فهرس المحتويات

مقدّمة المركز       7

المنهجيّة التأسيسيّة للمشروع الفكري لمجتهد شبستري 9

يحيى بوذري نجاد، مسلم طاهري كل كشوندي

نقد ومناقشة رأي مجتهد شبستري بشأن جوهرة وصدفة الدين95

 محمّد كاشي‌زاده

تأمُّل في الاستدلالات اللغويّة لنظريّة «القراءة النبويّة»125

 محمّد كاظم شاكر، السيّد روح الله شفيعي

قضيّة باسم القراءة الرسميّة 167

 محمّد تقي سبحاني

دراسة تحليلية حول حقيقة الإيمان برؤية شبستري211

 سيّد مرتضى حسيني شاهرودي، سيّد محراب الدين كاظمي

إلهيّة لغة القرآن الكريم243

 أحمد حسين شريفي

الاعتقاد ببشريّة القرآن الكريم 291

 حميد رضا شاكرين

تأملٌ في نظرة مجتهد شبستري إلى عصمة النبيّ الأكرم 315

 قاسم ترخان

نقد نظرة شبستري إلى وسعة علم الأصول والاجتهاد الفقهي 357

 محمّد عرب صالحي

رؤى نقدية معاصرة 9

محمد مجتهد شبستري

دراسة النظريات ونقدها

 

مجموعة مؤلفين

 

العتبة العباسية المقدسة

المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية

(1)
(2)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

(3)

العتبة العباسية المقدسة

المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية

(4)

الفهرس

مقدّمة المركز 7

المنهجيّة التأسيسيّة للمشروع الفكري لمجتهد شبستري 9

يحيى بوذري نجاد، مسلم طاهري كل كشوندي

نقد ومناقشة رأي مجتهد شبستري بشأن جوهرة وصدفة الدين95

محمّد كاشي‌زاده

تأمُّل في الاستدلالات اللغويّة لنظريّة «القراءة النبويّة»125

محمّد كاظم شاكر، السيّد روح الله شفيعي

قضيّة باسم القراءة الرسميّة 167

محمّد تقي سبحاني

دراسة تحليلية حول حقيقة الإيمان برؤية شبستري211

سيّد مرتضى حسيني شاهرودي، سيّد محراب الدين كاظمي

إلهيّة لغة القرآن الكريم243

أحمد حسين شريفي

الاعتقاد ببشريّة القرآن الكريم 291

حميد رضا شاكرين

تأملٌ في نظرة مجتهد شبستري إلى عصمة النبيّ الأكرم 315

قاسم ترخان

نقد نظرة شبستري إلى وسعة علم الأصول والاجتهاد الفقهي 357

محمّد عرب صالحي

(5)
(6)

 

 

مقدّمة المركز

الفكر المعاصر يعتبر مكوّنًا أساسيًّا في المنظومة الفكريّة الإسلاميّة، والتراث المعاصر لايختصّ بطبيعة الحال بالعالم الإسلامي فحسب، وإنّما له ارتباطٌ بجميع الثقافات والكيانات الجماعيّة التي تضرب بجذورها في تاريخ البشريّة.

يتبلور هذا الفكر على أرض الواقع حينما تشهد الساحة ظهور فكرٍ «آخر» بصفته ثقافةً وسلسلة مفاهيم دلاليّة منافسة، فالزمان والمكان إلى جانب المنافسة التي تحدث على ضوء مجموعةٍ مِن المفاهيم التي يطرحها «الآخرون»، كلّها أمورٌ تحفّز المدارس الفكريّة والثقافات الأصيلة للعمل على التأقلم مع الظروف الجديدة، وفي الحين ذاته تحفّزها على السعي للحفاظ على حيويّتها وخصوصيّاتها التي تميّزها عن «الآخر».

لو أنّ التاريخ شهد في بعض مراحله إقبال العلماء المسلمين على التراث الفلسفي الإغريقي، باعتباره نطاقًا منسجمًا مِن الناحية الدلاليّة وذا مضامين عميقة لدرجة أنّ بعض الفلاسفة مِن أمثال الفارابي وابن رشد ولجوا في فضائه الفكري وحاولوا إقامة تعريف معانيهم ورؤاهم الدينيّة متلائماً مع هذا الآخر الدخيل، ففي العصر الراهن باتت الثقافة والحضارة الغربيّتان الحديثتان المتقوّمتان على أسسٍ علمانيّةٍّ وتوسّعيّةٍ، تمثّلان «الآخر» بالنسبة إلينا ولسائر الثقافات غير الغربيّة.

النظام الدلالي المنبثق مِن الفكر الغربي قد أسفر عن إيجاد تحدّياتٍ كبيرةٍ

(7)

لـ «ذاتنا الإسلاميّة» بفضل تفوّقه سياسيًّا واقتصاديًّا، ونطاق هذا التحدّي يتّسع أكثر يومًا بعد يومٍ؛ لذلك طرحت العديد مِن الحلول لمواجهته، وقد استسلم بعضهم لواقع الأمور بعد أنْ شعروا بالخشية مِن الغرور الغربي، فراحوا يبحثون عن الحلّ في العالم الغربي نفسه، لذا دعوا بانفعالٍ إلى ضرورة ملاءمة «ذاتنا» مع هذا «الآخر»، إلا أنَّ آخرين سلكوا نهجًا مغايرًا ودعوا إلى تفعيل تراث «ذاتنا»، وأكّدوا على أنّ الحلّ لا يتبلور في ديار منافسنا، وإنّما هو كامنٌ في ديارنا. نعم، تراثنا المعاصر هو ثمرةٌ لكلّ حلٍّ يمكن أنْ يطرح في هذا المضمار.

المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجيّة افتتح في مكتبه بمدينة قم المقدّسة فرع الفكر المعاصر بهدف تدوين دراساتٍ وبحوثٍ علميّةٍ حول الإنجازات الفكريّة التي تحقّقت على صعيد ما ذكر إلى جانب تقييمها، وفي هذا السياق بادر الباحثون فيه إلى استطلاع المشاريع الفكريّة لأبرز العلماء والمفکّرين في العالم الإسلامي مِن الذين تنصبّ نشاطاتهم الفكريّة في بوتقة نقد الفكر المعاصر، وثمرة هذا النشاط تنشر في إطار دراسات تتضمّن بحوثًا تتطرّق إلى بيان واقع مسيرة إنتاجهم الفكري وكيفيّة تبلور آرائهم بصياغتها النهائيّة.

سنتناول في هذا الكتاب نقد وتحليل آراء الباحث الايراني الدكتور محمّد مجتهد شبستري، وما طرحه مِن آراء ومعتقدات علمانيّة متأثّرة بالمناخ الغربي، ونأمل أنْ ينال رضا القارئ ويجد فيه بغيته. ولا يسعنا في الختام إلّا أنْ نتقدّم بالشكر والتقدير لكلّ مَنْ ساهم في إنجاز هذا العمل، لا سيّما الدكتور بيكي مدير ملفّ الفكر المعاصر، وكذلك السيّد محمّد رضا الطباطبائي مدير وحدة الإصدارات، وسائر الباحثين المساهمين في إنجاز هذا العمل.

(8)

 

 

المنهجيّة التأسيسيّة للمشروع الفكري لمحمّد مجتهد شبستري[1]

يحيى بوذري نجاد[2]، مسلم طاهر كل كشوندي[3]

يُعدّ محمّد مجتهد شبستري مِن المفكّرين الإيرانيين، وقد عمد إلى إبداء نظريّات في حقل القرآن الكريم والنصوص الدينيّة، وأصبحت هذه الآراء، بتأثير مِن الشرائط الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة للمجتمع قبل الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة وبعدها، منشأ لتبلور نقاشات في هذا المجال. يُضاف إلى ذلك، أنَّه حيث خاض في بعض المسائل ذات الاهتمام المشترك بين سائر البلدان الإسلاميّة الأخرى؛ فقد حظيت هذه الآراء باستقبال المحافل العلميّة في الخارج، ومِن بينها البلدان الإسلاميّة أيضًا. ومِن الجدير ذكره أنَّ منشأ هذا الاهتمام لم يكن مقتصرًا على المسائل العلميّة البحتة، وإنَّما يأتي هذا الاهتمام في بعض الموارد في سياق دعم وتعزيز المشاريع التي تهدف إلى توسيع دائرة الرؤية الانتقاديّة للمباني المعرفيّة الفقهيّة والكلاميّة في المجتمعات الإسلاميّة.

(9)

لقد سبق لمحمّد مجتهد شبستري أنْ بدأ الكتابة في حقل مسائل العالم الإسلامي قبل أعوام مِن انتصار الثورة الإسلاميّة، إلّا أنَّه قام بنشر أوّل كتاب له في عام 1376ه‍.ش[1]، تحت عنوان: «هرمنيوطيقا، الكتاب والسنّة».[2] ثمَّ أردف ذلك بتحقيقات وأبحاث أخرى ترمي إلى شرح وإيضاح نظريّاته، وعمد في السنوات اللاحقة إلى اتّخاذ مواقف انتقاديّة تجاه الأوضاع القائمة في التفكير الديني، وأصدر مؤلَّفات أخرى، مثل: «الإيمان والحريّة»[3]، و«نقد القراءة الرسميّة للدين»[4]، و«تأمّلات في القراءة الإنسانيّة للدين».[5] وفي عام 1386ه‍.ش[6]، قام بتضمين أحدث نظريّاته في حقل هرمنيوطيقا النصوص الدينيّة الإسلاميّة (القرآن الكريم) في مقالة تفصيليّة بعنوان «القراءة النبويّة للعالم»[7]، وفي مقابلة تحمل عنوان: «الهرمنيوطيقا: التفسير الديني للعالم»[8]، حيث رفع النقاب فيهما عن أفكاره المختلفة في التعاطي مع مسألة الوحي وكيفيّة قراءته. وكان للمرّة الأولى أنْ تمّ التصريح في هذه المقالة بأنَّ القرآن الكريم هو «كلام نبويّ»وثمرة الوحي، وليس الوحي ذاته، وإنَّه ـ بحسب الحقيقة والواقع ـ قراءة توحيديّة عن العالم في ضوء الوحي. وأمّا الكتاب

(10)

الأخير لمحمّد مجتهد شبستري، فقد صدر في عام 1396ه‍.ش[1] بعنوان: «نقد أسس الفقه والكلام» بنسخته الإلكترونيّة. وقد بحث في هذا الكتاب نسيج العلوم الناظرة إلى الحياة الإنسانيّة للمسلمين، مِن قبيل: الفقه والكلام، حيث كان يُنظر إلى هذين العلمين بوصفهما الممثّلين للعقلانيّة العمليّة والناظرة إلى حياة المجتمع الإسلامي، ويعملان على صياغة وبلورة محتوى وصورة هذا المجتمع في البُعد النظري وفي المساحة العمليّة أيضًا.

وعلى كلِّ حال، فإنَّه مِن المناسب العمل ـ بالنظر إلى بيان هذه النظريّات الخاصّة مِن قبل محمّد مجتهد شبستري ـ على دراسة وتحليل الأبعاد والزوايا المختلفة لمشروعه الفكري. وإنَّ هذه الدراسة تهدف بدورها إلى إخضاع مشروعه الفكري للتدقيق والتأمّل، حيث نسعى فيها إلى بحث هذا المشروع ضمن إطار الاتّجاه الموسوم بـ «المنهجيّة التأسيسيّة».

وفي إطار تحقيق هذه الغاية، سوف تكون لنا إطلالة على السيرة الذاتيّة لمحمّد مجتهد شبستري، وبعد ذلك سوف نعمل أوّلًا على بيان الخلفيّات المعرفيّة وغير المعرفيّة لأفكاره، لننتقل بعدها إلى تحليل مشروعه الفكري والنظريّات المختلفة التي تبلورت في صلب هذا المشروع، وفي الختام سوف نعمل على التدقيق في مناسبات المباني والأسس النظريّة له، وسوف نعمل في الوقت نفسه على نقد وتقييم نظريّاته.

(11)

الخلفيّات الفكريّة لمحمّد مجتهد شبستري

إنَّ العناصر والعوامل المؤثِّرة في تعيين فكرة أو نظريّة ما في نسيج وعي المفكر، هي التي تعمل على بلورة الخلفيّات الوجوديّة لتلك الرؤية والنظريّة. إنَّ الخلفيّات الوجوديّة لرؤية ما إمّا هي عبارة عن خلفيّات معرفيّة، وإمّا شرائط غير معرفيّة تساعد على تعيّن آراء مفكِّر بعينه؛ وإنَّ الخلفيّات الوجوديّة المعرفيّة التي تضفي الهويّة على رؤية أو نظريّة ما، تشتمل على عوامل دخيلة في التكوين التاريخي للنظريّة، وتقيم كذلك ارتباطًا منطقيًا مع نظريّات المفكِّر؛ وذلك لأنَّ كلّ نظريّة أو فكرة تقيم نسبة مع التيّارات الفكريّة، وتتبلور تحت تأثير مفكِّرين بخصوصهم، كما تقوم على أساس المباني الأنطولوجيّة، والإبستيمولوجيّة، والأنثروبولوجيّة الخاصّة. ومِن هذه الناحية، فإنَّ النظريّة تقيم صلة أساسيّة مع هذه المباني، حيث تشكِّل في حدّ ذاتها موضوعًا لتأمّل ثانوي، وتعدّ الأرضيّة لبحث المناسبات بين المباني والأبنية. وإنَّ الخلفيّات الوجوديّة غير المعرفيّة بدورها، وإنْ لم يكن لها ارتباط منطقي مع نظريّات المفكِّر، ولكنَّها تحتوي في الغالب على ناحية تحفيزيّة. يتمّ في هذا الأفق بحث العوامل والخلفيّات التي لا يكون لها في تعيّن التفكير ماهية معرفيّة، وإنَّما تشتمل على الحواضن الاجتماعيّة والسياسيّة الموجودة لكلِّ فكرة أو نظريّة؛ وذلك لأنَّ كلِّ رؤية أو نظريّة، إنَّما تتبلور ضمن بيئة اجتماعيّة / سياسيّة خاصّة.[1]

وفيما يلي، سوف نقوم أوّلًا ببحث الخلفيّات غير المعرفيّة لأفكار محمّد مجتهد شبستري، لننتقل بعد ذلك إلى بيان الخلفيّات المعرفيّة له:

(12)

أ) الخلفيّات غير المعرفيّة للمشروع الفكري لمجتهد شبستري

إنَّ الخلفيّات غير المعرفيّة، عبارة عن العناصر والعوامل التحفيزيّة، مِن قبيل: الشرائط والظروف الشخصيّة والفرديّة، والأسريّة، والسياسيّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والثقافيّة، والتي تتجلّى في الغالب ضمن مرحلة العثور على الأرضيّات واختيار المفكِّر لأهدافه وغاياته، وتكون سببًا في تعلّق المفكِّر أو ابتعاده عن موضوعات ومسائل خاصّة، ويعمل على توجيه متعلّق فکره بناءً عليها. ومِن المناسب لكي ندرك أسباب تبلور المشروع الفكري لمجتهد شبستري، أنْ نلقي نظرة على الشرائط الفرديّة والشخصيّة والأسريّة له مِن جهة، والشرائط والظروف السياسيّة والاجتماعيّة/ الثقافيّة التي عاش في كنفها مِن جهة أخرى.

الشرائط والظروف الفرديّة والأسريّة

ولد محمّد مجتهد شبستري سنة 1315ه‍.ش[1] في مدينة شبستر (مِن محافظة أذربيجان الشرقيّة) في إيران. وقد ذاق مرارة فقد أمه وهو في عامه الخامس؛ حيث وافاها الأجل متأثِّرة بمرض السلِّ، وبسبب تعرّض والده الحاج ميرزا كاظم شبستري[2] إلى الأذى والتضييق مِن قبل أجهزة السلطة في مدينة

(13)

شبستر، اضطرّ هو وأسرته إلى ترك هذه المدينة والانتقال إلى العيش والإقامة في مدينة تبريز، حيث فقد والده هناك وهو لم يتجاوز السنة الثانية عشرة مِن عمره.[1] وقد تحدّث شبستري بنفسه عن هاتين الحادثتين بوصفهما مِن «الذكريات المريرة»و«التجارب الأليمة» التي أدّت إلى تأثّره على المستوى النفسي والروحي، وأضرّت بحياته على المستوى المادّي والمعنوي. وقال شبستري متحدّثًا عن تجربة والده: إنَّه سافر مِن شبستر إلى النجف الأشرف في طلب العلوم الدينيّة والإسلاميّة، وانخرط في سلك تلاميذ السيّد محمّد كاظم اليزدي[2]، وكان يُعدّ مِن المراجع المعارضين للثورة الدستوريّة.[3] وبحسب ما يروي محمّد مجتهد شبستري، فإنَّ والده على ما يبدو لم يكن في صفوف

(14)

الآخوند[1]، وإنَّما كان مِن أنصار السيّد محمّد كاظم اليزدي في معارضته للثورة الدستوريّة (أو ما يُعرف بالمشروطة). عندما بلغ محمّد مجتهد شبستري عامه السابع أو الثامن، خرج به والده مِن البيئة الاجتماعيّة لمدينة تبريز، وبسبب النظام التعليمي الحكومي العلماني والمناهض ـ بعبارة أخرى ـ للدين في تلك المرحلة، أدخله أبوه في مدرسة باسم المدرسة «العلميّة» كان قد أسّسها في مدينة تبريز بنفسه، ولم تكن هذه المدرسة تحظى بغطاء داعم مِن وزارة التربية والتعليم. وتبعًا لذلك، لم تكن هذه المدرسة تمنح المنتسبين لها شهادات علميّة معتبرة مِن قبل الجهات الحكوميّة، ولم تكن بعض مناهج التربية والتعليم تدرّس في تلك المدرسة. وكان الطلاب الذي يسجّلون في هذه المدرسة ينحدرون مِن الأسر التي تؤمن بحرمة إرسال أبنائها إلى المدارس الحكوميّة. وكانت الدروس التي يتمّ تعلّمها في هذه المدرسة تقتصر على اللغة الفارسيّة والعربيّة، بالإضافة إلى التاريخ والجغرافيا والرياضيّات وما إلى ذلك. ولم يكن هناك درس للموسيقا في المدرسة العلميّة كما هو معهود في المدارس الحكوميّة، ولم يكن هناك درس للرياضة، وفي المقابل كان يتمّ الاهتمام بدلًا مِن ذلك بالدروس الدينيّة والقرآن الكريم والشرعيّات.

(15)

كان هناك سببان وراء انتساب محمّد مجتهد شبستري إلى حوزة العلوم الإسلاميّة؛ السبب الأول: أنَّ انتهاء العقد الأوّل مِن حياته قد اقترن بمرحلة انتشار أفكار أحمد كسروي[1] في منطقة أذربيجان، الأمر الذي شكَّل جرس إنذار للأسر المتديّنة وأبنائها. والسبب الثاني: يعود إلى الأسلوب التربوي الخاصّ الذي أخضعه له والده؛ فقد كان أبوه يرغب في أنْ يصبح نجله طالبًا للعلوم الدينيّة حتمًا. ومِن هنا، فقد كان والده بالإضافة إلى ما يتلقّاه مِن الدروس في المدرسة العلميّة، قد خصّص له في البيت دروسًا خاصّة في الصرف والنحو مِن الأدبيّات العربيّة أيضًا. ولكي يطّلع على فضاء الخطاب الديني، كان يصطحبه معه إلى المساجد ليستمع إلى خطب وكلمات الواعظين. وبعد وفاة والده في عام 1327ه‍.ش[2]، أراد تجربة الدراسة في المدارس الحكوميّة، ولهذا السبب فقد سجّل في مدرسة «فيوضات» الحكوميّة. وبقي بعد ذلك في مدينة تبريز على مدى ثلاث سنوات، ولكنَّه بقرار مِن الأسرة ورغبة منه، أراد الدراسة في حوزة العلوم الإسلاميّة، ولهذا السبب شدّ الرحال بعد ثلاث سنوات مِن رحيل والده[3]؛ أي في عام 1330ه‍.ش[4]؛ ليواصل دراسة العلوم الإسلاميّة في الحوزة العلميّة بقم، وانتقل إلى مدرسة الحجّتيّة للإقامة فيها.

(16)

وبسبب طبيعته الانعزاليّة التي ظهرت عليه بشكل مبكّر، آثر السكن في الطابق الثاني مِن مدرسة الحجّتيّة، حيث اختار حجرة لا تتّسع إلّا لشخص واحد فقط. وأمضى في هذه المدرسة ثمانية عشر عامًا، قضاها في التحصيل والتحقيق في حقل الفلسفة والكلام الإسلامي، بالإضافة إلى الفقه والأصول والتفسير.

وفي عام 1348ه‍.ش، أرسل آية الله السيّد محمّد حسين البهشتي، الذي كان يشغل في حينها منصب مدير المركز الإسلامي في مدينة هامبورغ الألمانيّة، دعوة إلى محمّد مجتهد شبستري للحضور في هذا المركز الإسلامي، وقد حظيت هذه الدعوة بمباركة وتأييد مِن قبل مرجعين في حينها، وهما: آية الله الميلاني وآية الله الخونساري، فسافر إثر ذلك برفقة أهله إلى ألمانيا على نفقة آية الله السيّد البروجردي؛ ليتولّى هناك منصب إدارة المركز الإسلامي في هامبورغ. وقد أقام في ألمانيا على مدى تسع سنوات تولّى خلالها إدارة هذا المركز الإسلامي. وقد أتاحت له هذه الأقامة الطويلة في أوروبا أنْ يطّلع، بعد تعلّم اللغة الألمانيّة، على الثقافة والحضارة الغربيّتين، ولا سيّما الفلسفة الجديدة واللاهوت المسيحي، وأنْ يقوم ببعض الدراسات والتحقيقات في هذا الشأن. وخلال هذه المدّة سافر مرارًا إلى مختلف البلدان الأوروبيّة والعربيّة والأمريكيّة لغرض المشاركة في المؤتمرات والندوات الدوليّة الفلسفيّة واللاهوتيّة وإلقاء الكلمات فيها، وحاور مختلف الشخصيّات المسيحيّة واليهوديّة والبوذيّة والإسلاميّة البارزة في مختلف أنحاء العالم، وتبادل معهم وجهات النظر حول تحدّيات العلم والفلسفة الحديثة بالإضافة إلى الإلهيّات في الأديان الكبرى.

(17)
الشرائط الاجتماعيّة السياسيّة في تبلور المشروع الفكري لشبستري

لقد شهد محمّد مجتهد شبستري في صغره احتلالَ مدينة أذربيجان على يد القوّات الروسيّة، وبقاءهم فيها.[1] وقد رأى معسكر الجنود الروس بأمّ عينه. وكانت تلك الحقبة مثيرة للقلق مِن ناحية سيطرة الحزب الديمقراطي على أذربيجان[2] إلى حدّ كبير. لقد تركت تحدّيات تأسيس الدولة الحديثة على يد البهلوي الأول، تأثيرًا كبيرًا على شبستري الشاب، واستمرّ هذا التأثير بزخَم أكبر في فترة حكم البهلوي الثاني، وأمضى مرحلة الشباب يميل نحو التيّارات

(18)

الوطنيّة/ المذهبيّة ـ مِن قبيل تيار الدكتور محمّد مصدق (الوطني) ـ والابتعاد عن تيّارات مِن قبيل حزب تودة (الشيوعي).[1] وبعد ثماني عشرة سنة مِن الدراسة في الحوزة العلميّة بقم، والمشاركة في الدروس الشائعة في الحوزة وهي عبارة عن: الفقه واصول الفقه والكلام والفلسفة ـ والتفسير إلى حدّ ما ـ أمضى السنوات الثمانية الأخيرة مِن وجوده في الحوزة ـ العلميّة مشاركًا في دروس خارج الفقه والأصول عند الأساتذة مِن الدرجة الأولى في تلك المرحلة. ومِن بين جميع هذه الدروس، كان الحضور في درس تفسير العلّامة الطباطبائي[2]، يحظى بجاذبيّة أكبر بالنسبة إلى محمّد مجتهد شبستري؛ وبالإضافة إلى هذه الدروس الحوزويّة، كانت له بعض الدراسات الحقوقيّة أيضًا. وفي عام 1348ه‍.ش[3]، قبل الدعوة المرسلة إليه لإدارة المركز الإسلامي في مدينة هامبورغ الألماني، وقد أثّرت عليه الإقامة في ألمانيا والنسيج المعرفي والثقافي لهذا البلد، وكانت ثمرة ذلك تعلّم اللغة الألمانيّة للتركيز على رسالته الأصليّة،

(19)

والتي تمثّلت ـ على حدّ تعبيره ـ بالتعريف الاجتماعي لدين الإسلام. وكان مِن بين أهمّ نشاطاته خلال فترة إدارته في المركز الإسلامي لهامبورغ، افتتاحه لمشروع حواري للأطفال المسلمين الناشئين في ألمانيا، وتوسيع دائرة الحوار مع سائر الأعضاء في التجمّعات الدينيّة الأخرى في المجتمع الألماني.[1]

بمعنى أنَّ إدارة المركز الإسلامي في بلد أوروبي، إذ كان يراجعه الكثير مِن المسلمين ومِن أتباع الديانات الأخرى ـ ولا سيّما المسيحيّون منهم ـ وضرورة إلقاء الكلمات والاستماع إلى خطابات الآخرين، والمشاركة في الحوارات، وكذلك الحضور في الندوات والمجالس الحواريّة بين الأديان في مدينة هامبورغ وسائر المدن الألمانيّة الأخرى، وكذلك البلدان الأوروبيّة، كانت تستوجب تعلّم اللغة الألمانيّة. وبعد إتقان اللغة الألمانيّة، أخذ يشارك في الحوارات الدينيّة والمحافل السياسيّة؛ إذ كان الفضاء الحاكم في جميعها، هو التفكير الانتقادي بمفهومه الكانطي. وفي تلك الظروف كان على حدّ تعبيره:

«كنت أشبه بشخص يعيش في برزخ الحياة. وقد ارتأيتُ أنْ أسبر غور ذهني، وفجأة وجدت نفسي منجرفًا مع تيّار الجهود المعرفيّة والإبستيمولوجيّة».[2]

ونتيجة لذلك، فقد تركّزت جهوده في الغالب على فلسفة الغرب، وعثر على جاذبيّات في اللاهوت المسيحي الناظر إلى هذه المقدّمات الذهنيّة والمعرفيّة؛ هذا جعل منهجيّة اللاهوت المسيحي مهمّة بالنسبة له. وفي خضم ذلك، وبالإضافة إلى اللغة الألمانيّة والتفكير الانتقادي واللاهوت المسيحي،

(20)

أخذ موضوع آخر يشغل ذهنه بالتدريج أيضًا، ولم يكن ذلك الموضوع سوى الديمقراطيّة السائدة في ألمانيا. إنَّ المراد مِن الديمقراطيّة بهذا المعنى، كانت تتمثّل عند محمّد مجتهد شبستري بقوله:

«لا أحد مِن الناس هناك يُزعج الآخرين، وكان متّفقًا بينهم أنْ يعتبروا حياتهم الاجتماعيّة/ السياسيّة على شكل عقد وتوافق يحصل فيه كلُّ واحد منهم على حقوقه».[1]

ب) الخلفيّات المعرفيّة للمشروع الفكري لشبستري

الشخصيّات والاتجاهات الفكريّة المؤثّرة على المشروع الفكري لشبستري في البحث عن الشخصيّات الفكريّة المؤثّرة على المشروع الفكري لمحمّد مجتهد شبستري، تجب الإشارة إلى البُعدين الداخلي والخارجي في هذا الشأن؛ بمعنى أنَّ شبستري كان قد تأثّر بأشخاص موجودين في العالمين الإسلامي والغربي؛ کالدكتور محمّد مصدق.[2]

(21)

وفي ضوء ذكره لأسماء بعض الشخصيّات الآخر في تضاعيف آثاره وأعماله، يمكن لنا أنْ نسمّي مِن بين الأشخاص الذين تأثّر بهم محمّد مجتهد شبستري ـ على مستوى الداخل ـ كلًّا مِن آية الله السيّد حسين البروجردي[1]، وآية الله السيّد الإمام الخميني[2]، وآية الله السيّد محمود الطالقاني[3]، والمهندس مهدي بازرگان.[4]

(22)

لقد كان محمّد مجتهد شبستري في مرحلة شبابه متأثرًا بحركة الدكتور محمّد مصدق، وكان سبب هذا التأثّر هو «صوت الناس واختيارهم» في وصول الدكتور مصدق إلى السلطة. ونظريّة مجتهد شبستري في هذه المسألة تبدو للعيان تحت عنوان «حرمة الأشخاص وحريّتهم في الانتخاب»في مقابل «مقام ترسيخ الشاه» الذي تمّ ربط سلطته ـ لأيّ سبب كان ـ بسلطة أبيه، ولم تكن لها أيّة صلة بإرادة الشعب الذي يجب أنْ يكون هو مصدر السلطات.[1] ولهذا السبب، كان مجتهد شبستري في حالة التعارض بين الدكتور مصدق والشاه البهلوي الثاني (الابن)، ينحاز إلى الدكتور محمّد مصدق.

وكان تأثّر مجتهد شبستري بآية الله السيّد محمود الطالقاني يعود إلى أدائه أكثر مِن تفسيره.[2] وفي تبرير حصول هذه الرؤية تجاه آية الله الطالقاني، يقول مجتهد شبستري: إنَّ الطالقاني كان يؤمن بأنَّ المعرفة الدينيّة، إنَّما تتحقّق لدى الإنسان مِن طريق العمل والجهاد، وليس مِن طريق التفكير؛ ومِن هنا كان مجتهد شبستري يعرّف بالسيّد الطالقاني بوصفه شخصًا مجاهدًا، وأنَّه كان مخلصًا في جهاده.

وبالنظر إلى تواجد مجتهد شبستري في أوروبا، وانحيازه إلى الفلسفة

(23)

القاريّة[1] والتفكير الانتقادي مِن جهة، والاتجاه نحو تيّار اللاهوت الليبرالي والتفسير المسيحي الليبرالي للكتاب المقدّس في عالم المسيحيّة مِن جهة أخرى[2]؛ كان في نقده للديمقراطيّة وانتشار وباء العدميّة بوصفه مِن الآفات الكبرى التي يعاني منها الغرب، يستند إلى آراء ماركوز وإريك فروم. وكان في اتخاذ الاتّجاه المفهومي بالنسبة إلى الحياة، متأثرًا ببعض المستنيرين المسيحيين، مِن أمثال: تيليش وبولتمان. وكذلك، فإنَّه في سياق إيمانه بأطر الهرمنيوطيقا الفلسفيّة والمنهجيّة، وتلفيقها في التعاطي مع النصوص الدينيّة مِن جهة، وعرض رؤيته في باب فهم الحياة الإنسانيّة مِن جهة أخرى، نجد في آرائه حضورًا ملحوظًا لنظريّات الفلاسفة الهرمنيوطيقيين، مِن أمثال: شلايرماخر، وفليلهم ديلتاي، وصولًا إلى هانس غادامير، وبيتّي وهيرش أيضًا.

إنَّ محمّد مجتهد شبستري يُنذر مخاطبيه، بأنَّهم إذا أرادوا أنْ يفهموا نظريّاته وأفكاره، يتعيّن عليهم الالتفات إلى المناشئ والجذور النظريّة والمعرفيّة التي قام باتّخاذها، ويدّعي أنَّهم إذا أرادوا فهم مشروعه الفكري، وجب عليهم أنْ يلتفتوا إلى ماهيّة المصادر الفلسفيّة التي تشبّع بها ذهن الشخص الذي يؤلِّف

(24)

هذه الكتب، ومِن أين يستقي هذه المصادر، وما هي المفاهيم المستقرّة في ذهنه وتعمل على توجيه طريقة تفكيره وكتابته.[1]

ج) المراحل الفكريّة لمجتهد شبستري

يبدو أنَّ السيرة العلميّة لمجتهد شبستري ـ بتأثير مِن الثورة الإسلاميّة، وما تبعها بعد ذلك مِن تأسيس نظام الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران ـ قد شهدت في الحدّ الأدنى ثلاث مراحل فكريّة، نجملها ضمن العناوين الآتية:

المرحلة الأولى: محمّد مجتهد شبستري بوصفه مصلحًا اجتماعيًا

في المرحلة الأولى، مِن خلال حضوره ونشاطه في صحف ومجلّات، مثل: (مكتب إسلام)، و(مكتب تشيّع) في أواخر عقد الثلاثينيّات مِن القرن الهجري الشمسي، وكتابته لمقالات سعى مِن خلالها إلى إثبات جدوائيّة النصوص الدينيّة ـ في مواجهة المسائل الاجتماعيّة المعاصرة.[2] وكان قد صبّ جهوده مِن أجل العثور على الاتجاه السائد في النصوص الدينيّة مِن قبيل القرآن الكريم والسنّة النبويّة ـ في المواجهة مع مختلف المسائل. ومِن هنا، فإنَّ منهج مجتهد شبستري في التعاطي مع النصوص الدينيّة توصيفي/ توضيحي، وبصدد الكشف عن المعنى والمفهوم الحقيقي، والعثور على علل وغايات تشريع مختلف الأحكام الإسلاميّة في هذه النصوص «كما هي».[3]

(25)

يذهب محمّد مجتهد شبستري في هذه المرحلة إلى الاعتقاد بأنَّ مسائل مِن قبيل:

«إدراك الأصول المسلّمة في نظام الخلق، والإيمان بالخالق ومبدأ الوجود، وفهم أنَّ خلقه مستمرّ على الدوام، وأنَّ العالم لا يمكن أنْ يستغني عنه ولو للحظة واحدة، وما هو الموقع الصحيح للإنسان في منظومة الخلق الواسعة؟ وكيف يجب أنْ يكون ارتباطه مع الخالق والعالم والأشخاص الآخرين؟ وكيف يجب أنْ يعمل على تنظيم برنامج الحياة في هذا العالم ليصل إلى السعادة والكمال في كلا الدارين؟»، هي مِن المسائل التي «سعى الأنبياء إلى بيان رؤية صحيحة حولها، وأنَّ القوانين المدنيّة والجزائيّة للأديان، عبارة عن آداب ومناسك تمّ تشريعها مِن أجل إقامة التواصل بين الإنسان وخالقه، وترِد بأجمعها في إطار ضمان الأهداف المذكورة أعلاه».[1]

يعمد مجتهد شبستري إلى التعريف بالإسلام بوصفه الدين الأكمل مِن بين جميع الأديان في حقل التعريف بأصول وأهداف الحياة الإنسانيّة[2]، وفي معرض نقده لنهضة تشريع القوانين بما يتوافق والأسلوب الغربي في البلدان الإسلاميّة ـ «والذي تكون نتيجته التخلّي عن الكثير مِن قوانين الفقه الإسلامي على الرغم مِن تناغمها التام مع الأفكار والسنن والآداب والمقتضيات الطبيعيّة والمحليّة للبدان الإسلاميّة» ـ إلى الاعتقاد بضرورة

(26)

«الالتفات إلى التداعيات والتبعات السيّئة لهذه النهضة التشريعيّة وغير المنطقيّة، ويجب إزالة القوانين الغربيّة الناشزة، والتي تمّ فرضها على هذه المجتمعات، واستبدالها بالقوانين الأصيلة والمتناغمة مع الفقه الإسلامي»[1]؛ إذ «إنَّ ما ورد في إعلان الحكومة الإسلاميّة العالميّة، لا ينشد هدفًا أسمى وأفضل مِن الإعلان العالمي للأمم المتّحدة»[2] فحسب، بل «وإنَّ قوانين الفقه الإسلامي المنبثقة عن الوحي، قد ازدهرت في البدان الإسلاميّة وتكاملت على مدى القرون، وكانت وما تزال متماهية ومنسجمة مع هذه الأرضيّات بشكل كامل».[3] وأدّت إلى «أنْ تكون للحقوق الإسلاميّة أصول وفلسفة خاصّة بها، لم تقتبس مِن أيّ مبدأ وأصل آخر، وإنَّ الحقوق الإسلاميّة ـ بحسب مصطلح الحقوقيين ـ حقوق إلهيّة؛ بمعنى أنَّها حقوق ذات أصول وجذور دينيّة، وإنَّ المسلمين إنَّما يرون قوانينها وأحكامها واجبة الإجراء والتطبيق؛ لأنَّ الله ـ خالق العالم ـ هو الذي أقرّها وقام بتشريعها»[4]؛ وذلك لأنَّه قد عرّف بـ «القوانين السامية للقرآن الكريم والشخصيّة الاستثنائيّة والفذّة للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله»[5]، بوصفها منشأ تبلور المجتمع الإسلامي ومنطق التطوّر الحاكم عليها، وذهب إلى الاعتقاد والقول:

(27)

«يجب العمل على تجزئة وتحليل الفلسفات الحقوقيّة للإسلام بشكل صحيح؛ كيما نثبت أفضليّة هذه الفلسفات ـ مِن حيث الصحّة والشمول ـ على الفلسفات السائدة في العالم الغربي».[1]

المرحلة الثانية: مجتهد شبستري بوصفه ناقدًا لمناهج المواجهة مع النصوص المقدّسة

لقد ادّعى محمّد مجتهد شبستري في مرحلة مِن حياته العلميّة أنَّ القرآن الكريم رواية واحدة قدّمها النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الوجود والعالم، وكان في تلك المرحلة يذهب إلى الاعتقاد بوجوب «الفصل والتفريق بين الحقيقة الدينيّة التي تمّ وحيها على جماعة، وبين المفاهيم والتعابير التي يستخدمها أتباع تلك الحقيقة الدينيّة».[2] لقد كان شبستري في هذه المرحلة، يذهب إلى الاعتقاد بأنَّ القرآن الكريم خطاب واحد ينطوي على مفهوم مركزي، ويرى أنَّ كلّ جهود المؤمنين والمفسِّرين، يجب أنْ تصبّ على اكتشاف هذا المفهوم. إذ لو تمّت القراءة على هذه الشاكلة، فإنَّه لن يتمّ النظر إلى الأحكام الاقتصاديّة أو العباديّة المقتبسة مِن القرآن الكريم بوصفها نسيج وحدها. إنَّه يُنظر إليها بوصفها أحكامًا مرتبطة بزمانها، حيث تكون في خدمة بيان المفهوم المركزيّ للنصّ الوحياني، كما أنَّه لا يوجد في هذه الرؤية أيّ فهم مِن دون فرضيّة مسبقة. ومِن هنا، فإنَّ اختلاق الحجيّات السابقة ـ التي تنطوي في الغالب على المباني السياسيّة والحفاظ على الهويّات المذهبيّة والطائفيّة ـ تحول دون الفهم المستمرّ، وإنَّ الطريق إلى الخروج منها يكمن في العودة إلى اللوازم

(28)

الطبيعيّة للفهم، وليس الخوض والتمسّك بإضفاء المتقدِّمين للحجيّة على القضايا الدينيّة.

المرحلة الثالثة: اتّخاذ الاتجاه الظاهراتي في المواجهة مع النصوص الوحيانيّة

أمّا في المرحلة المتأخّرة، فقد تخلّى عن أسلوبه الانتقادي تجاه المناهج التفسيريّة الموجودة في العالم الإسلامي، وادّعى بأنَّ القول: «إنَّ جميع النصّ الفعلي للقرآن مِن الزاوية التاريخيّة أثر أو آثار لشخص واحد هو «النبيّ»، وأنَّه أوّلًا قد قرأ العالم قراءة وحيانيّة، وثانيًا أنَّ هذا الشخص هو النبيّ الأكرم محمّد بن عبدالله صلى‌الله‌عليه‌وآله ادّعاء تاريخي غير كاف، بل إنَّ الشيء الوحيد الذي يمكن ادّعاؤه بشأن كتاب مِن قبيل القرآن الكريم، هو أنَّ «القراءة الظاهراتيّة»و«القراءة الروائيّة» بسبب ماهيّة هذا النصّ، تفتح الطريق بشكل ناجع.[1]»

د) المباني الفكريّة لمحمّد مجتهد شبستري

سوف نتعرّض في هذا الفصل إلى بيان أهمّ المباني الفكريّة لمجتهد شبستري، والتي يُنظر لها بوصفها القاعدة والأساس لنظريّاته. تقدّم أنْ أشرنا إلى أنَّ كلَّ نظريّة تقوم على سلسلة مِن المبادئ والمباني، ولكي تتبلور النظريّة في ذهن المفكِّر، يجب أنْ تنتظم مبادئ تلك النظريّة في ذهنه. بالنظر إلى بيان المدارس المؤثّرة وكذلك جذور التفكير عند مجتهد شبستري، مِن الواضح أنَّه في أخذ هذه المباني، قد تأثّر باتجاهات ومفكِّرين قد سبقوه في امتلاك تأمّلات في حقل اللغة والدين والمجتمع.

(29)
المباني الوجوديّة والأنطولوجيّة

يتمّ الكلام في الأنطولوجيا حول ماهيّة ووجود العالم، وماهية الأشياء الموجودة في العالم، ومهامها وأدوارها. إنَّ تفكير محمّد مجتهد شبستري في هذا القسم، متأثّر بالفلسفة القارّية[1]، ولا سيّما المنظّرون الذين يركّزون على تحليل المعنى وفهمه، مِن أمثال: هانس غادامير، وشلايرماخر. وفي التماهي مع سائر مباني تفكيره ـ مِن قبيل ماهيّة المعرفة والإنسان ـ يحمل نوعًا مِن الهرمنيوطيقا التي ينعكس فيها. وفي الحقيقة، فإنَّه بعد تغلّب الرؤية الهرمنيوطيقيّة على الوجود، وامتلاك هاجس «الفهم» بدلًا مِن «الكشف»، لا يبقى لمحمّد مجتهد شبستري شيء مِن الأنطولوجيا الذاتيّة بالمعنى المتعارف لها، وتنخفض القضايا الأنطولوجيّة إلى أفق مِن الأبحاث الهرمنيوطيقيّة الإبستيمولوجيّة؛ حيث لا يعود معيار الصدق والكذب فيها هو الحقيقة الذاتيّة. وإذا كان هناك مِن وجه باق للحقيقة في المشروع الفكري لمجتهد شبستري، فإنَّ البحث عن الحقيقة سوف يتبلور في مهد مِن اختزان التجارب الشخصيّة. ومِن هنا، فإنَّه يرى عدم إمكان العثور على الحقيقة بمعزل عن التدخّلات الفرديّة والجماعيّة في الحياة الإنسانيّة، الأعمّ مِن الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، وما إلى ذلك. يذهب شبستري إلى القول: «لو كان للوجودات مِن لسان وأمكن لها أنْ ترفع النقاب عن ذاتها، ما الذي سوف يحدث يا ترى؟».

(30)

عندها سوف يتّضح أنَّه لم يكن خلف كواليس جميع هذه الأشياء سوى العدم؛ وذلك لأنَّ كلّ ما نقوم به نحن البشر ليس سوى الكلام والاستفادة مِن المفاهيم، ولا يمكن لنا بوساطة المفاهيم المرتبطة بالوجود أنْ نتحدّث عن الأمور الكائنة خلف الكواليس، ولا يمكن لنا أنْ نعمل على إظهار ما وراء الكواليس. إنَّ الذي يتمّ إظهاره بوصفه طورًا، طريقُه هو الاستخبار، ولا يمكن الذهاب إلى خلف الكواليس بأيّ مفهوم مِن المفاهيم الوجوديّة. وفيما يلي سوف نشير إلى أهم الدلالات الأنطولوجيّة لتفكيره.

الرواية بما هي حقيقة؛ مبنى لأنطولوجيّة الكلام

يذهب مجتهد شبستري إلى الادّعاء بأنَّ الحقيقة تظهر لكي تنتشر في الدائرة الاجتماعيّة/ التاريخية؛ إذ تتنافس فيها الكثير مِن القوى فيما بينها مِن أجل الوصول إلى القوّة والوصول إلى حقيقة رسميّة تعمل على تبرير القوّة وتضفي المشروعيّة عليها. يذهب مجتهد شبستري إلى الاعتقاد بأنَّ القول بأنَّ المعنى والمفهوم مِن الذاتيات الإلهيّة، وأنَّ العالِم يهتدي إليها بتوفيق مِن الله، مِن أصول الاجتهاد التقليدي، ولا ينتج عنه شيء سوى الجزميّة والاعتقاد الحتمي.[1] ويقول في ذلك:

«لا ينبغي الاستيحاش والخوف مِن حقيقة عدم وجود محكّ متقن مئة بالمئة لإثبات فهم النصّ».[2]

(31)

وادّعى قائلًا:

«إنَّ رجوعي ليس مِن باب الحصول على الأنطولوجيا كي يُقال لي: هلمّ وأثبت الحجيّة المعرفيّة أو الوثاقة التاريخيّة للنصّ أوّلًا، ثمّ قم بعد ذلك بفهمها وتفسيرها».[1]

كما ويذهب إلى الاعتقاد قائلًا: «إنَّ مطالب القرآن، سواء في قسم الفهم التفسيري أو في قسم (الفهم الروائي)[2]، إنَّما هي «رواية»، وليست إخبارًا عن الواقع».

ثمّ استطرد قائلًا في شرح هذا المدّعى:

«إنَّ معنى هذا الكلام هو أنَّ قائل القرآن في هذا القسم، لا يريد القول كيف تكون حقائق عالم الوجود، وإنَّما يخبر عن سلسلة مِن الحوادث التي وقعت أو تقع تباعًا أو سوف تقع في المستقل، وربَّما أمكن التعريف بأنطولوجيّات متنوّعة، بيد أنّي أقترح أنطولوجيّة الكلام، بمعنى أنطولوجيّة كلام مؤسّس الدين، وبعبارة أخرى وجود الكلام. وأرى ذلك بناء محكمًا في العصر الراهن بالنسبة إلى التديّن؛ بحيث أنَّ الكثير مِن المشاكل للتديّن في العالم المعاصر وعصر الحداثة، تحدث للأشخاص المتديّنين، ويبدو أنَّ الحياة الدينيّة والحياة في العالم الراهن غير قابلتين للجمع، وربَّما أمكن بهذه الأنطولوجيا حلّ الكثير مِن هذه الموارد».[3]

(32)
«دور الحقيقة» في الحياة الإنسانيّة أهمّ مِن «كشف الحقيقة»

يرى محمّد مجتهد شبستري أنَّ بيان السؤال عن الذات أو الجوهر المتعالي عن الحقيقة ـ التي تكون موجودة في الحياة الإنسانيّة على شكل أعيان ثابتة ـ قليل التأثير، ويذهب إلى الاعتقاد بأنَّ الخوض في ماهية الحقيقة النهائيّة والذاتيّة، مِن قبيل: العقل والجوهر والنفس وما إلى ذلك، يجب أنْ يخلي موقعه لصالح الخوض في مقدار تأثير هذه الحقيقة بشكل عام، والإيمان بها بشكل خاصّ، في حياة الإنسان، ويعطي مكانه إلى الخوض في الأبحاث الملحقة[1]؛ إذ إنَّ كلّ ما هنالك، هو التفسير الإنساني وفهمه لمختلف الأمور المتنوّعة. ومِن هذه الزاوية، لا توجد هناك أيّ حقيقة مسبقة، وإنَّ روايتنا وفهمنا لتجربة العيش في الحياة الإنسانيّة، هي التي تصنع حقائق العالم وتعيد التفكير فيها على الدوام. وبعبارة أخرى: إنَّ الحياة الإنسانيّة ليس لها شكل ولا معنى لها، وإنَّما تكتسب شكلها ومعناها بوساطة الروايات المتأثّرة بالعوامل والعناصر المتعدّدة في كلِّ عصر مِن العصور. إنَّ جميع الحقائق مِن صنع الظروف والخصائص الاجتماعيّة/ التاريخيّة.[2] وبشكل خاصّ يذهب محمّد مجتهد شبستري إلى الاعتقاد قائلًا:

«أوّلًا إنَّ الدين لم يأتِ مِن عالم الغيب، فليس الأمر كما لو أنَّ الله قد أنزل دينًا؛ إنَّ الدين بدوره ـ مثل الفلسفة والعلم والفن ـ أمر إنساني، وقد ظهر بواسطة الأشخاص طوال حياتهم التاريخيّة والاجتماعيّة».

(33)

إنَّه يحيل على كتابه «نقد أصول الفقه والكلام»، ويرى:

«أنَّ الله لم يُنزل دينًا، بل إنَّ الله سبحانه وتعالى قد أنزل كتابًا، وإنَّ هذا الكتاب بدوره إنَّما أنزل على النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس على أيّ شخص آخر، كما أنَّ المراد مِن ذلك الكتاب الذي أنزل على النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس كتابًا مشتملًا على حروف وألفاظ وكلمات وأصوات، إنَّما كان ذلك الكتاب هو كتاب الوجود، الذي تمّ اكتشافه مِن قبل النبيّ الأكرم، وإنَّ النبيّ قد دعا الوجود باسم الله، ونظر إلى جميع الكائنات بوصفها آيات إلهيّة، وقد كان هذا هو كتاب الوجود الذي نزل عليه. إنَّ الدين ليس له ذات، وعلينا أنْ لا نكون هنا بصدد تعريف الدين، بحيث نكون قد عرّفنا ذاته. إنَّ هذا هو آخر كلام يقوله البارزون مِن المختصّين المعاصرين في الشأن الديني، إنَّهم يقولون: حيث تُرى جميع الأمور بوصفها أمورًا تفسيريّة، فإنَّ ذات التعيين ليس مستحيلًا بالنسبة إلى الدين فحسب، بل لا يمكن تعيين الذات بشكل عام بالنسبة إلى أيّ شيء».[1]

إنَّ الدين مِن وجهة نظر مجتهد شبستري لا ذات له، وإنَّ الموجود والذي يُرى في الحياة الإنسانيّة، إنَّما هو أشكال متنوّعة مِن التديّن، حيث تظهر طيلة تاريخ حياة الأشخاص على أشكال مختلفة. إنَّ الذي ظهر، إنَّما هو أنواع التديّن، وليس الأديان.[2]

وبعد بيان هذه المدّعيات بالنسبة إلى ماهيّة الدين، يعمد إلى طرح سؤال

(34)

مفاده: «إذا كان الدين يروم إدارة العدميّة الموجودة في العالم المعاصر، وأنْ يقدّم أساسًا للحياة الإنسانيّة، فما الذي يعنيه ذلك؟»، وقد ذهب في الجواب عن هذا السؤال إلى الاعتقاد قائلًا:

«إنَّ تديّن المؤسّسين الدينيين لم يكن بمعنى تقديم المعرفة المقدّسة أبدًا، وإنَّما كان تديّنهم بمعنى الابتداء بهذه النقطة مِن الاعتراف والشهادة. إنَّ نقطة انطلاق تديّنهم تأتي مِن هنا، وبعد ذلك ليس سوى الشهادة، وهي الشهادة لدى الآخرين بحدوث مثل هذا الأمر. إنَّهم لم يتكتّموا هنا، وإنّما شاركوا الآخرين معرفتهم وأخبروهم بوقوع مثل هذه الحادثة، وقالوا لهم بأنَّ الله قد فعل معنا ذلك، وأخبروا الآخرين بهذه الواقعة. وهناك مَنْ فهم هذا الكلام الذي يقوله المؤسّس وآمن به، وهناك مَنْ لم يفهمه ولم يؤمن به».[1]

إنَّ الذي يضمن استمرار الدين هو أنطولوجيا الكلام؛ بمعنى أنَّ الكلام يتمّ تفسيره، وهذا التفسير بدوره يتعرّض لعمليّة تفسير ثانية، وإنَّ هذه التفسيرات تستمرّ، وبذلك يتراكم نهر وتيّار زاخر وعظيم مِن الكلام وتأثير الكلام على شكل تقليد موروث، ويستمرّ على طول التاريخ. وعلى هذا الأساس، فنحن لدينا أنطولوجيّة هذا الكلام، ويمكن لنا أنْ نقيم الكثير مِن الأبنية على أساس هذا الصرح الأنطولوجي وتفسيرات هذا الكلام».

(35)
وجود الله وموضوع التجربة الدينيّة

إنَّ محمّد مجتهد شبستري، وإنْ كان يؤمن بالله بوصفه أمرًا متعاليًا، وعلى هذا الأساس يرى إمكانيّة إقامة نوع مِن الارتباط معه؛ إلّا أنَّه يعتقد أنَّ حضور الله في الوجود الإنساني لا يمكن أنْ يحدث بشكل مباشر ومن دون واسطة، وإنّما سوف يتحقّق ذلك للإنسان بواسطة «تجربة مختلفة بالكامل».[1] إنَّ هذه التجربة تؤدّي ـ مِن طريق اللغة البشريّة والمؤسّسات والأنظمة البشريّة وتفسير علماء الدين ـ إلى تبلور تصوّر خاصّ عن الله في المجتمع. يرى مجتهد شبستري عدم إمكانيّة الوصول إلى الله بشكل مباشر، بل هناك على الدوام وساطة بشريّة بيننا وبين الله، وإنَّ تلك الوساطة هي اللغة والأنظمة البشريّة. وعلى هذا الأساس، فإنَّ الذي يقوم به الأشخاص في البين هو تقديم تصوّراتهم وأفهامهم بما يتناسب وعصرهم وما يتوقّف على الإمكانات المعرفيّة لعصرهم.

وقد عمد محمّد مجتهد شبستري إلى بيان رأيه حول وجود الله سبحانه وتعالى على النحو الآتي:

«إنَّ مدخلي إلى وجود الله مدخل تجريبي/ عقلي؛ بمعنى التجربة الشهوديّة العقليّة للوجود. لا يمكن العثور في هذه التجربة الشهوديّة على دليل يثبت ما الذي يجب على الله أنْ يفعله أو لا يفعله، ومِن الممكن أنْ يأتي النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أو لا يأتي. ليس هناك دليل إلزامي عقلي على وجوب أنْ يأتي النبيّ حتمًا، لكي نحدّد تكليفنا تجاه هذه المسألة. إنَّ أبحاث المتكلّمين حول النبوّة العامّة ليست مفروضة بالنسبة إلى أمثالي؛ بيد أنّي أعتقد أنَّ هذا الأمر قد

(36)

تحقّق، وأنَّ النبوّة والرسالة قد وقعت، وأنَّه قد جاء شخص وأعلن عن ارتباطه بذلك الإله الذي نعتقد به. إنَّ قصتنا نحن المسلمين وقصة دين باسم الإسلام ومسألة الوحي والنبوّة، تبدأ مِن أنّنا نواجه شخصًا يدّعي النبوّة، ويقول إنَّ هذا الكلام ليس منه، بل إنَّ هناك قوّة قاهرة قد مكّنته مِن قول هذا الكلام».[1]

نقد وتقييم

سوف نعمل فيما يلي ـ ضمن بيان عدد مِن النقاط ـ على نقد وتقييم أهمّ المباني الأنطولوجيّة لمجتهد شبستري:

خفض الأنطولوجيا إلى الإبستيمولوجيا

كما سبق أنْ أشرنا، فإنَّ أنطولوجيّة شبستري تأتي استمرارًا لإبستيمولوجيّته. وبسبب غلبة الرؤية التفهميّة على الاتجاهات التوصيفيّة/ التفسيريّة، يكون طرح الأسئلة الأنطولوجيّة منتفيًا، وتنخفض الأنطولوجيا إلى إبستيمولوجيا. مِن الضروري الإشارة إلى هذه النقطة، وهي أنَّ كلّ محاولة أنطولوجيّة تقوم على مبنى إبستيمولوجي[2]، إلّا أنَّ رفض طرق الوصول إلى الواقعيّة الذاتيّة، تهيمن على كلا عنصري الوجود والمعرفة. إنَّ اتّخاذ الزاوية الإبستيمولوجيّة في مواجهة فهم الوجود، تنشأ مِن محوريّة الوجود الإنساني.[3] وضرورة وجود فرضيّات مسبقة للفهم وتحديد أفق معرفته بإطار المحسوس،

(37)

والقابل للتجربة الحسيّة، والتاريخيّة والثقافيّة، تُعدّ مِن نتائج التفكير المعرفي في المرحلة الحديثة.[1] إنَّ العبور مِن هذه الوضعيّة الإيجابيّة، يقول بوجود منزلة لفهم الإنسان، ولكنْ ما يزال أفق هذا الفهم حبيسًا خلف قضبان التاريخ والثقافة والتجربة المحدودة لكلّ شخص عن العيش في المجتمع[2]؛ إذ أضحى تحليل محمّد مجتهد شبستري للأنطولوجيا مشمولًا لمثل هذا العبور أيضًا.[3]

نظرة أساطيريّة وملغزة إلى العالم

على الرغم مِن أنَّ مجتهد شبستري لا يطيق النظرة الحديثة الجافّة وعديمة المعنى إلى الوجود، ويبحث لذلك عن نوع مِن المعنى والمفهوم للحياة الإنسانيّة؛ إلّا أنَّه يفاقم مِن أرضيّة الهرج والمرج والفوضى في العثور على معنى الحياة؛ إذ يمتلك نظرة أساطيريّة وملغزة إلى العالم. إنَّ الحقائق المتعالية تتحوَّل في إطار هذه الرؤية إلى أمور ظاهراتيّة، ويتحوّل «المعنى» إلى أمر ذي ماهيّة تطبيقيّة واستعماليّة؛ ليكون بمقدوره أنْ يلعب دورًا بنّاءً في الحياة الإنسانيّة. يزعم مجتهد شبستري أنَّ هذا المسار إنَّما يتحقّق في منظومة نظريّة تربط بداية المعرفة بوجود الإنسان، ولا يفترض وجود معرفة في المرحلة السابقة على بداية قيام الإنسان بعمليّة المعرفة. وهو الاتجاه الذي ينظر إلى المعرفة بوصفها معرفة للظواهر والتجليّات، وليس معرفة الذوات، ويفسّر الحقيقة بشكل

(38)

يتناسب مع مبناه. وفي حقل الدين يستند إلى التجربة البشريّة، لا إلى البراهين التوحيديّة، ويعتبر لغة الدين مسألة رمزيّة.[1]

مسألة الإحالة ونفي المصداق الخارجي للقضايا الأنطولوجيّة في القرآن

يذهب محمّد مجتهد شبستري إلى الادّعاء بأنَّ القرآن الكريم لا يشتمل على أيّ آية تتحدّث عن وجود الله، ويقول في ذلك:

«لا يمكنكم العثور في القرآن على قضيّة وجود الله، وإنَّما كلّ ما هنالك هو الإحالة والإرجاع فقط. لا يوجد هناك سوى الإشارة إلى شخص. كما لو كان هناك شخص يجلس، وحيث يتمّ الكلام حول أيّ شيء، تقولون إنَّ هذا الكلام يتعلّق بهذا الشخص، لا أنَّه لا يمكن العثور في القرآن على أيّ آية أنطولوجيّة ... ولذلك فإنَّ القرآن إنَّما هو حكاية عن أفعال الله».[2]

هذا في حين يشتمل القرآن الكريم على مئات الآيات حول وجود الله سبحانه وتعالى وعالم الوجود والكائنات. وفي الإجابة عن مجتهد شبستري يجب القول: ألا يرتبط البحث عن أصل وجود الله، والكون، والإنسان، والموجودات في عالم الطبيعة وما وراء الطبيعة، بالوجود والأنطولوجيا؟ وكذلك ألا يكون الإيمان بأفعال الله متفرّعًا عن وجود الله؟ وعندما تدّعي وتقول: هناك إحالة وإرجاع في القرآن، يأتي هذا السؤال ويقول: هل الإحالة أمر وهمي، وليس له مصداق خارجي؟ ما الذي تعنيه الإحالة على شخص؟

(39)

هل هذا الشخص المحال عليه حقيقي أم خيالي؟[1] إنَّ تصوّر وجود وصفات أو أفعال الله سبحانه وتعالى، ليس تصورًا لموجود حيادي في حياة البشر؛ بحيث لا يختلف الاعتقاد أو عدم الاعتقاد به بالنسبة إلى البشر؛ بل إنَّ ارتباط الذات والصفات الإلهيّة، يختلف عن الارتباط بين الصفة والموصوف في جميع الكائنات في عالم الوجود، وإنَّ الصفات الإلهيّة هي ذاته عينها؛ بمعنى أنَّه لا وجود لصفة زائدة على ذاته، بحيث يلزم مِن ذلك القول بالثنويّة.[2]

المباني الإبستيمولوجيّة

إنَّ المراد مِن المباني هنا، هي تلك الطائفة مِن المباني التي تبحث في كيفيّة ارتباط الإنسان مع العالم واكتساب المعرفة. إنَّ إمكان المعرفة أو عدم إمكانها، وطريقة معرفة الوجود، ومصادر المعرفة، وأبحاث مِن هذا القبيل، تشكّل المباني المعرفيّة والإبستيمولوجيّة لكلِّ مفكِّر. إنَّ إقامة مجتهد شبستري في أوروبا واحتكاكه بالأبحاث المعرفيّة والإبستيمولوجيّة الحديثة بشكل عام، والعلوم الهرمنيوطيقيّة والظاهراتيّة الجديدة مِن جهة، وتأثّره باللاهوت المسيحي لهذه العلوم؛ قد شكّلت أرضيّة لحدوث تحوّل جذري في المسار الفكري عنده. وبالنظر إلى اهتمام محمّد مجتهد شبستري بالنصوص الدينيّة، مِن قبيل: القرآن الكريم، وبعض الروايات في العالم الإسلامي، وضرورة الخوض في المسائل المعرفيّة والنظريّة؛ فإنَّ الصراحة في بيان المباني المعرفيّة ملحوظة في آرائه.

(40)
الاتجاه الهرمنيوطيقي لمجتهد شبستري في التعاطي مع النصوص الدينيّة

إنَّ اهتمام محمّد مجتهد شبستري بالمساحتين: الفلسفيّة والمنهجيّة في الاتّجاه الهرمنيوطيقي، قد أدّى به إلى التركيز المعرفي على «فهم» الواقعيّة بدلًا مِن «اكتشاف» الحقيقة[1]، وأنْ يقع الفهم ـ بوصفه متعلّقًا للتعريف ـ موضوعًا للمعرفة.[2] إنَّه يرى، أنَّ فهم النصّ ليس مسألة بدهيّة، ويمكن أنْ تكون هناك لكّل نصّ تفسيرات متعدّدة.[3] وفي هذا السياق، فإنَّ استحالة الوصول إلى الحقيقة ومراد مؤلّف النصّ، وكذلك انحشار المفسِّر ضمن نطاق معلوماته السابقة؛ تؤدّي إلى النسبيّة في الفهم، كما أنَّه يرى امتناع الوصول إلى فهم متطابق مع الواقع؛ وذلك لأنَّه يدّعي قائلًا:

«ليس هناك في عالم الإنسان واقعيّة باسم القراءة القطعيّة في تطابقها مع الواقع، وإنَّ جميع القراءات ظنيّة واجتهاديّة».[4]

هذا في حين أنَّه يطرح أسئلة مبنائيّة حول ما إذا كانت لدينا أفهام وفرضيّات ثابتة أم لا؟ وما إذا كان النصّ يجيب عن جميع توقّعات وتطلّعات القارئ والمفسّر بالإيجاب؟ وهل يوجد هناك ملاك ومعيار للحكم والبحث بين الأفهام المختلفة أم لا؟ وهل نظريّة قابليّة القراءة في حدّ ذاتها قابلة للقراءة أم لا؟

(41)
المعلومات السابقة وتعلّقات المفسّر

إنَّ محمّد مجتهد شبستري يربط فهم النصوص «مئة بالمئة بصوابيّة المعلومات السابق وتعلّقات وتوقّعات المفسِّر»[1]، ويرى أنَّ:

«الحكم بين التفاسير المختلفة لنصّ واحد بدورها، مِن دون الحكم بشأن مقدّمات ومقوّمات تلك التفاسير، أمر عقيم ولا يؤدّي إلى ثمرة أو نتيجة».[2]

إنَّ مجتهد شبستري، على الرغم مِن قبوله بنظريّة القراءات المتعدّدة للنصوص، لكنَّه في الوقت نفسه لا يرى صحّة جميع أنواع القراءات؛ وإنَّما ينصح ـ من أجل إحراز صحّة التفاسير ـ بالتدقيق في المباني والفرضيّات السابقة للقارئ، والاهتمام مِن جهة أخرى بالهواجس التي تعمل على إيجاد النصّ أيضًا.[3]

توقّعات المفسِّر مِن النص

يرى مجتهد شبستري أنَّ المفسِّر إنَّما يتمكّن مِن الحصول على الإجابات التي يتوقّع الحصول عليها مِن النصّ. إنَّ هذه التوقعات مِن قبل المفسِّر، هي التي تعمل على رسم مسار السؤال، ويؤدّي به إلى عدم المطالبة بجواب تاريخي مِن النصّ الفلسفي، أو جواب فلسفي مِن النصّ التاريخي.[4] إنَّه في مرحلة مِن آرائه، حيث كان يقول بأصالة النصّ الديني مِن ناحية المبدع؛ كان يعتقد بضرورة أنْ يكون هناك تطابق بين تعلّق وتوقّع المفسِّر مع التعلّق والتوقّع

(42)

الذي كان لدى مُبدع النصّ عند إبداعه.[1] وأمّا في المرحلة الأخيرة، فإنَّه قد تخلّى عن هذه الرؤية، وذهب إلى الادّعاء قائلًا:

«نحن في المواجهة التجريبيّة مع نصّ القرآن، إنّما نواجه ذهن ولغة وتجارب الإنسان وبيئته التي عاش فيها، ولا نواجه واقعيّة سابقة على ذلك؛ ... وعلى هذا الأساس، فإنّنا نعتبر الكلام المستفاد مِن القرآن كلام النبيّ، وليس كلام شخص آخر».[2]

ولذلك، فإنه يدّعي بأنَّ:

«ذات ظهور النبيّ محمّد في التاريخ؛ حيث لم يترك لنا القرآن فقط، وإنَّما قام كذلك بإبداع طريقة توحيديّة عالميّة تحتوي على مفاهيم متجدّدة بعيدة المدى، هو بدوره ذات كلام الله في عالم الإنسان، وإنَّ هذا الكلام هو كلام لجميع الناس».[3]

وينصح لفهم النصّ، قائلًا:

«إنَّ على أولئك الذين يسعون اليوم في العالم الإسلامي ـ (ولا سيّما في إيران) ـ إلى تقديم تفسير جديد للكتاب والسنّة؛ أنْ يبحثوا في قراءة جديدة، إلى أيّ حدّ أمكن لتفسيراتهم أنْ تقرّب مخاطبيهم مِن الله سبحانه وتعالى. كما يتعيّن عليهم أنْ يشيروا إلى كيفيّة أداء التفاسير الرسميّة والحكوميّة إلى إبعاد المسلمين عن الله سبحانه وتعالى».[4]

(43)

ويذهب إلى الاعتقاد قائلًا أيضًا:

«لست أشكُّ في أنَّ هذا المشروع يمكنه أنْ يفتح أفقًا جديدًا في الفضاء القاتم والمظلم الذي يحيط بالفكر الديني، ولربَّما أدّى ذلك بدوره ليكون منشأ في ظهور تيّار جديد مِن الفكر الديني في مجتمعنا».[1]

شخصنة معيار صدق وكذب القضايا الإبستيمولوجيّة

يذهب محمّد مجتهد شبستري ـ في العثور على معيار لفهم الحقيقة، كما حصل عليها ـ إلى الاعتقاد قائلًا:

«إنَّ الذي يُسمّى في الخارج ـ بواسطة الموازين العقليّة ـ صدقًا وحقيقة، يجب أنْ يكون صدقه وحقيقته بالنسبة لي متطابقًا مع الخصائص التي أمتلكها، بحيث تقنعني وتزيد مِن تأجيج الضوء في داخلي، وهذا كلّه يعني الفهم، وليس معرفة كيفيّة العالم، وما هي القضايا المتطابقة مع الواقع».[2]

وعلى أساس القول بـ (صنع الحقيقة)، يذهب إلى القول:

«إن هذه اللغات الإنسانيّة هي التي تأتي المعاني والمفاهيم في إطارها».[3]

وعلى هذه الشاكلة، فإنَّ خلق المفهوم والمعنى يعتبر أمرًا شخصيًّا ونفسيًّا وثمرة لرؤية الفرد بشكل كامل، وإنَّ مواجهة الأفراد مع مختلف الأشياء والموضوعات، يخلق معاني متنوّعة.

(44)

وفي مقام الجمع والاستنتاج، يمكن القول بأنَّ الاعتقاد بعدم إمكان الوصول إلى الحقيقة كما هي، وسيادة الرؤية الصانعة للأشياء والموضوعات، والبحث عن معنى الحياة مِن طريق الاستعارة، والنظر إلى الأمور مِن الزاوية اللاحقة، ووضع الحدود العملانيّة بين الحسّ والعقل والإلهام، وعدم الشأنيّة المعرفيّة للقضايا الدينيّة، وكذلك عدم قابليّة اتّصاف متعلّق هذه القضايا بالصدق والكذب؛ يمكن أنْ تعتبر بوصفها مِن المباني المعرفيّة والإبستيمولوجيّة لمجتهد شبستري، حيث ألقت جميعها بظلالها على نظريّاته.

نقد وتقييم

فيما يلي سوف نعمل ـ ضمن بيان عدد مِن النقاط ـ على نقد أهمّ المباني الإبستيمولوجيّة والمعرفيّة لمجتهد شبستري:

الترديد والتشكيك في العلاقات بين المعرفة والحقيقة

إنَّ مجتهد شبستري ـ بالإضافة إلى تشكيكه في قدرة الإنسان على الوصول إلى الحقيقة الغائيّة واكتشافها، بل وإنكاره لهذه القدرة[1] ـ يذهب إلى التشكيك أيضًا في القدرة الاستيعابيّة لدى الناس في الاتّفاق حول مجموعة معرفيّة عقلانيّة، ومشتركة بين الأذهان. ومِن خلال إنكار إظهار الواقع مِن قبل المعرفة البشريّة، والتمسّك بتجريبيّة المعاني[2]، والإفراط في إنكار الأمر نفسه للحقيقة والواقعيّة، وتجاهل الظرفيّات المعرفيّة للإنسان، تبعًا للتشكيك في

(45)

مسألة إمكان معرفة الواقع؛ يظهر تحدّي «النسبيّة» في المعرفة البشريّة بشكل عام، والنسبيّة في المعرفة الدينيّة. وكذلك، فإنَّ مجتهد شبستري، على الرغم مِن تأكيده على المباني الإبستيمولوجيّة ـ بدلًا مِن المبانى الأنطولوجيّة ـ لم يحقِّق نجاحًا في تبويب المعرفة والمسار والآليّة المحدّدة والمعيّنة لتكوين المعرفة وفهم الوجود وتعيّن مفهوميّة الحياة. وإنَّ المخاطب بآثاره لا يشاهد مجموعة العوامل والعناصر الدخيلة في المعرفة وطريقة وحدود تأثيرها، إلى الحدّ الذي يمكن الادّعاء معه بأنَّ مجتهد شبستري لا يمتلك مبنى معرفيًا وإبستيمولوجيًّا منقّحًا ومنسجمًا. إنَّ القبول بالتعدّدية في الفهم، وجعل المعنى للحياة الإنسانيّة؛ يؤدّي إلى التكثّر غير المتعيّن وغير الملائم واللامتناهي للسنن والتجارب الدينيّة، وسوف نشهد نوعًا مِن الأزمة المتمثّلة بـ «تحدّي المبنى» في حقل المعرفة؛ وذلك لأنَّ المعنى الحقيقي ـ في نصّ مثل القرآن الكريم ـ أمر ثابت وغير قابل للتغير، ولا دور لذهنيّة المفسِّر فيه. إنَّ النصوص الدينيّة في ـ ضوء هذا الفهم ـ تشتمل على خطابات إلهيّة إلى الناس. وإنَّ غاية المفسِّر لهذه النصوص، هي إدراك وفهم المراد الحقيقي للشارع.[1] وإنَّ الوصول إلى هذه الغاية، إنَّما يتحقّق مِن طريق سلوك الأسلوب والمنهج المتعارف للفهم، والذي هو عبارة عن: الظهور اللفظي للنصّ مِن أجل الوصول إلى المعنى؛ وذلك لأنَّ مؤلّف النصّ قد بيّن مراده بواسطة الألفاظ. إنَّ دلالة الألفاظ على المعاني تابعة للوضع اللغويّ، والأصول والقواعد العُرفيّة والعقلائيّة للتحاور، وتتمّ مراعاتها في كلّ لغة مِن قبل المؤلِّف والمخاطب. وإنَّ تجاوز

(46)

هذه الضوابط العقلائيّة في التفهيم والتفاهم ـ والتي يمكن التعرّف عليها وتدوينها ـ تعرّض عمليّة فهم النصّ إلى الخلل.[1] وبطبيعة الحال، فإنَّ مسار فهم غير النصوص، والتي تسمّى بـ «الظواهر»، على الرغم مِن أنَّ المفسّر لا يصل فيها إلى هذا اليقين (القطع)، بحيث يقطع بأنَّ المعنى الذي أدركه هو المعنى النهائي للنصّ؛ إلّا أنَّ هذا لا يعني زوال اعتبار التفسير، وعدم وجود معيار لتقييم التفسير المعتبر وتمييزه مِن التفسير غير المعتبر. وفي مقولة تفسير النصّ ـ ولا سيّما تفسير النصوص الدينيّة ـ يسعى المفسِّر إلى الحصول على فهم «معتبر» وتفسير مشتمل على الحجيّة، ويكون قابلًا للاستناد والاهتمام؛ إذ يكون منضبطًا، وناتجًا مِن خلال الحفاظ على الأصول العقلائيّة الحاكمة على التحاور والتفاهم. وعليه، فإنَّ التفسير المعتبر هو التفسير الذي يتمّ تصحيحه على أساس العُرف السائد بين العلماء.[2]

الإبهام في ماهيّة وحدود الفرضيّات السابقة المؤثّرة في تحقّق المعرفة

مِن غير الواضح عند محمّد مجتهد شبستري ما هو سنخ الفرضيّات السابقة والسنن التي يواجهها المفسِّر أو الفاعل المعرفي مع متعلَّق المعرفة، وما هو حجم تأثيرها.[3] هل هذه الفرضيّات السابقة والتقاليد تمتدّ بجذورها في الثقافة وأشكال الحياة والنماذج الحضاريّة، والأقاليم الاجتماعيّة والبيئات المحليّة

(47)

فقط؟ أم هي تجلّ وظهور للحقيقة الغائيّة، ولكنّها مجهولة وغير معروفة؟ أم هي خليط مِن جميع ذلك؟. وعلى كلِّ حال، فإنَّ الجواب عن هذا السؤال، يُعرّض مجتهد شبستري إلى نوع مِن الإبهام والغموض المنهجي في المواجهة مع الظرفيّات المعرفيّة للبشر. وبما أنَّ فهم الحقيقة ـ بالنسبة إلى مجتهد شبستري ـ والتحقّق المعرفي للحقيقة، محكوم بالأحكام والقواعد اللغويّة، والفرضيّات الثقافيّة السابقة، والسنن المتداولة في المجتمع الإنساني؛ وعليه فإنَّه على الرغم مِن أنَّ جوهر التجربة الدينيّة عبارة عن المواجهة مع الأمر المطلق[1]؛ بيد أنّنا لا نواجه حقيقة «واحدة»، بل يمكن أنْ تكون هناك حقائق متكثّرة ومصاديق متعدّدة، لا سيّما عندما تتدخّل الفرضيّات السابقة وتعلّقات وتوقّعات المفسِّر في مسار الفهم. وعندما يكون كلّ فهم نسبيًّا، فإنَّ الأصول والمفاهيم الهرمنيوطيقيّة بدورها، لا يمكن أنْ يتمّ اعتبارها بوصفها قضايا مطلقة وغير نسبيّة. وفي الحقيقة، فإنَّه مِن شمول الفرضيّات السابقة بالنسبة إلى ذاتها نصل إلى عدم شموليّتها، ومِن التصديق بها يلزم صدق نقيضها.[2] هذا في حين أنَّ الفرضيّات السابقة وتعلّقات وتوقّعات المفسِّر، ليست على وتيرة واحدة في تدخّلها، بل إنَّ حجم حضور وتدخّل الفرضيّات السابقة للمفسِّر تختلف بما يتناسب مع الأهداف والغايات التفسيريّة، والنشاط الذي يقصده المفسّر ويعتزم القيام به.[3]

(48)
تداعيات عدم التمييز بين مقام «الوجود» و«ما يبدو»

إنَّ التحليل الإبستيمولوجي لمجتهد شبستري لآيات القرآن، وإصراره على أنَّ القرآن الكريم لم يكن بصدد بيان ما هو موجود في العالم وما هو غير موجود؛ وإنَّما سعى في حقل الثقافة الجاهليّة للعصر النبويّ إلى إحالة كلّ ما يتصوّرونه موجودًا إلى الله، والتعبير عنه بوصفه آيات وتجليّات له[1]؛ سوف تترتّب عليه تداعيات وتبعات معرفيّة وإبستمولوجيّة مهمّة. هناك، في قابليّة القضايا المعرفيّة على الاتّصاف بالصدق والكذب، بون شاسع واختلاف واضح بين «الوجود»[2] وبين «ما يبدو»[3].[4] إنَّ الذي يضع على عينيه نظّارات ذات عدسات خضراء، سوف يرى كلّ شيء باللون الأخضر، وبذلك يمكنه القول ـ مِن الناحية المنطقيّة ـ إنَّ الأشياء «تبدو» بالنسبة لي خضراء اللون؛ ولكنَّه لا يستطيع أنْ يخبر حول خضرة جميع الأشياء والأمور إخبارًا واقعيًّا، ويدّعي إبداء قضايا معرفيّة قابلة للاتّصاف بالصدق والكذب، ويعلم أنَّ كلّ شيء أخضر. إنَّ الاستفادة مِن هذه العدسات، لا يحدث إيمانًا واعتقادًا بخضرة جميع الأشياء والأمور، لا بالنسبة إلى صاحب العدسات ولا إلى الذين يخاطبهم.[5]

إنَّ هذا النوع مِن الرؤية إلى الآيات القرآنيّة والرسالة النبويّة، لا ينتج إيمانًا ولا يؤدّي إلى معتقد. فإذا كان تجلّي ورؤية جميع الأمور والتفسير التوحيدي

(49)

للوجود والإنسان وأحداث الأمم السالفة والنظر إليها بوصفها آية؛ إذا كان ناجمًا مِن رؤية لا تقبل الاتّصاف بالصدق، ولا تُعدّ كشفًا عن الحقائق والوقائع، ففي مثل هذه الحالة لن يكون للتجارب النبويّة للأنبياء بشكل عام والنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في مجال الدعوة إلى التوحيد، والسعي إلى تحصيل الإيمان بالله مِن قبل الناس ـ تفسير منطقي معقول. ولذلك، يمكن القول: إنَّ سلوك الاتّجاه المعنوي نحو فهم الحقيقة، ربَّما يكون ناشئًا مِن الجذور الإسلاميّة لمجتهد شبستري؛ إذ حال ذلك دون سلوكه نحو اتّجاه علماني إلى الوجود بالكامل، ولا ينكر المساحة القدسيّة للعالم بشكل تامّ. إنَّه يؤمن بشكل ما بوجود مساحة قدسيّة في العالم، ومِن هنا فإنَّه يبحث مِن أجل العثور على نوع مِن التجربة المعنويّة في الحياة الإنسانيّة. ولكنْ، لا بدّ مِن الالتفات إلى أنَّه لا يطيق المرجعيّة المطلقة والمُلزمة لله في الدائرة الأنطولوجيّة مِن الحياة الإنسانيّة في إطار القضايا المعرفيّة والإبستيمولوجيّة، وقد شبّه مسألة الإثبات والتطابق مع الواقع بالمرحلة القديمة للإنسان.[1] يذهب مجتهد شبستري إلى الادّعاء بأنَّ مِن مهام علم الكلام في العصر الجديد، هو أنْ «يتمّ اليوم السؤال ـ في الدرجة الأولى ـ عن دور الدين، وليس عن تطابق أو عدم تطابق القضايا الدينيّة مع الواقع، وكأنَّ الجواب عن هذا السؤال الثاني قد خرج مِن يد البشر».[2]

اللاهوت السلبي، الحقيقة الغائيّة والغموض المطلق؛ رؤية لإلغاء الشريعة الإسلاميّة

لقد ذهب محمّد مجتهد شبستري ـ في ضوء سنخ مِن اللاهوت السلبي ـ إلى

(50)

جعل الحقيقة الغائيّة مشتملة على نوع مِن الغموض والإلغاز والأسطورة. وبحسب القاعدة، فإنَّ الحصول على إطار لأخذ منظومة تدبيريّة للحياة الإنسانيّة القائمة على القضايا الدينيّة، غير ممكن. وإنَّ مواصلة البحث عن ذلك غير مطلوب، ويجب على علماء الدين أنْ لا يقوموا بمثل هذه الجهود. وقد أدرك مجتهد شبستري بوضوح، أنَّ علماء الدين بل ـ وكلّ مسلم ـ ما لم يرجعوا إلى الكتب المقدّسة ـ على أساس هذه المبادئ والمباني ـ لا يمكنهم القبول بالكثير مِن القيَم الغربيّة. وهناك تعارض ونزاع دائم بين القيَم الإسلاميّة والغربيّة، ولا سيّما في حقل المعاملات والسياسات. ولهذا السبب، فإنَّه لا يرى الاجتهاد في الفروع الدينيّة كافيًا مِن أجل تطبيق الإسلام وجعله متماهيًا مع العلوم الجديدة، ويرى وجوب الاجتهاد في أصول الدين. ولهذه الغاية، عمل على الاستناد إلى الوحي ـ أكثر مِن أيّ شيء آخر ـ وسعى مِن خلال إبداء بيان جديد لماهية الوحي إلى تعبيد الطريق لإثبات مقاصده وغاياته. في حين أنَّ هذا الاتّجاه في الإلهيّات، يتعارض مع جامعيّة وخاتميّة الدين الإسلامي، ويجعل الإلزام بامتثال الأوامر الإلهيّة وترك النواهي الإلهيّة، مِن دون تأثير. يضاف إلى ذلك، أنَّه لا يمكن لهذا الأمر أنْ يجري في جميع الأفهام الدينيّة على نسق واحد؛ وذلك لأنَّ النصوص الدينيّة ليست بأجمعها مِن سياق واحد، فلا يمكن للمحكم والمتشابه، والباطن والظاهر ونظائر ذلك، أنْ يحظى بنمط واحد مِن التحوّل في الاتجاه التفهيمي والاجتهادي.[1] والشاهد على ذلك، هو الحديث المأثور عن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله، والذي جاء في مضمونه: «حلال وحرام

(51)

الشريعة، حلال وحرام إلى يوم القيامة».[1] والإشكال الآخر الذي ينشأ مِن هذا الاتجاه، هو لغويّة إرسال الرسل، وإنزال الكتب، والهداية الإلهيّة؛ وذلك لأنَّه يعمل على نفي الضروريّات الدينيّة، ويشكّك في المعتقدات والأحكام الضروريّة للدين.[2]

المباني الأنثروبولوجيّة

إنَّ محمّد مجتهد شبستري يتبنّى ـ مِن خلال اتّخاذه للاتجاه الأنثروبولوجي ـ رؤية تسيء الظنّ بذات الإنسان.[3] وتتّضح هذه الحقيقة للعيان في مواجهته التفسيريّة بالنسبة إلى الآيات المرتبطة بالخلق في القرآن الكريم.[4] مِن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنَّ مجتهد شبستري، مِن خلال تمسّكه بالآية الثلاثين مِن سورة البقرة، يدّعي أنَّ الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة للإنسان تقوم على الشرّ.[5] إنَّ الدور المفهومي الأهمّ للحياة بالنسبة إلى الإنسان ـ مِن وجهة نظر مجتهد شبستري ـ هو الاقتدار مِن أجل مواصلة حياته، ويجب على هذه المفهوميّة أنْ تتمكّن مِن المحافظة عليه مِن السقوط والانزلاق في هوّة «العدميّة الأخلاقيّة».[6]

(52)

يرى محمّد مجتهد شبستري أنَّ الإنسان هو نتاج التاريخ وثمر المجتمع وحبيس خلف قضبان التاريخ والمجتمع.[1] وأنَّ الأنثروبولوجيّة المنشودة ـ مِن وجهة نظره ـ تتمحور حول الإنسان الذي يكون مِن جهة عبارة عن ذات فاقدة للذنب ومجرّدة مِن النزعة الإيمانيّة؛ فهو بمنزلة اللوحة البيضاء التي يكتب لها التعيّن في ظلّ المجتمع وتحت الظروف الاجتماعيّة والثقافيّة؛ ومِن ناحية أخرى هناك الحريّة الفكريّة والإرادة الناظرة إلى الاختيار الموجّه لدفّة هذا التعيّن.[2] وعلى هذا الأساس، يمكن اعتبار محوريّة الإنسان، وحريّة الإنسان، وارتباط الإنسان بالتاريخ والمجتمع، بوصفها مِن أهمّ المباني الأنثروبولوجيّة لمجتهد شبستري:

التفرّد والتشخّص ومركزيّة الإنسان

إنَّ هذا الأصل يعتبر محور الأنثروبولوجيا، وإنَّ مجتهد شبستري لا يؤمن به فحسب، بل ويجعل منه مبنى لجميع العناصر، ويعيد في إطار هذه الرؤية قراءة الحقوق الحيويّة للإنسان، الأعمّ مِن الأمور الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة.

إنَّ الخطابات الدينيّة تنظر إلى الإنسان نظرة عموديّة، وتعمل على تعريفه في سياق الارتباط بالله سبحانه وتعالى. في حين يذهب مجتهد شبستري، لا إلى القول:

«في العصر الراهن أصبح الاهتمام بكون كلّ إنسان شخصًا، قد فتح بابًا جديدًا في الأنثروبولوجيا الفلسفيّة واللاهوت المسيحي».[3] 

(53)

فحسب، بل ويقول أيضًا:

«إنَّ كون الإنسان شخصًا، بغضّ النظر عن دينه ومذهبه، هو مِن وجهة نظر الإلهيّات الإسلاميّة، أكثر مفهوميّة مِن اللاهوت المسيحي».[1] 

في النموذج الأوّل، يظهر الإنسان على شكل مخلوق تتمّ هدايته مِن الخارج، وتتمثّل هويّته في إطاعة أوامر ونواهي خالقه. وأمّا في النموذج الثاني، فيكون الإنسان قد بلغ مرحلة استقلاله الذاتي، ويأخذ القرارات بشأن أعماله بنفسه.[2]

حريّة الإنسان

إنَّ روح الإنسان تميل ـ مِن وجهة نظر مجتهد شبستري ـ نحو الحريّة، وإنَّ الإنسان قد وُلد حرًّا، ولا ينبغي للأشخاص أنْ يفرضوا إرادتهم على الآخرين.[3] إنَّ هذه الحريّة تشمل الحريّة في طريقة السلوك، والحريّة الفكريّة، وكذلك الحريّة في تقرير المصير، ونوع الحكم أيضًا. وقد ذهب ـ مِن خلال إجراء مقارنة بين الاختيار الإنساني والاختيار الإلهي ـ إلى الادّعاء بأنَّ اختيار الله بمعنى «أنَّ الله لا يخضع تحت تأثير قاهر خارجي».[4] ولذلك، فإنَّه يأخذ مثل هذا المسار بالنسبة إلى الإنسان أيضًا، ويطلق على ذلك عنوان «تحقّق الاختيار». يجب العمل أوّلًا على تحديد «أيّ أنا؟»؛ فإنَّ لكلِّ أنا باطنًا، ويصدر

(54)

عنه صوت. إنَّ المشكلة تكمن في اختيار الإنسان لأيّ «أنا» مِن الأنوات. ربَّما أمكن للمتألّه والمتكلّم أنْ يقول: إنَّ مِن بين الأنوات المتنوّعة التي يمكن لي أنْ أتصوّرها لنفسي، أستطيع أنْ أختار الأنا الإلهيّة. ولكنْ ليس هناك إلزام وبيان عقلاني ـ حتّى بمعناه البرهاني ـ يمكنه أنْ يوجب على الآخرين أنْ ينتخبوا هذه الأنا الإلهيّة أيضًا. إنَّ تحقيق هذه «الأنا الإلهيّة»، هي أمر إنَّما يمكن رسم شعاع لها، وقد أسّست لمساحة روحيّة وعملت على توسيعها.[1]

إنَّ الحريّة بمعناها الجديد المتمثّل بالاقتدار والتخلّي عن المرجعيّة الخارجيّة، تعني ـ بالنسبة إلى مجتهد شبستري ـ وضع القوانين مِن أجل ممارسة الحياة. كما عمد إلى تبويب وتصوير مفهوم الديانة على النحو الآتي:

«إنَّ الإنسان بعد التأمّل العقلاني الحرّ، أو في ضوء مجرّد الإيمان بالغيب، والإجابة عن خطاب الله للعالم والإنسان، يذهب إلى القول بمبدأ عالم ومقتدر ورحيم، ويعتمد عليه بالمطلق، مؤمّلًا أنَّ ذلك المبدأ لن يتخلّى عن الإنسان ولن يتركه وشأنه في وحدته وفنائه (الألم والموت). وكذلك أنْ يؤمن ـ برغبته واختياره ـ بالأصول والقيَم التي قام الأنبياء بعرضها وتقديمها باسم الله على طول التاريخ، ويجعل منها معيارًا لطريقته ومنهجه في الحياة».[2]

الإنسان، اللغة والله

إنَّ مِن بين المباني الأساسيّة لدى مجتهد شبستري في التعامل مع تفسير الماهيّة

(55)

والظرفيّات الوجوديّة للإنسان، والتي تتجلّى في فهم النصوص الدينيّة؛ البحث في مسألة اللغة. فهو يرى:

«أنَّ الله والإنسان ليس لديهما لغة لفظيّة ذهنيّة مشتركة، لكي يتمكّن الله مِن مخاطبة الناس بتلك اللغة على نحو ذهنيّ ولفظيّ».[1]

وفي الحقيقة، فإنَّ مجتهد شبستري قد قبل بأنَّ الإنسان كائن ذو بعدين، ولكنَّه يراهما في بعدين منفصلين؛ بمعنى أنَّه لم يعمل على مجرّد ربط كيفيّة تدبير الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة بدائرة وحقل ارتباط المعاملات الإنسانيّة؛ وعلّق السعادة المعنويّة والتدبير المفهومي لحياة الإنسان الفرديّة بالتعامل مع الله، حيث تكون هناك مساحة الدين والإلهيّات فحسب، بل وحتّى الظرفيّات الوجوديّة للإنسان ـ مِن قبيل: اللغة، ويتمّ خلق شرخ بين الإنسان وبين الله سبحانه وتعالى على مدار هذه الثنائيّة.

في حين أنَّ إيجاد التمايز بين هاتين المساحتين مِن الحياة الإنسانيّة مشكل؛ وذلك لأنَّ الدنيا وجميع الأعمال الدنيويّة، تؤثّر في حصول الإنسان على الكمال. ومِن هنا، فإنَّ هاتين المساحتين في رؤية الدين إلى الحياة الإنسانيّة، صارتا مشمولتين للأحكام الدينيّة أيضًا. وفهم هذه المسألة، وهي كيف يمكن للإنسان ـ القادر على تطبيق الدين والبُعد المعنوي المتناسب معه في الحياة الفرديّة ـ أنْ لا يستطيع إخفاء هواجسه الدينيّة في الحياة الجماعيّة، ولا يمكنه إدخال جزئيّات تلك المعتقدات ومفهوميّة الحياة في الحياة الجماعيّة.

(56)

«إنَّ علاقة الأشخاص بالله، ترتبط بسعادتهم المعنويّة وآخرتهم، وتعمل على تشخيص إمكانات تكاملهم وتعاليهم على المستوى الروحي».[1]

إنَّه يذكر هذه العلاقة تحت عنوان «الارتباط العمودي أو العمقي»، ويسمّي النظام الحاكم على هذه العلاقة بـ «النظام الإيماني/ العرفاني»؛ إذ يتمّ بيان أحكامها في البُعد الداخلي مِن كلّ فرد، والهدف مِن ذلك هو تعريف الإنسان بأعمق حاجاته الوجوديّة. إنَّ هذه العلاقة ترتبط بحقل الديانة، وإنَّ الهدف مِن بعث الأنبياء هو تنظيم هذه العلاقة. إلّا أنَّ هذا السنخ مِن الارتباط عند مجتهد شبستري، تكتنفه هالة مِن الغموض والأسرار. وفي المقابل، فإنَّ علاقة الأشخاص فيما بينهم ترتبط بحياتهم السلميّة في هذه الدنيا. وقد عبّر عنها مجتهد شبستري تحت عنوان «الارتباط الأفقي».[2] وهذا النوع مِن الارتباط ـ خلافًا لسنخ الارتباط السابق ـ يقوم على رؤية عرفيّة وعقلائيّة تنفي جميع أنواع الأسرار والألغاز في حقل السياسة والمجتمع، ولا تقبل بأيّ مصلحة خفيّة في الحياة السياسيّة / الاجتماعيّة.

نقد وتقييم

نشير في هذا الفصل إلى بعض الانتقادات الواردة على المباني الأنثروبولوجيّة لمحمّد مجتهد شبستري.

التناقض في تعريف المفهوم والموقع الوجودي للإنسان

يبدو أنَّ هناك تناقضًا في أسلوب تعاطي مجتهد شبستري في تعريف الإنسان؛

(57)

تحقيقها بأيّ شكل كان. ولذلك، فإنَّ تحقّق وتلبية الحاجات الماديّة والمعنويّة للإنسان، إنَّما يحدث بشكل متزامن وبالاقتران مع بعضهما. بيد أنَّ محمّد مجتهد شبستري، وإنْ كان معتقدًا بكلا البُعدين ـ الدنيوي والأخروي ـ للإنسان؛ إلّا أنَّه يرى أنَّ الطريق إلى إمكان التمسّك بالتعاليم الدينيّة ـ مِن قبيل: القرآن الكريم والسنّة المطهّرة ـ التي يمكن لها أنْ تضع حلولًا زمانيّة ومكانيّة في غير عصر النزول، وكذلك «كشف» معنى الحياة الإنسانيّة؛ طريق مغلق. وبدلًا مِن «كشف» هذا المعنى مِن الحياة، يذهب إلى الاعتقاد ببنائها وإيجادها بما يتناسب مع التحوّلات المعرفيّة لكلِّ عصر مِن العصور.

قياس الاختيار الإنساني على الاختيار الإلهي قياس مع الفارق

لقد قام محمّد مجتهد شبستري بقياس مع الفارق بين الاختيار الإنساني والاختيار الإلهي؛ ذلك أنَّ الاختيار الإلهي في ذات واجب الوجود يكون على نحو الضرورة، ولا يحصل عليه مِن الخارج، بل إنَّ وجود الضرورة في ذاته، وهو وجوده عينه. وأمّا في الذات الإنسانيّة التي هي إمكان محض، فالاختيار لا يكون على نحو الضرورة، وإذا كانت هناك مِن ضرورة، فقد أعطيت له مِن الخارج. وللخروج مِن هذا المأزق، يذهب مجتهد شبستري إلى الادّعاء بوجوب التخلّي عن مفهوم «الوجوب» في العبادات، وأنْ نستعمل بدلًا منه مفهوم التوصية؛ وذلك لأنَّ الأوامر والنواهي القرآنيّة والإسلاميّة في عصرنا، سوف تؤثّر على الاختيار الإنساني. ولكنْ ليس مِن المعلوم ما هو الإسلام ـ (الإلهيّات، والأوامر والنواهي القرآنيّة والإسلاميّة) ـ المنشود لمجتهد شبستري، كيما يمكّنه ـ مِن خلال الاعتراف الرسمي بالاختيار

(59)

الإنساني ـ أنْ يزدهر في قباله[1]؛ في حين أنَّه يدّعي أنَّ واجبات ومحرّمات حقوق الإنسان المعاصر، يتمّ فهمها بالنسبة إلى الجميع على وتيرة واحدة.

آراء ونظريّات محمّد مجتهد شبستري

لقد سعى محمّد مجتهد شبستري ـ بزعمه ـ إلى إعادة النظر في أساليب فهم الدين، وأنْ يمهّد الطريق إلى تقديم أسلوب جديد لفهم النصوص الدينيّة وتفسيرها. وقد عرض آراءه في مختلف المقالات والآثار، مِن قبيل: (هرمنيوطيقا الكتاب والسنّة)، و(نقد القراءة الرسميّة للدين) ، و(تأمّلات في القراءة الإنسانيّة للدين) ، و(الإيمان والحريّة). وفيما يلي سوف نعمل ـ بالنظر إلى هذه الأعمال ـ على بيان نظريّاته، ثمّ ننتقل بعد ذلك إلى نقدها ومناقشتها.

الأفكار والآراء التفسيريّة لمجتهد شبستري

سوف نعمل في هذا الفصل على بيان أهمّ الأفكار والآراء التفسيريّة لمحمّد مجتهد شبستري، وهي الآراء التي تشكّل القسم الأهمّ مِن تفكيره.

عدم المفهوميّة في اللغة الدينيّة وتبلور الوضع الهرمنيوطيقي

يرى مجتهد شبستري أنّنا بعد اندلاع الثورة الإسلاميّة في إيران، أخذنا نشهد استمرار «عدم المفهوميّة» في لغة التراث الديني؛ كان قد سبق لهذا الأمر أنْ ظهر في إيران منذ عصر المشروطة والثورة الدستوريّة في مستهلِّ القرن العشرين للميلاد. وبذلك، فإنّه ينشد نوعًا مِن مفهوميّة اللغة الدينيّة في المسار المتسارع

(60)

والناشئ مِن تحوّلات مرحلة عصر الثورة الدستوريّة وثورة عام 1357ه‍.ش.[1] لم يكن مِن الواضح على مستوى التنظير والتفكير، ما الذي يجب قوله وفعله على نحو قاطع؛ ولكنَّهم في مقام العمل كانوا يعملون على نحو حازم ويمضون قدمًا. وقد رأى مجتهد شبستري في هذه الظاهرة نوعًا مِن العملانيّة الخالقة للأزمات، وقال: إنَّهم في مرحلة الثورة الدستوريّة (المشروطة) كتبوا دستورًا أعطوا فيه للناس حقَّ الانتخاب والاختيار، ولكنَّهم أدرجوا فيه مادّة تقول بأنَّ كلَّ شيء يجب أنْ يكون تابعًا لأحكام الفقه الموجود. وبذلك، فقد تمّ ترسيخ عدم المفهوميّة؛ إذ لم يُعلم في نهاية المطاف ما هو الحكم التكليفي للناس، فهل يتعيّن عليهم إطاعة فهم وفتاوى المجتهدين أو يمارسون حرّيتهم في التصويت والانتخاب، وتحديد أطر الحياة السياسيّة وقوانينها مِن خلال ما تراه الغالبيّة مِن الناس؟

وبذلك، فإنَّه يذهب إلى الاعتقاد بأنَّ أبحاث الهرمنيوطيقا في الغرب، إنَّما ظهرت بدورها عندما حدث نوع مِن عدم المفهوميّة حول الموروث القديم؛ وذلك عندما أدرك الجيل الجديد، أنَّ لغة التراث القديم قد أصبحت غير مفهومة.[2] يرى مجتهد شبستري أنَّ عدم المفهوميّة، إنَّما يحدِث عندما لا يعود التراث القديم ـ بسبب حدوث التغيير في المعايير القيميّة والأخلاقيّة والعقلانيّة ـ مفهومًا بالنسبة لكم، وتدخلون عندها في المتاهة والضياع، ويقول أحدكم: إذا كنت اليوم أعيش بهذه المعتقدات الأخلاقيّة والعقلانيّة،

(61)

فما هو المعنى الذي يمكن أنْ تحتوي عليه تلك القيَم والمعتقدات الموجودة في تراثي القديم والذي لا أريد التخلّي عنه؟ وفي مثل هذه الحالة مِن عدم مفهوميّة أفهامكم السابقة للدين والمعتقدات الدينيّة، تظهر أمامكم «حالة هرمنيوطيقيّة»[1]؛ بمعنى «الوقوع في مقام إعادة الفهم والتفسير المتجدّد». يرى مجتهد شبستري أنَّه لا يمكن للإنسان أنْ يودع التراث في الدرج مرّة واحدة ويتخلّى عنه إلى الأبد؛ ولذلك فإنَّ الطريق الوحيد يكمن في العمل على إضفاء معنى جديد على التراث القديم. وفي المرحلة المعاصرة مِن العالم الإسلام، قد اقتضت الضرورة أيضًا أنْ يحدث تحوّل في لغة الأخلاق السياسيّة الدينيّة مِن جهة، وأنْ يحدث تحوّل تفسيري في لغة الفقه مِن جهة أخرى أيضًا. ومِن هنا، فإنَّ طريقة الحلّ عند محمّد مجتهد شبستري تتمثّل في هذه الحالة بوجوب تفسير التراث الديني مِن جديد، والعمل على إيجاد لغة جديدة، وتقديم تفسير تاريخي للأحكام السياسيّة الفقهيّة، والإعلان عن أنَّ الأحكام القديمة لم تعد شاملة.[2]

وقد ذهب مجتهد شبستري إلى الادّعاء بأنَّ تسلّل المفاهيم والقيَم الجديدة بفعل المواجهة مع الحداثة واختيار القيَم ومعتقدات الحياة الجديدة، قد أعدّ الأرضيّة لحدوث التحوّلات والتغيير الأساسي في البلدان الإسلاميّة، وحدث تغيير في المعتقدات والقيَم حتّى مِن دون أنْ يتمّ الالتفات إلى ذلك، فصرنا نؤمن بمبدأ الفصل بين السلطات، وتغليب آراء الشعب،

(62)

وما إلى ذلك مِن القيَم الجديدة التي لم تكن موجودة في التراث الإسلامي. يرى محمّد مجتهد شبستري أنَّ اللغة القديمة للتراث الديني، كانت عبارة عن لغة الطاعة؛ بمعنى إطاعة المحكوم للحاكم، وإطاعة الرعيّة للراعي.[1]

يذهب مجتهد شبستري إلى الاعتقاد بأنّنا في المرحلة الراهنة ـ حيث تغيّر نمط حياة الناس، وتمّ إيجاد مؤسّسات وأبنية جديدة ـ لا نستطيع إدارة المجتمع بالفقه التقليدي الموروث، ويجب القيام بشكل وآخر بالاجتهاد في مباني وأصول الإسلام، والعمل على تحديثها؛ لكي نتمكّن مِن إدخال الأمور الحقوقيّة والاجتماعيّة والسياسيّة الجديدة إلى البلدان الإسلاميّة. ولهذه الغاية، فإنَّه يعمل على نبذ الأساليب التقليديّة لتفسير الدين وفهمه؛ معتقدًا ضرورة الذهاب إلى فهم الدين مِن خلال الأسلوب الهرمنيوطيقي الجديد. إنَّ النقطة التي يلتفت إليها مجتهد شبستري، هي أنَّ الأسلوب التقليدي والفقه التراثي، يقوم على أسس فلسفيّة وكلاميّة وإنسانيّة؛ وإنَّ لازم تلك المباني هو هذا النوع مِن الاجتهاد، ولا يمكن القبول بالقيم الحديثة في ضوء تلك المباني. ومِن هنا، فإنّه يعلنها صراحة ويقول: يجب الاجتهاد في تلك المباني الأنثروبولوجيّة والفلسفيّة والكلاميّة، والعمل على تغييرها.

ماهيّة وضرورة الوحي مِن وجهة نظر محمّد مجتهد شبستري

لقد تمّ تعريف الوحي مِن قبل محمّد مجتهد شبستري بتعابير مختلفة، إذ قال في موضع: إنَّ الوحي عبارة عن تكلّم الله مع النبيّ.[2] وقال في موضع آخر: إنَّ

(63)

الوحي عبارة عن تمكين النبيّ مِن الكلام.[1] وعمد في موضع آخر إلى تفسير الوحي بمقولة التأثير وفتح الآفاق؛ بمعنى أنَّه يرى أنَّ الوحي هو «كلام الله» الذي مِن شأنه أنْ «يترك أثرًا لدى السامع».[2]

والذي يبدو للعيان، هو أنَّ مجتهد شبستري قد افترض أنَّ دائرة الوحي واسعة جدًا؛ ويعمل على بيان النسيج لتحقّق هذا النوع مِن الوحي في إطار التجارب الشخصيّة للنبيّ، وكذلك فإنَّه يبحث عن منشأ تحقّق هذه التجربة في شخصيّة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وصلب الحقائق الاجتماعيّة والثقافيّة التي كانت تسود الحجاز في عصره. وقال في هذا الشأن:

«حيث يُنسب نصّ القرآن ـ مِن الناحية التاريخيّة ـ إلى نبيّ الإسلام، فإنَّ الذي كتبوه هو أقوال النبيّ نفسه؛ وهي الكتابات التي تعكس التجارب الشخصيّة لذلك النبيّ».[3]

ومع ذلك يذهب مجتهد شبستري إلى الادّعاء بأنَّ النبيّ الأكرم كان يطلب مِن مخاطبيه أنْ يعتبروا منشأ هذا الكتاب هو الله:

«إنَّ النبيّ عندما كان يقرأ نصًا، ويطلب مِن مخاطبيه أنْ ينسبوا ما يسمعونه منه بوصفه نصًّا نازلًا مِن عند الله، وأنْ يفهموه على هذا الأساس؛ كان يقرأ عبارات مترابطة كانت في ضوء تجربته وفهمه ترتبط بالغيب على نحو مِن الأنحاء ... وفي الحقيقة، فإنَّ

(64)

القرآن الكريم بالنسبة إلى المسلمين نصّ مرتبط بالله؛ بمعنى أنَّ نبيّ الإسلام قد فهمه مع الله».[1]

يذهب مجتهد شبستري إلى الاعتقاد بضرورة التوجّه إلى القرآن الكريم بمثل هذا الأفق:

«إنَّ الاعتقاد القائل بأنَّ ألفاظ القرآن ومعانيه قد نزلت على النبيّ وحيًا مِن عند الله مباشرة أو بواسطة الملك، لا يزول ويرتفع فحسب، بل ويصبح ـ بالنظرة التجريبيّة إلى اللغة ـ غير قابل للدفاع أيضًا».[2]

إنَّ النقطة المهمّة في البين، هي أنَّ الغموض يكتنف مجمل آراء مجتهد شبستري بشأن الوحي؛ فلم يتبيّن مِن كلامه بوضوح ما إذا كان الوحي هو كلام الله أو كلام النبيّ؟ وما هي النسبة بين هذين الاثنين؟ إنَّ مجتهد شبستري الذي يعتقد أنَّ النبيّ في ضوء تجربته وفهمه، كان يعتبر القرآن مرتبطًا بالغيب؛ يواجه الأسئلة الآتية[3]: هل كانت هذه التجربة وهذا الفهم مِن قبل النبيّ صادقًا أم كان كاذبًا؟ وهل كان النبيّ ينسب آيات القرآن إلى الله عن كذب أو خطأ في الفهم، ويطلب مِن مخاطبيه أنْ يعتبروا ما يسمعونه منه على أنه مِن عند الله؟ أوكان النبيّ صادقًا في تجربته وفي فهمه، وعندها لا يكون هذا النصّ كلامه، بل هو كلام الله؟ وفي الأساس لماذا يجب على النبيّ أنْ ينسب النصّ الذي قرأه إلى الله؟ هل كان في ذلك بصدد خداع المخاطبين، حيث

(65)

ينسب كلامه إلى الله؟ وفي مثل هذه الحالة هل يمكن لمثل هذا الشخص أنْ يكون نبيًّا حقًّا؟

إنَّ هذه الأسئلة ونظائرها تشير إلى أنَّ إثبات وحيانيّة محتوى خطاب الأنبياء، يمثّل الركن الرئيس للأدلّة في إثبات ضرورة النبوّة[1]، وإنَّ منشأ هذا النوع مِن المواجهة مع مسألة ارتباط النبوّة مع الوحي يمكن ملاحظته في الآيات القرآنيّة أيضًا. ومِن ذلك ـ على سبيل المثال ـ ما ورد في قوله سبحانه وتعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا[2].[3].

وكذلك، فإنَّ القرآن الكريم ـ خلافًا لرؤية محمّد مجتهد شبستري ـ يحتوي على الكثير مِن الآيات التي تقول بأنَّ منشأ الوحي هو الله سبحانه وتعالى، وأنَّ ألفاظ القرآن وكلماته مِن عند الله أيضًا. ومِن ذلك نذكر الآيات أدناه على سبيل المثال دون الحصر:

ـ ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا.[4]

ـ ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ.[5]

(66)

ـ ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.[1]

ولذلك، كيف يمكن القول بأنَّ مدّعي النبوّة كان في بيان التجربة النبويّة التي تعرض له صادقًا في كلامه[2]، ولكنَّه في بيان هذا المطلب، وهو أنَّ محتوى تجربته الذي هو الوحي أو كلام الله؛ لم يكن صادقًا؟!

كما أنَّ تأثير الكلام على المخاطب، لا يثبت بالضرورة أنَّ قائل الكلام هو الله حتمًا؛ فهناك الكثير مِن كلمات العرفاء والشعراء الكبار التي تركت بدورها التأثير المنشود لمجتهد شبستري، بل وربَّما كانت تلك الكلمات في بعض الموارد شديدة الوقع والتأثير أيضًا، وكذلك إذا اعتبرنا إيجاد الحيرة والذهول ملاكًا لوحيانيّة وإلهيّة الكلام، فإنَّ بعض آيات القرآن الكريم ـ مِن قبيل: آيات الأحكام أو القصص التاريخي ـ لا تثير مثل تلك الحيرة أو ذلك الذهول، فيجب ـ مِن وجهة نظر مجتهد شبستري ـ أنْ لا نعدّها مِن الوحي وكلام الله سبحانه وتعالى.[3]

الفكر الاجتماعي والسياسي لمحمّد مجتهد شبستري

يلجأ محمّد مجتهد شبستري في مواجهة النظريّات والمفاهيم السياسيّة الجديدة ـ مِن قبيل: المداراة، والجمهوريّة، والديمقراطيّة، والشورى، والعدالة، والفقه السياسي، والحقوق الأساسيّة، وما إلى ذلك ـ في ضوء إعادة قراءة التراث

(67)

الإسلامي، إلى الاستفادة مِن مصطلح يشير إلى منهجه في التعاطي مع هذا النوع مِن المفاهيم؛ فهو يعتقد أنَّ تسلّل العلوم الإنسانيّة إلى البلدان الإسلاميّة ـ التي كانت تعاني مِن هاجس «الفهم» ـ قد خلق أرضيّة للمطالبة بالمفاهيم السياسيّة والاجتماعيّة الحديثة.[1] ومِن ناحية أخرى، فإنَّ أسلمة الأفكار والمفاهيم الحديثة، قد خلقت ـ بسبب الحاجة إلى «التطابق مع الشريعة غير المستصلحة» ـ أرضيّة لحدوث الاختلال الجاد في المجتمعات الإسلاميّة.[2] في حين يجب على المتشرّعين أنْ يتّجهوا بحكم الضرورة التاريخيّة إلى إصلاح الشريعة، وأنْ يعملوا على تنظيم مؤسّساتهم الاجتماعيّة بما يتطابق مع لوازم المفاهيم والمؤسّسات الحديثة التي يتمّ العمل في العصر الراهن على إدارة المجتمعات بوساطتها.

العدالة مِن وجهة نظر محمّد مجتهد شبستري

إنَّ تفشّي الظلم في الكثير مِن بقاع العالم في المرحلة المعاصرة، قد خلق ـ مِن وجهة نظر مجتهد شبستري ـ أرضيّة صلبة للمطالبة بتحقيق العدالة.[3] ومِن هنا، يتعيّن على المسلمين بدورهم أنْ يقدّموا تفسيرهم لمفهوم العدالة أيضًا. وقد رأى شبستري إمكانيّة تبويب تعاريف العدالة ـ مِن خلال خصّيصتين ـ إلى طائفتين رئيستين؛ فهناك مَنْ يرى أنَّ للعدالة طبيعة، وأنَّ علينا أنْ نكتشف

(68)

تلك الطبيعة. إنَّ للعدالة ـ بغضّ النظر عن توافقاتنا وعقودنا حول ما نراه عادلًا وما نراه ظالمًا ـ حقيقة وطبيعة، ويجب علينا أنْ نتعرّف على تلك الحقيقة والطبيعة. بيد أنَّ هناك عددًا مِن الفلاسفة لهم كلام آخر؛ إذ إنَّهم يسألون الطبيعيين: أنتم تقولون على سبيل المثال: إنَّ طبيعة العدالة هي أنْ يُعطى لكلّ ذي حقّ حقّه الطبيعي. ولنا أنْ نسألكم: مَنْ هو الذي يحدّد ما هو حقّ كلّ ذي حقٍّ؟ وفي الأساس، ما الذي يعنيه حقّ كلّ ذي حقٍّ، بمعنى الحقّ الطبيعي؟ تقول هذه الجماعة: حيث أنَّ العدالة الطبيعيّة ليس لها معنى واضح، فإنّنا نقول كلامًا آخر، وهو: إنَّ معنى العدالة، هو ذلك الشيء الذي يتّفق عليه الناس في حياتهم الاجتماعيّة والسياسيّة بشكل تقريبي وعلى نحو الإجمال. إنَّ العدالة تكتسب معناها ومفهومها مِن خلال التقابل والتقاطع بين مصالح الناس فيما بينهم، والتوافق الذي يحصلون عليه في هذا المعترك. وإنَّ المصالح المشتركة للناس، تنشأ بدورها مِن احتياجاتهم أيضًا. وهكذا تتبلور العدالة، وتكتسب مفهومها ومعناها في جميع الشؤون والعلاقات الاجتماعيّة الأعمّ مِن السياسيّة وغير السياسيّة.

وقد أشار مجتهد شبستري ـ ضمن نقده لهذين الرأيين أعلاه فيما يخصّ معنى ومفهوم العدالة ـ إلى نظريّة ثالثة، وهي النظريّة التي تقول: إنَّ العدالة لا هذا ولا ذاك؛ إنَّ العدالة ليس لها هويّة وليس لها طبيعة يمكن اكتشافها، ولا يمكن فهمها مِن خلال الاتفاقات الناشئة مِن ضغط الاحتياجات والرغبات والمصالح. إنَّ العدالة في ماهيتها «أمر أخلاقي» يعمل الناس على تعريفها بأنفسهم، ولكنْ لا على أساس مِن مقتضى احتياجاتهم ورغباتهم، وإنَّما على

(69)

أساس مِن إدراكهم وشعورهم بضرورة الأخلاق في الحياة الاجتماعيّة، ومِن خلال الحوار الحرّ. إنَّ العدالة التي ورد الحديث عنها في القرآن الكريم، هي دعوة الناس إلى «عدالة العصر» في إطار «لغة التوصية الأخلاقيّة»، وهي «التوصية التي تقوم على منطق رواية وحكاية هذا النصّ».[1] يذهب مجتهد شبستري إلى الادّعاء بأنَّ القرآن الكريم لم يقدّم تعريفًا للعدالة، وإنَّما اعتبرها بوصفها أمرًا أخلاقيًّا، وقد أوصى القرآن بالتبعيّة لتلك العدالة التي يعتبرها الناس عدالة.[2] وبما أنَّ وجدان الناس وشعورهم وفهمهم للعدالة على الدوام، عُرضة للتحوّلات والمتغيّرات الثقافيّة والتاريخيّة والاجتماعيّة، ولا يمكن الحصول على محتوى ثابت ودائم وأبدي لفهم العدالة؛ لذلك فإنَّ تفسير وشرح العدالة والمؤسّسات الاجتماعيّة والسياسيّة العادلة، والحكم العادل في كلّ عصر، يجب أنْ يكون ناظرًا إلى الأحكام الأخلاقيّة العامّة في ذلك العصر.

حقوق الإنسان والحقوق الإسلاميّة

يدّعي مجتهد شبستري قائلًا:

«إنَّ المطالبة بحقوق الإنسان أضحت ضرورة تاريخيّة بالنسبة إلى المسلمين؛ إنَّ المطالبة بالحريّة والمساواة لجميع الناس، تمثّل اللبّ اللباب في حقوق الإنسان».[3]

(70)

وقد ذهب ـ في ضوء إعادته لقراءة الثقافة الإسلاميّة، ولا سيّما في عصر النزول ـ إلى الاعتقاد والقول:

«لقد كانت سطوة الدين وسطوة الرجل وسطوة الحاكم، هي الخصائص الثلاثة التي تميّز الثقافة الإسلاميّة في عصر النزول».[1]

ويرى قائلًا:

«في ظلّ هذا المجتمع، لا يمكن الحديث بتاتًا عن حقوق للأفراد على غرار ما نراه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان».[2]

وقال مجتهد شبستري أيضًا:

«نحن لا نجد في الكتاب والسنّة، أو لاحقًا في النظريّات الحقوقيّة للحقوقيين مِن المسلمين، نصوصًا تهدف إلى إحداث تغيير جذري لهذه العناصر الثلاثة وهذه الروابط الاجتماعيّة الثلاثة».[3]

«وغاية ما هو موجود في هذه المصادر، هو تظهير سلسلة مِن الأهداف الأخلاقيّة، داخل ذات تلك الأبنية لغرض أنسنتها».[4]

وقد ادّعى مجتهد شبستري لتبرير ضرورة إحداث التحوّلات والتغييرات في مواجهة الحقوق الإنسانيّة، قائلًا:

(71)

«إنَّ الادّعاء القائل بأنَّ الأنبياء إنّما جاؤوا وقاموا بإيجاد سلسة مِن التغييرات في المجتمعات المرتبطة بأساس بنيتهم السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، ثمّ أعلنوا أنَّ هذه الأبنية التي قمنا بتعيينها هي الأبنية المثاليّة للإنسانيّة، ولن يكون هناك ما هو أفضل منها، ويجب اتّباعها إلى الأبد، غير مقبول، بل «إنَّ هذا الادعاء لا يستند إلى أيّ دليل، كما أنَّه مرفوض مِن الناحية التاريخيّة».

ثم ادّعى بعد ذلك قائلًا:

«لا بدّ مِن الإقرار بأنَّ أسلوب الحكومة الديمقراطيّة الذي اكتشفته البشريّة وتوصّلت إليه، واستحقّ أنَّ يعيش على هذه الشاكلة التي هي مغايرة للسلطة الذكوريّة والدينيّة وسلطة الحاكم، وهي أكثر تناغمًا مع الكمال الإنساني، وإنَّ هذا الأسلوب يساعد على ازدهار إنسانيّة الإنسان في الحياة الاجتماعيّة، وباختصار: يجعلها أكثر إنسانيّة».[1]

كلام النبيّ والتديّن الجديد

إنَّ الذي كان وما يزال سائدًا بين جميع المسلمين، قديمًا وحديثًا وإلى هذه اللحظة؛ هو أنَّ القرآن الكريم بألفاظه ومضامينه قد نزل مِن عند الله على النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله، وأنَّ النبيّ الأكرم بدوره، قد نقل ما نزل عليه مِن الله إلى الناس بعينه دون زيادة ولا نقصان. وبعبارة أخرى: إنَّ اعتقاد المسلمين قاطبة يقوم على أنَّ القرآن الكريم هو كلام الله، وأنَّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد تلقّى هذا

(72)

الكلام مِن طريق الوحي. وبطبيعة الحال، فإنَّ المفكِّرين المسلمين ـ الأعمّ مِن العرفاء والفلاسفة والمتكلّمين ـ قام كلُّ واحد منهم ببيان وتفسير كيفيّة الوحي بشكل وآخر، ولكنْ لا أحد منهم شكّك أو ترديد في اعتبار القرآن الكريم هو كلام الله. وقد عمد مجتهد شبستري ـ مِن خلال اتّخاذه إطارًا نظريًّا مختلفًا عمّا كان يؤخذ في البيئة الإسلاميّة للتعاطي مع الوحي وماهيته ـ إلى إبداء آراء غير متعارفة عن هذه المسألة.

إنَّ مجتهد شبستري، مع علمه بهذه الآراء التي صدع بها الحكماء والمتكلّمون حول موضوع الوحي، يذهب إلى الاعتقاد بأنَّ التحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة الجديدة تقتضي إعادة النظر في هذه المباني. وقد كتب في هذا الشأن قائلًا:

«إنَّ التحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة الجديدة في العالم الإسلامي، التي نشأت مِن العصر الجديد، أدّت إلى ظهور مسألة كلاميّة تقول: ما هي النسبة والعلاقة التي يمكن أنْ تكون لهذه التحوّلات الجديدة مع الوحي الإسلامي؟».[1]

إنَّ مجتهد شبستري في الاستنتاج الذي يستخلصه مِن اعتبار الوحي تجربة دينيّة، لا يرى التديُّن في الاعتقاد والإيمان بأصول العقائد، مِن قبيل: التوحيد، والنبوّة، والمعاد، والعدل، والإمامة. وقال في هذا الشأن:

«إنَّ القرآن الكريم لم يأت بمعنى مجموعة مِن القضايا الملقاة بواسطة الوحي لكي يؤمن بها الإنسان. لقد شاع في مجتمعنا ـ للأسف الشديد ـ أنَّ التديّن عبارة عن الإيمان ببعض الأصول الاعتقاديّة؛

(73)

فلو قال شخص: إنّي مؤمن بالتوحيد، ومؤمن بالعدل، ومؤمن بالنبوّة، ومؤمن بالإمامة، ومؤمن بالمعاد، كان ذلك الشخص إنسانًا متديّنًا. بيد أنَّ واقع الأمر ليس كذلك. فإنَّ الشخص المتديّن مِن وجهة نظر القرآن هو المؤمن، والشخص المؤمن هو الذي يمتلك هذه المعارف على أساس تلك التجارب الإيمانيّة».[1]

وفي الحقيقة، فإنَّ محمّد مجتهد شبستري، يرى أنَّ المتديّن والمؤمن هو الشخص الذي يمتلك تجربة دينيّة، وليس الشخص الذي يؤمن بأصول اعتقاديّة، والذي يتمسّك بالأحكام والآداب الشرعيّة. وقال في هذا الشأن:

«إنَّ القرآن قد عرّف نفسه بوصفه وحيًا وآيات، وأنا أروم الاستفادة مِن هذين التعريفين؛ فإنَّ الوحي يعني الإشارة السريعة والخفيّة. إنَّ القرآن يقول: إنَّ هذا الكتاب عبارة عن إشارات الله السريعة والخفيّة. كما ويقول القرآن أيضًا: إنَّ هذا القرآن عبارة عن آيات؛ بمعنى أنَّه علامات ودلائل لله ... إنَّ التديّن الإسلامي مِن وجهة نظر القرآن هو أنْ يؤمن المخاطبون بهذه الإشارات والعلامات في ذات ماهيّة الإشارة والعلامات، وأنْ يذعنوا للإشارات والعلامات، لا أنْ يذعنوا للقضايا الفلسفيّة».[2]

إنَّ مراد شبستري مِن هذه العبارات، هو أنَّ المتديِّن ليس هو الشخص، الذي يؤمن بمجموعة مِن المفاهيم والتعاليم الفلسفيّة، ويكون بصدد إثبات وجود الله وصفاته وكيفيّات أفعاله، ويكون مؤمنًا بيوم القيامة والنبوّة،

(74)

ويكون متعبّدًا ومذعنًا لأوامر الله مِن أجل التقرّب منه والاتصال به وما إلى ذلك.[1] والسؤال الذي يرد هنا، هو أنَّ الإيمان إذا كان يعني تجارب الإنسان الناتجة مِن حضوره أمام ساحة الألوهيّة، فما هو مصير الأحكام والشريعة والتعاليم التي جاء بها النبيّ الأكرم وأبلغها إلى أتباعه؟

في البداية، لا بدّ مِن التذكير مجدّدًا بأنَّ الدين ـ مِن وجهة نظر شبستري ـ ولا سيّما الدين الإسلامي، يشتمل على ثلاثة أبعاد ومساحات، وهي: مساحة الأعمال والشعائر، ومساحة الاعتقادات، ومساحة التجربة النبويّة. وقد عمد شبستري إلى بيان العلاقة بين هذه الأبعاد والمساحات على النحو الآتي:

«إنَّ تلك التجربة التي تحدث بشكل خفي بالكامل، وتحصل للشخص مِن دون حدّ على شكل واقعيّة بحتة، تصبح على مستوى المعرفة بالنسبة إلى الإنسان مفهومة ومعقولة. وإن السطح الأوّل مِن هذه الدائرة الذي هو سطح الأعمال والشعائر، يستند إلى هذه النواة الأصليّة، ولولا وجود تلك التجارب، فإنَّ هذه الأعمال والشعائر سوف تكون مجرّد سلسلة مِن العادات العرفيّة والاجتماعيّة والثقافيّة لا أكثر».[2]

ثم تحدّث مجتهد شبستري حول القرآن والشعائر الإسلاميّة، قائلًا:

«إنَّ النواة الأصليّة للدين، حتّى في هذا الكتاب عبارة عن ذات تلك التجارب، وإذا تمّ الحديث عن تلك المعارف، فقد تمّ الحديث عنها بوصفها تفسيرًا لتلك التجارب، وإذا ورد الحديث عن الأعمال

(75)

والشعائر، كان الحديث كذلك عن هذه الأعمال والشعائر بوصفها سلوكيّات إنسانيّة تستند في الأصل إلى تلك التجربة».[1]

ولتوضيح رأي مجتهد شبستري وفهم مراده مِن القول بأنَّ الدين يشتمل على ثلاثة أبعاد ومساحات، وأنَّ مساحته المركزيّة هي مساحته المحوريّة؛ لا بدّ هنا مِن الإشارة إلى هذه النقطة، وهي أنَّه مِن بين هذه الأصول الاعتقاديّة، يبدي اهتمامه بالتوحيد، ويلتفت إلى هذه النقطة؛ وهي أنَّ التوحيد ليس بالمعنى الذي يقوله المتألّهون والعرفاء والحكماء، الذي هو عبارة عن الاعتقاد وإثبات الموجود الواحد والقادر وما إلى ذلك؛ بل إنَّ التوحيد أوّلًا: يعني أنْ يمتلك الشخص سلوكًا توحيديًّا، وثانيًا: يعني السعي مِن أجل إقامة المجتمع التوحيدي. وفيما يتعلّق بالقسم الأوّل؛ وهو أنَّ التوحيد يعني امتلاك السلوك التوحيدي، يقول مجتهد شبستري:

«إنَّ علم وتجربة السلوك المعنوي، هو علم وتجربة التوحيد. إنَّ التوحيد يعني السلوك النظري والعملي مِن أجل التغلّب على الألم الناشئ مِن الحُجُب الأصليّة الأربعة للكينونة في العالم؛ وهي: حجاب التاريخ، وحجاب اللغة، وحجاب المجتمع، وحجاب الجسد، والحجب الأخرى الموجودة بناء على تجارب العرفاء. وقد ورد التعبير عن هذه الحجب بالسجن أيضًا».[2]

بالنظر إلى هذه العبارة لمجتهد شبستري، يتبادر إلى الذهن أنَّ التوحيد أو المجتمع التوحيدي، ليس هو المجتمع الذي يسعى مِن أجل تطبيق الشريعة

(76)

الإسلاميّة على نحو ما كان عليه الأمر في صدر الإسلام؛ بل إنَّ المجتمع التوحيدي هو المجتمع الذي يعيش ـ مع امتلاكه للتجربة الدينيّة ـ بحيث يتجرّد عن حجب وجبر التاريخ واللغة والمجتمع والجسد. ولكي نوضّح رأي مجتهد شبستري، لا بدّ مِن الإشارة إلى بعض الأمور.

يذهب مجتهد شبستري ـ في ضوء تفسيره للتوحيد بأنَّه تجربة دينيّة، والخروج مِن الحُجُب الأربعة ـ إلى الاعتقاد بأنَّ النبيّ في رسالته كان يحظى بأربع خصائص، حيث يمكن لنا بوصفنا أتباعه أنْ نعمل في هذه المرحلة ـ مِن خلال الاستناد إلى تلك الخصائص ضمن الحفاظ على المستوى الداخلي مِن الدين الذي هو ذات التجربة الدينيّة ـ على بيان سطوح أخرى مِن الدين، مِن قبيل: السطح الاعتقادي والشعائر بوساطة العلوم والمعارف المعاصرة. يرى شبستري أنَّ خطاب النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يحتوي على أربع خصائص، وهي: العقلانيّة، والعدالة، والواقعيّة، والدعوة إلى الرحمة في قبال الدعوة إلى العنف. إنَّ التوحيد ـ مِن وجهة نظر مجتهد شبستري ـ يمثّل أساس دعوة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله، وإنَّ هذا التوحيد كان منسجمًا مع العقل في عصر النبيّ، وحيث كان هذا الانسجام موجودًا، فقد أدّى هذا الأمر إلى أنْ يحظى هذا التوحيد بقبول الناس في ذلك العصر. وبطبيعة الحال، فإنَّ مجتهد شبستري يصرّح بهذه النقطة، وهي أنَّ مراده مِن عقلانيّة العقل الذي كان شائعًا في ذلك العصر؛ أي العقل الذي كان يحظى باهتمام الناس في تلك الأزمنة:

«إنَّ أهمّ دعوة للنبيّ هي دعوته إلى التوحيد ونفي وجود الشريك لله. لقد كان الشرك قبل دعوة النبيّ هو الغالب في الحجاز. إنَّ

(77)

توحيد النبيّ كان مقولة يستحسنها عقل ذلك العصر. فقد كان عقل ذلك العصر يرى هذا النوع مِن التوحيد مقبولًا، وإنَّ تأكيدي على عقل ذلك العصر، يأتي مِن أنّنا على طول التاريخ نواجه عقولًا وعقلانيّات متفاوتة ومتناسبة مع عصورها».[1]

في ضوء هذه العبارة لمجتهد شبستري، نحن لا نمتلك حقائق وأصولًا عقلانيّة ثابتة على طول التاريخ؛ بحيث يمكن أنْ تكون ملاكًا ومعيارًا لتمييز الحقّ مِن الباطل، أو الصحيح مِن الكذب. فهو يرى أنَّ هناك خطابات وعقلانيّات مختلفة، وأنَّها تحظى بالقبول في شرائطها الزمانيّة والمكانيّة. وإنَّ التوحيد وما قال النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في مورد التوحيد، كان منسجمًا ومتناغمًا مع علانيّة ذلك العصر مِن عصور الحجاز. وبطبيعة الحال، فإنَّ مجتهد شبستري لا یشیر إلى هذه النقطة، وهي لماذا لم يقم أصحاب العلم والعقل مِن اليهود والمسيحيين وكبار قريش مِن الذين عاصروا النبيّ في تلك المرحلة الزمنيّة؛ بأخذ هذه الرؤية التوحيديّة مِن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله، بل وقد حاربوه حتّى اللحظة الأخيرة، ولم يعتنقوا بالإسلام إلّا بعد أنْ خسروا الحرب مرغمين. وبطبيعة الحال، فإنَّ كاتب هذه المقالة، سوف يعمل على نقد ومناقشة رؤية مجتهد شبستري في السطور القادمة. وأمّا ما نقله مجتهد شبستري عن هذه الخصّيصة مِن خطاب النبيّ، فيعود سببه إلى أنّنا في المرحلة المعاصرة، حينما نتحدّث عن الإسلام وعن التوحيد، يجب أنْ يكون ما نقوله بدوره منسجمًا مع العقلانيّة الشائعة والسائدة والمقبولة في هذا العصر أيضًا؛ وإلّا فإنَّ التوحيد لو

(78)

لم يكن منسجمًا مع العقلانيّة المعاصرة، لما أمكن الحديث عن الدين في المرحلة الجديدة. وقد كتب في ذلك صراحة:

«وعليه، فإنَّ النبيّ الأكرم كان يدعو إلى الإعراض عن الجهل المتفشّي في عصره، ويدعو إلى الإقبال على العقل الموجود في عصره. نستنتج مِن هذا الأمر أنَّ الخطاب الديني لعصرنا ومجتمعنا، يجب أنْ لا يتنافى مع العقل المعاصر، وإلّا سوف تكون الخصّيصة المهمّة في الخطاب مخدوشة. لا نستطيع القول بأنّنا نقول ما يقوله الدين، سواء أكان متناغمًا مع عقل العصر أو لم يكن متناغمًا معه؛ فإنَّ هذا خطأ كبير».[1]

طبقًا لما ذكره مجتهد شبستري، فإنَّ الأنبياء جاؤوا لكي يعملوا على تطوير العقل في عصرهم، بغضّ النظر عمّا إذا كان هذا العقل المعاصر قد استفاد مِن المباني الأنثروبولوجيّة والأنطولوجيّة المختلفة. هذا في حين أنَّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وغيره مِن الأنبياء، كانوا على الدوام يحاربون ما كان يعتبره أبناء عصرهم مِن الأمور العقلانيّة، وكانوا يجابهون العقلانيّة التي ينكرون الوحي والنبوّة على أساسها. كما ورد هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ*أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ.[2]

(79)

إنَّ المشركين والكافرين ـ في ضوء هذه الآيات ـ قد استدلّوا على أساس مبانيهم الحسيّة والماديّة بهذه النقطة التجريبيّة، وهي: حيث كان نبيّ الإسلام شخصًا مثلهم، وأنَّ العالم بدوره عالم محسوس، فإنَّ ما كان يقوله النبيّ، لم يكن ينسجم مع مبانيهم العقليّة، ولا يمكن أنْ يكون له وجود وتحقّق خارجي. وفي الحقيقة، فإنَّ الإنسان مِن وجهة نظرهم، هو هذا الكائن الحيواني الذي ليس له حظّ مِن هذه الدنيا سوى المأكل والمشرب، ولا يحظى بأيّ بُعد آخر ممّا يقوله الأنبياء ويدعونهم إليه. إنَّ هذه الآيات تخالف ما ذكره محمّد مجتهد شبستري ـ مِن أنَّ التوحيد الذي جاء به النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان منسجمًا مع العقل الشائع في عصره ـ تمام الاختلاف.

أمّا الخصيصة الثانية التي كان يراها محمّد مجتهد شبستري للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله، فهي عدالته. وقد فسّر عدالة النبيّ الأكرم على النحو الآتي:

«لقد كان للعدالة في ذلك العصر تعريف محدّد، وكانت له بعض المصاديق. فحيث تكون مصاديق العدالة واضحة، كان النبيّ يؤكّد على مراعاة تلك المصاديق، وحيث تكون مصاديق الظلم واضحة، كان النبيّ يأمر باجتنابها. إنَّ النبيّ في هذه الشؤون لم يأتِ أبدًا بمسائل لا يمكن للناس إدراكها. لقد كانت غايته هي العدول عن الظلم في عصره إلى العدل في عصره، وكان الناس يعرفون ما هو الظلم وما هو العدل في عصرهم».[1]

في ضوء هذه العبارة، لا يتمّ تشريع مصاديق الظلم والعدل مِن ناحية الله

(80)

والنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله، بل إنَّ النبيّ ينظر إلى ما يعتبره الناس ظلمًا أو عدلًا، ويقوم بإمضائه وتأييده وتقريره.

وعلى أساس هذا الرأي، لا يرى مجتهد شبستري ثباتًا لما نراه يحظى بالثبات بوصفه مِن الأحكام والتعاليم الثابتة، بل يمكن لهذه الأحكام والتعاليم أنْ تتغيّر بحسب تغيّر الشرائط الزمانيّة والمكانيّة. مِن ذلك ـ على سبيل المثال ـ إذا كان الله قد أمر برجم الزانيات المحصّنات في عصر النبيّ، كان هذا النوع مِن الأحكام في ذلك العصر مصداقًا للعدل. وأمّا في المرحلة الجديدة، فحيث يكون الرجم مخالفًا لحقوق الإنسان؛ فإنَّه سيكون مصداقًا للظلم، ولا يمكن ولا ينبغي القيام بهذا النوع مِن التعاليم؛ في حين أنَّ هذا الحكم طبقًا لفقه الشيعة ـ القائم على أساس الحسن والقبح الذاتي للأفعال ـ يحظى بالحسن الذاتي مِن أجل سعادة وبقاء نوع البشر، وعليه يجب العمل بهذه الأحكام حتّى في العصر الحاضر. وأمّا مِن وجهة نظر مجتهد شبستري، فحيث تكون الأحكام والتعاليم الإسلاميّة، هي الاعتبارات ذاتها التي كان النبيّ قد أخذها مِن مجتمع عصره؛ فإنَّه لا يمكن تطبيقها على المجتمعات المعاصرة والشرائط والظروف الراهنة.

إنَّ الخصّيصة الثالثة التي يذكرها مجتهد شبستري للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله، هي واقعيّته. فهو يرى أنَّ النبيّ الأكرم كان ملتفتًا لواقعيّات عصره، وكان يعمل على تطبيق نفسه على أساس تلك الشرائط. ولو سألنا مجتهد شبستري: ما هو مراده مِن الواقعيّة؟ فإنَّه قد أجاب عن ذلك بقوله:

«لقد تمثّل العمل الواقعي بأنْ قبل النبيّ ـ لتقوية وتعزيز دعوته ـ بمقترح تأسيس الدولة، وإقامة دينه بهذه الطريقة. وقد تحقّق فصل الدين عن

(81)

الدولة بعد الكثير مِن التحوّلات الثقافيّة والاجتماعيّة وظهور المجتمع والدولة. وبطبيعة الحال، فإنَّ الواقعيّة المعاصرة تستوجب الفصل بين هذين الأمرين. وأمّا في عصر النبيّ الأكرم، فقد كانت الواقعيّة تتمثّل في إقامة الحكم. لقد كانت واقعيّة النبيّ الأكرم تقتضي أنْ ينظر إلى الإنسان في تشريعاته بوصفه كائنًا جامعًا يمتلك أبعادًا جسمانيّة وأبعادًا روحيّة، وهو بالإضافة إلى كونه كائنًا فرديًا، فإنَّه بالإضافة إلى ذلك كائن اجتماعي أيضًا. وبذلك فقد تمّ الاعتراف في تشريعات النبيّ بالأغراض والغرائز الإنسانيّة، وتمّ تحريم الرهبانيّة وترك الدنيا. وتمّ المنع مِن خوض الحروب واللجوء إلى استخدام العنف، إلّا في بعض الموارد الاستثنائيّة، وتمّ النهي عن جميع أنوع الإفراط والتفريط».[1]

وعليه، فإنَّ الأحكام والتعاليم التي جاء بها النبيّ الأكرم، تصبح ـ في ضوء هذه القراءة الشبستريّة ـ متطابقة مع الأحكام والتعاليم والأعراف الاجتماعيّة؛ إذ كان الناس في عصر النبيّ يعيشون في ذلك الفضاء. إنَّ مشكلة مجتهد شبستري تكمن في أنَّه لا يريد أنْ يقبل بأنَّ هذه الأحكام بعينها قد نزلت على النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مِن ناحية الله سبحانه وتعالى على أساس مِن المصلحة الذاتيّة لنوع البشر. في ضوء رؤية مجتهد شبستري، لو أنَّ النبيّ الأكرم بعث إلى الحياة مِن جديد، فإنّه سيعمل على إلغاء جميع أحكامه الشرعيّة، ويقرّ بدلًا منها جميع الأحكام الحقوقيّة والاجتماعيّة للعالم المعاصر بسبب واقعيّته؛ وذلك لأنَّ الأحكام الشرعيّة مِن وجهة نظر مجتهد شبستري مِن الاعتباريّات البشريّة، ولا تتمتّع بأيّ حقيقة.

(82)

الخصّيصة الأخرى التي يذكرها محمّد مجتهد شبستري للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله، هي الدعوة إلى الرحمة والابتعاد عن العنف. وقد عمد شبستري في توضيح هذه الخصّيصة إلى التمسّك بمثال القصاص في فقه الشيعة، حيث قال:

«إنَّ الخصّيصة الرابعة في هذا الخطاب، هي الدعوة إلى الرحمة في قبال اللجوء إلى العنف والانتقام. مِن ذلك ـ على سبيل المثال ـ يمكن أنْ نستشهد هنا بقانون القصاص الذي يبدو مِن وجهة نظر البعض مثالًا على تشريع العنف في الإسلام، في حين أنَّ الواقع غير ذلك، فإنَّ هذا القانون كان في عصر النبيّ الأكرم نموذجًا في الرحمة والابتعاد عن العنف. فقد تمّ تشريع القصاص في القرآن الكريم مِن أجل كبح جماح الانتقام المفرط الذي كان شائعًا في ذلك المجتمع. ففي ذلك المجتمع، كان إذا قتل شخص مِن أفراد قبيلة ما، تبادر قبيلة القتيل إلى الثأر له بقتل عشرات الأشخاص مِن أفراد قبيلة القاتل. فجاء القرآن وقال لهم: إذا كنتم تريدون القصاص، فلا يحقّ لكم غير قتل شخص واحد فقط، على أنْ يكون ذلك الشخص هو خصوص القاتل، وعدم التعدّي إلى غيره. ثمّ استطرد القرآن الكريم بعد ذلك يقول في هذه الآية ذاتها: ولكنّكم إنْ عفوتم عن القاتل ولم تقتلوه، فسوف يكون ذلك أفضل بكثير مِن قتله؛ بمعنى أنَّ هناك شيئًا أفضل مِن العدل أيضًا، وهو العفو والرحمة ... إنَّ منطق هذا الخطاب، ليس هو منطق الانتقام والعنف، وإنمّا هو بالإضافة إلى مراعاة العدالة يدعو إلى الرحمة أيضًا. وعليه، ففي الخطاب الديني المعاصر يجب أنْ لا يحضر مقتضى العدل فحسب، بل ويجب أنْ

(83)

يكون مقتضى الرحمة في هذا العصر حاضرًا أيضًا؛ بمعنى أنْ يتمّ أخذ العواطف البشريّة المتحوّلة في هذا العصر بنظر الاعتبار أيضًا».[1]

وهنا يمكن أنْ نسأل عن مراد مجتهد شبستري مِن مقتضى الرحمة في العصر الجديد. وبالنظر إلى ما قيل، يمكن فهم الجواب على النحو الآتي: إنَّ مقتضى الرحمة المعاصرة، هو أنَّه لو صدرت معصية أو جريمة مِن شخص، كما لو صدرت عنه جريمة اجتماعيّة، مِن قبيل: قتل النفس وما إلى ذلك، لا يمكن القصاص مِن القاتل؛ وذلك لأنَّ العرف البشري في العصر الجديد، يرى في هذا القصاص عنفًا وقسوة، وعلى هذا الأساس يجب اجتناب القصاص.

إلى هنا، يكون محمّد مجتهد شبستري قد عمل على بيان عدد مِن القضايا مِن أجل إيجاد التماهي والتناغم بين الأحكام والمؤسّسات الاجتماعيّة والسياسيّة الجديدة مع وحي الإسلام. فأوّلًا: إنَّ الوحي يعني التجربة الدينيّة للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله. وثانيًا: إنَّ التوحيد يعني امتلاك السلوك التوحيدي؛ بمعنى أنْ يعيش الشخص الموحّد بشكل يتجرّد فيه مِن أطر حجُب اللغة والجسد والتاريخ والمجتمع. وثالثًا: إنَّ خطاب النبيّ هو الواقعيّة والعدالة والعقلائيّة والدعوة إلى الرحمة.

والآن، لكي ندرك كيف عمد مجتهد شبستري ـ مِن خلال فهمه الجديد للوحي ـ إلى جعل المؤسّسات الاجتماعيّة والسياسيّة في الغرب متناغمة مع الإسلام، يجب أنْ نتعرّف على رأيه في مورد الأحكام الشرعيّة للإسلام، ولا سيّما في حقل المعاملات والسياسات.[2]

(84)

يرى مجتهد شبستري أنَّ المعاملات والسياسات أحكام تاريخيّة، لا تقوم على مصلحة ذاتيّة ثابتة في التاريخ. توضيح ذلك، أنَّ الأفعال ـ طبقًا لأصول الفقه والعقائد الكلاميّة عند الشيعة ـ تتّصف بالحُسن والقبح الذاتي، وأنَّ الله سبحانه وتعالى إذا أمر بفعل أو نهى عنه؛ فإنَّ ذلك الفعل في حدّ ذاته يتّصف بالحُسن أو القبح الذاتي، وليس الأمر كما لو كان حُسن وقبح الأفعال تابعًا لإرادة الإنسان وظروفه البيئيّة والاجتماعيّة. وفي قبال هذا الرأي، يقع رأي أولئك الذين يقولون إنَّ أوامر الله ونواهيه لا تستند إلى المصلحة الذاتيّة للفعل، بل إنَّ الفعل الحسن هو الذي يأمر به الله، وإنَّ الفعل القبيح هو الذي ينهى عنه الله. وبعبارة أخرى: إنَّ أوامر الله ليست ثابتة، بل مِن الممكن أنْ يكون الشيء حسنًا في بادئ الأمر، حتّى إذا نهى الله عنه صار قبيحًا. وهذا الرأي نراه اليوم في إطار عبارات أخرى، وبشكل آخر في عبارات محمّد مجتهد شبستري. إنَّه يدرك هذا الأمر جيدًا، ويعلم أنَّ القول بالحُسن والقبح الذاتي للأفعال، تكون نتيجته هي أنَّ أحكام الله وتعاليم النبيّ ثابتة في جميع أبواب العبادات والمعاملات وفي جميع الأزمنة والأمكنة. ومِن هنا، فإنَّه يرى أنَّ هذا النوع مِن العقلانيّة، لا يساعد على إيجاد التناغم بين الأحكام السياسيّة والاجتماعيّة والمؤسّسات السياسيّة والاجتماعيّة الحديثة، وبين الإسلام والفقه.

وعلى هذا الأساس، فإنَّ مجتهد شبستري يرى أنَّ الأحكام السياسيّة والاجتماعيّة أو المعاملات والسياسات، تابعة لعُرف عصر النبيّ الأكرم، ولا تحظى بأيّ حقيقة، وإنَّما هي مجرّد اعتبارات قد اعتبرها الناس في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، وإنَّ النبيّ بدوره قد قبل بها أو عمل على تعديلها. وقد كتب في ذلك بشكل صريح:

(85)

«إنَّ تدخّل الكتاب والسنة في العلاقات الأسريّة والاجتماعيّة وفي الحكم والقضاء وما إلى ذلك على ما كان الوضع عليه في الحجاز، لم يكن ناشئًا مِن أنَّ الشرع يريد أنْ يضع القوانين للناس في هذه المجالات؛ وذلك لأنَّ هذه القوانين كانت موجودة أصلًا، وإنَّ الناس كانوا يعيشون في ظلّها».[1]

ثمّ استطرد قائلًا:

«إنَّ ما هو موجود في الكتاب والسنّة حول العلاقات الأسريّة، والعلاقات الاجتماعيّة، والحكومة والقضاء والعقوبات والمعاملات ونظائر ذلك، ممّا ورد على شكل تقريرات وإمضاءات مِن دون تصرّف أو تعديل، أو مقرونًا بالإصلاح والتعديل؛ لم يكن مِن إبداعات وتأسيسات الكتاب والسنّة لغرض تشريع قوانين وأحكام ثابتة وخالدة تتعلّق بالعلاقات الحقوقيّة في الأسرة أو العلاقات الحقوقيّة في المجتمع أو مسألة الحكم وما إلى ذلك».[2]

سبق أنْ ذكّرنا أنَّ مجتهد شبستري كان يرى السلوك التوحيدي، يعني السلوك النظري والعملي مِن أجل التغلّب على الألم الناشئ مِن الحجُب الأصليّة الأربعة في العالم، وهي: حجاب التاريخ، وحجاب اللغة، وحجاب المجتمع، وحجاب الجسد. وبعبارة أخرى: إنَّ القوانين والمقرّرات الاجتماعيّة، يجب تنظيمها في كلّ عصر ومرحلة تاريخيّة، بحيث يتمّ القضاء على هذه الحُجُب الأربعة. وعلى هذا الأساس، فإنَّ مجتهد شبستري يرى أنَّ ما

(86)

ذكره الفقهاء على أساس منهج أصول الفقه ويقوم على أساس الحُسن والقبح الذاتي للأفعال، ليس جديرًا بالتطبيق في المرحلة المعاصرة؛ وذلك لأنَّ الكثير مِن تلك الأحكام والقوانين يتعارض مع ما تمّ اعتباره بوصفه مِن القيَم الحديثة والمعاصرة. وقد ذكر مجتهد شبستري نتيجة مقدّماته على النحو الآتي:

«إنَّ الأصول والنتائج التي ذكرناها توصلنا إلى هذا الموضوع الأساسي، وهي أنَّه مِن اللازم في كلّ عصر مناقشة القوانين والمؤسّسات ذات الصلة بالعلاقات الحقوقيّة في الأسرة والمجتمع والحكم وشكله، والقضاء والحدود والديات والقصاص، والمعاملات، وما إلى ذلك مِن الأمور التي يتمّ العمل بها في مجتمع المسلمين، بمعيار مستوى انسجامها وتناغمها وعدم تناغمها مع إمكان السلوك التوحيدي للناس».[1]

وهنا يتّجه هذا الإشكال المهمّ على مجتهد شبستري، وهو الإشكال القائل: مَنْ هو الشخص الذي يستطيع في مختلف العصور والمراحل أنْ يحدّد ما هو الشيء المتطابق مع السلوك التوحيدي أو لا يتطابق معه؟ وبعبارة أخرى: إنَّ علماء الدين في المذهب الشيعي، وحتّى العلماء في مذهب أهل السنّة، يعملون على أساس الأصول والمباني المأخوذة مِن القرآن والسنّة على استنباط الأحكام الشرعيّة للدين في مختلف الظروف والشرائط الزمانيّة والمكانيّة. ولكنْ مِن وجهة نظر مجتهد شبستري، لا يمكن التعايش في العصر الجديد حتّى مع هذه الأصول والأحكام الثابتة وأخذ الأحكام الجديدة منها، ولكنْ مَنْ هو الذي يجب عليه أنْ يحدّد ما إذا كانت هذه الأحكام تتناسب مع العصر؟ يرى

(87)

مجتهد شبستري أنَّ تشخيص هذا الأمر يقتصر على خصوص العلماء في حقل العلوم الإنسانيّة والعلوم الاجتماعيّة الجديدة، وقال في ذلك:

«لا يمكن التشكيك في هذه المسألة، وهي أنَّ معرفة الحقائق والأسس وآليّات القوانين والأعراف والتقاليد والمؤسّسات في المجتمعات الجديدة والمعقّدة للمسلمين في العصر الراهن، وتناغمها وعدم تناغمها الخارجي والعيني مع موضوع السلوك التوحيدي والتجربة الدينيّة، وتعقيد أو تسهيل ما ليس ممكنًا منها، خارج عن عهدة علوم مِن قبيل: علم الأصول وعلم الفقه والفلسفة والكلام الإسلامي والعرفان والتفسير. إنَّ لكلّ واحد مِن هذه العلوم منزلته الخاصّة، ويمكن أنْ يساعد كثيرًا بالإضافة إلى سائر العلوم الأخرى على اكتساب المعرفة وتجربة السلوك التوحيدي مِن الكتاب والسنّة. وأمّا المعرفة المنشودة والمرتبطة بالدور الإيجابي أو السلبي للقوانين والمؤسّسات على السلوك التوحيدي، فهي تقوم على الإدراك الواسع للعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة مِن جهة، وعلى الوعي العلمي والتجريبي الموسّع عن موضوع ومسار السلوك التوحيدي للإنسان مِن جهة أخرى».[1]

اتّضح ممّا تقدّم ذكره، أنَّ مجتهد شبستري يسعى ـ مِن خلال تفسير الوحي بالتجربة الدينيّة ـ إلى تمهيد الأجواء لتقبّل اعتباريّات العصر الحديث (التي يتعارض بعضها مع أحكام الشريعة الإسلاميّة). يرى مجتهد شبستري أنَّ الثابت الوحيد في شريعة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في كلِّ مرحلة، والذي يجب على أساسه تطبيق الإسلام في كلِّ عصر؛ لا يعدو العقلانيّة والعدالة والواقعيّة

(88)

والرحمانيّة. بيد أنَ ملاك وتحديد هذه الخصائص، إنَّما يقتصر على ذلك المجتمع والأعراف الاجتماعيّة؛ بمعنى أنَّ العقلانيّة والعدالة والواقعيّة والرحمانيّة في كلِّ مجتمع، يجب أنْ تتناسب مع الاعتبارات والعقود الاجتماعيّة لذلك المجتمع، وأنَّ المرحلة التاريخيّة لكلّ مجتمع، ومِن المحتمل في كلّ مرحلة، أنْ يعتبر المجتمع شيئًا عادلًا أو عقلانيًّا ولا يراه المجتمع الآخر كذلك. وعلى هذا الأساس، ليس هناك في الإسلام شيء بوصفه مِن الأصول الثابتة في الفقه أو بوصفه مِن الأحكام الثابتة، بل إنَّها بأجمعها تابعة للشرائط والظروف الزمانيّة والمكانيّة المختلفة والمتغيّرة.

الخاتمة

تمّ السعي في هذه المقالة إلى مناقشة وتحليل أفكار وآراء محمّد مجتهد شبستري مِن زاوية ورؤية خاصّة تعرِّف بمنهجیّته الأساسیّة، وقد تمّ الاهتمام في هذا المسار بتبلور تفكيره في التعاطي مع العوامل والخلفيّات غير المعرفيّة (السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة)، وكذلك العوامل والخلفيّات المعرفيّة (المباني الفلسفيّة والمذاهب والشخصيّات المؤثّرة) أيضًا.

وفي ضوء ما تقدّم، فقد ذهب مجتهد شبستري إلى الاعتقاد بأنَّ منشأ التخلّف السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات الإسلاميّة عمومًا، وإيران خصوصًا ـ في قبال التطوّر والازدهار الذي شهدته الحضارة الغربيّة ـ يكمن في تخلّف المعارف المؤثّرة في إدارة المجتمعات، وهي معارف مِن قبيل العلوم الفقهيّة والكلاميّة. وادّعى ضرورة العمل على إيجاد تحوّلات وتغييرات جوهريّة وجادّة في أسس هذه العلوم والمعارف، على أمل إحداث

 

(89)

الأسس والأصول الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة. وبذلك فقد بدأ مشروعه تحت عنوان «جعل المعنى مِن أجل الحياة الإنسانيّة وتحويل إدارة المجتمعات إلى العقلانيّة الحديثة، في إطار الإجابة عن هذا السؤال. وقد بحث مجتهد شبستري ـ بتأثير مِن الأفكار اللغويّة والهرمنيوطيقيّة ـ أسباب تخلّف العالم الإسلامي في الأسس المعرفيّة المتمحورة حول النصوص الدينيّة لهذه المجتمعات. ومِن هنا، فقد عمل على نقد العقلانيّة الفقهيّة والكلاميّة الغالبة، وبنية العقل الديني، وأسلوب نشاطها وأدائها، وكذلك الآليّات التي أدّت إلى إنتاج الأنظمة الاعتقاديّة المتنوّعة والمغلقة. وقد عمد في هذا المسار ـ ضمن التعرّض إلى التأسيس للمفاهيم الحديثة ـ إلى بيان بعض المصطلحات المفتاحيّة في العالم الإسلامي، كما وقد سعى ـ مِن خلال دراسة نمط تبلور الآليّات التدبيريّة للعقلانيّة الفقهيّة والكلاميّة ـ إلى إثبات تاريخيّتها أيضًا، وعلى إبراز الماهيّة الإيديولوجيّة لكلّ ما يظنّه دينًا حقًّا على نحو الجزم والقطع واليقين؛ لكي يمهد الطريق بزعمه لطرح الفكر المتجدّد، والعمل على تحديث التراث الفقهي والكلامي.

وكما رأينا في تحليل آراء مجتهد شبستري، فإنَّه يميل إلى القيَم الحديثة، وإنَّ مراده مِن الأفكار والقيَم الحديثة هو التعاليم الجديدة وشبه الجديدة، ولا سيّما في حقل الفقه والقانون في المجتمعات المعاصرة، وإنَّ غايته مِن نقد التراث الإسلامي هي فتح الطريق أمام الأفكار الحديثة، واتّباع تلك التحوّلات والتغييرات.

(90)

المصادر

- أسعدي، محمّد وآخرون، آسيب شناسی جريان‌های تفسيری (معرفة آفات التيّارات التفسيريّة)، قم، پژوهشگاه حوزه و دانشگاه، 1392ه‍.ش.

- آشتياني، سيد جلال الدين، شرح مقدمه قيصری بر فصوص الحکم (شرح مقدّمة القيصري على فصوص الحكم)، قم، نشر بوستان كتاب، ط 5، 1380ه‍.ش.

- باربور، علم و دين (العلم والدين)، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: بهاء الدين خرمشاهي، طهران، نشردانشگاهی، 1384ه‍.ش.

- براودفوت، فين، تجربه ديني (التجربة الدينيّة)، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: عباس ديني، قم، موسسه فرهنگی طه، 1377ه‍.ش.

- بوذري نژاد، يحيی، تبيين فلسفی وحی از نظر ملاصدرا (البيان الفلسفي للوحي مِن وجهة نظر صدر المتألهين). فصلنامه علمی و پژوهشی انديشه نوين دينی، العدد: 11، انتشارات دانشگاه معارف اسلامی.

- جوادي آملي، عبدالله، شريعت در آينة معرفت (الشريعة في مرآة المعرفة)، قم، نشر إسراء، 1381ه‍.ش.

- السبحاني، جعفر، هرمنوتيك (الهرمنيوطيقا)، قم، نشر توحيد، 1385ه‍.ش.

- الصفار، محمّد بن الحسن، بصائر الدرجات في فضائل آل محمّد (صلوات الله عليهم)، ص 148، قم، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، 1404ه‍.

- الطباطبائي، السيّد محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: محمّد باقر الموسوي الهمداني، قم، انتشارات جامعة المدرسين في الحوزة العلميّة بقم، 1374ه‍.ش.

- الطباطبائي، السيّد محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، قم، دفتر انتشارات اسلامي، ط5، 1417 ه‍.

(91)

- الطوسي، محمّد بن حسن، التبيان في تفسير القرآن، مكتبة العالم الإسلامي، ط 1، 1409ه‍.

- العروسي الحويزي، عبد علي بن جمعة، تفسير نور الثقلين، قم، مؤسّسة إسماعيليان، ط 4، 1412 ه‍.

- علي خاني، علي أكبر ومساعدوه، روش شناسي در مطالعات سياسي اسلام (المنهج في الدراسات السياسيّة للإسلام)، طهران، نشر: جامعة الإمام الصادق عليهم‌السلام، 1386ه‍.ش.

- فعالي، تجربه ديني و مكاشفه عرفاني، قم، پژوهشگاه فرهنگ و انديشه اسلامی، 1379ه‍.ش.

- القطان، مناع، تاريخ التشريع الإسلامي: التشريع والفقة، دار نشر المعارف الرياض، 1417ه‍.

- القيصري، محمّد داود، شرح فصوص الحكم، إعداد: السيّد جلال الدين الآشتياني، طهران، شرکت انتشارات علمی و فرهنگی، 1375ه‍.ش.

- الكُليني، محمّد بن يعقوب، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلاميّة، 1365ه‍.ش.

- لاريجاني، صادق، معرفت ديني: نقدي بر نظريّة قبض وبسط تئوريك شريعت (المعرفة الدينيّة: نقد على نظريّة القبض والبسط النظري للشريعة)، طهران، مركز ترجمه ونشر كتاب، 1372ه‍.ش.

- اللاهيجي، عبد الرزاق، سرمايه ايمان در اصول اعتقادات (كنز الإيمان في أصول العقائد)، تصحيح: صادق لاريجاني، ط 4، انتشارات الزهراء، 1372ه‍.ش.

- ـــــــــــــــ ، گوهر مراد (الجوهر المراد)، طهران، نشر أنديشه، 1383ه‍.ش.

- مجتهد شبستري، محمّد، «حكومت جهاني اسلام: پايه هاي فكري (11): فلسفه خاص اسلام در مسئله (همزيستي مذهبي)» (حكومة الإسلام العالميّة: الأسس الفكريّة (11): الفلسفة الخاصّة بالإسلام في مسألة (التعايش المذهبي))، المنشور في مجلّة: درسهائي از مكتب اسلام، السنة الثامنة، العدد: 6، أرديبهشت عام: 1346ه‍.ش. (مصدر فارسي).

- ـــــــــــــــ «قرائت نبوي از جهان» (القراءة النبويّة للعالم)، نیلوفر، 31/5/1401.

(92)

https://neeloofar.org/category/professorsresearchers/mojtahedshabestari/prophetic-interpretation-of-the-world/

- ـــــــــــــــ ، ايمان و آزادي (الإيمان والحريّة)، طهران، انتشارات: طرح نو، 1379ه‍.ش.

- ـــــــــــــــ ، نقدى بر قرائت رسمى از دين: بحران ها، چالشها، راه حل ها (نقد على القراءة الرسمية للدين: الأزمات، التحدّيات، الحلول)، طرح نو، 1381ه‍.ش.

- ـــــــــــــــ ، تأملاتى در قرائت انسانى از دين (تأمّلات في القراءة الإنسانيّة للدين)، طرح نو، 1383ه‍.ش.

- ـــــــــــــــ ،«هرمنوتيك و تفسير ديني از جهان»(الهرمنيوطيقا والتفسير الديني للعالم)، فصلنامه مدرسة، العدد: 6، سنة 1386ه‍.ش.

- ـــــــــــــــ ، هرمنوتيك: كتاب و سنت (هرمنيوطيقا الكتاب والسنّة)، طرح نو، ط 8، طهران، 1393ه‍.ش.

- ـــــــــــــــ ، في حوار بعنوان: «شرح يك زندگي فكري و علمي در گفت و گو با محمّد مجتهد شبستري»(سيرة حياة فكرية وعلميّة في حوار مع محمّد مجتهد شبستري)، حاوره: جلال توكليان ورضا خجسته رحيمي، مجلّة (انديشه پويا) الشهرية، العدد الصادر في شهر إسفند عام: 1392ه‍.ش.

- ـــــــــــــــ ، في المؤتمر الوطني، تحت عنوان «پرسش از امكان امر ديني در عصر حاضر: بازخوانی روايت بيژن عبد الکريمی از «امر دينی»» (السؤال عن إمكان الأمر الديني في العصر الراهن: إعادة قراءة رواية بيجن عبد الکريمي لـ «الأمر الديني») الذي انعقد في پژوهشگاه علوم انسانی و مطالعات فرهنگی، بتاريخ: 29 /مهر / 1397ه‍.ش.

- محمّد رضائي، محمّد، «خاستگاه اصلاحات دينی در ايران»(مناشئ الإصلاحات الدينيّة في إيران)، مجلّة قبسات، العدد: 22، شتاء عام 1380ه‍.ش.

(93)

- ـــــــــــــــ ، ومساعدوه، بررسی نقد باورهای انسان محورانه حقوق بشر از ديدگاه برخی نوانديشان دينی (مناقشة ونقد الآراء الإنسانيّة حول حقوق الإنسان مِن وجهة بعض المجدّدين الدينيين)، مجلّة: دو فصلنامه علمی انسان پژوهی دينی، السنة السادسة عشرة، العدد: 24، ص 96، خريف وشتاء عام: 1398ه‍.ش.

- ـــــــــــــــ ، محمّد، نوانديشی و احياگری دينی (التجديد الفكري والإحياء الديني)، قم، نشر بوستان كتاب، 1396ه‍.ش.

- ملاصدرا، صدر المتألهين محمّد بن ابراهيم، تفسير القرآن الکريم، تحقيق: محمّد خواجوي، قم، انتشارات بيدار، ط 2، 1366ه‍.ش.

- هادوي طهراني، مهدي، مباني كلامي اجتهاد در برداشت از قرآن كريم (الأسس الكلاميّة للاجتهاد في فهم القرآن الكريم)، قم، مؤسسة فرهنگي خانه خرد، 1377ه‍.ش.

- واعظي، أحمد، هرمنوتيك (الهرمنيوطيقا)، طهران، مؤسّسة فرهنگي دانش و انديشة معاصر، 1380ه‍.ش.

(94)

 

 

نقد ومناقشة رأي مجتهد شبستري
بشأن جوهرة وصدفة الدين[1]

محمّد كاشي‌زاده[2]

إنَّ مِن بين الأبحاث التي تناولها محمّد مجتهد شبستري في كتاباته، بحث الذاتي والعرضي أو جوهرة وصدفة الدين. وقدّم في هذا الشأن رؤيتين؛ ففي مورد يرى أنَّ جوهر ولؤلؤ الدين تجربة دينيّة، وفي المورد الآخر يعرّف جوهر الدين بوصفه مقصودًا بالذات. يمكن تقييم هاتين الرؤيتين بشكل مستقل؛ ولكنْ يبدو أنَّ مراده مِن طرح بحث المقصود بالذات، هو العثور على نقطة اشتراك بين التجارب الدينيّة المتمايزة مِن بعضها مِن الناحية الماهويّة بشكل كامل. إنَّ نقطة الاشتراك آنفة الذكر تعمل على إيصال التجارب الدينيّة مع بعضها بلحاظ المقاصد إلى نقاط الاشتراك.

نسعى في هذه المقالة إلى بحث ومناقشة هاتين الرؤيتين؛ حيث سنعمد أوّلًا

(95)

إلى بحث العلاقة بين هاتين الرؤيتين، وثانيًا: سوف نبحث في منطق كشف ذاتيّات الدين مِن وجهة نظر شبستري. كما سنعمل على تقييم الأسلوب المتّبع في هذه النظريّة.

المقدّمة

إنَّ الذاتي في قبال العرضي، يعادل مفردة «Substance»في قبال «Accident»؛ ولا بدّ ـ بطبيعة الحال ـ مِن الالتفات إلى أنَّ كلمة «Essence» تستعمل في اللغة الإنجليزيّة للدلالة على معنى الذاتي أيضًا. إنَّ جوهر وصدف الدين في مقام الاستعمال الاصطلاحي، يعدّ معادلًا لهاتين المفردتين. وفي معجم أوكسفورد اللغوي، تمّت ترجمة كلمة «Substance» إلى المادة، والماهية، والجزء الأساسي والمهم للشيء.[1]

وأمَّا في المصطلح الفلسفي ـ حيث ورد استعمال هذه الكلمة للمرّة الأولى مِن قبل أرسطو ـ فقد تمّ استعمال مفردة «Substance» بمعنى «الجوهر» في قبال «العرَض»؛ بمعنى أنَّها تستعمل للدلالة على الكائن الذي يكون وجوده لنفسه ولا يكون تابعًا لغيره، وتستعمل مفردة «Accident» للدلالة على الكائن الذي يكون وجوده لغيره، ويكون في مقام التحقّق بحاجة إلى موضوع، مِن قبيل: الكيفيّات، والأفعال، والروابط، وما إلى ذلك.[2]

إنَّ المعنى الذي يكون هو المراد، ويلاحظ في بحث الذاتي والعرضي مِن الدين، يقرب مِن الاستعمال الثالث لهذه المفردة؛ أي «الجزء الأساسي والهام

(96)

مِن الشيء». وإنَّ العرضي «Accident» الذي يُستعمل في اللغة الإنجليزيّة للدلالة على مفهوم «الصفة العرضية»، يقع في قبال الجزء الذاتي.

يتمّ تقسيم نظريّة الذاتي والعرضي مِن الدين إلى قسمين: أصلي وفرعي. إنَّ هذه النظريّة تشتمل على مدخلين؛ إذ يتمّ بحث جوهر الدين إمّا في حقل «التديّن» وإمّا في حقل «الدين». إنَّ الاتجاه الذي يعتبر الذاتي وصفًا للدين، يرى أنَّ الذاتي هو ذلك الشيء الذي لا يكون الدين مِن دونه دينًا، وأنَّ تغييره يؤدّي إلى إلغاء الدين ونفيه وإبطاله. وفي المقابل، فإنَّ المراد مِن العرَضي هو الذي كان يمكنه أنْ يكون على شكل آخر، وإنْ كان الدين لا يخلو مِن نوع مِن أنواعه أبدًا. تقوم فرضيّة الاتجاه المذكور آنفًا على أنَّ جزءًا مِن الدين، عبارة عن عناصر تفوّق التاريخ والعالم، ولا تتغيّر أو تتحوّل بمرور الزمان، ويكون قوام الدين بهذه العناصر. وأمّا القسم الآخر الذي يُعدّ القشرة والصدف المحيط بالعناصر المقوّمة، فهو عبارة عن الأمور التي تفهم في ضوء الارتباط بالتاريخ والثقافة والظروف والشرائط الزمانيّة والمكانيّة، وبالتالي فإنَّ عرَضيّات الدين في هذا المعنى، هي الأمور التي تحمل على عاتقها مهمّة نقل الجوهر مِن ثقافة إلى ثقافة أخرى، وفي أثناء النقل الثقافي يجب أنْ يطرأ عليها تغيّر وتحوّل.

وفي المقابل، فإنَّ الاتجاه الذي يبحث عن جوهر (ذاتي) الدين في حقل «التديّن»، يرى أنَّ الذاتي وصفًا لحالة المكلّفين، وينظر إلى الدين بنظرة ورؤية داخليّة وذاتيّة. مِن خلال تقسيم «التديّن» إلى قسمين، يتمّ التعبير عن المراحل الظاهريّة والقشريّة مِن التديّن بالعرَضي، كما يُسمّى الوصول إلى لبّ وروح

(97)

التديّن الذي يجعل الفرد مستغنيًا عن الطبقة والقشرة الظاهريّة بـ «ذاتي الدين». وبالتالي، فإنّه في الاتجاه الأول يتمّ النظر إلى المسألة بنظرة عينيّة وخارجيّة، وفي الاتجاه الثاني يكون المنظور هو أمر ذاتي وداخلي.

وفي بعض الأبحاث تمّت الإشارة إلى معنى آخر لجوهر أو ذاتي الدين. وعلى هذا الأساس، تمّ اعتبار المشتركات بين الأديان المختلفة بوصفها ذاتيّ الدين، كما تمّ التعبير عن نقاط الاختلاف بـ «صدف الدين».[1] ولكنْ لا بدّ مِن الالتفات إلى أنَّ هذا المعنى، ليس هو مراد الذين يبحثون عن الذاتي والعرضي مِن الدين؛ إذ إنَّهم بصدد العثور على الطبقات المتغيّرة والنواة الثابتة للدين؛ ليتمكّنوا مِن تقديم وصفة ناجعة عن الدين في العالم الحديث.

إنَّ محمّد مجتهد شبستري برؤية عامّة، يرى أنَّ جوهر الدين تجربة دينيّة. وعلى هذا الأساس، يمكن لنا أنْ ندرج رأيه ضمن تلك المجموعة مِن النظريّات التي تبحث عن جوهر الدين في دائرة «التديّن». وعلى الرغم مِن أنَّ بحثه ينسحب إلى حقل «الدين» أيضًا، ولكنْ حيث أنَّ ملاك التقسيم في كلا الاتجاهين، هو الأمر المتّخذ بوصفه جوهر الدين، دون الموارد المستفادة. وهو بدوره يعتبر جوهر الدين عبارة عن التجربة الدينيّة، يمكن تصنيفه ضمن أولئك الأشخاص الذين يبحثون عن جوهر الدين في دائرة «التديّن».

مفهوم الذاتي (ماهيّة الذاتي مِن وجهة نظر مجتهد شبستري)

يطرح محمّد مجتهد شبستري استعمالين مختلفين للذاتي والعرَضي للدين. إنَّ استعمال مفردة الذاتي في هذين الموردين ليس بمعنى واحد؛ ومِن هنا يجب

(98)

بحثهما بشكلٍ مستقلٍّ. ففي مورد، يرى أنَّ جوهر الدين تجربة دينيّة متأثّرة بالأبعاد الإنسانيّة الأربعة، وهي: التاريخ، واللغة، والمجتمع، والجسم. وعلى هذا الأساس، سوف يكون لجوهر الدين عدد مِن الخصائص الأصليّة، وهي عبارة عن:

أ) الحيويّة.

ب) الشخصيّة.

ج) الخفاء.

د) عدم الثبات.

لازم هذه الرؤية نفي البنية التشريعيّة للدين، وكذلك لزوم الانسيابيّة والحفاظ على بقاء التجارب الدينيّة وعدم الاكتفاء بالتجارب الدينيّة لعصر النزول. وبالتالي، فإنَّ الذي يُعدّ ملاكًا للتديّن، هو تطابق السلوك والأفعال مع التجارب الدينيّة في المرحلة الراهنة، لا أنْ نروم الوصول إلى ضبط عمل المؤمنين على أساس القواعد والضوابط الدينيّة.

والمعنى الآخر للذاتي المشار إليه في رؤية مجتهد شبستري، هو المقصود بالذات في قبال المقصود بالعرَض. فقد عمد في هذا التقسيم إلى بحث الدين بلحاظ مقاصده وقيَمه، وقال بأنَّ المقاصد الثانويّة، إنّما تكون ذات قيمة مِن حيث كونها مقدّمة فقط، وإنّما يتمّ طرحها بمقتضى الحقائق الاجتماعيّة لتلك المرحلة. إنَّه يرى أنَّ الأسلوب الوحيد المعتبر في كشف المقاصد مِن الدرجة الأولى والثانية، هو علم الظواهر التاريخيّة؛ ويذهب إلى الاعتقاد بعدم إمكان الوصول إلى هذا الأمر المهمّ بالأسلوب الديني.

(99)

إنَّ لكلٍّ مِن الرأيين المقدّمين في باب الذاتي والعرضي للدين، قابليّة البحث والتدقيق المستقل، وفي الوقت نفسه مِن اللازم ملاحظة الارتباط بين هذين الرأيين. وفيما يتعلق بالارتباط بين هذين الرأيين؛ أي ماهية تعريف ذاتي الدين بـ «المقاصد بالذات» و«التجربة الدينيّة»، يمكن مناقشة وبحث مختلف الفرضيّات: أوّلًا إنَّ هذين الرأيين يمثّلان رؤيتين مختلفتين، ويجب بحث كلّ واحدة منهما بشكل مستقلٍّ؛ إنَّ «المقاصد بالذات» تنطلق بالبحث مِن زاوية غاية الدين، و«التجربة الدينيّة» من زاوية مبدأ الدين.

كما يمكن أخذ هذا الوجه في الجمع بين هذين الرأيين بنظر الاعتبار أيضًا: يقوم الفرض على أنَّ جوهر الدين هو التجربة الدينيّة، إلّا أنَّ واحدًا مِن ملاكات معرفة وتعيين جوهر الدين، هو كونه مقصودًا بالذات. توضيح ذلك، أنَّ الوحي يُعدّ نوعًا مِن التجارب الدينيّة، وأنَّ الدين في الأصل لم يكن له بنية تشريعيّة ـ كما نشاهده حاليًّا ـ وقد أوجد تحوّلات تاريخيّة واجتماعيّة لنظام عقائدي واجتماعي محدّد. وعلى هذا الأساس، فإنَّ حفظ وبقاء الدين، إنّما سيكون له معنى صحيح، إذا كانت الشريعة تقوم على تجربة إيمانيّة سيّالة وحيويّة وتواصل استمرارها على مرّ الزمن. وحيث أنَّ جوهر الدين، يشتمل على بعض الخصائص الأصليّة، والتي هي عبارة عن: الحيويّة، والشخصيّة، والخفاء، وعدم الثبات؛ فإنَّ التجربة الدينيّة سوف تكون أمرًا شخصيًّا بالكامل، وإنَّ جميع الهوية الدينيّة وملاك التديّن يكمن في امتلاك هذا الجوهر، وليس التبعيّة لنظام سلوكي. وكذلك بناء على أنَّ التجربة الدينيّة أمر شخصي وخفيّ وحيويّ وغير ثابت؛ فإنَّ الذي يمكنه العمل على ربط

(100)

جوهرين شخصيين تمامًا ومنفصلين عن بعضهما بالكامل، هو الاشتراك في الغاية، وليس في ذات وماهية التجربة الدينيّة. وعلى هذا الأساس، فإنَّ محذور عدم إمكان الاشتراك الماهويّ بين تجربتين دينيّتين شخصيّتين بشكل كامل، قد مهّد الأرضيّة لاتخاذ ملاك ومعيار مِن خارج التجربة الدينيّة، وهو معيار الاشتراك في غايات التجارب الدينيّة.

وعلى هذا الساس، فإنَّ الذي يتمّ طرحه بوصفه جوهر الدين، هو التجربة الدينيّة. إنَّ التجربة الدينيّة لكلِّ فرد أمر شخصي تمامًا، ويمتاز مِن التجارب الدينيّة للآخرين بما في ذلك شخص النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضًا، وهذا الأمر يؤدّي إلى عدم إمكان نسبة دين واحد إلى شخصين مختلفين. إنَّ طريقة حلّ هذه المشكلة تكمن في تعيين ملاك يمكن مِن خلاله إدراج تجربتين دينيّتين ضمن ملاك واحد، وحيث لا يمكن القيام بهذا الأمر بلحاظ ماهيّة التجربة الدينيّة؛ فإنَّه يصار إلى اعتبار هذا الملاك بلحاظ غاية التديّن. ومِن هنا، عمد مجتهد شبستري إلى بحث غايات حركة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله، ومِن خلال فصل الغايات بالذات عن الغايات بالعرض أو الغايات الوسيطة، قدّم ملاكًا جديدًا في اشتراك ووحدة مسار التديّن بين المؤمنين مع الاختلاف في أداء وسلوك المؤمنين، وكذلك الاختلاف الماهوي للتجارب الدينيّة.

ذاتي الدين أو المقصود بالذات في قبال المقصود بالعرض

إنَّ مِن بين المعاني التي يذكرها محمّد مجتهد شبستري بشأن الذاتي، هو «المقصود بالذات» في قبال «المقصود بالعرَض». إنَّ مجتهد شبستري في بحث التوحيد لا يرتضي العلاقة الخاصّة بين الله تعالى والفرد بوصفه نبيًّا، وإلقاء الوحي

(101)

المنطوق عليه؛ وذلك بسبب محذور العلاقة بين الثابت والمتغيّر. ومِن ناحية أخرى، يذهب في البحث الأنثروبولوجي إلى الاعتقاد بأنَّ النبيّ ـ بوصفه إنسانًا ـ إنّما يبيّن رؤيته التفسيريّة للعالم، ولا يرى بيان النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ذا قيمة خبريّة؛ بل هو مجرّد تفسير وبيان إنشائي عن العالم المحيط به. استنادًا إلى هذين المبنيين ونفي الوحي المنطوق، لا يمكن بحث عن الوحي بلحاظ مبدئه في مقام معرفة الوحي؛ وبالتالي فإنَّه يبحث هذا المفهوم بلحاظ الغاية والقصد. وتفسيره النهائي للوحي، هو كلّ كلام يؤدّي إلى إحداث تغيير في المخاطب، مِن أيّ شخص صدر هذا الكلام وفي أيّ مكان أو زمان؛ والكلام النبويّ هو الكلام الذي يحدث تغييرًا. وعلى هذا الأساس، يصبح مبدأ الدين بشكل عام «معلقًا»، والذي يكون مهمًّا بالنسبة له في البحث الديني، هو غايته ومقصده. ومِن ناحية أخرى، حيث يمكن لمقاصد الدين أنْ تنقسم إلى مقاصد نهائيّة ومقاصد وسيطة، فإنه يُسمّي المقاصد النهائيّة بالمقصود بالذات، ويرى أنَّ المقاصد الوسيطة ـ التي تشكّل الأرضيّة للوصول إلى المقاصد النهائيّة ـ مقصودة بالعرَض. وقد عمد إلى بيان رأيه مِن خلال طيّ هذه المقدّمات:

المقدّمة الأولى: هناك في رسالة ودعوة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مثل كلّ نبي وصاحب رسالة أخرى ـ هناك طائفتان مِن القيَم والمقاصد؛ حيث تكون طائفة مِن القيَم والمقاصد نهائيّة، وطائفة أخرى مِن القيَم تُعدّ مقدّمة ووسيلة إلى تحقّق المقاصد النهائيّة. إنَّ المقاصد مِن الدرجة الثانية إنَّما كانت منشودة للنبي بوصفها وسيلة فقط، وإنَّما يتمّ الركون إليها؛ لأنَّ الشرائط التاريخيّة والاجتماعيّة والاقصاديّة والسياسيّة ـ وبكلمة واحدة: الحقائق الاجتماعيّة

(102)

لمنطقة الحجاز (المركز الجغرافي لدعوة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله) ـ هي التي كانت تستوجبها. لا يمكن إنكار هذه الحقيقة، وهي أنَّ رسالته كانت تترك تأثيرًا في الحقائق الاجتماعيّة؛ أي في المعتقدات والقيَم والأخلاق والآداب والتقاليد والمعاملات والقواعد السلوكيّة للناس فيما بينهم، وتعمل على تنظيمها.

المقدّمة الثانية: إنَّ سلوك النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد تبلور على أساس طرح وبنية عقلائيّة، ولا يمكن إنكار هذا الأسلوب مِن الناحية التاريخيّة. إنَّ دراسة طريقة وأسلوب تعامل النبيّ مع المجتمع المنظور، يثبت أنَّه في جميع مراحل حياته قد عمل بجهوده ـ التي لا تعرف الكلل والملل ـ على توظيف جميع الأساليب العقلائيّة في عصره.

المقدّمة الثالثة: تقوم على هذا الأصل القائل بأنَّ فهم ثنائيّة المقاصد والقيَم والأحكام المرتبطة بها، لم تكن قابلة للتشخيص بالنسبة إلى المخاطبين في عصر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ وذلك أوّلًا: لأنَّ المخاطبين في تلك المرحلة، كانوا يرزحون تحت تأثير القيادة والشخصيّة الكارزميّة للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله. وثانيًا: إنَّ الناس عادة لا يستطيعون الانفصال والابتعاد عن الزمان الذي يعيشون فيه، ليعثروا بأنفسهم على التفكيك والفصل بين ما بالذات وما بالعرض والاتفاقيّة في المقاصد والقيَم. فهذا لا يكون إلّا في مقدور اللاحقين؛ إذ يستطيعون بوساطة النظرة والرؤية الظاهراتيّة التاريخيّة تبويب مقاصد وقيَم أسلافهم.[1]

وبالتالي، فإنّه مِن خلال تطبيق هذا الأسلوب، يصل إلى نتيجة مفادها: أنَّ رسالة ودعوة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مثل كلّ رسالة ودعوة أخرى ـ تنطوي على

 
(103)

سلسلة مِن المقاصد والقيَم النهائيّة التي تمثّل ذاتيّات رسالته ودعوته، وسلسلة أخرى مِن المقاصد والقيَم الفرعيّة والثانويّة التي لا تكون منشودة ومطلوبة لذاتها، وإنّما هي مجرّد وسيلة لتحقّق الطائفة والسلسلة الأولى في ذلك العصر، ولا تكون مطلوبة إلّا بسبب الظروف التاريخيّة والاجتماعيّة التي تستوجبها.[1]

إنَّ مجتهد شبستري بناء على أصل الظاهراتيّة التاريخيّة، يصل إلى نتيجة مفادها أنَّ الشهود الظاهراتي للدين بعد مضي أربعة عشر قرنًا مِن الزمن، يضع أمامنا واقعتين، وهما:

1. المركز الأصلي لظاهرة النبوّة والرسالة.

2. الإطار الاجتماعي المادّي والمعنوي/ التاريخي الذي حدثت فيه هذه الظاهرة.[2]

وبعد تفكيك وبيان عناصر كلتا المقولتين، يذهب محمّد مجتهد شبستري ـ في ضوء الأسلوب المذكور آنفًا ـ إلى الاعتقاد بأنَّ اعتبار الحكم الشرعي في كلِّ عصر، يكمن في كيفيّة إمكان «السلوك التوحيدي».[3]

والنتيجة، هي أنَّ الذي ينقسم بالأصالة إلى الذاتي والعرَضي، هي المقاصد والقيَم التي كانت منشودة للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله. وتبعًا لذلك، تنقسم القيَم والمقاصد والأعمال والأحكام بدورها إلى قسمين؛ إذ تنقسم إلى الذاتي والعرضي أيضًا. إنَّ الذاتيّات هي القضايا الوحيدة المقوّمة للتوحيد؛ إذ إنَّ التوحيد لا يتجلّى في أيّ ثقافة، إلّا وهو يصطحب هذه القضايا معه ضرورة،

(104)

وكلّ ما كان مِن غير هذه القضايا، وكان بحكم المقدّمة للوصول إليها؛ اكتسب حكم العرَضي، ويكون معيار اعتبارها عصري أوّلًا، ويكون ثانيًا تابعًا لشكل وطريقة تحقّق «السلوك التوحيدي».

مناقشات وملاحظات

هناك بعض الغموض والإبهامات والأسئلة الجادة أمام نظريّة المقصود بالذات:

فأوّلًا: هل المقصود بالذات هو الذاتي؟

وثانيًا: هل تعدّ الظاهراتيّة التاريخيّة أسلوبًا معتبرًا في كشف المقاصد بالذات؟

وثالثًا: لو كان توظيف هذا الأسلوب متناقضًا مع كلمات أصحاب الشريعة في مختلف المراحل الزمنيّة، هل يكون التقدّم لها أم لكلام أصحاب الشرائع؟

ورابعًا وأخيرًا: ما هو منطق الوصول مِن المقصود بالذات إلى ذاتي الدين؟ وكيف تمّ اجتياز هذا الطريق في ضوء هذه النظريّة؟

ادّعاء مِن دون دليل

يذهب محمّد مجتهد شبستري إلى الادّعاء بأنَّ كلّ ما وصلنا مِن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله غير السلوك التوحيدي، يُعدّ مِن العرَضي للدين، ويجب تحقيقه على أساس الشرائط الزمنيّة الراهنة. لا بحث ولا نقاش في أنَّ العنصر الأكثر أصالة والهدف والغاية بالذات مِن تبليغ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله، هي الدعوة إلى التوحيد؛ كيف يمكن أنْ نصل مِن خلال الظاهراتيّة التاريخيّة إلى القول بأنَّ كلّ ما يصلنا مِن غير التوحيد يعتبر مِن عرَضي الدين، ومِن مقتضيات مجتمع عصر نزول القرآن الكريم وتبلور الدين؟.

(105)

الظاهراتيّة وضرورة تصرّم التاريخ

إنَّ الادّعاء الآخر الذي يذكره مجتهد شبستري ولا يستند إلى دليل، هو وجوب تصرّم التاريخ للتعرّف على الأمر التاريخي ظاهراتيًّا. إنَّ سلوك الاتجاه الظاهراتي والكشف عن المقاصد بالذات، وتمييزها مِن المقاصد بالعرَض؛ ليس بالأمر الذي يحتاج إلى تعاقب الزمن. ومِن ناحية أخرى، يطرح هذا السؤال نفسه وهو: كيف غفل الأئمة المعصومون عليهم‌السلام ـ وكانوا بأجمعهم قد عاشوا في أزمنة متأخّرة عن تبلور الدين ـ عن هذا الأمر الظاهراتي؟ ثم إنَّه لماذا لم يقم النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه بهذا التفكيك؛ مع أنّه كان يدّعي أنَّ دينه هو خاتم الأديان، وأنّه صالح للتطبيق في جميع الأزمنة والأمكنة؟ ألم يكن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يعلم أنَّ جميع تعاليمه وأحكامه ـ غير ما كان منها مِن التوحيد ـ ليست سوى عرضيّات لا يكون الغرض منها سوى الوصول إلى التوحيد؟ ألم يكن مِن الواجب عليه أنْ يأمر بتغيير الأحكام عند تغيّر الظروف والشرائط، ويضع هذا الأمر بوصفه قاعدة تهدف إلى الحفاظ على حيويّة الدين وحفظه؟

ملاك حجيّة التوحيد بوصفه مقصودًا بالذات للدين

يرى محمّد مجتهد شبستري أنَّ «المقصود بالذات» للدين الإسلامي، يقوم على أساس الظاهراتيّة التاريخيّة للسلوك التوحيدي. على فرض تسليم حجيّة الرؤية المتّخذة في معرفة المقصود بالذات، يبقى مجال هناك متّسع لبعض الأسئلة، ومنها:

أوّلًا: هل «سلوكه التوحيدي» وحده هو المقصود بالذات؟ أم «تجربة

(106)

التوحيد« أو قضيّة «لا إله إلا الله«؟ إنَّ «السلوك التوحيدي» يعود إلى أعماله ونشاطاته، وقضيّة «لا إله إلا الله» تعود إلى رؤيته ومعتقداته، و«التجربة التوحيديّة» بدورها تعدّ ثمرة لسلوكه الداخلي وبنائه الفردي والشخصي لنفسه. إذا كان ملاك العمل توحيديًّا، يرِد هذا الإشكال؛ وهو أنّه ما لم يتم الإتيان بجميع أجزاء الدين الإلهي بشكل كامل، لا يُكتب التحقّق للعمل والأداء التوحيدي. وإذا كان المقصود هو الاعتقاد التوحيدي فقط، يمكن السؤال: أيّ تقرير عن التوحيد هو المراد؟ وما هو الدليل على اعتبار التوحيد ملاكًا للتبعيّة؟ وعلى أيّ أساس يكون صحيحًا؟ هل يكون التوحيد حجّة بسبب الدعامة الاستدلاليّة، أم الظاهراتيّة التاريخيّة بدورها ملاك لمعرفة المقصود بالذات وتشتمل كذلك على الحجيّة في التبعيّة أيضًا؟ على فرض اعتبار التجربة التوحيديّة للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مقصودة بالذات، فمع القول بشخصيّة التجارب الدينيّة؛ كيف تثبت الحجيّة للتبعيّة للتجربة الدينيّة وكلام النبيّ؟ وإذا كانت التبعيّة للتوحيد هي الملاك بوصفها تجربة دينيّة، فحيث تكون التجربة الدينيّة أمرًا شخصيًّا بالكامل وسيّالة وصمّاء ومبهمة؛ لا يمكن أنْ نتوقّع مِن جميع التجارب الدينيّة أنْ تؤدّي إلى التوحيد. إنَّ التجربة الدينيّة أمر سيّال وغير قابل للتجسم والتشكّل، وإذا أردنا أنْ نحدّد لها ـ بشكل مسبق وعلى طول الزمان وبالنسبة إلى الأفراد ـ قيودًا وأطرًا؛ فسوف نحتاج أوّلًا إلى إطار معياري خارجي محدّد، وأنْ نعمل ثانيًا على إخراج التجربة الدينيّة مِن حالتها السائلة، وأنْ نقيّدها ـ بناء على فرصيّة مجتهد شبستري ـ في قالب بنيويّ تشريعي سابق ومتحجّر.

 

(107)

العلاقة بين المقصود بالذات وذاتي الدين

هل يمكن اعتبار المقصود بالذات هو الذاتي نفسه، والمقصود بالعرَض هو عرَضيّ الدين؟ ألا ينبغي ويمكن أنْ نحدث تفكيكًا بين أهداف الدين وذات الدين؟ إنَّ الذاتي والعرضی اللذين ينظران ـ بحسب المصطلح ـ إلى القضايا، إنّما يطرحان إذا تمّت المقارنة بين نوعين مِن القضايا فيما بينهما؛ وعندها فإنَّ تلك الطائفة مِن القضايا ذات البُعد الزمني والمؤقّت، تسمّى بـ «عرضي الدين». وفي المقابل، فإنَّ تلك الطائفة التي لا تختصّ بالشرائط الزمانيّة والمكانيّة والثقافيّة لعصر نزول الدين، وتتماشى مع الدين دائمًا، ولا يكون الدين مِن دونها دينًا، تسمّى بـ «ذاتي الدين». وأمّا عند التفكيك والفصل بين المقصود بالذات وبالعرَض، يتمّ تقييم سنخين مِن الأهداف ومقارنتهما إلى بعضهما. يمكن لنا في كلّ حركة أنْ نأخذ بعين الاعتبار نوعين مِن الأهداف الوسيطة والأهداف الغائيّة، وبطبيعة الحال فإنَّ الهدف الغائي النهائي، والذي يكون بالذات هو الهدف الذي تعدّ جميع الأهداف الأخرى بالنسبة له أهدافًا وسيطة؛ بيد أنَّ ترتيب الأهداف على بعضها واعتبار بعضها مقدّمة للبعض الآخر، لا يعني ذاتيّة بعضها وعرضيّة بعضها الآخر. مِن ذلك على سبيل المثال، أنَّه قد يرى شخص الدين جامعًا وكاملًا وخاتمًا، وعلى هذا الأساس يعتبر جميع القضايا الدينيّة ذاتيّة ويراها مِن ذاتي الدين، ويرى في الوقت نفسه أنَّ مقاصد الدين يمكن تقسيمها إلى ما بالذات وما بالعرض. ومِن هنا، فقد تمّ القول بأنَّ مِن بين آفات هذه الرؤية هو الخلط بين الذاتي والعرَضي مِن الدين، وبين المقصود بالذات والمقصود بالعرَض.[1]

(108)

منطق الوصول مِن المقصود بالذات إلى الذاتي

كما سبق أنْ ذكرنا في البحث السابق، لا يمكن اعتبار المقصود بالذات والذاتي بمعنى واحد؛ وبالتالي فإنَّ على المنظّر أنْ يصل مِن المقصود بالذات إلى ذاتيّ الدين عبر مشروع ومسار منطقي. وبعبارة أخرى: على الرغم مِن عدم إمكان اعتبار المقصود بالذات مساويًا لذاتيّ الدين، ربَّما أمكن عبر مسار مِن الوصول إلى ذاتيّ الدين مِن المقصود بالذات. إنَّ مجتهد شبستري تعرّض إلى هذه المسألة بشكل مجمل للغاية، وهي ما هو منطق الوصول مِن المقصود بالذات إلى الذاتي؟ وعند الخوض في مقاصد الدين، قسّم الأقوال والأعمال والأحكام تبعًا لذلك إلى نوعين، وهما: الدرجة الأولى وبالذات، والدرجة الثانية وبالعرَض.[1]

لا بحث في إمكان التفكيك والفصل بين مقاصد وأهداف حركة شخص، وتقسيمها إلى ما بالذات وما بالعرَض، كما أنَّه لا يوجد إشكال في أنَّ الأفعال تقبل هذا التقسيم تبعًا للأهداف أيضًا؛ بيد أنَّ البحث الأصلي هنا يكمن في السؤال القائل: ما هو المنطق المتّبع مِن قبل مجتهد شبستري في الوصول مِن المقصود بالذات إلى الذاتي، ومَنْ المقصود بالعرَض إلى العرضي؟ إنَّ معيار العرَضي في الدين، هو أنْ يكون بإمكانه في كلِّ مرحلة زمنيّة بل ويجب أنْ يتغيّر تبعًا لذات تلك الشرائط؛ وأمّا اعتبار هدف أو سلسلة مِن الأعمال ملاكًا بالعرَض، هو أنْ لا تكون قيمتها غائيّة ونهائيّة، بل تكون واسطة في الوصول إلى قيمة نهائيّة أخرى.

(109)

إنَّما يصحّ العبور مِن المقصود بالعرَض إلى العرضي ويكون منطقيًّا، إذا أمكن لنا أنْ نثبت أنَّ هناك طرقًا متنوّعة وقابلة للاستبدال مِن أجل الوصول إلى الهدف الغائي آنف الذكر، وأنَّ الأهداف الوسيطة مورد نظر الدين في مرحلة، إنَّما كانت هي واحدة مِن الطرق الممكنة ـ وليست الحصريّة ـ في ذلك الزمان، والتي اختارها النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله للوصول إلى الهدف الغائي، ولم يكن لديه أيّ إصرار على سلوك هذا الطريق الخاصّ وتوسيط الأهداف المذكورة آنفًا. وفي غير هذه الحالة، لا يوجد هناك ما يُبرّر استبدال أفعال وسلوك مخالف لما كان في عصر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ مِن الممكن أنْ تكون هناك علاقة وارتباط حصري بين الأهداف الوسيطة والهدف الغائي.

وحتّى إذا لم يكن هناك طريق حصري، يجب على مجتهد شبستري أنْ يستدلّ على حجيّة الطريق المعروض البديل وإمكانيّة اختياره، وحجيّة التخلّي عن الطريق السابق المطروح مِن قبل الدين، لا أنْ يتحدّث عن تحديث وعصرنة التشريعات بشكل مطلق.

تلازم جوهر وصدف الدين

إنَّ الادّعاء بأنَّ جميع القضايا والمعارف الموجودة في الكتاب والسنّة، ليست في رتبة واحدة، ليس بمنزلة تقسيمها إلى الذاتي والعرَضي. وبعبارة أخرى: إنَّ اعتبار بعض المفاهيم والتعاليم الدينيّة مقدّمة لبعضها الآخر، ليس مِن باب المقدّمة في الحدوث فقط، بل إنَّ المفاهيم التمهيديّة في الشريعة، كما هي مقدّمة في الحدوث، فهي مقدّمة في البقاء أيضًا. توضيح ذلك، أنَّ بعض المقدّمات هي مِن قبيل السلم الموصل إلى السطح، حيث تكون نافعة في حدوث ذي

 

(110)

المقدّمة فقط، ولا يكون ذي المقدّمة محتاجًا إليها في بقائه؛ ولكنْ ليس كلّ المقدّمات على هذه الشاكلة، بل إنَّ بعض المقدّمات تعتبر شرطًا وجوديًّا لذي المقدّمة حدوثًا وبقاء، مِن قبيل التحصيل الدراسي في المرحلة الابتدائيّة بوصفه مقدّمة للوصول والانتقال إلى المرحلة المتوسّطة مِن الدراسة؛ بيد أنَّ مواصلة الدراسة في المرحلة المتوسّطة رهن ببقاء المعلومات التي حصل عليها الطالب في المرحلة الابتدائيّة، وعلى فرض نسيان الطالب للمعلومات التي حصل عليها في المرحلة الابتدائيّة، سوف يستحيل عليه البقاء والاستمرار في الدراسة في المرحلة المتوسّطة. إنَّ هذه المسألة مستعملة بشكل دقيق في المقدّمات وذواتها المحدّدة مِن قبل الدين. بمعنى: صحيح أنَّ بعض التعاليم تشكّل مقدّمة لبعض التعاليم الأخرى، بيد أنَّ وجود وبقاء ذوات المقدّمات الدينيّة رهن بوجود وبقاء هذه المقدّمات.

الذاتي بمعنى التجربة الدينيّة للأفراد

يذهب مجتهد شبستري إلى الاعتقاد بأنَّ الدين في بداية ظهوره، لم يكن يحتوي على بنية تشريعيّة، وإنَّما تمّ طرحه وبيانه على مجرّد الإيمان. ولكنْ أخذ النظام العقائدي والاجتماعي يبدأ بالتشكّل والظهور التدريجي في العالم الإسلامي بمرور الزمن وبفعل التحوّلات التاريخيّة والاجتماعيّة، وبذلك ظهر علم الفقه على نحو ما هو موجود حاليًّا، وكان هذا كلّه ثمرة سلسلة مِن التحوّلات التاريخيّة والاجتماعيّة طيلة تاريخ الإسلام.[1]

(111)

ولكي يدخل مجتهد شبستري في بحث التجربة الدينيّة بشأن جوهر الدين في بحث التعدديّة الدينيّة، فإنَّه يُشير إلى المباني السابقة الضروريّة للقول بالتعدديّة، والتي لا يكون الدخول في التعدديّة مِن دونها ممكنًا. إنَّ مِن بين هذه المباني السابقة، هي التجربة الدينيّة بوصفها جوهر الدين؛ وذلك لأنّنا لو اعتبرنا التجربة الدينيّة جوهر تديّن الإنسان، فإنَّ تجليّات تلك الواقعيّة النهائيّة، سوف تظهر في كلِّ مكان على شكل مختلف. إنَّ التجربة الإنسانيّة أمر ظاهري، وليست هناك تجربة مِن دون تفسير، وعندما يتمّ تفسير التجربة، فإنَّها تتأثّر بالثقافة؛ إذ إنَّ القيود الأربعة المحيطة بالإنسان ـ وهي: القيود التاريخيّة، والقيود اللغويّة، والقيود الاجتماعيّة، والقيود الجسديّة ـ سوف تترك تأثيرها على تجربته. ونتيجة لذلك، فإنَّ القضايا التي يتمّ بيانها على شكل عقائد، يمكن لها أنْ تكون مختلفة، ويكون لها في الوقت نفسه حظٌّ مِن الحقيقة أيضًا.[1] وعلى هذا الأساس، فإنَّ القضايا الدينيّة المطلقة التي تمّ بيانها للفرد مع بعض القيود، تبدو مطلقة، وفي الوقت نفسه لا تؤدّي إلى نفي القضايا الدينيّة المقبولة مِن قبل الآخرين.[2]

إنَّ هذه النظرة المتمركزة على الاتجاه الوجودي، تعتبر جوهر الدين مشتملًا على بعض الخصائص الأصليّة، وهي عبارة عن: الحيويّة، والشخصيّة، والخفاء، وعدم الثبات. بمعنى أنَّ الفرد على الرغم مِن جميع القيود الزمانيّة والمكانيّة والتاريخيّة المحيطة به، قد تمكّن مِن إقامة الارتباط

(112)

مع المطلق، والاستفادة مِن ذلك الأمر المطلق بمقدار محدوديّاته الإنسانيّة. في هذه الرؤية، تمّ اعتبار الوحي بدوره نوعًا مِن التجارب الدينيّة أيضًا، ويتمّ التعرّض بهذا النموذج المعرفي لجميع مسائل الدين أيضًا.[1]

مِن خلال اعتباره التجربة الدينيّة جوهر الدين، والتسليم بهذا الأمر القائل بأنَّ الدين كان في نهاية أمره قائمًا على الإيمان دون الشريعة؛ يعمد مجتهد شبستري إلى بيان فهمين للشريعة، وهما:

أ) الشريعة المتحجّرة أو الشريعة المترسّبة، وهي الشريعة المتبلورة على شكل آداب وتقاليد ونظام عقائدي واجتماعي.

ب) الشريعة التي تكون تجليّاتها التاريخيّة والاجتماعيّة والجسمانيّة واللغويّة دينيّة وحيويّة وناشطة.

يذهب شبستري إلى قبول المعنى الثاني مِن الشريعة فقط، وهو الذي يمكن أنْ يكون منسجمًا مع التجربة الإيمانيّة وسيّالًا وحيويًّا.[2] إنَّ لازم هذا التفكيك، هو اعتباره ملاكًا ومعيارًا لتقييم الشريعة، والانسجام مع إحياء التجربة الدينيّة للمسلمين، والحفاظ على حيويّته. وعلى هذا الأساس، يتمّ الفصل بين حقل الفقه الذي يمثّل مبدأ لنظام حقوقي، وبين الشريعة بوصفها مِن المظاهر العمليّة للتجربة الدينيّة. إنَّ الفقه يعمل على تنظيم العلاقات الدنيويّة للأفراد فيما بينهم على مختلف السطوح والمستويات، بيد أنَّ العمل به ليس ملاكًا للتديّن؛ وإنَّما الذي يرتبط بالدين والتديّن، هو أنْ يتّضح

(113)

ما هو السلوك الذي يقوّي التجربة الدينيّة، وما هو السلوك الذي يعمل على إضعافها.[1]

مناقشات وملاحظات

إنَّ الخلل الأهم الذي تعاني منه هذه النظريّة، والذي تعاني منه الاتجاهات المتمرکزة على التديّن بشكل عام، هو الخلل الذي يتّجه إلى مبنى معرفته الدينيّة. إنَّ هذا الاتجاه حوّل الدين إلى تجربة دينيّة، وعلى هذا الأساس فقد تورّط في الكثير مِن المشكلات.

خفض الدين إلى مستوى التجربة الدينيّة

إنَّ مِن بين الإشكالات التي يتمّ توجيهها إلى القائلين بأنَّ جوهر الدين عبارة عن تجربة دينيّة، هو أنَّهم يخفّضون الدين إلى حدود التجربة الدينيّة، ويعتبرونها في مقام التعريف مساوية لتجربة الشخص المتديّن. مِن ذلك، أنَّ وليم جيمس ـ على سبيل المثال ـ يُعرّف الدين قائلًا:

«التأثيرات والمشاعر والأحداث التي تقع لكلّ إنسان في عالم العُزلة، بعيدًا عن كلّ التعلقات، بحيث يُدرك الإنسان مِن هذه المجموعة أنَّ هناك علاقة بينه وبين ذلك الشيء الذي يعتبره أمرًا إلهيًا».[2]

إنَّ التجربة الدينيّة أمر شخصي وحالة باطنيّة، في حين أنَّ الدين مجموعة مِن القوانين والتعاليم النازلة مِن الله سبحانه وتعالى، وهذه النظرة إلى الدين تنطبق في الحدِّ الأدنى على الدين الإسلامي، ولا يمكن للمؤمنين بهذا الدين

(114)

أنْ يحيدوا عنها أبدًا. إنَّ الإشكال الرئيس الذي يرِد على هذه التحويليّة بشكل عام، والنزعة التحويليّة الدينيّة في هذا الشأن (خفض الدين إلى مستوى التجربة الدينيّة)، هو أنَّ المجموعة المركّبة تنخفض إلى مستوى واحد مِن أجزائها ولوازمها. ولذلك، فإنَّ الأحكام واللوازم الصادرة، والدراسات المنجزة بعد هذا التحويل المذكور آنفًا، لن تكون هي أحكام ولوازم المجموعة المركبة؛ بل هي مجرّد أحكام ذلك الجزء أو تلك الحالة، في حين تمّت تسرية هذه الأحكام والعوارض إلى الكلّ. وبعبارة أخرى: إنَّ المركّب ـ في الدراسات القائمة على النزعة التحويليّة ـ لا يتمّ لحاظه مِن حيث هو مركّب وبلحاظ مجموعه، بل يتمّ الإصرار فيه على جزء واحد، وتتمّ دراسة ذلك الجزء فقط. ونتيجة لذلك، فإنَّ كلّ ما تتمّ دراسته بشأن الجزء، يُنسب إلى الكلّ. ولهذا السبب، فإنَّ النتيجة التي يتمّ بيانها تفقد محتواها؛ إذ في هذا النوع مِن الرؤية تتمّ الغفلة أو التغافل عن تأثير سائر العناصر وارتباطها ببعضها، وعن الاختلاف الموجود بين المركّب وجزئه بشكل عام.

كما تمَّ تحويل الدين إلى التجربة الدينيّة حتّى بشأن الحالة الراهنة؛ في حين أنَّ التجربة الدينيّة حالة متأخّرة عن تبلور المعرفة الدينيّة، وتتشكّل ويتمّ تبويبها على أساس المعتقدات والأفكار والأعمال.

ملاك صدق التجربة الدينيّة

إنَّ الإشكال الرئيس الذي يتّجه على اعتبار جوهر الدين تجربة دينيّة، هو اختلاف مراتب التجربة الدينيّة لدى المتديّنين. في هذه الرؤية، يتمّ اعتبار حتّى الشريعة والدين المنزل على النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله تجربة دينيّة. والآن يرِد هنا

 

(115)

هذا السؤال القائل: ما هو الملاك في صدق التجربة الدينيّة؟ ولو تناقضت التجربة الدينيّة بين شخصين، فأيّ التجربتين تكون هي الحجّة؟ هل يمكن تقييم التجربة الدينيّة بغربال منطقي؟ ثم إنَّه على فرض القول بالاتجاه البنيوي في التجربة الدينيّة، فإنَّ أصل الوحي وواقعيّة التجربة الدينيّة وتجلّي الله تعالى لعامل التجربة يخضع للتشكيك؛ إذ يحتمل أنْ لا يكون لأصل خطاب التجربة الدينيّة أيّ وجود في العالم الخارجي. وفي هذه الحالة، يقترب مدخل التجربة الدينيّة مِن مدخل الوحي النفسي. وكذلك، فإنَّ وحي وشهود الأنبياء يتمّ تنزيله ليلامس حدود التجربة الإنسانيّة والعاديّة.[1] وحيث أنَّ لكلّ فرد تجربته الخاصّة، لا يمكن تحديد ملاك خاصّ لإثبات صدق وكذب القضايا المستنبطة مِن التجربة الدينيّة المعيّنة؛ هذا في حين أنَّ التجربة الدينيّة لشخص النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تعتبر أمرًا ثابتًا ومِن ذاتيّات الدين الإسلامي، حتّى مِن قبل القائلين بالتجربة الدينيّة أيضًا.[2]

ملاك حجيّة التجربة الدينيّة للنبي الأكرم في حقّ المؤمنين

إنَّ مِن بين الإشكالات الأخرى التي ترِد على اعتبار جوهر الدين تجربة دينيّة، هو هل يجب لحاظ التجربة الدينيّة للنبيّ على المستوى العملي، أم أنَّ وظيفة العمل بالتجربة الدينيّة أمر شخصي؟ وبعبارة أخرى: كيف يمكن لمن يعتبر التجربة الدينيّة هي جوهر الدين، أنْ يُلزم نفسه بواحد مِن الأديان التاريخيّة؟ ولو أنَّ صاحب التجربة وجد تجربته الدينيّة متناقضة مع التجربة الدينيّة

(116)

للنبيّ، هل سيُثبت الحجيّة لتجربته الخاصّة، أم يبقى قائلًا بحجيّة تجربة النبيّ الأكرم، ويرفض القول بحجيّة تجربته الخاصّة؟

والنتيجة هي أنَّ مِن بين اللوازم المترتّبة على القول باعتبار جوهر الدين تجربة دينيّة، القول بأنَّ الدين أمر شخصي ونفي النبوّة عن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله. وفي مثل هذه الحالة، لن يكون لختم النبوّة، بل لأصل النبوّة معنى؛ إذ يمكن لكلّ شخص أنْ يدّعي النبوّة، وكلّ مَنْ يشعر بوساطة تجربته الدينيّة أنّه مأمور، يمكن بعد إعرابه عن مثل هذا الإحساس والشعور أنْ نعتبره نبيًّا.[1]

العلاقة بين الشريعة والتجربة الدينيّة

كيف تؤدّي التجربة الدينيّة إلى ظهور الشريعة؟ إنَّ شرط التجربة الدينيّة، هو أنْ يكون الله سبحانه وتعالى أو الحقيقة الغائيّة موضوعًا لتلك التجربة أو تُفهم بوصفها موضوعًا لتلك التجربة.[2] بمعنى: إنَّ الشخص يعتبر متعلّق هذه التجربة كائنًا أو حضورًا يفوق الطبيعة ـ أي إنَّه هو الله سبحانه وتعالى أو تجليّاته في الظواهر والأفعال ـ أو يراه كائنًا مرتبطًا بالله تعالى بشكل وآخر ـ مِن قبيل: تجلّي الله سبحانه وتعالى أو شخصيّة مثل شخصيّة مريم العذراءعليها‌السلام ـ أو يظنّها حقيقة غائيّة، حقيقة تتعذّر على الوصف، مِن قبيل: الأمر المطلق غير الثنوي [برهمن] أو النيرفانا.[3]

وفي هذه الحالة، كيف يمكن اعتبار أخلاقيّات وتشريعات الدين جزءًا

(117)

مِن التجربة الدينيّة للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ إنَّ الذي يقول بأنَّ جوهر الدين هي التجربة الدينيّة، لا يمكنه إلّا أنْ يعدّ بعض حالات النبيّ جزءًا مِن تجاربه الدينيّة؛ إذ تصف الله سبحانه وتعالى. وأمّا سائر أركان الدين، فيجب نسبتها إلى شخص النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله، وذلك لا مِن حيث أنَّه نبيّ. وبالإضافة إلى ذلك، تمّ تعريف التجربة الدينيّة والعرفانيّة بأمور غير قابلة للبيان، وبوصفها «موضوعًا للشعور الأبكم والأصم».[1] إنَّ هذا النمط مِن فهم الوحي واعتباره تفسيرًا مِن قبل النبيّ لمحتوى تجربته، لن تكون نتيجته سوى اعتبار الأمور التشريعيّة والأخلاقيّة للدين أمرًا بشريًّا؛ في حين أنَّ هذا النوع مِن التعاطي مع الدين، يعني إلغاء ونفي أكثر القضايا الدينيّة، واعتبار الجزء الأعظم مِن الدين أمرًا بشريًّا.

إنَّ هذه الرؤية تقلّل مِن الدين بحيث يتمّ إنكار حتّى ضرورة وجوده أيضًا. ومِن خلال سلوك هذا الاتّجاه، يجب حمل الجزء الكبير مِن الدين ـ الأعمّ مِن المعتقدات والأحكام والأخلاقيّات التي هي عبارة عن أمور تصف الآخرة، وتصدر الأحكام الاجتماعيّة، وتتحدّث عن الأمور الغيبيّة والماورائيّة ـ على المجاز. وبعبارة أخرى: إنَّ الأصول الآنف ذكرها تُحمل بأجمعها على التمثيل، ولا يمكن لنا أنْ نتصوّر أيّ حقيقة غيبيّة أو ماورائيّة لها. وعلى أساس هذا الافتراض والاتجاه، لا نعود بحاجة إلى نظام معقّد باسم الدين، وعليه سيكون الإصرار الكبير مِن قبل أئمّة الدين على الاهتمام بالتشريعات والقوانين الدينيّة، وجميع التعاليم والمفاهيم التي أرساها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في عصره، لاغيًا

(118)

ولا ينطوي على حكمة، وسوف تكون للأديان الإبراهيميّة والتوحيديّة حجيّة متكافئة ومتساوية في عرض الأديان الأرضيّة والشرقيّة.[1]

العلاقة بين الإيمان والعمل

تركّز الأنظار الذهنيّة على الفصل والتفكيك بين الإيمان والعمل؛ بمعنى أنَّها تعطي الأهميّة والقيمة للإيمان والحالة الباطنيّة للفرد، ولا تمنح للعمل دورًا كبيرًا في الهداية والرشاد؛ في حين أنَّ الرجوع إلى النصوص الدينيّة يثبت ويؤكّد أنَّ هذين الأمرين لا ينفصلان عن بعضهما. صحيح أنَّ العمل دون إيمان لا يعني غير الرياء، ولكنْ لا بدّ مِن الالتفات إلى أنَّ الإيمان مِن دون عمل في الظروف العاديّة لن يجدي شيئًا أيضًا؛ وذلك لأنَّ حقيقة الإيمان ليست مجرّد العلم والمعرفة، بل لا بدّ للإنسان ـ بالإضافة إلى ذلك ـ أنْ يسلّم نفسه وأمره إلى الله سبحانه وتعالى، وأنْ يُلزم نفسه بالعمل بلوازم ذلك الإيمان، ولأنَّ الإيمان اختياري والعمل ليس اختياريًّا. أجل، إنَّ الإيمان إنَّما يتحقّق إذا أعدّ الشخص قلبه اختيارًا ليؤمن بالله سبحانه وتعالى إلهًا له، وأنْ يلتزم بلوازم هذا الاعتقاد والإيمان. وعلى هذا الأساس، لا يصحّ القول بأنَّ الإنسان يمكن له أنْ يؤمن ولا يعمل بما يقتضيه هذا الإيمان؛ لأنَّ العمل هو ثمرة الإيمان، وحيث تتوفّر الظروف الخارجيّة لذلك ويتّجه التكليف إلى الشخص، يجب على المكلَّف أنْ يحقّق هذا التكليف على أرض الواقع.[2]

(119)

ومِن ناحية أخرى، هناك علاقة تبادليّة بين الإيمان والعمل، وهناك تأثير وتأثّر مِن قبل كلّ واحد مِن هذين المفهومين على الآخر. إنَّ تلوّث ودنس الأخلاق، لا يؤدّي إلى الحيلولة دون إيمان الشخص أو يؤدّي إلى ضعف إيمانه فحسب، بل وقد يؤدّي حتّى إلى سلب إيمانه أيضًا؛ وعلى الرغم مِن إيمانه وعقده العزم على العمل بمقتضى إيمانه، إلّا أنَّه سوف يصل بالتدريج إلى حيث يفقد إيمانه بشكل كامل. وقد حذّر الله سبحانه وتعالى الإنسان ـ في القرآن الكريم ـ مِن مغبّة هذا النوع مِن الأخطار التي قد تحيق به بسبب عدم العمل بمدلول الإيمان.[1] وفي الأساس، فإنَّ الإيمان هو مصدر القيام بالأعمال الصالحة. وفي المقابل، فإنَّ القيام بالعمل الصالح يؤدّي بدوره إلى زيادة الإيمان، كما أنَّ العمل الطالح يؤدّي بدوره إلى سلب الإيمان والعياذ بالله.[2]

خلاصة واستنتاج

1. لقد ورد استعمال الذاتي والعرضي في كلام محمّد مجتهد شبستري بمعنيين، وهما:

أ) المقصود بالذات.

ب) التجربة الدينيّة.

وفي الرؤية الأولى يتمّ لحاظ الدين مِن زاوية القصد، ويكون المراد مِن ذاتي الدين المقاصد مِن الدرجة الأولى، وذاتي الدين، ويتمّ التعريف

(120)

بالمقاصد الوسيطة، والتي هي مِن الدرجة الثانية، بوصفها مِن عرَضيّات الدين. وفي الرؤية الثانية، يتمّ اعتبار جوهر الدين تجربة دينيّة، وتمّ التعريف بتشريعات الدين بوصفها أمورًا عرَضيّة وتابعة للشرائط والظروف الاجتماعيّة. إنَّ التجارب الدينيّة أمور حيويّة وشخصيّة وخفيّة وغير ثابتة، وهي تابعة للشخص بشكل كامل, وإنَّ ملاك التديّن هو العمل على أساس هذه التجارب، وليس التمسّك بالأطر العمليّة والقواعد التشريعيّة التي ترسّخت عبر الزمن.

2. هناك إمكان للبحث والنقاش حول ما إذا كان هذان الرأيان مختلفين عن بعضهما بشكل كامل، أو هناك إمكان للجمع بينهما. يبدو أنَّ نظريّة «المقاصد بالذات»، قد تمّ طرحها بسبب المعضلات التي تعاني منها نظريّة التجربة الدينيّة، وأنَّ مهمتها إظهار وجه الاشتراك بين التجارب المتباينة مِن حيث الماهية بشكل كامل. وقد استفاد محمّد مجتهد شبستري مِن «المقصود بالذات»، الاستفادة ذاتها التي حصل عليها في إعادة تعريف مفهوم الوحي على أساس الرؤية الغائيّة.

3. هناك بعض الغموض والإبهامات والأسئلة الجادّة أمام نظريّة المقصود بالذات: فأوّلًا: هل المقصود بالذات هو الذاتي؟ وثانيًا: هل تعدّ الظاهراتيّة التاريخيّة أسلوبًا معتبرًا في كشف المقاصد بالذات؟ وإذا كان توظيف هذا الأسلوب متناقضًا مع كلمات أصحاب الشريعة في مختلف المراحل الزمنيّة، هل يكون التقدّم لها أم لكلام أصحاب الشرائع؟ وأخيرًا: ما هو منطق الوصول مِن المقصود بالذات إلى ذاتي الدين؟ وكيف تمّ اجتياز هذا الطريق في ضوء هذه النظريّة؟

(121)

4. إنَّ اتّخاذ التجارب الدينيّة بوصفها جوهر الدين، ينطوي على آفات، ومِن بين هذه الآفات تحويل الدين ـ بوصفه أمرًا مركّبًا ـ إلى جزئه. ومِن الآفات الأخرى، عدم وجود ملاك للدلالة على حجيّة التبعيّة لتجربة الآخر ـ وإنْ كان نبيًّا ـ . وقصور هذه الرؤية عن بيان كيفيّة ظهور الشريعة مِن التجربة الدينيّة في الدين الإسلامي، يُعدّ مِن ‏الآفات الأخرى التي تعاني منها هذه النظريّة.

(122)

المصادر

- بيترسون، مايكل، وآخرون، عقل و اعتقاد دينی: درآمدی بر فلسفه دين (العقل والاعتقاد الديني: مدخل إلى فلسفة الدين)، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: أحمد نراقي وإبراهيم سلطاني، طهران، طرح نو، 1385ه‍.ش.

- جوادي آملي، عبدالله، دين شناسي (معرفة الدين)، قم، نشر إسراء، 1387ه‍.ش.

- جيمس، وليم، دين و روان (الدين والروح)؛ ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: مهدي قائني، قم، دارالفکر.

- سروش، بسط تجربه نبوي (بسط التجربة النبويّة)، طهران، نشر صراط، 1385ه‍.ش.

- عرب صالحي، محمّد، «ذاتی و عرضی در دين» (الذاتي والعرضي في الدين)؛ مجلّة معرفت کلامي، السنة الثانية، العدد الثاني، 1390ه‍.ش.

- قدردان قراملكي، محمّد حسن، آئين خاتم (الدين الخاتم)، طهران، سازمان انتشارات فرهنگ و انديشه اسلامی، 1386ه‍.ش.

- كاشي زاده، محمّد وقدردان قراملكي، محمّد حسن، «تحلیل ذاتی و عرضی دین از منظر نومعتزله»؛ مجموعه مقالات جریان شناسی ونقد اعتزال نو: اعتزال نو ومسائل فلسفه اسلامی (التحليل الذاتي والعرضي للدين مِن زاوية المعتزلة الجدد: مجموعة مقالات معرفة التيّارات ونقد الاعتزال الجديد: الاعتزال الجديد ومسائل الفلسفة الإسلاميّة)، طهران، پژوهشگاه فرهنگ و انديشه اسلامی، 1393ه‍.ش.

- اللاهوري، محمّد إقبال، بازسازی انديشه دينی (إصلاح التفكير الديني)، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: محمّد بقائي ‌ماکان، طهران، نشر ماكان، 1368ه‍.ش.

- مجتهد شبستري، محمّد، نقدی بر قرائت رسمی از دين (نقد على القراءة الرسمية للدين)، طهران، طرح نو، 1379ه‍.ش.

- مصباح اليزدي، محمّد تقي، اخلاق در قرآن (الأخلاق في القرآن)، ج 1، قم، مؤسّسه آموزشی و پژوهشی امام خميني، 1384ه‍.ش.

(123)

- ملكيان، مصطفى، مشتاقي و مهجوري: گفت ‌وگوهائی در باب فرهنگ وسياست (الشوق والهجران: حوارات في حقل الثقافة والسياسة)، طهران، نگاه معاصر، 1380ه‍.ش.

- نصري، عبدالله، يقين گم شده: گفت و گوهائی درباره فلسفه دين (اليقين الضائع: حوارات حول فلسفة الدين)، طهران، نشر سروش، 1380ه‍.ش.

- نصري، عبدالله، كلام خدا: تحليل و نقد ديدگاه روشنفکران دينی درباره وحی و تجربه دينی (كلام الله: تحليل ونقد رؤية المستنيرين الدينيين بشأن الوحي والتجربة الدينيّة)، دفتر نشر فرهنگ اسلامی، 1387ه‍.ش.

- Ayers, M; “Substance”, In Routledge Encyclopedia of Philosophy; New, E. Craig York: Routledge, 1998.

- Whehmeire, S; Oxford Advance Learners Dictionary, 6th ed.); New York: Oxford, 2003.

(124)

تأمُّل في الاستدلالات اللغويّة لنظريّة «القراءة النبويّة للعالم» حول متكلّم القرآن[1]

محمّد كاظم شاكر[2]، السيّد روح الله شفيعي[3]

بناءً للاعتقاد الشائع بين المسلمين، القرآن الكريم هو كلام الله المجيد والمتحدّث عن حقائق أنزلها الله على نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله في إطارٍ لغوي مكونٌ بذلك نصٍ يُدعى القرآن. ومع تطوّر العلم البشريّ في مجالات فلسفة اللغة والألسنيّة، وكذلك ظهور بعض السياقات العمليّة والنظريّة في عالم الإسلام المعاصر؛ برزت أفكار وتصوّرات متفاوتة في هذا الخصوص. القراءة النبويّة للعالم هي عنوانٌ لسلسلة مِن الكتابات التي تتّبع عرض وجهة نظرٍ مختلفة عن الوحي القرآني. ومِن الأسئلة التي يحاول هذا الطرح الإجابة عنها بشكلٍ مختلف حول الاعتقاد الشائع الآنف الذكر، مَنْ هو راوي القرآن والمتحدّث

(125)

به؟ فمِن منظار هذا الطرح؛ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هوالمتحدّث بالقرآن وراويه. ويقيم هذا الطرح مِن أجل ادّعائها مجموعةً مِن الاستدلالات والحجج التي سيشكّل التأمّل حول إحداها ـ الاستدلال اللغوي[1] ـ موضوعَ هذه المقالة. ولهذا السبب، سوف تصوغ هذه المقالة أوّلًا الاستدلال المذكور ثمّ تقيس المقدّمات الكبرى لفلسفتها اللغويّة والألسنيّة. وتدلّ التأمّلات في هذا الخصوص على أنّ الاستدلال المذكور يواجه بعض التحدّيات والعيوب التي تجعل مِن تقبّله والاعتراف به أمرًاصعبًا.

بیان المسألة

«القراءة النبويّة للعالم»[2] هي عنوانٌ لسلسلة مِن الكتابات لمحمّد مجتهد الشبستري، والتي تعبّر عن فكرة ونظرة خاصّة ومختلفة حول الوحي القرآني وعمليّة فهمه وتفسيره. ويسعى هذا الطرح إلى الإجابة عن سؤالين: 1. «مَنْ هو راوي القرآن والمتحدّث به؟» 2. «ماذا» قال ذلك الراوي؟ ورغم أنّ أيًّا مِن هذين السؤالين ليس بجديد؛ ولكنْ تعتبر إجابات «القراءة النبويّة للعالم»، ومنهجيّة توصّل هذا الطرح إلى تلك الإجابات؛ جديدة وفريدة. وأحد أبرز خصائص هذا الطرح، والتي تجعله متمايز عن سائر التصوّرات الجديدة والمختلفة؛ أسسه المعرفیّة ـ وخاصّةً استناده إلى القضايا الجديدة في اختصاصات الألسنيّة؛ فلسفة اللغة والهرمنيوطيقا الفلسفيّة والأدبيّة. وللطرح الآنف الذكر، ادّعاءان إيجابيّان أساسيّان حول السؤالين السابقين:

[2].   مجتهد شبستري، «چرا عنوان «قرائت نبوی از جهان» را کنار گذاشتم؟».

(126)

1. إنّ «المتحدّث» بالقرآن وراويه هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، 2. إنّ «طبيعة» كلام القرآن هو القراءة (الفهم) والرواية. ونتيجة هذين الادّعاءين أنّ: «القرآن هو قراءة ورواية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن العالم». وقد أقام هذا الطرح لأوّل مرّة حجج واستدلالاتٍ عدّة يمكن وضعها ضمن ثلاث فئات: انطولوجيّة[1]، لغويّة[2] وهرمنيوطيقيّة.[3] وسوف يقتصر تأمّل هذه المقالة وبحثها على الفئة الثانية؛ أي الفئة اللغويّة؛ إذ إنّ البحث في حجج واستدلالات الفئتين الأخريين، وكذلك تقييم الادّعاء الثاني، كلٌّ يحتاج إلى مجالٍ منفصلٍ لا يسعه المجال في هذه المقالة.

توضيح ادّعاء الطرح واستدلاله اللغوي

الادّعاء الأوّل للقراءة النبويّة للعالم[4]، هي أنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو راوي القرآن. بعبارةٍ أخرى: القرآن هو كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. مِن وجهة نظر هذا الطرح، وبالاستناد إلى إنجازات اللسانيّات[5] وفلسفة اللغة[6]؛ لا يمكن اعتبار القرآن كلام الله مِن خلال قيودٍ مثل «لوحده»، «مباشرةً» و «مِن دون وساطة».[7] وترتفع وتیرة العمل في هذا الوسط، عندما يكون التأكيد على نبويّة الكلمات القرآنيّة.[8] وهكذا يتّضح الادّعاء

(127)

الأوّل لـ «القراءة النبويّة...»: راوي القرآن والمتحدّث به، أوّلًا هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، ومِن ثمّ الله. إذاً، القرآن هو كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بدايةً. ونقطة ارتكاز الاستدلال اللغوي لهذا الطرح هو تقديم تعريفٍ جديدٍ عن «اللغة»:

«اللغة نظامٌ مِن أشكال التعبير، أوجده الإنسان وطوّره. ويطرح الإنسان هذا النظام ليعبّر به عن نفسه ويجعل نفسه مفهومةً للآخرين كما الآخرين مفهومين بالنسبة له، وليجسّد معارفه مِن خلال ذلك النظام ويُطلع الآخرين عليها، وليتحدّى عن طريقه أنواعًا مختلفة مِن الواقع، أو ليتماشى مع هذا الواقع».[1]

وبعد هذا التعريف الذي طبقًا لصاحب فكرة «القراءة النبويّة....» مستوحىً مِن كيلر[2] فيلسوف اللغة الألماني ـ يشير إلى الإطار العام (= نظام مِن أشكال التعبير) للغة، وإلى موجِدها (= الإنسان)، وظيفتها (= التعبير) وأركانها (= الراوي، المستمع، السياق، المجتمع والمضمون).

وفي الخطوة الثانية، يؤكّد هذا الطرح على أنّ اللغة «إنسانيّة/بشريّة تمامًا»؛ بمعنى أنّه لا سبيل لأيّ «غير إنساني» إليها. لا يمكن للّغة أنْ تظهر وتُعطي المعنى وتُفهم في عالمٍ غير بشري، بل إنّ كلّ ما ذُكر لا يمكن أنْ يتحقّق إلّا في مسار حياة البشر وفي عالمهم الذهني المشترك.

اللغة هي ظاهرة أنثروبولوجيّة/إنسانيّة[3] جماعيّة، ولا تتحقّق إلّا عندما تتوفّر كلّ تلك الأركان والمقوّمات، ومع فقدان بعضها سيتمّ القضاء

(128)

عليها تمامًا.[1]

والكلام ذو المغزى ـ كما يمكننا تصوّره نحن البشر ـ هو ذلك الشيء يظهر في عالم البشر وبوساطة البشر، وفي خضمّ الحياة الاجتماعيّة ـ التاريخيّة للبشر وسياقها، وليس شيئًا آخر.[2]

ويصرّح صاحب «القراءة النبويّة...»، في هذا القسم مِن استدلاله بدینه لأفكار فيتغنشتاين[3]:

«إنَّ المزيد مِن التأمل في هذا الموضوع واستكشافه الشامل، هو الذي أوصل فيتجنشتاين، في مرحلته الفلسفيّة الثانية، إلى استنتاجٍ مفاده أنّ الكلام هو جزءٌ مِن أسلوب حياة الإنسان وسلوكه، وبالتالي طرح نظريّة ألعاب اللغة».[4]

على هذا الاساس، إنّ معنى اللغة وفهمها بأكملها مناطٌ بكيفيّة استخدامها في لعبةٍ لغويّة، وهذا في حدّ ذاته يظهر في سياقٍ تاريخيٍ ـ اجتماعي محدّد.[5]

إذاً، تستند «القراءة النبويّة...» إلى مفاهيم «الألعاب اللغويّة»[6] و«أشكال الحياة»[7] لفيتغنشتاين. في الجانب الإيجابي مِن هذا الاستنتاج، ضرورة «إنسانيّة» جميع مكوّنات اللغة وجانبها السلبي هو رفض «عدم إنسانيّة/بشريّة» إحداها.

(129)

وفي هذا الصدد، يستند هذا الطرح إلى الجملة المشهورة لفيتغنشتاين:

«لو تكلّم الأسد، فلن نستطيع أنْ نفهمه».[1]

ويمكننا أنْ نسمّي هذا القسم مِن استدلال صاحب فكرة «القراءة النبويّة...»، مركزيّة الإنسان اللغوي.[2] مِن وجهة نظر هذا الطرح، اللغة هي لعبة إنسانيّة بالكامل، ولا تجد معناها إلّا في ذلك الشكل مِن الحياة البشريّة التي تُستخدم فيها.[3]

وأمّا الخطوة الثالثة، فهي تشير إلى أحد عناصر اللغة؛ أي «المتكلّم/الراوي»، والتذكير بدوره في أيّ فعلِ اتصالٍ لغوي، دورٌ يشير إليه صاحب «القراءة النبويّة...» في اقتباسه مِن تعريف كيلر للّغة، وأيضًا مِن اقتباساته الأخرى مِن نموذج الارتباط اللغوي لجاكوبسون[4]:

«مِن غير الممكن تحقّق نصٍّ بلغةٍ إنسانيّة، مِن دون متكلّم ـ وهو الإنسان ... على كلّ حال، يتوقّف تحقق اللغة الإنسانيّة على رواية إنسانٍ».[5]

ويسعى صاحب «القراءة النبويّة...» حتّى إلى إسناد التأكيد على دور المتكلّم البشري ومكانته في اللغة إلى سوسّور.[6] وأساس هذا الانتساب،

(130)

تفكيك سوسّور بين «اللغة»[1] و«الكلام».[2]

إذ يوضّح صاحب «القراءة النبويّة..» مُراد سوسّور بما يلي:

«وكما يقول سوسّور؛ لا تنشأ اللغة مِن دون كلام، ونحن نعلم أنّ الكلام هو دائمًا كلام متكلّم ما. إذن يجب أنْ نقول؛ اللغة لا تنشأ مِن دون متكلّم. وفي هذه الحال، لا يمكننا التصوّر أنّنا سنواجه نصًا لغويًّا ذي بنيةٍ، مِن دون افتراض وجود الكلام البشري والمتكلّم البشري ـ بدون واسطة أو بواسطة ـ في إعطائه للمعنى».[3]

إلى هنا، تمّ توضيح المقدّمات الكليّة والكبرى للاستدلال اللغوي الذي أقامه صاحب «القراءة النبويّة...» مِن أجل ادّعائه. وحان الوقت الآن لهذا الطرح أنْ يتعمّق في مقدّماته الجزئيّة والصغرى، ليستنتج تحديدًا ملاحظاته حول «القرآن».

الخطوة الأولى، هي أنّه لا شكّ في أنّ القرآن نصٌ لغوي. إذاً، القرآن بصفته نصًّا لغويًّا، لا يمكن استثناؤه مِن كلّ ما ذُكر لغاية الآن.[4] وبما أنّ القرآن هو ظاهرة لغويّة، لذا سوف يصدق عليه كلّ ما قيل حول سائر الظواهر اللغويّة والنصيّة. وما يؤكّد عليه صاحب «القراءة النبويّة...»، امتلاك القرآن لمتكلّم وراوٍ بشريّ:

(131)

«إذا كان مِن المفترض مثلًا تفسير نصّ القرآن، بصفته كلام الله أو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، إذن لا مفرّ مِن البحث حول راو للقرآن والمتحدّث به (الماتن)[1]. يجب أنْ نسأل؛ مَنْ هو راوي القرآن؟ والحقيقة هي أنّ كلّ نصٍّ مقدّس، يؤسّسه إنسانٌ ما كنصّ. ذلك الشخص الذي يقرأ نصًا ويقول إنّه سمعه مِن ملاكٍ أو مِن الله، أو أنّ الله قد جعله قادرًاعلى قول هذا النصّ، أو أنّ الله قد وضع هذا النصّ في فمه وما شاكل ذلك، فهذا الشخص، مع ادّعاءات الفهم التي لديه، سوف يؤسّس هذا النصّ في المجتمع والتاريخ كشكّلٍ مِن أشكال فهمه، وسيجعله على ما هو عليه».[2]

وهكذا، القرآن أيضًا، كنصٍّ لغويّ محدّد، مثله مثل أيّ نصٍّ لغويٍ آخر؛ يجب أنْ يكون لديه متحدّث بشريّ.[3] وهكذا، یتّضح وجوب الإسناد الحقيقي للقرآن لإنسانٍ متحدّثٍ به. إذا كان القرآن بمثابة نصٍّ لغوي، يجب أنْ يكون لديه متحدّث، ويجب أنْ يكون ذلك المتحدث إنسانًا. إذاً، يجب التوجّه إلى ذلك الإنسان المتحدّث به وسؤاله عنه. ولكنْ تاريخيًّا، إنّ الإنسان الوحيد الذي أُسند إليه القرآن هو النبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله؛ إذاً القرآن كلامه:

«لأنّه مِن وجهة نظر المسلمين، يعتبر الإسناد التاريخي لنصّ القرآن إلى نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله مِن المسلّمات والضروريّات ... [إذن] الفرض

(132)

المعقول ـ بل الذي لا بدّ منه ـ هو أن نقول أنّ هذا النصّ هو كلام [إنسانٍ]، يعني كلامٌ أدّاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله...».[1]

قياس وتقييم

تتعرّض هذه المقالة فقط إلى التأمّل في المقدّمات الكبرى للحجج والاستدلالات الآنفة الذكر. والرسم البياني التالي يتضمّن خلاصة عن هذه المقدّمات:

القضية       الاستنادات 

اللغة، ظاهرة إنسانيّة تمامًا

تعريف كيلر للغة

← (2) إذا كان للغة أجزاء وعناصر؛ فكلّها إنسانيّة أيضًا

مفهوم الألعاب اللغويّة وأشكال الحياة لفيتغنشتاين

(3) للّغة أجزاء وعناصر والمتحدّث إحداها

تعريف كيلر للّغة

النموذج السداسي الأجزاء لـ«جاكوبسون»

تفكيك سوسّور بين اللغة والكلام

← (4) الإنسان هو فقط مَنْ يمكنه التحدّث باللّغة

شكل الاستدلال

فشل الاستشهاد بـ«تعريف» اللغة الآنف الذكر

يبدأ صاحب «القراءة النبويّة...» استدلاله اللغوي بتقديم تعريفٍ للّغة. ولكنَّ هذا التعريف ليس فعّالًا بمفرده، ويواجه الاستناد إلى ذلك عيبين منطقيين بالحدّ الأدنى. القصور المنطقي الأول، هو «عدم التحرّر مِن الافتراض

(133)

المسبق».[1] وكما تمّت الإشارة سابقًا، إنَّ نقطة ارتكاز الاستدلال اللغوي لصاحب «القراءة النبويّة...»، هو التعريف المقدّم عن اللغة، ونتيجته وجوب إنسانية المتحدّث. ولكنَّ وجوب إنسانيّة اللغة وإنسانيّة المتحدّث، هما مِن الافتراضات المندرجة في التعريف المذكور، والافتراض يبقى في حدّ ذاته مجرد ادّعاء، ولا يمكن إثباته مِن دون إضافة مقدّمةٍ أخرى منسوبة إلى فيتغنشتاين. ويمكن إعادة بناء العمليّة المنطقيّة للاستدلال الآنف الذكر كالآتي:

لماذا يجب أنْ 1. يكون للقرآن متحدّثٍ إنساني؟

2. لأنَّ القرآن نصٌّ لغوي،

و

3. كلُّ نصٍّ لغويّ يجب أنْ يكون له متحدّثٌ إنساني.

4. لماذا يجب أنْ يكون لكلّ نصٍّ متحدّثٌ إنساني؟

5. لأنّه قد جاء في تعريف اللغة أنّ اللّغة ظاهرةٌ إنسانيّة،

و

6. المتحدّث أيضًا هو أحد أركان مبتکري اللغة.

7. لماذا جاء في تعريف اللّغة بأنّ اللغة هي ظاهرة إنسانيّة؟

8. لأنّ أفكار فيتغنشتاين أشارت إلى هذا الأمر.

إذا ما حذفنا شذرة رقم (8) مِن العمليّة أعلاه، سوف يعاني الاستدلال مِن عيبٍ منطقي، ولكنْ بإضافته إلى العمليّة، تمّ رفع ذلك العيب. إذاً، للشذرة (5) دورٌ مؤثّر في حجّة واستدلال هذا الطرح.

(134)

كذلك في التعريف المذكور، تمّ تقديم «الإنسان» منذ البداية على أنّه المبتکر والمطوّر للّغة والتعبير عن البشر وجعلهم مفهومين كوظائف للّغة. ومِن الواضح، أنّه بناءً على ذلك، وفي نهاية عملية الاستدلال أيضًا، سيكون المتحدّث باللغة ـ بصفته جزءًا منها ـ هو الإنسان. ولكنَّ افتراض إنسانيّة اللغة هو «استقراءٌـ تجريبي».[1] وهنا يظهر أيضًا العيب المنطقي مِن خلال «مصادرة المطلوب»[2]، وخاصةً أنّه لم يُذكر في التعريف المذكور، أنّ اللغة «لا يمكن» أنْ يكون لها متحدّثٌ غير الإنسان. مِن هنا، مقابل قاعدة «إثبات الشيء، لا ينفي ما عداه»، لا يمكن الوصول مِن خلال التعريف المذكور إلى وجوب إنسانيّة المتحدّث. لو تمكّن صاحب «القراءة النبويّة ...» مِن تقديم أوّلًا تعريفٍ فلسفيٍّ وشامل للّغة، ومِن ثمّ قسّمها باعتبارٍ ما إلى نوعين إنساني وغير إنساني، وأشار في النهاية إلى عدم إمكانيّة النوع الثاني؛ عندها لكان رُفع العيب المنطقي المُشار إليه.

وهناك مسألةٌ يمكن أنْ تشكّل مقدّمة للقسم الآتي في هذه المقالة، وهذه المسألة هي أنّه على أساس النظريّة المنتخبة مِن قِبل صاحب «القراءة النبويّة ...» (فلسفة اللغة لفيتغنشتاين المتأخّر)، يجب النظر بعين الشكّ والترديد عند إعطاء إطارٍ كلّي لتعريف اللغة أو لطبيعة اللغة.[3] فبدل أنْ يحاول فيتغنشتاين تعريف اللغة، اعتبرها مجموعة مِن الألعاب التي تشترك فيما بينها في «التشابه

(135)

العائلي[1]»[2]، وأنّ كلّ واحدةٍ منها كاملةٌ في حدّ ذاتها.[3] وبالتالي، اعتبر بعض المفسّرين أنّه لا يمكن بالأساس اعتماد رأي فيتغنشتاين كتعريفٍ لظاهرة اللغة.[4] ولا يوجد أيّ نقطة أرخميدس خارج اللغة، حتّى يصبح بالإمكان تعريف اللغة بمساعدتها.[5] كذلك، لا ينبغي أنْ ننسى أنَّ تحدّي فيتغنشتاين لموقف أوغسطين[6] تجاه اللغة في بداية كتابه «التحقيقات»، یُرَدّ أيضًا على مقاربته.[7] إنّ مقاربة فيتغنشتاين العلاجيّة للتفلسف أيضًا، تنمّي فيه الاتجاه الحسّي في دارسة اللغة العاديّة[8]، إلى حدٍّ أنّه يتجنّب أيَّ نوعٍ مِن الخوض في اللغة مِن خلال المقاربات الكليّة والمجرّدة، ولذلك فإنّه يعتبر أيّ بحثٍ لطبيعة اللغة أمرًا غير مناسب.[9] فمع تجنّبه لأيّ نوعٍ مِن الفكر الدوغمائي بهذا

(136)

الخصوص، يقترح النظر إلى الألعاب اللغويّة كأدواتٍ للمقارنة فقط[1]، حتّى لا يتوفّر السياق مِن أجل تقييد وظائف اللغة المتنوعة.[2] على هذا الأساس، كأنّ صاحب «القراءة النبويّة...» باستناده المتزامن إلى التعريف المُنتخب حول ظاهرة اللغة والاستفادة مِن فلسفة اللغة لفيتغنشتاين المتأخّر، يخضِع إطار استدلاله اللغوي لنوعٍ مِن «عدم التوافق الداخلي».[3]

فشل الاستشهاد بـ: مفهوم الألعاب اللغويّة: وأشكال الحياة لفيتغنشتاين

لقد اتّضحت الأهميّة الكبيرة لاستفادة صاحب «القراءة النبويّة...» مِن أفكار فيتغنشتاين في القسم السابق، بحيث تشكّل هذه الأفكار لبّ كلام هذا الطرح حول وجوب إنسانيّة اللغة تمامًا. ولكنْ، حقًا إلى أيّ حدٍّ يتطابق فهم صاحب «القراءة النبويّة...» مِن هذه الأفكار ـ وخاصةً المقاربة السلبيّة المختارة لهذا الطرح ـ ويلتقي مع كلام فيتغنشتاين وتفسيراته؟ كذلك، على فرض صحّة الفهم المذكور، إلى أي حدٍّ يعتبر هذا الاقتباس فعّالًا وجديرًا مِن أجل إظهار صحّة ادّعاء صاحب «القراءة النبويّة...»؟ هل يعتبر اقتباس مفاهيم «أشكال الحياة» و«الألعاب اللغويّة» مِن أجل إظهار وجوب إنسانيّة تمام العناصر اللغويّة، اقتباسٌ مناسب؟ وأبعد مِن ذلك، هل مفهوما «الألعاب اللغويّة» و «أشكال الحياة» بعيدان عن أيّ نقدٍ؟ إنّه لمن الواضح، أنّ الإجابات عن هذه الأسئلة هو النفي.[4] وفيما يلي مقتطفٌ يبرز خلفيّة ظهور هذين

(137)

المفهومين في فكر فيتغنشتاين، وأيضًا بعض التحدّيات التي يواجهانها. والأمر متروكٌ لصاحب «القراءة النبويّة...» ليعلن علاقته بتلك الخلفيّات والسياقات، وكذلك الكشف عن الإجابات المحتملة على تلك التحدّيات.

فيتغنشتاين، في مرحلته المتأخّرة، يغسل فكره مِن فكرة تمثيل اللغة، ويعتبرها نوعًا مِن اللعبة المتّصلة بشكل الحياة.[1] وهو يريد مِن طرح مفهوم «الألعاب اللغويّة»، تحقيق هدفين معًا بالحدِّ الأدنى. الأوّل، التأكيد على اتصال معنى الكلمة باستخدامها.[2] ومِن خلال «الحجّة ضدّ اللغة الخاصّة»[3]، يعتبر فيتغنشتاين بعض القواعد معيارًا للتحقّق مِن استخدام اللغة والناشئة بحدّ ذاتها مِن أشكال الحياة.[4] كذلك، يعتبر المعنى مناطًا بفهم «سياقٍ»[5]، والذي هو مِن أهم عناصره التمتّع بـ «شكل حياةٍ» مشترك.[6] والهدف الثاني، محاولة معالجة التفلسف[7]، وهذا الأمر مِن أبرز خصائص تمام أفكار فيتغنشتاين السابقة والمتأخّرة.[8]

(138)

ومع ذلك، فإنّ مفهوم الألعاب اللغويّة، يواجه أيضًا تحدّيات، قد يؤدّي جهلها وعدم معالجتها إلى سوء فهمِ قبولها العام. على سبيل المثال، إنّ نظريّة الاستخدام (بشكلٍ عام) والألعاب اللغويّة (بشكلٍ خاص)، مِن خلال إعادة سرد كيفيّة الإرجاع إلى أسماءٍ خاصّة فقط، تعجز عن إعطاء معنى لتلك الجمل التي يستخدمها ويحفظها المتحدّث فقط عن ظهر قلب أو مِن دون أنْ يفهمها، والاطّلاع على القواعد التي تحكم أجزاء كلامٍ، سوف يتمّ استخدامها في المستقبل، ولم تصبح بعد تعاقديّة.[1] ومِن جهةٍ أخرى، إنّ مقارنة اللغة باللعبة، لهي مقارنةٌ غير صحيحة أيضًا؛ لأنّه يمكن استخدام اللغة مِن أجل الإخبار عن أشياءٍ بلا مصداق (مثل الحصان الأحادي القرن)، ولكنْ في اللعبة لا يمكن القيام بعملٍ ما خارج القاعدة. وكذلك، يمكن للشخص، الذي لم يلعب لعبةً مِن قبل، وليس لديه أيّ معرفة بهذا المفهوم مسبقًا، أنْ يتعلّم معنى اللعبة مِن خلال وصف الألعاب المتنوّعة. ولكنْ، لا يمكن تعليم شخصٍ لم يتكلّم أبدًا، ولا يعلم مفهوم التكلّم أيضًا، أنْ يتعلّم معنى التكلّم مِن خلال وصف مختلف الكلام. ومِن أجل إعادة سرد معنى اللعبة، ليس مِن الضروري أنْ يكون الافتراض المذكور أعلاه أيضًا نوعًا مِن اللعبة. فضلًا عن ذلك، إنَّ معرفة معنى اللعبة،  يعني معرفة ما يفعله اللاعبون أثناء اللعب. ولكنْ، مِن أجل معرفة ماهية التكلّم، لا يمكن الاكتفاء بمعرفة ماذا يفعل المتكلّمون أثناء

(139)

الكلام.[1] كذلك، لا نظير لسمة «تحديد»[2] قواعد الألعاب المهمّة في اللغة. بعبارةٍ أخرى: الكثير مِن قواعد اللغة يمكن أنْ تكون في معرض التبدّل في سياق التاريخ، ولكنَّ قواعد الألعاب مثل الشطرنج، لا تتبدّل أبدًا في سياق التاريخ.[3] وفي النهاية، مثل هذا التلقّي والفهم، يبقى عاجزًا عن تبرير قدرة اللغة على الإرجاع إلى نفسها، وكذلك قدرة الأفراد والمجتمعات البشريّة مِن أجل ترقّيها ونقد ذاتها.[4]

ليس لمثل هذه التحدّيات أيَّ أثرٍ أو انعكاس لدى صاحب «القراءة النبويّة...». وممّا لا شكّ فيه، أنَّ أهداف فيتغنشتاين الآنفة الذكر في تقديم هذا المفهوم، ليست فقط لا مكان لها بشکلٍ خاصّ في نطاق أهداف هذا الطرح فحسب، بل إنّه على أساس المقاربة العلاجيّة لفيتغنشتاين، سوف «يُلغى»[5] بالأساس معالجة المسألة التي يسعى خلفها صاحب «القراءة النبويّة...». انطلاقًا مِن ذلك، سوف يواجه قبول أحد أهم مبادئ الاستدلال اللغويّ لهذا الطرح صعوباتٍ جديّة.

وحول مفهوم «أشكال الحياة»، فالمسألة أكثر تعقيدًا قليلًا، ويفسّر غريلينغ مُراد فيتغنشتاين مِن هذا المصطلح قائلًا:

(140)

الإجماع الضمني للسلوكات اللغويّة وغير اللغويّة، الفروض، الإجراءات، السنن والميول الطبيعيّة التي يساهم فيها البشر ـ بصفتهم موجوداتٍ اجتماعيّة ـ وبالتالي في اللغة التي يستخدمونها، بمثابة افتراضٍ.[1]

ولكنْ، ما هو هدف فيتغنشتاين مِن تقديم هذا المفهوم؟ باختصار يمكن القول: إنّه أراد مِن خلال معالجة مفهوم أشكال الحياة الانتفاض على الباراديغم الحاكم على فلسفة اللغة في زمانه؛ إذ إنّ أهمّ عناصرها ـ الفصل التام بين اللغات العلميّة والعرفيّة، التصوّر الرياضي للّغة والتمثيل اللغويّ، الفكر الحسابي والفهم اللغويّ، إرجاعيّة معنى الكلمة ومفهوم شروط صدق الجُمل ـ وكلّ ذلك يمكن العثور عليه في أفكار فيتغنشتاين الأولى وعند «راسل»[2] و«فريجه[3]».[4]

وقبل التعرّض إلى الجهات الأخرى لهذا المفهوم، لا بدّ مِن التذكير بنقطتين: الأولى، أنّه رغم الأهميّة الكبيرة لأفكار فيتغنشتاين في استدلال صاحب «القراءة النبويّة...»، لا يُرى أيّ إرجاع مباشرٍ إلى فيتغنشتاين في تمام نصّ هذا الطرح، وذلك خلافًا لباقي النماذج (كيلر، سوسّور، جاكوبسون). في الواقع، الإرجاع الواضح الوحيد لهذا الطرح، يعود إلى تفسيرٍ مِن الشذرة

(141)

11 القسم 2 مِن كتاب التحقيقات الفلسفيّة. وهناك سببٌ آخر، وهو أنّ أسلوب الكتابة الذي استخدمه فيتغنشتاين في الأيام الأخيرة لفكره، وخاصّة في كتابه «التحقيقات الفلسفيّة»[1]، كان محیّرًا ومربكًا للغاية.[2] ولذلك، يعتبر سوق شرح وتفسير أفكار فيتغنشتاين حارًّا جدًا، وأحيانًا مربكًا، ومضطربًا كثيرًا. ويمكن مشاهدة أحد أوضح النماذج على هذا الاضطراب في القراءات المتعدّدة/ الحصريّة لمفهوم أشكال الحياة.[3] ومِن المهمّ دراسة هاتين القراءتين؛ لما لهما مِن تأثيرٍ كبيرٍ في مركزيّة الإنسان لدى صاحب «القراءة النبويّة...». ولا يشير هذا الطرح إلى القراءات المختلفة لمفهوم أشكال الحياة وإلى دليل صحّة القراءة المختارة، وهذا الصمت، يعتبر في حدّ ذاته عيبٌ؛ لأنّه يعزّز الوهم بأنَّ هذه هي القراءة الوحيدة الممكنة للمفهوم.

ولكنْ ما هي جذور القراءات اللامتوافقة والمتناقضة لمفهوم أشكال الحياة؟ فضلًا عن الأسلوب المعقّد لأفكار فيتغنشتاين وكتابته؛ فقد استخدم هذا المصطلح بصيغتي المفرد والجمع «شكل/أشكال الحياة»[4] في الأيام الأخيرة مِن فكره حوالي خمس وعشرين مرّة[5]، مِن دون أنْ يوضّح منظوره مِن ذلك أبدًا.[6] ولهذا التناقض وعدم التجانس جذور تاريخيّة.

(142)

وقد قاس الباحثون في فكر فيتغنشتاين مفهوم أشكال الحياة وفق معايير ثلاث: «بيولوجيّة»[1]، «ثقافيّة»[2] و «سلوكيّة[3]».[4] ويعتبر «كَفِل» المعيار البيولوجي «عموديًّا» والمعيار الثقافي «أفقيًّا».[5] فباعتبار البيولوجي / العمودي، تنفصل أشكال حياة الإنسان عن «غير الإنسان»، وأمّا باعتبار المعيار الثقافي/ الأفقي، تنفصل أشكال حياة الإنسان عن «بعضها» البعض. وعلى أساس المعيار الأوّل، يعتبر فيتغنشتاين اللغة والفهم مقتصرًا على نوعٍ واحدٍ مِن المخلوقات الحيّة؛ أي الإنسان. وعلى أساس المعيار الثاني، يعتبر فيتغنشتاين اللغة والفهم ظواهر متعدّدة بين البشر، مِن دون قصد الحكم على أنواع الموجودات الأخرى. ولكنْ، باعتبار معيارٍ ثالث، إنَّ اللغة والفهم متعلّقان بسلوكاتٍ خاصّة. والآن، يجب أنْ نرى مِن أيّ معيارٍ نشأت مركزيّة الإنسان لدى صاحب «القراءة النبويّة...»؟

رغم أنّ ناتج حصريّة المعيار البيولوجي/ العمودي واضح؛ ولكنْ لا تقوم مركزيّة الإنسان لدى صاحب «القراءة النبويّة...» على هذا الأساس، ولا توجد أيّ إشارة لميلٍ إلى ذلك في كلّ نظريّته، کما أنَّ هذا المعيار يواجه العديد مِن التحدّيات.

ويؤكّد هاكر على أنَّ فيتغنشتاين يعترف بالتفاوت بين أشكال حياة

(143)

المستخدِم وأشكال الحياة الأخرى، ولكنْ لم يعتقد أبدًا بشكلٍ واحدٍ للحياة، ونظر إلى اللغات المتنوّعة بمثابة أشكال حياةٍ متنوّعة. مِن هنا، لا يوجد شكل حياةٍ واحدة بين البشر، بل يجب الاعتراف رسميًّا بأشكالٍ للحياة لا تعدّ ولا تحصى.[1] وعلى هذا الأساس، تحتّل أشكال حياة غير الإنسان مكانها خارج نطاق المفهوم الآنف الذكر[2]، وكأنَّ الإنسان هو شكلٌ بيولوجي حصري مغطّى بطبقةٍ ثقافيّة.[3] ويكمن عيب هذا الفهم، في خلطه بين نوعين مِن «الطبیعة الأوّلیّة» و«الطبيعة الثانويّة»[4] للإنسان، والتي إحداها مشتركٌ بين جميع البشر؛ في حين أنَّ الأخرى ليست كذلك. فمن وجهة نظر فيتغنشتاين:

في بداية العمل... بعض أشكال الحياة أوّلية، وبعضها متطوّر. والمجموعة الثانية يمكن أنْ تظهر فقط في سياق المجموعة الأولى. فالمجموعة الأولى كانت موجودة قبل المجموعة الثانية.[5]

المجموعة الأولى مِن أشكال الحياة، هي ما قبل لغويّة.[6] وهذه المجموعة الأولى، هي ما قصده فيتغنشتاين بدقّة مِن مصطلح «أشكال الحياة»[7]، وهذا هو مراده عندما اعتبر ردود الفعل الطبيعية هي المادّة الأوليّة للّغة[8]، والإنسانَ

(144)

مخلوق ما قبل لغوي.[1] ولكنَّ المعيار الثقافي المقترح مِن هاكر وبيكر، يشير إلى المجموعة الثانية. هذا العيب والنقص هو ما واجهته نظرة صاحب «القراءة النبويّة..» التاريخيّة الاجتماعيّة إلى ظاهرة اللغة والفهم ـ وبالنتيجة ـ مركزيّة الإنسان فيها أيضًا.

ولكنْ، هذا ليس كلّ الكلام، فصاحب «القراءة النبويّة ...» مِن خلال استشهاده بقراءة «بيتشر»[2] لجملة فيتغنشتاين: «إذا تكلّم أسدٌ...»، يشير إلى ميله نحو المعيار السلوكي أيضًا:

لنفترض أنَّ أسدًا قال: الآن الساعة تشير إلى الثالثة، ولكنَّه لم ينظر إلى أيّ ساعة؛ سوف نتصوّر أنّه لو كان كلامه صحيحًا حقًّا، فهذا يشير فقط إلى حظّه الجيّد. أو إذا فرضنا الأسد يقول: «يا ويلاه! الآن الساعة الثالثة، ويجب أنْ أسرع لأصل إلى موعدي»، ولكنّه ما يزال في مكانه يلعق ويتثاءب، ولا يبذل جهدًا للتحرّك... بناءً لفرض أنّ السلوك العام لهذا الأسد يشبه بشكل دقيق أسدًا عاديًّا مِن كلّ جانب ـ باستنثاء أنَّ لديه قدرة مبهرة في بيان الجمل ـ ؛ لا يمكننا القول إنَّ الأسد قد أعلن أو صرّح بأنَّ الساعة الثالثة، ورغم أنّه قد تلفّظ بكلماتٍ مناسبة، لكنْ لا يمكننا القول ما هو المطلب الذي أعلنه؛ لأنَّ نوع السلوك الذي يتمّ فيه نسج استخدام كلماته، متفاوت بشكلٍ أساسي عن نوع سلوكنا. نحن لا نستطيع فهمه؛ لأنَّه ليس شريكًا معنا في نوع الحياة.[3]

(145)

مِن الواضح أنَّ «بيتشر» يفسّر كلام فيتغنشتاين بمقاربةٍ سلوكيّة ـ تعاقديّة. لماذا لا يستطيع الإنسان فهم كلام الأسد؟ يجيب «بيتشر»: لأنَّ شكل حياتهم (= السلوكات والتعاقدات) لا يمكن قیاسها.[1] وبخصوص صحّة إسناد المعيار السلوكي إلى فيتغنشتاين، لا يمكن الشكّ بذلك[2]، ولكنَّ هذا لا يعني بالضرورة صحّة قراءة «بيتشر»؛ إذ إنّها تواجه نوعين مِن تحدّیات الاقتباس والمحتوى. ومِن أهمّ تحدّيات الاقتباس، السهو عن خلفيّة نصّ كتاب التحقيقات، الذي يؤكّد فيه فيتغنشتاين على عدم إخفاء مشاعر البشر عن بعضهم البعض.[3] ومِن هنا، فإنَّ تفسير بيتشر يعتبر نوعًا مِن «التفسير بالرأي».[4]

ولكنَّ نطاق الانتقادات للمضمون أوسع بكثير. وقبل أيّ شيء، ليس للمعيار السلوكي مِن فعّالية عندما لا يكون هناك مِن انسجامٍ بين السلوك والكلام. على سبيل المثال، التظاهر على مستوى السلوك أو التكلّم بكناية.[5] بعبارةٍ أخرى: لا يمكن دومًا اختزال شكلٍ للحياة في سلوكٍ علني وصريح.[6] ومِن هنا، يؤكّد بعض المفسّرين على عدم صحّة إسناد «السلوكيّة» إلى فيتغنشتاين.[7] وكذلك لا

(146)

تكون قراءة بيتشر صحيحة، إلّا عندما يتبيّن الاعتقاد بالفصل الكامل لسلوكات الإنسان عن غير الإنسان في فكر فيتغنشتاين؛ لأنَّه إذا كان معتقدًا بوجود بعض السلوكات المشتركة بين الإنسان وغير الإنسان، وحصل أنْ صدر عن الأسد تلك السلوكات، لا يمكن قبول عدم فهم الإنسان لها. ولا ينبغي أنْ ننسى أنّه في هذا المثال الافتراضي، قد استوفي شرط التكلّم.[1] ولكنْ، هل يمكن إسناد مثل هذا الاعتقاد إلى فيتغنشتاين؟ مِن وجهة نظره، هل عدم وجود خصائص مشتركة بني البشر والحيوانات، يعتبر أساس مثل هذا الانفصال الذي ينتهي إلى فصلٍ كاملٍ لأشكال حياتهم وـ بالنتيجة ـ عدم إمكان وجود أيّ نوعٍ مِن الفهم المتبادل فيما بينهم؟ الجواب هو النفي. فيتغنشتاين لا يعتبر هذا الوجوب منوطٌ بـ «الإنسانيّة». على سبيل المثال، يقول:

أنا متعبٌ ومرهقٌ تمامًا. إذا قالها أحدٌ ما، ولكنّه تصرّف بنشاطه المعهود، فلن نفهمه.[2]

وعلى هذا الأساس، حتّى لو تكلّم شخصٌ ما بكلامٍ، ولكنْ لم يتلازم سلوكه مع كلامه، لا يمكننا أيضًا فهم كلامه. بعبارةٍ أخرى: إذا حلّ إنسانٌ مكان أسدِ بيتشر، الذي كان يقول: «الآن الساعة الثالثة، وربَّما لا أصل إلى موعدي»، ولكنْ لم ينظر إلى ساعته ولم ينهض مِن مكانه، لا يمكن فهم كلامه أيضًا. إذاً، ما يُستنتج مِن كلام فيتغنشتاين وجوب تقارن اللغة والسلوك معًا حتّى يظهر الفهم، وليس مركزيّة الإنسان. النقطة المهمّة هنا، هي أنّه يعتبر

(147)

عنصري اللغة والسلوك المشتركين ضروريين لظهور الفهم. ومع ذلك، هناك خطوة واحدة متبقّية مِن أجل استنتاج مركزيّة الإنسان، مِن ذلك: السلوك البشري يأتي فقط مِن الإنسان. بعبارةٍ أخرى: لا يوجد سلوك مشترك ممكن بين البشر وغير البشر. ولكنَّ فيتغنشتاين لا يخطو هذه الخطوة، فهو ليس في صدد إنكار أيّ نوعٍ مِن الخصائص المشتركة بين الإنسان والحيوان وقبول الفصل التام بين هذه الأشكال مِن الحياة.

ولا يجب أنْ نغفل عن أنَّ كلام أسد بيتشر الافتراضي، قد تمّ تصميمه بحيث أنّه غير مفهوم مِن دون العلم بالتعاقد الإنساني حول الزمان، وكذلك السلوكات الإنسانيّة المرتبطة بذلك. لو أنَّ أسد «بيتشر» نطق بالقضيّة الرياضيّة (4=2*2) أو المنطقيّة ([p→q]^p→q) بدلًا مِن التحدّث حول الوقت، كان عدم قدرة البشر على فهم ذلك أمرًا لا يصدّق.

من جهةٍ أخرى، هل إنسانيّة الإنسان تضمن السلوك الإنساني تلقائيًا؟ إنَّ جواب فيتغنشتاين عن هذا السؤال، هو النفي. فهو يشكّك عزو «الأمل» إلى طفل حديث الولادة أيضًا كعزو ذلك إلى كلبٍ.[1] ويعترف أيضًا؛ أنّه عندما يسمع كلام فردٍ صيني، فإنّه لا يستطيع فهم شيءٍ، لدرجة أنّه حتّى لا يمكن التعرّف إلى إنسانيّته.[2] كذلك يقول حول قبيلةٍ افتراضيّة، لا تعبّر عن مشاعرها:

«من المحتمل أنّ بمقدار ما يمكننا إفهام الكلب أنفسنا، لن نستطيع فعل ذلك»[3] .

(148)

هنا يشير فيتغنشتاين إلى إمكانيّة الفهم المتبادل بين الإنسان والكلب، في حين أنّه على أساس المفهوم المخالف لتفسير بيتشر، لا ينبغي للإنسان أنْ يكون قادرًا على التعبير عن نفسه للأسد.

ولكنْ هذا ليس كلّ الكلام؛ إذ يمكن فرض ظروفٍ يعجز فيها البشر عن فهم بعضهم البعض رغم لغتهم وسلوكهم المشتركين. ولذلك، يضيف هاكر شرط الثقافة المشتركة على شرطي الكلام والسلوك مِن أجل الفهم الناشئ عن أشكال الحياة. يبدو الأمر كما لو أنَّ الإنسان يمكن أنْ يعود بالزمن إلى الوراء، إلى حالة مِن القطع والانفصال الثقافي مع الناس مِن اللغة نفسها، ولكنّه ما يزال غير قادر على فهم ما يقولونه:

هل يشترك الناس، الذين كانوا يعيشون أيام اليزابيت، معنا في شكل الحياة، مع الالتفات إلى حقيقة أنّهم يتكلّمون باللغة نفسها التي نتكلّم بها؟ ولكنَّ الإجابة هي النفي مرّة أخرى. هل يشترك جميع الناطقين باللغة الإنكليزيّة في شكل حياتهم؟ هل يشترك ثنائيّو اللغة في شكل حياتهم؟ لا توجد إجابات عن الأسئلة خارج السياق[1] .

تكمن النقطة الأساس في الجملة الأخيرة لهاكر، أنَّ ما يوفّر المعيار الأساس للفهم، هو السياق. والسياق لا يحدث عادةً سوى في العالم الإنساني، ولكنَّ إطلاق هذا الكلام، وبالحدِّ الأدنى مِن زاوية النظرة المتأخّرة لفيتغنشتاين، غير مقبول. وهذا ما ذهب إليه «غايير»[2] في نظرةٍ إلى الشذرة 554 في باب

(149)

اليقين؛ أنَّ الله يمكنه أيضًا التحدّث مع الإنسان فقط داخل سياقٍ مناسب ـ يعني تلك اللعبة اللغويّة نفسها وشكل الحياة الدينيّة الخاصّة ـ[1]. وعلى كلّ حال، مهما كان منظور فيتغنشتاين مِن «إذا تكلّم أسدٌ...»، سيبقى هناك طريقٌ طويل لاستنتاج مركزيّة الإنسان الواردة لدى صاحب «القراءة النبويّة...» مِن أفكار فيتغنشتاين المتأخّرة. وطبق تشرشل:

لا يمكن اعتبار موقف فتغنشتاين مركزيةً للإنسان تمامًا وضيقة الأفق. [لأنّ] الفهم أمرٌ متدرج، تمامًا كما ينطبق على التشابه السلوكي والظاهري الذي هو أمرٌ متدرج أيضًا.[2]

فشل الاستشهاد بـ «نموذج جاكوبسون المكوّن مِن ستّة عناصر»

ياكوسون أو جاكوبسون[3] ينتمي إلى مجموعة علماء الألسنيّة الذين يعتبرون «التواصل»[4] من أبرز وظائف اللغة.[5] ويعرض جاكوبسون نظريّته في نموذجٍ مِن ستّة عناصر، وهذا النموذج مِن أكثر نماذج التواصل اللغوي رواجًا وشهرةً في التحليلات الأدبيّة.[6] وقبل جاكوبسون، قدّم بوهلر[7] في كتابه نظريّة اللغة[8]، نموذجًا مِن ثلاثة عناصر، عُرف بـ

(150)

«أورغنون»[1] والشامل فقط على: المتلقّي، المرسِل والموضوع/المرجع لأيّ حدثٍ أو فعلٍ تواصلي لغويّ.[2] وبنظرةٍ لغويّةٍ صرف إلى التواصل اللغوي الإنساني، يمكن الارتضاء بنموذج أرغنون بوهلر. ولكنَّ جاكوبسون تقدّم خطوةً إلى الأمام، ومِن أجل الوصول إلى هدفٍ خاصّ قام بتوسيع ذلك النموذج، هدف إذا تمّ فهمه بشكل صحيح، مِن شأنه أنْ يمنحنا فهمًا أفضل لرؤية جاكوبسون.

ويعالج جاكوبسون في مقالته «اللسانيّات والشعريّات»[3] الاتصال بين الألسنيّة وعلم الشعر.[4] وضآلة جاكوبسون في هذه المقالة هي «البوطيقا/البويتيقا».[5] وفي خطوته الأولى، يقوم ببسط نموذج بوهلر البسيط ـ خاصّةً في جزئه الوسطي؛ أي الموضوع/ الرسالة)[6]؛ حتّى يتمكّن مِن عدّ جميع وظائف اللغة، ومِن خلال ذلك يوضّح الوظيفة «الشعريّة» للّغة.[7] ومِن هنا، يرى جاكوبسون أنَّ كلّ تواصلٍ لغويّ، يتضمّن ستّة عناصر، هي: «المرسِل أو المتكلّم»، «المتلقّي أو المُرسَل إليه»، «الرسالة»، «السياق»، «العلامات أو السنن» و «قناة الاتصال» ويعرضها في الرسم البياني أدناه:

(151)

السياق

الرسالة

المُرسَل ........................................................ المرسَل إليه

قناة الإتصال

العلامات/السنن

 

ثمّ يشرح الوظيفة الخاصّة لكلّ عنصرٍ مِن هذه العناصر (على التوالي: التعبيريّة أو الانفعاليّة، المرجعيّة، الشعريّة، الإفهاميّة، الانتباهيّة وما وراء اللغة)؛ حتّى يتمكّن مِن خلال ذلك توضيح الوظيفة الشعريّة للّغة والمتمركزة على «الرسالة» ـ[1] ويمنع اللغويين مِن حصر وظيفة اللغة على «الإرجاع».[2] وفي النهاية، يؤكّد جاكوبسون على:

التوجّه نحو الرسالة؛ يعني عندما تكون الرسالة في دائرة الاهتمام ومركزها، سوف يُطرح الدورالشعريّ للّغة.[3]

وهكذا، لعلّه قد اتّضح هدف مقالة جاكوبسون إلى حدٍّ ما. وبجملةٍ واحدة، هذه المقالة هي محاولة لتوضيح الدور مِن أجل الإجابة بسؤالين: ما هو الشعر؟ ما هي الأدبيّات؟.

والآن بعد أنْ اتّضحت خلفيّة نموذج جاكوبسون، يجب الإشارة إلى

(152)
أمرين آخرين؛ الأمر الأوّل حول «المُرسل». يستخدم جاكوبسون في نصّه الأصلي المذكور، لتوضيح مقصوده مِن «المُرسَل»، كلمة «addresser» النادرة الاستخدام.[1] وجاء في معجم أكسفورد الإنكليزي أنَّ معنى هذه الكلمة هو «المُرسل».[2] وكذلك يعتبر معجم «ويبستر» أنَّ أحد معاني الصورة المصدريّة لهذه الكلمة (Address) في النصوص الإنكليزيّة، القديمة والرسميّة، هي «Send» (الإرسال).[3] 
والنكتة هي أنَّه رغم استخدام جاكوبسون في أماكن أخرى مِن مقالته لعبارة «Speaker» خمس مرّات، ولكنّه لا يفعل ذلك عندما يتحدّث عن عناصر التواصل اللغويّ والوظائف المتنوّعة لكلٍّ منها.[4] 
رغم ذلك، بعض المفسِّرين والشارحين، استبدل بكلّ بساطة كلمة «Speaker» (أو الترجمة الفارسيّة لها: المتكلّم/المتحدّث) بكلمةٍ مِن اختياره.[5] ولكنَّ البعض الآخر، عندما يريد توضيح نظريّة جاكوبسون، يرجّح
(153)

الاستفادة مِن كلمة «المُرسِل» الأكثر عموميّة بدلًا مِن كلمة «المتكلّم».[1] إنَّ أداء المترجمين أكثر وفاء اًو قربًا إلى ما أراده جاكوبسون.

والنكتة الأخرى، هي أنَّ مقاربة جاكوبسون إيجابيّة، وليست سلبية. بعبارةٍ أخرى: لا يتطرّق في أيّ مكانٍ مِن مقالته إلى نواقص أو عدم صحّة النماذج التواصليّة الأخرى، التي ـ ولأيّ سببٍ كان ـ تمّ اختزال دور المتكلّم فيها أو لم يؤخذ بعين الاعتبار. إنَّ هدف جاكوبسون هو فقط إيضاح حدودٍ تفصل اللغة الأدبيّة ـ وخاصةًّ الشعر ـ عن اللغة اليوميّة والعامّة.[2] وضمن هذا السياق، هو يؤكّد على الوظيفة الانفعاليّة الخاصّة للمتكلّم في تواصلٍ لغويٍّ إنساني.[3]

وربَّما الآن، بعد اتّضاح نموذج جاكوبسون، لا يمكنه أنْ يكون داعمًا مناسبًا لتوكيدات صاحب «القراءة النبويّة...» الكثيرة على دور عنصر المتكلّم في الفعل التواصلي اللغوي ـ الذي يقوم على أساس «الاستدلال المناقض»[4] للنموذج المقدّم مِن جاكوبسون.[5] وإذا ما رجعنا إلى لغة منطق القضيّة، واعتبرنا كلّ عنصرٍ مِن هذه العناصر الستّة المطروحة مِن قِبل جاكوبسون، «شرطًا» منطقيًّا؛ فسوف يكون

(154)

السؤال التالي في محلّه: هل «العامل/المشغّل»[1] المنطقي بين هذه العناصر الستّة، لزامًا يجب أنْ تكون «و»[2]، أم إنَّه يمكن أحيانًا أنْ يكون بعضها «أو»[3]؟ وجاكوبسون نفسه لا يقول شيئًا حول هذا الأمر، ولكنْ ألا يمكن التفكير بذلك؟! على سبيل المثال، ألا يمكن فرض بعض الظروف التي يفقد فيها المُرسِل دوره التواصلي بالحدّ الأدنى أجزاء منه ويحلّ مكانه القارئ؟![4] في ظلّ هذه الظروف، ألا يمكن وبلسان فيتغنشتاين ـ الاعتقاد بنحوٍ ما بـ «التشابه العائلي»؟! وتزداد الشكوك أكثر، عندما نأخذ بعين الاعتبار بعض خصائص جاكوبسون، مثل وضوح وبساطة لغته، وكذلك اهتمامه بالتنظير في إطار كتاباته العلميّة القصيرة.[5] ولعلّه مِن هذا المنطلق، لا يوجد ذكِرٌ معتدّ به لأسس التفكير عند جاكوبسون في تمام الدراسات المنجزة في مجالاتٍ مثل الألسنيّة، فلسفة اللغة، السيميائيّة، الميثولوجيا و ....[6] وهكذا يبدو أنَّ استناد صاحب «القراءة النبويّة...» إلى نظريّة جاكوبسون مِن أجل التأكيد المتزايد على دور المتكلّم في عمليّة التواصل اللغوي، لا فائدة كبيرة منها.

(155)

فشل الاستشهاد بتفكيك سوسّور بين «اللغة» و«الكلام»

أحد قصور وفشل «القراءة النبويّة...» الأخرى، الفهم الخاطئ أو الاستفادة الخاطئة لأحد أبرز نظريّات سوسّور. تطرّق سوسّور في القسم الرابع مِن محاضرات في علم اللغة العام (أو محاضرات في اللسانيّات العامّة)[1] إلى تفكيك «اللغة» عن «الكلام». والأساس الداخلي لهذا القسم ـ وهو عبارة عن أربع صفحات فقط[2] ـ توضيح «موضوع» علم الألسنيّة الجديد.[3] وباعتقاد كالر[4]، إنَّ سوسّور يهدف مِن خلال ذلك إلى تمهيد الطريق أمام الدراسة «المنهجيّة» للّغة.[5] مِن هنا، يجب عليه أوّلًا توضيح مراده مِن «اللغة» في عنوان «الألسنيّة».[6] بعبارةٍ أخرى: يسعى سوسّور للإجابة عن هذا السؤال: أيّ «لغةٍ» يريد علم الألسنيّة الجديد معرفتها؟ هل هي أمرٌ مجرّد وانتزاعي، مثل قدرة النطق (= قوّة النطق)[7]؟ أم إنّها ظاهرةٌ عامّة وشخصيّة يستخدمها كلّ فردٍ في تمام حياته مِن أجل إيصال مراده للآخرين ومدّ أواصر التواصل معهم؟ أم إنَّها شيء آخر بين الأمرين المذكورين؟ وكأنّ الأمر الأخير (الثالث) هو ما كان يفكّر به سوسّور:

«اللغة، في عين اشتراكها بين العموم وخروجها عن إرادتهم، فإنّها

(156)

موجودة في كلّ فردٍ .... (ولكنْ) في الكلام لا يوجد أيّ عاملٍ عمومي. تعبيراته، فرديّة وعابرة... إنَّ التمييز بين اللغة والكلام وارتباط الكلام باللغة، يحلّ تمام القضايا».[1]

وفي نهاية هذا القسم القصير، يخلص سوسّور إلى النتيجة التالية:

«سنتعامل حصريًّا مع لسانيّات اللغة، وإذا طلبنا المساعدة مِن دراسة الكلام في استدلالاتنا لتوضيح الأمر، فسنحاول دائمًا إبقاء الحدود بين هذين المجالين واضحة».[2]

إنّ كلام سوسّور واضح كفاية. مِن هنا، لا يُرى بين مفسّري أفكاره عدم توافق ملحوظ بهذا الخصوص. وعلى أساس تفسير كالر، يعتبر تفكيك اللغة عن الكلام متناظر مع تفكيك الظواهر الأصليّة عن الفرعيّة والتابعة، والأمر الجمعي عن الأمر الفردي صرفًا، والظاهرة النفسيّة ـ الذهنية عن الظاهرة الماديّة.[3] وهو يعتبر النسبة بين اللغة بالكلام كالنسبة بين المؤسّسة[4] و«الحدث[5]».[6] وما تفسير مكاريك[7] بأنَّ: «الكلامُ يشكّل الرسالةَ، واللغةُ تفهمها أو تفسّرها»؟.[8]

وهكذا، يمكن امتلاك فهمٍ أفضل عن تفكيك سوسّور بين اللغة

(157)

والكلام، وتقبَل أنَّ سوسّور مِن خلال هذا التفكيك، لم يكن أبدًا يسعى إلى إثبات وجوب إنسانيّة المتكلّم أو إنسانيّة عناصر اللغة. في إطار فكره، اللغة وكذلك الكلام ـ وحتّى القوّة الناطقة ـ كلّ ذلك، هي ظواهر إنسانيّة. وبالنظر إلى العمل الخاصّ الذي حددّه سوسّور لنفسه، مع تأسيسه لعلم الألسنيّة كعلمٍ تجريبي[1]؛ لا يوجد عملٌ آخر مندرجٌ على جدول أعماله. وبتعبيرٍ فيتغنشتايني، كان سوسّور حقًا يتجنّب امتزاج لعبتين لغويّتين؛ هما الفلسفة والعلم التجريبي. والنكتة الأخرى الحاسمة، هي أنّ فكر سوسّور ملتزم تمامًا بالعلميّة والمنهجيّة، وحتّى مِن الصعب تصوّر أنَّه قد تخيّل ظروفًا لا يكون فيها المستخدمون للّغة مِن غير الإنسان.[2] وهكذا، رغم أنَّ سوسّور كأيّ عالمٍ آخر، ربّما يكون ملتزمًا بالأسس العلميّة لعمله، ولكنّه يمكن أنْ يكون معتقدًا بوجوب إنسانيّة المتكلّم بكلامٍ ما، أو مستفيدًا مِن لغةٍ ما ـ بمثابة افتراضٍ تجريبي مِن بين مئاتٍ مِن الافتراضات في مثل هذه الدراسات ـ ، ولكنْ لا يمكن لأفكاره أنْ تكون داعمًا مناسبًا لاستنتاج مركزيّة الإنسان التي تبنّاها صاحب «القراءة النبويّة...».

استنتاج

بناءً لكلّ ما تقدّم في هذه المقالة، يمكن التأكيد على البنود أدناه كنتائجٍ لهذا البحث:

أ) يمكن إعادة بناء الاستدلال اللغويّ لصاحب «القراءة النبويّة للعالم» على الشكل الآتي:

(158)

1. اللغة هي ظاهرةٌ إنسانيّة (بشريّة) بالكامل. على هذا الأساس، إذا كانت مؤلّفة مِن عناصر وأجزاء، فإنَّ كلّ عنصرٍ منها إنسانيّ أيضًا.

2. المتكلّم/المتحدّث هو أحد عناصر اللغة. لذا، المتحدّث باللغة لا يمكن إلّا أنْ يكون إنسانًا.

ب) رغم أنّ هذا الاستدلال مِن الناحية الصوريّة (الشكليّة) صحيح، ولكنَّه يعاني مِن فشلٍ على مستوى المضمون.

ج) على مستوى مضمون (مادّة البرهان)، يستند هذا الاستدلال إلى الموارد الآتية:

1.تعريف كيلر لظاهرة اللغة؛

2. فلسفة اللغة المتأخّرة لفيتغنشتاين قائمة على أساس وجوب إنسانيّة تمام أجزاء وعناصر اللغة و ـ في النتيجة ـ امتناع غير إنسانيّة أيٍّ مِن أجزائه وعناصره؛

3. النموذج السداسي العناصر لجاكوبسون مع التأكيد على عدم تفكيك مكانة المتكلّم في عمليّة التواصل اللغوي البشري؛

4. تفكيك سوسّور بين اللغة والكلام والتأكيد على مكانة المتكلّم.

على هذا الصعيد، إنَّ شذرة (2) هو الحجر الأساس في الاستدلال الآنف الذكر مِن أجل الدلالة على صحّة ادّعاء هذا الطرح إنسانيّة راوي/ قائل القرآن ـ .

د) خلاصة العيوب على مستوى المضمون لهذا الاستدلال كالآتي:

1. يواجه اللجوء إلى تعريفٍ خاصٍّ مِن أجل ظاهرة اللغة، وخاصّةً

(159)

عندما يستخدمه للاستنتاج النهائي، فشلين منطقيين: «عدم التحرّر مِن الافترضات المسبقة» و «مصادرة المطلوب».

2. كذلك إنَّ الاستناد المتزامن إلى التعريف المذكور والاستفادة مِن فلسفة اللغة المتأخّرة لفيتغنشتاين، يجعل إطار الاستدلال يواجه فشلًا بنيويًّا، وهو «عدم التوافق الداخلي».

3. إذا ما ذكرنا القراءات غير المتجانسة والتحدّيات العديدة لمقاربة فيتغنشتاين التطبيقيّة للّغة في إطار مفهومي «الألعاب اللغويّة» و«أشكال الحياة»، واكتفاء صاحب «القراءة النبويّة...» ببعض هذه القراءات والصمت أمام هذه التحدّيات؛ يزداد نطاق الشكوك حول طريقة مثل هذا الاستشهاد. وهكذا، هناك صعوباتٍ تواجه تقبّل هذا الطرح لمركزيّة الإنسان صراحةً.

4. إنَّ استناد هذا الطرح إلى «نموذج جاكوبسون المكوّن مِن ستّة عناصر» وتفكيك سوسّور بين «اللغة» و«الكلام» مِن أجل التأكيد على وجوب إنسانيّة أجزاء وعناصر اللغة أيضًا، أمرٌ غير فعّالٍ مِن حيث أنَّه غير متوافق مع دلالتها وهدفها وخلفيتها.

5. على أيّ حال، لقد كان لكلٍّ مِن فيتغنشتاين، جاكوبسون وسوسّور ضالّةً، لا يمكن مِن خلال تفاعل نتائجهم وطروحاتهم الوصول إلى ما كان يسعى إليه صاحب «القراءة النبويّة...».

(160)
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف