الباحث : السيّد محمد رضا الحسيني
اسم المجلة : تراثنا
العدد : 28
السنة : السنة السابعة / رجب ـ شعبان ـ رمضان سنة 1412 هـ
تاريخ إضافة البحث : January / 4 / 2015
عدد زيارات البحث : 1605
بسم الله الرحمن الرحيم
إن تكريم العظماء الذين صنعوا تاريخ الأمة هو من الواجبات الثقافية الهامة ، حيث تترتب عليه أمور حيوية مثل : استلهام العزم والقوة ، ورسم الخطط الصالحة للنجاح في الحياة ، وللدلالة على إمكانية التغلب على المشاكل والعراقيل ، وتجاوز العقبات التي تعترض طريق التقدم الحضاري ، والتزود من سيرة الماضين « أملا » بازدهار المستقبل .
وقد تميز بين عظماء تاريخنا المجيد ، أولئك الذين تكللت شاراتهم بوسام « التجديد » في رأس كل من القرون الخمسة عشر التي عاشتها الأمة الإسلامية .
ومهما كان لخبر التجديد في الحديث الشريف ، من بحوث وشؤون ، فإن الحقيقة الملموسة هي أن كل قرن قد تميزت بداياته بتلألؤ نجم لامع من نجوم الأمة ، واهتزاز علم رفيع من أعلامها ، وبروز شخصية نابغة بين شخصياتها .
فقد شهدت نهاية القرن الأول ، وبداية القرن الثاني طلوع شمس العلم والمعرفة في المدينة ، فتجددت حياة الدين والأمة على يد الإمام أبي جعفر محمد بن علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب ، الباقر عليه السلام ، حيث رفع راية العلم ونشرها
(الصفحة 95)
خفاقة على ربوع العالم الإسلامي ، من خلال مدرسته التي أقامها في عاصمة الإسلام وقطب رحاه « مدينة الرسول » فبقر العلم ، حتى سمي باقر العلوم ، وشق عباب المعارف الزخارة وأروى الأمة من معين علومه ، بعد جفاف وقنوط طال أكثر من ستين عاما ، حيث عمدت أيدي العصبة الأموية ، وشراذمة الجاهلية ، إلى إبادة كل معالم الحضارة الإسلامية من علم وأدب ورجال ونضال .
فأقام الإمام الباقر عليه السلام الصرح العلمي لمدرسة تربت فيها أجيال من العلماء ، وازدهرت على يد ولده الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ، ومن أوضح معالمها أربعة آلاف عالم وداعية للإسلام ، وأربعمائة « أصل » من مصادر الشريعة الإسلامية .
وعلى رأس القرن الثالث (سنه 200) :
طلع نجم الإمام الرضا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب عليهم السلام ، فكان الحجة القائمة في العالم الإسلامي ، حيث ملأته سناءا ونورا ، وأعادت للإسلام قوته وصلابته ، بعد أن كادت الفلسفات التي استوردها الخلفاء العباسيون ، تهدد قواعد الدين في نفوس الأمة ، وتنخر أسسه التي ضعفت وضاعت بين ظلم الحكام ولهوهم وزهوهم ، وبين الانحراف الذي عم البلاد والعباد ، حيث يكونون على دين ملوكهم .
فكان الإمام الرضا عليه السلام ـ بحضوره ومواقفه الخالدة منجدا للحق معيدا له إلى نصابه .
وعند ما كادت الحياة المترفة العباسية تقضي على ما لهذا الدين من بهاء وجلال وهيبة في النفوس ، وتشكك الناس في كثير من الواقعيات ! ؟ كان الإمام وسيرته المعتمدة على الزهد والتقى يعيد إلى المسلمين الثقة بحقيقة الإسلام ، ويجسد لهم كل تلك الواقعيات .
(الصفحة 96)
على معالم الفكر وتخمد إشعاع العلم والاجتهاد ، فكانت محاولات الإمام الرضا عليه السلام فتحا لآفاق التطلع العلمي لدى العلماء ، وكسرا لسد شبهات أولئك البلهاء ، فلذلك كان ظهور الإمام عليه السلام تجديدا عينيا لهذا الدين .
وفي مطلع القرن الرابع :
حيث ألجئت الإمامة إلى الأستتار وراء حجب الغيبة ، كان وجود الشيخ أبي جعفر ، محمد بن يعقوب ، الكليني الرازي ، مجددا للدين ، حيث عمد إلى تحديد النصوص الدالة على أصول المذهب وفروعه ، فجمعها في كتابه العظيم « الكافي » فحفظ به التراث الإمامي بأكمل شكل ، في أخطر أدواره ، عندما تعرض لأعقد مشاكله صعوبة ، وأضنك مراحله فترة وزمانا .
ودخل القرن الخامس :
وقد بدأت الحملات الطائفية على المذهب الإمامي وسعى الحكام المغرضون للاستفادة من الخلافات المثارة ، في صالح كراسيهم المهزوزة .
فكان لمواقف شيخ الطائفة وعماد الملة ، وزعيم الأمة ، المعلم العظيم ، الشيخ المفيد ، محمد بن محمد بن النعمان ، ابن المعلم العكبري ، البغدادي ، أثرها الخالد في تثبيت القواعد الرصينة ، لأصول المذهب القويمة ، وتحصينها ضد تلك الحملات الطائشة ، وإبراز أدلتها وحججها ، وتزييف دعاوى المعارضين ، بشكل كان له على كل الأمة منة ، واستحق اسم التجديد بجدارة .
وأشرف القرن السادس على الأمة :
وقد اشتدت الحملات الطائفية الطائشة ، بكل ضراوة ، واستهدفت الشيعة في الشرق والغرب ، وتمكنت من القضاء على معالم أثرية لهذه الطائفة ، فحرقت مكتبات ، وهدمت مدارس وقتل أعداد من المسلمين المنتمين إلى هذا المذهب .
(الصفحة 97)
فكانت الزعامة الدينية متمحورة على ابن شيخ الطائفة ، وهو الفقيه المحدث الشيخ ، الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي ، أبو علي ، الملقب ب(المفيد الثاني) .
فحمل الأمانة بصدق وجد ، فحافظ على الثقافة العلمية من أن تتعرض لها الحملات ، وخرج من مدرسته العشرات من التلامذة ، الذين كانوا سندا للطائفة في حضارتها الثقافية ، وأساسا تبني عليها مستقبلها المجيد .
وجاء القرن السابع :
والمأساة الطائفية قد فشلت في إدخال اليأس في قلوب الأمة ، فعادت الأمة تستجمع قواها ، وتستعيد حيويتها ، فكانت الجهود تبذل من أجل إحياء المذهب في مدرسة الحلة على يد أعلام من علمائها ومنهم آل طاوس ، وآل المحقق ، وآل المطهر ، ومدرسة الري على يد أعلام من علمائها ومنهم آل بابويه ، وقد تسنم الفقيه سديد الدين محمود الحمصي الرازي القمة في زعامة الطائفة في بداية هذا القرن .
واستهل القرن الثامن :
وقد نبغ العلامة على الإطلاق ، الذي طبق صيته الآفاق ، وتزعم الحركة التجديدية لمعالم الدين في العقيدة والشريعة ، فأحيى المدارس وجدد المعاهد ، ودعم المذهب ، بإبراز معالمه حتى انتشر واشتهر ، واقتنع من عرفه بأحقيته ، وصحته ، ودخل قلوب كثير من الملوك والأمراء والوجهاء ، حتى عم .
وأهم إنجاز لهذا المجدد العظيم أنه اخترق عائلة المغول الذين داهموا البلاد الإسلامية ، فأسلم حاكمهم على يد العلامة الحلي ، وبذلك أخفقت نوايا الغزاة وانصهروا في بوتقة القوة الإسلامية .
وفي مطلع القرن التاسع :
توحدت القيادة للشيخ الأجل ، الفقيه الأعظم الشيخ شرف الدين
(الصفحة 98)
أبي عبد الله ، المقداد بن عبد الله ، السيوري الحلي الأسدي ، فأرسى قواعد المذهب في الأصول والفروع على شواطئ الأمان .
ومع حلول القرن العاشر :
كانت الزعامة منقادة للمجدد العظيم ، الشيخ علي بن عبد العالي الكركي العاملي ، فحمل مشعل المذهب ببطولة نادرة ، وحقق العلوم بجدارة فائقة ، وروج للحق ، وبسط نفوذه حتى دعي » بالمحقق الثاني « ومروج المذهب » .
وعندما كان القرن الحادي عشر :
كان في مقدمة العلماء الشيخ البهائي ، بهاء الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد ، العاملي الحارثي ، رافعا لأعلامه ومحييا لعلومه وناصرا للحق .
وبدأ القرن الثاني عشر :
فكان العلامة المجلسي ، المولى ، الشيخ محمد باقر بن محمد تقي الأصفهاني شيخ الإسلام ، المجدد لعلومه ، والمضئ الدرب لرواده في العقيدة والشريعة ، ولقد كان إنجازه العظيم بتأليف الحديث الشريف في موسوعة « بحار الأنوار » إنجازا تراثيا ضخما ، حفظت به الأحاديث من الضياع ، والكتب من التلف .
ومع ظهور القرن الثالث عشر :
وقد كان قد مضى على الانقسام الداخلي بين الطائفة ، بظهور النزعة الأخبارية المتطرفة « أكثر من قرن ونصف ، بزغ نجم فقيه أهل البيت ، ومحقق أصول المذهب ، ومحيي معالم الحق ، الإمام المجدد المولى محمد باقر بن محمد أكمل ، الوحيد البهبهاني ، بعد أن كادت تعصف بمعالم الحركة الفكرية ، المحاولات التي تدعو إلى الظواهرية ، والرافضة للجهود العقلية ، مما أشرف بالفكر الشيعي على التردي في هاوية
(الصفحة 99)
الجمود والتخلف ، والتأخر ، فكان لهذا الإمام الوحيد اليد البيضاء في تدارك الأمر ، ودحر الأخبارية ، بتزييف دعاواهم ، والرد على شبهاتهم ، ففتح للفقه آفاقه الواسعة ، وعبد له مشارعه الغنية بمعين الاجتهاد المستمدة من أصول أهل البيت وفقههم .
ولم يحل القرن الرابع عشر :
إلا وعلى رأس الطائفة نجم من آل الرسول ، يحمل لواء المذهب بيد منيعة ، وهمة قعساء ، وإرادة صلبة ، وتدبير حازم ، فمنع حماها من السقوط في مخالب الهيمنة الصليبية الكافرة متمثلة في الإستعمار الانكليزي ، في بدايات عصر تغلغله في البلاد الإسلامية ، ألا وهو السيد الميرزا محمد حسن المجدد الشيرازي قدس الله سره .
وعلى مشارف القرن الخامس عشر ـ هذا الذي نعيش عقده الثاني :
طلع نجم آل محمد ، الفقيه العارف ، الحكيم العامل ، الإمام الخميني ، ليبث الروح إلى الأمة الإسلامية ، لتستعيد كرامتها المهدورة تحت ضغوط الإستعمار المعاصر ، وليحيي في نفوس المسلمين الشعور بالعزة التي كتبها الله لهم ، على رغم استيلاء الكفر العالمي بخيله ورجله ، على كافة الشؤون والمرافق الحيوية ، ويسجل انتصار العقيدة والإيمان على جحافل المكر والسلطة والقوة ، تحقيقا لوعد الله بالنصر للمؤمنين ، وتمهيدا لسلطان المهدي من آل محمد ، الذي يملأ الدنيا قسطا وعدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا .
فهؤلاء الذين حملوا أوسمة التجديد ، بما تمتعوا به من المزايا التي أهلتهم لذلك ، ونلخص أهم المزايا فيما يأتي :
1 ـ المرجعية :
فإن الذين استحقوا هذا الوسام ، إنما كانوا من المجتهدين ، وقد أقرت الطائفة لهم بالتفوق الفقهي ، معتمدين نفس الأساليب والمناهج والمصادر التي تداولها
(الصفحة 100)
الأصحاب ، فانقادت لأقوالهم بالقبول والتقليد .
2 ـ النهوض في مدافعه المخالفين :
ولكل واحد من المجددين ، دور عظيم في إحياء الإسلام والدفاع عنه ، في مواجهة أي خطر يهدد كيانه ، إن بالحرب والجهاد ، أو بالصلح والعلم ، والسعي في نشر الفكر الإسلامي وبثه وإظهار حقانيته وعظمته ، وإزاحة سحب الضوضاء ، وظلمات الجور عن حقائقه القيمة سعيا في تعميق الالتزام به عند المسلمين ، ومحاولة لهداية من لاينتمي إليه .
3 ـ الشجاعة والتضحية :
والمميز الهام في حياة المجددين هو اتخاذهم المواقف الجريئة عند تعرض المذهب لهجمات عدائية من دون التوقف أو التلكؤ في سبيل تحقيق الأهداف ، واقتحام الأهوال الجسام ، وتحمل المصاعب في سبيل إعلاء كلمة الله ، ورفع رايته خفاقة .
4 ـ الأخلاق الإسلامية العالية :
ويتمتع المعروفون بالتجديد بالأخلاقية المثالية المتفردة ، بحيث يمثل الواحد منهم القيادة الإسلامية الحقة ، بكل مواصفاتها ، وخصائصها ، فتكون أخلاقهم تجسيدا للخلق العظيم الذي رسمه الله صفة للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم .
5 ـ الموسوعية :
ويشترك هؤلاء المجددون ، في أنهم كانوا على سعة من العلم بالمعارف الإسلامية والإلهية ، باعتبارهم الأعلام الذين يشار إليهم بالبنان ، وتتوجه إليهم النفوس والأعين ، وذلك ليفوا بحاجات الأمة ، وتدارك طلباتها ورغباتها بيسر وصدق .
(الصفحة 101)
6 ـ الحكمة والتدبير :
ومن أهم ميزات المجددين المؤهلة لهم لهذا المقام الخطير ، هو الحكمة ، والحنكة التي يتمتعون بها في تدبير الأمور وتهيئة الأدوات الكفيلة للوصول إلى الأهداف ، والاطلاع على ما يجري حولهم ، واتخاذ التدابير الصحيحة ، الملائمة لصالح الدين والأمة ، بالشكل الذي تتبدد معه أحابيل الأعداء ، وتؤكد موقعية العقيدة ، بين الشعوب وأمام أعين البشر .
7 ـ وأخيرا :
التواجد في الساحة ، في مطلع القرن الهجري الجديد ، حيث تكون الأمة بانتظار مثله ، وإن كان قد يتخلل القرن من يستحق سمة التجديد ، لوجود هذه المواصفات فيه ، إلا أن وجود المجدد على رأس القرن هو الذي يبرر إضفاء هذه السمة عليه ، ولا يعني ذلك التقليل من أهمية دور أولئك الأعلام .
وهذه هي أهم المواصفات التي يمتاز بها الطالعون إلى قمة التجديد ، من بين سائر أعلام الأمة وعظمائها .
ولقد جمع الإمام المجدد السيد الميرزا محمد حسن الشيرازي النجف (1230 ـ 1312 ه) كل هذه المزايا ، فاستحق بجدارة هذه السمة ، في بداية القرن الماضي ، الرابع عشر .
1 ـ فقد ثنيت له وسادة المرجعية ، ورجعت إليه الأمة بعد مرجعها الشيخ الأعظم المرتضى الأنصاري (ت 1281 ه) بإرجاع تلامذة الشيخ إلى السيد .
وتد تركز اهتمامه في هذا المجال على :
أ ـ تعميق البحوث العلمية ، على المستوى العالي في الحوزة العلمية ، استمرارا في تهيئة الكوادر الكفوءة لإدارة الحوزة في المستقبل ، وتكوين المجتهدين الأكفاء لأداء واجب تبليغ الدين وإرشاد المسلمين بالمستويات العلمية اللائقة
(الصفحة 102)
ب ـ رعاية الحوزات العلمية ، ماديا ومعنويا ، بالحث على التحاق أكبر عدد ممكن من ذوي القابليات الجيدة ، لملأ المدارس بالطلاب ، واستمرار الحركة العلمية على أكمل شكل .
جـ ـ الاهتمام بعلماء البلاد والمضطلعين بأعباء الإرشاد والدعوة ، وتشكيل الحلقات للاتصال بهم ، وتسديدهم ، وإبلاغ الأوامر الضرورية إلى الناس بواسطتهم ، وخاصة في الظروف الحرجة .
د ـ إيفاد الممثلين الأكفاء إلى الأقطار والذين عرفوا من موفديه وتلامذته هم في الدرجة العليا من العلم والتقوى ، والعمل في سبيل الإسلام .
2 ـ وقد نهض للدفاع عن الطائفة والإسلام في مواقفه السياسية الشجاعة ، وأما الدفاع عن الهجوم الفكري ، والعسكري وصد التعدي والتجاوز على الأمة ، فقد تمثل في :
بذل الأموال الطائلة للمخالفين ، لتأليف قلوبهم ، وكف أذاهم ، وإجبارهم على الوقوف إلى جانب الحق ، ومنع أراذلهم من التجاوز على المؤمنين والتغرير بدمائهم وأعراضهم وأموالهم .
وعلى هذا الأساس هاجر السيد إلى سامراء لحماية الشيعة هناك وحماية المراقد المشرفة للإمامين العسكريين ، من التعديات التي تجاوزت الحدود في ذلك العصر ، فكانت هجرته إلى سامراء دعما ونصرة ، وإظهارا لحسن النية تجاه المخالفين ، ولهذا الهدف بالذات عمد السيد إلى إعمار البلد بإنشاء المراكز والمشاريع الحيوية مثل الجسر والسوق ، والمدارس ، والدور .
وتمثل نهوضه للدفاع عن الطائفة بشكل آخر في تشجيعه للعلماء من ذوي القابليات على التأليف والتصنيف فيما يدعم فكر الطائفة ويعزز من مواقعها العقيدية ضد هجمات الخصوم ، ويتضح هذا في تقاريظه العديدة لمختلف الكتب والمؤلفات المنشورة في ذلك العهد . 3 ـ الشجاعة والتضحية : لقد أبدى السيد المجدد شجاعة خاصة بأمثاله من
(الصفحة 103)
العظماء والمجددين في مواجهة الأحداث التي عاصرها ، سواء الداخلية التي كانت تجري في مركز وجوده ، أم التي كانت تدور في أطراف العالم الخارجية .
فمن المثال للأول : لما أثار النواصب الشغب في سامراء ، وقاموا بإيذاء الطلبة المهاجرين وغيرهم من المسلمين الشيعة ، وبدأوا أعمالا استفزازية بإيعاز من الحكام والولاة العثمانيين ، فإن السيد قاوم ذلك بالصبر وتحمل المعاناة ولم يحاول أن يقاومها بالقوة والمعاملة بالمثل ، حفاظا على سمعة الوحدة بين المسلمين فكان يؤكد على أصحابه بالتحلي بالصبر والتؤدة .
ولما عرض عليه الممثل الإنكليزي التدخل في الأمر لحمايته ضد التصرفات التركية ، رفض السيد عرضه ، وقال في سبب رفضه : « إن كلبنا غير معلم إن أمرناه لزم ، وإن نهيناه لم يفهم ! » فذكر بالحقيقة التي ظهرت بعد ذلك ، أن الإنكليز وسائر الأجانب إنما يستغلون مثل هذه الأزمات والظروف للتدخل في شؤون البلاد الإسلامية ، وهم يقصدون تثبيت مواقع لأقدامهم ، وتقوية مراكزهم من خلال ذلك ، وهم وإن دخلوا بعنوان المعونة للمظلوم ، لكنهم إذا تمكنوا من الدخول في الساحة فسوف يتولون هم الظلم والاعتداء بشكل أشد ، ولا يخرجون بسهولة إلا بعد امتصاص الدماء والثروات !
ومن نماذج الثاني :
فتواه التأريخية ضد اتفاقية حكومة الشاه الإيراني ، مع شركة إنكليزية لانحصار امتيازها للتنباك (التبغ) الإيراني ، فقد تصدى لها السيد بفتوى تحريم استعمال « الدخانيات » بكل أشكالها ، وامتثل الشعب المسلم الإيراني برمته أمر السيد ، حتى أفلست الشركة ، واضطر الشاه إلى فسخ الاتفاقية .
وهكذا نجد الإمام المجدد قد أنجد بلاد الإسلام والأمة الإسلامية من أن تقع تحت نير الاحتلال الاقتصادي في ذلك العصر ، مما اعتبر وجوده سدا منيعا أمام أطماع الأجانب الكفرة .
(الصفحة 104)
4 ـ الأخلاقية العالية : لقد تمتع السيد المجدد بأخلاقية عالية ، مع عظمة مقامه ، وسعة مرجعيته ، فكان عطوفا على الفقراء واليتامى والعوائل الضعيفة ، فكان يحث وكلاءه بتفقد أحوالهم ، وصرف ما مجتمع لديهم من الحقوق الشرعية على المحتاجين في نفس البلدان التي تجبى منها ، وامتاز بتواضعه ورقة قلبه ورأفته مما جعله محبوبا للجميع ، كبيرا في أعين الكل حتى لقب ب (الميرزا الكبير) .
ولقد أثبت بذلك أبوته للأمة ، حيث كان يتحسس بها ينوبهم ويواسيهم ويساعدهم ، على سيرة الأئمة المعصومين عليهم السلام . 5 ـ الموسوعية ، فما أثر عن السيد من التقريرات والنقول والكتابات تدل على أنه كان على سعة تامة في المعرفة بالعلوم والفنون ، بحيث كان يؤذي الدور المطلوب من الموسوعية في أمثاله من المجددين ، فكان يلبي طلبات الأمة في كل مجالاتها المعرفية .
6 ـ وأما التدبير والحنكة ، فقد ضرب السيد في ذلك أروع الأمثلة ، لما تمتع به من ذكاء وقوة ملاحظة ، وسرعة الفهم ودقة الفكر ، ومع ذلك فقد كان يستفيد من خبرة أصحابه حيث كان له مجلس استشاري يتألف من أعيان أصحابه ، وذوي النباهة من أعوانه ، يتداولون الأمور ويبتون فيها ، ويصممون على العمل بما يليق ويناسب ، بعد موافقة السيد .
7 ـ وقد دخل القرن الرابع عشر ، والسيد المجدد الكبير هو المشار إليه بالبنان ، ولم يمض عقد إلا وقد انفردت المرجعية به ، فكان اللائق بأن يكون « . المجدد » للمذهب على رأس ذلك القرن بلا منازع . وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم .
وقد عبرت الأمة عن تقديس هذا الإمام المجدد عند وفاته باعتباره « الرمز » العظيم الذي يجب أن يحتذي به العلماء ويفتخر به الزمن ، فشيعت جثمانه الشريف على الأكف ، من سامراء إلى مثواه الأخير في النجف الأشرف ، طوال سبعة أيام معلنة بذلك ولاءها لممثل الأئمة ، وابنهم البار .
(الصفحة 105)
كما هب الأدباء والشعراء لرثائه ونعيه ، وهب الكتاب لترجمته وتعظيمه .
فقد ألف سماحة شيخنا العلامة الشيخ آغا بزرك الطهراني كتابه القيم « هدية الرازي إلى المجدد الشيرازي » .
وألف سماحة العلامة الحجة الأديب الشيخ محمد علي الغروي الأوردبادي كتاب « حياة الإمام المجدد الشيرازي » وكتاب « سبائك التبر فيما قيل في الإمام الشيرازي من الشعر » في 600 صفحة ترجم فيه لشعرائه ومادحيه .
وجمع الشيخ علي الجعفري ـ من آل صاحب كشف الغطاء ـ عدة قصائد قيلت في رثائه .
تغمده الله برضاه ، وأسبغ عليه نعمه وإحسانه بمنه وجلاله إنه ذو الجلال والإكرام .
(الصفحة 106)