فهرس المحتويات

الفهرس

مقدِّمة المركز5

مقدمة المؤلِّف7

مدخل9

الفصل الأوّل: الشيخ البلاغي، حياته ومنهجه وعصره

المبحث الأوّل: حياته وأسرته وعصره21

المبحث الثاني: منهجه ومؤلّفاته وموقفه النقديّ30

الفصل الثاني: خطاب الحجاج عند الشيخ البلاغي

المبحث الأوّل: الهدى إلى دين المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ومقدّماته الحجاجيّة41

المبحث الثاني: "كتاب الرحلة المدرسيّة" ومقدّماته الحجاجيّة55

الفصل الثالث: الشيخ البلاغي وردوده على المسيحيّين

المبحث الأول: الموقف من التُّهم العدائيّة للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله67

المبحث الثاني: الوحدة والتثليث71

المبحث الثالث: الرُسُل في الخطاب المسيحي81

الخاتمة

المصادر والمراجع104

(3)

مقدمة المركز

تهدف سلسلة «نحن والغرب» إلى إحياء الحركة المعرفية والنقدية وتفعيلها حيال فكر الغرب وقيمه في الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة.

وتقوم منهجية هذه السلسلة على تظهير أعمال مفكِّرين وعلماء من الذين أثروا الثقافة العربية والإسلامية بإسهامات نقدية وازنة في سياق المساجلات والمناظرات مع الأفكار والمفاهيم الغربية، ولا سيما منها التي ظهرت بالتزامن مع تدفّقات الحداثة وما رافقها من عمليات توسّع استعماري إلى بقية العالم.

إنّ المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية إذ يقدّم هذه السلسلة إلى القرّاء يحدوه الأمل بأن يُسهم هذا المسعى المعرفي في تنشيط فضاءات التفكير النقدي وتأسيس مناخات فكرية جادّة في العالمين العربي والإسلامي.

 * * *

هذا الكتاب "نقد الفكر الديني الغربي عند العلاّمة البلاغي" هو دراسة تحليلية نقدية للباحث والأكاديمي العراقي عامر عبد زيد الوائلي، حيث يتناول بالبحث والتحليل رؤية العلاّمة الشيخ محمد جواد البلاغي للفكر الديني في الغرب الحديث، والمنهج النقدي الذي اعتمده لمواجهة نظريّاته العلمانية، واللاهوتية في قضايا الإيمان والوجود. مع الاهتمام بتظهير نقد الشيخ البلاغي لمباني الخطاب الديني الغربي وأطروحاته التلفيقية ضد الإسلام، وبيان معاثر هذا الخطاب وتهافته.

 

والله ولي التوفيق

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

(5)
(6)

 

مقدمة المؤلف

شكَّل الخطاب التبشيريّ جزءاً من الأطروحة الغربيّة التي حاول الغرب من خلالها أنْ يسيء للإسلام، عبر إسقاط صفات الإرهاب والقمع والديكتاتوريّة والظلم والاضطهاد عليه، ليثبت أنّ الإسلام نقيض الليبراليّة، مستعيداً بما ساد أوروبا والغرب في حقب زمنيّة طويلة من استبداد وتعصّب وكراهيّة للنساء، وعنصريّة وقمع للحرّيّات، ليأتي لاحقاً ويلصقه بالإسلام، مما يرجّح كفّة تزكية الغرب؛ ليظهر بمظهر الديمقراطيّة المتسامحة، وأنّ ليبراليّته المنقذ الوحيد، كونها تجسِّد كلّ ما هو منافٍ للإسلام[1].

وقام الغرب برسم صورة نمطيّة عن الإسلام على أنّه يمثّل الخطر الأكبر على الحرّيّة والمساواة والتسامح والمرأة...، وفق تفسيرات تتعمّد الإساءة إلى التعاليم الإسلاميّة وتأويلها وتحريفها لمصلحته المستمرّة منذ عقود، حيث تهيمن على الفكر الغربيّ الرؤية الأحاديّة حتّى مداخل الخطابات اللاهوتيّة التي عبّر عنها أحد رجالات اللاهوت المعاصر بقوله: «على أساس الرسالة التي مؤدّاها أنّ الله قد مات، تخلع الوجوديّة على الإنسان الاكتفاء الذاتيّ (أو الغنى الذاتيّ) الإلهيّ»[2]. فهذه الرؤية شكّلت نقطة محوريّة في الفكر الغربيّ الليبراليّ، وكانت حاضرة في تلك الحملات الطويلة المعادية للإسلام؛ كما تجلّت في عهد العلامة البلاغي بالتبشير؛ حيث علّلت هدف حملاتها التبشير الليبراليّة وسعيها الدؤوب إلى نشر قيمها بين المسلمين، بأنّها تسعى إلى إنقاذهم ممّا يعانون منه من نظام استبداديّ وتعصّب وكراهيّة للنساء![3]. ويبدو أنّ هذه الرؤية كامنة وراء المهمّة الليبراليّة التي تقتضي إعادة تشكيل الإسلام؛ ليكون على شاكلة المسيحيّة البروتستانتيّة الليبراليّة، وفي حال رفض المسلمين أهداف هذه الحملة، والتحوّل طواعيّة إلى الليبراليّة، عندها يجب استعمال القوة

(7)

العسكريّة؛ لأنّ رفضهم يعني التصدّي للحداثة، والقيم الليبراليّة، والحرّيّة، والمساواة، والفردانيّة، والمواطنة، وحقوق المرأة، والحرّيّات، وحرّيّة المعتقد، والعلمانيّة، والعقلانيّة. كما أنّ مقاومتهم تُعدّ تهديداً لقيمة جوهريّة من قيم الليبراليّة، وهي عالميّتها وضرورة تعميمها؛ كالعولمة.

وأمام هذا الواقع جنّد الشيخ البلاغي نفسه من أجل الدفاع عن مباني الإسلام وعقيدته، وبذل جهده في تحليل الأطروحة الغربيّة والتبشيريّة، والكشف عن أوجه الضعف فيها، ومن ثمّ تقديم موقف بديل عبّر عنها في مؤلّفاته، ولا سيّما كتابيه: «الرحلة المدرسية»، و«الهدى إلى الدين المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله »، فانتهج موقفاً حجاجيّاً وبرهانيّاً في الدفاع عن العقيدة؛ من منطلق كونه رجل دين ومثقّف دينيّ «يتّجه بنظره، نحو العصر، ونحو القضايا والمشكلات والتحدّيات المعاصرة، بحاجة إلى أنْ يقدِّم تصوّراته وأطروحاته بمعايير تتّصف بالمنهجيّة والعلميّة والحضاريّة، وعلى قاعدة الموازنة بين الأصالة والمعاصرة، الثوابت والمتغيّرات، الأصول والفروع، والمطلقات والنسبيّات، وعلى ضوء التمسّك بمناهج الاجتهاد، وقطعيّات العقل في التشريع الإسلاميّ»[1].

ومن هذا المنطلق، يُعنى هذا الكتاب بتحليل آراء الشيخ محمد جواد البلاغي في سياق نقده لمباني الخطاب الدينيّ الغربيّ وأطروحاته التلفيقيّة ضدّ الإسلام، التي شكّلت مورداً مهمّاً لاشتغالات الشيخ البلاغي البحثيّة المعرفيّة والثقافيّة، فعمل على تحليلها ونقدها وبيان تهافتها، بالاعتماد على البرهان في تأسيس موقف أو دحض موقف آخر وتشخيص نقاط الضعف والفساد في المباني التي ينطلق منها هذا الخطاب، وتقديم رؤية منهجيّة في تفكيك المنهج المعتمد لديها، ومن ثمّ الكشف عن نقاط الضعف والخلل والبرهنة في نقد أطروحاتها وآرائها.

(8)

 

مدخل

في سياق البحث عن طبيعة الخطاب النقديّ بشكله الجدليّ الحجاجيّ الذي مثّله الشيخ البلاغي في دفاعه عن الدين، أمام المذاهب والفرق والاتّجاهات الدينيّة والفكريّة التي نشأت داخل المجتمع الإسلاميّ؛ مثل: القاديانيّة، والبابيّة، والوهّابيّة، والإلحاديّة[1]، أو خارجه؛ مثل: المسيحيّة أو اليهوديّة أو الاتّجاهات المادّيّة، حيث كانت له «المواقف المشهودة قبال المادّيّين والطبيعيّين وسائر المخالفين، وله الإلمام باللغات الأجنبيّة»[2]، نجد له إدراكاً ووعياً بالثقافة وموجّهاتها، من حيث «نشوؤها وتطوّرها، أو انحدارها وانحسارها وجمودها، في أطر مجتمعية معيّنة»[3]، وتوظيفاً لذلك في طابعه الحجاجيّ؛ كما سوف نلمسه في منهجه، فتمكّن من خلال رؤيته العقديّة، إلى جانب مهاراته الثقافيّة والعقديّة، وإحاطته باللغات، والروايات، وعلوم الحديث، والتحقيق...، في عرض  النصوص الدينيّة وتحليلها ومقاربتها، سنداً ومتناً، وبيان أوجه التناقض فيها، وهذا الأمر له بعدان: أحدهما: هو الرؤية العقديّة التي أطّرت بحثه ومجال اهتمامه، والبعد الآخر: هو المنهج الحجاجيّ الدفاعيّ عن تلك الرؤية.

أمّا من حيث الرؤية العقديّة التي أطّرت بحثه، فالإحاطة باللغات الأجنبيّة -مثلاً-، جاءت من بواعث عقديّة؛ تجلّت في مقابلته العهدين بين اللغات المختلفة؛ ومنها: العربيّة، والإنكليزيّة، والعبريّة التي صمّم على تعلّمها؛ لمعرفة النقيصة والزيادة الموجودة في العهدين. وبذلك أحاط بالمعرفة التي شكّلت أداة الفهم لنصوص العهدين، وتعرّف على معانيها التفصيليّة بنحو صحيح، فميّز بين ما هو صالح، وما هو ليس بصالح.

ولذا، يُعدّ الشيخ البلاغي من الروّاد الأوائل في مجال نقد الأديان في العصر الحديث، ويتأتّى اهتمامه بهذا المجال من كونه رجل دين كان يدرك قضايا عصره، ويرى ضرورة أنْ يكون له موقف

(9)

ممّا يجري. ومن معايير نجاح المثقّف أو رجل الدين المجتهد؛ بوصفه قائداً وأستاذاً ومربّياً في النظام الاجتماعيّ والدينيّ الذي يريد ترسيخه وتثبيت أسسه، هو قدرته غير المحدودة على حلّ التوتّرات والمشكلات كافّة، التي تعتري البناء الاجتماعيّ[1].

وعلى الرغم من طابعه الدفاعيّ الحجاجيّ، فقد اعتمد في نقده على الأسلوب العلميّ. ومن ثمّ يصحّ القول إنّه أرسى قواعد منهجيّة لمدرسة «في التجديد، فكان له الأيادي البيضاء والفضل العظيم على الأمّة الإسلاميّة؛ بما كتب وألَّف في الردّ على اليهود والمسيحيّين وأهل الملل، وله مجاهدات كثيرة في إعلاء كلمة الإسلام»[2].

وأمّا المنهج الحجاجيّ الدفاعيّ عن تلك الرؤية، فقد اعتمد جملة من الآليّات التي تدخل ضمن الموروث الكلاميّ بطابعه الجدليّ أو ما يسمّى بالحجاج. وهذا يدفعنا إلى تأصيل بحثنا في طبيعة المنهج الحجاجيّ لديه إلى التأصيل لمفهوميّ للحجاج الكلاميّ الإسلاميّ. لذا، سوف نقف في هذا المقام في تناول الحجاج وتجلّياته في الإسلام، ولا سيّما في مجال الكلام، من حيث المنهج والظرف التاريخيّ الذي كان بمثابة العامل الضاغط الذي أسهم في  ظهور هذا الفنّ أو الصناعة قبل أنْ يتحوّل إلى علم، وهو ما سنحاول بحثه، من حيث الأطر المنهجيّة والمنطلقات العقديّة، وتقنيّات الحجاج واستراتيجيّاته المتّبعة.

والهدف الذي نحاول تصويب مرامنا إليه، هو استكشاف أنظمة الخطاب الحجاجيّ في جامع بيان وكلام وصيغ حجاجيّة تأخذ موضعات مذهبيّة وفرقيّة تحاول احتكار الحقيقة، ومن ثمّ تنعكس في رؤيتها الوجوديّة التي يستبطنها الخطاب وتغدو مسكوتاً عنها.

(10)

منطلقات الحجاج:

ربط علماء الحجاج الانطلاق فيه بمقدّمات وبدايات حجاجيّة؛ نظراً لكونه متعلّقاً بالقضايا التي ينطلق منها وبها يكون الاستدلال على قضيّة ما أو رأي بعينه[1]. ومع كون الحجاج موروثاً حاضراً في التراث الإسلاميّ، فقد استقاه الشيخ البلاغي من خلال دراسته الحوزويّة التي تحيلنا إلى منظومة لها منهجها ورؤيتها المتمركزة حول العقيدة. ومن أجل توضيح ذلك سوف نقوم ببيانها على النحو الآتي:

1. تعريف الصناعة الكلاميّة؛ من حيث المنهج والرؤية:
أ. الجدل في القرآن:

لقد كان للحجاج مكانه مهمّة في النصّ المؤسّس للثقافة الإسلاميّة؛ وهو القرآن الكريم، وتجلّى ذلك في دعوته إلى الحقّ على أساس قاعدتين مهمّتين: توجيه النظر، والدعوة إلى التبصّر؛ فأمّا توجيه النظر، فإلى ملكوت السموات والأرض، وما خلق الله فيهما من شيء، ليرى الإنسان فيه ما لم يكنْ يراه، أو ما كان يراه؛ وكأنّه لا يراه؛ لأنّه كان ينظر إليه نظر الغفلة والذهول[2]. والنظر -هنا- تأكيد على ضرورة إعمال العقل، ونبذ التقليد في العقيدة، والقول بما يقول فيها الآباء بغير هدى ولا كتاب منير؛ ومن ذلك قوله عزوجل : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)(البقرة: 170).

- أخلاقيّات الجدل:

وضع القرآن قواعد أخلاقيّة للحوار والجدل في أمور الدين عبر توجيه الخطاب إلى رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ بما يكفل للجدل أنْ يصل إلى الحقيقة التي دعتهم إليه، فيقول: عزوجل (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ

(11)

رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125)، عبر توضيح ثلاثة أسس؛ الأوّل منها: الحكمة التي تضبط الحوار وترتقي به...

أبرز موضوعات الجدل:

من أبرز موضوعات الجدل الواردة في القرآن قضيّة التوحيد وما يتعلّق بالشرك؛ كما في قوله عزوجل: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ  أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ)(الأعراف: 190-195).

- أثر العقل في الإيمان:

أكّد القرآن الكريم على ضرورة إعمال العقل ونبذ التقليد في العقيدة، والقول بما يقول فيها الآباء بغير هدى ولا كتاب منير، من ذلك: قوله عزوجل(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)(البقرة: 170).

- بعث الحياة بعد الموت:

ويتمثّل ذلك في الأرض الهامدة المقفرة، حين ينزّل الماء عليها، فيقول عزوجل(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير)(الحج: 5-6).

(12)
ب. الجدل في اللغة:

على الرغم من أنّ الصياغة اللغويّة الخاصّة بالقرآن تختلف كثيراً عن الصياغة التي جاءت بها الأحاديث في علم الكلام والفلسفة، فإنّ مفهوم العقل في القرآن هو «عقل تجريبيّ»، وليس «عقلاً بارداً تأمّليّاً، أو استدلاليّاً برهانيّاً»[1].

2. الكلام والمنهج الكلاميّ بين الصنعة والعلم:

منهج ورؤية اتّخذ المفكّرون العرب والمسلمون منهجاً ورؤيةً مرجعيّة في إنتاجهم للحضارة العربيّة الإسلاميّة، قبل دخول المنهج المنطقيّ، حيث «كانوا -أو ما يزالون- يصدرون في رؤاهم وطريقة تفكيرهم عن الحقل  المعرفيّ الذي بلورته وكرّسته العلوم العربيّة الإسلاميّة الاستدلاليّة الخالصة: النحو، والفقه، والكلام، والبلاغة»[2]. وكان البحث في تحوّلات الكلام من فنّ إلى علم قد «مهّد له ابن حزم الأندلسي الظاهريّ (ت: 456هـ)، وقاده أبو حامد الغزالي (ت: 505هـ) والمتكلمون اللاحقون له. أمّا قبل هذا الوقت، فإنّ الكلام الإسلاميّ (صناعة) أو (فقه أكبر) أو حتّى مجرّد (فنّ)، يخضع بعد للنظريّة الأرسطيّة في مفهومها للعلم وشروطه»[3]. وفي تقويم هذه التجربة في الجدل نستند على موقفين اثنين: أولهما: موقف الفيلسوف الفارابي، وثانيهما للعلامة الحلّي.

أ. منهج المتكلّمين بحسب الفيلسوف الفارابي:

«صناعة الكلام» ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرّح بها واضع الملّة، وتزييف كلّ ما خالفها بالأقاويل، وهذا ينقسم إلى جزأين: جزء في الآراء، وجزء في الأفعال.

والفارابي -هنا- يستعمل  الرؤية الأرسطيّة في الخطابة، وتحليل الآراء وتكوينها، وتطبيق هذا الأمر على الكلام وتحوّلاته. وقد ميّز بين الفقه والكلام في كون الفقه يأخذ الآراء والأفعال التي صرّح بها واضع الملّة مسلَّمة، فيجعلها أصولاً، ويستنبط منها الأشياء اللازمة عنها.

(13)

أمّا الكلام، فالمتكلّم ينصر الأشياء التي يستعملها الفقيه أصولاً، من غير أن يستنبط منها أشياء أخرى. وقد يكون في جامع الاثنين الاستنباط للفقيه، والنصر للمتكلّم للملّة عبر: الرأي والفعل؛ بما يتعلّق بالآراء التي تشكّل الجزء الأوّل من النصرة.

فوظيفة العقل وحدوده بنظر أهل الكلام؛ كما يراها الفارابي: «أنّ الآراء وكلّ ما فيها من الأوضاع ليس سبيلها أنْ يمتحن بالآراء والرؤية والعقول الإنسيّة؛ لأنّها أرفع رتبة منها، إذا كانت مأخوذة عن وحي إلهيّ؛ لأنّ فيها أسراراً إلهيّة تضعف عن إدراكها العقول الإنسيّة ولا تبلغها»[1]. وبهذا ليس من ضمن حدود الكلام فحص الملّة ونقدها؛ لأنّها تتجاوز حدود العقول. إذ يؤكِّد على أنّه «مهما تستنكره العقول وتستبشعه الأوهام، ليس هي بالحقيقة منكرة ولا محالة؛ بل هي صحيحة في العقول الإلهيّة»، ومن ناحية ثانية «فإنّ الذي أتانا بالوحي من عند الله -جلّ ذِكْره- صادقاً، ولا يجوز أنْ يكون قد كذب، ويصحّ أنّه كذلك من أحد وجهين: إمّا بالمعجزات التي يفعلها أو تظهر على يده، وإمّا بشهادة من تقدّم قبله من الصادقين المقبولي الأقاويل على صدق هذا، ومكانة من الله -جلّ وعزّ-، أو بها جميعاً»[2].

ويذكر آراء أخرى، فيقول: «وقوم آخرون يرون إنْ نصروا أولاً جميع ما صرّح به واضع الملّة بالألفاظ التي عبّر عنها، ثمّ يتبعون المحسوسات شاهداً لشيء ممّا في الملّة، نصروا به ذلك الشيء، وما وجدوا منها مناقضاً لشيء ممّا في الملّة، وأمكنهم أنْ يتأوّلوا اللفظ الذي به عبّر عنه واضع الملّة على وجهه موافق لذلك المناقض -ولو تأويلاً بعيداً- تأولَّوا عليه. وإنْ لم يمكنهم ذلك، وجه يوافق ما في الملّة فعلوه، فإنْ يعاند المشهورات والمحسوسات في الشهادة قبل أنْ تكون المحسوسات أو اللوازم عنها توجب شيئاً والمشهورات توجب ضدّ ذلك، نظروا إلى أقواهما شهادة لما في الملّة، فأخذوه وطرحوا الآخر وزيّفوه. وإنْ لم يمكن أنْ يحمل لفظ الملّة على ما يوافق أحد هذه(...) فيقال إنّه حقّ؛ لأنّه أخبر به مَنْ لا يجوز أنْ يكون قد كذب ولا غلط. يقولون في هذا الجزء من

(14)

الملّة بما قال به أولئك الأوّلون في جميعها. فبهذا الوجه رأى هؤلاء أنْ ينصروا الملّة»[1].

ويرصد الفارابي إشكالاً آخر من الحجاج مع مَنْ هم خارج الملّة، فيقول: وقوم من هؤلاء رأوا أنْ ينصروا أمثال هذه الأشياء، يعني التي يخيّل فيها أنّها بشعة، بأنْ يتتبّعوا سائر الملل، فيلتقوا الأشياء البشعة التي فيها. فإذا أرادوا الواحد من أهل تلك الملل تقبيح شيء ممّا في ملّة هؤلاء، تلقّاه هؤلاء بما في ملّة أولئك من الأشياء الشنيعة، فدفعوه بذلك عن ملّتهم[2].

ثمّ إنّ أشكال الحجاج تأخذ بعداً آخر أكثر عنفاً في إفحام الخصوم وإجبارهم على الصمت، فيذكر ذلك الفارابي؛ بقوله: وآخرون منهم لمّا رأوا أنّ الأقاويل التي يأتون بها في نصرة أمثال هذه الأشياء ليست فيها كفاية في أنْ تصبح بها تلك الأشياء صحّة تامّة؛ حتّى يكون سكوت خصمهم لصحّتها عندهم، لا لعجزه عن مقاومتهم فيها بالقول، اضطروا عند ذلك إلى أنْ يستعملوا معه الأشياء التي تلجئه إلى أنْ يسكن عن مقولتهم: إمّا خجلاً وحصراً، أو خوفاً من مكروه يناله[3].

وبهذا يكون الفعل هو المقارب والمصاحب لتلك الآراء في السلوك السابق؛ وهذا ما يعزّزه الفارابي في سلوك مقارب أو مجمل لما سبق، أو مضاف له في تشدّد الحجاج الكلاميّ، بما يمثّل الواقع المجتمعيّ، وما يعيشه من أجواء الاختلاف والصراع السياسيّ الذي يتّخذ من العقيدة مجالاً لتمظهره، ومن الحجاج الجدليّ الخطابيّ أسلوباً في مواجهة الخصوم، فيقول الفارابي في هذا: وآخرون لمّا كانت ملّتهم عند أنفسهم صحيحة لا يشكّون في صحّتها، رأوا أنْ ينصروها عند غيرهم ويحسنوا ويزيلوا الشبهة منها بأنْ يدفعوا خصومهم عنها بأيّ شيء اتّفق، ولم يبالوا بأنْ يستعملوا الكذب والمغالفة والبهت والمكابرة؛ لأنّهم رأوا أنّ مَنْ يخالفهم أحد رجلين؛ إمّا عدو، والكذب والمغالفة جائزة، وأنْ يستعمل في دفعه وفي غلبته...[4].

(15)

يبدو أنّ الفارابي -هنا- يشير إلى حقبة الفتوحات والتعامل مع الخصم؛ فإنّ مهمّة صناعة الكلام طرأ عليها تغيير في وظيفتها، وفي طبيعة الخصم الجديد، وهذا الأخير هو ما يشير إليه تعريف الفارابي[1].

ب. منهج المتكلّمين؛ بحسب رأي العلامة الحلّي:

تحدّث العلامة الحلّي عن أدلّة المتكلّمين ومناهجهم، بروح نقديّة، فقال: «في ذِكْر أدلّة فاسدةٍ اعتمد المتكلّمون؛ فمنها: الاستقراء، وهو عبارة عن ثبوت الحكم في الكلّي؛ لثبوته في أكثر جزئيّاته... فهو استقراءٌ تام يصحّ الاستدلال به في البراهين. ومنها: التمثيل: وهو دعوى ثبوت الحكم في الجزئيّ؛ لثبوته في الآخر؛ ويسمّونه القياس؛ وأركانه أربعة: (الأصل، والفرع، والعلّة، والحكم). ونوع منه يسمّى قياس الغائب على الشاهد، وكثير ما يستدلّ به البصريّون على مطالبهم، ويستدلّون على علّيّة العلّة التي لهم، تارة بالدوران، وتارة بالسبر والتقسيم، والدوران والتقسيم، فإنّ كثيراً من الدوران ليس علّة لا للدائر معها؛ كأجزاء العلل وشروطها، وأحد المتضايفين مع الآخر، والسبر والتقسيم ضعيف -أيضاً-؛ فإنّه مبني على أنّ الحكم معلّل، ولا يجب تعليل كلّ حكم؛ وإلا لزم التسلسل، وعلى ثبوت الحصر على أنّ العلّة ليست حركيّة من قسمين من أقسامهما التي ذكروها أو ليس جزئيّ أقدسها، وعلى حصول الشرائط التي وجدت في الأصل، وعلى ارتفاع الموانع التي يمكن وجودها في الفروع»[2].

تأتي هذه الآراء للفارابي أو العلامة الحلّي في سياق توصيف التجربة التراثية في الجدل، من حيث المنهج والنقود له أيضاً. أمّا اليوم، فقد ظهرت دراسات غربيّة معاصرة حول الجدل لكلّ من بيرلمان (Perelman)، وتيتكا (Tyteca) اللذين أطّرا الحجاج على حدّه وتعريفه؛ موضوعاً وغاية، فحصرا موضوعه في «درس تقنيّات الخطاب الذي من شأنه أنْ يؤدّي بالأذهان إلى التسليم بما

(16)

يعرض عليها من أطروحات، أو أن تزيد في درجة ذلك التسليم»[1]، وربطا غايته بجعل العقول تذعن لما يطرح عليها  أو يزيد في درجة ذلك الإذعان، فأنجح الحجاج ما وُفِّق في جعل حدّة الإذعان تقوى درجتها لدى السامعين بشكل يبعثهم على العمل المطلوب إنجازه أو الإمساك عنه، أو هو ما وفِّق على الأقلّ في جعل السامعين مهيئين لذلك العمل في اللحظة المناسبة[2].

3.المنهج الحجاجيّ عند الشيخ البلاغي:

في سياق نقد الشيخ البلاغي للآخر الغربيّ (مسيحيّ، يهوديّ، وعلمانيّ)، ألّف في ما يتعلّق بالفكر المسيحيّ - اليهوديّ كتباً ورسائل، كان أبرزها كتابان؛ هما:

- كتاب «الرحلة المدرسيّة»: حيث يلحظ القارىء في أسلوب كتابته وطريقته فيه ابتكاراً نوعيّاً؛ ويجد مناظرة وحواراً ومحاورة؛ فيرى فيه كيفيّة الخروج من الرواية إلى المعنى الأدبيّ، ثمّ إلى المحاورة العقديّة بأسلوب رائع يستعمل التوراة والإنجيل، ويردّ من خلال القرآن الكريم، موضحاً إجابته على الاستفسارات في أثناء ردّه على الافتراءات والمغالطات[3].

- كتاب «الهدى إلى دين المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله»: الذي يقع في مجلّدين؛ وهو يمثّل محاورة بين الشخص ونفسه؛ وكأنّها مع الخصم؛ بأسلوب (إذا قالوا كذا... قلنا كذا...)؛ في الجدل الدائر بين الشيخ البلاغي وأكثر من طرف من أطراف الخطاب التبشيريّ المسيحيّ؛ ومنهم: (المسيح وجورجي سايل). وقد تطرّق إلى قضايا متنوّعة فيه؛ منها: موقفهم من الإسلام ونبيّه، وموقف الشيخ من

(17)

تصريحاتهم عن الرُسُل والثالوث، وغيرها من المسائل التي هي محلّ خلاف، كاشفاً منطقها المتهافت[1]، ولا نجافي الصواب إذا قلنا إنّ التراث المسيحي كلَّه مجموعةُ من تأويلاتٍ متعاقبةٍ لظاهرةِ يسوع الناصريّ، أو تأويلات على التأويلات؛ لأنَّ «الفكر المسيحيّ أحسّ منذ نشأته بما له في سرّ الثالوث من المعاناة، فكيف التوفيق بين التوحيد الذي جاهر به المسيحيّون الأوّلون مع الرُسُل اليهود في وجه المشركين، وبين الإيمان بأنّ المسيح إله، وأنّ الروح القدس -أيضاً- إله!»[2].

(18)

 

 

 

 

 

 

الفصل الأوّل

الشيخ البلاغي، حياته ومنهجه وعصره

(19)
(20)

 

المبحث الأوّل

حياته وأسرته وعصره

1. ولادته وأسرته:

ولد محمد جواد بن حسن بن طالب البلاغي (1282 - 1352 هـ)، في شهر رجب 1282 هـ، في محلّة «البراق» في مدينة النجف الأشرف في جنوب العراق؛ ولذلك نُسب إليها[1]. وينتسب إلى أسرة آل البلاغي وهي من الأُسَرْ النجفيّة المشهورة، وترجع بنسبها إلى ربيعة، ويصفها جعفر آل محبوبة بأنّها: «من الأُسرِ العلميّة الأدبيّة السابقة في العلم والفضل، والمحلّقة بقوادم المجد والسؤدد، العريقة في العروبة، والمتقدّمة في الهجرة (...)، عُرفت هذه الأسرة في النجف، واشتهر ذكرها في أواسط القرن العاشر للهجرة (...)، وقد نبغ منها رجال تقدّموا في معارفهم»[2].

 ومن المعلوم أنّ العوامل المؤثّرة في شخصيّة كلّ فرد، تكمن في امتلاكه الفطرة السليمة، وسلامة السلوك الخُلُقيّ والاجتماعيّ، التي تعتمد بشكل كبير على طبيعة البيئة التي نشأ وتربّى فيها. والمتدبّر في حياة العلاّمة البلاغي رحمه‌الله مُنذ رُفعت عنه تمائمه، يجده قد نشأ وترعرع في حجر الفضيلة، وفُطم على حبّ المكارم، والقيم  العربيّة الأصيلة، وتربّى على أُسس التربية الإسلاميّة الرفيعة، فكان أنموذجاً للمسلم القرآنيّ الصحيح الإيمان، الصادق العقيدة، ومثال العربيّ الصميم الصريح.

لقد كان الشيخ البلاغي رجل دين، وفقيه، ومفسّر شيعيّ عراقيّ؛ كما كان شاعراً وأديباً باللغة العربيّة؛ فضلاً عن كونه باحثاً في الأديان، ومتمكّناً من بعض اللغات الحيّة؛ ومنها: الفارسيّة، والإنجليزيّة، والعبريّة؛ كما كانت له مشاركة سياسيّة بارزة في ثورة العشرين[3].

(21)

2. حياته:

يمكن تقسيم حياة العلاّمة البلاغي إلى مراحل عدّة؛ بحسب الأماكن التي تواجد فيها أثناء مسيرة حياته المباركة، إذ إنّه لم يستقرّ في مدينة واحدة، بل كان يتنقّل بين المدن المقدّسة في العراق؛ طلباً للمزيد من المعارف الإسلاميّة، وبحسب ما تقتضيه الظروف السياسيّة التي كان يمرّ بها العراق عموماً؛ لكنْ من أجل فهم طبيعة بيئة الشيخ البلاغي، ولصياغة تقويم مسرحه التاريخيّ، الذي شكّل من دون شكّ، نظرته الدينيّة والسياسيّة بشكل كبير، علينا أنْ نلمّ بالبيئتين الدينيّة والسياسيّة لعصره.

كانت البداية في مدينة النجف الأشرف. تبدأ من سنة ولادة العلاّمة البلاغي 1282 هـ، وتنتهي في سنة 1306 هـ التي هاجر فيها إلى مدينة الكاظميّة المقدّسة. ولا توجد لدينا معلومات كافية عن حياته في هذه المرحلة، التي يفترض أنْ يكون قد تعلّم فيها أوّليّات العلوم الإسلاميّة التي يعبّر عنها في الحوزة العلميّة بـ «المقدّمات»، وهي تشمل: النحو، والصرف، والبلاغة، والمنطق، وأوّليّات الفقه والأُصول. ولكنْ مَنْ هم أساتذته في هذه المرحلة؟ وعلى مَنْ درس هذه العلوم؟ لم نتوصّل لمعرفة ذلك لحدّ الآن!

وكانت هناك محطة أخرى في مدينة الكاظميّة المقدّسة. تبدأ من سنة 1306 هـ، وتنتهي في سنة 1312 هـ التي عاد فيها إلى مسقط رأسه النجف الأشرف للاستقرار فيه.

وهنا -أيضاً- لا توجد لدينا معلومات كافية عن حياته في هذه المرحلة التي استمرّت ستّ سنوات. فماذا درس فيها؟ وعلى مَنْ أخذ علومه؟ وهل كان له نشاط علميّ أو سياسيّ؟ نعم، أوّل سنة من هذه المرحلة ـ أي في سنة 1306 هـ ـ تزوّج ابنة العالم الجليل السيّد موسى الجزائري، الذي كان يسكن آنذاك مدينة الكاظميّة المقدّسة[1]. وفي حدود سنة 1310 هـ توفّي والده العالم الجليل الفاضل الشيخ حسن البلاغي[2]. والذي يظهر من بعض كلمات الأعلام أنّه تعلّم اللغة العبريّة

(22)

في هذه المرحلة، إذ يقول المحدّث الشيخ عباس القمّي: «وكان يجيد اللغة العبرانيّة؛ لاختلاطه بالطائفة الإسرائيليّة في بغداد»[1]. ومن المستبعد أنْ يكون تعلّمه لهذه اللغة في المرحلة الخامسة من حياته (1336 - 1338 هـ) التي استقرّ فيها في مدينة الكاظميّة المقدّسة أيضاً؛ لأنّه كان في تلك الحقبة مشغولاً بالأُمور السياسيّة، وتأليب الرأي العامّ ضدّ القوّات الإنكليزيّة التي احتلّت العراق، ولأنّه قبل ذلك ألّف بعض الكتب في الردّ على النصارى؛ ومنها: كتابه «الهدى إلى دين المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله» الذي ألّفه في سنة 1330 هـ، وكتابه «التوحيد والتثليث» الذي ألّفه في سنة 1331 هـ؛ ما يدلّ على أ نّه كان عارفاً بهذه اللغة قبل هذه المرحلة.

ثم جاء إلى مدينة النجف الأشرف. وقد استمرّت  دراسته اثنتي عشرة سنة، ابتداءً من سنة 1312 هـ التي ترك فيها البلاغي مدينة الكاظميّة المقدّسة وعاد إلى النجف الأشرف، وانتهاءً بسنة 1326 هـ التي هاجر فيها إلى مدينة سامرّاء المقدّسة. ويمكن تقديم استنتاج للمراحل السابقة بالقول إنّه: بدأ دراسته الحوزويّة في مدينة الكاظميّة، وبعد إنهاء مرحلة المقدّمات عاد إلى النجف لإكمال دراسته، وفي عام 1326 هـ سافر إلى سامراء؛ للحضور في دروس محمد تقي الشيرازي ـ قائد ثورة العشرين ـ، [2] وبقي في سامراء نحو عشر سنوات، ثّم سافر إلى الكاظميّة وبقي فيها سنتين. عاد إلى النجف عام 1338 هـ، واتّجه نحو التأليف والكتابة والتصنيف وبقي فيها حتّى آخر أيّام حياته.

3. أساتذته وطلبته:

تتلمذ الشيخ البلاغي في بدء حياته الدراسيّة في النجف الأشرف، التي كانت تُعدّ آنذاك أعظم جامعة لشتّى العلوم الإسلاميّة، ونهل من مدارسها في الفقه، والأُصول، والفلسفة، ومن نواديها في الأدب، والثقافة، والشعر؛ ما كان له الأثر الكبير -في ما بعد- في تكوين شخصيّته العلميّة والأدبيّة،

(23)

فتجلّى ذلك في عمق أبحاثه، وأُسلوبه السهل في البيان وحسن العرض، وأدبه الجمّ، وخُلقه الدمث في المناظرة والحِجاج.

وعند مراجعتنا لقائمة أسماء الأعلام الذين عاصرهم الشيخ البلاغي؛ سواء الذين تتلمذ على أيديهم وروى عنهم، أم الذين رافقهم وشاركهم في الدرس، أم الذين تتلمذوا عليه ورووا عنه، يتّضح لنا جليّاً رُقيّ المستوى العلميّ للمجتمع الذي كان يعيش فيه العلاّمة البلاغي، ويمكن إيضاح ذلك فيما يأتي:

أ. أساتذته:

من جملة العلماء الذين درس عندهم الشيخ البلاغي: محمد طه نجف (ت: 1323 هـ)، ومحمد كاظم الخراساني (ت: 1329هـ)، وحسين النوري الطبرسي (ت: 1320 هـ)، ومحمد حسن المامقاني (ت: ١٣٢٣هـ)، ورضا الهمداني (ت: 1322هـ)، وحسن الصدر (ت: 1354 هـ)، ومحمد الهندي(ت: 1323 هـ)[1]؛ والميرزا محمّد تقي الشيرازي (ت: 1338 هـ).

ب. رفاقه والمشاركون له في الدرس:

وهم الذين أصبح لهم أثر مهمّ في الحياة العلميّة في ما بعد؛ منهم: الشيخ عبد الله المامقاني (ت: 1351 هـ)، والميرزا محمّد حسين الغروي النائيني (ت: 1355 هـ)، والشيخ محمّد حرز الدين (ت: 1365 هـ)، والسيّد محسن الأمين (ت: 1371 هـ)[2].

ج. طلابه:

عندما مارس الشيخ البلاغي التدريس أثناء تواجده في الكاظميّة، وسامراء، والنجف الأشرف؛ تتلمذ على يديه جملة من طلبة العلوم الدينيّة الذين رووا عنه وأصبحوا في ما بعد من مراجع الدين وكبار الأساتذة والمؤلّفين؛ منهم: الميرزا محمّد علي المدرّس التبريزي (ت: 1373 هـ)، والشيخ

(24)

جعفر محبوبة (ت: 1377 هـ)، والشيخ محمّد علي الأُوردبادي (ت: 1380 هـ)، والسيّد محمّد هادي الحسيني الميلاني (ت: 1395 هـ)، والشيخ ذبيح الله المحلاّتي (ت: 1405 هـ)، والشيخ محمّد رضا الطبسي النجفي (ت: 1405 هـ)، والسيّد شهاب الدين الحسيني المرعشي النجفي (ت: 1411 هـ)، والسيّد أبو القاسم الخوئي (ت: 1413 هـ)، والشيخ مرتضى المظاهري النجفي (ت: 1414 هـ)[1].

توفي العلامة البلاغي رحمه‌الله في مدينة النجف، في الثاني والعشرين من شعبان 1352 هـ، ودُفن في الصحن الحيدري الشريف[2].

4. أقوال العلماء فيه:

- قال الشيخ كاشف الغطاء في كتابه «الحصون المنيعة»: «الشيخ البلاغي رجلٌ فاضل، مُجِدّ في تحصيل العلوم، وأديب شاعر مصنّف، وهو من بيت كلّهم علماء أتقياء، وله شعرٌ حسَنُ الانسجام»[3].

- قال الشيخ محمّد السماوي في مؤلّفه «الطليعة»: «الشيخ البلاغي... هذا الفاضل من سلسلة علماء أتقياء، مُقتَدىً بهم، سامٍ عليهم بالتصانيف المطبوعة المفيدة، عاشرتُه فكان مِن خير عشير، يضمّ إلى الفضل أدباً، وإلى التقى إباً، وله شعر حسن الانسجام»[4].

-قال السيّد محسن الأمين في مؤلّفه «أعيان الشيعة»: «كان عالماً فاضلاً، أديباً شاعراً، حسن العِشرة، سخيّ النفس، صرف عمره في طلب العلم وفي التأليف والتصنيف، صنّف عدّة تصانيف في الردود». ثمّ ذكر مؤلّفاته وعدّها ثمانيةً وثلاثين مؤلّفاً؛ ما بين كتابٍ، وحاشيةٍ، ورسالة عمليّة، وردّ؛ منها: «رسالة في بطلان العَوَل والتعصيب في الإرث»، «العقود المفصّلة في حلّ المسائل المشكلة»، «حاشية على المكاسب»، «رسالة في ردّ الفتوى بهدم قبور أئمّة البقيع عليهم‌السلام»، «الهدى إلى دين المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله»، «نصائح الهدى في الردّ على البهائيّة»، «مصابيح الهدى في ردّ القاديانيّة»،

(25)

«نسمات الهدى»، «آلاء الرحمان في تفسير القرآن»، «أجوبة المسائل البغداديّة»... وغيرها[1].

5. عصر الشيخ البلاغي:

لا يمكن لأحد أنْ يفلت من سلطان العصر الذي يعيش فيه، فالبيئة تؤثّر -كما كانت دائماً-، في أفكار البشر وتعبيراتهم، وأفعالهم الصريحة. لهذا، من أجل تقديم تقويم عادل لأيّ شخصيّة تاريخيّة، علينا أنْ نلمّ بجذورها التاريخيّة. ومن هذا المنطلق، نحاول استعراض عصر الشيخ البلاغي وموقفه منه، من خلال الملامح الآتية:

- حركة المشروطة والمستبدّة التي بدأت في إيران سنة 1324 هـ تقريباً، وقد أيّدها بكلّ قوّته الآخوند الشيخ محمّد كاظم الخراساني (ت: 1329هـ)، ووقف ضدّها بكلّ قوّته السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي (ت: 1337هـ). وكان الهدف من هذه الحركة هو تحويل نظام الحكم القائم في إيران -آنذاك- إلى نظام دستوريّ مبنيّ على أُسس انتخابيّة. وقد عمّت هذه الحركة كافّة المدن الشيعيّة في إيران والمدن المقدّسة في العراق، وأدّت إلى نتائج وخيمة استغلّها بعض السياسيّين المنتفعين لأغراضهم الشخصيّة، وأدّت إلى سجن وقتل بعض العلماء والأعيان والأُمراء والخطباء، وفي مقدّمتهم الشيخ فضل الله النوري[2].

وعلى الرغم من عدم حضور العلاّمة البلاغي درس السيّد الطباطبائي اليزدي -زعيم الحركة المستبدّة- وحضوره درس الآخوند الخراساني -زعيم الحركة المشروطة- واختصاصه به، وحكاية أقواله في مؤلّفاته الفقهيّة والأُصوليّة؛ كتعليقته على مكاسب الشيخ الأنصاري، ورسالة قاعدة على اليد ما أخذت، لم يعثر لحدّ الآن على موقف سجّله البلاغي في تأييده أو معارضته لهاتين الحركتين؛ سواء في مؤلّفاته، أم في تصرّفاته العمليّة اليوميّة.

- الثورة العراقيّة الكبرى التي حدثت في الثلاثين من حزيران سنة 1920 م الموافق الخامس

(26)

عشر من شهر شعبان سنة 1338 هـ، وما سبقها من استعدادات ومحاورات بين رجال الثورة وعلماء الدين، وما صاحبها وأعقبها من أحداث دامية مؤلمة.

وتعد هذه الثورة، المسمّاة بثورة العشرين من أهمّ أحداث التأريخ العراقيّ في القرن العشرين، فهي ثورة شعبيّة مسلّحة ضدّ أعتى امبراطوريّة استعماريّة وأقواها في ذلك الوقت. قاد هذه الثورة في أوّل أمرها الميرزا محمّد تقي الشيرازي، وأصدر فتواه المعروفة: المطالبة بالحقوق واجبة على العراقيّين، ويجب عليهم من ضمن مطالبتهم رعاية السلم[1].

ولكنّ تفوّق القوّة العسكريّة الإنكليزيّة على قوّة الثوّار، ووفاة الميرزا الشيرازي فجأةً في الثالث من شهر ذي الحجّة سنة 1338 هـ، أي بعد اندلاع الثورة بثلاثة أشهر ونصف تقريباً، ووفاة خليفته -الذي قاد الثورة من بعده- شيخ الشريعة الأصفهاني بعده بشهرين تقريباً، وغيرها من العوامل أدّت إلى تراجع الثوّار وانتكاستهم وتكبّدهم لخسائر فادحة[2].

وكان للعلاّمة البلاغي أثر مهمّ وفعّال في هذه الثورة، فعند احتلال القوّات الإنكليزيّة لسامراء سنة 1336 هـ، غادرها البلاغي إلى مدينة الكاظميّة المقدّسة، واستقرّ فيها إلى زمان حدوث الثورة المباركة سنة 1338 هـ، فكان له أثر مهمّ في مؤازرة العلماء وحثّهم على المشاركة في الثورة والمطالبة باستقلال العراق[3].

وبذلك يكون الشيخ البلاغي قد انخرط في أحداث عصره ووقف منها موقفاً دفاعيّاً ناقداً جمع بين الردّ على النقود التي جاءت من الآخر الغربيّ (مسيحيّ، يهوديّ، وعلمانيّ) إلى جانب مواجهته الأطر الداخليّة بظهور حركات داخل المجتمع الإسلاميّ مثّلتها بعض الفرق والاتّجاهات الدينيّة والفكريّة؛ كالقاديانيّة، والبابيّة، والوهّابيّة، والإلحاديّة[4]. أمّا في سياق نقده الآخر الغربيّ (مسيحيّ،

(27)

يهوديّ، وعلمانيّ)، فقد ظهر في ما يتعلّق بالفكر المسيحيّ –اليهوديّ، فنراه تارةً ينزل إلى مجتمعه موضّحاً لهم خطورة ما فعله الوهّابيّون من هدم قبور الأئمّة عليهم‌السلام في البقيع، ووجوب الوقوف في وجه هذه الأعمال الشنيعة. وتارةً أُخرى يتّصل برجال الدولة ويحثّهم على مواجهة الفرقة الضالّة البابيّة، بل يدخل المحكمة بنفسه -التي لم يكنْ دخلها يوماً ما لقضاياه الشخصيّة- من أجل منع أفراد هذه الفرقة من أعمالهم الشنيعة[1]. وتفصيل هذين الموقفين في ما يأتي:

موقفه من الوهّابيّة في هدم القبور: في سنة 1344 هـ استفتى قاضي القضاة في الحجاز الشيخ عبد الله بن بليه علماء المدينة المنوّرة في جواز البناء على القبور، وتقبيل الأضرحة، والذبح عند المقامات إذ يتناول الزائرون لها تلك اللحوم. فأجاب العلماء -وكان عددهم خمسة عشر شخصاً- بعدم جواز ذلك، ووجوب منعه ومعاقبة من يفعله.

وكان الهدف الرئيس من هذه الفتوى هو تهيئة الرأي العامّ لهدم المراقد في الحرمين الشريفين، وفعلاً فقد تمّ في الثامن من شوّال من تلك السنة هدم قبور الأئمّة من أهل البيت عليهم‌السلام في بقيع الغرقد في المدينة المنوّرة، وفي مقبرة المعلى في الحجون في مكّة المكرّمة، والمراقد الموجودة في الطائف[2].

وعند ذلك وجد العلاّمة البلاغي أنّ الواجب الإسلاميّ يحتّم عليه الوقوف إزاء هذه الأعمال الشنيعة، فخرج إلى مجتمعه ليبيّن له خطورة هذه التصرّفات ووجوب الوقوف في وجهها، فكان من نشاطه في هذا المجال ما يأتي:

- إلقاء محاضرة علميّة قيّمة على جمع من تلامذته، بيّن فيها الأهداف المشؤومة من هذه الفتوى، وفنّد ما ورد فيها من أدلّة استدلّ بها علماء المدينة على تحريم البناء على القبور. وقد دوّن هذه المحاضرة تلميذه الوفي الأديب الشاعر آية الله الشيخ محمّد علي الأُوردبادي النجفي (ت: 1380هـ)، وطُبعت في مدينة النجف الأشرف في تلك السنة -1344هـ- بعنوان دعوى الهدى إلى الورع في الأفعال والفتوى[3].

(28)

- نظم قصيدة ميميّة من البحر البسيط مطلعها:

دَهاكَ ثامِنُ شَوَّال بِما دَهَما..... فَحَقَّ لِلْعَيْنِ إهْمالُ الدُّموعِ دَما

يَوْمَ البَقيعِ لَقَدْ جَلَّتْ مُصيبَتُهُ..... ومنها قوله وَشارَكَتْ[1]

- تأليفه لرسالة في الردّ على الوهّابيّة كتبها ردّاً على مقالتين أيّدا فتاوى علماء المدينة في هدم القبور:

*الأولى: نُشرت في جريدة أُمّ القرى الحجازيّة في عددها التاسع والستّين، الصادر في السابع عشر من شهر شوّال سنة 1344 هـ.

*الثانية: نُشرت في جريدة المقطّم المصريّة في عددها الصادر في الثاني والعشرين من شهر شوّال سنة 1344 هـ.

وقد طبعت هذه الرسالة لأوّل مرّة في مدينة النجف الأشرف سنة 1345 هـ، وطبعت بعدها عدّة طبعات في بيروت وإيران[2].

موقفه من البابيّة: وبرز في تأليفه لرسالة المصابيح التي ردّ فيها على عقائد القاديانيّة والبابيّة والبهائيّة والأزليّة؛ بما تتضمّن المشابهة والمشاكلة بين هؤلاء في الدعاية والدعوى! وناقش كتبهم التي ألّفها كبارهم؛ ومنهم: غلام أحمد القادياني اللاهوري صاحب الفرقة القاديانيّة[3].

وكذا في تأليفه رسالة نصائح الهدى والدين إلى مَنْ كان مسلماً وصار بابيّاً، التي أثبت فيها أنّ البابيّة خرجوا عن كونهم شيعة، وأورد فيها مائة وعشرة أحاديث رواها عموم المسلمين تدلّ على أنّ المهدي صاحب العصر والزمان هو ابن الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام. وطبعت هذه الرسالة أوّل سنة 1339 هـ[4].

(29)

 

المبحث الثاني

منهجه ومؤلّفاته وموقفه النقدي

1. مقوّمات شخصيّته العلميّة

لم يصل العلاّمة البلاغي إلى ما وصل إليه من سموّ في النفس وعلوّ في الدرجات الروحيّة، ولم يستطع أن يخلِّف هذا العدد الكبير من الآثار العلميّة، ولا أن يتتلمذ عليه ذلك العدد الغفير من العلماء، إلاّ بعد جهود مضنية ومجاهدات روحيّة كبيرة، وتحمّل لمصاعب جمّة، أدّت جميعها إلى خلق شخصيّة هذا العالم الجليل من خلال مقوّماتها العلميّة التي سعى لتكوينها بكلّ ما أُوتي من قوّة وحول، ونحن نورد -هنا- بعض تلك المقوّمات التي أشارت إليها مصادر ترجمته؛ وهي:

أ- تعلّمه اللغات الأجنبيّة:

أجمعت المصادر التي ترجمت للعلاّمة البلاغي على إتقانه للّغات: الفارسيّة والإنكليزيّة والعبريّة، فضلاً عن لغته الأُمّ العربيّة. يقول شيخنا السيّد المرعشي النجفي؛ وهو أحد المجازين من البلاغي: «رأيته مراراً يتلو العهد القديم التوراة العبري في نهاية السلاسة وذلاقة اللسان، إذ أقرّ حاخام اليهود بفضله وإحاطته بدقائق اللسان العبري»[1].

ويقول الأُستاذ الشيخ محسن مظفّر في ترجمته: «ألوى العنان برهة نحو بعض اللغات الأجنبيّة، ففهمها من دون تعسّف، ولا كدّ خاطر. وقد كان البلاغي يمتلك عدداً من نسخ الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، باللغات العبريّة والإنكليزيّة والفارسيّة، يعتمد عليها في حكايته

(30)

لنصوص الكتاب المقدّس، وقد أشار إلى مواصفات كلّ نسخة ولغتها ومكان وتأريخ طبعها في الصفحات الأُولى لكتابيه: (الهدى إلى دين المصطفى والرحلة المدرسيّة). والعلاّمة البلاغي لم يوضّح كيفيّة تعلّمه تلك اللغات، ولم تتعرّض المصادر التي بين أيدينا لذلك أيضاً، إلاّ ما أشار إليه المحدّث الشيخ عباس القمّي بقوله: (وكان يجيد اللغة العبرانيّة لاختلاطه بالطائفة الإسرائيليّة ببغداد)»[1].

ب - دراسته للعلوم الحديثة:

تقتصر الدراسة في الحوزة العلميّة عند الشيعة الإماميّة عموماً، وفي مدينة النجف الأشرف خصوصاً، على العلوم الإسلاميّة ومقدّماتها؛ ومنها: العربيّة، والمنطق، والفقه، والأُصول، وقليل من التفسير. أمّا العلوم الحديثة؛ كالرياضيّات، والفيزياء، والكيمياء، وغيرها، فلا يتعرّض لها الطالب ولو بشكل إجمالي؛ ما أدّى إلى ابتعاد رجل الدين عن المعارف الحديثة، وعدم مواكبته لتطوّرات الحياة اليوميّة التي يعيشها أفراد المجتمع آنذاك. والعلاّمة البلاغي لم يقتصر على دراسته العلوم الإسلاميّة فحسب، بل اطّلع على العلوم الحديثة؛ ومنها: الرياضيّات، وبعض النظريّات الفيزيائيّة، والكيميائيّة، وما يتعلّق بالنجوم، وعلم الهيئة عموماً، ووظائف أعضاء جسم الإنسان، فمكّنه ذلك من الاستشهاد بنظريّات هذه العلوم في كتبه الكلاميّة ومباحثاته مع الشباب المثقّف[2].

ج - ملازمته لكبار العلماء:

من مقوّمات شخصيّته العلميّة وملكته الفلسفيّة والأدبيّة، كثرة ملازمته لأساطين فنون العربيّة وأئمّة الفقه الإسلاميّ، وجهابذة الفلسفة والكلام، هؤلاء الفحول الذين كانت تحتضنهم مدينة النجف الأشرف آنذاك[3].

(31)
د- استثماره للوقت:

كان الشيخ البلاغي رحمه‌الله يستثمر وقته بأقصى حدّ ممكن، فلا يدع ساعة واحدة تضيع منه، من دون أن يستثمرها بما يقرّبه إلى الله عزوجل بالدرس، أو التدريس، أو التأليف، وما إلى ذلك. وهذا شهد به بعض معاصريه، حيث قال الشيخ محمّد حرز الدين فيه: «تعب جدّاً في مراجعة اليهود والنصارى أنفسهم في بغداد؛ للفحص منهم عن بعض أسفار التوراة وفصول الأناجيل؛ ممّا فيه دلالة للردّ عليهم في نفي نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، وأفنى شطراً من عمره في هذا السبيل»[1].

هـ - عدم المجاملة في المسائل العلميّة:

كان الشيخ البلاغي رحمه‌الله لا يجامل أحداً في المسائل العلميّة، ولا تأخذه في الله لومة لائم، يعارض الخطأ، ويقف إزاءه؛ وإنْ صدر من أهل نحلته ومذهبه، ويؤيّد الحقّ ويقف إلى جانبه؛ وإنْ صدر من مخالفيه. فعلى الرغم من كون المحدِّث الميرزا حسين النوري الطبرسي من كبار مشايخه ومن مشاهير علمائنا، نراه يعارضه معارضةً شديدة عند تأليفه لكتاب فصل «الخطاب في تحريف كلام ربّ الأرباب»، بل يجعل جلّ المقدّمة العلميّة التي كتبها لتفسيره آلاء الرحمن في الردّ على آرائه وتفنيد أدلّته، وإثبات أنّ الشيعة الإماميّة قائلون بعدم تحريف القرآن الكريم[2].

- أدبه الرفيع في المباحثة:

اشتهر العلاّمة البلاغي بأدبه الرفيع في المباحثات والمناقشات مع المخالفين له من معتنقي الديانة المسيحيّة والفِرق الضالّة، فكان رحمه‌الله لا يتهجّم على أحد ولا يسبّ ولا يشتم. وهذا هو الذي أدّى إلى انتشار كتبه في العالم، وتأثير أفكاره من الكثير من الشباب، بل رجوع بعض المضلَّلين إلى جادّة الحقّ.

(32)

2. مؤلّفاته[1]:

-ترك الشيخ البلاغي تصانيف ومؤلّفات غزيرة؛ منها:

-«آلاء الرحمن في تفسير القرآن»: وهو تفسير غير تامّ، لم يمهل الأجل مؤلِّفه لإتمامه، وقد وصل فيه إلى سورة النساء، وجعل المؤلّف له مقدّمة، قبل الشروع فيه، في فصول ثلاثة؛ أولها في إعجاز القرآن، وثانيها في جمعه في مصحف واحد، وثالثها في قراءته[2].

-«الهدى إلى دين المصطفى»: وهو كتاب ألّفه للردّ على كتاب الهداية الذي كتبه بعض مبشّري الپروتستانتيّة[3].

- «الرحلة المدرسية»: في ثلاثة مجلدات في الردّ على المسيحيّة[4]، وقد تُرجِم إلى الفارسية[5].

- «أجوبة المسائل البغدادية»: في أصول العقائد[6].

- «أعاجيب الأكاذيب»: في الردّ على المسيحيّة[7].

- «التوحيد والتثليث»: في جواب بعض المعترضين المسيحيّين عليه[8].

- «الردّ على الوهّابيّة»[9].

- «الردّ على الطبيعيّين»[10].

(33)

- «مسألة في البداء»، و«رسالة التوحيد»، و«نسمات الهدى»، و«نصائح الهدى والدين لمن كان مسلماً وصار بابيّاً»، و«في الردّ على الفرقة البابيّة»[1].

-«دعوة الهدى إلى الورع في الأفعال والفتوى»: في الردّ على السلفيّة بشأن هدم قبور البقيع[2].

- «أنوار الهدى»: في الردّ على المادّيّين[3].

- «البلاغ المبين»، «العقود المفصلة في المسائل المشكلة: تحقيق لمسائل فقهيّة متعدّدة»[4].

- «رسالة في مواقيت الحج»[5].

3. منهجه في البحث العلمي (المنهج العامّ):

اتّبع البلاغي المناهج العامّة التي يتّبعها العلماء في كتبهم؛ من عرض شامل للمسائل العلميّة، وإقامة الأدلّة القاطعة والبراهين الواضحة على آرائهم، وإضافة إلى ذلك كلّه تأكيده في استدلاله على المسائل العلميّة على محاور عدّة، نوضحها في النقاط الآتية:

أ- في استدلاله بالسنّة الشريفة:

لم يكتفِ الشيخ البلاغي بذكر الروايات الواردة من طرق أهل البيت عليهم‌السلام، بل ذكر أحاديث كثيرة واردة من طرق أهل السنّة في صحاحهم الستّة وغيرها من أُمّهات كتبهم الحديثيّة وموسوعاتهم المهمّة؛ وذلك لكي تكون الحجّة أقوى عليهم والدليل أوضح لديهم؛ بحسب رأيهم.

(34)
ب- في بحثه السندي:

لم يكتفِ بمناقشة مدلول الأحاديث التي يستدلّ بها، بل تعرّض لوضع سندها أيضاً؛ ففي العقد الخامس من العقود المفصّلة «عقد في إلزام غير الإمامي بأحكام نحلته» ذكر صفة الأحاديث التي أوردها، فحكمَ عليها بالصحّة أو الضعف؛ اعتماداً على بحثه في رجال سندها.

ج - إيراده المصادر التي اعتمد عليها:

من السمات البارزة في منهج البلاغي هي بيان المصادر التي اعتمدها عليها، وقد ذكر أسماء مؤلّفيها ومكان وزمان طبعها؛ ففي (أعاجيب الأكاذيب) عند ذكره لرسالة عبد المسيح الكندي قال: المطبوعة مع رسالة عبد الله الهاشمي في إحدى طبعاتها سنة 1912 م في المطبعة الإنكليزيّة الأمريكانيّة بالقاهرة[1]. وفي الرحلة المدرسيّة عند ذكره لكتاب ثمرة الأماني قال عنه: المطبوع بالمطبعة الإنكليزيّة الأمريكانيّة ببولاق مصر سنة 1911 م... وهو رواية لبعض المبشّرين باهتداء كامل العيتاني، وقد قالوا عن هذا الكتاب: هو قصّة حقيقيّة، وكتبوا على ظهره: الحقّ أغرب من رواية[2].

د- استشهاده بأبيات شعريّة:

بما أنّ العلاّمة البلاغي يعدّ من طليعة الشعراء في النصف الأوّل من القرن الرابع عشر، لذلك نراه في مصنّفاته يستشهد كثيراً بأبيات شعريّة.

هـ - استعماله للأمثال:

عند قراءة آثار العلاّمة البلاغي يتّضح أنّ له علاقة خاصّة بالأمثال؛ وذلك لكثرة استعماله لها، وبمختلف المستويات الأدبيّة، وفي أكثر من لغة واحدة: (أمثال عربيّة، أمثال فارسيّة، أمثال عاميّة)؛

(35)

حتّى أنّه في كتاب الرحلة المدرسيّة تحدّث عنها، وعن أسباب استعمالها؛ قائلا: «إنّ القاعدة الأدبيّة في ضرب المثل عند العوام والخواصّ، أنْ يراعي مناسبة المثل لمورد التمثيل والتشبيه، ويعيبون المثل الذي لا يناسب، ويعدّونه من سوء الفهم وبساطة المغفّلين القاصرين»[1].

و- بيانه للمعاني الغامضة:

حيث نجده يبيّن معاني الكلمات اللغويّة الغامضة، فتارةً يذكر المصادر اللغويّة التي اعتمدها في ذلك، وتارة أُخرى لا يذكر تلك المصادر.

(36)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

خطاب الحجاج عند الشيخ البلاغي

(37)
(38)

 

مدخل

لقد جاءت جهود الشيخ البلاغي للردّ على سهام النقد التي وُجِّهها دارسون غربيّون ضدّ الإسلام، اتّخذوا من المسيحيّة مجالاً للتأليف، ومن الميراث المسيحيّ (العهدين) باباً للرجوع في نقد الإسلام والردّ عليه.

ومن المعروف أنّ الجدل والمناظرة يخضعان نظريّاً لمجموعة من الثوابت المنهجيّة؛ مثل: وجود المدّعي والمدّعى عليه، ووجود دعوى الاعتراض والارتكاز إلى الدليل (البيئة والشاهد، والبرهان، والوثيقة والحجّة...)، واستعمال العقل والمنطق في التناظر، والابتعاد عن التعصّب والعنف والتجريح.

وثمّة حاجة -أيضاً- إلى شخص ذي اختصاص في مجال العلوم الشرعيّة والدينيّة ليوضّح هذه الحجّة بالبرهان القاطع والدليل الواضح، ويكون متّصفاً بصفات العلماء، وعلى إطلاع بعلوم المتحاورين، وعلى دراية تامّة بأحوالهم وأوضاعهم وسننهم وأحكامهم وتشريعاتهم[1]. وهذا ما نجده في الشيخ البلاغي؛ فهو قد تسلّح بتلك الرؤية العقديّة والمنهج الجدلي القائم على مقاربة الشبهات بالنقد العقليّ، وهذا ما وضحّه الشيخ بقوله: «وقفت على كتاب عربي أُرِّخ طبعه بسنة ألف وثمانمائة وإحدى وتسعين ميلاديّة، لم تذكر؛ كما هو المعتاد المطبعة، ولا محلّها، ولا صاحبها، عنوانه أنّه تعريب هاشم العربيّ نزيل بلاد الإفرنج، حالاً عن اللغة الإنكليزيّة لمقالة في الإسلام لرجل ترجمه المعرّب بأنّه جرجيس صال الإنكليزي، مولداً ومنشأ المولد في أواخر القرن السابع عشر، وقد ألحق المعرّب هذه المقالة بتذييل مستقلّ في آخرها وتذييلات متفرّقات في أثنائها. ثمّ وقفت على كتاب آخر استعير له اسم الهداية، وقد تكلّف فيه الردّ على كتابَي: إظهار الحقّ، والسيف الحميدي. فوجدت الكتابين الأوّلين على طريقة ينكرها شرع التحقيق في البحث والأدب في الكلام، والأمانة

(39)

في البيان، ولا يرتضيها خدّام المعارف المحافظون على فضلهم، ورواج بضاعتهم، المتّخذون من وبال الانتقاد ووصمة ظهور الزيف والزيغ»[1].

وهذه الإشارة تجعلنا نعود إلى تلك القواعد التي اعتمدها البلاغي في منهجه؛ كما أشار إليها الدارسون؛ «منها: موقفهم من الإسلام ونبيّه، وموقف الشيخ من تصريحاتهم عن الرُسُل والثالوث،  وغيرها من المسائل التي هي محلّ خلاف؛ مبيّناً منطقها المتهافت»[2].

لقد صرف هذا العالم الجليل عشرات السنوات من حياته لأجل تأليف كتابين، هما: «الرحلة المدرسيّة»، و«الهدى إلى دين المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله»؛ وذلك في بيان التناقض الموجود في العهدين: التوراة والإنجيل؛ لأنّه كان ينتهج موقفاً حجاجيّاً عن العقيدة؛ بوصفه رجل دين ومثقّفاً دينيّاً «يتّجه بنظره، نحو العصر، ونحو القضايا والمشكلات والتحدّيات المعاصرة، بحاجة إلى أنْ يقدّم تصوّراته وأطروحاته بمعايير تتّصف بالمنهجيّة والعلميّة والحضاريّة، وعلى قاعدة الموازنة بين الأصالة والمعاصرة، الثوابت والمتغيّرات، الأصول والفروع، والمطلقات والنسبيّات، وعلى ضوء التمسّك بمناهج الاجتهاد، وقطعيّات العقل في التشريع الإسلاميّ»[3].

وهكذا نجد أنّ الكتاب في جوهره يمثّل الردّ على تلك الانتقادات؛ بالإضافة إلى انتقادات في وردت في كتب أخرى، استعرضها الشيخ البلاغي في هذا الكتاب مع جملة من المعلومات عن التوراة، فوجدنا أنْ نجمعها في فصل عن الفكر اليهوديّ، لإيراد المعلومات التي جاء على ذكرها الشيخ البلاغي وفيها إجابات على انتقادات مسيحيّة تتعلّق بعضها بنزول القرآن بالتدريج، وغيرها من الانتقادات.

وعلى هذا سوف نقارب فكر الشيخ في هذا القسم ضمن مبحثين؛ الأوّل: «سوف نتناول فيه تأصيل مقاربته النقديّة في كتابه الأساس «الهدى إلى دين المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله».

والثاني: سوف نقدّم مقاربة للموقف النقديّ، متوقّفين على ما في التوراة من التحريف، والتمييز بين الرُسُل والمدَّعين. وقد رجعنا في ذلك إلى كتبه الأخرى المتعلّقة بالموضوع؛ بالإضافة إلى كتابه «الرحلة المدرسيّة».

(40)

 

المبحث الأوّل:

«الهدى إلى دين المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله» ومقدّماته الحجاجيّة

جاء الدفاع الحجاجي عن الإسلام واضحاً في مقدّمات الكتاب الثمانية التي اتّخذها البلاغي أُطراً منهجيّة للبحث، بحيث تمكّنه من تحديد الغاية والهدف من بحثه في الفكر اليهوديّ والنصرانيّ. ونحن سوف نحاول استعراض هذه المقدّمات والتأكيد عليها؛ لأنّها تشكّل الأطر التي توجّه قراءة البلاغي في نقده للفكر اليهوديّ والنصرانيّ الحاضر في تلك الكتب النقديّة التي ذكرها في مقدّمة كتابه.

ويضع البلاغي تصويباً لمنهجه بقوله: «كان من مباحثتي لهم الاحتجاج عليهم جدلاً وإلزاماً؛ بما في العهدين المنسوبين إلى الوحي الإلهيّ عند عموم النصارى، وخصوص البروتستانت الذين منهم هؤلاء»[1].

فهو يبيّن -هنا- الغاية من مقدّمته التي تلزمه أنْ يتناول تلك النصوص الدينيّة حتّى يردّ على أصحاب الكتب التي وجَّهت النقد إلى الإسلام. وهذا يتطلّب الاحتجاج عليهم بالرجوع إلى كتبهم، والاستدلال والردّ على الشبهات التي أثارها أصحاب تلك الكتب المترجمة التي تقدِّم نقداً للدين الإسلاميّ.

ولتحقيق هذا الهدف يستعرض تلك الكتب الدينيّة بقوله: «فالأوّل من العهدين هو المسمّى بالعهد القديم؛ وهو عبارة عن تسعة وثلاثين سفراً؛ خمسة منها منسوبة لنبي الله موسى عليه‌السلام، وتسمّى بـ«التوراة»، والأسفار الباقية منسوبة إلى الوحي، إلى مَنْ بعد موسى من الأنبياء، إلى ما قبل زمان المسيح بنحو ثلاثمائة وسبع وتسعين سنة، وقد يسمّى جميع العهد القديم بـ«التوراة». واللسان الأصليّ له إلى ما قبل سبي بابل هو اللسان العبراني. ومن سبي بابل صار الأصل لبعضها هو اللسان الكلداني؛ وهو لسان بابل. ثمّ ترجم العهد القديم إلى اللغة اليونانيّة بعناية سبعين أو

(41)

اثنين وسبعين من علماء اليهود لمائتين واثنتين وثمانين سنة أو خمس وثمانين أو ست وثمانين قبل المسيح على اختلاف الرواية في تاريخ الترجمة وأسبابها. وقيل وتمّت في اثنين وسبعين يوماً. وسمّيت بالترجمة السبعينيّة»[1].

فهو -هنا- يقوم بإقرار واقع حجاجيّ متعارف عليه عن المسيحيّة أكثر من اليهود؛ كون اليهود لا يسمّون التوراة بالعهد القديم؛ لأنّهم لا يعترفون بالعهد الجديد أساساً، فنجده يقدّم نقداً للنصوص من خلال استعراضه تلك التوراة السبعينيّة، ويقارن بينها وبين التوراة العبريّة مقارنةً تكشف عند رايته بنصوص الأسفار والاختلافات بين النسختين.

ويؤكّد البلاغي على العلاقة الواضحة بين التوراة والتاريخ؛ فالشريعة بحسب التوراة مرتبطة بالتحوّلات. ولعلّ هذا ما يمكن أنْ نستنتجه من استعراضه لما تقوله التوراة؛ وكأنّه يواصل تقديم الأدلّة على التدرّج الذي مرّت به؛ إذ ارتبطت بتحوّلات كثيرة لها صلة بأحداث تقرّبها من التدرّج في التكوّن.

وقد قام البلاغي بدفاع حجاجي قدَّم فيه الأدلّة التي تفنِّد النقود التي أثارتها مواقف وشبهات في النصوص الغربيّة التي انتقدت الدين الإسلاميّ، فردّ «على الشبهات التي أُثيرت حول تدرّج نزول الوحي في القرآن؛ وهو مخالف لكتب الوحي؛ لأنّها نزلت جملة»[2]، حيث استدلّ على وجود هذا الأمر من قَبل في التوراة، بقوله: «أمّا التوراة؛ فإنّ ابتداء وحيها لموسى كان في جبل حوريب، إذ كان موسى يرعى غنم كاهن مدين. ثمّ في مدين، ثمّ في مصر في دفعات متراخية؛ بحسب الزمان، إلى عبور بني إسرائيل البحر، ثمّ في ماره، ثمّ في برية سين، حيث أنزل المنّ بعد الخامس عشر من الشهر الثاني لخروجهم من مصر، ثمّ في رفيديم، ثمّ في برية سينا، بعد الشهر الثالث لخروجهم من مصر. وتتابع الوحي في دفعات متراخية في جبل سينا وبريته، إلى أنْ ارتحلوا منها في العشرين من الشهر الثاني من السنة الثانية لخروجهم من مصر، ثمّ في برية فاران، وتتابع الوحي هناك في سنين عديدة إلى أنْ مات هارون في جبل هور، وكان موت هارون في أوّل الشهر الخامس من السنة الأربعين

(42)

لخروجهم من مصر (...) فكانت مدّة نزول الوحي والشريعة على موسى بالتدريج والتعاقب من المدّة التي كان فيها يرعى غنم كاهن مدين في حوريب إلى أنْ توفي في أرض موأب ما يزيد على إحدى وأربعين سنة على أنّه لم يعرف من التوراة الوقت الذي أوحي فيه سفر التكوين إلى موسى ومقتضى صراحة التوراة...»[1].

ويستنتج البلاغي -هنا- أمرين؛ هما: الأوّل: في نقده للنصّ؛ فهو يؤكِّد تدرّج نزول الوحي؛ وهذا غاية الاستدلال، عبر تأكيده أنّ كتب الوحي ومنهجها الحكيم يقوم على التدرّج؛ سواء في التوراة أو القرآن؛ إذ يقول: إنّ «التوراة الرائجة تذكر أنّ نزول التوراة على موسى عليه‌السلام كان من زمن تكليفه من الشجرة متدرّجاً بحسب الأزمان والحوادث»[2]. فاستعراض التوراة ليس هو غاية بذاته، بل هو عبارة عن حقيقة حجاجيّة يعترف بها اليهود والمسيحيّون بكلّ ما فيه، فهي بيّنة تقدّم من أجل الردّ على نقد موجَّه إلى الوحي في الإسلام أنّه جاء متدرّجاً، وليس حقيقة واحدة؛ كما ذكرها الخصوم على الشيخ البلاغي.

 والأمر الثاني: إشارته الذكيّة إلى أنّ التوراة التي كتبت في عهد موسى هو سفر التكوين، ولا تشتمل على باقي الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى التي ادّعت التوراة أنّها كُتِبَت من قَبل موسى، وأنّه هو (أي موسى) من جمعها وسلّمها إلى الكهنة من بني إسرائيل، وأمرهم بوضعها بجانب تابوت عهد الربّ، وهي بالمقارنة مع ما تذكر من أحداث يظهر أنّها تعرض أحداثاً وقعت بعد موسى، إذاً كيف كتبها؛ وهو لم يكن موجوداً؟! وهو ما أدركه الشيخ البلاغي وقد صرّح به عبر تأكيده أنّ السفر الذي كتب هو سفر التكوين[3]. كما نجده يستعرض «المسائل التي هي محلّ

(43)

خلاف، مبيّناً منطقها المتهافت»[1]؛ ويمضي باستعراض الأدلّة على كلامه فيما يتعلّق بتدرج نزول الوحي، فيذكر أدلّة أخرى من وحي هوشع ودانيال وزكريا.

هذا ما يتناوله في هذا الكتاب بشكل تفصيلي؛ فهو لا يقصد شرح التوراة أو تاريخ اليهود؛ بقدر ما كان هدفه الردّ على الانتقادات الغربيّة الحديثة التي كانت تمثّل نقوداً هدفها نقد الإسلام، ولا سيّما القرآن الكريم وحياة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. لهذا نجد البلاغي؛ بوصفه مثقفاً دينياً يسعى إلى تقديم مقاربة حجاجيّة تهدف إلى الدفاع عن الثقافة الإسلاميّة، ويحاول إقناع الخصوم من خلال اعتماده على ثلاث قواعد حجاجيّة واستثمارها في الحجاج؛ وهي: الحقائق، والفرضيّات، والوقائع، فمن الحقائق التي يمكن الاستدلال عليها هي أنّ تحليل معاني النصوص يبيّن أنّها قد ارتبطت بوقائع تاريخيّة؛ على الرغم من أنّ الدراسات المعاصرة أظهرت وقائع أخرى[2]؛ وهو ما أشار إليه الشيخ البلاغي في أحد مقدّماته التي يضع فيها مقاربة مهمّة في نقده للنصّ واقعه التاريخيّ يؤكِّد «صراحة بعض كتب العهدين؛ بما يدلّ على مخالفة وضعها وترتيبها لترتيب إلهامها ووحيها»[3]. فهناك تناقضات في ترتيب النصوص؛ من حيث المناسبات التي ارتبطت بها مع السرد المعروف للوقائع، حيث يذكر أمثلة متنوّعة على هذا الاستنتاج، فيقول -مثلاً-: «إنّ المزمور الثاني عشر كان إلهامه عندما أنقذ الله داود من أيدي كلّ أعدائه ومن يد شاول. وإنّ المزمور الرابع والثلاثين كان إلهامه عندما غيّر داود عقله قدام أبي مالك وهو قبل ذلك، وإنّ إلهام المزمور الحادي والخمسين كان بعدما تزوّج داود بإمراة أوريا. وإلهام الثاني والخمسين عندما أخبر دواغ الأرومي شاول بدخول داود إلى بيت أخي مالك؛ وهو قبل ما تقدّم ذكره. وكذلك إلهام المزمور السادس والخمسين...»[4].

وأغلب هذه المقدّمات هي إجابات عن شكوك تمّ عرضها من قِبَل تلك الكتب التي ناقشها

(44)

الشيخ البلاغي؛ ومنها: ما يعرض للتجربة النبويّة مع الوحي من حالات. وقد حاججهم الشيخ البلاغي بعرضه لمواقف يؤكِّد من خلالها تعرّض العهدين لبعض أحوال الأنبياء عند الوحي والمكاشفة؛ من تصرّف الروح بهم على غير اختيارهم، وسقوطهم لوجوههم، ومقاومتهم الجهد والشدّة؛ كوقوع الغيبة والإغماء عليهم، واضطرابهم، وغير ذلك... وهذا ما جاء في المقدّمة الرابعة، التي يبيّن فيها حالات الأنبياء أثناء تلقّيهم الوحي، وما يصيبهم من حالات عند تجلّي الله وظهور جلّ جلاله لهم. ويذكر أمثلة لهذه الحالات، بقوله: «ففي التوراة أنّ إبراهيم لمّا أوحي إليه في شأن نسله وغربتهم وقع عليه عند مغيب الشمس سبات ورعبة مظلمة، وأنّ يعقوب لمّا رأى في الحلم السلم والملائكة وخاطبه الربّ واستيقظ خاف؛ وقال: ما ارهب هذا المكان. و أمّا موسى؛ فإنّه، وإنْ لم تذكر التوراة في شأنه عند ظهور الله له في حوريب في عليقة النار في أوّل تكليمه؛ إلا كونه غطّى وجهه؛ لأنّه خاف أنْ ينظر إلى الله»[1].

ويشير الشيخ البلاغي من خلال مقاربته للنصوص إلى «أنّ كتب العهدين لم تستقص ذِكْر هذه الحالات للأنبياء عند الوحي؛ بدليل أنّ التوراة أهملت في شأن موسى ما ذكره استفانوس وبولس وأنّ الأناجيل قد أهمل كلّ واحد منها كثيراً ممّا ذكره الآخر؛ فضلاً عن اختلافها الكاشف عن عدم إطلاع كتبتها على حقيقة الحال»[2]. ولم يذكر العهد القديم حالات إشعيا وإرميا وغيرهم من الأنبياء إلى ملاخي، وما يعرض لهم عند الوحي والتجلّي، ولا يُظنّ أنّهم في ذلك أعلى شأناً وأحسن حالاً من إبراهيم ويعقوب وموسى[3].

وفي حجاج الشيخ البلاغي على اتّهاماتهم لما ورد في القرآن في ما يتعلّق بموقف اليهود من موسى، وقصّة العجل، فإنّه يؤكّد أنّ الشواهد توضّح أنّ «ارتدادات يهوذا وتقلّباتهم في الشرك حتّى جعلوا الأصنام في بيت المقدس ونجّسوه وأخبروه وأغلقوه، وبقوا أياماً كثيرة بلا إله حقّ، ولا كاهن معلِّم، ولا شريعة توراة، ولم يبقَ سفر للشريعة والتوراة إلى حدّ لم يقدر الملك عليه، ولم يره ولم

(45)

يُسمع منه شيئاً مدّة اثنتي عشرة سنة من ملكه؛ وهو مؤمن يطلب الله والشريعة، فإنّه لو كان للتوراة حينئذ وجود لكانت عنده منها نسخة يقرأ بها كلّ أيّام حياته من أوّل جلوسه على كرسي مملكته؛ حسب ما هو الواجب في كلّ يوم من حياته، من أوّل جلوسه على كرسي مملكته؛ حسب ما هو الواجب في الشريعة على ملوك إسرائيل»[1].

وكذا يبيّن في سياق عرضه نبذة من سيرة بني إسرائيل والملّة النصرانيّة، أنّه: «قد ظهر لهم من موسى الداعي لهم إلى التوحيد معجزة العصا، واليد البيضاء، والعجائب في مصر (...) وبلغهم عن الله قوله لا تصنعوا معي آلهة فضّة، ولا تصنعوا آلهة ذهباً، ولا يكنْ لك آلهة أخرى أمامي، ولا تصنع لك منحوتاً (...). وبعد هذا كلّه لم تمضِ سنة منه حتّى ارتدوا عن عبادة الله، وقالوا لهارون لمّا أبطأ عليهم موسى في جبل سينا: اصنع لنا آلهة تسير أمامنا، فلمّا صنعوا العجل المسبوك من الذهب حليّهم، قالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من مصر، فسجدوا له وذبحوا»[2]. وقد فعلوا هذا الأمر بعد موت كلّ نبي أو قاضٍ، ففعلوا الأمر ذاته بعد موت يوشع، وفي زمن القضاة بعد موت باتير القاضي، وبعد موت سليمان انقسمت مملكة إسرائيل إلى قسمين، فتبع رحيعام ابنه سبطا يهوذا وبنيامين وملّكوه عليهم، وانعزل عنه باقي الأسباط، فملّكوا عليهم يربعام، فعمل لرعيّته عجلَي ذهب وقال هذه آلهتك يا إسرائيل. «واستمرّ بنو إسرائيل على خطيئتهم وطريقة بريعام إلى أنْ ملّك عليهم هوشع بن أيله. وفي أيّامه سباهم ملك أشور وأسكن في ديارهم غيرهم، وقد كانوا أخطأوا إلى الربّ إلههم»[3].

وبهذا الموقف الحجاجيّ المستند إلى التوراة يستدل الشيخ البلاغي على هذا التناقض من

(46)

خلال التحليل العقلانيّ لما تذكره التوراة من إخراج هذا الملك النسخة المخفية، ويتساءل (لما لم يجدها حلفيا؛ إلا بعد مضي ما يزيد على عشر سنين من ملك يوشيا، مع أنّ يوشيا ملك مؤمن يطلب الله والشريعة من أوّل أمره، وأنّ حلفيا الكاهن لا ينفكّ عن كثرة الدخول إلى المحراب في الأسبوع مرّة أقلّها؟! هذا وإنْ قال المتكلّف أنّ هذه النسخة غير التي كانت زمان موسى وأمر بوضعها إلى جنب التابوت، بل هي نسخة أخرى من سائر النسخ وضعت مع التابوت على رسم الشريعة. قلنا كيف يتركها الذين هم قبل يوشيا من المشركين الذين عبثوا ببيت الربّ وخرّبوه ونجّسوه؟ وكيف لم يجدها حلفيا إلا بعد عشر سنين من ملك يوشيا، مع أنّها نصب عيني الداخل إلى المحراب. وأيضاً فليعمل المتكلّف فكرة بما عنده من الفطانة، وليبيّن لنا أنّ هذه النسخة إذا لم تكنْ بخطّ موسى وتذكاراً له، بل كانت من سائر النسخ الكثيرة، فما الوجه المقبول في احتفال يوشيا بها ذاك الاحتفال العظيم؛ لو كان لها أمثال كثيرة؟ ثمّ ملك من بعد يوشيا إلى السبي بابل يهوا حاز، ويهويا قيم، ويهويا كين، وصدقيا؛ وعملوا الشر»[1]. فإثارة هذه الأسئلة من قِبَل الشيخ البلاغي تهدف إلى التحرّي عن الحقيقة في التوراة؛ بوصفه نصّاً مقدّساً له مكانته في اليهوديّة والمسيحيّة، لكنْ لا يمتلك هذا النصّ هذه القدسيّة عند المسلمين لما وقع عليه من تحريف. وهنا يعترض الشيخ البلاغي على المنهج المتّبع من قبل النصارى، فيقول: «قد وجدنا العمدة لمباحثي المسلمين من النصارى هو الاحتجاج عليهم بما في كتب العهدين؛ وكأنّ هؤلاء المباحثين لم يفطنوا إلى أنّه لا حجّة لهم بها على المسلمين لوجوه...:

- الوجه الأوّل: أنّه من المتعذّر إيصال السند في كلّ واحد من هذه الكتب إلى الأنبياء معادن الوحي والإلهام، على سبيل التواتر المفيد اليقين، في كلّ طبقات النقل، فاستوضح بعض ذلك من المقدّمة السابقة، وغاية ما عندهم هو الاعتماد على حكم المجامع المتقلّب في تمييز الكتب الإلهامي من المكذوب، والاستشهاد بمطابقة كلام القدماء، كما ستعرف ذلك من أشتات كلام المتكلّف.

-الوجه الثاني: أنّه لا يتمكّن معرفة رسالة الأنبياء السابقين وتعيين كتبهم الصادرة عن الوحي معرفة يقينية؛ إلا بسبب إخبار رسول الله خاتم المرسلين والقرآن الذي هو كلام الله بواسطة العقل

(47)

على صدق رسول الله بدعواه الرسالة، وأنّ القرآن الكريم هو كلام الله العظيم. فلو شككنا والعياذ بالله بالرسول والقرآن؛ كما يريدون لم تبقَ لنا معرفة بنبي مرسل، ولا اسم كتاب إلهاميّ... وأيضاً أنّ القرآن الكريم والعقل السليم يدلّان بأوضح دلالة على أنّ هذه الكتب شيئاً كثيراً ليس من الإلهام والوحي أصلاً؛ لمخالفتها لهما في أمور كثيرة مخالفةً لا تقبل التأويل.

- الوجه الثالث: شهادة بعضها على بعض بالتحريف صريحاً، وإنْ حامى بعض النصارى عن ذلك وكتبوا في كتبهم قولهم متّى حرفت؟ ولماذا حرّف؟ ومن حرّفها؟ ولأيّ غرض حرّفها؟»[1].

وفي هذه الرؤية النقديّة للشيخ البلاغي نجد حاضراً فيها أخلاقيّات البحث، والأمانة العلميّة والدينيّة؛ إذ يقول: «لا يفيد علم، ولا يذعن عموم أهل الدين بصحّته، أو أنّه من دينهم، فإنْ تشبّث خصمهم بمثل هذا الاحتجاج على جامعتهم؛ كان ذلك منه حياداً عن الحقّ؛ لضعف الحجّة، وضيق الخناق»[2]. ومن ثمّ يشخّص الخلل في سلوك الخصوم في قطبين فاسدين: «أحدهما: اعتمادهم في البرهان لدعاويهم في قبال الإسلام على كتب العهدين التي يدعون إلهاميّتها وصدورها عن الوحي. وقد عرفت في المقدّمة السادسة، وتعرف إنْ شاء الله ما يبطل ذلك... وثانيهما: أنّهم تشبّثوا في مقام الجدل لدين الإسلام وإلزام عموم المسلمين في جامعة دينهم بآراء بعض مفسّريهم، وروايات آحادهم؛ ممّا لا يقبله عمومهم، ولا يذعنون بصحّته، ولا يعتمدون عليه في جامعتهم الإسلاميّة، أو نرى هؤلاء الباحثين لم يفطنوا ولم يسمعوا بأنّه عرض لروايات آحاد المسلمين؛ مثلما قد عرض للأناجيل وتعاليم النصرانيّة بعد المسيح من الاختلاف والتشويش والاضطراب؛ حتّى تعدّدت الأناجيل، واختلفت اختلافاً واضحاً؛ وحتّى تتابع النداء من أعمال الرسل والرسائل المدرجة في العهد الجديد بأنّ بطرس ويهوذا ويوحنّا وبولس يستغيثون ويحذّرون الأمّة من التعاليم المتشعّبة من المتنصّرين»[3].

بناءً على ما تقدّم نجد أنّ العلامة البلاغي قد اتّبع في خطابه الحجاجي منهج العرض الشامل

(48)

للمسائل العلميّة، وإقامة الأدلّة القاطعة والبراهين الواضحة على آرائه، وهذا ما تجلّى -أيضاً- في المقدّمة الثامنة التي كان موضوعها الأوسع هو دراسة الفكر التوراتيّ، وقد تناولها في بابين؛ الأوّل منهما تناول ثلاثة فصول: الفصل الأول: «بيان حقيقة الرسول»، والفصل الثاني: في الغاية من الرسالة، أمّا الفصل الثالث؛ فكان في «عصمته». وهنا يتناول أمرين في مجال بحثه -الذي مهَّد له في المقدّمة السابقة: «الأمر الأوّل: كون الرسول معصوماً غير متّهم فيه مع فرض رسالته، وثانيهما: كونه معصوماً عن الذنوب وارتكاب القبائح التي هي ضدّ ما يدعو إليه من شريعة الهدى والإصلاح.

أمّا الأمر الأوّل: فقد اتّفق عليه أهل الملّة القائلون بالنبوّة والرسالة؛ لوجه أو ضخّمته لهم بداهة عقولهم، وليس حقيقته؛ إلا تحصيل الغرض من الرسالة، وقبح نقيضه بإرسال المكذّب والمخطئ في التبليغ.

أمّا الأمر الثاني: فحقيقة وجهه وحجّته عين الوجه الأوّل؛ وحجّته، وإنْ خالف فيه اليهود  والنصارى، فإنّه يقبح ويمتنع من الله القادر القدّوس الغني العليم الحكيم أنْ يجعل رحمته ولطفه في طريق يمنع عن فائدتهما، ويصدّ عن منفعتهما، مع إمكان أنْ يجعلهما في طريق لا يمنع عن حصول الغرض والفائدة، ولا مفسدة فيه، بل هو الناجح في تحصيل الغرض. ولبيان ذلك وجوه:

ـ الأوّل: إنّ إرسال النبي الذي يصدر منه الذنب والقبح ومخالفة شريعة الحقّ ناقض للغرض المطلوب من إرساله. ونقض الغرض قبيح ببداهة العقل، ومنقصة فاضحة؛ فهو ممتنع على الله»[1].

ـ الثاني: إنّ إرسال الله للرسول المعصوم ممكن وحاجة الخلق في الاهتداء إلى الحقّ وظهور الصلاح والانتباه إلى الرسول، وعدم التنفير منه، داعية إلى ذلك؛ وهو مصلحة بلا مفسدة، بل المفسدة بخلافه، فيجب بمقتضى الحكمة والرحمة واللطف، فيمتنع إرسال غير المعصوم. فيقال إنّ وجود المعصوم غير ممكن. أو أنّ الله لا يعلم به، أو أنْ لا مصلحة في إرسال المعصوم، وأنّ إرساله مفسدة، أو أنّه لا يجوز على الله القدّوس الغنيّ العليم الحكيم؛ الإخلال بالحكمة والعدول عبثاً عمّا فيه الصلاح وحصول الغرض إلى ضدّه. حاشا وكلّا. 

(49)

ـ الثالث: دلالة الكتب المنسوبة بين الملّتين إلى الوحي والإلهام بنحو يشير بمضمونه أو فحواه إلى ما ذكرنا من وجه دلالة العقل. قال الله عزوجل في سورة البقرة: (وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(البقرة: الآية 124)، وفاعل القبح ظالم، إذ لا أقلّ من كونه ظالما لنفسه؛ بإلقائها في تهلكة العقاب، ورذيلة فعل القبيح[1].

وفي السياق نفسه يستعرض العلامة البلاغي ما جاء في التوراة؛ في ما أوردته من الحالات والمعاصي والذنوب ونسبتها إلى الأنبياء في الكتب المنسوبة إلى الإلهام، وما ينبغي أنْ يقال في ذلك. «وينقسم هذا الباب إلى ستّ عشر فصلاً، جاء في الفصل الأوّل ذِكْر آدم وما يقال في شأنه، والفصل الثاني جاء في ذِكْر نوح وما قيل في شأنه. أمّا الفصل الثالث ففي ذِكْر إبراهيم، والرابع في إسحاق، والخامس في يعقوب، والسادس في يوسف، والسابع في موسى، والثامن في هارون، والتاسع في أيوب، والعاشر في داود، والحادي عشر في سليمان، والثاني عشر في اليسع، والثالث عشر في أرميا، والرابع عشر في حزيقال، والخامس عشر في المسيح، والسادس عشر في النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله»[2].

فهذه التوصيفات التي جاءت بها التوراة بحقّ الأنبياء جعلت العلامة البلاغي يخصّص مقدّمة كتابه من أجل مناقشة حجاجيّة في بيان ما «تثبت به الرسالة»، وتقوم به لله على الناس الحجّة، وبيان ما يلزم منها ممّا لا يلزم، وهنا يؤكِّد الشيخ البلاغي ما يأتي:

1 - يلزم فيها أن تكون مقتضية لتصديق المدعوين بالرسالة.

2 - إيمانهم بصدق مدّعيها بحسب حالهم ووقتهم، كافية في الاحتجاج عليهم، قاطعة لمعاذيرهم.

3 - ويلزم أيضاً أنْ تكون معلومة عند الدعوة وطلب التصديق إمّا بأنْ تكون سابقة في الزمان، ولكنّها معلومة، أو يمكن تحصيل العلم بها للمدعوين[3].

(50)

فنجد العلامة البلاغي في هذه المقدّمة يقدم على اعتماد نمط من الخطاب الحواري بين الشخص ونفسه؛ وكأنّه مع الخصم، بأسلوب «إذا قالوا كذا... قلنا كذا...». وهذه الطريقة موجودة في التراث الإسلاميّ؛ وخصوصاً كتاب «إفحام اليهود»[1].

ومن أمثلة ذلك قوله: «إنْ قلت إنّ ذلك كان مقترناً بفعل المعجز أو النصّ والشخص اللذين هما حجّة -أيضاً- على الرسالة (207)، وإنْ قلت إنّ الكثير -أو الكلّ- من هؤلاء المذكورين قد ذكر العهدين في شأنهم أنّهم قد تنبّؤوا عن الوحي بأمور من الغيب، فوقعت في المستقبل على نحو ما أخبروا؛ وهذا من نحو المعجز.

قلت: لماذا نسيت أنّ الحجّة هي محلّ الكلام؛ إنّما هو ما كان مقتضياً لتصديق الناس في أوّل أمر التبليغ وطلب التصديق. وإنّ الذي تذكره -لو صحّ-؛ فإنّما ينكشف كونه معجزاً بعد وقوع ما أخبروا به على طبق الخبر، وإنّ البعض الكثير ممّا تشير إليه؛ إنّما تبيّن صدقه بمقتضى العهدين، وانتفى عنه احتمال الكذب بعد موت النبي الذي أخبر به بمدّة أو بمئات من السنين. والبعض الآخر إنّما تبيّن صدقه بمقتضى العهدين... ومثل هذا لا يكون حجّة على الرسالة لمن يطلب منهم التصديق في أوّل التبليغ، ولا يكون حينئذٍ مقتضياً لتصديقهم وإيمانهم... أما تعرف المعجز (ما هو؟): فالمعجز هو ما يظهره الله على يد رسوله من الفعل الخارق للعادة، بحيث يعجز عنه سائر البشر؛ بما عندهم من دقائق الفلسفة والحذاقة في الصناعة والمهارة في الفنون، وبذلك يعرف أنّ الله هو الذي أظهره بقدرته الباهرة على يد الرسول؛ تصديقاً لرسالته»[2].

وبالمقابل خصّص العلامة البلاغي مقدّمة: «في ذكر الموانع للنبوّة والرسالة الشاهدة على كذب ادّعائها»؛ وهي:

ـ المانع الأوّل: أنْ ينصّ النبي المعلوم النبوّة على كذب المدّعي للنبوة والرسالة؛ فإنّ تصديق هذا

(51)

المدّعي تكذيب للنبي المعلوم النبوّة في تبليغه لكذب هذا المدّعي. وهو غير جائز بالعقل والنقل واتّفاق الملّيّين القائلين بالنبوّات (ومثل هذا) أنْ ينصّ النبي المعلوم النبوّة على أنْ لا يكون نبي من هذه القبيلة أو من هذا الصنف أو في الزمان الفلاني. ويكون مدّعي النبوة من هذه الأقسام.

- المانع الثاني: أنْ يعطي النبي المعلوم النبوّة علامة على كذب دعوى النبوّة وتنطبق تلك العلامة على مدّعيها.

- المانع الثالث: أنْ يعترف مدّعي النبوّة ويخبر بنبوّة شخص وينصّ هذا الشخص على كذب المدّعي للنبوّة في دعواه لها؛ لأنّه إنْ كان هذا الشخص نبيّاً حقّاً؛ فقد نصّ على كذب مدّعي النبوّة، فيلزم تصديقه في ذلك، وإنْ لم يكنْ هذا الشخص نبيّاً؛ فقد كذب مدّعي النبوّة في التبليغ عن الله؛ بإخباره بنبوّة هذا الشخص؛ والعقل وإجماع أهل الملل حاكمان بأنّه لا يكذب النبي في التبليغ.

- المانع الرابع: أنْ يكون مدّعي النبوّة فاعلاً للإثم وما هو قبيح في العقل أو في الشريعة التي يتديّن بها؛ لما قدّمناه في الفصل الثالث من المقدّمة الثامنة؛ من دلالة العقل والنقل على لزوم عصمة النبي، ومن جملة ذلك: أنْ لا يظهر عليه الكذب المحرّم في تعاليمه وأقواله واستشهاداته.

- المانع الخامس: أنْ لا يأتي في دعوته بما هو مخالف للعقل؛ ومنه: الدعوة إلى الشرك، وتعدّد الآلهة، وعبادة غير الله، فإنّ العقل لا يذعن بنبوّة مَنْ هو على خلاف هداه وبديهي حكمه، ويجحدها أشدّ الجحود. وإنّا إنْ لم نتّبع موازين العقل قد أضعنا رشدنا وضللنا عن سبيل الهادي إلى الله ورسله وكتبه والمعارف الحقّة. وهل وراء العقل إلا الجهل؟ وهل بعد الحقّ إلا الضلال المبين؟

- المانع السادس: تناقض تعاليمه في بيان الحقائق، وتناقض احتجاجاته لها بنحو لا يكون من النسخ للحكم السابق، فإنّ اللازم من ذلك كذبه في التبليغ في أحد الأمرين المتناقضين وجهله في الاحتجاج للأمور الإلهيّة.

- المانع السابع: شرب الخمر؛ أمّ الشرور، والقبائح، والتهتّك، والخلاعة المنافية لوظيفة الرسول

(52)

وسفارته من قِبَل الله على الخلق؛ لهداهم وتكميلهم وتهذيبهم وإصلاح مدنيّتهم وأخلاقهم؛ كما يدلّ عليه اعتبار العقل وتظافر النقل...»[1].

وفي ختام هذه المقارنة لمفهوم النبوّة؛ من حيث الصدق والكذب، نجد الشيخ البلاغي يقدّم إيجاز ما هو صادق؛ فيجب الإيمان به، أو الكذب؛ فيجب جحوده، والثالث أنْ يبقى أمرها مردّداً مجهول الحال؛ فيجب العمل على العقل، على ما يقتضيه العقل وطريقة العقلاء في مثل هذه الموارد، مع تأكيده على ذلك بقوله «وإنْ تسرّع إلى تكذيبها، من دون نظر وتثبّت في أمرها، كان مخاطر ـ أيضاً ـ في ذلك؛ لاحتمال صدقها في الواقع، ولخوف الضلال بجحود الرسالة الحقّة، والعقاب الشديد عليه، وحرمانه بركة الإيمان بها ومنافع تعاليمها وإصلاحها وتكميلها وسعادة تقريبها إلى الله والفوز العظيم، وإنْ بقي متردّداً فيها متوقّفاً في شأنها، من دون نظر وتثبّت في أمرها؛ كان -أيضاً- مخاطراً؛ لاحتمال صدقها في الواقع، ولخوف العقاب على عدم الإيمان بها وحرمانه وخسرانه ما ذكرنا من منافعها العظيمة»[2].

«فلا رفع لهذه المخاطرة ولا مَأمن من مخاطرتها العظيمة؛ إلا باتّباع هدى العقل، والاستضاءة بنوره في الجدّ والاجتهاد، والبحث والنظر في أمرها؛ بشرط مراقبة النفس في معاشر الميل مع الهوى، والرغبة في الدين المألوف، وغوايات العصبيّة، وعمايات التقليد، مع حسن التجرّد في الجهاد، والتحذّر عن هذه المعاثر»[3].

إنّه يؤكِّد بهذا أنْ لا نُصدر أحكاماً مسبقة بدافع العصبيّة، وخصوصاً ونحن نتعامل مع نصوص دينيّة، بل أنْ نجمع بين أمرين: التدبّر العقليّ، والتحكّم بالنفس وانفعالاتها. وهذه أمور تؤكِّد الموضوعيّة، ولاسيّما ونحن إزاء تحديد بين النبوّة أو الرسالة ومَنْ يدّعيها.

وفيما يرتبط بكيفيّة النظر لا يُخفي العلامة البلاغي «أنّه لا يجتمع في الواقع ونفس الأمر

(53)

شاهد الرسالة مع المانع فيها؛ فإنْ اجتمعا في الظاهر تبيّن كذب الكاشف عن أحدهما، أو عنهما كليهما. وإنّ الكاشف عنهما إمّا أنْ يكون هو الحسّ فيهما معاً، وإمّا أنْ يكون هو النقل فيهما معاً، وإمّا أنْ يكون هو النقل في أحدهما والحسّ في الآخر»[1].

ومثال على هذا الكلام: إذا أخذنا قول موسى؛ كما يذكره اليهود أنّ هذا النقل المتّحد في الأمرين «لا يمكن لمنْ يذعن بتواتره في بعض منقولاته مع كذبه في المنقول الآخر... فلزمنا في مقام النظر والتفحّص عن هذه المنقولات، إذ لعلّ ما يوجد فيها من الموانع ما هو مساوٍ في السند لصورة الحجّة، فلا يبقى اعتماد على هذا النقل المتساوي فيهما»[2].

وغيرها كثير من الأفعال التي نقلتها التوراة عن موسى زجاء تفصيلها «في الفصل السابع من المقدّمة الثامنة. وهذا لا يجتمع مع الرسالة؛ كما ذكرناه... مضافاً إلى أنّ في التوراة الرائجة ما يمتنع أنْ يكون من الإلهام»[3].

ومن خلال ما تقدّم، فقد أصبح واضحاً أنّ هناك حاجة لفهم أوضح لكيفيّة صنع التاريخ وعلاقته بالنصّ الدينيّ والقصد من ذلك، والكيفيّة التي يؤثّر بموجبها في مجرى الأحداث، من خلال الربط بين ما هو واقعيّ، وما هو غيبيّ، وليس الاكتفاء -فقط- بدراسة «الفهم من أجل التغيير، بما أنّه لم تتسنّ صناعة التاريخ، فندرس التاريخ»[4].وهو ما أكّده العلامة البلاغي في مقاربته برجوعه إلى المنظومة العقديّة في فهم التاريخ الدينيّ؛ من خلال الجمع بين الواقعيّ والغيبيّ.

(54)

 

المبحث الثاني:

«كتاب الرحلة المدرسيّة» ومقدّماته الحجاجيّة

بعد أنْ قدمنا عرضاً وصفياً لدراسة الشيخ البلاغي وحاولنا الكشف عنها مبيّنين بنية المقدّمات التي اعتمدها في كتابه الذي اتّخذ أسلوباً حجاجيّاً يقارب الطابع الكلاميّ، وبعد استعراضنا لكتابه الأوّل، نحاول -هنا- أنْ نقف عند أبرز ملامح الخطاب النقديّ عند العلامة البلاغي من اليهود، ولا سيّما في موضوعَي (التحريف، الوحي).

1. دلائل التحريف في التوراة:

يشير العلامة البلاغي إلى التحريف داخل التوراة -كما تقدّم بيانه-؛ بأنّ هناك نصوصاً واضحةً «تدلّ على أنّ الكتبة قد حرّفوا التوراة، وهناك العديد من الحوادث والشواهد التي تدلّ على تحريف التوراة»[1].

ولكنّ «التوراة الرائجة هي ليست مخالفة بكلّيّتها لكلام موسى عليه‌السلام وشرائعه، بل لابدّ بحسب العادة أنْ يبقى أثر وشيء من منقولات السلف للخلف عن محفوظات التوراة الحقيقيّة، ولكنّه يضيع بين الدخيل والمحرّف ويشبه الأمر، نعم قد لا يشبه الأمر في مقامين:

- الأوّل: ما نعلم أنّه لا يمكن أنْ يكون من التوراة الحقيقيّة، ولا من كلام الله، ولا وحيه، وهو من المخالف للعقول.

- الثاني: ما صدّقته نبوّة حقيقيّة، ونصّت على تصديقه بذاته، لا بالاسم الذي يلتصق كلّ يوم بمسمّى جديد. لكنّ النتيجة هي أنّ التوراة الحقيقيّة مفقودة، وهذه الموجودة لا يمكن الاعتماد عليها»[2].

(55)

فهو -هنا- يحاول أن يبيّن الغاية من مقدّمته التي تلزمه تناول تلك النصوص الدينيّة حتّى يرد على أصحاب الكتب التي وجّهت النقد للإسلام.

ولذلك يعرض المثال الأوّل: على التحريف؛ وهو قصص الأنبياء، التي تتّصف بالتناقض؛ «كما في قصّة آدم التي يستدلّ منها على التناقص؛ إذ كيف يقول الله: إنّكما إنْ أكلتما من هذه الشجرة تموتا من يومكما، وقد أكلا منها ولم يموتا!»[1]. وجاء الجواب التبريري من صاحب كتاب الهداية: «أنّ الموت الذي خوّف الله به آدم ليس هو الموت الجسمانيّ، بل هو الموت الروحيّ، فإنّ آدم لمّا تعدّى الوصية استوجب سخط خالقه، وهذا هو الموت الروحيّ، وبذلك ينتفي الكذب عن الله»[2]؛ ولكنّ العلامة البلاغي ردّ عليه بـ: «أنّ آدم قبل أكله من الشجرة كان لا يعرف الحسن والقبيح؛ حتّى أنّه لا يميّز أنّه عريان، ولا يخجل، فليس له حينئذ حياة روحيّة، بل إنّ ذلك همجيّة وموت روحيّ، وأنّ من يكون على مثل هذه الحال لا يدرك قبح المخالفة، ولا يصحّ السخط عليه، وكيف يصحّ السخط على مَنْ لا يعرف القبح»[3].

«وتأتي -أيضاً- قصص التوراة على أمرين: الأوّل منهما: أنّها تصوّر الله؛ وكأنّه جسم يتمشّى، وله صوت، ويختبئ عنه آدم... والأمر الثاني أنّها تقول: (إذا آدم صار كواحد منّا في معرفة الحسن والقبح)؛ فمن هم الجماعة الذين يعنيهم الله بقوله: (منّا)؛ فهل ترى التوراة تعلم بتعدّد الآلهة؟!»[4].

وأمّا المثال الثاني: الذي فيه دلالة على التحريف، فنجده في موقف التوراة من مفهوم المعاد أو القيامة؛ فعلى الرغم من أنّ هناك إشارات في التوراة يشير إليها الشيخ البلاغي إلى القيام والبعث؛ منها: «تحيى أمواتك تقوم الجثث، ترنّموا يا سكّان التراب» (اشعيا 19: 26)، و«كثيرون

(56)

من الراقدين في تراب الأرض يقوم هؤلاء إلى الحياة الأبديّة وهؤلاء إلى الازدراء الأبدي»(دانيال 2: 12). ويذكر الشيخ البلاغي أنّ «الغاية الكريمة من المعاد تلك الآية التي تقوم بخلق الإنسان مختاراً في أعماله؛ لينال الغاية الحميدة في المعاد بابتهاج الأهليّة وكرامة الاستحقاق والكمال والطهارة العمليّة والاختياريّة، وهذه الغاية اقتضت أنْ يعان نوع الإنسان على تحصيلها بترغيب البشرى وزاجر التهديد على أكمل الوجوه التي لا تسلب الاختيار»[1].

نعم يوجد ذكر القيامة في باقي العهد القديم، ولكنّ الصدوقيّون أنكروا انتساب هذه الكتب إلى النبوّات[2]. وهذا الإنكار من قِبَل اليهود والاتّهام بكون التوراة محرّفة من قِبَل الصدوقيّين؛ وهم في الحقيقة مَنْ قام بالتحريف؛ عندما تأثّروا بالفيلسوف «أبيقور»، فأنكروا خلود النفس وبقاءها بعد الموت، كما أنكروا القيامة، بل أنكروا وجود الأرواح من ملائكة وشياطين، ويقال إنّ مبدأ دعوتهم كان في نحو (280ق.م). وقد ساعدهم على هذا الابتداع في اليهودية أنّ التوراة الرائجة، في عهد بدعتهم وانشقاقهم من عموم الأمة، لم تبقِ فيها التقلّبات ذكراً لقيامة الأموات ويوم القيامة، لا في مقام الوعيد والإنذار، ولا في مقام البشرى بالجزاء، ولا في مقام التعليم بالحقائق الدينيّة[3]. وهنا يؤكِّد العلامة البلاغي «أنّ اليهود كانوا يغيّرون كتابهم ويبدّلونه، لا عن جهل، بل عن عمد وضلال، بعد ما فهموه (أي الكتاب المقدس) حقّ الفهم، ويعرفون أنّهم محرّفون كاذبون على الله. وهذا حال سلفهم»[4].

والمثال الثالث: هو ناتج من التاريخ؛ فإنّ اليهود تعرّضوا إلى سبي نبوخذ نصَّر، فقد سبى جميع الكتبة الربّانيّين وعموم بني إسرائيل، وأحرق بيت الربّ، ونهب أورشليم، وأحرق بيوت أعيانها، وبعد سبعين سنة أطلقهم كورش ملك فارس. وهنا يأتي عزرا وحده لإظهار التوراة لبني إسرائيل.

(57)

ويذكر الشيخ البلاغي تحريف التوراة على قسمين:

- «الأوّل: الإمكان التاريخيّ للتحريف، وفيه يذكر بني إسرائيل وما إلى ذلك؛ ممّا يؤيّد بالضرورة التحريف وعدم وجود التوراة الحقيقيّة.

- أمّا الثاني؛ فالتوراة نفسها؛ وفيه موضوعات؛ من أمثال: مَنْ هو مؤلِّف التوراة؟ وما هي الأصول التي أخذت منها التوراة؟»[1].

وقد تناول هذا الأمر كثير من الباحثين الذين أكّدوا التحريف[2]؛ وهي تحريفات جاء بعضها بفعل التأويلات التي جاءت بها الفرق اليهوديّة؛ مثل: تلك المتعلّقة بالسبت -مثلاً-؛ فجماعة الفرّيسيّين قد «أضفوا على طقس السبت كثيراً من التطرّف والتشدّد والمغالاة أيضاً»[3].

والمثال الرابع: في ترجمة التوراة: ففي الحقيقة هناك ترجمتان للتوراة أو العهد القديم؛ إحداهما قديمة تُعرَف بالترجمة (السبعينيّة)، أمّا الترجمة الثانية؛ فهي في عصر الإصلاح الدينيّ. «ولعل الكنيسة في أوّل الأمر احتكرت المعنى، فأصبحت هي الوسيط؛ لأنّ المجتمعات الغربيّة لا تجيد اللاتينيّة، ومن هنا جاء الإصلاح الديني وكانت أوّل مطالبة بترجمة الأناجيل إلى اللغات المعاصرة؛ من أجل كسر احتكار الكنيسة للمعنى. وقاد هذا إلى حروب دينيّة»[4]. فتمّت ترجمة العهد القديم إلى اللغات الغربيّة الدارجة.

أمّا الترجمة القديمة؛ فكانت -أيضاً- ترجمتين؛ الأولى: الترجمة من العبريّة إلى اليونانيّة، أو ما تسمّى بالترجمة (السبعينيّة)، أمّا الترجمة الثانية القديمة؛ فكانت من اليونانيّة إلى اللاتينيّة.

فهذه الثنائيّة كانت حاضرة بعمق في التراث الغربيّ، من خلال ترجمة الكتاب المقدّس إلى

(58)

اللاتينيّة، مع القديس جيروم (Saint Jerome)؛ إذ «كلّفه البابا بإنجاز ترجمة للأناجيل من اليونانيّة والعبريّة إلى اللاتينيّة، فحضر إلى بيت لحم، وأخذ جيروم يعمل بدأب لإنجاز ترجمته»[1].ويكمن عمل جيروم الرئيس في إعادة ترجمة الكتاب المقدّس من اللغة العبريّة إلى اللاتينيّة. هذا لأنّ الترجمات اللاتينيّة التي كانت شائعة آنذاك كانت قد اتّخذت الترجمة اليونانيّة السبعينيّة مرجعاً لها، فجاءت ذات أسلوب ركيك وحرفيّ.

لقد حظيَ هذا العمل بموافقة البابا داماسيوس، ولكنّه لم يخلُ من الصعوبات، ولاسيّما في ما يتعلّق بتلك النصوص التي كانت تستخدم بشكل متواتر في اللاتينيّة، فعلى سبيل المثال: لم يستطع جيروم أنْ يُدخل ترجمة جديدة لكتاب المزامير، فكلّ ما فعلهُ هو إعادة تصحيح بعض السياقات فيه. إلى جانب هذا العمل الضخم كانت هناك أعمال أخرى لا تقلّ أهمّيّة؛ منها: قاموس الأسماء الكتابيّة، والأصول اللغويّة، وتفسيرات كتابيّة اعتمد فيها بشكل كبير على أوريجانوس، على الرغم من كونه وقف ضدّه في الأمور العقديّة. وكتب جيروم -أيضاً- سيرة بعض القدّيسين المتوحّدين، وبعض الكتب الدفاعيّة ضدّ مَنْ كان ينقد حياة التوحُّد[2].

وما تجدر الإشارة إليه أنّ الترجمة قد أظهرت النصّ إلى الناس؛ عندما تمت إزالة الاحتكار، وجاءت هذه الترجمة مع الإصلاح الدينيّ، فظهر جليّاً التحريف في النصّ.

ويذكر الشيخ البلاغي في باب الدفاع الحجاجيّ في ردوده على بعض النقود الموجّهة إلى الإسلام، فيؤكّد في مجال بحثه وتحقيقه في العهد القديم على حدود التحريف والزيادة، ويشير إلى أنّهم

(59)

«زادوا في التراجم (أي الترجمة السبعينية) على أسفار التوراة الخمسة (ستّين) كلمة، طبعت هذه الزيادات في بعض الطبعات بحرف صغير؛ إشارة إلى زيادتها على الأصل»[1]. وهنا يميّز الشيخ البلاغي طبيعة الزيادة الواردة بإضافة (أتى) إلى النصّ؛ وهي غير موجودة؛ مثل: «أنّ إسماعيل مات أبوه إبراهيم (أتى) فدفنه»، فكلمة (أتى) زيادة من قِبَل المترجمين على النصّ الأصليّ؛ لأنّ الموجود في التوراة «أنّ إبراهيم مات بشيبة صالحة شيخاً وضيئاً، وانضمّ إلى قومه، ودفنه إسحاق وإسماعيل ابنيه في مغارة المكفلية».

ثمّ إنّ الشيخ البلاغي لحظ أنّ تفسير هذه الزيادة إمّا أنّه تصحيح لنقصان عبارة التوراة، أو إنّه زيادة من المترجمين[2].

2. الوحي والنبوّة عند اليهود:

إنّ موضوع الوحي جاء عند الشيخ البلاغي في المقدّمات التي عرضنا لها سابقاً التي تناولها الشيخ من أجل غاية دفاعيّة في وجه جملة من المواقف والشبهات في النصوص التي جاءته وحاول أنْ يردّ عليها.

وانطلاقاً من هذه الغاية جاء استعراض العلامة البلاغي للمدوّنة التوراتيّة من مدخل علمه ودراسته في تكوين النصوص وما فيها من أسفار مكوّنة من 39 سفر، ومقسّمة إلى ثلاثة أقسام: الأوّل: التوراة؛ وهي الأسفار الخمسة (الخليقة، والخروج، اللاويّين، والعدد، والتثنية)، أمّا القسم الثاني: فهو الأنبياء؛ وفيه: (يوشع، القضاة، صموئيل الأوّل، صموئيل الثاني، وتاريخ الملوك الأوّل والثاني). أمّا القسم الثالث: فهو الكتابات والإشعار (ثلاثة عشر سفراً، وتقسّم إلى أنواع)، فهذه الأسفار قدّمت جملة من المعاني استثمرها الشيخ البلاغي في مضمار دفاعه؛ جاهداً في ردّ الشبهات المثارة نحو الإله الخالق وما لحقه من تشويه، وتجسيد على يد اليهود.

(60)

وهذا يقتضي تأصيل مفهوم الرسول وسماته وتمايزه عن مَنْ يدّعي النبوّة، وبالتالي التأكيد على صفاته؛ نقليّاً وعقليّاً. فهذه المباحث تدخل في خانة علم الكلام والردّ على الشبهات بالأدلّة النقليّة والعقليّة.

وعلى الصعيد الأوّل نجد أنّ القرآن الكريم يضع قواعد أخلاقيّة للحوار والجدل في أمور الدين عبر توجيه الخطاب إلى رسوله الكريم؛ بما يكفل للجدل أنْ يصل إلى الحقيقة التي دعتهم إليه، فيقول عزوجل: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125).

وأمّا على الصعيد الثاني؛ أي العقل والمنهج؛ فهو يكمن في «ربط غايته؛ بجعل العقول تذعن لما يُطرَح عليها، أو يزيد في درجة ذلك الإذعان، فأنجح الحجاج ما وفِّق في جعل حدّه الإذعان تقوّي درجتها لدى السامعين؛ بشكل يبعثهم على العمل المطلوب إنجازه، أو الإمساك عنه، أو هو ما وفِّق على الأقلّ في جعل السامعين مهيّئين لذلك العمل في اللحظة المناسبة»[1].

ويبدأ العلامة البلاغي حجاجه في تناول مفهوم «الرسول»، فعلى وفق تعريفه هو: «إنسان كامل يرسله الله إلى البشر؛ ليكلّمهم، ويهديهم إلى الصواب، ويرشدهم إلى ما يحتاجون إليه في معرفة الله وطاعته والاحتراز عن معصيته، ويحملهم على ما فيه حفظ كمالاتهم ومصالحهم الشخصيّة والنوعيّة في الدين والدنيا، ويزجرهم عمّا يضرّهم فيهما»[2].

أمّا غاية الرسل، فتكمن في الإنذار؛ رحمة بالعباد؛ لأنّهم يبشّرون العباد بالرحمة والسعادة في الدنيا والآخرة، على الصعيد الفرديّ أو الجمعيّ. وقد حافظت التوراة على انتهاج أسلوب آخر يقوم على التهديد والوعيد، وتسليط الغضب الإلهيّ؛ إذ نجد التوراة تقدِّم وصفاً لسلوك اليهود وخروجهم على الشريعة الإلهيّة؛ تحريفاً، أو عبادةً للأوثان.

وقد توقّف الشيخ البلاغي عند «المقدّمة الخامسة»، بقوله: «كيف ظهر لهم من موسى الداعي

(61)

لهم إلى التوحيد (معجزة العصا)، و(اليد البيضاء)، و(العجائب في مصر)، وبلّغهم -أيضاً- لا تصنعوا لكم أوثاناً، ولا تقيموا لكم تمثالاً منحوتاً... وبعد هذا كلّه لم تمضِ سنة منه حتّى ارتدّوا عن عبادة الله، وقالوا لهارون، لمّا أبطأ عليهم موسى في جبل سينا: اصنع لنا آلهة تسير إمامنا، فلمّا صنعوا العجل المسبوك من الذهب وحليّهم، قالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من مصر، فسجدوا له وذبحوا؟!»[1].

وبعد الحديث عن الرسول ومسوّغات إرساله، نجده يقف عند الرسول وعصمته؛ بوصفها شرطاً من شروط تحصيل الرسالة والنبوّة؛ فيذكر أمران: «أحدهما: كون الرسول معصوماً في التبليغ غير متوّهم فيه، مع فرض رسالته، فقد اتّفق أهل الملل القائلون بالنبوّة والرسالة لوجه أوضَحَته لهم بداهة عقولهم، وليست حقيقته؛ إلا تحصيل الغرض من الرسالة، وقبح نقضه بإرسال الكاذب، والمخطئ في التبليغ. وثانيهما: كونه معصوماً عن الذنوب وارتكاب القبائح التي هي ضدّ ما يدعو إليه من شريعة الهدي والإصلاح»[2].

ومن أجل أنْ يميّز بين الرسول ومدّعي الرسالة، يقدّم الشيخ البلاغي تحقيقاً في حالات المعاصي والذنوب المنسوبة إلى الأنبياء في الكتب المنسوبة إلى الإلهام[3]. وقد تقدّمت الإشارة إليها سابقاً.

(62)

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

الشيخ البلاغي وردوده على المسيحيين

(63)
(64)

 

مدخل

 لا يمكن تصوّر إفساد، أو خسران، أو عبث؛ كما فعل الغرب بحقّ العالم الإسلاميّ، من حيث التراث والواقع. وإنّ الذين يعملون من أجل مقاومة هذا التضليل الذي جاء به الغرب -سواء على الصعيد العسكريّ أو على صعيد الدراسات التي جاء بها الاستشراق، أو تلك التي جاءت بها حركات التبشير التي شنّت حملات عدوانيّة ضدّ الإسلام والعروبة– عليهم أنْ يمارسوا نقد المنهج والرؤية التي ينطلق منها ذلك التضليل، ومن المؤكَّد أنّ جميع تلك الوسائل لا تستطيع أنْ تجعل المسلمين يحيدون عن إيمانهم بعقيدتهم؛ وهم يعيدون قراءة تراثهم، ويصنعون التقدّم والإبداع والخير والجمال.

ومن بين تلك الجهود الخيّرة التي قامت بجهد طيّب ومبارك في الدفاع عن الإسلام ونبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت الجهود المباركة للعلامة البلاغي في ردّه الهجمات الظالمة التي قام بها رموز التبشير ضدّ الإسلام.

فالمعارف والعلوم والأفكار والثقافات والحضارات والمجتمعات لنْ تسعد وتتقدّم وترقّى وتقوى؛ إلا بتعليم مَنْ هم على شاكلة العلامة البلاغي من العلم والفكر والإيمان. فقد جاءت تلك الهمّة في التصدّي لتلك الحملة الظالمة التي شنّها الآخرون، وخصوصاً في حقبة التبشير؛ إذ كانت مهمّة كبيرة وصعبة، وهو الذي فنّد وردّ تلك الأفكار التبشيريّة بما تحمل من فجاجة وقبح وضلالة وسفه، ساقها رجال فاقدي الموهبة والمصداقية والعدالة والرؤية؛ وهم يُسقطون على الإسلام أوصافهم وتحليلاتهم غير الدقيقة والمشوّهة بالأحكام المسبقة والصور النمطيّة.

(65)

إنّه لحقّ أنْ يحسب هذا الاستفراغ المزعوم إيماناً عدوانيّاً يجب رفضه ومقاومته، وتفكيك منطلقاته التي تجلّت في هؤلاء وموقفهم من النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله معتمدين نوعين من الوثائق؛ إحداهما: وثائق من داخل الإسلام؛ مثل: سيرة ابن إسحاق، والأخرى: خارجيّة هي بمثابة وثائق اعتمدها الغرب في الحديث عن حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؛ مثل تاريخ سبيوس الأرمني، وهو وثيقة خارجيّة غير إسلاميّة تحكي في بعض أجزائها عن النبي محمد والإسلام[1].

(66)

 

المبحث الأوّل:

 الموقف من التهم العدائيّة للنبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله

كان الشيخ البلاغي في حجاجه الدفاعيّ عن الإسلام وعن النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله يدرك حقيقةً الخلاف الكبير بين المسيحيّة والإسلام؛ وهو خلاف يمكن أن نبحث عن أصوله المتنوّعة، لكنْما يجب تقريره ابتداءً أنّ نظرة العالم الغربي لنبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ليست على نسق واحد؛ فمنهم المنصف... ومنهم الجاهل... ومنهم المُغرِض... ومنهم الإقصائيّ الحاقد[1].

وسوف نقف أولاً عند الموقف العدائي من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، ثمّ كيف ردّ الشيخ البلاغي التهم بحقّه ودفع المطاعن عنه.

1. الموقف العدائي من النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله:

يمكن تلخيص نظرة كتاب «الغرب في العصور الوسطى» عن نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في كلمة للمؤرّخ والكاتب الفرنسي «إرينست رينان» الذي قال -على الرغم من كراهيّته الشديدة للإسلام- في كتابه «دراسات في تاريخ الأديان»، حيث قال: «لقد كتب المسيحيّون تاريخًا غريبًا عن محمّد... إنّه تاريخ يمتلئ بالحقد والكراهيّة له».

وقد بيّن لنا الحقّ -جلّ وعلا- في كتابه منهج أعداء الدين بكلّ وضوح، فقال عزوجل: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة: 120). إنّ مَنْ يطلب الإنصاف من هؤلاء ليس بعاقل، ولا يدرك ما في نفوسهم من حقد؛ بدءاً من أصولهم القديمة؛ إذ يُعد يوحنا

(67)

الدمشقي (676-749م)  أوّل مَنْ أعطى رأيًا مسيحيًا في النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، ففي كتابه الموسوم «ينبوع الحكمة» عدّه نبيّاً كاذباً تأثّر بالهرطقة الآريوسيّة[1] بعد لقائه بالراهب بحيرى، واستعمل القرآن لتغطيّة آثامه. وتُعدّ أعماله هي الأساس الذي اعتمد عليه اللاهوتيّون الغربيّون في انتقاد الإسلام. ثمّ جاءت الصدامات اللاحقة مع المسلمين في الأندلس وفلسطين، فأدّت إلى ظهور تيّار مغالٍ في انتقاد الإسلام، واشتدّ هذا التيّار بعد حروب الأوروبيّين مع العثمانيّين؛ وبخاصّة لدى المصلحين البروتستانت[2].

ووصف الدفاعيّون الكاثوليك محمّدًا، في مطلع القرن العشرين، على أنّه مصلح اجتماعي، غير أنّ رسالته انطلقت من فهم خاطئ لليهوديّة والمسيحيّة. وأشاد «هيليربيلوك»؛ أحد أبرز الدفاعيّين الكاثوليك، في مطلع القرن العشرين، برسالة الرسول التي وضعت مكانة خاصّة للمسيح وأمّه مريم، لكنّه عدّه أنّه لم يأتِ بديانة جديدة؛ بل رأى أنّ الإسلام هرطقة (يهوديّة/مسيحيّة) دمجت بها بعض من ديانات العرب. ومنذ انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني ظهرت أصوات داخل الكنيسة الكاثوليكيّة تدعو للاعتراف بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، في ظلّ التقاليد المسيحيّة؛ وذلك لخلق فرصة أكبر للحوار مع الإسلام. ويشبّه «مونتغمري وات» النبي محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنبياء العبرانيّين في كتابه «حقيقة دينيّة لعصرنا»، قائلاً: «كان محمّد نبيّاً يمكن مشابهته بأنبياء العهد القديم، على أنّ وظيفته اختلفت قليلاً. فبينما انتقد هؤلاء حياد العبرانيّين عن ديانتهم، كان على محمّد أنْ يجلب معرفة الله لأشخاص لم يكنْ لهم سابقًا علم بها. فبهذا المنطلق تشبه وظيفته وظيفة موسى؛ إذ تمّ بوساطتهما نقل شريعة إلهيّة لشعبيهما»[3].

(68)

فمن خلال رجوعنا إلى المرجعيّة المؤسّسة للفكر الغربيّ نجد أنّ فلاسفة النهضة لم يسلموا من التأثّر بفكر القسّيسين والرهبان والمستشرقين الحاقدين الذين زوّروا التاريخ وشوّهوا الحقائق حول شخصيّة الرسول الأكرم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله والرسالة التي يحملها للعالم، إذ نجد ذلك واضحاً في كلامهم.

وفوق كلّ هذا جاءت حملة التبشير بكلّ تلك الجذور، وما تزال تبثّ هذا في محطّاتها الإعلاميّة، وهي تكرّر ما استعرضناه وتزيد، على الرغم من كلّ ما يُقال عن الحوار بين الأديان.

2. موقف الشيخ البلاغي من هذه المعادة والتُهم:

بعد هذه المقدّمة التأصيليّة نجد أنّ دفاع الشيخ البلاغي يمكن إيجازه في الفقرات الآتية:

«إنّ جمعيّة كتاب الهداية المطبوع بمعرفة المرسلين الأمريكيّين قد كثر افتراؤهم على
رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، وأفحشوا في الجرأة»[1].

فقالوا في الجزء الرابع الصفحة 169: «وماذا تقول فيمن ادّعى أنّ الله أجاز له أن يتّخذ له امرأة ابنة زوجة، وجعل ذلك قانوناً».

وقالوا في الجزء الثالث صفحة 48 في قضيّة تزويجه صلى‌الله‌عليه‌وآله بزينب بنت جحش: «وما شاء الله أنْ يسوّغ للناس نكاح نساء أولادهم».

وقالوا في الجزء 1 الصفحة 66: «تزوّجه امرأة ابنه». وقالوا في الصفحة المذكورة -أيضاً-: «نعم إنّ داود وقع في خطيئة الزنى، ولكنْ يوجد فرق جسيم بين الأمرين، فإنّ داود لم يأخذ امرأة ابنه».

ويذكر الشيخ في بعض الفقرات بعض الافتراء الذي جاء مع هاشم العربيّ في الصفحة الحادية عشر من الطبعة الأولى في تذييله المستقلّ لتعريب مقالة «سايل» في الإسلام.

وإنّ الغافل من الأوربيّين والأمريكيّين وغيرهم ليغترّ ويُبهر بسمعة التبشير والمبشّرين، فيجب أنْ يسأل أنّ هذا الابن يذكره هذا اللفيف من المبشّرين، هل هو ابن رسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وولده

(69)

البكر أو هو المتوسّط أو الصغير؟ وهل أمّه خديجة أو غيرها من أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

ويا ليتهم يعلمون أنّ هذا الذي يذكره المبشّرون أنّه ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وولده، ويلهجون بذلك؟ أنّما هو زيد بن حارثة[1]؛ وهو عبد اشتراه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجاء أبوه حارثة، فخيّره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين المكث عنده وبين الرجوع مع أبيه؛ فاختار المقام عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، فجزاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعتق وزيادة البرّ والرأفة؛ فصار الناس يدعونه زيد بن محمد؛ مع أنّهم يعلمون أنّه عبده.

وإنّ جمعيّة الهداية والمرسلين الأمريكيّين والشرقيّين في أجيالهم ليعرفون ذلك.

ولكنّ حملة المبشّرين، وبواعثهم أنْ يكذّبوا، ويقولوا مكرّراً أنّه ابن رسول الله وولده؛ لكي يقوموا بحقّ القداسة والأمانة في التبشير؛ ولكنْ «لكل امرئٍ من دهره ما تعوّدا»[2]

(70)

 

المبحث الثاني

الوحدة والتثليث

في البدايّة لابدّ من توطيد المعنى لمفهوم عقيدة التثليث؛ إذ النقد لهذا المفهوم ليس من جانب المسلمين فحسب، بل من داخل الفكر الغربيّ عامّة؛ حيث يظهر لنا أنّ هذا المفهوم كان محلّ اختلاف في المجتمع المسيحيّ خصوصاً (المسيح وجرجي سايل)، فيقال عادةً أنّه من اصطناع التلاميذ؛ وهو أمر يبدو محلّ شك بحسب ما سوف يظهر فيما بعد، لكنْ لو حاولنا أنْ نبدأ بالتلاميذ سوف نجدهم مختلفين اختلافاً كبيراً؛ فقد ظهر لنا أنّ هناك تلاميذ لا يؤمنون بهذه العقيدة؛ لأّنهم يجدون التوراة تشدّد العقوبة على المخالفين لمنهجها التوحيديّ، وتجعل من حدّ الرجم هو العقاب. «وإذا أغواك سرّاً أخوك ابن أمّك، أو ابنك، أو ابنتك، أو امرأة حضنك، أو صاحبك الذي مثل نفسك قائلًا نذهب ونعبد آلهةً أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك؛ من آلهة الشعوب الذين حولك القريبين منك، أو البعيدين عنك من أقصاء الأرض إلى أقصائها، فلا ترضَ منه، ولا تسمع له، ولا تشفق عينك عليه، ولا ترقّ له، ولا تستره... بل قتلًا تقتله... ترجمه بالحجارة حتّى يموت» (سفر التثنيّة 13: 6 - 11).

في حين يرى تلاميذ آخرون: أنّ التثليث عقيدتهم التي تعرّفوا عليها من خلال المسيح، عندما رأوه وعايشوه وسمعوه يحدّثهم عن وحدانيّته مع الأب، لقد أوصاهم أنْ يعبدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس؛ بحسب قولهم، وقد قالوا إنّ هذه العقيدة لا تقوم على العقل، بل هي مسألة إيمان تشبّثوا بها؛ على الرغم من معارضتها للتوراة، وجعلوا من تمسّكهم بها مقياساً لصدقها؛ على الرغم من الاضطهاد[1]. ومن الأقوال الأخرى جاء دستور الإيمان المسيحي بعبارة: «الذي جاء من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء وتجسّد من الروح القدس ومن العذراء تأنس»[2].

(71)

وبالمقابل، فهنالك كثير من المصادر تكذّب هذا الزعم الثاني؛ ومنها الآتي:

- يبدو أنّ هذه العقيدة هي فكرة حادثة وليدة الجدل اللاهوتيّ الطويل، ولا صلة لها بالتوراة، ولا بالمسيح؛ كما جاء في دائرة المعارف البريطانيّة الجديدة، التي تقول: «لا تَظهر كلمة ثالوث، ‏ ولا عقيدة واضحة كهذه، في العهد الجديد، ولا قصَد يسوع وأتباعه أنْ يناقضوا السماع في العهد القديم: (اسمع يا إسرائيل الربّ إلهنا ربّ واحد) (سفر التثنيّة6: 4).‏.‏.‏ تطوّرت العقيدة تدريجيّاً على مرّ قرون عديدة، ومن خلال مجادلات كثيرة‏.‏.‏.‏ وبنهايّة القرن الـ‍رابع.‏.‏.‏ اتّخذت عقيدة الثالوث فعليّاً الشكل الذي حافظت عليه منذ ذلك الحين‏»‏ (1976م)‏، ‏ ميكروبيديا، المجلد ١٠، ص ١٢٦.‏

- تذكر دائرة المعارف الكاثوليكيّة الجديدة: «أنّ الصيغة (إله واحد في ثلاثة أقاليم) لم تتأسّس بشكل متين، وبالتأكيد لم تُستوعب تماماً في الحياة المسيحيّة وإعلان إيمانها، قبل نهاية القرن الرابع.‏ ولكنّ هذه الصيغة بالضبط هي التي تستحقّ أولاً اسم عقيدة الثالوث.‏ وبين الآباء الرسوليّين لم يكنْ هنالك حتّى ما يقارب من بعيد عقليّة أو وجهة نظر كهذه‏» (سفر التثنيّة 13: 6-11).

- في دائرة المعارف الأميركيّة نقرأ: «نشأت المسيحيّة من الدين اليهوديّ، وكان الدين اليهوديّ موحِّدا بشكل صارم.‏ (يؤمن بأنّ الله شخص واحد).‏ والطريق التي قادت من أورشليم إلى نيقيه[1] لا تكاد تكون طريقاً مستقيمة، ‏ والاعتقاد بالتثليث في القرن الرابع لم يمثّل بدقّة التعليم المسيحيّ الباكر عن طبيعة الله؛ وعلى العكس، كان انحرافاً عن هذا التعليم‏» (1956)‏، المجلد 27، ‏ ص 294.‏

- بحسب القاموس الجديد العالمي: «الثالوث الأفلاطونيّ، ‏ وهو نفسه مجرّد إعادة ترتيب لثواليث أقدم يعود تاريخها إلى الشعوب الأبكر، يَظهر أنّه ثالوث الرموز الفلسفيّة المعقول الذي أنتج الأقانيم والأشخاص الإلهيّين الثلاثة الذين تعلِّم بهم الكنائس المسيحيّة.‏.‏.‏‏ إنّ تصوُّر هذا

(72)

الفيلسوف اليونانيّ (أفلاطون، القرن الرابع ق.‌م) عن الثالوث الإلهيّ.‏.‏.‏ يمكن أنْ يوجد في جميع الأديان (الوثنيّة) القديمة‏» (‏باريس، 1865-1870م)‏، ‏ حرَّره م.‏ لاشاتر، ‏ المجلد 2، ‏ ص 1467.‏

- يقول جون مكنزي، ‏ الجمعيّة اليسوعيّة، ‏ في مؤلَّفه «قاموس الكتاب المقدس»: ‏ «إنّ ثالوث الأقانيم في وحدة الطبيعة يجري تعريفه بتعبيري (أقنوم) و(طبيعة) اللذين هما تعبيران فلسفيّان يونانيّان؛ ‏ وفي الواقع لا يَظهر التعبيران في الكتاب المقدس.‏ وقد نشأت التعريفات الثالوثيّة؛ نتيجةً للمجادلات الطويلة التي جرى فيها خطأً تطبيق هذين التعبيرين وغيرهما؛ مثل: (الذات) و(الجوهر) على الله من قِبَل بعض اللاهوتيّين‏» (‏نيويورك، ‏ 1965م)‏، ‏ ص 899[1].

ومن هذه النصوص نستطيع القول إنّ مفهوم التثليث مفهوم جدليّ تطوّر بعد مدّة طويلة من عصر التلاميذ، وإنّه جاء بفعل تأثير الفلسفة اليونانيّة في العقيدة المسيحيّة؛ بفعل توظيف المقولات الجدليّة والمنهجيّة في الجدل اللاهوتي؛ ما أدّى إلى تبنّي تلك المقولات، وإدخال تأويلات عميقة في المسيحيّة جاءت بكثير من المفاهيم؛ ومنها: موضوع التثليث[2].

ولعلّ هذا يظهر واضحاً في النصّ الآتي الذي يؤكِّد تأثير الأفلاطونيّة المحدّثة في تأويل الديانة المسيحيّة، وتفسيرها؛ وخصوصاً عقيدة التثليث؛ إذ يقول أوغسطين: «إنّنا نؤمن ونثبت ونعلم؛ كعقيدة إيمانيّة، بأنّ الأب قد ولد الكلمة؛ أي الحكمة، التي خلقت كلّ شيء، ابنه الوحيد، وأحد مثله، كلّيّ الصلاح مثله، وبأنّ روح القدس، هو روح الأب والابن معاً، مساوٍ لهما في الجوهر

(73)

والأزليّة، إنّ الثالوث صفة الأشخاص، إله واحد؛ بسبب الألوهيّة التي لا تنفصل؛ كلّيّ القدرة؛ بسبب التماسك الكلّيّ في القدرة، على أنّ كل واحد هو الله، وهو كلّيّ القدرة، والثلاثة معاً لا يؤلّفون ثلاثة آلهة، ولا ثلاثة في القدرة الكلّيّة؛ لأن تلك الوحدة في الثلاثة التي أرادت أنْ تبرهن عن ذاتها في الشهادة هي قويّة، ولا مجال للفصل فيها»[1].

وهذا القول يسبقه قول آخر يحاول تأكيد الدفاع عن التثليث، بالقول: «عن الثالوث القدّوس، النص الصحيح هو: (الأب -الابن -الروح القدس)». ويتحدّث الكتاب المقدّس صراحة عن وحدانيّة الله بقوله: «فَإِنَّ الَّذِينَ يَشْهَدون فِي السَّمَاءِ هُمْ ثَلاَثَةٌ: الأبُ، وَالْكَلِمَةُ، وَالرُّوحُ الْقُدُسُ. وَهؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ هُمْ وَاحِدٌ (رسالة يوحنا الرسول الأولى 5: 7)، والكلمة هو الابن أو المسيح».

وبعد تأصيلنا لهذا المفهوم نجده ضروريّاً من أجل الدخول في هذا المطلب؛ إذ نحن نقف عند الموقف الحجاجي بين الشيخ البلاغي، ومن يقول بالتثليث؛ وخصوصاً (المسيح وجرجي سايل)، وسوف نستعرض مواقف الطرفيّة. وقد توزع الجدال على النقاط التي تبدأ من 1 وتنتهي 9؛ وفيها يتمّ الحديث عن ثنائيّة (التوحيد والتثليث).

1. الحرّيّة وعلاقتها (العقل، والثالوث والتوحيد):

في أوّل نقطة سوف يدور الحوار بين الطرفين على أساس ذِكْر مقولة؛ مثل: (العقل، والثالوث والتوحيد)؛ وهي المفاهيم الحاضرة في هذه الفقرة بداية الجدل الذي يبدأ بقول الشيخ البلاغي: «له أعلم -هداك الله– أنّ الاهتداء بهدى العقل والخضوع لسلطانه هو ناموس الحرّيّة، وأنّ اتّباع الهوى ومكابرة العقل هي العبوديّة الخسيسة، ولو أنّك اهتديت بأوّليّات العقل وبديهيّاته؛ فضلاً عن نظريّاته، لوضّح لك الحقّ اليقين، وسلكت في جادّة الصواب، وأوصلك الجهاد في الله إلى حقيقة العرفان والدين القويم، فـأصبحتَ واحداً من المسلمين، لك ما لهم وعليك ما عليهم، ولكنّك إذا مننت عليهم بإسلامك»[2].

(74)

  تلك كانت بدايّة الحوار التي يحاول بها الشيخ أنْ يجعل من حواره دعوةً إلى هداية الطرف الآخر؛ وهي تتضمّن حكماً بخروجه عن جادة الصواب، وتحتوي على دراية الشيخ أنّ الآخر ليس من الأشخاص الذين يستهويهم الحوار العقليّ والتبصّر، بل هم في انغلاقهم على عقائدهم، وهذا ما يدفع الشيخ إلى بيان وجه التهافت في تلك العقائد؛ انطلاقاً من الاعتقاد الإسلاميّ ورؤيته لتاريخ عقيدة التوحيد.

وأمّا قولك: «إنّ العقل يرجع بي من نصف الطريق إلى سذاجة التوحيد»[1].

فأتى الردّ متّخذاً طابعاً حجاجيّاً بالقول: «فإنّ العقل في جوابك فيه -عافاك الله- وهل ترى عن هذه الحقيقة معدلاً؟ أو أجد إلى غيرها سبيلاً؟ وهي التي عليها فُطِرت، وعليها جُبِلَ هداي... ولئنْ تخطّاها الهوى برغمي، فلا أظنّ لغير عواصفه الوبية أنْ يجمع بين ظلمة الشرك ووخامة التناقض، بدعوى كون الواحد الحقيقيّ ثلاثةً حقيقةً، والثلاثة حقيقةً واحداً حقيقيّاً»[2].

ثم ّإنّه يقول رادّاً على هذا القول: «عافاك الله، هل تعدو الوحدة الحقيقيّة أنْ تكون ساذجة هي منتهى مراتب الأعداد في البداية، ولئنْ سمعت بتسمية بعض المتعدّدات واحداً مجازاً، فإنّما ذلك لأجل وحدة الجهة العارضة عليها، المباينة لها في الحقيقة»[3]. وهذا الكلام الذي يقدّمه الخصم المسيحيّ يكرّر قول أوغسطين الذي سبق التطرّق إليه.

2. أمّا في الفقرة الثانية «وبساطة المعرفة»:

فيردّ الشيخ على هذا القول بالقول: «فإنْ أردت بالبساطة فيه ما يرادف الحرمان من العقّل والتفهّم؛ فهو من أفحش الظلم؛ لأنّ كل شاعر يعلم بأنّ العقل لا يصل إلى البساطة، ولا يمّر طريقه عليها. و لا يرجع إليها بعد أنْ تخطّاها بأوّل سيره، وإنّها لضِدّه المباين وعدوّه المقاوم، وما أسرع ما

(75)

خالفت كتبك وأنت تدعو إليها، كيف لا، وهي تذمّ الحكمة، وتمجّد الجهالة وتنسبها إلى الله عزوجل عمّا يقولون»[1].

3. وأمّا قولك: «فتبعد عن معرفة جلال الله ومجده في أقاليمه»:

فيردّ الشيخ: «فهل تريد فيه -عافاك الله- أنّي إذا قلت بحقيقة التوحيد فقد نسبت إلى الله -جلّ شأنه- ضعف الوحدة ومهانة الانفراد عن المعاون، ونفيت عنه مجد الجمعّيّة، وشوكة كثيرة، وسداد اتّفاق الآراء، وسلطة التعاضد بالجمهوريّة؟ فقل لي لمنْ أصفُ بالمجد مَنْ هو هذا العدد؟ وعن معرفة أيّهم بعدت بالتوحّد؟ فهل بعدت عن معرفة الأب الذي في السماوات، أو الابن المتجسّد المضطهد المصلوب المهان على الأرض، أو الروح التي انفتحت له السماء، ونزل بشكل حمامة جسميّة، ثمّ انقسم؛ كألسنة من النار؟ وإلى مَنْ يرجع مجد الأقانيم؟ هل إلى شوكة الجمعيّة؟ فليس لكلّ واحد ذاته»[2]، مجد أو جهة الاتّحاد والمغايرة لكلّ واحد منهم؟ أو نوثر بعض الأقانيم من دون بعض!

إنّ الشيخ -هنا- في ردّه على الخصوم ممّن يجد في التثليث والتعدّد باباً للنصرة، وكأنّ الوحدة فقر وضعف، فإنّه يبيّن قصور هذا التصوّر وتهافته؛ فالواحد رمز للقوّة والتوحيد، وعلى العكس في التعدّد؛ فهو باب للضعف والبهتان.

4. التجسّد:

ثمّ يتطرّق في القسم الآخر من هذه الفقرة إلى (التجسّد)؛ أي كيف تجسّد الابن (المسيح في عالم الناسوت بعد مغادرته عالم اللاهوت)؛ ففي مجال حجاج الشيخ البلاغي فإنّه يدرك أنّ موقف الخصم هو موقف الإنجيل يوحنا نفسه (20: 17). وهنا يطرح الشيخ مجموعة من التساؤلات يحاول فيها بيان تهافت الفكر ونقصها، فيقول في السؤال الأوّل: إنْ كان المجد بالتجسّد؛ فقد سلبت عن الأب هذا المجد؟ لكنّه يبيّن في سؤال آخر توليديّ جوانب خافية على الخصم تبيّن نواقص

(76)

هذا المفهوم؛ بقوله: وأيّ مجدٍ بهذا التجسّد؟ فهل هو لكونه أفضى إلى تلاعب إبليس بهذا الإله المتجسّد، حتّى ذهب به إلى جبل عالٍ، وأراه الممالك المسكونة، وأطمعه بإعطائها إيّاه؛ إذا سجد له، ثمّ ذهب به إلى جناح الهيكل، وصار يخادعه؟  والشيخ -هنا- يشير إلى (إنجيل: متى 1، ولوقا، 4)، ثمّ سؤال البلاغي الآخر في مقاربته الحجاجيّة لمفهوم التجسّد: «أم لكونه أفضى إلى تحمّله الذلّة والاضطهاد والخوف من اليهود وقيصر، حتّى أنّه كان يعطيه الجزية، ويتستّر في تعاليمه، ويورّب فيها. وهنا إشارة إلى (إنجيل متى 17و22) أم لكونه بكى وحزن واكتأب؛ إذ دنت ساعة الصلب، حتّى صار يطلب من الأب بأشدّ لجاجة أنْ تعبر عنه كأس المنيّة؟ إشارة إلى «إنجيل متى: 26، مرقس: 14، لوقا: 22)، أم بما يذكره كتابك فيما حدث عليه من اليهود بعد ذلك؟»[1] إشارة إلى (إنجيل: متى: 26، 27، مرقس: 14، 15، لوقا: 22، 23، يوحنا: 18، 19)، إذ يشير الشيخ إلى كونه إنساناً قد تعرّض إلى العنف، وليس إلهاً؛ وهذا ما يؤكّده، (إنجيل يوحنا: 21، 22، 19)؛ عندما يقول: «فَسَأَلَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ يَسُوعَ عَنْ تَلاَمِيذِهِ وَعَنْ تَعْلِيمِه. أَجَابَهُ يَسُوعُ: «..... لِمَاذَا تَسْأَلُنِي أَنَا؟ اِسْأَلِ الَّذِينَ قَدْ سَمِعُوا مَاذَا كَلَّمْتُهُمْ. هُوَذَا هؤُلاَءِ يَعْرِفُونَ مَاذَا قُلْتُ أَنَا» وَلَمَّا قَالَ هذَا لَطَمَ يَسُوعَ وَاحِدٌ مِنَ الْخُدَّامِ كَانَ وَاقِفًا، قَائِلًا: «أَهكَذَا تُجَاوِبُ رَئِيسَ الْكَهَنَةِ؟».

5. الفداء:

يبدو أنّ هذه النقطة تقدِّم تعليلاً للسبب الذي من أجله ظهر تجسّد المسيح، إذ يأتي التعليل الذي يلهج بهِ المبشّرون المسيحيّون: إنّ عدل الله وقداسته يستلزمان عقاب الخاطئ بالموت في جهنّم النار إلى الأبد، ولا يمكن أنْ يغضّ الطرف عن ذلك؛ لبغضه الخطيئة التي لم يسلم العالم منها، فأظهر الله محبّته بتجسيد ابنه على الأرض ليفدينا بصلبه، فيستوفي العدل الإلهي حقّه؛ إذ تحمّل بصلبه ما علينا من القصاص، ووفى ما علينا من الدين.

ويعلّق الشيخ البلاغي على هذا التأويل بالقول: «عافاك الله، هب أنّك طردت العقل عن حكومة هذه الخطّة، وقلت تبعاً لكتابك: إنّا كبشر لا بحكمة كلام؛ لئلا يتطلّب صلب المسيح،

(77)

ولكنّك لابدّ من أنْ تكون مارست المعاملات التجاريّة، وتعاطي الوفاء في الدين؛ ولو في لوازم بيتك، واطّلعت على عدل الحكّام في قصاصاتهم وبغضهم للخطيئة والفساد، فقل لي: هل القدّوس العادل الذي يبغض الخطيئة ينبغي أن يبقى رهبة الناس منه بخوف العقاب، لينزجروا عن فعل الخطيئة، فتضعف مادّة بفساد؛ أو أنّه يحابي أهواءهم وشرورهم، فيفديهم ويطلق لهم زمام التمرّد؟ فهل يفعل محبّ الخطيئة أكثر من هذه المحاباة؟»[1].

6. الحرمان من بركة الفداء

في هذه النقطة التي يعرض لها الشيخ ويردّها: «فتصبح محروماً من محبّته ورحمته وبركة فدائه؛ ببركة القارئ الكريم»، يبدو سياق النصّ-هنا- يأخذ منهجاً دعويّاً بوصف الآخر منحرفاً عن جادة الصواب. وهذا يجعل الشيخ البلاغي يردّ عليه مبيّناً نقاط التهافت في المنطلقات التي انطلق منها في توجيه الخطاب إلى هذه الدعوة التي هي قبس ممّا يكتب وقتها في مجال التبشير بالمسيحيّة[2] في المنطقة. ويأتي الجواب على ذلك القول من قِبَل الشيخ: «فتخوّفني الحرمان -هداك الله- بأنْ أعبد الإله: (الواحد، الأحد القادر، العادل، القدّوس، العزيز، الجبّار، الحيّ) الذي لا يموت»[3].

في هذه الفقرة ردّ الشيخ على مَنْ يريد أنْ يحرمه من بركة التثليث والتعدّد؛ وكأنّها نعمة، فكان الردّ أنّه غني بالله عن سواه، وتلك هي من سمات المؤمن.

7. جلال الربّ

أمّا في الفقرة السابعة، فيناقش الشيخ قول الخصم الآتي: «وتعشو عن جلال الربّ (يسوع) المسيح له المجد، وتتنكّر لاهوته الأقدس، وتحطّ قدره إلى خسّة الناسوت، ونقص الطبيعة البشريّة، مع أنّه الذي رفع بلاهوته قدرها إذ تقمّصها».

(78)

«يأتي الردّ، وقد اتّخذ بُعداً عقليّاً جدليّاً في تحليل الفقرات ومناقشتها؛ إذ يقول الشيخ البلاغي: «قول يضحك ويبكي، وياليتك تودع قليل وطواياك أنّ قدس اللاهوت وكماله لا يوصم بخسّة الناسوت... وياليتك تدرك تناقض كلامك هاهنا، تلتفت إلى أنّك تعنّف على حطّ قدر اللاهوت إلى خسّة ونقص البشريّة»[1].

هنا نجد أنّ الشيخ البلاغي يبيّن له حاجة المسيح إلى الله في دعائه وتضرّعه له، لكنّ الشيخ يدرك مواقف المخاطب ويطالبه أنْ يراعي ذلك «نطالبك بوجدانك الذي تميّز به نفسك من عندك، وتعرف به مواقع الكلام، وتدير به أمرك تجارتك، وتفهم مراسلات أصحابك»[2]، لكنْ سرعان ما يعود الشيخ إلى التعليق النقديّ على الخصم، فيقول: «نعم، ستعفيك من وجدانك الذي تجعل به الثلاثة حقيقة واحداً حقيقيّاً، والواحد الحقيقيّ ثلاثة حقيقة، فيصبح كلاً منهم بصفة وحالٍ ومكانٍ يباين كلاً ممّا تصف به صاحبيه»[3].

هذه المقاربة التهكّميّة من الخصم الذي يقول بالتثليث؛ وهي رؤيّة لاهوتيّة أدخلها من قبل بولس على المسيحيّة، وجعلها تأخذ وجهاً مختلفاً عن جوهر التوحيد.

تعليق:

بعد هذه الفقرات التي تطرّقت إلى مفهوم الوحدة والتثليث نجد أنّ الفكر المسيحيّ ينطوي على كثير «من الأفكار الخاطئة والمعاني المرجفة التي لا ترقى إلى مستوى الأصالة الحقيقيّة التي جاء بها يسوع المسيح والتي بقى منها النزر القليل، والذي أجد من الوصف فيه لساني كليلاً، ولكنّ الحاكم فيما قالوا بخلافه العقل الدليل، وكما يقول الإمام جعفر الصادق: "نحن أبناء الدليل من حيث ما مال نميل"[4].

(79)

وهذا ما توقّف عنده الشيخ؛ وهو يحاول أنْ ينطلق من مقاربته الحجاجيّة في الردّ على كلام محدّد جاء في مواقف الخصوم؛ وهم -هنا- مشخّصون في كلّ من (المسيح وجرجي سايل) في نقاط محدّدة هي:

- قصور العقل عن إدراك قضايا الدين، ولاسيّما أنّ المسيحيّة -هنا- ديانة أسرار، وقوامها التأكيد على المعجزات؛ فهي بذلك تفارق العقل، وتعتقد بقصوره عن تقديم الدليل على تلك المعجزات المفارقة لما هو عقليّ سليم.

- الشيخ البلاغي وضع يده على القصور في تلك المقولة اللاهوتيّة الحجاجيّة التي جاءت نتيجة للحوار مع الثقافة اليونانيّة؛ وخصوصاً الأفلاطونيّة المحدثة ورؤيتها لهذا الثالوث.

- إنّ هذه الرؤية اللاهوتيّة تخفي جهود المؤسّسة الكنسيّة التي حاولت نفي الخصوم المعارضين للثالوث واتّهمتهم بالهرطقة؛ وهو أمر تعاضدت به السلطة والمعرفة في نفي تراث توحيديّ مسيحيّ، وتكريس التثليث بدل عنه.

- الأمر الآخر في الجدل السابق في موضوع التثليث يُظهِر أنّ الفكر المسيحي يستعمل وسائل غير موضوعيّة في تبرير مقولة التثليث؛ بوصف من يرفضها أنّه يفقد الشفاعة، ومدح التثليث بعدّة من سمات القوّة، وفي حسن التوحيد ضعف وسذاجة عقليّة.

- جاء الردّ معاكساً في مقاربة أمر التوحيد؛ كونه من سمات القوّة، ومن يغني عمّا غيره.

(80)

 

المبحث الثالث

الرُسُل في الخطاب المسيحيّ

في هذا البحث حاولنا أنْ نقف عند مفهوم مركزيّ في الفقرات (8، و9، 10، 11)؛ وهي فقرات يبدو أنّ الموضوع المركزيّ فيها هو (الرُسُل في المسيحيّة)، ففي الوقت الذي يحاول المسيحيّون أنْ يقدّموا الرسل بصورة تكاد تكون معصومة، وينسبون لهم كثيراً من الإيجابيّات، ويمنحونهم كثيراً من الصفات؛ التي منها كونهم، في رسوخ قدمهم في الإيمان، وحسن ائتلافهم في المحبّة، وانتظام جماعتهم في الدعوة، إذ خلّفوا شريعة سهلة للمؤمنين، أدبيّة عقليّة، أسّس ناموس الحرّيّة وبناء التعاليم الروحيّة... كلّ هذه الصفات تمّ إسقاطها على هؤلاء الرُسُل حتّى أصبحوا سلطة في الديانة المسيحيّة.

وسوف نحاول أوّلاً أنْ نعرف بهؤلاء الرسل؛ بحسب المدوّنة المسيحيّة التي تقدّمهم بسمات معيّنة، ثمّ نقف على موقف الشيخ البلاغي منهم.

1. مفهوم الرسل في المدوّنة المسيحيّة:

هناك تصوّر كنسيّ يصوّر الرسل، وكأنّهم كائنات وصلت إلى الكمال، فأصبح لهم مكانة مميّزة، ولكلّ منهم مكانته الخاصّة. ولعلّ هذا ما يشير إليه سفر أعمال الرسل في 12: 1، 4 بالقول: «1   مَّا حَضَرَ يَوْمُ الْخَمْسِينَ كَانَ الْجَمِيعُ مَعًا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، 2 وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ إذ كَانُوا جَالِسِينَ، 3 وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. 4 وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَابْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ الرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا».

فالنصّ يمنح تصويراً إعجازيّاً يجعل من هؤلاء الرسل يملكون القدرة على التكلّم باللغات

(81)

الأخرى غير لغتهم؛ وهو تصوير مجازي أدّى إلى نشر المسيحيّة خارج المجتمع اليهوديّ.

أمّا معنى رسول؛ كما جاء في الإنجيل؛ فهو «أبوستولوس» (apostolos)؛ وهي مشتقّة من الفعل أبوستِّلين (apostellein)؛ بمعنى «يرسل» فمعناها: «رسول مرسل، مبعوث» وقد استعملت الترجمة السبعينيّة للعهد القديم الكلمة اليونانيّة نفسها لترجمة كلمة «أرسل»، لكنْ ثمّة اختلافاً عن المعنى؛ كما هو في التوراة، فالرسول أو النبي الذي يرسله يهوه، لكنْ في الإنجيل؛ فهو رسول عن المسيح نفسه، وهو أيّ المسيح كان رسولاً؛ كما يذكر ويُذكر كثيرًا في إنجيل يوحنا أنّ «الآب أرسل الابن» (يو 7: 28 و29، 8: 42) مع ذكر الأسباب التي كان يهدف إليها الآب من إرسال المسيح.

لكنّ مفهوم الرسول بعد هذا سوف يرسل من المسيح، وليس من الأب أو يهوه، وكلّ رسول بعد ذلك؛ إنّما هو مرسل من الربّ يسوع المسيح (يوحنا 7: 18-26، 20: 21-23)، ومن يقبله المسيح (متى 10: 40)، ومن يسمع منه يسمع من المسيح (لوقا 10: 16). فقد استعملت الكلمة بمعناها المطلق في قول المسيح: «ليس عبد أعظم من سيّده، ولا رسول أعظم من مرسله» (يوحنا 13: 16) واستعملت الكلمة في الإشارة إلى مبعوثين من الكنائس.

لكنْ مَنْ هم الرسل الذين بعثهم المسيح؛ بحسب المرويّات المسيحيّة في العهد القديم، وأوّل ما يتبادر إلى الذهن عند ذكر كلمة «رسول» أسماء الإثني عشر رسولاً؛ وبولس الرسول، ولكنّ الكلمة أطلقت على غير هؤلاء أيضاً، فيبدو أنّ يعقوب أخا المسيح كان يعد رسولًا بنظر بولس الذي يقول هذا في (رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطيه 1: 19): «وَلكِنَّنِي لَمْ أَرَ غَيْرَهُ مِنَ الرُّسُلِ إِلاَّ يَعْقُوبَ أَخَا الرَّبِّ».

ويبدو أنّ مصطلح رسول لم يكنْ محدّداً على مَنْ يطلق؛ فقد ظهرت كثير من الإشارات إلى رسل كذبة يدّعون أنّهم رسل المسيح. ولعلّ هذا يكشف كثيراً من الرسائل التي تنسب إلى بولس يحيطها الشكّ. ولكنّ بولس يجمع بينه وبين برنابا ويوصي في رسالته الثانيّة إلى الكنيسة في كورنثوس، بأخوين -لم يذكر اسميهما- يقول عنهما إنّهما «رسولا الكنائس ومجد المسيح» (رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس 8: 23).

(82)

وقد وجد من الضروري أنْ يكشف بعض الأشخاص بعد أنّهم: «رسل كذبة فعلة ماكرون مغيّرون شكلهم إلى شبه رسل المسيح» (رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس11: 13)، وفي هذا دليل على أنّه في الكنيسة الأولى، لم تكنْ فكرة الرسوليّة قاصرة على الإثني عشر أو الثلاثة عشر، «إذ لو كان عدد الرسل محدّدًا؛ لبطلت من ذاتها دعوى أولئك المتطفّلين»؛ كما يقول ليتفوت (Lihgfoot) في تعليقه على الرسالة إلى غلاطيّة.

2. نقد الشيخ البلاغي لمفهوم الرُسُل في المسيحيّة:

الفقرة الثامنة: إذ يعرض الشيخ البلاغي إلى هذه الفقرة أنّها جاءت من كتابات الخصم؛ وهي تحاول أنْ تعلي من شأن الرسل في المسيحيّة؛ مثل: بولس، وغيره، فيعرض لها الشيخ، ثمّ فيما بعد يردّ عليها بأكثر من نقطة. وقد جاء في هذه الفقرة، الآتي:

وأمّا قولك: «ولا نأت بك مجاهل الغفلة عن معرفة قدر الرسل، وعظيم أثرهم في نصرة الحقّ، ورسوخ قدمهم في الإيمان، وحسن ائتلافهم في المحبّة، وانتظام جماعتهم في الدعوة، حتّى دمّثوا للمؤمنين شريعةً سهلةً، أدبيّة عقليّة، قد أسّست ناموس الحرّيّة، وبثّت التعاليم الروحّيّة، فلم تشنّ لينها بقساوة، ولم تحتفل بالأعمال الفارغة»[1].

فهذه الفقرة التي جاء الشيخ البلاغي على ذكرها تعبّر عن لسان حال المجادل أو المناظر له؛ فهو يعبّر بالحقيقة عن موقف المؤسّسة والثقافة المسيحيّة التي منحت بدورها هؤلاء الرسل مكانةً كبيرةً؛ كما جاء على ذكرها في النصّ: «وعظيم أثرهم في نصرة الحقّ، ورسوخ قدمهم في الإيمان، وحسن ائتلافهم في المحبّة، وانتظام جماعتهم في الدعوة». وهذه المعاني يمكن رصدها في المدوّنة المسيحيّة، من خلال تأكيدها على أنّ لهؤلاء الرسل صفات، وقد منح هؤلاء الرسل صفات مفارقة تتعارض مع ما في الإنجيل نفسه من أقوال المسيح نفسه، لكنّ اصطناع هذه الصورة من قِبَل المرويّات المسيحيّة والكنيسة هو محاولة لجعل هؤلاء الرسل سلطة مرجعيّة تسبغ الشرعيّة على المؤسّسة الكنسيّة.

(83)

وهي عبارة عن مرويّات إنجيليّة تروي اتّصال المسيح بعد صلبه، ومن ثمّ قيامه كيف قام بإرسال هؤلاء الرسل؛ «عندما اختار الربّ يسوع الإثني عشر كان ذلك ليكونوا معه، وليرسلهم ليكرّزوا» (مرقس 3: 14). وكان هذا من أهمّ ما قاموا به؛ كما نرى في سفر أعمال الرسل. وشروط الانضمام للاثني عشر مذكورة في سفر أعمال الرسل[1].

ويبدو أنّ هناك شروطاً تمّ وضعها فيما بعد التجربة تخالفها هذه المرويات إذ تحصر صفة الرسل فقط على «مَنْ كانوا مع يسوع منذ معمودي يوحنا إلى صعود المسيح، فقد وقعت في تلك الفترة كلّ الأحداث المتعلّقة بعمل الفداء، وقد بدأ البشيريّون الأربعة أناجيلهم بمعموديّة يوحنا» (متى 3: 1، مرقس 1: 2، لوقا 3: 1، يوحنا 1: 6)، لكنْ أين نضع من وصفهم بولس بالرسل الكذبة؟

لكنْ، وعلى الرغم من الاختلافات الكثيرة في تحديد الرسل؛ نجد أنّ الكتابات المسيحيّة ترى أنّ الرسل ليسوا مجرّد شهود لتلك الحقائق؛ أي الصلب والقيام، بل كانوا مقرّيها أيضًا. وكرازة الرسل ورفقاءهم هي التي تزوّدنا بما نحتاج إلى معرفته من حقائق عن الربّ يسوع المسيح وفدائه الكامل.

وقد تمّت مقارنتهم (أي الرسل في المسيحيّة) بأنبياء العهد القديم؛ لأنّ كلّ كتاب هو موحى من قِبَل الله؛ سواء كان هذا الكتاب من نبي توراتيّ، أم من رسول مسيحيّ؛ لأنّ تعبير «مُوحى به» في الأصل يوناني «ثيوبنوستوس»؛ وتعني الذي يتنفّس من الله، ومنها «ثيوبنوستيا»؛ وتعني الإلهام الإلهيّ أو الوحي أو أنفاس الله، فالكتاب المقدّس هو نسمة من الله نفخها في قلوب الكتَّاب، ولذلك يدعو الآباء القدّيسون الكتاب المقدّس بأنفاس الله، وعبَّر قاموس وبستر عن الوحي قائلًا: «هو تأثير روح الله الفائق للطبيعة على الفكر البشريّ، به تأهّل الأنبياء والرسل والكتبة المقدَّسون لأنْ يقّدِموا الحقّ الإلهيّ بدون مزيج من الخطأ»، وجاء في قاموس شامبرز عن الوحي أنّه «التأثير الإلهيّ الذي بواسطته أُرشد كتبة الكتاب المقدَّس القدّيسون». وهذا ما يظهر في (رسالة بطرس الرسول الثانيّة): «لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ

(84)

مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (رسالة بطرس الرسول الثانيّة 1: 21)؛ بمعنى أنّ روح القدس بالفهم المسيحيّ هو أحد الأقانيم الثلاث، لكنّ الوحي -هنا- له سمات محدّدة؛ إذ إنّ روح الله يُوحي للإنسان بالموضوع والأفكار، وهو -أيضاً- يحفظه ويعصمه من الخطأ، فلا يسمح له أبدًا بتدوين أيّ فكرة صحيحة بتعبيرات وكلمات خاطئة؛ أي أنّ روح القدس لا يترك الكاتب يختار ألفاظًا غير مناسبة؛ إنّما يساعده في انتقاء الكلمات المناسبة، واختيارها. إنّ الوحي المسيحيّ يترك الله للكاتب فيه حرّيّة اختيار الألفاظ والأسلوب والكلمات، فلذلك نجد الأسلوب يختلف من كاتب لآخر. ومن هنا نفهم استعارات وتوصيفات الإنجيل: «وَأَمَّا الْمُعَزِّي، الرُّوحُ الْقُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ» (يوحنا 15: 26 و27).؛ فهو الذي يرشدهم لكلّ ما يتعلّق بالمسيح؛ لأنّه هو «فروح القدس كان هو الشاهد في الرسل».

هكذا أصبح الرسل؛ بحسب الإنجيل لديهم وحي من قِبَل روح القدس والمسيح؛ وبهذا تمّ تحويلهم إلى سلطة تشريعيّة من قِبَل الإنجيل، أو من قِبَل المؤسّسة الكنسيّة التي جاءت فيما بعد وجعلت لهم هذه المكانة.

أمّا الموقف النقدي الذي جاء به الشيخ البلاغي؛ فهو يبيّن ما هو مسكوت عنه في الإنجيل نفسه، وما ذُكِرَ عن هؤلاء الرسل، وقد غابت عنهم تلك الصورة المصطنعة التي ترفعهم إلى مقام العصمة.

وعلينا أنْ نلحظ أنّ الجدل القائم بين الشيخ البلاغي والخصوم من المسيحيّين كان مرتبطاً برهانات ضاغطة في الواقع الإسلاميّ؛ من انتشار التنصير، وما يقدّمه من صورة معادية للإسلام من خلال العقيدة والإيمان. لهذا جاء ردّ الشيخ؛ وهو يتطرق إلى تلك المواقف بالتحليل والنقد، والذي سوف يتفرّع إلى موضوعات متنوّعة كانت يومها راهنةً في المشهد الدينيّ، في ظلّ انتشار ظاهرة التنصير التي كانت سائدةً في وقتها، ويمكن أنْ نجد أنّ النقاش نفسه مازال راهناً؛ بما يطرح اليوم في كثير من وسائل الإعلام المسيحيّة التي ما زالت تردّد المقولات نفسها، والتي ردّدها بعض المستشرقين أيضاً.

(85)

ويمكن تقسيم الردّ على نقاط:

«وإنّ عشرة منهم اغتاظوا على المسيح بسبب عنايته بابني «زبدي»، وما أدّى إلى الرئاسة، وتشاجروا في الذي يكون الأكبر منهم بعد المسيح؛ لمّا أخبرهم بأنّه ماضٍ عنهم؛ حتّى وعظهم ووعدهم ومنّاهم بما يرغّبهم في الائتلاف وترك التشاجر»[1].

1. وكثيراً مّا وبّخهم على قلّة إيمانهم، وأنّهم لا إيمان لهم، وليس لهم من الإيمان مثل حبّة خردل.

2. وصفهم الإنجيل بغلظة القلوب، وأخبرهم المسيح بأنهمّ جميعاً يشكّون أو يعثرون فيه، ويتفرّقون عنه، كلّ واحد إلى خاصّته ويتركونه وحده.

3. وطلب منهم المواساة بسهر ليلة، فلم يواسوه، مع ما هو فيه من الدهشة والحزن والاكتئاب، حتّى وبّخهم على ذلك مراراّ.

4. ولمّا هجم عليه اليهود تركه الجميع وهربوا.

5. ثمّ لم يصدّقوا اللاتي أخبرنهم بقيامه من الأموات، وعدّوا كمههنّ كالهذيان، حتّى وبّخهم المسيح على قساوة قلوبهم، وعدم إيمانهم؛ إذ يصدّقوا الذين نظروه وقد قام، مع أنّ الإنجيل لم ولنْ يذكر أنّ المسيح قد أخبرهم بأنّه يقتل وفي اليوم الثالث؛ فإنّه سيقوم من الموت.

6. ناهيك عمّا تذكره الأعمال والرسائل من العهد الجديد بعد حادثة الصلب في اضطراب المتنصّرين ومشاغبتهم، والمذمّة من بعضهم لبعض، حتّى أدّت تلك المشاغبة إلى أنّ «بطرس» و«برنابا» و«بولس» وجماعة قد استعملوا الرياء لحفظ الشريعة.

7. ولكنّ فرصة الوقت وميل الأهواء إلى الراحة قد ساعد التلاميذ و«بولس» في نقل كتبكم على محو رسوم الشريعة؛ بخلاف ما أوصى به المسيح، فبعضهم اتفّقت مشورتهم على جلب الأمم إلى الخضوع لرئاستهم بأنْ يصانعوا أهواءهم ومألوفاتهم برفع الختام وسائر قيود الشريعة، ولم تكنْ

(86)

لهم حجّة في مشورتهم في ذلك؛ إلا استجلاب الأّمم، وترغيبهم إلى الإيمان بالمسيح، وأنّ موسى قد استوفى نصيبه من رئاسة الشريعة؛ لأنّ له من يكرز به كلّ سبت.

8. ثم جاءت الرسائل عن «بولس» فنسبت إليه إتمام الدست للأهواء، والمجاهرة بالإباحة العامّة بلسان العيب والتضعيف والانتقاص للشريعة السابقة[1].

9. «وإنّي لأُحاشي الحوارّيين من هذه النسب الفظيعة، ولكنّ الذي دمّت للأهواء هذه الشريعة الشهوانيّة؛ إنّما هو من له عداوة مع الله وشريعة رسله، وانّفلات لسانه في زخرفة بيانه لتفضحه بذاك»[2].

في الصفات التي عرض لها الشيخ البلاغي؛ وهي حاضرة في الإنجيل ندرك أنّ هؤلاء الرسل كانوا أناساً؛ مثل بقيّة الناس، وليس له تلك الصفات المعصومة التي نجدها في سيرتهم؛ كما تظهر في المرويّات المسيحيّة. وسوف نجد الشيخ يتوسّع في ذكر ما كان منهم من عوامل النقص.

-وتأتي الفقرة التاسعة؛ إذ تدخل في باب الردّ على تمجيدك لشريعة الرسل بأنّها «أدبيّة عقليّة، فقد سبقك به البوذيّون في تمجيد شريعتهم؛ إذ مسخوا بها شريعة البراهمة قبل أن تدوّن كتبكم بقرون عديدة، و(ما أشبه الليلة بالبارحة)؛ إلا أنّ تلك تخلّصت من شريعة باطلة قاسيّة، وهذه تمرّدت على شريعة حقّ عادلة»[3].

في هذه الفقرة يقدّم الشيخ مثال على القطيعة التي قام بها الرسل؛ من إيجاد قطيعة بين التوراة والإنجيل، وهو أمر لم يُشِر إليه المسيح، بل كان ملتزماً بالشريعة، وحال الرسل أنّهم مثل ما فعل البوذيّة؛ فهم على الرغم من ظهورهم داخل الدين البراهمة؛ فقد خلقوا قطيعة مع الموروث البراهمة، وهؤلاء من الممكن أنْ نقبل عملهم عند الشيخ؛ لأنّ البراهمة شريعة باطلة، لكنّ الشريعة الموسويّة ليست كذلك، بل خروج المسيحيين عليها كان من أجل

(87)

استجلاب الأّمم وترغيبهم إلى الإيمان بالمسيح؛ أي من أجل أهداف دنيويّة.

«أنْ قول -هداك الله-: إنّ شريعة موسى ليست أدبيّة ولا عقليّة؟ ثمّ ما الذي ورّطك باسم العقل هاهنا؟ وأنت الذي تذمّ العقل والمعقول، وتحذّرني من أنْ يرجع بي من نصف الطريق»[1].

فالردّ -هنا- يحاول أنْ يجرّد الخصم من أيّ ادّعاء يربطه بالعقل؛ فهو فعلاً كان لا يلتزم بقواعد العقل؛ كما تبيّن فيما سبق، وكذلك في سياق هذا الحديث الذي نتوقّف عنده في هذا المبحث في الحجاج بين الطرفين؛ كما أخرجه الشيخ وعرضه في كتابه محلّ البحث هنا.

يقول الشيخ البلاغي: «أمّا قولك لم تحتفل بالأعمال الفارغة؛ فإنّك قد تورّطت في معركة، فقد وصفت التوراة ورسالة (يعقوب) يناضل في حماية الأعمال، وكذلك الإنجيل حيث أوصى بحفظ ما يقول به الكتبة والفريسيّون والعمل عليه؛ لأنّهم على كرسي موسى جلسوا....»[2].

والصنف الثاني -وهو المنتظم تحت قيادة النسبة إلى «بولس» يحصر النجاة بالإيمان، ولا يجعل لوجود الأعمال الصالحة أثراً ومداخلةً في النجاة، بل وصف كثيراً من وصايا التوراة بأنّها للفناء وتعاليم الناس.

ثمّ يقول الشيخ البلاغي: «هداك الله، وكلا الفريقين من كتبك، فكان الأولى في هذه الفتنة والمثابرة أنْ تلجأ إلى الحياد، لا نعثر بقلية أحد الفريقين بنظرة الهوى ومعونة حبّ الراحة؟».

الفقرة الثانية والعشرون: ثمّ نجد أنّ الشيخ يناقض مفهوم الثالوث -هنا- في هذه الفقرة التي يشير إليها بالقول: «وأمّا احتجاجك بما ذكره إنجيلكم غن قول المسيح: (وعمّدوهم باسم الأب والابن والروح القدس)»[3].

هنا يأتي ردّ الشيخ، فيحلّل النصّ بشكل مخالف لما جاءت به المسيحيّة التي اصطنعت الثالوث

(88)

وأعطته معنى معيّناً، فيقول الشيخ في تفسيره: فلو صحّت الأحلام في الأناجيل الرائجة لقلنا: إنّ المعنى عمّدوهم باسم الإله، واسم النبي العبد الصالح صاحب الدعوة ومبلّغ الرسالة، وباسم روح القدس الملك المتوسّط بين الله ورسوله في الوحي؛ ليعترفوا بالإله الواحد، ويصدّقوا برسالة النبي ووحيه بوساطة روح القدس.

فابن الابن في اصطلاح العهدين هو الموحّد والمؤمن، كما سمّت التوراة بني إسرائيل بالابن البكر[1]، وقال الإنجيل: «لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات»(إنجيل متى 5: 5).

وبهذا يكون الشيخ قد ربط الدلالة بالسياق التوراتيّ -الإنجيليّ وأخرجها من المعنى القائم في المسيحيّة الذي أدخله بولس وجعلها تقول بالتثليث. «وبولس هذا من أعجب مغامري التاريخ؛ فهو لم يرَ عيسى عليه‌السلام، ولم يعرفه، ولم يسمع منه أو من الحواريين، ومع ذلك إنّه يزعم أنّ عيسى عليه‌السلام قد ظهر له وأعطاه الأمر بتبليغ هذه المسيحيّة، التي نقضت ما فعله المسيح طوال حياته، وناقضت ما كان يؤمن به الحواريّون والمسيحيّون الأوائل، لقد اخترع هذه الآفاق أسطورةٌ طارت إلى أبعد من حدود عقله وتصوّره؛ إنّها أسطورةُ القوّةِ التي ذهبت برسالة المسيح، وطمست ما استطاعت أن تطمسه من وثائق ديانته وتاريخ أتباعه الأوائل»[2].

وبالعودة إلى الشيخ البلاغي الذي يعلّق على الحجّة السابقة، فيقول: «بل عليك -في سخافة هذه الحجج المضحكة- أنْ تزيد في عدد الآلهة والأقانيم[3] كما تنظر في كتبكم»[4].

وفي الفقرة الثالثة والعشرين يعرض -أيضاً- إلى فقرة أخرى للخصم، فيقول: أمّا قولك: «وقال

(89)

الكتاب المقدّس: فإنّ الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: (الأب والكلمة والروح القدس)، وهؤلاء الثلاثة هم واحد».

يأتي تعليق الشيخ على ذلك بقوله: «فقد غشّك فيه أمانيك، وغالطك -عافاك الله- هواك، ولأنّك كنت لا تدري، فإنّا ندري بأنّ العهد الجديد الذي هو كملكي صادق» (رسالة بولس إلى العبرانيّين 7: 3)؛ إذ يقول: «بلا أب، بلا أمّ، وبلا نسب، ولا بدايّة أيّام معلومة له، ولا نهاية وقوف لتقلّبه لطالما يقئ هذه الفقرة، ثمّ يوجرها العناد في حلقة، وإنّ كثيراً من أسلافك وقدوتك ومصلحيك قد أنكر هذه الفقرة، فأسقطت حتّى في التراجم المطبوعة في هذا الدار، وأكثر المطبوعات تجعلها بين الخطّين الهلاليّين اللذين هما علامة الشكّ فيهما، وعدم وجودها في أقدم النسخ وأصحّها».

هكذا يقيم الشيخ هذه الحجّة، ويظهر عمق درايته بالنصوص؛ سواءً أكانت في التوراة أم في الإنجيل. وهذا النصّ يعود إلى بولس؛ وفيه يحاول بولس أنْ يقارب بين ملكي صادق מַלְכִּי־צֶדֶק والمسيح: «أوّل مرّة ذكر فيها اسم ملكي صادق، كانت في استقباله لأبينا إبراهيم عند رجوعه من كسرة كدر لعومر والملوك الذين معه» (سفر التكوين 18: 14-20)[1].

الفقرة الرابعة والعشرون: يقول الشيخ: وأمّا قولك: «وأمّا ألوهيّة المسيح، فلا ينبغي بعد هذا أنْ يرتاب فيها ذو عقل». ويردّ على هذه الفقرة بقوله: «عافاك، إنّ أناجيلك هي التي تذكر في شأن المسيح ما لا يكون إلا من عبد مخلوق، حادث، فقير، ضعيف، لا يقدر على شيء، إلا بأقدار الله، ولا يعلم ما يعلمه الله، ولم يتخلّص من غواية الشيطان وتصرّفه به، وطمعه في تكفيره؛ إلا بعد اللتيا والتي»[2].

(90)

وأمّا في الفقرة الخامسة والعشرين، فيذكر -أيضاً- مقولة: «إنّ المسيح ذاته قد كشف القناع عن ذلك باحتجاجه على اليهود في قوله لهم -له المجد- أليس مكتوباً في ناموسكم أنا قلت: إنّكم آلهة، إنْ قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله، ولا يمكن أنْ ينقض المكتوب، فالذي قدّسه الأب وأرسله إلى العالم أتقولون له: إنّك تجدف؛ لأنّي قلت: أبي ابن الله»[1].

الفقرة الثامنة والعشرون:

وأمّا تشبّثك بأنّ المسيح طلب من الأعمى الذي شفاه أنْ يؤمن بهذه الحقيقة قائلاً: «أتؤمن بابن الله؟» فأجاب الأعمى: «أُؤمن» وسجد له.

فقد سمعناه قبلك -أيضاً- من أناستاس، ولو صحّ عن المسيح لما عدا أنْ يكون جارياً على اصطلاح و... من تسمية المؤمن الصالح بابن الله.

الفقرة التاسعة والعشرون وأمّا قولك: إنّ الأعمى ومريم المجدليّة ومريم أم يعقوب والتلاميذ سجدوا للمسيح ولم يردعهم، مع أنّ السجود لا يحقّ إلا لله. فكيف يرضى المسيح أن يسجدوا له لو لم يكنْ إلهاً حقيقة[2].

«فقد سمعناه قبلك -أيضاً- عن احتجاجات أناستاس، وكنّا نعجب من أنّ الذي ينصب، وأنّ توراتكم لتقول مكرراً: إنّ إبراهيم خليل الله قد سجد لشعب الأرض لبني حث» (سفر التكوين 23: 7و16)؛ وقد كان هؤلاء مشركين.

وإنّ يعقوب عند ملاقاته لعيسو سجد على الأرض سبع مرّات، وسجد -أيضاً- نساؤه وأولاده[3]، ولسانها ينادي بأنّ هذا السجود كان تحيّةً وتملّقاً لعيسو؛ لئلا يبطش بهم، إذ كان يعقوب خائفاً منه. وإنّ إخوة يوسف سجدوا له[4]، وموسى خرج لاستقبال حميه وسجد وقبّله، وفي الأصل العبرانيّ: «ويشنحو وشق لو».

(91)

وسجد داود ثلاث مرات؛ لمّا ودّع يوناثان ابن شأول[1]. وسجد ناثان النبي لداود النبي[2]. وسجد سليمان النبي لأمّه[3].

قال الشيخ: فإنْ قلت: إنّ هؤلاء كلّهم قد أخطأوا وعصوا في السجود لغير الله.

قلنا: إنّ الاحتجاج الذي تنقله أناجيلكم عن المسيح ليخرسك عن هذه الجرأة. أولم تجد أنّ (أناجيلكم قد أهمل كل واحد منها كثيرا مما يذكر الآخر، وإن اتفقت على مادة حطاية أوردها كل واحد بصورة غريبة [4] ، فلو لم يكنْ داود معصوماً في فعله، بل لا يجوز أنْ يفعل الحرام؛ لما صحّ من المسيح هذا الاحتجاج. وإنّ سجود داود لشأول، وسجود أبيجايل وناثان النبي لداود كان بعد أكله خبز التقدمة الذي احتجّ المسيح به. [5]

فإنْ قلت: إنّ داود وهؤلاء الساجدين لغير الله كلّهم قد أخطأوا وعصوا بسجودهم هذا؛ وإنّ هذا الاحتجاج المنقول عن المسيح إنّما هو دخيل في الأناجيل، قد زاده عبث الأيام.

قلنا: مرحباً، فما العلامة القاطعة على أنّ حكايّة سجود التلاميذ للمسيح، وكذا توما، وكذلك الأعمى والمَرْيَمَيْن[6]، فقد كانت من شقّ فم الوحي، وفلذة من كبد الإنجيل الحقيقيّ، لم يلدها العبث في حجر الضلال؛ كحكاية الاحتجاج بفعل داود.

«وما الحجّة القاطعة على أنّ المسيح مالأهم على السجود له؟  أولسنا نرى أنّ جيلكم قد أهمل كلّ واحد منها كثيراً ممّا يذكر الآخر، وإنْ اتّفقت على مادّة حكاية أوردها كلّ واحد بصورة غريبة؟»[7].

الفقرة الثالثة عشرة: ويذكر أمثلة على ما ذهب إليه من توصيف يذكر بولس، قوله: «في

(92)

الإصحاح الثالث عشر من كتاب أعمال الرسل في العدد الثالث والثلاثين، أنّه قال هكذا: إذا أقام يسوع؛ كما هو مكتوب في المزمور الثاني: أنت ابني، إنّا اليوم ولدتك»[1].

ويظهر أنّ هذه العبارة هي على تناصٍ مع عبارة أقدم منها تمّ نسخها مع تغيّر الشخصيّة؛ إذ حاول بولس أنْ ينسخ شخصيّة داود ويحلّ محلّها شخصيّة المسيح، ويخرج دلالة (ابن) من معناها المجازيّ إلى معنى حرفيّ؛ وبالتالي يظهر -هنا- التحريف والتغيّر في النصّ.

إذ يذكر هذا التحريف الشيخ البلاغي: «لا يخفى على القارئ أنّ هذه العبارة جاءت في العدد السابع من المزمور الثاني من قول داود هكذا: (أخبر الحقّ، الله قال لي: ابني انت، أنا اليوم ولدتك)»[2].

ويعلّق الشيخ على هذا بقوله: «إنّ الله قال هذا الكلام له، يعني أنّه منحه النبوّة والوحي، ولأجل ما حصل لحياته منه مجد النبوّة والوحي؛ كان ذلك اليوم؛ كأنّه يوم ولادته، بل هو اللائق بأنْ يعدّ أوّل أيّام حياته»[3]؛ فهذا التأويل الذي جاء به الشيخ إلى النصّ يختلف عن التوظيف الذي قام به للنصّ الذي علّق عليه الشيخ البلاغي بالقول: «ولم تكفِ رسالة العبرانيّين بهذا عن الانتهاب، بل قالت في الإصحاح الأوّل، في العدد الخامس في الاحتجاج على اليهود لمجد المسيح وتفضيله على الملائكة بما جاء في كتبهم في العهد القديم، وهذا نصّ ما قالته: (لمن من الملائكة قال فيما معنى «انت ابني، أنا اليوم ولدتك، وأيضاً: أنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً)».

يردّ الشيخ؛ فهو -أيضاً- كذب وانتهاب من سليمان في الإصحاح الثالث والعشرين من أخبار الأيّام الأولى في العدد من قول داود عن وحي الله: «وقال لي: (إنّ سليمان ابنك هو يبني بيتي ودياري: لأنّي اخترته لي ابناً وأنا أكون له أباً)»[4].

(93)

ويعلّق الشيخ البلاغي بالقول: «أين ومتى تكون الأمانة والاجتناب عن الكذب والانتهاب؟»؛ بمعنى أنّ بولس قام بنقل نصوص من التوراة، وحذف الشخصيّات المقصودة، وحلّ محلّها المسيح. وهذا تحريف وسرقة -أيضاً- بنظرنا؛ لأنّها لا تعدّ تناصاً، بل هي سرقة وتحريف.

الفقرة الرابعة عشرة: ثمّ يأتي الشيخ على قول بولس في الإصحاح الخامس عشر من رسالة كورنثوس الأولى، في العدد الحادي والخمسين والثاني والخمسين، بعد ذكر قيامة الأموات، جاء عن بولس قوله: «هو ذا سرّ أقوله لكم، لا نرقد كلّنا في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير، فإنّه سيبوق ويقام الأموات عديمي فساد، ونحن نتغيّر».

ويعلّق الشيخ: «أليس قد مات بولس وأهل كورنثوس ورقدوا في مضاجع الأموات؟»[1].

فهذا النصّ يذكر ادّعاء بولس عن قيام المسيح في زمنه، فيتعجّب الشيخ من هذا الحكم؛ والواقع يكذّب هذا الحكم، فالجميع قد مات، ولنْ يتحقّق الكلام.

الفقرة الخامسة عشرة: يذكر الشيخ في الإصحاح الرابع من رسالة تسالونيكي الأولى، من أوّل العدد الخامس عشر إلى الثامن عشر، جاء فيها هذا القول: «فإنّا نقول لكم هذا يكلّمه: الربّ إنّنا نحن الأحياء الباقون إلى مجيء الربّ لا يسبق الراقدين؛ لأنّ الربّ نفسه بهتاف بصوت رئيس ملائكة، وبوق الله سوف ينزل من السماء، والأموات في المسيح سيقومون، ثمّ يلحق الأحياء الباقين، سنخطف جميعاً معهم في السحب لملاقاة الربّ في الهواء»[2].

ويعلق الشيخ البلاغي بقوله: «فيا للأسف لكلمة الله وشرفها؛ إذا تلوّث بهذه الأقوال التي يظهر حالها بعد قليل من الزمان»[3].

هذه النصوص جزء ممّا كان يُشاع عن المسيح المنقذ في المسيحيّة واليهوديّة، وقد ظهر كثير ممّا ادّعى أنّه المسيح المنقذ وهناك كثير من هؤلاء[4].

(94)

الفقرة السادسة عشرة: الإصحاح الثاني من الرسالة إلى أهل غلاطيّة، من العدد العاشر إلى نهاية العدد الثالث عشر، عن قول بولس ما نصّه: «ولمّا أتى بطرس إلى أنطاكية قاومته مواجهة؛ لأنّه كان ملوماً؛ لأنّه قبل ما أتى قوم كان يؤخّر ويفرز نفسه. ورأى معه اليهود أيضاً، حتّى أنّ برنابا إلى ريائهم»[1].

ويعلّق الشيخ على ذلك بقوله: «وياللأسف إذا كان بطرس خليفة المسيح عندهم يكذب ويرائي في دينه، وحاشاه»[2].

الفقرة السابعة عشرة: وفي الإصحاح الحادي والعشرين في كتاب أعمال الرسل من العدد الثامن عشر إلى السابع والعشرين، ما حاصله: «إنّ يعقوب وجميع المشايخ أمروا بولس أنْ يرائي ويعمل بأحكام التوراة رياءً لليهود وتمويهاً؛ لإبطال المشايخ والتلاميذ لشريعة التوراة»[3]، فانظر هذا المقام من كتاب أعمال الرسل وياللأسف.

الفقرة الثامنة عشرة: وفي الإصحاح السادس عشر من كتاب أعمال الرسل، من العدد الأوّل إلى الرابع ما حاصله: أنّ بولس استعمل الرياء، وفتن ثيموثاوس على خلاف تعليمه؛ لكي يرائي ويظهر كذباً أنّه يعمل بأحكام التوراة؛ وخصوصاً الختان.

 الفقرة التاسعة عشرة: يذكر الشيخ «ما تنسبه الأناجيل من الكذب والتحريف إلى قدس المسيح»، ويذكر نصّ مصداق على كلامه: «أنّه لمّا قبض اليهود على المسيح وأخذوه إلى الرئيس الكهنة، تبعه بطرس، فقال بعض اليهود: إنّ هذا من أصحاب المسيح، فأنكر بطرس بقسم قائلاً: لست أعرف الرجل»[4].

ثمّ قيل له ثانياً، فابتدأ يلعن ويحلف: إنّي لا أعرف هذا الرجل. وتقول الأناجيل أنّ المسيح

(95)

أنذره في تلك الليلة وأخبره بأنّه ينكره ثلاث مرّات، فقال له بطرس: ولو اضطررت إلى أنْ أموت معك لا أنكرك.

الفقرة العشرون: والإصحاح الثاني عشر من إنجيل متّى في العدد الثامن والثلاثين إلى الحادي والأربعين عن قول المسيح: «وقال لهم: جيل شرير يطلب آية ولا يعطى له آية: إلا آية يونان النبي؛ لأنّه كان يونان في بطن الحوت ثلاث أيّام وثلاث ليال، هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال»[1].

ويعلّق الشيخ بقوله: «المراد أنّ المعجزة أنْ يموت ويدفن في القبر، ويبقى فيه ميتاً ثلاث أيّام وثلاثة ليالي، ثمّ بعدها يحيا ويقوم من الموت ويخرج من القبر. ولكنّ الأناجيل تكذّب هذا الخبر، وتصرّح بأنّه عند المساء من يوم الجمعة -الذي يسمّيه اليهود يوم الاستعداد للسبت- جاء رجل وطلب جثّة المسيح من المحكمة ودفنه ليلة السبت. وفي يوم الأحد جاءت مريم المجدليّة ومريم الأخرى، فوجدتا المسيح قد قام من الأموات وخرج من القبر»[2].

يبدو أنّ هذا القيام أحالنا إلى تناصّات بالأديان القديمة، فهذا النزول والقيام فعل مثيولوجّي متأثّر بأساطير الخصب القديمة.

ويخرج الشيخ البلاغي باستنتاج: أنّ الأناجيل قد اتّفقت على أنّ المسيح لم يبقَ في قلب الأرض؛ إلا سواد ليلتين: ليلة السبت وليلة الأحد، مع بياض يوم واحد؛ وهو يوم السبت، فأين تكون الثلاثة أيّام والثلاث ليالي؟

وهنا يشير الشيخ البلاغي إلى نقده: «وهل تدري ماذا فعلت الأناجيل في هذا المقام في قدس المسيح؟ فإنّها جعلت من المسيح -حاشاه- بحكم التوراة وعلامتها، من المتنبّئين الكذبة، الذي يقتلون؛ لأجل كذبهم بطغيانهم على الله»[3].

(96)

فإنّ التوراة تقول: «أمّا النبي الذي يطغي فيتكلّم باسمي كلاماً لم أوصه أنْ يتكلّم به، أو الذي يتكلّم باسم آلهة أخرى، فذلك النبي يقتل، وإنْ خلق في قلبك كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلّم به الله، فما تكلّم به النبي باسم الله ولم يحدث، فهو الكلام الذي لم يتكلّم به الله، بل بطغيان تكلّم به النبي». وحاصل ذلك أنّه لم يقع ما أخبر به باسم الله جلّ وعلا وقع خلافه، فيجري عليه ما أعطته التوراة من العلامة الموافقة لحكم العقل لكذب المتنبّئ[1].

الفقرة الحادية والعشرون: في هذه الفقرة يقارب الشيخ مقاربة تفسيريّة؛ وهو صاحب خبرة كبيرة في هذا المجال، فجاءت مقاربته لمفهوم الملاك الذي ينزل الوحي، ويكمل العلاقة العموديّة (الأعلى)؛ إذ السماء الجانب المتعالي اللاهوتي بعرف المسيحيّة، والأسفل حيث الأرض حيث النبي والمؤمنون؛ وهو الجانب الناسوتي بعرف المسيحيّة -أيضاً-، فالوحي هو الحلقة الرابطة بين السماء والأرض[2].

«فالقراءة التي يقدّمها الشيخ البلاغي تظهر من خلال الفهم الإسلاميّ في فهم النصوص وتفسيرها، ولكنّها قراءة ليست إسقاطيّة جاهزة، بل هي توظيف للفهم العقلانيّ للنصوص؛ لأنّ المعنى الحقيقّي لا يوجد؛ إلا في النصّ، ولا يمكنه إلا أنْ يكون ناتجاً عنه، لا عن أيّ تصوّر مسبق»[3].

وهذا ما نجده في ما يقوله الشيخ البلاغي: وأمّا احتجاجك بالقول المنسوب لأشعياء: «والآن السيّد أرسلني وروحه». ثمّ يعقب على هذا النصّ: «لماذا أعقلت فيه؛ كالمدعوّ بعبد المسيح، أو تغافلتما عن أنّ روح الربّ هو الملاك الذي يكلّم الأنبياء، ويكون واسطة في إرسالهم؟ حتّى أنّ التوراة الرائجة تسمّيه الله والربّ؛ كما ذكرناه عن التوراة... في شأن الذي كلّم موسى، وظهر له وسار معه»[4].

فالشيخ في إضاءة مهمّة يشير إلى أمرين معاً: أحدهما: أنّ النصّ محلّ الاحتجاج يؤكّد على أنّ الروح هو مَنْ يحمل الرسالة من الله إلى الرسل، وليس روح الله نفسه؛ كما تصوّر المسيحيّة روح القدس؛ كجزء من الثالوث، بل هو مخلوق لله. أمّا الأمر الثاني؛ فهو أنّ الذي ظهر في التوراة هو

(97)

الملاك الذي تسمّيه التوراة الله هو ملاك. وهذه إضاءة مهمّة ومميّزة تزيل مفهوم التجسّد، وتمثّل خطوة متقدّمة في التوحيد، وتُبعد كلّ تجسيد عن الله.

وعلى العكس من القراءة المقابلة التي يمثّلها الخصم؛ فهي تسقط على النصّ معنى جاهزاً تبحث في النصّ عمّا ترغب أنْ تراه فيه، وليس النصّ بالفعل، فيصبح كلّ شيء يُسهم في تحقيق هذا الهدف هو المعنى الذي تريده ويصبح هو النجاح؛ بما في ذلك الحنث باليمين أو التزوير. وفي الوقت نفسه، والمنطق نفسه، فإنّ الحقائق تُصبح في العُرف المسيحيّ، غير ذات بال بل إنّها لا تستحقّ حتّى مُجرّد ذكرها على الإطلاق، أو تستحق التعتيم عليها أو إنكارها.

ولعلّ هذا ما يكشف عنه من خلال النقد الذي قدّمه الشيخ البلاغي؛ فهو يكشف عن التحريف، وسرقة النصوص، وإعادة توظيفها؛ كما مرّ بنا فيما سبق من نقاط؛ وهو أمر نجده في كثير من الدراسات النقديّة للفكر المسيحيّ أيضاً؛ إذ «هل يُمكن لأيّ شخص أنْ يثق في المُزورين وأنْ يستقي منهم التفسيرات الصحيحة للأمور التي بها اختلاف؟ تُرى من يُمكنه أنْ يثق فيهم أو يجرؤ على فعل ذلك؟ الإجابة هي: لا أحد!، سوى الكذّابين والمُخادعين»[1].

(98)

 

الخاتمة

لقد جاء الكتاب برؤية تعتمد أسلوب حجاجي يقارب الطابع الكلاميّ، حيث كان علماء هذا العلم يحاولون الدفاع عن العقيدة ضدّ المطاعن التي يتمّ توجيهها إلى الإسلام؛ قرآناً ونبيّاً. وهنا كثير من هذه المطاعن جاءت من أهل الكتاب، وأظهر علماء الإسلام مواقف معرفيّة في الكشف عنها وبيان تهافتها.

وضمن هذه الرؤية جاء منهج الشيخ البلاغي قائماً على البرهنة التي تكمن مهمّتها في تأسيس موقف، أو دحض آخر، وبيان نقاط الضعف والفساد في المباني التي ينطلق منها. وهذا يتطلّب منهجاً في تفكيك المنهج المعتمد من قِبَل الخصوم أصحاب الأطروحة المضادّة، وبالتالي الكشف عن نقاط الضعف والخلل، وبالضرورة البرهنة، ونقد ذلك الموقف.

وقد بيّنت هذه الدراسة أنّ الشيخ البلاغي قد اعتمد تحليل النصوص والمفاهيم، وبيان أوجه الضعف فيها، ومن ثمّ تقديم موقف بديل يقوم على مهارات جامعة، عبّر عنها نصّ الشيخ البلاغي في تعامله مع النصوص النقديّة وتحليل أفكارها وأصولها، والكشف عن أوجه التهافت فيها.

ولا شكّ أنّ الشيخ البلاغي مثقّف دينيّا نطلق في نقده من موقف عقديّ، إلى جانب مهاراته الثقافيّة والعقدية وإحاطته باللغات والروايات وعلوم الحديث والتحقيق، ما مكّنه من عرض النصوص الدينيّة وتحليلها ومقاربتها؛ من حيث السند والمتن، وبيان أوجه التناقض فيها.

وقد حاز هذا المثقّف الإسلاميّ على فضيلتي العلم والجهاد بالقلم، وأوقف حياته للدفاع عن الدين، وله مواقف مشهودة قبال المادّيّين والطبيعيّين وسائر المخالفين، وإلمام باللغات الأجنبيّة، فهو بهذا كان ينخرط بأحداث عصره ويقف منها موقفاً دفاعيّاً ناقداً جمع بين الردّ على النقود التي جاءت من الآخر الغربيّ (مسيحيّ، يهوديّ، وعلمانيّ) إلى جانب كونه انخرط في مواجهة الأخطار الداخليّة بظهور حركات داخليّة مثّلتها بعض الفرق والاتّجاهات؛ كالقاديانيّة، والبابيّة، والوهّابيّة، والإلحاديّة.

(99)

والعلامة البلاغي في مقاربة الآخر المختلف عقديّاً يعتمد العقل والمنهج، ويربط غايته بجعل العقول تذعن لما يطرح عليها، أو يزيد في درجة ذلك الإذعان؛ لأنّ أنجح الحجاج ما وفِّق في جعل حدة الإذعان تقوى درجتها لدى المتلّقي بشكل يبعثه على العمل المطلوب إنجازه أو الإمساك عنه، أو هو ما وفِّق على الأقلّ في جعل المتلقّي مهيّئاً لذلك العمل في اللحظة المناسبة.

وقد اعتمد العلامة البلاغي منهجا مقارناً، يقارن بين النصوص في العهد الجديد بتلك التي في العهد القديم؛ مبيناً أوجه التلاعب والتحريف؛ سواءً كان ذلك داخل التوراة، أم خارجها؛ فهناك النصوص الواضحة يستدلّ منها على أنّ الكتبة قد حرّفوا التوراة، وهناك العديد من الحوادث والشواهد التي تدلّ على تحريف التوراة، أو كانت التحريفات في أعمال الرسل، فأسهمت في تغيير نصوص توراتيّة وأسقطتها على المسيح؛ من أجل غاياتها اللاهوتيّة؛ ومنها: القول بالثالوث.

وانطلاقاً من تلك المقاربة النقديّة أكّد العلامة البلاغي أنّ التوراة الموجودة حاليّاً لا يمكن الاعتماد عليها؛ فهي ليست مخالفة بكلّيّتها لكلام موسى عليه‌السلام وشرائعه، بل لابدّ بحسب العادة أنْ يبقى أثر، وشيء من منقولات السلف للخلف عن محفوظات التوراة الحقيقيّة، ولكنّه يضيع بين الدخيل والمحرّف، ويلتبس الأمر. وقد استنتج الشيخ من تلك المسلّمة القائمة تحريف التوراة.

إنّ تلك القصص التوراتيّة تصوّر الله؛ وكأنّه جسم يتمشّى وله صوت ويختبئ عنه آدم... والأمر الثاني أنّها تقول: ذا آدم صار كواحد منّا في معرفة الحسن والقبح. فمن هم الجماعة الذين يعنيهم الله بقوله: (منّا)؟ فهل التوراة تعلّم بتعدّد الآلهة؟

ومن ثمّ يؤكّد الشيخ على أنّ اليهود كانوا يغيّرون كتابهم ويبدّلونه، لا عن جهل، بل عن عمد وضلال بعد ما فهموه حقّ الفهم، ويعرفون أنّهم محرّفون كاذبون على الله. وهذا حال سلفهم.

ويرصد شكلاً آخر من أشكال التلاعب والتحريف حدث عبر الترجمة، فيؤكّد في مجال بحثه وتحقيقه في العهد القديم على حدود التحريف والزيادة، وقد زادوا في التراجم (أي

(100)

الترجمة السبعينيّة) على أسفار التوراة الخمسة (ستّين) كلمة، طبعت هذه الزيادات في بعض الطبعات بحرف صغير إشارة إلى زيادتها على الأصل.

ثمّ إنّ الشيخ في سياق دراسته للوحي؛ بوصفه كلمة الله يلقيها إلى أنبيائه ورسله بسماع كلام الله، فطرق الوحي ثلاث بالنسبة للتوراة؛ هي: الكلام، والمظاهر الحسّيّة، أو بالطريقين معاً. وقد توقفنا في «المقدّمة الثانية»؛ إذ أشار الشيخ إلى أنّ غايته في تناول هذا الموضوع مرتبطة بالردّ على الشبهات التي أثيرت حول موضوع تدرّج نزول الوحي، بالقول: فكانت مدّة نزول الوحي في شريعة موسى بالتدريج والتعاقب من المدّة التي كان فيها يرعى غنم كاهن مدين في حوريب إلى أنْ توفّي في أرض موأب؛ ما يزيد على إحدى وأربعين سنة، على أنّه لم يعرف من التوراة الوقت الذي أوحي فيه سفر التكوين إلى موسى ومقتضى صراحة التوراة.

وانطلاقاً من الغاية الحجاجيّة جاء استعراض الشيخ للمدوّنة التوراتيّة ليدخل من خلال علمه ودراسته في تكوين النصوص، وما فيها من إسفار، فقد عرضنا سابقاً إلى كلام الشيخ البلاغي أنّها مكونة من 39 سفراً ومقسّمة إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل، التوراة؛ وهي الأسفار الخمسة (الخليقة، والخروج، اللاويّين، والعدد، والتثنية).

وأمّا القسم الثاني: فهو الأنبياء؛ وفيه (يوشع، القضاة، صموئيل الأوّل، صموئيل الثاني، وتاريخ الملوك الأوّل والثاني).

وأمّا القسم الثالث: فهو الكتابات والأشعار (ثلاثة عشر سفراً، وتقسّم على أنواع)، وهذه الأسفار قدّمت جملة من المعاني استثمرها الشيخ البلاغي في مضمار دفاعه؛ إذ بذل جهده في ردّ الشبهات نحو الإله الخالق وما لحقه من تشويه، وتجسيد على يد اليهود.

أمّا غاية الرسل فتكمن في الإنذار رحمة بالعباد؛ لأنّهم يبشّرون العباد بالرحمة والسعادة في الدنيا والآخرة، على الصعيد الفرديّ أو الجمعيّ. وقد حافظت التوراة في انتهاج أسلوب آخر

(101)

يقوم على التهديد والوعيد وتسليط الغضب الإلهيّ؛ إذ نجد التوراة تقدّم وصفاً لسلوك اليهود وخروجهم على الشريعة الإلهيّة؛ تحريفاً أو عبادة للأوثان.

وقد توقّف الشيخ البلاغي عند «المقدّمة الخامسة»: كيف ظهر لهم من موسى الداعي لهم إلى التوحيد معجزة العصا واليد البيضاء والعجائب في مصر، وبلّغهم أيضاً «لا تصنعوا لكم أوثاناً ولا تقيموا لكم تمثالاً منحوتاً...». وبعد هذا كلّه لم تمضِ سنة منه حتّى ارتدّوا عن عبادة الله؛ وقالوا لهارون لمّا أبطأ عليهم موسى في جبل سينا: «اصنع لنا آلهة تسير أمامنا»، فلمّا صنعوا العجل المسبوك من الذهب من حليّهم قالوا هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من مصر فسجدوا له.

أمّا في باب تحليل مفهوم الرسل، فيؤكّد أنّ أحدهما كون الرسول معصوماً في التبليغ غير متوهّم فيه، مع فرض رسالته، فقد اتّفق أهل الملل القائلون بالنبوّة والرسالة لوجه أوضحته لهم بداهة عقولهم، وليست حقيقته؛ إلا تحصيل الغرض من الرسالة، وقبح نقضه بإرسال الكاذب والمخطئ في التبليغ. وثانيهما، كونه معصوماً عن الذنوب، وارتكاب القبائح التي هي ضدّ ما يدعو إليه من شريعة الهدي والإصلاح.

وضمن هذا البعد؛ أي الدفاع عن النبي محمّد إزاء الهجمات الظالمة، يعدّ يوحنا الدمشقي (676-749م) أوّل من أعطى رأيًا مسيحيّاً في النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله، ففي كتابه الموسوم «ينبوع الحكمة» عدّ النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله نبيّاً كاذباً تأثّر بالهرطقة الآريوسيّة بعد لقائه بالراهب بحيرى واستعمل القرآن لتغطيّة آثامه. غير أنّ الصدامات اللاحقة مع المسلمين في الأندلس وفلسطين أدّت إلى ظهور تيّار مغالٍ في انتقاد الإسلام، واشتدّ هذا التيّار بعد حروب الأوروبيّين مع العثمانيّين؛ وبخاصّة لدى المصلحين البروتستانت.

وقد قام الشيخ البلاغي بمهمّة كبيرة في التصدّي لتلك الحملة الظالمة التي شنّها الآخرون، ولاسيّما في حقب (التبشير)؛ إذ كانت مهمّة كبيرة وصعبة، فالمنهج المتّبع أنّ الشيخ يعرض للفكرة عند الخصم، ثمّ يرد عليها؛ مبيّناً تهافتها من خلال النصوص الكتابيّة نفسها، وقد تمّ تقسيم الكتاب على أربعين نقطة لكلّ نقطة رقمها، والنصّ الذي يستعرضه الشيخ ويعقبه ردّ يطول، أو يكون مقتضباً أحياناً.

(102)

إنّ جمعيّة (كتاب الهدايّة المطبوع) بمعرفة المرسلين الأمريكيّين قد كثر افتراؤهم على
رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله، وأفحشوا في الجرأة. ويذكر الشيخ في بعض الفقرات بعض الافتراء الذي جاء مع هاشم العربيّ في الصفحة الحادية عشر من الطبعة الأولى في تذييله المستقلّ لتعريبه لمقالة «سايل» في الإسلام.

أمّا النقطة الثانية؛ فهي فيما يتعلّق بالقول بالتثليث، فإنّ الشيخ -هنا- في ردّه على الخصوم ممّن يجد في التثليث والتعدّد باباً للنصرة، وكأنّ الوحدة فقر وضعف؛ فإنّه يبيّن قصور هذا التصوّر وتهافته؛ فالواحد رمز للقوّة والتوحيد، وعلى العكس فإنّ التعدّد باب للضعف والبهتان.

(103)

 

المصادر والمراجع

 

1. القرآن الكريم.

2. العهد القديم.

3. العهد الجديد.

4. «الحرّيّة»، مجلة التقدّميّين العرب، على شبكة الإنترنت.

5. أبو العلا، وهبة طلعت: جذور إلحاديّة في مذاهب لاهوتيّة، ط2، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1997م.

6. أسد الغابة في معرفة الصحابة -زيد بن حارثة، نسخة محفوظة 20 ديسمبر 2016م، على موقع واي باك مشين.

7. أفلاطون (مطران موسكو): الخلاصة الشهيّة في أخص العقائد والتعاليم الأرثوذكسيّة، ترجمة: الخوري يوحنا حزبون، مطبعة لبنان 1957م.

8. آل محبوبة، جعفر: ماضي النجف وحاضرها، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع، ط2، بيروت، 2009.

9. أوغسطين: مدينة الله، ترجمة: الخور أسقف يوحنا الحلو، ط2، بيروت، دار المشرق، ج2، 2007م.

(104)

 

10. البلاغي، محمد: أربع رسائل، تصحيح وإعداد: محمد علي الحكيم، ط1، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، 1426ه/ 2005م.الحلي، الحسن بن يوسف المطهّر (العلامة الحلّي): مناهج اليقين في أصول الدين، تحقيق: محمد رضا الأنصاري، ط1، مطبعة ياران، 1416هـ.

11. البلاغي، محمد: العقود المفصّلة في المسائل المشكلة، تحقيق لمسائل فقهيّة متعدّدة، ضمن موسوعة العلامة الشيخ محمد جواد البلاغي، الجزء السابع (الرسائل الفقهية)، مجموعة من المحققين، مركز إحياء التراث الإسلامي، ط2، قم المقدسة، 1386.

12. البلاغي، محمد: الهدى إلى دين المصطفى، صيدا، مطبعة العرفان، 1331هـ.

13. البلاغي، محمد: أنوار الهدى؛ في الرد على المادّيّين، ضمن موسوعة العلامة الشيخ محمد جواد البلاغي، الجزء السادس، مجموعة من المحققين، مركز إحياء التراث الإسلامي، ط2، قم المقدسة، 1386.

14. البلاغي، محمد: رسالة في مواقيت الحجّ، بواسطة : الطهراني، آغا بزرگ: الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ط1،  منشورات دار الأضواء، بيروت، 1983، ج 23، ص 231.

15. البلاغي، محمد: كتاب التوحيد والتثليث، ضمن موسوعة العلامة الشيخ محمد جواد البلاغي، الجزء السادس (الرسائل الكلامية)، مجموعة من المحققين، مركز إحياء التراث الإسلامي، ط2، قم المقدسة، 1386.

16. البلاغي، محمد: الرحلة المدرسيّة، ضمن موسوعة العلامة الشيخ محمد جواد البلاغي، الجزء الخامس، مجموعة من المحققين، مركز إحياء التراث الإسلامي، ط2، قم المقدسة، 1386.

17. البلاغي، محمد: آلاء الرحمن البلاغي، محمد: الرحلة المدرسيّة، ضمن موسوعة العلامة

(105)

 

الشيخ محمد جواد البلاغي، الجزء الأول، مجموعة من المحققين، مركز إحياء التراث الإسلامي، ط2، قم المقدسة، 1386.

18. البلاغي، محمد: أعاجيب الأكاذيب، ضمن موسوعة العلامة الشيخ محمد جواد البلاغي، الجزء السادس (الرسائل الكلامية )، مجموعة من المحققين، مركز إحياء التراث الإسلامي، ط2، قم المقدسة، 1386.

19. الأمين، محسن: أعيان الشيعة، ج4، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، ص261.

20. الفارابي، ابو نصر، إحصاء العلوم، مركز الإنماء القومي، بيروت (د.ت).

21. بنمنصور، عادل: الرهبنة المسيحيّة والتصوّف الإسلاميّ، ط1، دمشق، دار صفحات، 2016م.

22. بوتيرو، جان: ولادة إله، ترجمة: جهاد الهواش، ط1، بيروت، دار الأمّة، 1999م.

23. ترجمة البلاغي على «مركز آل البيت العالميّ للمعلومات»، تاريخ النشر  يوليو 2014 على موقع واي باك مشين..

24. الجابري، محمد عابد: بنية العقل العربيّ، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت.

25. حرز الدين، محمد: معارف الرجال، المكتبة العامة لآية الله مرعشي، قم 1405.

26. حسن، جعفر هادي: فرقة الدونمه بين اليهوديّة والإسلام، ط3، مؤسسة الفجر، بيروت، 1988م.

27. الحسّون، محمّد: العلاّمة البلاغي رجل العلم والجهاد (1282-1352هـ)، ط1، منشورات الرافد، 2009م.

(106)

 

28. آل فرعون، المزهر،  لحقائق الناصعة في الثورة العراقيّة، مطبعة النجاح، بغداد، 1952.

29. حيدر، إبراهيم: «علم الكلام المعتزلة العقلانيّة»، على الرابط الآتي:

 http://maarefhekmiya.org

30. الخاقاني، علي: شعراء الغري، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، 1954..

31. خليفة، عبدو: معجم المجمع الفاتيكاني المسكوني الثاني، بيروت، المكتبة الشرقية، 1988م.

32. دوس، فرانسوا: التاريخ المفتّت من الحوليّات إلى التاريخ، ترجمة: محمد الطاهر المنصوري، ط1، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2009م.

33. أحمد بن حسين الجعفي المتنبي أبو الطيب، ديوان المتنبي، دار بيروت للطباعة والنشر، 1 مجلد، بيروت، (د، ت).

34. الزركلي، خير الدين: الأعلام، ط15، بيروت، دار العلم للملايين.

35. الزيدي، إياد مطلك: النزعة الروحية فى الكتاب المقدّس العهد الجديد قراءة من منظور إسلامي، ط1، بيت الحكمة، بغداد، 2013م.

36. السماوي، محمّد: الطليعة من شعراء الشيعة، بيروت، دار المؤرخ العربي.

37. الشبعان، علي: الحجاج والحقيقة وآفاق التأويل، ط1، بيروت، دار الكتاب الجديد، 2010م.

38. شيفر، بيتير: يسوع في التلمود، ترجمة: نبيل فياض، ط1، بيروت، المركز الأكاديمي للأبحاث، 2016م.

(107)

 

39. صولة، عبد الله: في نظريّة الحجاج: دراسات وتطبيقات، ط1، تونس، مسكيلياني للنشر، 2011م.

40. الطهراني، آغا بزرگ: الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ط1،  منشورات دار الأضواء، بيروت، 1983

41. عبد زيد، عامر: الإصلاح الدينيّ قراءة المفهوم في التجربة الغربيّة، ط1، النجف الأشرف، المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة التابع للعتبة العباسيّة المقدّسة، 2018 م.

42. عبد زيد، عامر: الخطاب التوراتي وتجليّات المقدّس، ط1، بيروت، دار ابن النديم، 2017م.

43. غرديه، لويس؛ قنواتي، وجورج: فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية، ترجمة: صبحي الصالح؛ فريد جبر، ط2، بيروت، دار العلم للملايين، ج2، 1979م.

44. غزال، نبيل: «نظرة العالم الغربيّ للنبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله».

45. فياض، نبيل: ملك صادق، http://www.nabilfayad.com

46. فيلهو، هارلي: مجموعة أبحاث («مفهوم ومواريث»، «العدو في ضوء عمليّة التوحيد والسياسة الأوروبيّة»، «صورة الآخر العربيّ ناظراً ومنظوراً إليه»)، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1999م.

47. القمني، سيّد: إسرائيل التوراة... التاريخ التضليل، القاهرة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 199م، لا ط.

48. القمي، عبّاس: الكنى والألقاب، ج1، مكتبة الصدر، طهران، (د.ت)، ص325.

(108)

 

49. كاشف الغطاء، علي: الحصون المنيعة في طبقات الشيعة، مطبعة الثقلين للطباعة، النجف الأشرف، 2016 (د.ط).

50. ماج، جارلس: المجتمع في العقل عناصر الفكر الاجتماعيّ، ترجمة: إحسان محمد الحسن، بغداد، دار الشؤون الثقافيّة العامّة،  1990م.

51. المازندراني، حسين: إيضاح المقصود، طبعة حجريّ

52. مجموعة من المؤلّفين، صورة محمّد في بعض نصوص الأدب اللاتينيّ من القرون الوسطى، ترجمة: هاشم فياض، ط1، بيروت، دار الرافدين، 2017م.

53. المدن، علي: تطوّر علم الكلام الإماميّ، ط1، بغداد، مركز دراسات فلسفة الدين، 2010م.

54. معتوق، فريدرك: المعرفة المجتمع والتاريخ، بيروت، جروس برس، 1991م.

55. المعموري، ناجح: أقنعة التوراة، ط1، عمان، الأهلية للنشر والتوزيع، 2002م.

56. المغربي، السموءل بن يحيى بن عباس: بذل المجهود في محاربة اليهود، تحقيق وتقديم: محمد أحمد الشامي، القاهرة، مكتبة الجهاد الكبرى، لا ت.

57. المقداد، قاسم: هندسة المعنى، دار السؤال للطباعة والنشر، ط1، دمشق، 1984.

58. الموسوعة الحرة (ويكيبيديا).

59. موسوعة العلامة الشيخ محمد جواد البلاغي، الأجزاء 8، مجموعة من المحققين، مركز إحياء التراث الإسلامي، ط2، قم المقدسة، 1386.

60. الموسوعة العربيّة المسيحيّة الإلكترونية www.albishara.org

(109)

 

61. موسوعة تاريخ الأديان، الكتاب الخامس، تحرير: فراس السواح، ط2، دمشق، دار علاء الدين، 2010م.

62. الميلاد، زكي: محنة المثقّف الدينيّ مع العصر، ط3، بيروت، المركز الإسلامي الثقافي، 2012م..

63. ناصف، علي النجدي: الجدل في القرآن الكريم، المصدر: كتاب: «مع القرآن الكريم في دراسة مستلهمة» الموقع الألوه، تاريخ النشر : 24/3/2008، الرابط : https://www.alukah.net.

64. النجف الأشرف إسهامات في الحضارة الإنسانيّة، أعمال الندوة العلميّة التي عقدها مركز كربلاء للبحوث والدراسات في لندن، من 17-18 تموز (يوليو) 1999م/ الموافق 4-5 ربيع الثاني 1420هـ، ط1، لندن، المركز الإسلاميّ، 2000م..

65. النصراوي، ثائر عباس: المناظرة العقائدية عند متكلّمي الإماميّة، ط1، بغداد، بيت الحكمة، 2018م.

66. النقديّ، جعفر: الروض النضير في شعراء القرن المتأخّر والأخير (كتابه المخطوط) نقلا عن: البلاغي، محمد: الهدى إلى دين المصطفى، ج1 صيدا، مطبعة العرفان، 1331هـ.

67. وسيلة المعاد في مناقب شيخنا الأُستاد؛ طبعة قديمة، وصفحاتها غير مرقمّة، نقلا عن: الشيخ محمّد الحسّون، المتبقّي من شعر العلامة البلاغي، م، تراثنا، العدد 71و 72.الرابط :

68. https://www.rafed.net

69. Christian Polemics against Mohammedanism.، Christian Classics

(110)

Ethereal Libraryنسخة محفوظة 04 مارس 2016 على موقع واي باك مشين.

70. http://alkalema.net/articl/taslis.htm.

71. http://formercopt.blogspot.com/2009/07/blog-post_1505.html

72.https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%AD%D9%8A%D8%A9

73. https://st-takla.org/books/helmy-lkommos/trinity/disciples.html.

74. http://formercopt.blogspot.com/2009/07/blog-post_1505.html

75.https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%AD%D9%8A%D8%A9

76. https://st-takla.org/books/helmy-lkommos/trinity/disciples.html.

(111)
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف