فهرس المحتويات

مقدّمة المركز       7

المنهجيّة التأسيسيّة للمشروع الفكري لمجتهد شبستري 9

يحيى بوذري نجاد، مسلم طاهري كل كشوندي

نقد ومناقشة رأي مجتهد شبستري بشأن جوهرة وصدفة الدين95

 محمّد كاشي‌زاده

تأمُّل في الاستدلالات اللغويّة لنظريّة «القراءة النبويّة»125

 محمّد كاظم شاكر، السيّد روح الله شفيعي

قضيّة باسم القراءة الرسميّة 167

 محمّد تقي سبحاني

دراسة تحليلية حول حقيقة الإيمان برؤية شبستري211

 سيّد مرتضى حسيني شاهرودي، سيّد محراب الدين كاظمي

إلهيّة لغة القرآن الكريم243

 أحمد حسين شريفي

الاعتقاد ببشريّة القرآن الكريم 291

 حميد رضا شاكرين

تأملٌ في نظرة مجتهد شبستري إلى عصمة النبيّ الأكرم 315

 قاسم ترخان

نقد نظرة شبستري إلى وسعة علم الأصول والاجتهاد الفقهي 357

 محمّد عرب صالحي

رؤى نقدية معاصرة 9

محمد مجتهد شبستري

دراسة النظريات ونقدها

 

مجموعة مؤلفين

 

العتبة العباسية المقدسة

المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية

(1)
(2)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

(3)

العتبة العباسية المقدسة

المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية

(4)

الفهرس

مقدّمة المركز 7

المنهجيّة التأسيسيّة للمشروع الفكري لمجتهد شبستري 9

يحيى بوذري نجاد، مسلم طاهري كل كشوندي

نقد ومناقشة رأي مجتهد شبستري بشأن جوهرة وصدفة الدين95

محمّد كاشي‌زاده

تأمُّل في الاستدلالات اللغويّة لنظريّة «القراءة النبويّة»125

محمّد كاظم شاكر، السيّد روح الله شفيعي

قضيّة باسم القراءة الرسميّة 167

محمّد تقي سبحاني

دراسة تحليلية حول حقيقة الإيمان برؤية شبستري211

سيّد مرتضى حسيني شاهرودي، سيّد محراب الدين كاظمي

إلهيّة لغة القرآن الكريم243

أحمد حسين شريفي

الاعتقاد ببشريّة القرآن الكريم 291

حميد رضا شاكرين

تأملٌ في نظرة مجتهد شبستري إلى عصمة النبيّ الأكرم 315

قاسم ترخان

نقد نظرة شبستري إلى وسعة علم الأصول والاجتهاد الفقهي 357

محمّد عرب صالحي

(5)
(6)

 

 

مقدّمة المركز

الفكر المعاصر يعتبر مكوّنًا أساسيًّا في المنظومة الفكريّة الإسلاميّة، والتراث المعاصر لايختصّ بطبيعة الحال بالعالم الإسلامي فحسب، وإنّما له ارتباطٌ بجميع الثقافات والكيانات الجماعيّة التي تضرب بجذورها في تاريخ البشريّة.

يتبلور هذا الفكر على أرض الواقع حينما تشهد الساحة ظهور فكرٍ «آخر» بصفته ثقافةً وسلسلة مفاهيم دلاليّة منافسة، فالزمان والمكان إلى جانب المنافسة التي تحدث على ضوء مجموعةٍ مِن المفاهيم التي يطرحها «الآخرون»، كلّها أمورٌ تحفّز المدارس الفكريّة والثقافات الأصيلة للعمل على التأقلم مع الظروف الجديدة، وفي الحين ذاته تحفّزها على السعي للحفاظ على حيويّتها وخصوصيّاتها التي تميّزها عن «الآخر».

لو أنّ التاريخ شهد في بعض مراحله إقبال العلماء المسلمين على التراث الفلسفي الإغريقي، باعتباره نطاقًا منسجمًا مِن الناحية الدلاليّة وذا مضامين عميقة لدرجة أنّ بعض الفلاسفة مِن أمثال الفارابي وابن رشد ولجوا في فضائه الفكري وحاولوا إقامة تعريف معانيهم ورؤاهم الدينيّة متلائماً مع هذا الآخر الدخيل، ففي العصر الراهن باتت الثقافة والحضارة الغربيّتان الحديثتان المتقوّمتان على أسسٍ علمانيّةٍّ وتوسّعيّةٍ، تمثّلان «الآخر» بالنسبة إلينا ولسائر الثقافات غير الغربيّة.

النظام الدلالي المنبثق مِن الفكر الغربي قد أسفر عن إيجاد تحدّياتٍ كبيرةٍ

(7)

لـ «ذاتنا الإسلاميّة» بفضل تفوّقه سياسيًّا واقتصاديًّا، ونطاق هذا التحدّي يتّسع أكثر يومًا بعد يومٍ؛ لذلك طرحت العديد مِن الحلول لمواجهته، وقد استسلم بعضهم لواقع الأمور بعد أنْ شعروا بالخشية مِن الغرور الغربي، فراحوا يبحثون عن الحلّ في العالم الغربي نفسه، لذا دعوا بانفعالٍ إلى ضرورة ملاءمة «ذاتنا» مع هذا «الآخر»، إلا أنَّ آخرين سلكوا نهجًا مغايرًا ودعوا إلى تفعيل تراث «ذاتنا»، وأكّدوا على أنّ الحلّ لا يتبلور في ديار منافسنا، وإنّما هو كامنٌ في ديارنا. نعم، تراثنا المعاصر هو ثمرةٌ لكلّ حلٍّ يمكن أنْ يطرح في هذا المضمار.

المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجيّة افتتح في مكتبه بمدينة قم المقدّسة فرع الفكر المعاصر بهدف تدوين دراساتٍ وبحوثٍ علميّةٍ حول الإنجازات الفكريّة التي تحقّقت على صعيد ما ذكر إلى جانب تقييمها، وفي هذا السياق بادر الباحثون فيه إلى استطلاع المشاريع الفكريّة لأبرز العلماء والمفکّرين في العالم الإسلامي مِن الذين تنصبّ نشاطاتهم الفكريّة في بوتقة نقد الفكر المعاصر، وثمرة هذا النشاط تنشر في إطار دراسات تتضمّن بحوثًا تتطرّق إلى بيان واقع مسيرة إنتاجهم الفكري وكيفيّة تبلور آرائهم بصياغتها النهائيّة.

سنتناول في هذا الكتاب نقد وتحليل آراء الباحث الايراني الدكتور محمّد مجتهد شبستري، وما طرحه مِن آراء ومعتقدات علمانيّة متأثّرة بالمناخ الغربي، ونأمل أنْ ينال رضا القارئ ويجد فيه بغيته. ولا يسعنا في الختام إلّا أنْ نتقدّم بالشكر والتقدير لكلّ مَنْ ساهم في إنجاز هذا العمل، لا سيّما الدكتور بيكي مدير ملفّ الفكر المعاصر، وكذلك السيّد محمّد رضا الطباطبائي مدير وحدة الإصدارات، وسائر الباحثين المساهمين في إنجاز هذا العمل.

(8)

 

 

المنهجيّة التأسيسيّة للمشروع الفكري لمحمّد مجتهد شبستري[1]

يحيى بوذري نجاد[2]، مسلم طاهر كل كشوندي[3]

يُعدّ محمّد مجتهد شبستري مِن المفكّرين الإيرانيين، وقد عمد إلى إبداء نظريّات في حقل القرآن الكريم والنصوص الدينيّة، وأصبحت هذه الآراء، بتأثير مِن الشرائط الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة للمجتمع قبل الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة وبعدها، منشأ لتبلور نقاشات في هذا المجال. يُضاف إلى ذلك، أنَّه حيث خاض في بعض المسائل ذات الاهتمام المشترك بين سائر البلدان الإسلاميّة الأخرى؛ فقد حظيت هذه الآراء باستقبال المحافل العلميّة في الخارج، ومِن بينها البلدان الإسلاميّة أيضًا. ومِن الجدير ذكره أنَّ منشأ هذا الاهتمام لم يكن مقتصرًا على المسائل العلميّة البحتة، وإنَّما يأتي هذا الاهتمام في بعض الموارد في سياق دعم وتعزيز المشاريع التي تهدف إلى توسيع دائرة الرؤية الانتقاديّة للمباني المعرفيّة الفقهيّة والكلاميّة في المجتمعات الإسلاميّة.

(9)

لقد سبق لمحمّد مجتهد شبستري أنْ بدأ الكتابة في حقل مسائل العالم الإسلامي قبل أعوام مِن انتصار الثورة الإسلاميّة، إلّا أنَّه قام بنشر أوّل كتاب له في عام 1376ه‍.ش[1]، تحت عنوان: «هرمنيوطيقا، الكتاب والسنّة».[2] ثمَّ أردف ذلك بتحقيقات وأبحاث أخرى ترمي إلى شرح وإيضاح نظريّاته، وعمد في السنوات اللاحقة إلى اتّخاذ مواقف انتقاديّة تجاه الأوضاع القائمة في التفكير الديني، وأصدر مؤلَّفات أخرى، مثل: «الإيمان والحريّة»[3]، و«نقد القراءة الرسميّة للدين»[4]، و«تأمّلات في القراءة الإنسانيّة للدين».[5] وفي عام 1386ه‍.ش[6]، قام بتضمين أحدث نظريّاته في حقل هرمنيوطيقا النصوص الدينيّة الإسلاميّة (القرآن الكريم) في مقالة تفصيليّة بعنوان «القراءة النبويّة للعالم»[7]، وفي مقابلة تحمل عنوان: «الهرمنيوطيقا: التفسير الديني للعالم»[8]، حيث رفع النقاب فيهما عن أفكاره المختلفة في التعاطي مع مسألة الوحي وكيفيّة قراءته. وكان للمرّة الأولى أنْ تمّ التصريح في هذه المقالة بأنَّ القرآن الكريم هو «كلام نبويّ»وثمرة الوحي، وليس الوحي ذاته، وإنَّه ـ بحسب الحقيقة والواقع ـ قراءة توحيديّة عن العالم في ضوء الوحي. وأمّا الكتاب

(10)

الأخير لمحمّد مجتهد شبستري، فقد صدر في عام 1396ه‍.ش[1] بعنوان: «نقد أسس الفقه والكلام» بنسخته الإلكترونيّة. وقد بحث في هذا الكتاب نسيج العلوم الناظرة إلى الحياة الإنسانيّة للمسلمين، مِن قبيل: الفقه والكلام، حيث كان يُنظر إلى هذين العلمين بوصفهما الممثّلين للعقلانيّة العمليّة والناظرة إلى حياة المجتمع الإسلامي، ويعملان على صياغة وبلورة محتوى وصورة هذا المجتمع في البُعد النظري وفي المساحة العمليّة أيضًا.

وعلى كلِّ حال، فإنَّه مِن المناسب العمل ـ بالنظر إلى بيان هذه النظريّات الخاصّة مِن قبل محمّد مجتهد شبستري ـ على دراسة وتحليل الأبعاد والزوايا المختلفة لمشروعه الفكري. وإنَّ هذه الدراسة تهدف بدورها إلى إخضاع مشروعه الفكري للتدقيق والتأمّل، حيث نسعى فيها إلى بحث هذا المشروع ضمن إطار الاتّجاه الموسوم بـ «المنهجيّة التأسيسيّة».

وفي إطار تحقيق هذه الغاية، سوف تكون لنا إطلالة على السيرة الذاتيّة لمحمّد مجتهد شبستري، وبعد ذلك سوف نعمل أوّلًا على بيان الخلفيّات المعرفيّة وغير المعرفيّة لأفكاره، لننتقل بعدها إلى تحليل مشروعه الفكري والنظريّات المختلفة التي تبلورت في صلب هذا المشروع، وفي الختام سوف نعمل على التدقيق في مناسبات المباني والأسس النظريّة له، وسوف نعمل في الوقت نفسه على نقد وتقييم نظريّاته.

(11)

الخلفيّات الفكريّة لمحمّد مجتهد شبستري

إنَّ العناصر والعوامل المؤثِّرة في تعيين فكرة أو نظريّة ما في نسيج وعي المفكر، هي التي تعمل على بلورة الخلفيّات الوجوديّة لتلك الرؤية والنظريّة. إنَّ الخلفيّات الوجوديّة لرؤية ما إمّا هي عبارة عن خلفيّات معرفيّة، وإمّا شرائط غير معرفيّة تساعد على تعيّن آراء مفكِّر بعينه؛ وإنَّ الخلفيّات الوجوديّة المعرفيّة التي تضفي الهويّة على رؤية أو نظريّة ما، تشتمل على عوامل دخيلة في التكوين التاريخي للنظريّة، وتقيم كذلك ارتباطًا منطقيًا مع نظريّات المفكِّر؛ وذلك لأنَّ كلّ نظريّة أو فكرة تقيم نسبة مع التيّارات الفكريّة، وتتبلور تحت تأثير مفكِّرين بخصوصهم، كما تقوم على أساس المباني الأنطولوجيّة، والإبستيمولوجيّة، والأنثروبولوجيّة الخاصّة. ومِن هذه الناحية، فإنَّ النظريّة تقيم صلة أساسيّة مع هذه المباني، حيث تشكِّل في حدّ ذاتها موضوعًا لتأمّل ثانوي، وتعدّ الأرضيّة لبحث المناسبات بين المباني والأبنية. وإنَّ الخلفيّات الوجوديّة غير المعرفيّة بدورها، وإنْ لم يكن لها ارتباط منطقي مع نظريّات المفكِّر، ولكنَّها تحتوي في الغالب على ناحية تحفيزيّة. يتمّ في هذا الأفق بحث العوامل والخلفيّات التي لا يكون لها في تعيّن التفكير ماهية معرفيّة، وإنَّما تشتمل على الحواضن الاجتماعيّة والسياسيّة الموجودة لكلِّ فكرة أو نظريّة؛ وذلك لأنَّ كلِّ رؤية أو نظريّة، إنَّما تتبلور ضمن بيئة اجتماعيّة / سياسيّة خاصّة.[1]

وفيما يلي، سوف نقوم أوّلًا ببحث الخلفيّات غير المعرفيّة لأفكار محمّد مجتهد شبستري، لننتقل بعد ذلك إلى بيان الخلفيّات المعرفيّة له:

(12)

أ) الخلفيّات غير المعرفيّة للمشروع الفكري لمجتهد شبستري

إنَّ الخلفيّات غير المعرفيّة، عبارة عن العناصر والعوامل التحفيزيّة، مِن قبيل: الشرائط والظروف الشخصيّة والفرديّة، والأسريّة، والسياسيّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والثقافيّة، والتي تتجلّى في الغالب ضمن مرحلة العثور على الأرضيّات واختيار المفكِّر لأهدافه وغاياته، وتكون سببًا في تعلّق المفكِّر أو ابتعاده عن موضوعات ومسائل خاصّة، ويعمل على توجيه متعلّق فکره بناءً عليها. ومِن المناسب لكي ندرك أسباب تبلور المشروع الفكري لمجتهد شبستري، أنْ نلقي نظرة على الشرائط الفرديّة والشخصيّة والأسريّة له مِن جهة، والشرائط والظروف السياسيّة والاجتماعيّة/ الثقافيّة التي عاش في كنفها مِن جهة أخرى.

الشرائط والظروف الفرديّة والأسريّة

ولد محمّد مجتهد شبستري سنة 1315ه‍.ش[1] في مدينة شبستر (مِن محافظة أذربيجان الشرقيّة) في إيران. وقد ذاق مرارة فقد أمه وهو في عامه الخامس؛ حيث وافاها الأجل متأثِّرة بمرض السلِّ، وبسبب تعرّض والده الحاج ميرزا كاظم شبستري[2] إلى الأذى والتضييق مِن قبل أجهزة السلطة في مدينة

(13)

شبستر، اضطرّ هو وأسرته إلى ترك هذه المدينة والانتقال إلى العيش والإقامة في مدينة تبريز، حيث فقد والده هناك وهو لم يتجاوز السنة الثانية عشرة مِن عمره.[1] وقد تحدّث شبستري بنفسه عن هاتين الحادثتين بوصفهما مِن «الذكريات المريرة»و«التجارب الأليمة» التي أدّت إلى تأثّره على المستوى النفسي والروحي، وأضرّت بحياته على المستوى المادّي والمعنوي. وقال شبستري متحدّثًا عن تجربة والده: إنَّه سافر مِن شبستر إلى النجف الأشرف في طلب العلوم الدينيّة والإسلاميّة، وانخرط في سلك تلاميذ السيّد محمّد كاظم اليزدي[2]، وكان يُعدّ مِن المراجع المعارضين للثورة الدستوريّة.[3] وبحسب ما يروي محمّد مجتهد شبستري، فإنَّ والده على ما يبدو لم يكن في صفوف

(14)

الآخوند[1]، وإنَّما كان مِن أنصار السيّد محمّد كاظم اليزدي في معارضته للثورة الدستوريّة (أو ما يُعرف بالمشروطة). عندما بلغ محمّد مجتهد شبستري عامه السابع أو الثامن، خرج به والده مِن البيئة الاجتماعيّة لمدينة تبريز، وبسبب النظام التعليمي الحكومي العلماني والمناهض ـ بعبارة أخرى ـ للدين في تلك المرحلة، أدخله أبوه في مدرسة باسم المدرسة «العلميّة» كان قد أسّسها في مدينة تبريز بنفسه، ولم تكن هذه المدرسة تحظى بغطاء داعم مِن وزارة التربية والتعليم. وتبعًا لذلك، لم تكن هذه المدرسة تمنح المنتسبين لها شهادات علميّة معتبرة مِن قبل الجهات الحكوميّة، ولم تكن بعض مناهج التربية والتعليم تدرّس في تلك المدرسة. وكان الطلاب الذي يسجّلون في هذه المدرسة ينحدرون مِن الأسر التي تؤمن بحرمة إرسال أبنائها إلى المدارس الحكوميّة. وكانت الدروس التي يتمّ تعلّمها في هذه المدرسة تقتصر على اللغة الفارسيّة والعربيّة، بالإضافة إلى التاريخ والجغرافيا والرياضيّات وما إلى ذلك. ولم يكن هناك درس للموسيقا في المدرسة العلميّة كما هو معهود في المدارس الحكوميّة، ولم يكن هناك درس للرياضة، وفي المقابل كان يتمّ الاهتمام بدلًا مِن ذلك بالدروس الدينيّة والقرآن الكريم والشرعيّات.

(15)

كان هناك سببان وراء انتساب محمّد مجتهد شبستري إلى حوزة العلوم الإسلاميّة؛ السبب الأول: أنَّ انتهاء العقد الأوّل مِن حياته قد اقترن بمرحلة انتشار أفكار أحمد كسروي[1] في منطقة أذربيجان، الأمر الذي شكَّل جرس إنذار للأسر المتديّنة وأبنائها. والسبب الثاني: يعود إلى الأسلوب التربوي الخاصّ الذي أخضعه له والده؛ فقد كان أبوه يرغب في أنْ يصبح نجله طالبًا للعلوم الدينيّة حتمًا. ومِن هنا، فقد كان والده بالإضافة إلى ما يتلقّاه مِن الدروس في المدرسة العلميّة، قد خصّص له في البيت دروسًا خاصّة في الصرف والنحو مِن الأدبيّات العربيّة أيضًا. ولكي يطّلع على فضاء الخطاب الديني، كان يصطحبه معه إلى المساجد ليستمع إلى خطب وكلمات الواعظين. وبعد وفاة والده في عام 1327ه‍.ش[2]، أراد تجربة الدراسة في المدارس الحكوميّة، ولهذا السبب فقد سجّل في مدرسة «فيوضات» الحكوميّة. وبقي بعد ذلك في مدينة تبريز على مدى ثلاث سنوات، ولكنَّه بقرار مِن الأسرة ورغبة منه، أراد الدراسة في حوزة العلوم الإسلاميّة، ولهذا السبب شدّ الرحال بعد ثلاث سنوات مِن رحيل والده[3]؛ أي في عام 1330ه‍.ش[4]؛ ليواصل دراسة العلوم الإسلاميّة في الحوزة العلميّة بقم، وانتقل إلى مدرسة الحجّتيّة للإقامة فيها.

(16)

وبسبب طبيعته الانعزاليّة التي ظهرت عليه بشكل مبكّر، آثر السكن في الطابق الثاني مِن مدرسة الحجّتيّة، حيث اختار حجرة لا تتّسع إلّا لشخص واحد فقط. وأمضى في هذه المدرسة ثمانية عشر عامًا، قضاها في التحصيل والتحقيق في حقل الفلسفة والكلام الإسلامي، بالإضافة إلى الفقه والأصول والتفسير.

وفي عام 1348ه‍.ش، أرسل آية الله السيّد محمّد حسين البهشتي، الذي كان يشغل في حينها منصب مدير المركز الإسلامي في مدينة هامبورغ الألمانيّة، دعوة إلى محمّد مجتهد شبستري للحضور في هذا المركز الإسلامي، وقد حظيت هذه الدعوة بمباركة وتأييد مِن قبل مرجعين في حينها، وهما: آية الله الميلاني وآية الله الخونساري، فسافر إثر ذلك برفقة أهله إلى ألمانيا على نفقة آية الله السيّد البروجردي؛ ليتولّى هناك منصب إدارة المركز الإسلامي في هامبورغ. وقد أقام في ألمانيا على مدى تسع سنوات تولّى خلالها إدارة هذا المركز الإسلامي. وقد أتاحت له هذه الأقامة الطويلة في أوروبا أنْ يطّلع، بعد تعلّم اللغة الألمانيّة، على الثقافة والحضارة الغربيّتين، ولا سيّما الفلسفة الجديدة واللاهوت المسيحي، وأنْ يقوم ببعض الدراسات والتحقيقات في هذا الشأن. وخلال هذه المدّة سافر مرارًا إلى مختلف البلدان الأوروبيّة والعربيّة والأمريكيّة لغرض المشاركة في المؤتمرات والندوات الدوليّة الفلسفيّة واللاهوتيّة وإلقاء الكلمات فيها، وحاور مختلف الشخصيّات المسيحيّة واليهوديّة والبوذيّة والإسلاميّة البارزة في مختلف أنحاء العالم، وتبادل معهم وجهات النظر حول تحدّيات العلم والفلسفة الحديثة بالإضافة إلى الإلهيّات في الأديان الكبرى.

(17)
الشرائط الاجتماعيّة السياسيّة في تبلور المشروع الفكري لشبستري

لقد شهد محمّد مجتهد شبستري في صغره احتلالَ مدينة أذربيجان على يد القوّات الروسيّة، وبقاءهم فيها.[1] وقد رأى معسكر الجنود الروس بأمّ عينه. وكانت تلك الحقبة مثيرة للقلق مِن ناحية سيطرة الحزب الديمقراطي على أذربيجان[2] إلى حدّ كبير. لقد تركت تحدّيات تأسيس الدولة الحديثة على يد البهلوي الأول، تأثيرًا كبيرًا على شبستري الشاب، واستمرّ هذا التأثير بزخَم أكبر في فترة حكم البهلوي الثاني، وأمضى مرحلة الشباب يميل نحو التيّارات

(18)

الوطنيّة/ المذهبيّة ـ مِن قبيل تيار الدكتور محمّد مصدق (الوطني) ـ والابتعاد عن تيّارات مِن قبيل حزب تودة (الشيوعي).[1] وبعد ثماني عشرة سنة مِن الدراسة في الحوزة العلميّة بقم، والمشاركة في الدروس الشائعة في الحوزة وهي عبارة عن: الفقه واصول الفقه والكلام والفلسفة ـ والتفسير إلى حدّ ما ـ أمضى السنوات الثمانية الأخيرة مِن وجوده في الحوزة ـ العلميّة مشاركًا في دروس خارج الفقه والأصول عند الأساتذة مِن الدرجة الأولى في تلك المرحلة. ومِن بين جميع هذه الدروس، كان الحضور في درس تفسير العلّامة الطباطبائي[2]، يحظى بجاذبيّة أكبر بالنسبة إلى محمّد مجتهد شبستري؛ وبالإضافة إلى هذه الدروس الحوزويّة، كانت له بعض الدراسات الحقوقيّة أيضًا. وفي عام 1348ه‍.ش[3]، قبل الدعوة المرسلة إليه لإدارة المركز الإسلامي في مدينة هامبورغ الألماني، وقد أثّرت عليه الإقامة في ألمانيا والنسيج المعرفي والثقافي لهذا البلد، وكانت ثمرة ذلك تعلّم اللغة الألمانيّة للتركيز على رسالته الأصليّة،

(19)

والتي تمثّلت ـ على حدّ تعبيره ـ بالتعريف الاجتماعي لدين الإسلام. وكان مِن بين أهمّ نشاطاته خلال فترة إدارته في المركز الإسلامي لهامبورغ، افتتاحه لمشروع حواري للأطفال المسلمين الناشئين في ألمانيا، وتوسيع دائرة الحوار مع سائر الأعضاء في التجمّعات الدينيّة الأخرى في المجتمع الألماني.[1]

بمعنى أنَّ إدارة المركز الإسلامي في بلد أوروبي، إذ كان يراجعه الكثير مِن المسلمين ومِن أتباع الديانات الأخرى ـ ولا سيّما المسيحيّون منهم ـ وضرورة إلقاء الكلمات والاستماع إلى خطابات الآخرين، والمشاركة في الحوارات، وكذلك الحضور في الندوات والمجالس الحواريّة بين الأديان في مدينة هامبورغ وسائر المدن الألمانيّة الأخرى، وكذلك البلدان الأوروبيّة، كانت تستوجب تعلّم اللغة الألمانيّة. وبعد إتقان اللغة الألمانيّة، أخذ يشارك في الحوارات الدينيّة والمحافل السياسيّة؛ إذ كان الفضاء الحاكم في جميعها، هو التفكير الانتقادي بمفهومه الكانطي. وفي تلك الظروف كان على حدّ تعبيره:

«كنت أشبه بشخص يعيش في برزخ الحياة. وقد ارتأيتُ أنْ أسبر غور ذهني، وفجأة وجدت نفسي منجرفًا مع تيّار الجهود المعرفيّة والإبستيمولوجيّة».[2]

ونتيجة لذلك، فقد تركّزت جهوده في الغالب على فلسفة الغرب، وعثر على جاذبيّات في اللاهوت المسيحي الناظر إلى هذه المقدّمات الذهنيّة والمعرفيّة؛ هذا جعل منهجيّة اللاهوت المسيحي مهمّة بالنسبة له. وفي خضم ذلك، وبالإضافة إلى اللغة الألمانيّة والتفكير الانتقادي واللاهوت المسيحي،

(20)

أخذ موضوع آخر يشغل ذهنه بالتدريج أيضًا، ولم يكن ذلك الموضوع سوى الديمقراطيّة السائدة في ألمانيا. إنَّ المراد مِن الديمقراطيّة بهذا المعنى، كانت تتمثّل عند محمّد مجتهد شبستري بقوله:

«لا أحد مِن الناس هناك يُزعج الآخرين، وكان متّفقًا بينهم أنْ يعتبروا حياتهم الاجتماعيّة/ السياسيّة على شكل عقد وتوافق يحصل فيه كلُّ واحد منهم على حقوقه».[1]

ب) الخلفيّات المعرفيّة للمشروع الفكري لشبستري

الشخصيّات والاتجاهات الفكريّة المؤثّرة على المشروع الفكري لشبستري في البحث عن الشخصيّات الفكريّة المؤثّرة على المشروع الفكري لمحمّد مجتهد شبستري، تجب الإشارة إلى البُعدين الداخلي والخارجي في هذا الشأن؛ بمعنى أنَّ شبستري كان قد تأثّر بأشخاص موجودين في العالمين الإسلامي والغربي؛ کالدكتور محمّد مصدق.[2]

(21)

وفي ضوء ذكره لأسماء بعض الشخصيّات الآخر في تضاعيف آثاره وأعماله، يمكن لنا أنْ نسمّي مِن بين الأشخاص الذين تأثّر بهم محمّد مجتهد شبستري ـ على مستوى الداخل ـ كلًّا مِن آية الله السيّد حسين البروجردي[1]، وآية الله السيّد الإمام الخميني[2]، وآية الله السيّد محمود الطالقاني[3]، والمهندس مهدي بازرگان.[4]

(22)

لقد كان محمّد مجتهد شبستري في مرحلة شبابه متأثرًا بحركة الدكتور محمّد مصدق، وكان سبب هذا التأثّر هو «صوت الناس واختيارهم» في وصول الدكتور مصدق إلى السلطة. ونظريّة مجتهد شبستري في هذه المسألة تبدو للعيان تحت عنوان «حرمة الأشخاص وحريّتهم في الانتخاب»في مقابل «مقام ترسيخ الشاه» الذي تمّ ربط سلطته ـ لأيّ سبب كان ـ بسلطة أبيه، ولم تكن لها أيّة صلة بإرادة الشعب الذي يجب أنْ يكون هو مصدر السلطات.[1] ولهذا السبب، كان مجتهد شبستري في حالة التعارض بين الدكتور مصدق والشاه البهلوي الثاني (الابن)، ينحاز إلى الدكتور محمّد مصدق.

وكان تأثّر مجتهد شبستري بآية الله السيّد محمود الطالقاني يعود إلى أدائه أكثر مِن تفسيره.[2] وفي تبرير حصول هذه الرؤية تجاه آية الله الطالقاني، يقول مجتهد شبستري: إنَّ الطالقاني كان يؤمن بأنَّ المعرفة الدينيّة، إنَّما تتحقّق لدى الإنسان مِن طريق العمل والجهاد، وليس مِن طريق التفكير؛ ومِن هنا كان مجتهد شبستري يعرّف بالسيّد الطالقاني بوصفه شخصًا مجاهدًا، وأنَّه كان مخلصًا في جهاده.

وبالنظر إلى تواجد مجتهد شبستري في أوروبا، وانحيازه إلى الفلسفة

(23)

القاريّة[1] والتفكير الانتقادي مِن جهة، والاتجاه نحو تيّار اللاهوت الليبرالي والتفسير المسيحي الليبرالي للكتاب المقدّس في عالم المسيحيّة مِن جهة أخرى[2]؛ كان في نقده للديمقراطيّة وانتشار وباء العدميّة بوصفه مِن الآفات الكبرى التي يعاني منها الغرب، يستند إلى آراء ماركوز وإريك فروم. وكان في اتخاذ الاتّجاه المفهومي بالنسبة إلى الحياة، متأثرًا ببعض المستنيرين المسيحيين، مِن أمثال: تيليش وبولتمان. وكذلك، فإنَّه في سياق إيمانه بأطر الهرمنيوطيقا الفلسفيّة والمنهجيّة، وتلفيقها في التعاطي مع النصوص الدينيّة مِن جهة، وعرض رؤيته في باب فهم الحياة الإنسانيّة مِن جهة أخرى، نجد في آرائه حضورًا ملحوظًا لنظريّات الفلاسفة الهرمنيوطيقيين، مِن أمثال: شلايرماخر، وفليلهم ديلتاي، وصولًا إلى هانس غادامير، وبيتّي وهيرش أيضًا.

إنَّ محمّد مجتهد شبستري يُنذر مخاطبيه، بأنَّهم إذا أرادوا أنْ يفهموا نظريّاته وأفكاره، يتعيّن عليهم الالتفات إلى المناشئ والجذور النظريّة والمعرفيّة التي قام باتّخاذها، ويدّعي أنَّهم إذا أرادوا فهم مشروعه الفكري، وجب عليهم أنْ يلتفتوا إلى ماهيّة المصادر الفلسفيّة التي تشبّع بها ذهن الشخص الذي يؤلِّف

(24)

هذه الكتب، ومِن أين يستقي هذه المصادر، وما هي المفاهيم المستقرّة في ذهنه وتعمل على توجيه طريقة تفكيره وكتابته.[1]

ج) المراحل الفكريّة لمجتهد شبستري

يبدو أنَّ السيرة العلميّة لمجتهد شبستري ـ بتأثير مِن الثورة الإسلاميّة، وما تبعها بعد ذلك مِن تأسيس نظام الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران ـ قد شهدت في الحدّ الأدنى ثلاث مراحل فكريّة، نجملها ضمن العناوين الآتية:

المرحلة الأولى: محمّد مجتهد شبستري بوصفه مصلحًا اجتماعيًا

في المرحلة الأولى، مِن خلال حضوره ونشاطه في صحف ومجلّات، مثل: (مكتب إسلام)، و(مكتب تشيّع) في أواخر عقد الثلاثينيّات مِن القرن الهجري الشمسي، وكتابته لمقالات سعى مِن خلالها إلى إثبات جدوائيّة النصوص الدينيّة ـ في مواجهة المسائل الاجتماعيّة المعاصرة.[2] وكان قد صبّ جهوده مِن أجل العثور على الاتجاه السائد في النصوص الدينيّة مِن قبيل القرآن الكريم والسنّة النبويّة ـ في المواجهة مع مختلف المسائل. ومِن هنا، فإنَّ منهج مجتهد شبستري في التعاطي مع النصوص الدينيّة توصيفي/ توضيحي، وبصدد الكشف عن المعنى والمفهوم الحقيقي، والعثور على علل وغايات تشريع مختلف الأحكام الإسلاميّة في هذه النصوص «كما هي».[3]

(25)

يذهب محمّد مجتهد شبستري في هذه المرحلة إلى الاعتقاد بأنَّ مسائل مِن قبيل:

«إدراك الأصول المسلّمة في نظام الخلق، والإيمان بالخالق ومبدأ الوجود، وفهم أنَّ خلقه مستمرّ على الدوام، وأنَّ العالم لا يمكن أنْ يستغني عنه ولو للحظة واحدة، وما هو الموقع الصحيح للإنسان في منظومة الخلق الواسعة؟ وكيف يجب أنْ يكون ارتباطه مع الخالق والعالم والأشخاص الآخرين؟ وكيف يجب أنْ يعمل على تنظيم برنامج الحياة في هذا العالم ليصل إلى السعادة والكمال في كلا الدارين؟»، هي مِن المسائل التي «سعى الأنبياء إلى بيان رؤية صحيحة حولها، وأنَّ القوانين المدنيّة والجزائيّة للأديان، عبارة عن آداب ومناسك تمّ تشريعها مِن أجل إقامة التواصل بين الإنسان وخالقه، وترِد بأجمعها في إطار ضمان الأهداف المذكورة أعلاه».[1]

يعمد مجتهد شبستري إلى التعريف بالإسلام بوصفه الدين الأكمل مِن بين جميع الأديان في حقل التعريف بأصول وأهداف الحياة الإنسانيّة[2]، وفي معرض نقده لنهضة تشريع القوانين بما يتوافق والأسلوب الغربي في البلدان الإسلاميّة ـ «والذي تكون نتيجته التخلّي عن الكثير مِن قوانين الفقه الإسلامي على الرغم مِن تناغمها التام مع الأفكار والسنن والآداب والمقتضيات الطبيعيّة والمحليّة للبدان الإسلاميّة» ـ إلى الاعتقاد بضرورة

(26)

«الالتفات إلى التداعيات والتبعات السيّئة لهذه النهضة التشريعيّة وغير المنطقيّة، ويجب إزالة القوانين الغربيّة الناشزة، والتي تمّ فرضها على هذه المجتمعات، واستبدالها بالقوانين الأصيلة والمتناغمة مع الفقه الإسلامي»[1]؛ إذ «إنَّ ما ورد في إعلان الحكومة الإسلاميّة العالميّة، لا ينشد هدفًا أسمى وأفضل مِن الإعلان العالمي للأمم المتّحدة»[2] فحسب، بل «وإنَّ قوانين الفقه الإسلامي المنبثقة عن الوحي، قد ازدهرت في البدان الإسلاميّة وتكاملت على مدى القرون، وكانت وما تزال متماهية ومنسجمة مع هذه الأرضيّات بشكل كامل».[3] وأدّت إلى «أنْ تكون للحقوق الإسلاميّة أصول وفلسفة خاصّة بها، لم تقتبس مِن أيّ مبدأ وأصل آخر، وإنَّ الحقوق الإسلاميّة ـ بحسب مصطلح الحقوقيين ـ حقوق إلهيّة؛ بمعنى أنَّها حقوق ذات أصول وجذور دينيّة، وإنَّ المسلمين إنَّما يرون قوانينها وأحكامها واجبة الإجراء والتطبيق؛ لأنَّ الله ـ خالق العالم ـ هو الذي أقرّها وقام بتشريعها»[4]؛ وذلك لأنَّه قد عرّف بـ «القوانين السامية للقرآن الكريم والشخصيّة الاستثنائيّة والفذّة للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله»[5]، بوصفها منشأ تبلور المجتمع الإسلامي ومنطق التطوّر الحاكم عليها، وذهب إلى الاعتقاد والقول:

(27)

«يجب العمل على تجزئة وتحليل الفلسفات الحقوقيّة للإسلام بشكل صحيح؛ كيما نثبت أفضليّة هذه الفلسفات ـ مِن حيث الصحّة والشمول ـ على الفلسفات السائدة في العالم الغربي».[1]

المرحلة الثانية: مجتهد شبستري بوصفه ناقدًا لمناهج المواجهة مع النصوص المقدّسة

لقد ادّعى محمّد مجتهد شبستري في مرحلة مِن حياته العلميّة أنَّ القرآن الكريم رواية واحدة قدّمها النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الوجود والعالم، وكان في تلك المرحلة يذهب إلى الاعتقاد بوجوب «الفصل والتفريق بين الحقيقة الدينيّة التي تمّ وحيها على جماعة، وبين المفاهيم والتعابير التي يستخدمها أتباع تلك الحقيقة الدينيّة».[2] لقد كان شبستري في هذه المرحلة، يذهب إلى الاعتقاد بأنَّ القرآن الكريم خطاب واحد ينطوي على مفهوم مركزي، ويرى أنَّ كلّ جهود المؤمنين والمفسِّرين، يجب أنْ تصبّ على اكتشاف هذا المفهوم. إذ لو تمّت القراءة على هذه الشاكلة، فإنَّه لن يتمّ النظر إلى الأحكام الاقتصاديّة أو العباديّة المقتبسة مِن القرآن الكريم بوصفها نسيج وحدها. إنَّه يُنظر إليها بوصفها أحكامًا مرتبطة بزمانها، حيث تكون في خدمة بيان المفهوم المركزيّ للنصّ الوحياني، كما أنَّه لا يوجد في هذه الرؤية أيّ فهم مِن دون فرضيّة مسبقة. ومِن هنا، فإنَّ اختلاق الحجيّات السابقة ـ التي تنطوي في الغالب على المباني السياسيّة والحفاظ على الهويّات المذهبيّة والطائفيّة ـ تحول دون الفهم المستمرّ، وإنَّ الطريق إلى الخروج منها يكمن في العودة إلى اللوازم

(28)

الطبيعيّة للفهم، وليس الخوض والتمسّك بإضفاء المتقدِّمين للحجيّة على القضايا الدينيّة.

المرحلة الثالثة: اتّخاذ الاتجاه الظاهراتي في المواجهة مع النصوص الوحيانيّة

أمّا في المرحلة المتأخّرة، فقد تخلّى عن أسلوبه الانتقادي تجاه المناهج التفسيريّة الموجودة في العالم الإسلامي، وادّعى بأنَّ القول: «إنَّ جميع النصّ الفعلي للقرآن مِن الزاوية التاريخيّة أثر أو آثار لشخص واحد هو «النبيّ»، وأنَّه أوّلًا قد قرأ العالم قراءة وحيانيّة، وثانيًا أنَّ هذا الشخص هو النبيّ الأكرم محمّد بن عبدالله صلى‌الله‌عليه‌وآله ادّعاء تاريخي غير كاف، بل إنَّ الشيء الوحيد الذي يمكن ادّعاؤه بشأن كتاب مِن قبيل القرآن الكريم، هو أنَّ «القراءة الظاهراتيّة»و«القراءة الروائيّة» بسبب ماهيّة هذا النصّ، تفتح الطريق بشكل ناجع.[1]»

د) المباني الفكريّة لمحمّد مجتهد شبستري

سوف نتعرّض في هذا الفصل إلى بيان أهمّ المباني الفكريّة لمجتهد شبستري، والتي يُنظر لها بوصفها القاعدة والأساس لنظريّاته. تقدّم أنْ أشرنا إلى أنَّ كلَّ نظريّة تقوم على سلسلة مِن المبادئ والمباني، ولكي تتبلور النظريّة في ذهن المفكِّر، يجب أنْ تنتظم مبادئ تلك النظريّة في ذهنه. بالنظر إلى بيان المدارس المؤثّرة وكذلك جذور التفكير عند مجتهد شبستري، مِن الواضح أنَّه في أخذ هذه المباني، قد تأثّر باتجاهات ومفكِّرين قد سبقوه في امتلاك تأمّلات في حقل اللغة والدين والمجتمع.

(29)
المباني الوجوديّة والأنطولوجيّة

يتمّ الكلام في الأنطولوجيا حول ماهيّة ووجود العالم، وماهية الأشياء الموجودة في العالم، ومهامها وأدوارها. إنَّ تفكير محمّد مجتهد شبستري في هذا القسم، متأثّر بالفلسفة القارّية[1]، ولا سيّما المنظّرون الذين يركّزون على تحليل المعنى وفهمه، مِن أمثال: هانس غادامير، وشلايرماخر. وفي التماهي مع سائر مباني تفكيره ـ مِن قبيل ماهيّة المعرفة والإنسان ـ يحمل نوعًا مِن الهرمنيوطيقا التي ينعكس فيها. وفي الحقيقة، فإنَّه بعد تغلّب الرؤية الهرمنيوطيقيّة على الوجود، وامتلاك هاجس «الفهم» بدلًا مِن «الكشف»، لا يبقى لمحمّد مجتهد شبستري شيء مِن الأنطولوجيا الذاتيّة بالمعنى المتعارف لها، وتنخفض القضايا الأنطولوجيّة إلى أفق مِن الأبحاث الهرمنيوطيقيّة الإبستيمولوجيّة؛ حيث لا يعود معيار الصدق والكذب فيها هو الحقيقة الذاتيّة. وإذا كان هناك مِن وجه باق للحقيقة في المشروع الفكري لمجتهد شبستري، فإنَّ البحث عن الحقيقة سوف يتبلور في مهد مِن اختزان التجارب الشخصيّة. ومِن هنا، فإنَّه يرى عدم إمكان العثور على الحقيقة بمعزل عن التدخّلات الفرديّة والجماعيّة في الحياة الإنسانيّة، الأعمّ مِن الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، وما إلى ذلك. يذهب شبستري إلى القول: «لو كان للوجودات مِن لسان وأمكن لها أنْ ترفع النقاب عن ذاتها، ما الذي سوف يحدث يا ترى؟».

(30)

عندها سوف يتّضح أنَّه لم يكن خلف كواليس جميع هذه الأشياء سوى العدم؛ وذلك لأنَّ كلّ ما نقوم به نحن البشر ليس سوى الكلام والاستفادة مِن المفاهيم، ولا يمكن لنا بوساطة المفاهيم المرتبطة بالوجود أنْ نتحدّث عن الأمور الكائنة خلف الكواليس، ولا يمكن لنا أنْ نعمل على إظهار ما وراء الكواليس. إنَّ الذي يتمّ إظهاره بوصفه طورًا، طريقُه هو الاستخبار، ولا يمكن الذهاب إلى خلف الكواليس بأيّ مفهوم مِن المفاهيم الوجوديّة. وفيما يلي سوف نشير إلى أهم الدلالات الأنطولوجيّة لتفكيره.

الرواية بما هي حقيقة؛ مبنى لأنطولوجيّة الكلام

يذهب مجتهد شبستري إلى الادّعاء بأنَّ الحقيقة تظهر لكي تنتشر في الدائرة الاجتماعيّة/ التاريخية؛ إذ تتنافس فيها الكثير مِن القوى فيما بينها مِن أجل الوصول إلى القوّة والوصول إلى حقيقة رسميّة تعمل على تبرير القوّة وتضفي المشروعيّة عليها. يذهب مجتهد شبستري إلى الاعتقاد بأنَّ القول بأنَّ المعنى والمفهوم مِن الذاتيات الإلهيّة، وأنَّ العالِم يهتدي إليها بتوفيق مِن الله، مِن أصول الاجتهاد التقليدي، ولا ينتج عنه شيء سوى الجزميّة والاعتقاد الحتمي.[1] ويقول في ذلك:

«لا ينبغي الاستيحاش والخوف مِن حقيقة عدم وجود محكّ متقن مئة بالمئة لإثبات فهم النصّ».[2]

(31)

وادّعى قائلًا:

«إنَّ رجوعي ليس مِن باب الحصول على الأنطولوجيا كي يُقال لي: هلمّ وأثبت الحجيّة المعرفيّة أو الوثاقة التاريخيّة للنصّ أوّلًا، ثمّ قم بعد ذلك بفهمها وتفسيرها».[1]

كما ويذهب إلى الاعتقاد قائلًا: «إنَّ مطالب القرآن، سواء في قسم الفهم التفسيري أو في قسم (الفهم الروائي)[2]، إنَّما هي «رواية»، وليست إخبارًا عن الواقع».

ثمّ استطرد قائلًا في شرح هذا المدّعى:

«إنَّ معنى هذا الكلام هو أنَّ قائل القرآن في هذا القسم، لا يريد القول كيف تكون حقائق عالم الوجود، وإنَّما يخبر عن سلسلة مِن الحوادث التي وقعت أو تقع تباعًا أو سوف تقع في المستقل، وربَّما أمكن التعريف بأنطولوجيّات متنوّعة، بيد أنّي أقترح أنطولوجيّة الكلام، بمعنى أنطولوجيّة كلام مؤسّس الدين، وبعبارة أخرى وجود الكلام. وأرى ذلك بناء محكمًا في العصر الراهن بالنسبة إلى التديّن؛ بحيث أنَّ الكثير مِن المشاكل للتديّن في العالم المعاصر وعصر الحداثة، تحدث للأشخاص المتديّنين، ويبدو أنَّ الحياة الدينيّة والحياة في العالم الراهن غير قابلتين للجمع، وربَّما أمكن بهذه الأنطولوجيا حلّ الكثير مِن هذه الموارد».[3]

(32)
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف