد منه سؤال، ثمّ يقوم بعرض السؤال على المتن ليستنطق به المتن)، أي لا يصحّ ما قاله: (لا يتكلّم المتن ولا يحصل التفسير قبل وجود المسبوقات المعرفيّة والاهتمامات والتوقّعات)؛ لأنّنا ذكرنا إمكان فهم المدلول المطابقي للمتن

(217)

وتفسير المدلول الالتزامي البيّن بالمسبوقات الأداتيّة، إذ نحن نكون بصدد معرفة المعاني المتطابقة والالتزاميّة البيّنة للمتن، فحينئذٍ لا حاجة إلى سؤال المتن، السؤال الذي ينشأ من الاهتمامات والتوقّعات الخاصّة عن المتن، وعلى سبيل المثال كثيرًا ما يحصل لنا أن نعثر على كتاب نقوم بقراءته من دون سبق توقّع أو اهتمام أو حاجة خاصّة، ونراه غير قابلٍ للفهم لنا فندع قراءته.

النقد الخامس: لزوم التقيّد بنيّة المؤلّف

يهتمّ مجتهد شبستري بنيّة المؤلِّف وقصده، ويرى لزوم فهم قصد المؤلّف؛ لذا لا بدّ من معرفة مسبوقات المؤلّف المعرفيّة وفهم اهتماماته وتوقّعاته. ثمّ يقول إنّ المفسّر من خلال مسبوقاته المعرفيّة ومفروضاته لا بدّ أن يقوم بتنقيح اهتمامات المؤلِّف وتوقّعاته. ويرى أنّ المؤلّف لا يحقّ له أنْ يمتلك أيّ نوعٍ من المسبوقات والتوقّعات كيفما شاء.

ونقول: يرد عليه أنّ هذا الكلام يعدّ تلاعبًا في نيّة المؤلّف، فلماذا يصرّ مجتهد شبستري على التكلّم عن نيّة المؤلّف؟ والأفضل عدم التطرّق إلى نيّة المؤلّف تمامًا. فمن بحث عن نيّة المؤلِّف أمكنه العثور عليها من خلال معرفة المؤلِّف، ومعرفة أصوله ومخاطبه وهواجسه المعرفيّة، نعم كلّما زادت معرفة المفسِّر بالمؤلِّف أمكنه فهم المتن بشكل أفضل، ولكن لا بدّ من عدم تحميل توقّعاتنا على المؤلِّف ونسيان هواجسه المعرفيّة.

وعلى سبيل المثال لو اطّلع شخص على هواجس ملّا صدرا وتوقّعاته من تأسيس الحكمة المتعالية أمكنه فهم كلامه بنحو أفضل، ولكن لو وصل المفسِّر بعد

(218)

الفحص والتحقيق الى أنّ هاجس ملّا صدرا كان حلّ جميع المشاكل اللَّاهوتيّة، لا يحقّ له إهمال هذا الهاجس وتخطئته والقول بأنّ ملّا صدرا يلزم عليه تغيير هواجسه إلى شيءٍ آخر. هذا الأمر يعني إسقاط رأي المفسِّر على آثار المؤلّف ليس إلّا، وهذه المسبوقات المفروضة هي التي تعيق الفهم، والحاصل كان الأفضل لمجتهد شبستري عدم التطرّق إلى نيّة المؤلّف من البداية؛ لأنّ من يلج هذا المبحث لا بدّ أن يلتزم به إلى آخره.

النقد السادس: عدم إمكان الجمع من محوريّة المفسِّر ومحوريّة المؤلّف

الإشكال الآخر الوارد على مسألة نية المؤلّف، أنّ أنصار الهرمنيوطيقا الفلسفيّة يؤكّدون على محوريّة المفسّر؛ لأنّ هواجسهم تتعلّق بمسبوقات المفسِّر، وحتى أنّ المؤلّف إذا واجه متنه الذي كتبه سيصبح مفسّرًا، بل يقول بعضهم بموت المؤلِّف، فهم ينحّون قصد المؤلّف ونيّته، ويقولون بعدم وجود معنى متعيّنٍ للمتن.

إنّهم يرون أنّ معنى المتن الحقيقي هو ما يفهمه المفسِّر في أفقه المعرفي؛ لذا يعتقد بتعدّد الفهم من المتن الواحد بتعدّد أفق المفسّرين المعنائي والمعرفي، ويرون حصول الحوار بين المفسِّر والمتن، ويحصل تلاقٍ بين الأفق الذهني للمفسّر مع الأفق المعنائي للمتن، وبعد هذا التلاقي والحوار يتكلّم المتن، أي أنّ أفق المفسِّر يكسي المتن المعنى، وعليه فإنّ نظريّة أنصار الهرمنيوطيقا الفلسفيّة تدور حول محوريّة المفسِّر؛ ولذا نراهم يؤكّدون على اهتمامات المفسَّر وتوقّعاته وأسئلته ومسبوقاته المعرفيّة، فلا يمكن الجمع بين نظريّة محوريّة المفسِّر ومحوريّة المؤلّف؛ لأنّ الاهتمام الرئيس في نظريّة محوريّة المتن يدور حول الدفاع عن قصد المؤلّف ونيّته.

(219)

والحاصل أنّ مجتهد شبستري أوقع نفسه في الدور؛ إذ يعتقد من جهة لزوم سعي المفسِّر لمعرفة قصد المؤلّف ومراده، فيلزم عليه معرفة ظروف صدور المتن التاريخيّة ومعرفة مخاطَبي المتن أيضًا، ويعتقد من جهةٍ ثانية أنّ فهم أيّ متنٍ يبتني على مسبوقات المفسِّر الأساسيّة.

نعم أنّ مجتهد شبستري ولأجل أنْ ينجو من هذا الدور، يقول بأنّ المفسِّر عندما يقف على مسبوقات المؤلِّف المعرفيّة، يلزم عليه القيام بتنقيحها من خلال المسبوقات التي يمتلكها [أي المفسِّر]، فلا يحقّ للمؤلِّف امتلاك أيّ نوعٍ من المسبوقات كيفما يشاء[1].

ولكن نقول: من اعتقد بمحوريّة المفسِّر لا يمكنه أن يقول بمحوريّة المؤلّف أيضًا؛ لأنّ بينهما تدافعًا وتعارضًا واضحًا، نعم نحن لا نقول بلزوم عدم وجود أيّ مسبوقاتٍ للمفسّر، بل نعتقد بلزوم امتلاكه لمسبوقاتٍ خاصّةٍ كي يعرف بها مراد المؤلّف؛ لذا نرى في المباحث الهرمنيوطيقيّة اتجاهًا نحو محوريّة المتن، واتجاهًا آخر نحو محوريّة المتن والمؤلِّف، واتجاهًا ثالثًا نحو محوريّة المفسّر والمتن، فأمثال شلايرماخر وديلتاي تمسّكوا بمحوريّة المؤلِّف والمتن، أمّا أنصار الهرمنيوطيقا الفلسفيّة فذهبوا إلى محوريّة المفسِّر والمتن، لقولهم بديالكتيك المتن والمفسِّر، والحاصل لا يمكن الجمع بين محوريّة المؤلِّف ومحوريّة المفسِّر؛ لأنّ أنصار محوريّة المفسِّر لا يلتفتون الى نيّة المؤلِّف أبدًا.

(220)

النقد السابع: عدم إمكان الجمع بين المنهج الهرمنيوطيقي والظاهراتي

الأمر الآخر الذي يؤكّد عليه مجتهد شبستري، مسألة كشف معنى المتن المركزي، والذي تدور حوله مباحث المتن[1]. إنّ كلام مجتهد شبستري هنا يصدق على بعض المتون فقط؛ وذلك لأنّ بعض المتون ليس لها معنى مركزيّ واحد، بل لها محاور متعدّدة، هذا أولًا. وثانيًا كيف يمكننا كشف المحور الواحد من خلال مسبوقاتنا الأداتيّة؟ يلزم علينا استخدام مسبوقاتنا الأداتيّة كي نصل إلى المحور الواحد.

يؤكّد مجتهد شبستري ويعتقد أنّنا ومن خلال الاستفادة من منهج فينومينولوجيا الدين يمكننا التفكيك بين ذاتيّات الدين وعرضيّاته، أي يثبت لنا هذا المنهج أنّ أحكام الإسلام الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة تاريخيّة، ومن قبيل القضايا الخارجيّة لا الحقيقيّة[2].

نحن سنقوم بنقد كلامه هذا في مباحث معرفة الدين، ونبيِّن وجود عدّة أخطاءٍ متسلسلةٍ في نظريّته هذه، ولكن ما يوجب العجب هنا أنّه يجعل منهج فينومينولوجيا الدين منهجًا لكشف معنى المتن المركزي. وهنا يُطرح سؤال عن كيفيّة جمعه بين المنهج الفينومينولوجي والمنهج الهرمنيوطيقي؟ وهذا من قبيل المثلّث الحاوي لثمانية أضلاع.

إنّ منهج فينومينولوجيا الدين - أو بشكل عامّ المنهج الفينومينولوجي الذي ذكره هوسرل أستاذ هايدغر - يعمل حينما يوضع المتن بين قوسين (إيبوخيّة)،

(221)

ومن دون أن نضع أيّ مسبوقاتٍ في الذهن وننظر إلى المتن بما هو هو، ولكن المنهج الهرمنيوطيقي يؤكّد على حاجة الفهم إلى التفسير، ويعتمد التفسير على المقوّمات والمقدّمات والمفروضات وغيرها من الأمور، علمًا بأنّ هايدغر أبدع الهرمنيوطيقا الفلسفيّة لنقد أستاذه هوسرل، فكيف يعتمد مجتهد شبستري من جهةٍ على نظريّة الهرمنيوطيقا الفلسفيّة الأعمّ، التي تحتاج إلى فروضاتٍ مسبقة، ومن جهةٍ أُخرى يقترح في كتابه «تأملاتی درقرائت انسانی از دین» الاستفادة من المنهج الفينومينولوجي لكشف المعنى المركزي[1]؟!

النقد الثامن: عدم عموميّة مقبولات عصر الحداثة

من المقوّمات التفسيريّة التي ذكرها مجتهد شبستري، الترجمة الثقافيّة للمتن من قبل المفسِّر مع لحاظ أفقه التفسيري، أي عندما يفهم المفسّر متن المؤلّف ويكشف معناه المركزي، يلزمه القيام بترجمته الثقافيّة -لا اللغويّة - طبقًا لمقتضيات عصر المفسِّر ومكانه وأسئلته الأساسيّة، وهذا العمل في الحقيقة يُعدّ ترجمة التجارب، فلو كان المعنى المركزي في القرآن هو العدل والأمن وكرامة الإنسان ونحوها، وبما أنّ مقتضيات عصرنا هي مقبولات الحداثة، فلابدّ أن نترجم هذه الأمور وفق عصرنا الراهن ومقتضيات المفسِّر الزمكانيّة وأسئلته الأساسيّة، أي نفهم العدل والأمن وكرامة الإنسان وفق مقبولات عصر الحداثة.

ولنا هنا عدّة أسئلةٍ تجاه ما ذكره مجتهد شبستري: ألا يكون هذا تفسيرًا بالرأي؟ ألا يعني تحميل العقائد والمدارس المعاصرة على المتن الديني؟ وهل يعلم مجتهد

(222)

شبستري ما يُصيب الدين جرّاء هذا الرأي؟ فهل المدارس المعاصرة في العالم الحديث تقول بأمرٍ معيّنٍ واحد؟ وهل المقبولات هي مقبولات عامّة؟ فالعدالة يفسّرها بعضهم تفسيرًا اشتراكيًّا، ويفسرها آخرون تفسيرًا ماركسيًّا، وفريق ثالث ليبراليًّا، وغيرهم نسويًّا، فكلام مجتهد شبستري يفتح الباب أمام إسلامٍ متعدّد، في حين أنّه يستشكل على الطنطاوي ويقول: لماذا بنى تفسيره على مفروضاتٍ خاطئةٍ، وقام بتحميل النظريّات العلميّة على القرآن؟![1] وهو هنا يفعل الأمر نفسه! بل إنّ طنطاوي طبّق النظريّة العلميّة على القرآن فقط، ولكن شبستري فتح الباب أمام الإسلام الاشتراكي، والماركسي، والليبرالي وسائر القراءات المختلفة للماركسيّة التي كانت سائدة في روسيا سابقًا.

مضافًا إلى ذلك فهل نُسي اليوم التفسير الكلاسيكي للعدالة تمامًا؟ نرى اليوم كثيرًا من المسلمين والمسيحيّين يقبلون التفسير الكلاسيكي عن العدالة والأمن والكرامة، فثقافة العصر اليوم متنوّعة كثيرًا، فلماذا نقتصر في مقتضيات عصر المفسِّر على المدارس المذكورة آنفًا؟ فهل خلت الساحة لهذه المدارس الاجتماعيّة والفلسفيّة فقط؟ فهناك مدارس أخرى غير التي مرّت لا يقلّ عدد القائلين بها عن أولئك، فلماذا تهمل هذه المدارس الأخرى؟

والنقطة الأخرى أنّ القاعدة التي أشار إليها مجتهد شبستري، تنطبق أيضًا على الناس المعاصرين لزمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمعصومين أيضًا، إذ كان لهم أيضًا ثقافة تخصّ عصرهم، وكان عليهم البحث عن الدالّ المركزي والمعنى المركزي في القرآن، فنفترض أنّهم قالوا إنّ الدالّ المركزي في القرآن عبادة الله أو العدالة، وكانوا

(223)

يترجمونه وفق ثقافة زمانهم، فيعدّون عبادة الله هي عبادة الأصنام، ويعدّون العدالة بمعنى استرقاق الآخرين، ألا تكون حينئذٍ بعثة الأنبياء ونزول القرآن لغوًا؟ وهل هذه الرؤية تسمح لانتقال الرسالة الأساسيّة للمتن.

النقد التاسع: لا تستطيع مقبولات عصر الحداثة أن تكون معيار تنقيح المسبوقات المعرفيّة

يؤكّد مجتهد شبستري في بعض الموارد على لزوم تنقيح المسبوقات المعرفيّة، ثمّ يفتي بصعوبة إعطاء معيارٍ للتنقيح، ولم يصرّح به أو يجعله مقبولات عصر الحداثة.

ونحن نقول أوّلًا: قد جعل مجتهد شبستري معيارًا متزلزلًا وغير مستقرٍّ لتنقيح المسبوقات؛ إذ نعتقد أنّ عالم الحداثة سيجرّ البشريّة إلى الهلاك.

وثانيًا: مع لحاظ تعدّد المدارس وتعدّد التعاريف لمفاهيم من قبيل العدالة والأمن وكرامة الإنسان في عصر الحداثة، ما هي المدرسة المعيار الحداثويّة عند مجتهد شبستري؟ ولماذا؟

ثالثًا: يذعن مجتهد شبستري بصعوبة تنقيح المسبوقات لا سيّما إذا طالت المدّة بين زمن المفسِّر وزمن المؤلِّف، ولكنّه يقول بعدم صحّة الإفهام، من دون أنْ يعطي معيارًا واضحًا، ثمّ يقبل فهم الحداثويّين للمتن الديني، ويردّ الفهم التقليدي، والحالّ إذا لم يكن ثمّة معيارٌ لصحّ أيّ فهم، مضافًا إلى أنّ الفهم التقليدي إذا لم يكن له معيارٌ، ففهم الحداثوي وفهم مجتهد شبستري عن الدين لم يكن لهما معيارٌ أيضًا، فيكون القيام بنقد القراءة الرسميّة للدين في هذه الحالة غير عقلائيّ.

النقد العاشر: لا يوجد إجماعٌ على نظريّة الهرمنيوطيقا الفلسفيّة

(224)

يتحدّث مجتهد شبستري بنحو يبدو منه أنّ النظريّة اللسانيّة أو الهرمنيوطيقيّة التي يقبلها إجماعيّةٌ، يقبلها جميع علماء الغرب ومفكِّريه، وقد يستخدم شبستري عبارات يقول فيها: في محيط الفكر المتوّج بأمواج عظيمة، لا يمكن التقدّم والسباحة مع أصول الفقه، بل لا بدّ من الاستعانة بالبواخر الضخمة اللسانيّة والهرمنيوطيقيّة[1].

ونحن نقول: أوّلًا انّ هذه الباخرة العظيمة لم تكن سوى نظريّةٍ لها عشرات النظريّات المعارضة في علم اللسانيّات الحديثة، وتوجد اليوم كتبٌ كثيرةٌ حول النظريّات اللسانيّة والهرمنيوطيقيّة[2]، فلم تكن نظريّة الهرمنيوطيقا الفلسفيّة إجماعيّة، بل لها مخالفون كثر. وفي الواقع أنّ من زلّات مفكِّرينا اليوم التمسّك بهيغل مثلًا وكأنّه المفكّر الغربي الوحيد، وقد ترجم الأستاذ فروغي لديكارت وكأنّه الفيلسوف الغربي الوحيد، كما هو الحال بخصوص هايدغر وبوبر، حيث يشار إليهما وكأنّما أذعن لهما جميع مفكرِّي الغرب.

النقد الحادي عشر: إنّ أهم وظيفة اللّغة نقل المعنى من المتكلّم إلى المخاطَب

يعتقد مجتهد شبستري أنّ حقيقة الفهم لم تكن من سنخ الموضوع العيني، بل هي حوار بين المفسِّر والمتن، أي لم يكن كالمجهول العلمي الذي يتمّ اكتشافه عن طريق القواعد والدلالات اللسانيّة بمعزلٍ عن مسبوقات المفسّر.

الإشكال الموجود هنا - وقد أشار إليه بعض المحقّقين أيضًا - أنّ مجتهد شبستري ذكر نوعين من الفهم، واختار أحدهما من دون تقديم دليل. فالنوع الأوّل

(225)

يبتني على أنّ حقيقة الفهم حوار، والنوع الثاني يجعل المتن موضوعًا عينيًّا كاشفًا لنيّة المؤلّف، وشبستري اختار الأوّل من دون تقديم دليل عليه[1]، وتبنّاه كأنّه أمرٌ بديهي. وعليه أوّلًا بيان دليله في اختيار هذا الرأي، وثانيًا أنّ فلسفة وجود اللغة إعانة المؤلِّف والمتكلّم على بيان ما في ضميره والمعاني التي يستبطنها بمساعدة اللغة والنصوص اللغويّة وينقلها للمخاطَب، وعلى المفسِّر السعي ليجعل هذا الفهم معلومًا بعد أنْ كان مجهولًا، ويبيِّن نيّة المؤلّف. أمّا أنّه يقبل نيّة المؤلّف أولا يقبلها فموضوعٌ آخر.

وبعبارةٍ أخرى إنّ البحث التجريبي عن استعمال اللغة بين الناس يدلّ على أنّ من أهمّ فعاليّات اللّغة نقل المعنى من المتكلّم إلى المخاطب، أي قام الإنسان بوضع اللّغة لأجل التواصل مع الآخرين، نعم للّغة أعمال أخرى ولكن كلامنا فيما لو جعلنا حقيقة الفهم الحوار بين المفسِّر والمتن كما يقولمجتهد شبستري، وجعلنا الأصالة لمسبوقات المفسِّر، بحيث يقوم المفسِّر بتنقيح اهتمامات المؤلِّف وتشخيصها، فهذا الأمر لا يوصلنا إلى مراد المؤلِّف، الأمر الذي دلّت عليه فلسفة ظهور اللغة.

(226)

 

 

الفصل الثاني:
نقدُ مجتهد شبستري للقراءة الرسميّة للدين، ونقدُ نقدِه

يختصّ القسم الثاني من مباحث مجتهد شبستري بنقده القراءة الرسميّة للدين، إذ يقدّم نقدَا للفهم الفقهي للدين ويشير إلى الأزمات التي تولد منه، وقد تطرّق إلى هذا المبحث في كتابه (نقد للقراءة الرسميّة عن الدين)، وكتاب (هرمنيوطيقا الكتاب والسُنّة). وسنقوم في البداية بتلخيص رؤيته في هذا المحور، أي نقده للإسلام الفقهي، ثم نعرّج على نقد النقد، أي نذكر أمورًا في نقد رؤيته.

نقد مجتهد شبستري للإسلام الفقهي وردّ نقده

نسب مجتهد شبستري بعض الأمور إلى الإسلام الفقهي، ثم نقدها، وسنشير إليها هنا:

المورد الأوّل: تعارض الإسلام الفقهي مع الديمقراطيّة

يقول مجتهد شبستري: «تعارضُ قراءةُ الإسلام الفقهي الديمقراطيّةَ، وتنحّي مشاركةَ الناس السياسيّة في إدارة البلاد».

الجواب: أنّ أدلّ دليلٍ على إمكان الشيء وقوعه، فهل مشاركة الناس وبناء

(227)

على الإسلام الفقهي هذا في اختيار الرئيس والقائد، لم يكن مشاركةً سياسيّة؟ الإسلام الفقهي يقبل بمشاركة الناس السياسيّة ومشاركتهم في إدارة البلاد، فلماذا يتعارض مع الديمقراطيّة؟ يرى الإسلام الفقهي شرعيّة الحكومة إذا كانت برأي الأكثريّة، فبناءً على الإسلام الفقهي الشيعي يحرم إقامة الحكومة الإسلاميّة بالإكراه والإجبار.

إنّ مجتهد شبستري وغيره من الحداثويّين يأخذون الديمقراطيّة بمعناها الليبرالي أو الإشتراكي، أي وكأنّه يلزم أنْ تتقولب الديمقراطيّة في قالب الليبراليّة والاشتراكيّة حصرًا، وإلّا فإنّها لم تُطبّق عندهم، ولم تتحقّق مشاركة الناس، ومن المعلوم أنّ هذه الرؤية غير صحيحة؛ إذ إنّ نفي الخاصّ لا يستلزم نفي العامّ، فهل يصحّ لمن يعتقد بالديمقراطيّة الليبراليّة القول بعدم وجود الديمقراطيّة في المجتمع الذي يتمسّك بالديمقراطيّة الاشتراكيّة؟ إنّ للديمقراطيّة مدارس مختلفة، فلا يصحّ لمن يعتقد بنوعٍ خاصٍّ من الديمقراطيّة نفي سائر الأنواع منها.

المورد الثاني: الإسلام الفقهي يستلزم العنف

يقول مجتهد شبستري: «يتلقّى الناس أنواع العنف تحت غطاء وظيفة الدولة وإقامة الحدود وحفظ قيم الدين». ثمّ يذكر أمثلةً عن أحكام القصاص ونحوه[1].

الجواب النقضي: إذا كان القصاص مصداق العنف، ألا يكون السجن المؤبّد والأعمال الشاقّة مصداقًا للعنف أيضًا؟ فهل المدارس الموجودة حاليًا في العالم تخلو من العنف؟ يعتقد مجتهد شبستري بوقوع أنواع العنف ضدّ الناس تحت لواء

(228)

وظائف الحكومة وإقامة الحدود وحفظ القيم، ونحن نلفت انتباهه إلى مئات أنواع العنف الموجودة تحت لواء وظائف الحكومات الليبراليّة والماركسيّة والشيوعيّة، من ذلك أنّ الحرب العالميّة الأولى والثانية والحروب قبلها في أوروبا قامت بها كلّها الأنظمة الليبراليّة والاشتراكيّة.

فمن نماذج العنف الماركسي أنّ الماركسيين عندما حكموا روسيا، كانوا يدخلون كنائس الأرثوذكس، ويعذّبون المسيحيّين بتقشير جلودهم وهم أحياء. كما أنّ قتل الأبرياء بالقنابل النوويّة في اليابان، وقتل الناس في الفيتنام وغيرها حصيلة هذه الحكومات العالميّة، ونسأل مجتهد شبستري ونقول: كم كتبت عن العنف الموجود في النظم الليبراليّة؟ فهل وجود عدّة أحكام في الإسلام يدلّ على العنف، ولكن تلك الفجائع والقتل والإبادة لا تدلّ عليه، بل يُغضّ الطرف عنها؟

الجواب الحَلي: ربما لم يقتنع شخص بالجواب النقضي، ويقول: إنّ العنف غير صحيح، ولا بدّ من تركه. نقول في جوابه: هنا مباحث كثيرة، ربّما يكون العنف دواءً لمرضٍ اجتماعي، فلنفترض طبيبًا قام بقطع يد مريضه، أو قام بفصل أعضاء الميّت السريري ليعطيها لشخصٍ آخر، فظاهر العمل هذا عنف، ولكن حقيقته إحياء، لذا قال القرآن: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ) (البقرة: 179).

فالقِصاص وإنْ كان عنفًا في ظاهره، لكن يعقبه الحياة الاجتماعيّة الآمنة، فعقوبة شخص واحد تنجي المجتمع، فهذا العنف لم يكن مذمومًا فحسب بل مطلوب، نعم لا ينبغي أنْ يكون العنف أكثريًّا، بل يلزم أنْ يكون إصلاحيًّا ومرمِّمًا، والعنف المذموم هو ما يسبِّب الأزمة الاجتماعيّة.

(229)

المورد الثالث: عدم اعتبار الإسلام الفقهي علميًّا

يقول مجتهد شبستري: «لا اعتبار لهذه القراءة عند العلماء علميًّا، لعدم مقبوليّة مبانيها الفلسفيّة»[1]؟

الجواب: نقول في جوابه: إنّ قراءتك للإسلام أيضًا لا اعتبار لها عند العلماء علميًّا، لعدم مقبوليّة مبانيها الفلسفيّة، القراءة التي تقدّمها الليبراليّة عن الإنسان لا اعتبار لها علميًّا؛ لعدم مقبوليّة مبانيها الفلسفيّة. وفي الواقع أنّ المباني الفلسفيّة لم تكن مقبولةً بنحوٍ عامّ، فهناك من يقبل المباني الفلسفيّة الوضعيّة، وهناك من يقبل المباني الفلسفيّة الوجوديّة، وثالث يقبل المباني الفلسفيّة الإسلاميّة.

نعم هناك من لم يقبل المباني الفلسفيّة الإسلاميّة، ولكن من جهةٍ أخرى هناك من لم يقبل أيضًا المباني الفلسفيّة الوضعيّة والوجوديّة، فعدم قبول مباني فلسفة مّا لا يكون دليلًا على عدم اعتبارها علميًّا. فعدم قبول علماء الوضعيّة قراءة الإسلام الفقهي مثلًا أمر واضح؛ لأنّ مبانيهم المعرفيّة والفلسفيّة الحسِّية لا تنسجم المباني الفلسفيّة والمعرفيّة الإسلاميّة؛ إذ إنّ الفلسفة الإسلاميّة ميتافيزيقيّة إلهيّة، فلا تكون مقبولةً عند المادّيّين. إنّ قراءة الإسلام الفقهي تبتني على فلسفةٍ خاصّةٍ تكون مقبولةً عند علماء الإسلام وفلاسفتهم، والحكم بعدم اعتبارها بسبب عدم قبول بعض الفلاسفة والعلماء أمر يوجب العجب.

(230)

المورد الرابع: الإسلام الفقهي والأزمات

يقول مجتهد شبستري: «إنّ قراءة الإسلام الفقهي مصابةٌ بالأزمات، ولا يمكنها حينئذٍ من إيصال رسائل معنويّةٍ، وقد تحوّلت إلى ضدّ الدين»[1]. وقد طرح هذا البحث على قسمين: فتارةً يلاحظ الأزمات الموجودة في إيران، ويعتقد أنّ القراءة الرسميّة للدين سبّبت الأزمات للمجتمع الإيراني، بأنْ يجعل الإسلام الفقهي منبع الأزمات. وتارةً أخرى ينسب الأزمات إلى الإسلام الفقهي، ويعتقد أنّ الإسلام الفقهي مصابٌ بالأزمات.

ويذكر مجتهد شبستري دليلين على الأزمات التي سبّبتها القراءة الرسميّة للدين، لا سيّما الأزمات في المجتمع الإيراني، وهما:

1- بناءً على اعتقاد القائلين بالدين الإسلامي والقراءة الرسميّة للدين، فإنّ الدين الإسلامي يحتوي على أنظمةٍ سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ وحقوقيّةٍ تعتمد على علم الفقه شاملة لجميع الأعصار.

2- بناءً على القراءة الرسميّة للدين تكون وظيفة الحكومة عند المسلمين إقامة أحكام الإسلام.

يرى مجتهد شبستري عدم تماميّة الأمرين أعلاه؛ لأنّه يعتقد أنّ المجتمعات الإسلاميّة شهدت تغيّراتٍ أساسيةً بسبب التنمية الحديثة، وأصبح لحياة المسلمين بعد الورود في عصر الحداثة عادات وتقاليد وآداب مختلفة بسبب تغيّر ظروف الطبيعيّة والإقليميّة.

الجواب: إنّ هذه المسألة: (كيف يمكن للإنسان المتغيّر في العالم الحديث أنْ

(231)

يعيش في ظلّ الأحكام الإسلاميّة التي بُعث رسولها قبل ألف وأربعمائة عام؟)، أو بعبارة أخرى: كيف تلبّي الأحكام الثابتة حوائج الإنسان المتغيّرة؟ هي مسألة قد طُرحت قبل أكثر من مائة وخمسين عامًا[1]. فمن الصحيح أنّ التغييرات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة ونحوها حدثت في العالم المعاصر اليوم بشكلٍ سريع، ولكن توجد هذه التغييرات أيضًا من ذي قبل في الجملة، وكانت تحصل مسائل مستحدثة، وكان هدف علماء الأصول من طرح بحث الاجتهاد هو تلبية هذا الجانب، صحيح أنّ بعض أحكام الإسلام أحكام خاصّة كأحكام صلاة الجمعة أو العيد، ولكن بعض أحكام الإسلام عامّة كقوله: (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275).

والسؤال المطروح أنّ هذه القواعد العامّة الموجودة في أحكام الشرع، هل مازالت صالحةً للمجتعات اليوم أم لا؟ إنّ إشكال مجتهد شبستري من (أنّ المجتمع قد توسّع وحصلت فيه تغيّراتٌ بنيويّةٌ، فتغيّرت الآداب والرسوم والتقاليد، فالقراءة الرسميّة من الدين مأزومة)، يبتني على عدم قدرة أحكام الإسلام على الإجابة عن أسئلة العصر الحاضر، وهذا الإشكال ربما يصحّ على المسلك الأخباري، غير أنّه لا يصحّ على المسلك الأصولي؛ لأنّ الأصولي يستنبط من خلال المنهج الاجتهادي القاعدة الأصوليّة العامّة والقواعد الفقهيّة العامة من الكتاب والسُنّة والعقل والإجماع، ثمّ يقوم بتطبيق هذه القواعد على المصاديق بالمنهج الاجتهادي نفسه، وبناءً على هذا فإنّ أحكام الإسلام تتمكّن من الإجابة عن المتغيّرات الحاصلة جرّاء التوسّع الحديث.

(232)

إنّ كلام شبستري القائل بأنّ (بناء على القراءة الرسميّة للدين، يحتوي الإسلام كدين على النظم السياسيّة والاقتصاديّة والحقوقيّة المبتنية على علم الفقه، الصالحة للعمل بها مدى العصور) كلام مبهم؛ لأنّ كون (علم الفقه يتمكّن من إعطاء النظم الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة) له عدّة تفاسير، وتوجد آراء مختلفة ومباحث كثيرة بهذا الخصوص، لا مجال إلى ذكرها هنا، ولكن نشير إلى رأيَيْنِ بشكل إجمالي:

1- ربّما يُراد من الأنظمة الاجتماعيّة النظام المعرفي أو المدرسة، وعلى سبيل المثال فإنّ نظريّة ولاية الفقيه تندرج تحت المدرسة السياسيّة الإسلاميّة، أو نظريّة الاقتصاد الإسلامي التي طرحها الشهيد صدر في قبال الاقتصاد الرأسمالي والشيوعي، تندرج تحت مدرسة الاقتصادي الإسلاميّ. ففي هذه الموارد يتمّ بيان أصول الإسلام في ذلك الموضوع، ففي الاقتصاد الإسلامي مثلًا يُشار إلى مجموعة أصول من قبيل: الحرّيّة الاقتصاديّة، والمشاركة الاقتصادية، والتعاون، والملكيّة الخاصّة وملكيّة الدولة.

النقطة المهمّة هنا أنّ كثيرًا من العلماء عند تقديم القراءة الرسميّة للدين لم يلتفتوا إلى هذا الأمر، بل كانت رؤيتهم تدور على محور المسائل، بمعنى إعطاء حكم المسألة المستحدثة بالاعتماد على القواعد الأصوليّة والفقهيّة، فلا يُعْنَون بالنظم الاجتماعيّة الإسلاميّة بمعنى المدارس الإسلاميّة، بل يبحثون فقط عن بيان أحكام الإسلام الاجتماعيّة. والحال أنّ بعض العلماء أمثال السيِّد الخميني والعلّامة الطباطبائي والشهيد الصدر والشهيد مطهري كانت رؤيتهم تدور على محور المدرسة والنظام.

قد يُراد من النظم الاجتماعيّة النظام العيني، بأنْ يعطي الفقه الإسلامي نظريّة تطبّق فعليًّا، مثلًا في النظام الاقتصادي، تقترح مؤسّسة جديدة بدل نظام البنوك

(233)

العالمي المتعارف، ونحو ذلك في النظام السياسي، والاقتصادي والاجتماعي، وهو ما يُطرح اليوم تحت عنوان (فقه النظام) من قبل بعض العلماء المعاصرين بشكل مدوّن، وبشكل عامّ فإنّ القراءة الرسميّة للدين لم تتمكن بشكل تامّ من تقديم نظامٍ سياسيّ واقتصاديّ وحقوقيّ من صميم علم الفقه، وإنْ كانت ثمّة محاولات من هنا وهناك، ولكن ما زلنا بحاجةٍ إلى أعمال جدّيّة في هذا الشأن.

إنّ النظام الاجتماعي بمعنى المنظومة المعرفيّة أو المدرسة كانت قبل هذا مطروحةً من قبل بعض العلماء القلائل، وقد ذكرنا أنّ علماء الإسلام كانوا يبحثون عن أحكام الإسلام الاجتماعيّة من خلال المنهج الاجتهادي السائد، أي يستعينون بالمسبوقات الاستفهاميّة ويأخذون الأسئلة الجديدة من الظواهر ويعرضونها على الكتاب والسُنّة، أو كانوا يصلون إلى أحكام جديدة من خلال استنطاق الكتاب والسُنّة.

فالشهيد الصدر مثلًا عندما اقترح النظام الاقتصادي - بعنوان المنظومة المعرفيّة - فقد تطرّق إلى أصول هذا النظام فقط، والحال أنّ اليوم يدعو بعض الباحثين إلى لزوم الاستمداد من الفقه للوصول إلى استحداث الأنظمة العينيّة مضافًا إلى المنظومة المعرفيّة. علمًا بأنّ العلوم الأخرى عدا الفقه قد يُستعان بها أيضًا لبناء النظام العيني؛ إذ إنّ البناء المؤسّسي أمرٌر متعدّد التخصّصات لا يمكن للفقه أن يتولّاه بمفرده، وعليه فإنّ علم الفقه لا يستطيع أن يقدّم لنا النظم السياسيّة والاقتصاديّة والحقوقيّة الإسلاميّة بالمعنى العيني، فضلًا عن شموله لجميع الأعصار؛ لأنّ البنى في كلّ عصرٍ قد تتغيّر.

بناءً على هذا، فإنّ ما قاله شبستري (إنّ القراءة الرسميّة للدين تجعل الإسلام دينًا يحتوي على النظم السياسيّة والاقتصاديّة والحقوقيّة الناتجة عن علم الفقه،

(234)

ويمكن العيش معها مدى الحياة)، عامّ ومبهم. والأمر الذي يؤكّد عليه شبستري كثيرًا أنّ نمطًا من الحياة الجديدة قد ظهر منذ مائة وخمسين سنة قد غيّر نمط الحياة بشكلٍ كامل، وهذا التغيّر بلغ مرتبةً نحتاج معها إلى تقديم برامج تنمويّةٍ جديدة. والآن نطرح السؤال الآتي: بالنظر إلى أحوال نمط حياة الإنسان الجديدة، هل تتمكّن أحكام الإسلام من الإجابة عن الأسئلة المعاصرة؟

نقول في الجواب: إذا كان المقصود من إجابة الأحكام القبول بشؤون الحياة المعاصرة كلها، فالجواب بالنفي، أمّا إنْ كان المقصود أنّ الإسلام يقبل بعض شؤون الحياة الجديدة، ويجيب بأحكام جديدة وفق المباني الجديدة، ولا يقبل بعضها الآخر، فهذا صحيح، ونعتقد أنّ هذا ما تحقّق بالفعل اليوم.

أمّا (هل أنّ هذا المنهج كان ناجحًا أم لا؟) نقول: إذا كان المراد النجاح المعرفي والإيديولوجي فقط، فالجواب بالإيجاب؛ لأنّ أحكام الإسلام تجيب على أيّ سؤالٍ يخصّ البنوك مثلًا. ولكن إذا كان النجاح ناظرًا إلى الأزمات الاجتماعيّة بمعنى حدوث السرقات والرشوة فنقول: هل أحكام الإسلام - أي أسلمة البنوك عبر الفقه - هي التي سبّبت حدوث أزمات كهذه؟ إنّ أحكام الإسلام كانت موفّقةً في الوصول إلى الأهداف، فمثلًا تأسيس المضاربة والمشاركة في البنوك للحدّ من أعمال الربا كانت خطوةً ناجحة، ولكن ما تمّ إغفاله أنّ البنك بما أنّه متعدّد الاتّجاهات وله أبعاد أُخرى غير الفقه، وبما أنّنا لم نعمل على تلك الأبعاد، أُصبنا بالأزمات من قبيل الاختلاس، فإشكال مجتهد شبستري غير وارد؛ لأنّنا لحدّ الآن لم نصل إلى نظامٍ اجتماعيّ مستنبطٍ من علم الفقه في جميع أبعاده.

(235)

المورد الخامس: مباني الإسلامي الفقهي

يذكر مجتهد شبستري في كتابه «نقدی بر قرائت رسمی از دین» أنّ قراءة الإسلامي الفقهي تبتني على مبانٍ خاصّة، ثم يذكر المباني ومفروضات الفهم الفقهي للإسلام، مشيرًا إلى ستّةٍ منها بنحوٍ بسيطٍ وغير دقيق. ونحن نذكرها في ما يأتي، مع نقدها:

المبنى الأوّل: من مباني الإسلام الفقهيّ عند شبستري حصر معرفة الإنسان في مصدرٍ واحدٍ هو المعرفة الدينيّة، وعدم الاهتمام بالفلسفة والعلوم الطبيعيّة والاجتماعيّة، ومباحث معرفة الدين الجديدة.

النقد: هذا الكلام غير صحيح؛ لأمرين:

 أولًا: إنّ الفقهاء مضافًا إلى الاستفادة من المعرفة الدينيّة والقرآن والسُنّة، يستفيدون من العقل أيضًا، ويقبلون الحسن والقبح العقلي، كما يقبلون المستقلّات العقليّة والمستقلّات غير العقليّة والعقل الاستدلالي، ويستعينون في كثيرٍ من الموارد في تعيين الموضوع بالعلوم الاجتماعيّة والطبيعيّة. إنّ الفقيه يستفيد من العلوم الجديدة، ويفتي فيما يخصّ الموت السريري واللقاح الصناعي، وفي الواقع أنّ معرفة الموضوع لا يتحقّق من دون الاستعانة بالعلوم الجديدة، وعليه فإنّ ما يقال: (إنّ الفقهاء لا يستفيدون من المصادر المعرفيّة الأخرى)، كلامٌ غير صحيح وخلاف الواقع.

ثانيًا: ربما يتوقّع مجتهد شبستري أنْ نستفيد في الإسلام الفقهي من كلّ ما يذكره علماء الدين الجُدد واللَّاهوت الليبرالي والإلهيّات الحديثة المتعلّقة بالبروتستانتيّة، فمن الواضح أنّ هذا التوقّع مردودٌ؛ إذ لا نقبل كثيرًا من مباحثهم الدينيّة.

(236)

المبنى الثاني: المبنى الثاني من مباني الإسلام الفقهي القول بما ورائيّة اللغة للتاريخ والمجتمع، والغفلة عن أنّ اللغة ومنها اللغة العربيّة أمرٌ تاريخيٌّ واجتماعي، ولا تستطيع أيّ لغةٍ بيان جميع المعارف الممكنة، ومنها النُظم السياسيّة والاجتماعيّة الصالحة لجميع الأعصار.

النقد: أوّلًا: إنّ الإسلام الفقهي لا يقول بما ورائيّة التاريخيّة والاجتماعيّة للّغة، بل يعتقد بتاريخيّة اللغة وأنّها تمرّ بتحولاتٍ وتطوّراتٍ بنيويّة ومعنائيّة، وعندما نريد كشف مراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يلزمنا معرفة بنية اللغة العربيّة الكلاسيكيّة ومعناها في تلك الفترة، ولا يقول أيّ فقيهٍ بتساوي بنية اللغة العربيّة المعاصرة، مع اللغة العربيّة في الماضي.

ثانيًا: يرى شبستري عدم إمكان استخراج النظم الاجتماعيّة من اللغة، واللغة لا تستطيع احتواء جميع المعارف الممكنة. ونحن نقول: نحن لا ندّعي إمكان استخراج جميع المعارف الممكنة لا سيّما الفيزياء والكيمياء من لغة القرآن، والمقصود من استخراج الأنظمة الاجتماعيّة من القرآن والسُنّة الاستعانة بالمنهج الاجتهادي والعقل والعرف. فمجرّد تجميع الآيات والروايات لا يعطينا نظامًا سياسيًّا واقتصاديًّا، والإخباريّون لا يعتقدون بالنظام الاقتصادي والسياسي؛ لأنّ اللغة لا تستطيع القيام بذلك. ولكن نحن نعتقد أنّ اللغة وبمساعدة العقل والمصادر المعرفيّة الأخرى ومنهج الاجتهاد يمكنها استخراج النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

المبنى الثالث: يعتقد مجتهد شبستري أنّ الإسلام الفقهي له تصوّرٌ تاريخيّ واحد، وفلسفة تاريخٍ واحدة -أي معقوليّة التاريخ وانتظامه - والحال أنّ هناك تصوّراتٍ أخرى عن التاريخ، أي أنّ مجتهد شبستري يستشكل على الفقهاء الذين

(237)

لهم قراءةٌ فقهيّةٌ عن الإسلام لقبولهم تصوّرًا واحدًا معقولًا ومنتظمًا عن التاريخ، ويقومون بتعريف الإسلام الفقهي طبقًا لهذا المبنى.

النقد: أوّلًا: لم يدّع الفقهاء بأنّ للتاريخ تصوّرًا واحدًا، وثانيًا إذا كانت ثمّة رؤى تاريخيّة أخرى فهل على الفقيه قبولها كلّها؟ وهل مجتهد شبستري يقبل جميع الرؤى أو يختار رؤيةً واحدة؟

المبنى الرابع: يرى شبستري أنّ الإسلام الفقهي يتصوّر أنّ معاني المتون الدينيّة تنقل من الكلمات إلى الذهن بشكل مباشر، وليس لها إلّا تفسيرٌ واحد، وهذا يعني الغفلة عن مباحث الهرمنيوطيقا المعقّدة. وبناءً على رؤية شبستري ليس الأمر المهمّ هو هذه المقولة القائلة: هل نحتاج إلى مراجعة الكتاب والسُنّة لتشخيص معنى الدين ونطاقه من قبل الوحي أم لا؟ بل الأمر الأساس هو لا يمكن الوصول إلى أيّ شيءٍ لا سيّما معنى الدين ونطاقه من دون امتلاك تصوّرٍ قبليّ عن الدين والمتون الدينيّة. فامتلاك المسبوقات المعرفيّة شرطٌ ضروريّ لعقد الصلة بين المفسِّر والمتن الديني، ولها دورٌ لا يُنكر في فهم هذه المتون[1].

النقد: لقد وضع الأصوليّون قواعد كثيرة لتحديد الدلالات اللفظيّة، وذهبوا إلى إمكان فهم مراد الشارع والإرادة التصديقيّة لكلامه من خلال تلك القواعد، فنجد في علم الأصول العامّ والخاصّ، المطلق والمقيّد، المجمل والمبيّن ونحوها، ويعتقدون بوجوب معرفة هذه القواعد والعلوم في مباحث الاجتهاد والتقليد، لتحصيل الفهم السليم للدين. نعم ربما لا يلتفت الفقهاء إلى بعض مباحث الهرمنيوطيقا، ولكن نسبة رؤيةٍ ساذجةٍ إلى الأصوليين في معاني الألفاظ الدينيّة

(238)

[من قبل شبستري]، لا تتناسب مع المباحث الأصوليّة المعقّدة التي تبنّوها.

المبنى الخامس: يعتقد مجتهد شبستري أنّ الإسلام الفقهي في مقام المعرفة، يتكلّم عن الإثبات البرهاني لحقيقةٍ واحدة، من دون الالتفات إلى المباحث الفلسفيّة والمنطقيّة المذكورة في ردّها. أي يزعم مجتهد شبستري أنّ الفقهاء يرون انحصار إثبات المعرفة في الإثبات البرهاني.

النقد: أوّلًا: إنّ هذا المبنى لا ينسجم مع المبنى الأوّل الدالّ على أحاديّة منبع المعرفة للإنسان وانحصاره بالمعرفة الدينيّة، إذ يظهر منه قبول الفقهاء لمصدرٍ لآخر أيضًا، هو الطريق البرهاني العقلي. ثانيًا لا يتمسّك الفقهاء بمنهجٍ برهانيّ واحدٍ، بل يستفيدون من المنهج العرفي أيضًا.

المبنى السادس: يعتقد مجتهد شبستري أنّ الإسلام الفقهي قد أعرض عن المنهج الفلسفي والعرفاني لدى الفلاسفة والعرفاء في مباحث التوحيد، وقد اكتفى بالمنهج الكلامي والاعتبارات كالحسن والقبح العقلي في مباحث النبوّة[1].

النقد: ينقسم فقهاء الشيعة في مباحث التوحيد إلى عدة أقسام، فهناك من يعتمد في مباحث التوحيد على المنهج الكلامي كالسيِّد الكلبايكاني، وهناك من يعتمد على المنهج العرفاني والفلسفة والحكمة المتعالية وعرفان ابن عربي كالسيِّد الخميني والشيخ جوادي الآملي وحسن زاده الآملي، وهناك من يعتمد في مباحث الألوهيّة على منهج الحكمة المتعالية القريبة من الحكمة المشائيّة ويؤكّد على المنهج البرهاني ولا يستخدم المنهج الشهودي كالشيخ مصباح اليزدي، فالفقهاء يعتمدون على مناهج مختلفة.

(239)
(240)

 

 

الفصل الثالث:‌
تبيين رؤية مجتهد شبستري حول الوحي ونقدها

لقد تبيّن ممّا مضى مساعي مجتهد شبستري - كغيره من الحداثيين - للاستفادة الإيديولوجيّة من الهرمنيوطيقا الفلسفيّة، نعم إنّهم يدعون مكافحة الإيديولوجيا ونقدها لكنّهم في مقام العمل مؤدلجون، ومجتهد شبستري لا يشذّ عنهم؛ فله رؤيةٌ مؤدلجةٌ للهرمنيوطيقا الفلسفيّة.

             يدّعي مجتهد شبستري أنّ له مبنيينِ:

1- المبنى اللغويّ.

2- المبنى الهرمنيوطيقيّ.

ويعتمد في مبناه اللغوي على فيتغشتاين المتأخّر ونظريّة الفعل الكلامي، أمّا مبناه الهرمنيوطيقي فهو الهرمنيوطيقا الفلسفيّة، ففي الهرمنيوطيقا الفلسفيّة يعتمد فهم الإنسان على المفروضات النفسيّة والاجتماعيّة للمفسِّر، وعليه فإنّ نظريّته التفسيريّة تدور محور المفسِّر وقد تحدّثنا عنها سابقًا، أمّا الآن فنذكر مبناه اللغوي.

مرّ فيتغنشتاين بمرحلتين:

1-  فيتغنشتاين المتقدّم.

2- فيتغنشتاين المتأخّر.

(241)

وقد تكلّم عن اللغة في كلا المرحلتين. يرى فيتغنشتاين المتقدّم اللغة مرآة الكون، أي هي آلة تصوير العالم، وهذا يعني أنّ اللغة تكشف لنا الواقع الخارجي، أمّا فيتغنشتاين المتأخّر يرى مسألة تصوير العالم من إحدى أعمال اللغة، ويطرح نظريّة الألعاب اللغويّة، ويعتقد أنّ للّغة ألعابًا مختلفة منها تصوير العالم، وإنّ المتكلّم يحكي عن عالمه الداخلي فحكايته للكون حكاية عالمه الداخلي، لا أنّه يخبر عن حقيقة الكون.

ويكمن خطأ مجتهد شبستري في الاعتماد على هذا المصداق من مصاديق نظريّة التداول اللساني، ويهمل سائر المصاديق. فمبنى مجتهد شبستري اللغوي يعتمد على هذا المصداق اللغوي، ويرى أنّ القرآن - وهو كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عنده لا كلام الله - قراءة النبي التوحيديّة وتفسيره وحكايته عن الكون، وليس قضايا إخباريّة تكشف عن واقع الوجود؛ ولذا لا تشتمل قضايا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على الصدق والكذب، أي لا يمكن البحث عن مطابقتها مع الواقع أو عدم مطابقتها، بل هي مجرّد توصيف لباطن النبيّ عن الكون الخارجي.

ونقول قبل الولوج في النقد: إنّ تركيب هذين المبنيين - أي الفعل الكلامي والهرمنيوطيقا - قد استخدمه ريكور قبل مجتهد شبستري، ويعدّ ريكور من جيل ما بعد غادامر، وقد سعى إلى الجمع بين الفعل الكلامي - نظريّته اللغويّة - والهرمنيوطيقا الفلسفيّة - وهي نظريّة هرمنيوطيقيّة - أمّا مجتهد شبستري لم يشر إلى منطلقه في هذه النظريّة، كما أنّه لم يقتبسها بشكل كامل، وكان ينبغي له بيان سوابق البحث وذكر أدلّته على المدّعى، أمّا كونه صائبًا في هذه النظريّة أم لم يكن صائبًا فبحث آخر، وسنذكر لاحقًا ما يخصّها، وفيما يأتي نشير إلى بعض النقود حول نظريّة مجتهد شبستري.

(242)

النقد الأوّل: ما يقدّمه مجتهد شبستري عن الأفعال الكلاميّة غير صحيح، وهو يعتقد أنّها نظريّةٌ جديدة، ويقبل رؤية فتغنشتاين المتأخّر، ويفسّر الفعل الكلامي على هذا النحو: يُعدّ الإخبار عن العالم الخارجي مجرّد إخبارٍ عن داخل الإنسان، أي تعدّ حكاية العالم الخارجي تفسيرًا شخصيًّا مبتنيًا على تجربةٍ باطنيّةٍ شخصيّة؛ لذا لا تكون قابلةً للصدق والكذب.

ونقول في نقده: هذا المعنى من الفعل الكلامي - أي بيان الإحساسات الباطنيّة وتفسير التجربة الشخصيّة - يُعدّ إحدى أفعال اللغة. ومن أفعالها الأخرى الإخبار عن الواقع، أي لا يكون قبول الفعل الكلامي منحصرًا في إظهار اللغة للعواطف الباطنيّة وتفسير التجربة الشخصيّة. وطبقًا لهذه النظريّة فللّغة أعمال مختلفة، وقد طُرحت نظريّة الفعل الكلامي أمام نظريّة تصوير العالم ووصفه، أي كان فتغنشتاين المتقدّم يرى أنّ اللغة مجرّد مرآةٍ للخارج؛ ولذا ذكر نظريّة تصوير العالم، ولكن فتغنشتاين المتأخّر انتبه إلى أنّ تصوير العالم يعدّ أحد أعمال اللغة وللّغة أعمال أخرى؛ لذا قبل نظريّة الفعل الكلامي.

والحاصل لا يمكن الادّعاء بشكل مطلق ــ وبالابتناء على نظريّة الفعل الكلامي ــ أنّ اللغة وسيلة لتظهير العواطف الباطنيّة الشخصيّة؛ لأنّ هذه الوظيفة من إحدى وظائف اللغة، ولها وظائف أخرى منها الإخبار عن الواقع.

النقد الثاني: قد ذكرنا وجود التعارض بين نظريّة مجتهد شبستري اللغويّة ونظريّته التفسيريّة، أي لا يمكن قبول نظريّة الأفعال الكلاميّة ونظريّة الهرمنيوطيقا الفلسفيّة في آنٍ واحد؛ لأنّ نظريّة الأفعال الكلاميّة تعتمد على القصديّة ونيّة المؤلِّف، ولكن نظريّة الهرمنيوطيقا الفلسفيّة تعارض القصديّة؛ لأنّها تدور حول

(243)

محور المفسِّر، ولا تهتم بنيّة المؤلِّف، فنظريّة مجتهد شبستري الهرمنيوطيقيّة تطرح محوريّة المفسِّر بنحو أكثري، وعليه لا يمكن الجمع بين محوريّة المفسِّر - في نظريّة مجتهد شبستري الهرمنيوطيقيّة - مع محوريّة المؤلِّف في نظريّة الأفعال الكلاميّة.

النقد الثالث: وفق مدّعى مجتهد شبستري لا يُعدّ القرآن كلام الله، وإذا كان كلام الله فهو غير قابل للفهم. ونقول في الجواب: القرآن كلام الله وقابل للفهم للجميع حتى الكفّار، وسبب مدّعى شبستري في عدم قابليّة فهم كلام الله محاولته لإعطاء تفسيرٍ إفراطيّ عن الهرمنيوطيقا الفلسفيّة، أي لم تكن نظريّته التفسيريّة مبتنيةً على الهرمنيوطيقا المنهجيّة فحسب - أي لا الهرمنيوطيقا المنهجيّة الكلاسيكيّة ولا الرومانطيقيّة - بل لا تبتني نظريّته حتى على هرمنيوطيقا غادامر الفلسفيّة؛ لأنّ غادامر عندما يتكلّم في كتاب (الحقيقة والمنهج) عن الهرمنيوطيقا الفلسفيّة، يعرّف نظريّته بأنها تقع بين العينيّة والذهنيّة مع التأكيد على التراث، ويعتقد غادامر بلزوم البحث عن تفسير المتن في بطن التراث المتغيّر بشكل تدريجي، والحال أنّ مجتهد شبستري ينسلخ عن التراث تمامًا، ويريد تقديم باراديم جديدٍ عن الوحي، أي يفصل الوحي عن التراث تمامًا، ثمّ يقوم بتفسيره، فهو ذاتوي، والذاتيّة الإفراطيّة تؤول إلى النسبيّة الإفراطيّة.

النقد الرابع: يقدم شبستري نظريّته اللغويّة والمعنائيّة بنحوٍ لا يستطيع المخاطَب فيها أنْ يصل إلى أيّ فهمٍ من خلال اللغة؛ لذا يقبل بنظريّة الأفعال الكلامية، ويعتقد أنّ وظيفة اللغة تنحصر في بيان العواطف الباطنيّة. وإشكالنا النقضي عليه أنّ ما يذكره مجتهد شبستري عن القرآن هل هو بيان عواطفه وإحساسه الباطني أم أنّه يخبر عن واقع؟ فبناءً على تفسيره عن الفعل الكلامي إذا كان بصدد بيان إحساسه

(244)

الباطني عن القرآن فلا إشكال عليه، وله أنْ يقول ما يحلو له، ومن الواضح عدم إمكان عدّ إحساسه الباطني حقيقةً قرآنيّةً ليكون بصدد إلقاء رأيه وتحميله على الآخرين. وبعبارةٍ أخرى بناءً على نظريّته اللغويّة لم تكن رؤيته حول القرآن خبرًا عن حقيقة القرآن، بل بيان ما في ضميره حول القرآن، وإذا ادّعى أنّ حقيقة القرآن هي هذه، لوقع في معارضة نظريّته اللغويّة.

النقد الخامس: يلزم عند الإخبار عن أيّ متن لغويّ - ومنه القرآن - الاطّلاع على المحتوى والقرائن الداخليّة، وعلى سبيل المثال يلزم الاطّلاع عن محتوى القرآن، وعن أيّ شيءٍ يحكي؟ وهل يؤيّد محتوى القرآن كلام مجتهد شبستري أو أنّه يقوم بتحميل تفسيرٍ خاصٍّ عن الفعل الكلامي على القرآن؟ وبعد البحث في محتوى القرآن يظهر أنّ القرآن يبحث عن هداية الناس، فالقرآن يدّعي بوضوح سعيه لإخراج الناس من الظلمات وهدايتهم إلى النور؛ لذا يقوم ببيان وقائع مختلفة ميتافيزيقيّة وتاريخيّة ومستقبليّة وأخرويّة، وعلاقة الدنيا بالآخرة وخصائص المؤمنين والكافرين والمنافقين. فبعد فحص محتوى القرآن، والبحث في تفسير مجتهد شبستري عن الفعل الكلامي، نكشف عدم تطابق تفسيره مع القرآن.

فالالتفات إلى هذه الآيات:

(إِنّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: 2).

(وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) (الشورى: 51).

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (الإسراء: 85).

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ) (الأنفال: 1).

(245)

يدلّ على أنّ محتوى هذه الآيات والقرائن اللغوية التي فيها تخبر عن حقيقةٍ لا تنسجم مع ما يذكره مجتهد شبستري عن القرآن، وحتى لو نظرنا إلى القرآن برؤيةٍ ظاهراتيّة، فلا يتمّ إثبات مدّعىمجتهد شبستري، بل يُردّ.

النقد السادس: يلزم من مدّعى مجتهد شبستري أنْ يكون القرآن من خيال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، وهو وإنْ كان يُخبر عن العالم الواقعي في الظاهر، ولكنّه يخبر عن عالم النبيّ الباطني في الحقيقة، وهذا مفاد ما اتّهم الكفّار والمشركون النبيّ بالساحر والشاعر، أي كانوا يعتقدون أنّ القرآن ليس كلام الله، بل من صنع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، أو أعانه عليه غيره.

النقد السابع: ربما يفسِّر مجتهد شبستري بعض الآيات بنحوٍ غريب، ويعتقد باحتواء بعض الألفاظ على معانٍ ظاهراتيّة، وعلى سبيل المثال قد فسِّر (الآية) وفق المعنى الظاهراتي بـ(الأمر الظاهر لنا)، والحالّ أنّ الآية تأتي بمعنى العلامة، أي الدلالة على شيءٍ آخر، لا الإظهار لنا، ومن الواضح أنّ هذا العمل - أي استظهار معاني اعتباطيّةٍ - غير صحيح.

النقد الثامن: يعتقد مجتهد شبستري في كتاب «هرمنوتيك، كتاب وسنت» أنّ لتديُّن المسلمين ثلاث مراحل:

1- معرفة الله والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

2- تلقّي ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

3- العمل وفق تعاليم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ يقول: هذه المراحل الثلاث تتيسّر في كلّ عصرٍ ومجتمعٍ وفق العلوم

(246)

والمعارف البشريّة آنذاك[1]. علمًا بأنّ هذا المدّعى: (تدّين المسلمين في كلّ مرحلةٍ مصحوبٌ بالمفروضات)، أو (يمتلك الفقهاء في استنباط الأحكام الكلّية من القرآن والسُنّة مفروضات مسبقة)، أو (يمتلك مفسِّر الوحي الإسلامي أعمّ من أهل الحديث والأشاعرة والمعتزلة والعرفاء وغيرهم مفروضات مسبقة)، فهذا كلّه كلامٌ صحيح، ولكن لا بدّ من الالتفات - كما سبق - إلى تفاوت المفروضات المسبقة، فبعضها أداتي، وبعضها استفهامي، وبعضها مفروض وإلزامي، وبعضها مفروضات قبول الفهم أو تحقّق الفهم، وعليه لا يمكن الاستعانة بمفروضات أيّ عصر، فالمفروضات التي تكون مفروضةً على المتن، وتؤدّي إلى تغيير معناه غير مقبولة، ولا يجوز التمسّك بها.

النقد التاسع: في مسألة معرفة الوحي، وبناء على فلسفة اللغة، يرسم شبستري خمس وظائف للخطاب اللغوي اللساني: المتكلّم، والسامع، والأرضيّة والمتن، وأهل اللغة، والمحتوى، ثمّ يقول: لو كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مجرّد ناقلٍ للرسالة، أي ناقل كلام الله، ولم يكن متكلّما، فلا يتمكّن أوّلًا من مخاطبة الناس، وثانيًا لا تنعقد عنده إرادة جادّة، أي سوف تفقد الآيات الدلالة التصديقيّة ولا تكون مفهومةً للناس، فالتلقي التقليدي عن الوحي غير تامّ؛ لأنّه يشتمل على اعتقاد نزول الوحي من الله إلى النبيّ، والنبيّ مجرّد ناقل للرسالة، وحاله حال مكبّر الصوت والمذياع، فهو لم يكن متكلّما، وإذا لم يكن متكلّما لم ينعقد التخاطب؛ فلا يحصل الفهم في المآل.

ونقول في ردّه إنّ القرآن كلام الله، وفي الوقت نفسه ينعقد التخاطب والتفاهم. ويقدّم شبستري لإثبات مدّعاه دليلًا جزئيًّا أخصّ، وهو تمثيل النبيّ بمكبِّر الصوت،

(247)

ونقول في الجواب: يمكن تصوّر عدّة حالات لناقل الرسالة:

1- تارةً يكون الإنسان كالمذياع (كما ذكره شبستري).

2- وتارةً يكون كالببغاء (كما ذكره سروش).

3- وتارة أخرى يكون كالبريد، ينقل الرسالة من مكانٍ إلى آخر.

4- وقد يكون سفيرًا، أي ينقل رسالةً ويعتقد بها.

5- وقد يكون معلّمًا ومفسِّرًا، أي يعتقد بالرسالة، ومضافًا إلى إرادته التصديقيّة الجادّة في نقل الرسالة، يقوم بشرحها وتفسيرها.

فلنفترض أستاذًا يقبل نظريّة أنيشتاين كما ذكرها ويقوم بتبيينها للطلّاب، ويجيب عن أسئلتهم، ومن الواضح حصول التخاطب هنا، فالأستاذ لم يكن كالمذياع، ولا الببغاء، ولا البريد، ولا السفير، فدور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو هكذا، نعم إنّ النبيّ ناقل كلام الله غير أنّه معتقدٌ به أيضًا، وله إرادةٌ تصديقيّةٌ فيحصل التخاطب، والشاهد على ذلك فهم الكفّار للقرآن مع اتّهامهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالسحر والجنون وعدم إيمانهم بالقرآن. أي كانوا يفهمون مخالفة كلام النبيّ لمعتقداتهم، وكانوا بصدد إثبات أنّ كلامه لم يكن كلام الله، بل هو شعر وسحر، فالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مضافًا إلى كونه رسولًا من قبل الله تعالى، قد دعا الناس إلى قبول هذا الكلام، أي كانت له إرادةٌ تصديقيّةٌ جادّة بكون هذا الكلام هاديًا.

وبعبارةٍ أخرى وطبقًا لما ورد في مباحث النبوّة التقليديّة، للنبي عدّة أدوار:

1- يستقبل كلام الله لكونه نبيًّا، والله يوحي كلامه إليه على نحوٍ خاصٍّ وشعورٍ مرموزٍ لفظاً ومعنى، فهو نبي لتلقّيه كلام الله تعالى.

2- يوصل الكلام إلى الناس لكونه رسولًا، أي يكون وسيطًا في التخاطب بين الله والناس.

(248)

3- مضافًا إلى النبوّة والرسالة يكون هاديًا أيضًا، وهذا يدلّ على اعتقاده بما يقوله.

4- يكون مبيّنًا وشارحًا لكلام الله.

فبناءً على هذا، يصبح كلام مجتهد شبستري القائل (لو لم يكن القرآن كلام النبيّ وكان كلام الله، لم يحصل الفهم والتخاطب، ولم يكن معنى للبعثة) غير صحيح وخطأ، إذ البعثة وإرسال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، تكون ذات معنى إذ كان القرآن كلام الله.

والنقطة الأخرى مشابهة كلام مجتهد شبستري مع كلام ملحدي صدر الإسلام، والذين وصفوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالسحر والجنون والشاعريّة؛ لأنّ الوجه المشترك بينهم إنكار انتساب القرآن إلى الكلام الإلهي، بل انتسابه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، فمجتهد شبستري حينما ينسب القرآن إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويجعله كلامه، لا يقول بأنّ النبي قد بلغ في مسيرته التكامليّة إلى مرحلة رأى الكون كما هو، ثمّ قام ببيان فهمه للكون في قالب القرآن كي يعرّفه لنا، وذلك أنّ شبستري - كما مرّ- لا يرى القرآن مخبرًا عن الواقع، بل يراه حديثًا مع النفس وبيان إحساس وعواطف النبيّ الباطنيّة؛ لذا لا تكون قضايا النبيّ قابلةً للصدق والكذب عنده.

يعتقد مجتهد شبستري أنّ النظريّة اللغويّة عند الآخرين نظريّةٌ تقليديّة، ويقبل نظريّة فتغنشتاين اللغويّة المتأخّرة، حيث تكون اللغة كاشفةً عن الإحساس الباطني، ولم تكن تصويرًا عن الكون الواقعي.

(249)
(250)

 

 

الفصل الرابع:
نقد مقالة (كيف انهارت المباني الفقهيّة والكلاميّة)

لقد ذكر مجتهد شبستري بعض مباحثه المتأخّرة في مقال (كيف انهارت المباني الفقهيّة والكلاميّة)، ويستنتج فيه عدم تماميّة المباني الكلاميّة، وعليه ينهار أصول الفقه المبتني على المباني الكلاميّة، وينهار كذلك الفقه المبتني على أصول الفقه والاجتهاد.

وأنّه في الواقع ينفي الفقه عبر نفيه مباني المتكلّمين الكلاميّة القائلة بإعجاز القرآن ونزوله من قبل الله، وطبقًا لرؤيته سواء قبلنا كلام المتكلّمين عن القرآن - بكونه إخبار الله للنبيّ وتقرير النبيّ لذلك الإخبار- أم قبلنا بتفسير العرفاء - القائل بتجلّي الله وتمثّله في أذن النبيّ وسماع النبيّ لتلك الكلمات - أو قبلنا نظريّة الفلاسفة، فجميعها غير تامّة؛ لاعتقادهم أنّ القرآن كلام الله، والصحيح أنّ القرآن كلام البشر، فإذا أصبح القرآن كلام البشر في زمانٍ ومكانٍ محدّدين، فكلامه يتوجّه إلى ذلك المجتمع الخاصّ، ولا ينفع المجتمع في الحاضر، فجميع الأحكام الشرعيّة من معاملات وسياسات وعبادات تخصّ عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، هذه رؤية شبستري.

يذكر مجتهد شبستري في بحثه هذا مدّعى واحدًا وستّة أدلّة، وما يلازم المدعى، فالمدّعى أنّ القرآن كلام محمّد وليس كلام الله، ويقيم ستّة أدلّة على ذلك، ولازم هذا

(251)

المدّعى صدور القرآن البشري من إنسانٍ محدّدٍ، وفي زمانٍ ومكانٍ محدّدين، فما قاله وبيّنه يخصّ ذلك المجتمع، ولا يمكن تعميمه على سائر المجتمعات، وعليه ينفي جامعيّة القرآن وكونيَّته وخلوده. وسنقوم ببيان أصل المدّعى، ثمّ نتطرّق إلى أدلّته.

ملاحظات حول أصل مدّعى مجتهد شبستري

لو افترضنا صحّة مدّعى مجتهد شبستري وأمكنه إثبات بشريّة القرآن وعدم كونه كلام الله لفظًا ومعنى، فهنا نتساءل: هل كان محمّد رسولًا من قبل الله أم لا؟ أي هل تكفّل برسالته هداية الناس أم لا؟ وبعبارةٍ أخرى هل بيّن محمّدٌ قضايا صادقةً متطابقةً مع الواقع لهداية الإنسان أم لا؟

فلو أذعن مجتهد شبستري بكون محمّد رسول الله، ورسالته لهداية الناس وأنّها صادقة، فنفترض حينئذٍ بكون القرآن كلامه وليس كلام الله، ولكن مع هذا قد بلغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مرتبة من الكمال وأوصله الله إلى مقام كشفت له حقائق العالم وجاء بالقرآن في ضوئها، فبناءً على هذا الافتراض يكون كلام النبيّ صادقًا ومطابقًا للواقع، ولكن هذا لا يؤدّي إلى انهيار تلك المباني الفقهيّة والكلاميّة كما ادّعاه مجتهد شبستري، فصحيح أنّ القرآن كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، لكنّه كلام إنسانٍ كاملٍ رسولٍ من الله، وكلامه صادقٌ ومطابقٌ للواقع يهدي الناس إلى الكمال والسعادة، فلماذا لا نذعن حينئذٍ بخلوده وعموميّته، ولماذا نخصّصه لعصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ وفي الواقع نتمكّن من الاستنباط منه بالمنهج الأصولي والفقهي والاجتهادي، ونحصد منه أجوبةً متناسقةً مع عصرنا الراهن.

ولكن إذا جعل مجتهد شبستري كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل كلام سائر الناس

 

(252)

- المشتمل على الصدق والكذب والمتأثّر بثقافة عصره وعدم مطابقته مع الواقع وعدم إيصاله إلى السعادة والهداية - فلا يمكنه قبول النبي نبيًّا ويلزم عليه إنكار أصل الإسلام؛ لأنّ قوام الإسلام بالقرآن، والقرآن على حدّ تعبير شبستري كلام النبيّ وحاله حال كلام سائر الناس المتناسق مع عصره ولا يختلف عنه كثيرًا، فلو أذعن شبستري بهذا الأمر لا يمكنه جعل محمّد نبيًّا ومسلكه دينًا جاء لهداية الناس، فهو قد أنكر أصل الدين في الحقيقة.

وربّما يقال: فما هو الإشكال في تفسير دين الإسلام وقبوله بهذا المعنى؟ ونقول إنّ هذه الرؤية لا يمكنها أن تكون دينيّة، إذ بعد انتفاء الهداية والسعادة ينتفي الدين أيضًا، فالدين الإسلامي الذي لم يكن قرآنه كلام الله، ولم يؤدّ كلام نبيّه إلى الهداية والسعادة فأيّ دينٍ هذا يا ترى؟!

أدلّة مجتهد شبستري الستّة على المدّعى

الدليل الأوّل

يقول مجتهد شبستري: «يعدّ متن القرآن من جنس لغة الإنسان، ولغة الإنسان بحسب تجربتنا لا تتكوّن إلّا في حياةٍ مشتركةٍ تاريخيّةٍ واجتماعيّةٍ، وبين الأذهانيّة وتصطبغ حينئذٍ بالمعنى والمفهوم، أي تصبح كلامًا قابلًا للفهم والتفسير بين الأذهان، فلو افترضنا حدوث معجزةٍ وظهر متنٌ مركّبٌ من الألفاظ والكلمات العربيّة، أو أيّ لغةٍ أخرى، لم يكن ذلك المتن قابلًا للفهم والتفسير بين الأذهان».

أي يلزم عدّ القرآن من جنس لغة الإنسان كي يُفهم بين الأذهان، وإذا

(253)

جعلناه معجزةً وكلام الله لم يحصل فهمٌ بين الأذهان، فالدليل الأوّل دليلٌ لغويّ وهرمنيوطيقي أيضًا، فالفهم بين الأذهان يتحقّق فيما لو كان المتن من جنس لغة الإنسان، ولا بدّ أنْ يكون القرآن قابلًا للفهم بين الأذهان ليُفهم.

نقد الدليل الأوّل

لا توجد أيّ ملازمةٍ بين أنْ يكون المتن من جنس لغة الإنسان وبين حصول الفهم بين الأذهان؛ وذلك أوّلًا نحن ندرك عواطف الآخرين التي لم تكن من سنخ اللغة، ويحصل فهم بين الأذهان، فمثلًا نفهم الكآبة عند الآخر مع أنّه لم يستخدم أي لغة، وثانيًا يمكن عدّ متن القرآن من جنس لغة الإنسان والاعتقاد بإعجازه بالوقت نفسه، فلماذا نسلب منه صفة الإعجاز إذا كان من جنس لغة الإنسان؟ فإعجاز القرآن يعني نزوله من قبل الله بلسان البشر مع حصول فهم بين الأذهان، وتحدّى به أيضًا، فيمكن للقرآن أنْ يكون من جنس لغة الإنسان ومفهومًا لكلّ الناس ومعجزة بالوقت نفسه.

وبعبارةٍ أخرى الإشكال الأوّل عدم الاعتراف بأن تحقق الفهم لا يكون إلّا بلغة الإنسان. والإشكال الثاني عدم وجود ملازمةٍ بين كون القرآن بلغة الإنسان وكونه غير معجز، فلو لم يكن القرآن بلغة الإنسان لم يكن إعجازه أمرًا صعبًا، إذ الإعجاز يحصل فيما لو كان بلغة الإنسان ويعجز الإنسان عن الإتيان بمثله.

الدليل الثاني

يقول مجتهد شبستري: «يدلّ فينومينولوجيا الفهم والتفسير العام (بي

(254)

الأذهان) لمتن القرآن على أنّ ما يواجهه الإنسان في مقام الفهم والتفسير من دون وساطة وبشكلٍ تجريبي، هو الفعل الكلامي لإنسان يدّعي النبوّة فقط، حين يقرأ هذا المتن على المخاطبين؛ وعليه فلا يكون متعلّق الفهم والتفسير العامّ للمخاطبين غير هذا الفعل الكلامي للإنسان المدّعي للنبوّة، وحتّى لو قال إنّه يسمع هذا الكلام من مكانٍ آخر ويكرّره، فما يُفهم في مقام الفهم والتفسير العام (بين الأذهان) هو هذا المدّعى القابل للتجزئة والتحليل لا المتن الذي ادّعى تلقّيه». أي عندما نفحص متن القرآن ونفهمه فينومينولوجيا، ندرك أنّه من جنس الفعل الكلامي، فإذا قبلنا ذلك لزم علينا الاعتراف بكونه فعل الإنسان، لا الإله.

نقد الدليل الثاني

نقول: ما هي الملازمة بين الفعل الكلامي والعقل الإنساني؟ أليس لله قدرة غير متناهية؟ فلماذا يستحيل عليه إنزال المتن على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! ونقول مزيدًا للتوضيح:

الفعل الكلامي مصطلح خاصّ استعمله الفلاسفة التحليليّون مثل جون سيرل غير أنّ منشأه الأساس فنغنشتاين المتأخّر. يرى فتنغنشتاين المتقدّم اللغة مجرّد حكايةٍ عن الواقع، وتكون جميع قضاياه إخباريّة، أمّا فتغنشتاين المتأخّر فيجعل اللغة من جنس الفعل الكلامي الذي له أصناف متنوّعة، فكما أنّ الإنسان يفعل بعض الأعمال من خلال أعضاء جسمه كاليد والرجل مثلًا، يفعل من خلال اللغة واللسان مضافًا إلى الإخبار أفعالًا كلاميّة أخرى كالذمّ والمدح والدعاء والتمنّي والترجّي.

 

(255)

لم يكن فتغنشتاين المتأخّر بصدد نفي كلام فتغنشتاين المتقدّم، بل بصدد نفي انحصار نظريّة فتغنشتاين المتقدّم الذي حصر اللغة بالحكاية عن الواقع، والحال أنّ لها قضايا إخباريّة وإنشائيّة، ولأجل تشخيص الإخباريّة من الإنشائيّة، يتمّ الإرجاع إلى مجموعة من القرائن الكلاميّة والمقاميّة للمتكلّم، أي يلزم مشاهدة حركات وحالات المتكلّم والقرائن والشواهد المتنيّة وغير المتنيّة كي نلتفت إلى أنّ الفعل الكلامي حاكيًا عن الواقع أو إنشاء.

إنّ كلامنا هنا ينصب في دعم دليل مجتهد شبستري الثاني، أي حينما أصبح متن القرآن فعلًا كلاميًّا، لا بدّ من رؤية المتكلّم كي يُفهم دلالة معنى المتن، ولكن إذا كان الكلام كلام الله، ولا يمكن رؤية الله، فيصبح الكلام مجرّد متنٍ لغوي وقرائن لفظيّة وكلاميّة، ولا تكفي هذه القرائن لفهم الفعل الكلامي بمجرّدها:

أوّلًا: لقد اتّضح عند تبيين الفعل الكلامي عدم انحصار اللغة في الإنشاء، بل لها صفة الإخبار أيضًا، فيمكن الإخبار عن الحقائق كالله والمعاد والجنّة والنار. أمّا مجتهد شبستري فيحصر اللغة بالفعل الكلامي، وينفي عنها الجانب الإخباري والحكاية عن الواقع.

ثانيًا: قد أنزل الله تعالى كلامًا باسم القرآن على قلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لفظًا ومعنى، وألهمه عن طريق شعورٍ مرموزٍ فهمه المطابق للواقع، أي قد تلقّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بصفة الإنسان الكامل المعصوم ألفاظ القرآن ومعانيه، وفهمه المطابق لمراد الله تعالى. أمّا سائر البشر فليست لهم هذه المنزلة مع الله، أي لم يوجد عندنا اللفظ

(256)

ولا المعنى ولا الفهم المطابق لمراد الله تعالى، بل قد حصل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حصرًا، ثمّ نقل النبيّ القرآن إلى الناس عن طريق الفعل الكلامي، ثم عرّفنا مراد الله من هذه الألفاظ عن طريق القرائن اللفظيّة والكلاميّة من جهة، والقرائن المقاميّة من جهةٍ ثانيةٍ مثل قوله في الصلاة: «وصَلُّوا كما رَأَيْتُموني أُصلِّي»[1].

وبناءً على هذا يحصل الفهم العام للمخاطَب عن طريق فعل القرآن الكلامي المعجزة والشعور المرموز النازل من الله على النبيّ، وهو كلام الله - القرائن المقاليّة - وأيضًا عن طريق الحركات والسكنات النبويّة - القرائن المقاميّة - والشاهد على ذلك ما نراه من الفهم المشترك للقرآن بين المسلم والكافر، ممّا يدلّ على إمكان وقوع الفهم، وأدلّ دليلٍ على إمكان الشيء وقوعه، فالكل يفهم كلام الله طبعًا مع حفظ المراتب في العموم والسطحية، ولكن رغم هذا توجد معارف صحيحة ومشتركة؛ لأنّ النبيّ بيّن كلام الله من خلال الفعل الكلامي، فلا إشكال في جعل الكلام كلام الله.

والحاصل يمكن القول حتّى على نظريّة فينومينولوجيّة الفهم العامّ وبين الأذهاني، بحصول الفهم العامّ للقرآن من خلال القرائن المقاليّة للمتن والمقاميّة لحركات النبي وسكناته.

وليعلم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن كالمذياع، بل هو إنسانٌ متكاملٌ له قابليّة تلقّي الوحي، فالوحي وإنْ كان كلام الله، ولكن لا بدّ من وجود استعدادٍ لتلقّيه، أمّا كيفيّة تلقّي النبيّ لهذا الوحي هل هو شهودي أم عقلي؟ فهناك أقوال مختلفة لدى

(257)

الفلاسفة والعرفاء والمتكلّمين ولا أثر لها هنا، والمهمّ هو عدم قبولنا لمدّعى مجتهد شبستري ودليله المذكور آنفًا.

يعتقد مجتهد شبستري أنّنا إذا رفضنا نظريّته اللغويّة في الفعل الكلامي ونظريّته الهرمنيوطيقيّة، يمكننا رفض كلامه أيضًا في عدم انتساب القرآن الى الله بل إلى البشر، ولكن لو قبلنا بنظر الفعل الكلامي - وهي من أحدث النظريّات اللغوية - يلزم علينا نفي انتساب القرآن إلى الله.

نقول في الجواب: لم يكن الأمر هكذا، إذ نقبل بنظريّة الفعل الكلامي مع لحاظ أفعالها التي ذكرناها، وفي الوقت نفسه نذعن بصحّة انتساب القرآن الى الله تعالى. فدليل مجتهد شبستري الثاني لا يثبت أنّ قبول فينومينولوجيا الفهم ينتج الفعل الكلامي، لننفي انتساب القرآن إلى الله.

الدليل الثالث

يقول مجتهد شبستري: «لا يحصل من المتن المتكوّن من لغة الإنسان سوى كلامٍ إنسانيّ، وبما أنّ متن القرآن جاء بلغة الإنسان لا يُفهم منه سوى كلامٍ إنسانيّ، فلغة القرآن وكلام القرآن إنسانيّان، ولكن بما أنّ الإنسانيّة ذات مراتب، فيمكن أنْ يكون بعض الكلام أعمق من حيث المحتوى، وأكثر بلاغةً وفصاحةً من حيث القالب، ولكن ليس لأحد إثبات عجز الإنسان عن الإتيان بهذا المحتوى العميق والقالب الفصيح».

(258)

نقد الدليل الثالث

نسأل مجتهد شبستري ونقول: ما هو التعارض بين كون اللغة إنسانيّة وانتساب الكلام الى الله؟ فيمكن للّغة أن تكون إنسانيّةً ويكون الكلام إلهيًّا بالوقت نفسه؛ لأنّ الله فعّال لما يشاء، ويظهر من كلام مجتهد شبستري عدم انحصار هذه الشبهة في كون القرآن كلام الله أو كلام غيره، بل تتطرّق الى قدرة الله المطلقة أيضًا.

فلو قبلنا بوجود القدرة المطلقة والعلم غير المتناهي لله تعالى، صحّ القول بإمكان نزول كلام الله بلغة الإنسان، وبعبارةٍ أخرى يثبت العقل من خلال حكمة الله وقدرته وعلمه، إمكان وقوع إنزال كلام الله بلغة الإنسان، وهذا الأمر يحصل أيضًا لسائر البشر، فقد تنزل على قلب الإنسان ألفاظ إنسانيّة في السير والسلوك، أو تشرق على العلماء عند انشغالهم بالأعمال العلميّة ألفاظ ومعاني بعض المصطلحات.

الدليل الرابع

يقول مجتهد شبستري: «لا يوجد دليلٌ تاريخيّ معتبر يوجب الاطمئنان بنفي النبيّ انتساب القرآن الى نفسه، بل يوجد في القرآن شواهد واضحة تدلّ على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمخاطبين عدّوا القرآن كلام محمّد، مع اختلاف أنّ النبيّ كان ينسب ذلك إلى قدرة الله ومدده، أمّا المنكرون ينسبونه إلى التوهّم أو الاقتباس».

(259)

نقد الدليل الرابع

ورد في القرآن كثيرًا لفظ الإنزال والتنزيل، وعوتب النبيّ إذا زاد أو نقص فيه بقوله: (وَلَوۡ تَقَوَّلَ عَلَيۡنَا بَعۡضَ ٱلۡأَقَاوِيلِ* لَأَخَذۡنَا مِنۡهُ بِٱلۡيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعۡنَا مِنۡهُ ٱلۡوَتِينَ) (الحاقة: 44-46). وقوله تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ* إِنۡ هُوَ إِلّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ) (النجم: 3-4). وما ورد أيضًا في سورة الشورى من تقسيم الوحي إلى ثلاثة أقسام.

إنّ الآيات القرآنيّة الكثيرة، والروايات المتعدّدة والشواهد التاريخيّة الدينيّة عند المؤمنين، وفهم جميع المسلمين من صدر الإسلام إلى يومنا الحاضر، تدلّ جميعًا على أنّ القرآن كلام الله ولم يكن كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. والشاهد الوحيد الذي ينسب القرآن إلى النبيّ هو كلام المشركين والكفّار، حيث عدّوه ساحرًا ومجنونًا وشاعرًا، والغريب من مجتهد شبستري الاستشهاد بمخالفي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، فالقرآن يذكر مدّعى المخالفين ويردّه، كما أنّ النبيّ أيضًا لم ينسب الآيات إلى نفسه قالها بمددٍ وعونٍ من الله، بل يذكر أنّ القرآن كلام الله. والحاصل أن شبستري يكرّر كلام مخالفي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الدليل الخامس

يقول مجتهد شبستري: «تدلّ المباحث الفلسفيّة الدقيقة في عصرنا الراهن، على عدم إمكان إثبات وجود الله بالدليل، فالمؤمنون آمنوا بوجود الله وهذا الإيمان معقول، وعندما لم نتمكّن من إثبات وجود الله بالدليل لا يمكننا ادّعاء تكلّم الله في زمانٍ ومكانٍ محدّدين مع إنسانٍ محدّدٍ (هو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله) بألفاظٍ وكلماتٍ قرآنيّة، فلا يمكن الإخبار بتكلّم الإله الذي لم يثبت».

(260)

نقد الدليل الخامس

نسأل شبستري ونقول: أيّ بحثٍ دقيقٍ فلسفيّ دلّ على عدم إمكان إثبات وجود الله؟ فقد أقام كثيرٌ من المفكّرين قبل عصر النهضة وبعدها براهين فلسفيّة لإثبات وجود الله، فبيّن توما الأكويني البراهين الكونيّة والنظم وإتقان الصنع وغيرها، وبيّن ديكارت تقريرًا جديدًا عن البرهان الوجودي، واستعان كانط بالبرهان الأخلاقي، وفي الحقيقة أنّ عدد براهين إثبات وجود الله في الفترة المعاصرة أكثر من ذي قبل عند الفلسفات المعاصرة والجديدة، ولكن بعض الباحثين يصوّر أنّ فلاسفة الغرب المعاصرين ملحدون كلهم، ومتفقون على عدم وجود برهان يثبت وجود الله، وبعبارةٍ أخرى لا يعدّ بعض الفلاسفة الذين أقاموا براهين لإثبات وجود الله ضمن الفلاسفة.

والسؤال الآخر هل الفلاسفة الذين لا يقبلون براهين إثبات وجود الله، يعتقدون بعدم إمكان إقامة البرهان، أم يرون عدم تماميّة البراهين؟ وبعبارةٍ أخرى فهل البراهين المذكورة لا تنهض لإثبات وجود الله أو من المحال إمكان إقامة البرهان عليه؟ ونحن ندّعي أوّلًا أنّ كثيرًا من المفكّرين اكتفوا بهذه البراهين وجعلوها تامّة، وبعضهم الآخر يراها غير تامّة، لا أنّه ينفي إمكان إقامة البرهان.

والنقطة الأخرى نحن أيضًا نذعن بعدم إمكان إثبات كلام الله قبل إثبات وجود الله، ولكن هل يلزم في عمليّة إثبات وجود الله الاقتصار على البراهين الفلسفيّة فقط؟ فمثلًا من شاهد الله بالعلم الحضوري هل يمكنه قبول وجود الله والتحدّث عن كلامه؟

(261)

فمجتهد شبستري قد أنكر لحدّ الآن كلام الله، وظهر من طيّات الكلام تردّده في قدرة الله وعلمه المطلق، والآن ظهر منه وجود الشبهة لديه في أصل وجود الله؛ إذ إنّه لو قبل وجود الله بأيّ طريقٍ ممكنٍ (سواء البرهان العقلي أم الشهود أم العلم الحضوري)، لم ينفِ إمكان كلام الله، فيلزم فيما يبدو التحدّث معه في أصل وجود الله قبل موضوع كلام الله، ومن الغريب لمن رفض جميع مباني الدين والعقائد، وأنكر أصل وجود الله وعلمه وقدرته يقوم بقراءةٍ جديدةٍ عن النبوّة، والأغرب منه ادّعاؤه انهيار مباني الفقهاء والمتكلّمين.

الدليل السادس

يقول مجتهد شبستري: «الطريق الوحيد لانتساب القرآن الى كلام الله هو المعجزة، ولا يمكن إثبات إعجاز القرآن».

نقد الدليل السادس

كلامه هذا غير تامّ؛ لإمكان إثبات إعجاز القرآن ووجود البراهين المتعدّدة على ذلك، أمّا مجتهد شبستري بدل أن ينقل تلك البراهين ويردّها، يتكلّم بطريقةٍ وكأنّ عدم قبول تلك البراهين أمرٌ مسلّمٌ أذعن له الجميع.

نعم توجد ملازمةٌ بين إعجاز القران وبين كونه كلام الله، بنحو إذا نفينا إعجازه أمكن نفي إلهيّته، ولكن يوجد ثلاثة أدلّة على إلهيّة القرآن، يكون الإعجاز أحدها وأهمّها. والأمر المهمّ أنّ مجتهد شبستري يتنفّس في فضاء اللَّاهوت المسيحي، وهذا ما ذكره البروتستانت وكرّره مجتهد شبستري، والبروتستانت

(262)

ربّما كانوا معذورين؛ لأنّ الوحي عندهم لم يكن متن الكتاب المقدّس، بل الوحي هو شخص عيسى المسيح، لذا اضطروا الى تفسير الكتاب المقدّس تفسيرًا لغويًّا هرمنيوطيقيًّا وفلسفيًّا كي يستقيم عندهم المتن، ومن المعلوم أنّ قياس القرآن بالكتاب المقدّس قياسٌ مع الفارق.

(263)
(264)

 

 

المصادر

  1. آلستون، ویلیام پي، «ادراک خداوند، گفت و گوی اختصاصی کیان با ویلیام آلستون»، ماهنامه کیان، دوره ۹، العدد۵۰،  دی و بهمن ۱۳۷۸.
  2. آلوسي، محمود بن عبد الله، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم و السبع المثاني، ج ۷، محقق عبد الباري عطیة، بیروت، دار الكتب العلمية، ۱۴۱۵ق.
  3. الآملي، سید حیدر، المقدمات من كتاب نص النصوص، طهران، قسمت ایران شناسی انستیتو ایران و فرانسه پژوهش‌های علمي در ایران، ط1، ۱۳۵۲.
  4. ــــــــــــــــــــــــــ؛ أنوار الحقيقة وأطوار الطريقة وأسرار الشريعة، المحقق والمصحح السیّد محسن الموسوي التبریزي، قم: نور علی نور، ط1، ۱۳۸۲.
  5. ابن أبي الحدید، عبد الحميد بن هبة الله، شرح نهج البلاغة، ج ۲۰، قم: مكتبة آیت الله المرعشي النجفي، ط1،  ۱۴۰۴ق.
  6. ابن الأثير، ضیاء الدین محمّد، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ج ۲، بيروت، مكتبة عصرية، ۱۴۲۰ق.
  7. ابن سینا، حسین بن عبد الله، ترجمه وشرح اشارات وتنبیهات، حسن ملکشاهي، طهران، سروش ۱۳۶۸.
  8. ــــــــــــــــــــــــــ، النفس من كتاب الشفاء، تحقيق حسن حسن زاده آملي، قم دفتر تبلیغات اسلامی، ۱۹۸۶م.
(265)
  1. ابن عربي، محي الدین، تفسیر ابن عربي (تأويلات عبدالرزاق)، محقق و مصحح سمير مصطفی رباب، بيروت: دار احياء التراث العربي، ط1، ۱۴۲۲ق.
  2. استيس، والتر، عرفان و فلسفه، طهران، سروش، ط1، ۱۳۵۸.
  3. انجم روز، متین، پیامدهای هستی‌شناختی و معرفت‌شناختی اندیشه عبدالکریم سروش در زمینه قدرت سیاسی، ره آورد پژوهش‌های سیاسي، العدد ۱ - ۲ ، ربيع وصيف، ۱۳۹۵.
  4. البحراني، هاشم بن سلیمان، البرهان في تفسير القرآن، طهران، بنیاد بعثت، ط1، ۱۴۱۶ق.
  5. پترسون، مایکل، ویلیام هاسکر، بروس رایشنباخ، و دیوید بازینجر، عقل و اعتقاد دینی، ترجمة إلى اللغة الفارسية: احمد نراقي و ابراهیم سلطاني، طهران، طرح نو، ۱۳۷۶.
  6. پراود فوت، وین، تجربه دینی، ترجمة إلى اللغة الفارسية وتوضیح: عباس یزداني، طهران، انتشارات علمی و فرهنگی، ط1، ۱۳۷۷.
  7. تیلیش، پل، شجاعت بودن، ترجمة إلى اللغة الفارسية: مراد فرهادپور، طهران، انتشارات علمی و فرهنگی، ۱۳۶۶.
  8. حسینیان، حامد، ترجمان وحی (بررسی نقش پیامبر در فرایند نزول وحی)، اندیشه نوین دیني، العدد ۳۱، شتاء ۱۳۹۱.
  9. خسروپناه، عبد الحسین، بیست گفتار درباره فلسفه و فقه علوم اجتماعی، قم، بوستان کتاب، ط1، ۱۳۹۸.
  10. ــــــــــــــــــــــــــ، جستاری در عرفان نظری و عملی، قم، مؤسسه بوستان کتاب، ط ۱، ۱۳۹۶.
  11. ــــــــــــــــــــــــــ، کلام جدید با رویکرد اسلامی، قم، نهاد نمایندگي مقام معظم رهبري در دانشگاه‌ها دفتر نشر معارف، ط4، ۱۳۹۵.
  12. ــــــــــــــــــــــــــ، کلام نوین اسلامی، قم تعلیم و تربیت اسلامی، ط2، ۱۳۹۴.
(266)
  1. خسروپناه، عبد الحسین، وحسن پناهي آزاد، سروش، دین و نواندیشی: نقد و ارزیابی دیدگاه‌های دکتر عبدالکریم سروش، ج۱، طهران، کانون اندیشه جوان، ۱۳۹۳.
  2. خمیني، سید روح الله، آداب الصلوة، طهران، مؤسسة تنظيم و نشر آثار امام خمیني، ط2، ۱۳۸۰.
  3. ــــــــــــــــــــــــــ، تفسیر سوره حمد، طهران، مؤسسة تنظيم و نشر آثار امام خمیني، ۱۳۸۱.
  4. ــــــــــــــــــــــــــ، سر الصلوة، طهران، مؤسسة تنظيم و نشر آثار امام خمیني، ط7، ۱۳۸۱.
  5. ــــــــــــــــــــــــــ، صحیفه نور، طهران، وزارت ارشاد، ۱۳۶۵.
  6. خندان، علي‌اصغر، مغالطات، قم، بوستان دانش، ۱۳۸۹.
  7. خوارزمي، تاج الدین حسین، شرح فصوص الحكم، محقق و مصحح حسن حسن زاده آملي، قم، بوستان کتاب، ط2، ۱۳۷۹.
  8. دهلوي، شاه ولى الله، حجة الله البالغة، ج ۱، قاهرة، دارالتراث، ۱۳۵۵ق.
  9. ریچاردز، گلین، به سوی الهیات ناظر به همه ادیان، ترجمة إلى اللغة الفارسية: رضا گندمي نصر آبادی و احمد رضا مفتاح، قم، مرکز مطالعات و تحقیقات ادیان و مذاهب، ط1، ۱۳۸۰.
  10. الزمخشري، محمود بن عمر، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، ج ۲، محقق مصطفی حسین أحمد، بيروت، دار الكتب العربي، ط3، ۱۴۰۷ق.
  11. السبحاني، جعفر، الإلهيات على هدي الكتاب والسنة والعقل، قم، المركز العالمي للدراسات الإسلامي، ط3، ۱۳۸۱.
  12. سروش، عبد الکریم، بسط تجربه نبوی، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط، ط5، ۱۳۸۵.
  13. ــــــــــــــــــــــــــ، طوطی و زنبور، بازتاب اندیشه، العدد ۹۸، خرداد، ۱۳۸۷.
  14. ــــــــــــــــــــــــــ، قبض و بسط تئوریک شریعت، طهران، مؤسسه فرهنگی صراط، ط3، ۱۳۷۳.
  15. سهروردي، شهاب الدین یحیى بن حبش، مجموعه مصنفات، ج ۲، طهران، مؤسسه مطالعات و تحقیقات فرهنگی، ط2، ۱۳۷۵.
(267)
  1. الشهرستاني، عبدالکریم، الملل و النحل، ج ۱، تحقیق محمّد بدران، قم، الشریف الرضی، ۱۳۶۴.
  2. الشيرازي، محمّدبن ابراهيم (صدر المتألهين)، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، بیروت، دار إحیاء التراث، ط3،  ۱۹۸۱م.
  3. ــــــــــــــــــــــــــ، الشواهد الربوبية في المناهج السلوكية، تصحیح و تعلیق سید جلال الدین آشتیاني، مشهد، المركز الجامعي للنشر، ط2، ۱۳۶۰.
  4. ــــــــــــــــــــــــــ، شرح اصول الکافي، محقق و مصحح محمّد خواجوي، طهران، مؤسسه مطالعات و تحقیقات فرهنگي،ط1،  ۱۳۸۳.
  5. ــــــــــــــــــــــــــ، مفاتيح الغيب، مقدمه و تصحیح محمّد خواجوي، طهران، مؤسسه تحقیقات فرهنگي، ط ۱،  ۱۳۶۳.
  6. صدوق، محمّد بن علي، التوحيد، قم، دفتر انتشارات اسلامي، ۱۳۹۸ق.
  7. طالقاني، سید محمود، پرتوی از قرآن، طهران، شرکت سهامي انتشار، ۱۳۵۰.
  8. طباطبایي، سید محمّد حسین، اصول فلسفه رئالیسم، به کوشش سید هادی خسروشاهي، قم، مؤسسه بوستان کتاب (مرکز چاپ و نشر دفتر تبلیغات اسلامي حوزه علميه قم)، ط3، ۱۳۹۱.
  9. ــــــــــــــــــــــــــ، ترجمه تفسیر المیزان، ترجمة إلى اللغة الفارسية: محمّد باقر موسوي، قم، جامعه مدرسين حوزه علمیه قم، دفتر انتشارات اسلامي، ط20، ۱۳۸۴.
  10. ــــــــــــــــــــــــــ، قرآن در اسلام، قم، دفتر انتشارات اسلامي، ۱۳۶۱.
  11. ــــــــــــــــــــــــــ، مجموعه رسائل، ج ۱، به کوشش سید هادی خسروشاهي، قم، مؤسسه بوستان کتاب، ط3، ۱۳۹۲.
  12. الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج على أهل اللجاج، تحقيق وتصحيح محمّد باقر خرسان، مشهد، نشر مرتضی، ط1،  ۱۴۰۳ق.
(268)
  1. الطبرسي، فضل بن حسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، تقديم السيد محسن الأمين العاملي، بیروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ۱۴۱۵.
  2. الطوسي، محمّد بن الحسن، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبد، بيروت، مؤسسة فقه الشيعة، ط1، ۱۴۱۱ق.
  3. عباسي، مهرداد، وآخرون، «تفسیر»، دانشنامه جهان اسلام، ج ۷، طهران، بنیاد دايرة المعارف اسلامي، ۱۳۹۳.
  4. الفارابي، أبو نصر، آراء اهل المدينة الفاضلة، تحقيق البير نصري نادر، بیروت، دار المشرق، ۱۹۸۶م.
  5.  ــــــــــــــــــــــــــ، الجمع بين رأيي الحكيمين، طهران، الزهراء، ۱۴۰۵ق.
  6. ــــــــــــــــــــــــــ، رساله معانى العقل، تحقیق موريس بويج، بیروت، دار المشرق، ۱۹۳۸م.
  7. فاضل مقداد، مقداد بن عبدالله السيوري حلى، نضد القواعد الفقهية على مذهب الإمامية، قم، کتابخانه آیت الله مرعشي نجفي، ط1،  ۱۴۰۳ق.
  8. الفناري، شمس الدین محمّد حمزه، مصباح الأنس بين المعقول و المشهود، محقق و مصحح عاصم إبراهيم الكيالي، بیروت، دارالكتب العلميه، ط۱، ٢٠١٠م.
  9. الفیض الکاشاني، ملا محسن، المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، محقق و مصحح علی اکبر غفاري، قم، مؤسسة انتشارات اسلامي جامعة مدرسين، ط4، ۱۴۱۷ق.
  10. قمي، عباس، مفاتیح الجنان، ترجمة إلى اللغة الفارسية: کمره اي، به خط مصطفی اشرفي، تصحیح محمّدرضا اشرفي، مشهد، شرکت به‌نشر، ط7، ۱۳۸۹.
  11. القونوي، صدر الدين، شرح الأربعين حديثًا، محقق ومصحح . حسن کامل ییلماز، قم، بیدار، ط1، ۱۳۷۲.
  12. قیصري، داود، شرح فصوص الحكم، محقق و مصحح: سید جلال الدین آشتیاني، طهران، شرکت انتشارات علمی و فرهنگي، ط1، ۱۳۷۵ .
(269)
  1. کانت، ایمانوئل، تمهیدات، ترجمة إلى اللغة الفارسية: غلام‌علي حداد عادل، ج ۲، طهران، مرکز نشر دانشگاهي، ۱۳۷۰.
  2. الکلیني، محمّد بن یعقوب، الکافي، مصحح و محقق علی اکبر غفاري و محمّد آخوندي، طهران، دار الکتب الإسلامية، ط4،  ۱۴۰۷ق.
  3. مایلز، ریچارد، تجربه دینی، ترجمة إلى اللغة الفارسية: جابر اکبري، طهران، دفتر پژوهش و نشر سهروردي، ط1، ۱۳۸۰.
  4. مجتهد شبستري، محمّد، تأملاتی در قرائت انسانی از دین، طهران، طرح نو، ط2، ۱۳۸۴.
  5. ــــــــــــــــــــــــــ،  «قرائت نبوی از جهان (۱) - کلام نبوی»، قسم «الكتابات» من موقع محمّد مجتهد شبستري:

http://mohammadmojtahedshabestari.com

  1. ــــــــــــــــــــــــــ، نقدی بر قرائت رسمی از دین، طهران، طرح نو، ط1، ۱۳۷۹.
  2. ــــــــــــــــــــــــــ، هرمنوتیک، کتاب و سنت (فرایند تفسیر وحی)، طهران، طرح نو، ط4، ۱۳۷۹.
  3. المجلسي، محمّد باقر بن محمّد تقي، بحار الانوار، بیروت، دار احیاء التراث العربي،  ط2، ۱۴۰۳ق.
  4. ــــــــــــــــــــــــــ، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، محقق و مصحح سید هاشم رسولی محلاتي، طهران، دار الكتب الإسلامية، ط2،  ۱۴۰۴ق.
  5. مدرسي طباطبایي، سید حسین، مکتب در فرایند تکامل: نظری بر تطور مبانی فکری تشیع در سه قرن نخستین، ترجمة إلى اللغة الفارسية: هاشم ایزدپناه، طهران، کویر، ط۱-۲،  ۱۳۸۶.
  6. مسعودي، سعید، قرآن و فرهنگ زمانه، قم: بوستان کتاب، ۱۳۹۱.
  7. مشکیني، علی، اصطلاحات الأصول و معظم أبحاثها، قم، نشر الهادي، ط5، ۱۳۷۱.
(270)
  1. معرفت، محمّد هادي، التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب، مشهد، دفتر نشر دانشگاه علوم اسلامي رضوي، ۱۴۱۸.
  2. مولوي، جلال الدین محمّد بن محمّد بلخي، مثنوی معنوی، طهران، نسیم بهشت، ۱۳۹۵.
  3. هگل، گئورگ ویلهلم فریدریش، استقرار شریعت در مذهب مسیح، ترجمة إلى اللغة الفارسية: باقر پرهام، طهران، آگاه، ۱۳۶۹.
  4. الهمداني، عبد الصمد بن محمّد حسین، بحر المعارف، ترجمة إلى اللغة الفارسية: حسین استاد ولي، طهران، حکمت، ۱۳۹۰.
  5. Moustakas, Clark., Phenomenological Research Methods, United Kingdom: SAGE Publications, 1994.
  6. Schleiermacher, Friedrich, On Religion, Translated by: John Oman, London, Trubner & co. ltd, First Edition, 1893.
  7. Swinburne, Richard, The Existence of God, Revised edition, Oxford, Clarendon Press, 1991, First Published: 1979.
  8. Wood, Kelsey., "Hans-Georg Gadamer", The Literary Encyclopedia, First published 21 December 2003. [https://www.litencyc.com/php/speople.php?rec=true&UID=1663, accessed 30 December 2024.]
(271)
(272)
يتضمن هذا الكتاب دراسة نقدية لآراء المفكرين الإيرانيين المعاصرين عبد الكريم سروش ومحمد مجتهد شبستري حول مفهوم الوحي، مع التركيز على تحليل جذورها الفكرية وبيان تناقضاتها مع المبادئ الإسلامية يناقش الكتاب النظريات الظاهراتية عند سروش التي تصف الوحي كتجربة ذاتية للنبي أو كرؤى تحتاج إلى تفسير، والتي يرى المؤلف أنها تضعف الطبيعة الإلهية للوحي وتتعارض مع النصوص القرآنية الواضحة. كما يتناول نقد رؤية شبستري التي تعتمد المنهج الهرمنيوطيقي، والتي تسعى إلى فصل النص القرآني عن قدسيته وعصمته. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف