فهرس المحتويات

مقدمة المركز | 7

مقدّمة | 9

منهج الدراسة | 10

محاور الدراسة | 11

المبحث الأول: الدلالات المعجميّة والاصطلاحيّة للمفهوم | 13

أولاً : الدلالة اللغوية | 14

ثانياً ـ الدلالة الاصطلاحيّة | 19

المبحث الثاني: البحث التاريخيّ للمصطلح ومتابعة الجذور | 25

أولاً: الجذور التاريخيّة للمصطلح | 26

الطور الأول: المثاليّة في الديانة الفرعونيّة | 27

الطور الثاني: المثاليّة في الفكر الشرقيّ القديم | 28

الطور الثالث: المثاليّة في الفلسفة اليونانيّة | 30

الطور الرابع: المثاليّة في الفلسفة الإسلاميّة | 34

ثانياً: امتداد المصطلح وتجليّاته عبر التاريخفي الفلسفة الغربيّة | 38

المبحث الثالث: المثاليّة: مبادئها - أهدافها - أنواعها | 51

أولاً: مبادئ المثاليّة | 52

ثانياً: أهداف المثاليّة | 53

ثالثاً : أنواع المثاليّة | 57

ومن أبرز المذاهب المثاليّة النظريّة | 61

المبحث الرابع: المؤسّس للمصطلح وأهمّ المنظّرين له | 87

1 ـ جورج باركلي (1685 - 1753) | 88

2 ـ إيمانويل كانط (1724 ـ 1804) | 93

3 ـ جوهان فيشته (1762 ـ 1814م) | 96

4 ـ شيلنج | 100

5 - جورج فلهلم هيجل (1770 ـ 1831م) | 102

6 - آرثر شوبنهور(1788 ـ 1860م) | 104

7ـ توماس هـل جرين( 1836م) | 109

8 - ف.هـ. برادلي (1846 ـ 1924م) | 111

9 ـ هوسرل | 112

المبحث الخامس الأسباب والمناخ الذي أدّى إلى ظهور المصطلح | 115

الأول ـ الأسباب الثانويّة في ظهور المثاليّة | 116

الثاني ـ الأسباب الجوهريّة لظهور المثاليّة | 117

ثالثاً ـ ومن أهمّ هذه الأسباب طرح نظريّة أبستمولوجيّة | 121

رابعاًـ محاولة إرساء منظومة قيميّة تهتدي بها البشريّة | 123

أولاً ـ المثاليّة القيميّة ومبدأ السعادة | 127

ثانياً ـ المثاليّة القيميّة ومبدأ الواجب | 128

المبحث السادس: نقد وتحليل المصطلح | 135

أولاً ـ الرؤية التحليليّة | 136

ثانياً ـ الرؤية النقديّة | 138

ثانياً: المآخذ على المثاليّة الذاتيّة | 146

ثالثاً: المآخذ على المثاليّة النقديّة | 156

رابعاً : المآخذ على مثاليّة العمل | 162

خامساً: المآخذ على المثاليّة المطلقة | 162

المصادر والمراجع | 168

العتبة العباسية المقدسة المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية سلسلة مصطلحات معاصرة 19 المثالية مفهومها وأنواعها وفلاسفتها محمود كيشانه
هذه السلسلة تتغيا هذه السلسلة تحقيق الاهداف المعرفية التالية: أولا:الوعي بالمفاهيم واهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الانسانية وادراك مبانيها وغاياتها ، وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الافكار ، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الانظمة الفكرية المختلفة. ثانيا:إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالبا ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها.لا سيما وان كثيرا من الاشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقة. ثالثا:بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب،وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والاسلامية وخصوصا في الحقبة المعاصرة. رابعا:رفد المعاهد الجامعية ومراكز الابحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الاصطلاحية ، ومجال استخداماته العلمية،فضلا عن صلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية

الفهرس

مقدمة المركز7

مقدّمة9

منهج الدراسة10

محاور الدراسة11

المبحث الأول: الدلالات المعجميّة والاصطلاحيّة للمفهوم13

أولاً : الدلالة اللغوية14

ثانياً ـ الدلالة الاصطلاحيّة19

المبحث الثاني: البحث التاريخيّ للمصطلح ومتابعة الجذور25

أولاً: الجذور التاريخيّة للمصطلح26

الطور الأول: المثاليّة في الديانة الفرعونيّة27

الطور الثاني: المثاليّة في الفكر الشرقيّ القديم28

الطور الثالث: المثاليّة في الفلسفة اليونانيّة30

الطور الرابع: المثاليّة في الفلسفة الإسلاميّة34

ثانياً: امتداد المصطلح وتجليّاته عبر التاريخفي الفلسفة الغربيّة38

المبحث الثالث: المثاليّة: مبادئها - أهدافها - أنواعها51

أولاً: مبادئ المثاليّة52

ثانياً: أهداف المثاليّة53

ثالثاً : أنواع المثاليّة57

ومن أبرز المذاهب المثاليّة النظريّة61

المبحث الرابع: المؤسّس للمصطلح وأهمّ المنظّرين له87

1 ـ جورج باركلي (1685 - 1753)88

2 ـ إيمانويل كانط (1724 ـ 1804)93

(4)

الفهرس

3 ـ جوهان فيشته (1762 ـ 1814م)96

4 ـ شيلنج100

5 - جورج فلهلم هيجل (1770 ـ 1831م)102

6 - آرثر شوبنهور(1788 ـ 1860م)104

7ـ توماس هـل جرين( 1836م)109

8 - ف.هـ. برادلي (1846 ـ 1924م)111

9 ـ هوسرل112

المبحث الخامس الأسباب والمناخ الذي أدّى إلى ظهور المصطلح115

الأول ـ الأسباب الثانويّة في ظهور المثاليّة116

الثاني ـ الأسباب الجوهريّة لظهور المثاليّة117

أولاً ـ المثاليّة القيميّة ومبدأ السعادة127

ثانياً ـ المثاليّة القيميّة ومبدأ الواجب128

المبحث السادس: نقد وتحليل المصطلح135

أولاً ـ الرؤية التحليليّة136

ثانياً ـ الرؤية النقديّة138

ثانياً: المآخذ على المثاليّة الذاتيّة146

ثالثاً: المآخذ على المثاليّة النقديّة156

رابعاً : المآخذ على مثاليّة العمل162

خامساً: المآخذ على المثاليّة المطلقة162

المصادر والمراجع168

(5)
(6)

مقدمة المركز 

تدخل هذه السلسلة التي يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية في سياق منظومة معرفية يعكف المركز على تظهيرها، وتهدف إلى درس وتأصيل ونقد مفاهيم شكلت ولما تزل مرتكزات أساسية في فضاء التفكير المعاصر.

وسعياً إلى هذا الهدف وضعت الهيئة المشرفة خارطة برامجية شاملة للعناية بالمصطلحات والمفاهيم الأكثر حضوراً وتداولاً وتأثيراً في العلوم الإنسانية، ولا سيما في حقول الفلسفة، وعلم الإجتماع، والفكر السياسي، وفلسفة الدين والاقتصاد وتاريخ الحضارات.

أما الغاية من هذا المشروع المعرفي فيمكن إجمالها على النحوالتالي:

أولاً: الوعي بالمفاهيم وأهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها، وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الأفكار، والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الأنظمة الفكرية المختلفة.

ثانياً: إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالباً ما تستعمل في غير موضعها أويجري تفسيرها على خلاف المراد منها. لا سيما وأن كثيراً من الإشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية.

ثالثاً: بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب، وما يترتب على هذا التوظيف من آثار

(7)

سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات العربية والإسلامية وخصوصاً في الحقبة المعاصرة.

رابعاً: رفد المعاهد الجامعية ومراكز الأبحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الإصطلاحية، ومجال استخداماته العلمية، فضلاً عن صِلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. وانطلاقاً من البعد العلمي والمنهجي والتحكيمي لهذا المشروع فقد حرص لامركز على أن يشارك في إنجازه نخبة من كبار الأكاديميين والباحثين والمفكرين من العالمين العربي والإسلامي.

 ***

تحاول الدراسة الإجابة على مجموعة من الإشكاليّات والتساؤلات عن مصطلح المثاليّة ومراحل تطوّره والمدارس الفلسفيّة التي أظهرت العديد من الجهود والأفكار التي ساهمت في بنائه، ومن هذه الإشكاليّات:

ما معنى المثاليّة لغة واصطلاحاً؟ وهل هناك فرق بين المعنى هنا والمعنى هناك؟

هل المثاليّة نوع واحد؟ أم هي مجموعة متعدّدة من الأنواع؟ وهل هي مختلفة فيما بينها من حيث الجوهر أم من حيث الظاهر؟ وإذا كانت متعدّدة فما أنواعها؟

من المنظّرين الذين تناولوا مصطلح المثاليّة بالدراسة والتحليل؟ وما إسهام كلّ منهم في هذا الشأن؟

من خلال البحث التاريخيّ ومتابعة جذور المصطلح كيف نحكم عليه وعليها؟ أي عليه كمصطلح وعليها كجذور؟

والله ولي التوفيق

(8)

المقدمة

يعد مصطلح المثاليّة واحداً من المصطلحات التي يدور حولها نقاش كبير داخل الأوساط الفكريّة عامّة والفلسفيّة خاصّة، ذلك أنّ المثاليّة ترتبط عند الكثيرين  بالجوانب الروحيّة، والاتّجاهات غير الواقعيّة من جهة أخرى، كذلك لأنّها تستحوذ على الدراسات الفلسفيّة منذ زمن بعيد، على اعتبار أنّ الفيلسوف معني في المقام الأوّل بالبحث عن العلل البعيدة، والعلل البعيدة حتماً تقوده إلى حلول مثاليّة لإشكاليّات عويصة يجدها على أرض الواقع، ومن ثمّ فإنّ تتبّع مصطلح المثاليّة أمر في غاية الأهميّة؛ ذلك أنّ الفكر المثاليّ ليس خيالاً كما يحاول بعضهم أنّ يوهم بذلك، وإنّما المثاليّة محاولة على طريق تصحيح الواقع والوصول به للأفضل، أنّ الفلسفة المثاليّة تستند بالأساس إلى الإعلاء من قيمة العقل والروح على حساب المادّة.

تبدو أهميّة دراسة الموضوع موضوع المثاليّة من خلال مجموعة من النقاط نوجزها في الآتي:

أ ـ هذا الموضوع موضع اهتمام من دوائر الفكر الغربيّ والعربيّ خاصّة في مجال الفلسفة، فالمفكّرون في الفلسفة الغربيّة يهتمّون اهتماماً كبيراً بقضيّة المثاليّة، ومراحل تطوّرها من أفلاطون إلى كانط ومَنْ بعده من المثاليّين، ولم تنفكّ الفلسفة العربيّة المعاصرة من الاهتمام أيضًا بهذا الشأن، وإن كان قليلاً.

(9)

ب ـ تهدف الدراسة إلى بيان مصطلح المثاليّة كما آلت إليه في الفلسفة الغربيّة، والاختلافات الكبيرة بين المثاليّين بشأنه.

ج ـ تأثير الفلسفة المثاليّة الكبير في مجرى الدراسات الفلسفيّة أنّ شرقاً، وإن غرباً، نتيجة المكانة البارزة التي احتلّتها على مدار العصور الفكريّة والفلسفيّة المختلفة.

د ـ كون موضوع المثاليّة من الموضوعات المهمّة التي تحتاج إلى العديد من الجهود العربيّة للمساهمة فيها بنصيب يذكر.

هـ - كشف المسالك التي مرّ بها المصطلح عبر تاريخ نشأته، والمسالك التي سلكها حتّى وصوله إلى تعريف له في الفلسفة المعاصرة.

و ـ هذه الدراسة تحاول أنّ تتجاوز مرحلة تحديد المشكلة ووصفها، إلى مرحلة طرح أوجه النقد التي يمكن أنّ توجّه لهذا المصطلح عبر البيئات الحاضنة له؛ لأنّ النقد له دور مهمّ في بيان المصطلح.

منهج الدراسة

تقوم هذه الدراسة على مجموعة من المناهج فهي أولاً تعتمد على المنهج الوصفيّ؛ بغية الكشف عن تاريخ الفكرة فكرة المثاليّة، ومراحل تطوّرها على يد أشهر فلاسفتها، وتقوم ثانياً على المنهج التحليليّ الذي يهدف إلى تحليل مصطلح المثاليّة، وتحديد مفهومه والمبادئ الرئيسة التي يقوم عليها وأنواع المثاليّة، وتعتمد ثالثاً على

(10)

المنهج النقديّ، ويظهر ذلك جليّاً في المبحث الأخير، وتقوم رابعاً على المنهج المقارن الذي نقوم من خلاله بالمقارنة بين الفكرة الواحدة عند مختلف التيارات المثاليّة، مع العرض لها بالتحليل والنقد.

ما الأسباب التي أدّت إلى ظهور المصطلح؟ وما المناخ الذي قام بإفرازه وبلورته؟

ما امتدادات المصطلح وتجليّاته عبر التاريخ؟

ما أوجه النقد التي يمكن أن تقدّم لمصطلح المثاليّة، وللمثاليّة عامّة باعتبارها اتّجاهاً قويّاً في الفكر الفلسفيّ عبر تاريخه؟

محاور الدراسة

ومن ثمّ فنحن سوف نتناول المثاليّة من حيث مجموعة من المحاور المنبثقة من الأهداف والإشكاليّات على حدّ سواء، وهذه المحاور على النحو التالي:

أولاً: الدلالات المعجميّة والاصطلاحيّة للمفهوم.

ثانياً: البحث التاريخيّ للمصطلح ومتابعة الجذور.

ثالثاً: المثاليّة، مبادئها، أهدافها، أنواعها.

رابعاً: المؤسّس للمصطلح وأهمّ المنظّرين له.

خامساً: الأسباب والمناخ اللذان أدّيا الى ظهور المصطلح.

سادساً: نقد المصطلح وتحليله.

(11)
(12)

 

 

 

 

 

 

المبحث الأول

الدلالات المعجميّة

والاصطلاحيّة للمفهوم

(13)

أولاً : الدلالة اللغوية:

أ ـ في المعاجم العربيّة:

ففي معجم اللغة العربيّة المعاصرة[1]:

مثالي: اسم منسوب إلى مثال: وصف لكل ما هو كامل في مجاله، ويقتدي به خلق أو زوج.

ويقال سلوك مثال، والأم المثالية، والطالب المثالي، من يتخذ لنفسه مثلاً أعلى يتبعه في حياته.

المثاليّة: اسم مؤنث منسوب إلى مثال.

مصدر صناعي من مثال.

والمثاليّة في الفلسفة والتصوّف مذهب فلسفي ينكر حقيقة ذاتيّة الأشياء، المتميّزة من (أنا)، ولا يقبل منها إلّا الفكر، وهو مذهب يقابل الواقعيّة.

والمثاليّة: الميل نحو المثال والبحث عنه، في سلوكه مثاليّة واضحة تبعده عن الواقع والتكيّف معه.

وفي المعجم الوسيط [2]:

مصدر صناعي، في الفلسفة مذهب فلسفيّ يجعل الفكر خاضعاً لتصوّر ذهنيّ وحقيقة عليا فوق كل ما هو موضوعيّ وماديّ، في الفنّ والأدب هو تمثّل الأشياء نماذج ترمز إلى قوّة جوهرها في الأخلاق،

(14)

الدعوة إلى الكمال الإنساني، وجعل الإنسان غاية أخلاقيّة نموذجيّة.

وفي معجم الرائد [1]:

المثاليّة: مبدأ في الحياة، ونهج ينخذ الحقائق السامية مثلاً يستهدى به، ويبتعدان بالإنسان عما يشدّ به إلى الأرضيّات.

والمتأمّل في هذه المعاني يجد أنّها لا تخرج عن الآتي:

أولاً ـ المعنى الأول، تعني المثاليّة فيه الكمال، أي كمال الشيء وتمامه، وهذا المعنى هو المعنى الغالب في الجانب اللغويّ لاستخدام المصطلح.

ثانياً ـ المعنى الثاني، تعني المثاليّة الخروج على الشائع أو المألوف، بطريقة إيجابيّة مميّزة.

ثالثاً ـ المعنى الثالث، تعني المثاليّة فيه القدوة والأسوة التى يمكن الاقتداء بها في مختلف المجالات.

رابعاً ـ المعنى الرابع حاولت فيه المعاجم العربيّة الحديثة أنّ تطرح مصطلح المثاليّة كما انتهى إليه بعض مستخدميه من الفلاسفة والمفكّرين، كما رأينا في المعاجم السابقة.

ب ـ في المعاجم الغربيّة:

تنطلق المعاجم الغربيّة في مصطلح المثاليّة من عدة معان، منها: المثاليّ يعني التخيّلي، التصوّري، القدوة، المثاليّ، المثال، الوهمي.

ومن معاني المثالي ما يأتي[2]:

(15)

Ideal مثالي

Ideal أمثل، تصوري

Ideal شخص مثالي، مثل أعلى

Ideal المثل الأعلى

Ideal مثل

Ideal Adhesive لواصق مثاليّة

Ideal angle الملاك المثاليّ

Idealarticulation الوضوح المثاليّ لمخارج الأصوات

Ideal articulation الوضوح المثاليّ

Ideal choice الاختيار الأمثل

Ideal competence الكفاية المثاليّة

Ideal conditions ظروف مثاليّة

Ideal curriculum المنهج المثاليّ

Ideal cycle دورة مثاليّة

Ideal democracy ديمقراطيّة نموذجيّة

Ideal efficiency الكفاءة المثاليّة، إنتاجيّة مثليّ، كفاية مُثلى

Ideal efficiency الكفاية المثاليّة

Ideal ego الأنا المثاليّ

Ideal ego الأنا المثاليّة

(16)

Ideal fluid مائع مثاليّ

Ideal flux مسيل مثاليّ (أسنان)

Ideal Gas غاز مثاليّ

The Ideal Diplomatist الدبلوماسيّ المثاليّ

Beau Ideal المثل الأعلى في الكمال أو الجمال

Educational Ideal نموذج تربويّ

والمتأمّل في هذه المعاني الموجودة في المعاجم الغربيّة يجد أنّها لا تخرج عن الآتي:

أوّلاً ـ المعنى الأوّل، تعني المثاليّة فيه الكمال على نحو ما أظهرت لنا المعاجم العربيّة، أي كمال الشيء وتمامه، وهذا المعنى هو المعنى الغالب في الجانب اللغويّ لاستخدام المصطلح أيضاً.

ثانياً ـ المعنى الثاني، تعني المثاليّة فيه الخروج على الشائع أو المألوف، بطريقة إيجابيّة مميّزة، وهو المعنى الذي جاءت به أيضاً المعاجم العربيّة.

ثالثاً ـ المعنى الثالث، فالمثاليّ هو الشخص القدوة الذي يقتدي به الجميع متأثّرين به، ومقتفين أثره.

رابعاً ـ المعنى الرابع، يعني الوهم، بما أنّ المثاليّة قد تنطوي على معنى قد يكون سلبياً كما أنّه من الممكن أنّ يكون إيجابياً، فالمعنى فلسفياً يستخدم على الناحية الإيجابيّة، أمّا من ناحية الاستخدام اللغويّ، وكذلك الاستخدام الحياتيّ يحمل معنى سلبياً.

خامساً ـ المعنى الخامس، يعني التخيُّلي، فالمثاليّ يتخيّل دائماً الأفضل، ولذا كانت المثاليّة دوماً هي البحث فيما ينبغي أن يكون.

(17)

ويعدّ التخيّل الأرض الخصبة التي تنطلق منها المثاليّة، فهو الأساس الذي لا قيام للمثاليّة بدونه.

بيد أنّ المعنى اللغويّ للمثاليّة سواء في البيئة العربيّة من خلال المعاجم العربيّة أو البيئة الغربيّة من خلال المعاجم الغربيّة، لا يعني أنّه وصل إلى مرحلة المعنى الاصطلاحيّ، فالمعنى الأوّل وقف عند حدود تعريف اللفظ لغويّاً، بيد أنّ المعنى الاصطلاحيّ يقف على حدود المفهوم من جميع الجوانب، ومن خلال فهم البيئة الثقافيّة التي نشأ فيها، ومن خلال ذلك وصل إلى المعنى الذي انتهى إليه المفكّرون المثاليّون في جانبه الاصطلاحيّ.

ومن ثمّ فليس لنا أنّ نقول أنّ المعنى اللغويّ هو المعنى الاصطلاحيّ، فتلك مجافاة للحقيقة، كما أنّه ليس لنا أنّ نقول أنّ المعنى الاصطلاحيّ منقطع الصلة تماماً عن المعنى اللغويّ، فالمعنى الاصطلاحيّ يستخدم اللغة في التعبير عن مكنوناته والكشف عمّا يحتوي عليه من مضامين، ومن ثمّ فإنّ للمعنى على المستوى الاصطلاحيّ أفضليّة؛ لكونه لا يقف عند حدود اللفظ كما نرى في المعنى المعجميّ اللغويّ، فهو لا يعالج المعنى على المستوى اللفظيّ لفظة لفظة، وإنّما يعالج المعنى على المستوى الفكريّ، فالمعنى اللغويّ ينطلق من اللفظ، في حين ينطلق المعنى الاصطلاحيّ من الفكر، وهذا هو الفارق الجوهريّ الذي يعطي للمعنى الاصطلاحيّ أهميّته.

     فالمعنى اللغويّ للمثاليّة نبدأ به للاستئناس ليس إلّا، وعليه فإنّ البدء به لا يعني أنّه يغنينا عن المعنى الاصطلاحيّ، أو أنّه يضاهيه؛ لأنّه ليس هذا ولا ذلك، وإنّما مجرّد إيراده لا يعني شيئاً

(18)

أكثر من الاستئناس به ليس إلّا، باعتباره مدخلاً لمعنى اصطلاحي ذي دلالات خاصّة وحسب. فالمعنى الاصطلاحيّ للمثاليّة لا ينحصر في مسار المعنى اللغويّ، وإنّما يفوق المعنى اللغويّ بمراحل؛ فهو خلاصة فكر وتأمّل وإعمال عقل.

إنّ إيراد المعنى اللغويّ للمثاليّة هنا يؤكّد الفوارق الجوهريّة بينه وبين المعنى الاصطلاحيّ، وسوف يتأكد ذلك أكثر فأكثر من خلال التطرّق إلى المعنى الأخير في السطور التالية.

ومن المهمّ تأكيد أنّه إذا كانت المعاجم القديمة سواء أكانت معاجم عربيّة أم معاجم أجنبيّة قد وقفت عند حدود المعنى اللغويّ، فإن المعاجم اللغويّة الحديثة اهتمّت بإيراد المعنى الاصطلاحيّ، وهذا ما وجدناه في بعض المعاجم العربيّة الحديثة، وذلك أنّ دلّ على شيء فإنما يدل على شيوع المصطلح وأهميّته، وأهمّيّة الدلالات الجديدة التي يحملها، والتي كان يفتقدها المعنى اللغويّ، وهذا دليل على الفارق بين المعنيين.

 

ثانياً ـ الدلالة الاصطلاحيّة:

ينظر الناس العاديّون إلى المثاليّة نظرة تختلف عن تلك النظرة الفلسفيّة لها، فضلاً عن أنّ تلك النظرة تكون قائمة على الربط بين ما هو مثاليّ وما هو واقعيّ، فإذا سألنا إنساناً ما عن تعريف المثاليّة لديه لوجدناه يذهب إلى أنّها الوصول إلى درجة الإجادة والاتقان فكراً وعملاً، وهو بذلك يرسم للمثاليّ صورة في عقله قوامها الكمال في كلّ شيء، فالمثاليّ عند العامّة هو الرجل الكامل

(19)

الذي يسعى إلى النموذج الأخلاقيّ  والمثل العليا، في حيت تختلف نظرتهم للواقعيّة، فالواقعيّة عندهم هي التماس خطا الواقع في الفكر والعمل، والبحث عن الأمور الواقعيّة الممكنة بعيداً عن الفرضيّات البعيدة التي يفترضها المثاليّ، ومن ثمّ كان الواقعيّ عند العامّة هو الرجل الذي يتشبّث بالواقع منطلقاً منه إلى وضع حلول واقعيّة وممكنة للإشكاليّات التي تحيط بواقعه المعيش. “ فقد تعود الناس في عموميّتهم على استهجان هذه الفلسفة ـ يقصد المثاليّة ـ وهذا النوع من التفكير؛ بحجّة أنّه ضرب من ضروب الخيال، وكأنّه الطريق الذي لا يؤدّي إلى أيّ مكان، وأنّه مضيعة للوقت بعيداً عن الواقع، وقد جاء هذا الرأي المجانب للصواب، بسبب النظر إلى الفكر المثاليّ على أنّه انفصال عن الواقع ونقيض له، في حين أنّه في حقيقته تصويب للواقع المشوّه كما تقدّمه لنا شهادة الحسّ الخدّاعة، وضرورات الحياة المتسارعة التي لا تعبأ بالدقّة وصواب الأمور، ما دامت تسدّ الرمق وتدفع بعجلة الحياة».[1]

أمّا الفلاسفة فينظرون لمدلول مصطلح المثاليّة نظرة مختلفة تختلف عن تلك النظرة التي يتّخذها العامّة، فالمثاليّة عندهم اتّجاهان أو مذهبان[2]: الاتّجاه أو المذهب الأوّل قديم، وهو المذهب الأفلاطونيّ الذي انبعث على يد سقراط أبي الفلسفة القديمة، وثبتت دعائمه على يد تلميذه أفلاطون، ويرى هذا المذهب أنّ الأفكار والمعقولات أو المثل موجودة وجوداً هو أسمى من

(20)

الوجود المحسوس؛ لأنّها هي المبادئ الأصيلة النموذجيّة للأشياء. أمّا الاتّجاه أو المذهب الثاني فهو حديث، وهو المذهب الكانطيّ الذي مهدّ له أبو الفلسفة الحديثة ديكارت في المبدأ الذي أرساه المسمّي الكوجيتو (أنا أفكّر إذن أنا موجود)، وأبرزه باركلي في تقريره أنّ الوجود هو كون الشيء مدركاً، ثمّ شيّده كانط بناءً شامخاً على أساس من نقد العقل في جوانب ثلاثة: النظر والعمل والذوق، ويرى هذا المذهب أنّ الأشياء أو الموضوعات ليست إلّا انطباعات حسّيّة أو أفكاراً لا يمكن أنّ تتحقّق في الوجود إلّا على نحو ما، باعتبارها تمثّلات ذهنيّة، والأشياء ليست موجود بذاتها وجوداً مستقلاًعن القوّة العاقلة التي تدركها، حيث أنّ وجودها مستفاد من هذه القوّة ذاتها.

فالمثاليّة عند أفلاطون تعني أنّ العالم في حقيقته مجموعة من الأفكار والصور العقليّة، وأنّ المعرفة مصدرها العقل، وهذا العالم الحقيقيّ العقليّ يعد نموذجاً للعالم المادّيّ، وكلّ فكرة فيه تعدّ مقابلة لموجود ما جزئيّ في العالم المحسوس الظاهر، فالعالم العقليّ هو الحقيقيّ، والعالم المحسوس عالم الظلال غير الحقيقيّ كما بيَن في أسطورة الكهف[1].

أمّا المثاليّة عند باركلي فهي تلك التي تعتمد على العقل في الإدراك، والربط بين إدراك العقل ووجود الشيء، فما يدركه العقل فهو موجود وحقيقيّ، وما لا يدركه العقل فهو عدم غير موجود، مستنداً في ذلك إلى فكرته عن إنكار المادّة، في نظريّته الشهيرة عن

(21)

اللاماديّة[1].أمّا المثاليّة عند كانط فهي تقوم بالأساس على الربط بين المقولات العقليّة والمعرفة؛ إذ أنّ هذه المقولات شرط ضروريّ للبناء المعرفيّ، كما تقوم على تأسيس البناء الأخلاقيّ  على مبدأ الواجب والإرادة الطيبة[2].

بينما نجد المثاليّة عند فيشته تربط العقل بالمطلق؛ حيث ذهب فيشته إلى أنّ الأنا عبارة عن المطلق الحقيقيّ، وهذا الأنا المطلق له القدرة في أنّ يقيّم ذاته، ثمّ يوزّعها أو يقوم بتقسيمها، ليعمل عمليّة مقابلة بين ذاتين: ذات وذات، أي ذات وغير ذات، لكن هل هذا الأنا له درجة الجوهر الإلهيّ عند فيشته؟ المتأمّل في فكر فيشته يجده يرفض رفضاً قاطعاً أن يرتفع بالأنا الإنسانيّ النسبيّ إلى درجة الجوهر الإلهيّ[3].

وبالنظر إلى شيلنج نجد أنّ مفهوم المثاليّة عنده هو إحياء العناصر الواقعيّة من خلال إحداث نوع من الوئام بين الطبيعة والمثاليّة، فالطبيعة تنتج المثاليّة من خلال روحنة قوانين الطبيعة، فتخلع الصوريّ على الماديّ، والمثاليّة تضفي الجانب المادّيّ على قوانين العقل، فتجعل المادّيّ صوريّاً.[4]

(22)

في حين أنّ مفهوم المثاليّة عند هيجل ينطلق من أنّ الروح المطلق هو حقيقة هذا الكون، ويجري التعبير عنه في الوجود المشاهد. وقد نظر هيجل للعلاقة بين العقل والمطلق، نظرة فيها الكثيرمن المثاليّة، وتقوم على أساس الاعتقاد بأنّ هناك عقلاً مطلقاً، أو عقلاً إلهيّاً موجوداً في الطبيعة، بما يعني أنّ الطبيعة عنده هي المطلق، والفكر صورة أو مظهر لهذا المطلق، وتعد هذه المثاليّة ردّاً على مثاليّة باركلي الذاتيّة التي تقوم على ربط الوجود بشرطيّة إدراكه.[1]

إنّ المثاليّة لا شكّ تمثّل مذهباً له أركانه وأصوله، وهي مذهب فلسفيّ يضطلع بنصيب كبير من الاتّجاه الميتافيزيقيّ اتّجاه ما بعد الطبيعة، أي الاتّجاه الذي يمثّل الأمور الغيبيّة. والفلسفة المثاليّة مذهب عقليّ كليّ، يرى أنّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين الوجود والفكر، فإذا لم يكن هذا الوجود ناتجاً من نواتج الفكر، فإنّه على أقل تقدير مرتبط به، والمثاليّة عدّة مذاهب منها التقليديّ ومنها المتطرّف ومنها ما يقبل التطبيق في بعض جزئيّاته، بيد أنّها في النهاية تنضوي تحت راية الفكر المثاليّ أو الفلسفة المثاليّة. ومن المذاهب التقليديّة مذهب أفلاطون المثاليّ، الذي قسّم العالم قسمين: عالم الحسّ وعالم المثل، والثاني أعلى درجة من الأوّل، ومن المذاهب المتطرّفة مذهب باركلي المثاليّ، الذي رفض أيّ وجود خارج الذات، ولذا سميت مثاليّته المثاليّة الذاتيّة أو اللاماديّة، ومن المذاهب التي تقبل

(23)

التطبيق في بعض جزئيّاتها مذهب كانط المثاليّ،الذي جعل عالم الحسّ وعالم الفكر شريكين في البناء المعرفيّ. فالمثاليّة إذن تيّار فلسفيّ يضمّ تحت جنباته مجموعة كبيرة من التيّارات الميتافيزيقيّة، التي تنصبّ على ما بعد الطبيعة أو عالم الغيب، وهي اتّجاه فلسفيّ يبحث عن مسألة الوجود أي الذي يبحث أنطولوجيا، وهي عكس العقلانيّة التي تعد تياراً مناقضاً هدفه البحث في أصل المعرفة، مؤكّداً العقل وحده، رافضاً أيّ دور لأنواع المعرفة الأخرى: المعرفة الحسّيّة أو المعرفة القلبيّة أو المعرفة عن طريق الوحي، وعكس العقلانيّة التجريبيّة، وهذه الأخيرة تعتمد على التجربة الحسّيّة وحدها من دون العقل المجرّد. والمثاليّة من هذا المنطلق على طرفي نقيض مع الماديّة، فهي تهتمّ بالروح على حساب المادّة، في حين تنظر الماديّة للمادّة على أنّها الأساس الذي يستحوذ على كلّ اهتمامها، وليست الروح إلّا تابعة للمادّة أو انعكاساً لها، وتقوم المثاليّة بالأساس على ثلاثة من المباحث الفلسفيّة: الحقّ والخير والجمال. إلّا أنّ المثاليّة ليست مصطلحاً مُجمعاً عليه من ناحية مدلوله، وهناك العديد من المدلولات التي صاحبت المصطلح في بيئات مختلفة يونانيّة وإسلاميّة وغربيّة، وكلّ بيئة كان يفهم من معالجتها أنّها تنظر للمثاليّة نظرة تختلف عن نظيرتها، ربّما لاعتبارات فكريّة أيديولوجيّة، وربّما نتيجة اختلاف الهدف والغاية، وربّما يكون نتيجة اختلاف المنهج المستخدم في هذه المعالجة.

(24)

 

 

 

 

 

 

المبحث الثاني

البحث التاريخيّ للمصطلح

ومتابعة الجذور

(25)

لا شكّ في أنّ البحث التاريخيّ عن المصطلح يكشف لنا عن مجموعة من الجذور الفكريّة والعقديّة له، فالمثاليّة ترتبط بالحقيقة الأبديّة عند المثاليّين، وهذه الحقيقة لا ترتبط عندهم إلّا بالروح، بيد أنّ الأخيرة غير قادرة على إدراك ذاتها إلّا من خلال ارتباطها بالجسد كعنصر مادّيّ، وهذا عين ما أشار إليه هيجل من قبل.

ومن ثمّ فإنّ المثاليّة تؤسّس لمقولة: أنّ الروح هي التي تقود، بل هي الفاعل الذي يعدّ مؤهّلاً بالإرادة والاختيار.


أولاً: الجذور التاريخيّة للمصطلح:

ويمكن من خلال البحث التاريخيّ للمصطلح ومتابعة جذوره أنّ نقف على بعض المحطّات التي كان لها الدور الأكبر في التعاطي مع هذا المصطلح، وهي على النحو التالي:

يرى نفر من الباحثين أنّ المثاليّة تعدّ فلسفة قديمة قدم التفكير الدينيّ، وهي مصدره أنّ لم تكن نابعة منه، «وقد استخدم مصطلح المثاليّة Idealisme لأوّل مرّة في القرن السابع عشر، عن طريق الفيلسوف الألماني ليبنتز Leibniz عندما أطلقه على فلسفة أفلاطون تمييزاً لها عن الفلسفة الماديّة، لكن المثاليّة فلسفة قديمة. .. قدم التفكير الدينيّ عند الإنسان»[1]

ويمكن القول أنّ المثاليّة مرّت بالعديد من الأطوار عبر تاريخ الفكر الفلسفيّ الإنسانيّ، يمكن أنّ نحصر هذه الأطوار في الآتي:

(26)

الطور الأول: المثاليّة في الديانة الفرعونيّة:

يمكن القول أنّ نشأة الفلسفة المثاليّة ترجع إلى ديانة المصريّين القدماء، عند نفر من الباحثين، استناداً إلى أنّ الفلسفة المثاليّة تقوم على فكرة الكليّة العقليّة، أي أنّ العقل الكلّيّ هومنشأ الوجود والمعرفة، فمنه نشأ كلّ شيء وإليه يعود، ومن مظاهر الارتباط الوثيق بين المثاليّة والديانة المصريّة القديمة: عدم الاهتمام بالجزئيّات؛ لأنّها لا تمثّل الحقيقة، والإيمان بفكرة الإله الذي نشأ منه كلّ شيء، وأنّ الحياة فرصة لاكتساب الفضيلة.[1] ربّما كانت فكرة الديانة المصريّة القديمة القائمة على أنّ الحياة الدنيويّة التي نحن عليها مجرّد وسيلة حياة أخرى تتّسم بالخلود أحد المظاهر المثاليّة في الفكر المصريّ القديم، فضلاً عن أفكار أخرى من نحو: فكرة الإله الذي نشأ عنه كلّ شيء، وفكرة الحياة باعتبارها وسيلة للترقّي الأخرويّ، وفكرة خلود النفس وأنّ خلودها في النعيم مرتبط بالجوانب السلوكيّة والأخلاقيّة، وفكرة الاهتمام بالجانب الروحيّ على الجانب المادّيّ، إلى غير ذلك من الأفكار التي تعدّ أساساً على طريق المثاليّة.

ولكن هل يمكن القول أنّ المثاليّة الفرعونيّة اتّجهت بالعقل البشريّ صوب الفلسفة المثاليّة؟ يمكن القول أنّ المثاليّة الفرعونيّة تكشف عن بوادر مثاليّة كان لها كيانها وحظوظها الفكريّة، فهذه المثاليّة قامت على فكرة ثنائيّة الروح والبدن، فأدركت بذلك طبيعة الإنسان؛ لأنّها كانت تدرك وجود عالمين: عالم مادّيّ محسوس وعالم روحيّ، الأوّل منهما فاسد فانٍ، والثاني خالد، وهذه الفكرة

(27)

المثاليّة ترتبط بفكرة أخرى تطرق باب الفلسفة المثاليّة بقوّة، وهي فكرة البعث، بما تشمله من فكرة الثواب والعقاب والجنّة والنار والحسنات والسيّئات. إلّا أنّ المثاليّة الفرعونيّة مع ذلك لم تستطع أنّ تقيم نظريّة فلسفيّة مثاليّة لها أصول ومبادئها بالصورة التي كانت عليها المثاليّات الفلسفيّة المعروفة.

 

الطور الثاني: المثاليّة في الفكر الشرقيّ القديم

والمثاليّة في الفكر الشرقيّ القديم مثاليّة خلقيّة بامتياز، وخير من يمثّل هذه المثاليّة الخلقيّة هو كونفوشيوس، فالإنسان المثاليّ عنده هو ذلك الإنسان الذي يلتزم بالصلاح، ولا يخشى أنّ يكون فقيراً، لكنّه يخشى إلّا يكون مثاليّاً يصل إلى الحقيقة التي ينشدها، لكن لكي ننشئ هذا الإنسان على هذه الوجهة المثاليّة لا بدّ من متابعة تنشئته وتكوينه منذ الصغر على المستويات كافة: عقليّاً ونفسيّاً واجتماعيّاً، ولمّا كانت هذه التنشئة تبدأ من الأسرة في البيت، فقد أولاها الكثير من اهتمامه، فالأسرة هي أساس الحكمة الكونفوشيّة، فإذا كان الفرد الصالح أساس الأسرة الصالحة، فإنّ الأسرة الصالحة هي أساس المجتمع الصالح الذي يتّسم بالحكمة.

وتنطلق المثاليّة الخلقيّة عند كونفوشيوس من أساس مهم، وهو أنّ الفاضل هو الذي يعمل قبل أنّ يتكلم، ثمّ يتكلم وفق ما عمل،[1] في إشارة واضحة إلى أنّ العمل يسبق النظر، والفعل يسبق القول.

كما تقوم المثاليّة الأخلاقيّة عند كونفوشيوس على إنكار العزلة،

(28)

مع العمل على الاختلاط بالجماهير، باعتباره الوسيلة الوحيدة للوصول على الحكمة والحصول عليها، وهذا يذكّر بالشبه الواضح بينه وبين سقراط، فسقراط كان يجوب الشوارع ويقارع السفسطائيّين بالأسواق، للوصول إلى الحكمة. بيد أنّ الملاحظ ـ كما أشار إلى ذلك أحد الباحثين ـ أنّ البيئة الصينيّة تقبّلت الحكمة العمليّة التي جاء بها كونفوشيوس، في حين رفضت أثينا ما جاء به سقراط من حكمه، بل وحُكِم عليه بالقتل، الأمر الذي جعل تلميذه أفلاطون يعزف عن الأسواق مشكّلاً ما أسماه بالأكاديميّة التي قام بتدريس الفلسفة فيها.[1]

إنّ المثاليّة الكونفوشيّة تنطلق من بعد أخلاقيّ على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع، وهذا يفسر لنا لماذا كانت الأخلاق عنده تشمل ثلاثة مستويات:

أ ـ بيان الفضائل التي يجب أنّ يتحلّى بها الفرد.

ب ـ بيان كيفيّة إصلاح المجتمع.

ج ـ ربط السياسة بالأخلاق في نظام حكم رشيد.

وعليه فقد وضع شرطين رئيسيّن لتقويم الأخلاق واعتدالها وصولاً إلى مرحلة الفضيلة:

الأوّل، التربية الأسريّة والتعليم المعرفي؛ لكي يؤسّس الإنسان خلقيّاً وتعليميّاً منذ الصغر، وهذا هو الشرط الأوّل.

الثاني، تمتّع الحاكم بالأخلاق الفاضلة؛ لتأكيده أنّ أخلاق الرعيّة من أخلاق الحاكم، ولذا حدّد مجموعة من الصفات التي يجب أنّ يتحلّى بها الحاكم، وهي التي تؤهّله للقيام بهذه المهمّة،

(29)

وعلى الحاكم أنّ يختار الفضلاء للمناصب القياديّة، فهذا أساس ثقة الشعب فيه، وهذا هو الشرط الثاني.

ولكي يتحلّى الفرد بالأخلاق الفاضلة يجب أنّ يكون عالمًا بالفضيلة، بمعنى أنّ المعرفة طريق موصل إلى الفضيلة، وليست الفضيلة هي المعرفة كما ظنّ سقراط والفارابي.

كما أنّ هذه المثاليّة ترى الإنسان خيراً بطبعه، وأنّ الشرّ خروج صريح وسافر على تلك الغريزة الفطريّة، لكنّه منح إرادة يستطيع من خلالها أنّ يختار بين الخير والشرّ الذي تدعوه إليه شهواته وملذاته، بالتعاضض مع البيئة المحيطة، ومن ثمّ كان الإنسان الفاضل في هذه المثاليّة هو الذي يتحكّم في شهواته وملذّاته، متّخذاً طريق الفضيلة سبيلاً. وهذا الأمر يحقّق عند كونفوشيوس شيئاً من الأهمّيّة بمكان وهو الانسجام والتناغم مع النظام الكونيّ؛ لاعتقاده بأنّه لمّا كان الكون يسير على نظام ثابت لا يتغيّر فإنّ الفضيلة هي التي تجعل الإنسان منسجماً متناغماً مع الكون.

ولمّا كانت المثاليّة الكونفوشيّة تهتمّ بالفرد، فقد أولت البعد الباطنيّ فيه أهميّة خاصّة، فرفضت أنّ ينصاع لقانون من الخارج، بيد أنّ هذا بأيدي الإنسان وحده، حيث إنّه إذا وصلت الأخلاق إلى مرحلة الكمال عنده، فإنّها تحلّ محلّ القانون، ويصل المجتمع إلى الكمال الأخلاقيّ  بكمال الأخلاق لدى أفراده.

 

الطور الثالث: المثاليّة في الفلسفة اليونانيّة:

إذا كانت المثاليّة الأخلاقيّة هي سمة الفكر الشرقيّ القديم، وتعدّ أوّل مرحلة من مراحل الفكر المثاليّ، فإنّ هناك مثاليّة أخرى كانت

(30)

أعلى من حيث القيمة الفكريّة والتنظير المنهجيّ، وهي المثاليّة اليونانيّة، وهي المثاليّة التي ظهرت على يد اثنين من أعلامها الكبار هما: سقراط وتلميذه أفلاطون. وإن اختلفا في طبيعة هذه المثاليّة، والموضوعات التي تندرج تحتها.

فمثاليّة سقراط يمكن أنّ نسميها مثاليّة تطبيقيّة من تلك المثاليّات الي تحاول أنّ تخطّ بيدها طريقاً جديداً للبشريّة، وتعمل على تطبيقه، وقد وجدنا كيف كان سقراط يحمل فكراً إيجابيّاً تجاه الفكر السلبيّ الذي يمثّله السفسطائيّون، فالفكر السفسطائيّ كان فكراً هدّاماً؛ لأنّه لم يكن يهمّه أن يدرك الحقيقة، وإنّما كان همّه أن يظهر مهارته في قلب الحقائق؛ رجاء مجد شخصيّ أو كسب ماديّ، فأشاعوا بفكرهم الفوضى واللامعرفة في الوسط اليونانيّ، فضلاً عن أنّهم جعلوا الإنسان مقياس كلِّ شيء، فصار الخير في اللذة الشخصيّة وإشباعها، ومن ثمّ جمع المجتمع اليونانيّ الفوضى بجوار الفساد الأخلاقيّ. ومن ثمّ كان على سقراط أن ينتشل المجتمع اليونانيّ ممّا آل إليه، فكانت دعوته إلى الفضيلة، تلك الدعوة التي لم يكن لها أنّ تقف عند القول فحسب، بل عمل صاحبها على إرسائها بنفسه، من خلال مقارعة الناس في الشوارع والأسواق، فيعارض الحجّة بالحجّة، حتّى إنّه بفعله التطبيقيّ هذا انتصر على خصومه السفسطائيين، وأثبت خداعهم وضعف موقفهم، ومن هنا حقّ لنا تسمية هذه المثاليّة بالمثاليّة التطبيقيّة، بجوار بعدها التنظيريّ بالتأكيد.

أمّا أفلاطون فلم يكن على درب أستاذه في مثاليّته في جانبها التطبيقيّ، وإنّما اتّخذت مثاليّته اتّجاهاً آخر يأخذ من مثاليّة سقراط جانبها النظريّ، ربّما يكون ذلك ناتجاً من النهاية المأساويّة الي

(31)

تعرّض لها أستاذه بسبب هذه المثاليّة، وما تضمّنته من أفكار جعلت الحاقدين والمارقين يتربّصون به، ومن ثمّ عمد أفلاطون إلى مثاليّة من النوع التنظيريّ في أكاديميّته التي أنشأها ليلقي فيها دروسه.

وقد ظهرت مثاليّة أفلاطون أوّل ما ظهرت في نظريّة المثل عنده، وهي النظريّة التي سبق الحديث عنها، كما ظهرت في حديثه عن الجمهوريّة الفاضلة، والجانب السياسيّ عنده.

ومن الصحيح أنّ المثاليّة الأفلاطونيّة كانت مرحلة أعلى من المثاليّة التي ظهرت على يد كلّ من كونفوشيوس في الفكر الشرقيّ، وسقراط في الفكر اليونانيّ، فكونفوشيوس وسقراط كلاهما كانت مثاليّتهما أخلاقيّة في المقام الأول، أما أفلاطون فقد كانت مثاليّته أعلى؛ لأنّها اتّخذت اتّجاه التنظير سبيلاً، فضلاً عن أنّها حاولت أنّ تعالج العديد من الإشكاليّات الفلسفيّة التي لم نجد لها نظيراً في الغالب عند سابقيه.

وقد كان لأفلاطون ومثاليّته أثر واضح في المثاليّات التي ظهرت في العصر الحديث؛ حيث نظنّها مهدت السبيل لكلّ المثاليّات التالية عليها في الفلسفة الإسلاميّة، أو في الفلسفة الغربيّة الحديثة والمعاصرة، بغضّ النظر عن النقد الذي جرى توجيهه لها.

فالمتأمّل في المثاليّة الأفلاطونيّة يجد أنّ أفلاطون (429-347 ق.م) يعتبر من أوائل أصحاب الاتّجاه المثاليّ عبر تاريخ الفكر العالميّ، وتستند المثاليّة عنده إلى تعظيم دور الجانب العقليّ والجانب الروحيّ على حساب الجانب الماديّ، ممّا كان له أكبر الأثر في المدارس المثاليّة التي جاءت بعده، بل لقد كان لمثاليّة

(32)

أفلاطون تأثير كبير في الديانة المسيحيّة ذاتها، فمالت إلى تعظيم الجانب الروحيّ، على حساب الجانب المادّيّ. وهذا يفسّر لماذا كان للديانة المسيحيّة تأثيرها فيما بعد في المثاليّة الغربيّة، فقد عمل المنتسبون إليها على الاعتماد على المثاليّة في نشر الديانة المسيحيّة في فترة العصور الوسطى وبداية عصر النهضة الأوروبيّة، استناداً إلى فكرتهم القائمة على وجود عالم للمثل يحوي الحقيقة المطلقة يخالف ذلك العالم المشاهد الذي نعيش فيه؟

ويمكن القول إنّ المثاليّة الأفلاطونيّة هي مثاليّة تنطلق إلى السماء، تولّي وجهها شطر العالم الآخر؛ لأنّ المعرفة التي تقوم عليها معرفة سماويّة، ذلك أنّها تلك المعرفة التي غايتها القصوى إثبات الإله، فالمعرفة الأفلاطونيّة هي معرفة مدبّر الأشياء وصانعها ومصدرها وهو الله، وهذا يفسّر لنا لماذا يطلق الدارسون على هذه المثاليّة وصف المثاليّة المطلقة، ذلك أنّ أفلاطون يفرق بين عالمين: عالم المثل وعالم الحسّ، والأخير ليس إلّا ظلّاً للأوّل، ومن ثمّ كانت الأفكار أو المثل الأفلاطونيّة مفارقة تماماً لعالم المادّة والحسّ، بل إنّه يرى لها وجوداً متمايزاً متعالياً عن غيرها في عالم الحسّ، لكونها تمثّل المعرفة المطلقة التي مصدرها الموجود المطلق التي تصدر عنه كل الموجودات والمعارف.

فالفلسفة المثاليّة عند أفلاطون لا تهتم بمظاهر الحياة وقشورها، إلّا من حيث كونها وسيلة للترقي، ومن ثمّ ينال الإنسان جوار الألوهية عنده بترفعه عن المادي والترقي الأخلاقيّ  والتمسك بالفضيلة، حتى يصل إلى مرحلة الكمال، فلن يكون من نصيب الإنسان الكمال إلّا ببناء نفسه بناء يتوافق مع كمال الألوهية، بمعنى

(33)

السير في طريق الفضيلة، والفضيلة لا تنفصل بحال عن المعرفة عند أفلاطون.[1]

الطور الرابع: المثاليّة في الفلسفة الإسلاميّة:

ويمثّل هذا الطور الفارابيّ الذي قدّم مثاليّة سياسيّة أخلاقيّة، وقد ظهرت مثاليّة الفارابيّ أول ما ظهرت في المدينة الفاضلة، فالمدينة الفاضلة عند الفارابيّ مدينة من وحي خياله، حاول من خلالها أن يؤسّس لما ينبغي أن تكون عليه المدن والمجتمعات والأمم، فتخيّل أنّ المدينة الفاضلة، مدينة تمتلك كلّ المقوّمات الأخلاقيّة، مدينة مؤسّسة على الفضائل، رئيسها هو النموذج المثاليّ الذي يُقتدَى به، ومن ثمّ له أن يقيم هذه الفضائل ترغيباً وترهيباً. هذه المدينة تجمعها وحدة واحدة أساسها التعاون المشترك والبنّاء في كلّ الأمور الحياتيّة والأخرويّة، وصولاً إلى السعادة.

ومن ثمّ فقد ذهب أحد الباحثين مُوفقّاً إلى أنّ الفارابي رأى أن وحدة المجتمع المنشودة يمكن إعادتها ببناء العلاقات داخل المجتمع على نحو يحاكي من خلاله النظام الذي يسود الكون ويحكم أجزاءه ومراتبه، وهذا الذي ربط من خلاله بين المنطق والأنطولوجيا، وبين الطبيعة وما بعد الطبيعة، ولكن لا ليؤكد ـ كما ذهب هذا الباحث ـ وحدة الكون وترابط أجزائه وجمال بنائه وحسب.[2] ولكن ليؤكد ـ من جانب أهمّ في نظري ـ أنّ البناء الأخلاقيّ  داخل المدينة قائم على أساس معرفيّ قوامه الفكر و

(34)

المنطق. وهذا ما ذهب إليه الدكتور محمد عابد الجابري عندما أكّد ربط الفارابيّ بين المعرفة كعامل أساسيّ لوحدة الفكر، وبين تشييد المدينة الفاضلة أخلاقيّاً.[1]

وترتبط المثاليّة عند الفارابيّ بفكرة السعادة التي هي بدورها الغاية القصوى للفضيلة، ويعتقد الباحث أنّ الفارابي يرى أنّ السعادة التي ينالها من لم يؤسّس أخلاقه على ناحية معرفيّة هي سعادة من الدرجة الثانية، أي أقلّ من السعادة التي ينالها من أسّس أخلاقه على أساس معرفيّ، ولذا كانت السعادة عنده على ثلاثة أقسام : كميّ، كيفيّ، نوعيّ. والفارابيّ بهذا النهج يقيم المعرفة على أساس من البحث والحجّة والأدلّة العقليّة والمنطقيّة، ومن ثمّ فإنّ العلوم الناتجة أو المعرفة الناتجة عنده تقوم أوّلاً على أساس من التجريد، أو تمثّل صورة الشيء في الذهن، في حين تأتي المعرفة الإشراقيّة في مرحلة تالية؛ إذ المعرفة في الفلسفة الإشراقيّة لا تأتي عن طريق التجريد أو تمثّل صورة الموضوع في الذهن، بل هو لا يزيد شيئاً على الذات الإلهيّة، إنّ صعوداً وإن نزولاً، وتسمى العلم الحضوريّ، أو الاتّصال الشهود.[2]

(35)

ومن حيث نظرة الفارابي للإنسان في مثاليّته عن المدينة الفاضلة فإنّه لم ينظر للإنسان نظرة أحاديّة الجانب؛ إذ لم ينظر إليه على أنّه ذلك الكائن الذي يجمع الطبائع الحيوانيّة وحسب، كلّ عضو من أعضائه مكلّف بدور سلوكيّ معيّن، فإذا تخلّف عن أدائه فسد مزاجه واعتلّت صحّته، كما أنّه لم ينظر إليه على أنّه ذلك الكائن الذي قوامه عقل فقط لا جسد، وهي النظرة التي تقوم على ضرورة دراسة الإنسان وطبيعته بعيدًا عن الطبائع الجسديّة الحيوانيّة؛ ذلك أنّ الإنسان ميّزه الله بجوهر قوامه العقل والروح. يقول الفارابيّ: “إنّ الإنسان شكّل من جوهرين: أحدهما مصوّر مكيّف مقدّر متحرّك ساكن، متجسّد منقسم، والثاني مباين للأوّل في هذه الصفات غير مشارك له في حقيقة الذات، يناله العقل ويعرض عنه الوهم. . وهو سرّ وعلن، أمّا علنه فهو الجسم المحسوس بأعضائه . . وأمّا سرّه فقوى روحه”.[1]

ولا يمكن الحديث عن مثاليّة عند الفارابي من دون الحديث عن فكرته عن الجزاء أو السعادة الأخرويّة التي ما جعل المدينة

(36)

لفاضلة إلّا من أجلها، فالجزاء أحد أركان فلسفته الأخلاقيّة، والجزاء الأخرويّ أعظم عنده من أيّ جزاء آخر دنيويّ، فإن النفوس عنده تتلاقى في السعادة الأخرويّة أو الجزاء الأخرويّ، فإذا مضت طائفة فبطلت أبدانها، وخلصت نفوسها، وسعدت نالت جزاءها الأخرويّ، ثمّ يتوافد عليها من سعد وخلصت نفسه ممّن جاءوا بعدهم، فيكونون في السعادة في مراتب ودرجات.[1] ومسألة الجزاء عنده من المسائل المستحقّة على سبيل الوجوب والعدل.[2]

الجزاء عند الفارابيّ يحمل معنى السعادة لذوي الأخلاق الفاضلة، ومعنى العدم والشقاء لذوي الأخلاق القبيحة، وقد كان هذا الرأي مناط خلاف بين الفلاسفة والمفكّرين اللاحقين للفارابيّ؛ إذ نفهم منه إنكاره خلود النفس بعد الموت لبعض الفئات الضالّة، ومن ثمّ فقد «اختلف الباحثون حول موقف الفارابيّ من خلود النفس بعد الموت».[3]        

وربّما كان اتّجاه الفارابيّ هنا محدّداً تحديداً واضحاً بأن أثبت خلود الأنفس الفاضلة وأنكر خلود الأنفس القبيحة، وفي ظنّي أنّ هذا الرأي الذي ذهب إليه الفارابيّ في شقّه المتعلّق بجزاء أهل المدينة الجاهلة فيه خيانة واضحة لعقيدته الإسلاميّة وخيانة لأستاذه أفلاطون، وخيانة للمنهج العقليّ الذي يؤمن به. أمّا رأيه هنا فيعدّ خيانة لعقيدته ذلك لأنّ العقيدة الإسلاميّة صريحة في خلود النفس السعيدة والشقيّة على حدّ سواء، وقد

(37)

شهد بذلك الكثير من الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة. وإنّ رأيه هنا يعدّ خيانة لأستاذه أفلاطون ذلك لأنّ أفلاطون أكّد مراراً أنّ العصاة والمجرمين الذين لم ينالوا جزاءهم في الدنيا سوف ينالون هذا الجزاء اللائق بهم في دار الآخرة؛ إذ إنّ عدل الله يوجب أنّ العاصي والمجرم أنّ لم ينالا عقابهما في الدنيا كان حتماً أن ينالاه في الآخرة.[1] وإنّ رأيه هنا يعدّ خيانة للعقل؛ ذلك لأنّ المنهج العقليّ والبرهان المنطقيّ يقتضيان أنّ يعاقب العاصي والمجرم على أفعالهما؛ إذ كيف لظالم أو معتدّ أو زانٍ أو قاتل أو فاسق أو كافر إلخ أنّ يكون جزاؤه هو العدم والهلاك؟! أليس هذا يتناقض مع أساس العدل الإلهيّ الذي يفترض أنّ القصاص لا بدّ منه عاجلاً أو آجلاً؟

 

ثانياً: امتداد المصطلح وتجليّاته عبر التاريخفي الفلسفة الغربيّة:

وهذا الطور هو أهمّ الأطوار التي مرّت بها المثاليّة على مدار التاريخ الفكريّ الإنسانيّ، لكونها أرست العديد من المبادئ في الفكر المثاليّ وأصلت الأصول وأقامت البنيان.

فمن وجهة نظر باركلي فإنّ الأمور الماديّة المحسوسة ليست إلّا مجموعة من الأفكار، ومن ثمّ فإنّنا ليس لدينا القدرة على تكوين فكرة في عقولنا عن الأمور المحسوسة إلّا من خلال التجربة الحسيّة الخاصّة بنا، فالمعرفة مرتبطة بالظاهر وحسب، أمّا معرفة كنه هذه الأشياء فلا نستطيع إدراكها، كما يرى باركلي أنّ كل الأشياء الطبيعيّة

(38)

التي يدركها الإنسان والتي لا يدركها إنّما هي موجودة في العلم الإلهيّ.[1]

ومن حيث طبيعة الخير والشرّ ترى المثاليّة أنّ الشر شيء عارض، وأنّ الإنسان خير بطبعه.

وينظر نفر من الباحثين إلى جورج باركلي على أنّه مؤسّس المثاليّة، وجورج باركلي فيلسوف بريطانيّ من أصل أيرلنديّ، عاش على الرهبنة، حيث كان راهبًا، ومن ثمّ ملأ الفكر الدينيّ عليه حياته كلّها، حيث كان علماً من أعلام الفكر اللاهوتيّ أو الفلسفة اللاهوتيّة، ولذا وجّه كلّ فلسفته ناحية الدفاع عن العقيدة، وكان يحاول العودة بالناس إلى ما أسماه الإدراك الفطريّ السليم.

لكن مما يؤخذ على باركلي نيّته المبيتة استغلال المثاليّة في إقامة جامعة تقوم بتخريج مبشّرين بالديانة النصرانيّة.

ومن ثمّ كانت التأثيرات الدينيّة المتغلغلة في كيان باركلي لها أثر واضح في نظرته الفلسفيّة للمثاليّة، والتي تقوم على أنّ هناك وجوداً ماديّاً ظاهريّاً، يدركه الإنسان بعقله ويحسّ به بحواسّه، وهناك وجود آخر حقيقيّ ليس فيه مجال للحسّ، وهو الروح، ومن ثمّ لا حقيقة عند باركلي إلّا الله تعالى والروح.

وقد تأثّر الفيلسوف كانط بآراء باركلي في العديد من جوانب فلسفته، على صعيد الموافقة على بعض آرائه، وعلى صعيد معارضته وتوجيه العديد من سهام النقد لفكره المثاليّ.

إذا كانت المثاليّة الأفلاطونيّة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمعرفة

(39)

الإلهيّة، حيث تجعل تركيزها الأساسيّ الكشف عن هذه المعرفة، فإنّ المثاليّة الكانطيّة أقرب إلى أنّ تكون مثاليّة إنسانيّة، حيث توجّه اهتمامها وتركيزها إلى المعرفة الإنسانيّة، ومن ثمّ كانت مثاليّة نسبيّة، تنظر للعالم بما هو عليه دون أيّ مثال متعالٍ أو مفارق كما وجدنا في سابقتها، ومن ثمّ وجدنا عثمان أمين يؤكّد هذا المنزع عندما يقول: “الأفكار في المثاليّة الحديثة إنّما هي أفكارنا نحن عن العالم، وإذا صحّ أن نستعير هنا تفرقة صوفيّة بين عالم اللاهوت وعالم الناسوت، استطعنا إنّ نقول أنّ المثاليّة الأفلاطونيّة مثاليّة لاهوتيّة، في حين أنّ المثاليّة الكانطيّة مثاليّة ناسوتيّة»[1]

وبالنظرإلى فيشته نجد أنّ مثاليّته امتازت بكونها مثاليّة العمل أو فلسفة العمل، وهي مثاليّة قائمة على الإرادة باعتبارها أساس الطبيعة الإنسانيّة، وجعل فيشته الحياة الأخلاقيّة مقدّمة على العقل النظريّ، كما جعل الحريّة مقدّمة على الحياة الأخلاقيّة.

ويؤمن فيشته بأنّ الفكر يدرك التصوّرات الخاصّة به، أي التصوّرات التي تصوّرها هو، ومن ثمّ فلا سبيل إلى الحدس، كما أنّه لا سبيل إلى الاستدلال، ومن ثمّ فإنّ نظريّة المعرفة في الفلسفة المثاليّة عند فيشته تهتمّ في المقام الأوّل بالإجابة عن السؤال التالي: كيف تصدر صور الأشياء عن فاعليّة الفكر، حيث إنّ كلّ ما له أثر فاعليّة فإنّه يكون موجود في الأنا، فهذا الموجود الذي يوجد في الأنا يوجد بتأثير فاعليّته.

ولكن إذا كان هذا عن الأنا، فماذا عن اللأنا؟ فكرة فيشته هنا مبنيّة على أساس أنّنا لا نشعر بأنّنا نحدث اللاأنا، إذ لا بدّ أن يكون

(40)

في الأنا المتناهي المدرك في التجربة مبدأ أوسع منه وأكثر شموليّة هو الأنا الخالص أو الأنا اللامتناهي، باعتباره عالم الموضوعات الماثلة في الأنا التجريبيّ، يشبه الأنا أفكر الذي قال به ديكارت، والذي وضعه كانط وراء مبادئ الفهم، ومن ثمّ لا نشعر بفاعليّته، ولا ندرك سوى الآثار، أي مختلف التصوّرات، ذلك أنّ المبدأ الأوّل في نظريّة المعرفة هو هذه الفاعليّة الروحيّة، ثمّ تتسلسل معانيها ومبادئها متولّدة بعضها من بعض[1].

وإذا نظرنا إلى علاقة الأنا بالأخلاق عند فيشته، فإنّه يتبيّن لنا أوّلاً وقبل كلّ شيء أنّ الأنا ضرورة لازمة للعمل أو الفعل، بحيث تمثّل الحاجة الأساسيّة للفعل، هذه الحاجة للعمل ليست متناهية في ذاتها كما يرى فيشته، وهي من هذا المنطلق تعبّر عن استقلاليّة الأنا أمام الأشياء كلّها، ومن ثمّ تفتح لها باب الاختيار بحريّة، فيترتّب على ذلك انحلال الإنسان من كلّ قيود الحسّ وتبعيته، وهنا ينتج القانون الأخلاقيّ عند فيشته، فالقانون الأخلاقيّ عنده مؤدّاه: أيّ فعل جزئيّ ينبغي أن يكون منتظماً في سلسلة تقود الإنسان إلى الحرّيّة الروحيّة الكاملة. وهنا يتحقّق مبدأ احترام الإنسان لذاته، استناداً إلى أنّه عندما يتحقّق الأنا المتناهي المحرّر من القيود الحسّيّة فذلك يقود الإنسان إلى الشعور باحترام ذاته، في حين عندما يظلّ الإنسان قابعاً في الحسّ، ومتلذّذاً بشهواته ومتنعّماً برغباته، بحيث لا ينفكّ عنها، فإنّ ذلك يقوده إلى الشعور باحتقار ذاته، ومن ثمّ فقد عدّ فيشته ذلك من قبيل الكسل، كسل في البحث عن الحريّة، والتفكير في الحصول عليها وتدبير الطرائق لنيلها، كسل في السمو بالنفس

(41)

عن الحاضر، كسل يتبعه بالضرورة جبن ونفاق، وتفضيل العبوديّة على الحريّة والتفكير الحرّ.[1]

فالأساس المهمّ عند فيشته هو العمل من أجل الحريّة تفكيراً وأداءً؛ لكي يجري الوصول إلى الأنا الخالص، بيد أنّ هذه الحريّة لا تعني تحرّراً من الجماعة، والعيش في عزلة، فالإنسان مدنيّ بطبعه، ولا يتحقّق وجوده إلّا من خلال العيش بين أقرانه، فإذا اتّبع كلّ فرد يقينه الداخليّ، فإنّ الجميع سيكون على طريق تحقيق الاستقلال الداخليّ الباطنيّ، وصولاً إلى تحقيق الأنا الخالص، الأنا اللامتناهي القائم على العقل والتفكير العقليّ، ومن ثمّ فإنّ مثاليّة فيشته تقوم على أساس القضاء على الفرديّة، وذلك من خلال الجدّ والاجتهاد في العمل على تحقيق الغاية الرئيسة في الوصول إلى الأنا الخالص.

ومن حيث علاقة مثاليّة فيشته بالإيمان نجد أنّه قد خصّ الإيمان بجزء كبير من اهتمامه، وهو بصدد تثبيت أركان مثاليّته، فالإيمان أو الدين عند فيشته أن يؤمن الإنسان بالخلق، ويتّخذه الدافع للقيام بواجباته، وهذا ما أكّده يوسف كرم عندما أشار إلى موقف فيشته هنا من الإيمان، ذاهباً إلى أنّ “ماهيّة الدين إذن أن يؤمن الإنسان بالنظام الخلقيّ، ويعتبره مصدر واجباته، ويعاون على نموّه، ولا بأس في أن يشخّص شعوره بهذا النظام في موجود معيّن، إذا كان الغرض تقوية هذا الشعور في ضميره، أمّا إذا تصوّر الله سلطاناً حاكماً بأمره، وانتظر من جوده لذّات مقبلة، كان عابد صنم، وكان مُستحقّاً أن يدعى ملحداً، لا يوجد شخص بدون موضوع يحدّه، ولو كان هو ذلك الموضوع، ولا يتصوّر الله موجوداً محدوداً، وما الأنا المطلق

(42)

إلّا معنى  مجرّد، إلّا إذا اعتبرناه بمعزل عن الأفراد الذين يحقّقونه أنّ الله الحقيقيّ هو الله الإنسان، وإنّ الله هو النظام الخلقيّ، والحريّة لا تتحقّق في العالم بالتدريج».[1]

ونحن بصدد البحث التاريخيّ للمصطلح ومتابعة الجذور يمكننا القول إنّ المثاليّة الألمانيّة ممثّلة في أعلامها الكبار لم تحتلّ مكانتها اللائقة بها إلّا بعد أن هُجِرَت المثاليّة التقليديّة التي ظهرت في الفلسفة اليونانيّة والفلسفة الإسلاميّة، حيث حدث هناك تغيّر من نوع ما. فالفلسفة الألمانيّة لم تنل التقدير إلّا بسبب الانقلاب السريع الذي قامت به، والذي يخصّ العلاقة الثنائيّة بين موضوعين من الفلسفة ذاتها، وهما موضوعان من الأهميّة بمكان، وهما: العقل والمطلق، وبناء عليه حصل التحوّل من المثاليّة النقديّة إلى المثاليّة التأمليّة، وكانت نقطة الانطلاق بين عامي: 1781 ـ 1787م، وذلك على يد كانط، وهي محاولة كانت تهدف إلى بيان نقديّ لاستعمال العقل النظريّ في حدوده المنوطة به، كما أنّه بدءاً من عام 1801م بعد أن تطوّرت سلسلة أعمال فيشته المتأخّرة المليئة بالأفكار المفاجئة، وشلينج في كتابه فلسفة الهويّة، وهيجل في نسقه التأمّليّ، بدا العقل الفلسفيّ ذاته منطلِقاً من حيث إنه قد تحوّل في شكل العلم المطلق الساعي إلى التصوّر باعتباره المطلق الذي هو دائمًا بصدد التحدّد تعييناً لفاعليّته.[2] 

والمثالية الألمانيّة عموماً لم تكن خالية من أيّ تأثير من السابقين فيها، إذ لو قلنا ذلك لجانبنا الصواب، ولعارضنا سنّة الحياة ذاتها

(43)

التي تبين أنّ الفكر ليس لقيطاً وإنّما هو علاقة من التأثير بالسابقين واللاحقين والتأثّر بهم، فالفكر مرحلة بناء يضع فيه السابق لبنة ويضع اللاحق لبنة إلى أن يعلو البناء، الأمر كذلك ينطبق على المثاليّة عامّة والألمانيّة خاصّة بكلّ من ساهم في بنائها من الفلاسفة الألمان.

وخير مثال على ذلك أنّها برغم كونها ردّت الفعل مباشرة على ميتافيزيقا المدرسة الألمانيّة، ردها على فلسفة الأنوار في سياقها الأوروبيّ، فإنّ مفكّري القرن السابع عشر من أمثال: ديكارت وليبنتز ظلّوا موضعاً للاهتمام بصورة متزايدة، كما كان تأثير فلسفة سبينوزا واضحاً قبل أيّ شيء، ومن ثمّ وجد كانط نفسه مضطرّاً  في سنة 1786م إلى أنّ يخوض في إحدى المسائل معركة اسبينوزا التي كانت قبل سنة بين موسى بن مندل ويعقوبي، عندما شعر أنّه أقحم في قضايا سبينوزا من خلال توسّط يعقوبي، حيث لم يكن يحبّذ أن تكون فلسفته المتعالية مقحمة في هذا الضجيج، ومع توالي الفلاسفة الألمان فيشته وشيلنج وهيجل بدا في فلسفاتهم - بما تنطوي عليه من مواقف - العديد من التطوّر من الناحية النقديّة، في علاقتها بوحدة الجوهر عند سبينوزا، وهذا يشي بشيء من الأهميّة بمكان وهو أنّ المثاليّة الألمانيّة لم تكن وقفاً على تأثير الفلسفة الأوروبيّة في القرنين: السابع عشر والثامن عشر، بل إنّ التأثير كان مُمتدّاً من بداية الفكر الفلسفيّ إلى أفلاطون والأفلاطونيّة المحدثة.[1]

ومن ثمّ نفهم أنّ حركة تطوّر المثاليّة كانت متواصلة ولم تتوقّف، حتّى إذا قلنا إنّ المثاليّة القديمة سادت الفكر بعض الوقت، فإنّه حينما حان الوقت لمثاليّة أخرى تناسب تطوّرات العصر وجدنا

(44)

العديد من أنواع المثاليّة التي كان يحاول أصحابها من خلالها أن يطرحوا حلولاً لإشكاليّات سابقة عاناها الفكر الإنسانيّ، وأن يطرحوا ممارسات لعالم أفضل من وجهة نظرهم الخاصّة.

ففي المثاليّة الألمانيّة مثلاً نرى أنّها كانت متواكبة لمجموعة من التطوّرات التي أصابت القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، “أنّ فلاسفة المثاليّة الألمانيّة انخرطوا بحسب فهمهم الذاتيّ في الانقلاب المنفتح على عصر جديد، فقد كانت المثاليّة الألمانيّة في نهايات القرن الثامن عشر إلى حدود منتصف القرن التاسع عشر شاهداً لدورة من التغيّرات العلميّة والثقافيّة والسياسيّة  والاجتماعيّة، التي فهمت باعتبارها ثقافات كما كانت شاهداً كذلك على دورة مضادة من الثورات المضادّة، واستعادات للأنظمة القديمة. وانطلاقاً من ذلك يذهب المعاصرون إلى أنّ الفلسفة ليست مجرّد علاقة خارجيّة في هذه القطيعة مع النظام القديم في الثورة الفرنسيّة، وفي التأسيس الحرّ للمجتمع البرجوازيّ الحديث، كما يصحّ هذا الرأي كذلك بخصوص التغيّرات التي حصلت في صورة العالم الجماليّة والدينيّة، وكذلك في المعرفة الفلسفيّة والعلميّة، وبهذا الفهم فإنّ ما سيسمّى بالفلسفة الألمانيّة يكوّن وحدة تامّة».[1]

إنّ مصطلح المثاليّة ظلّ من بدء نشأته في القرن الثامن عشر على يد باركلي، وهو في دائرة التقليل، فالمثاليّ في نظر ليبنتز وفولف هو ذلك الشخص الذي ينظر للعالم الواقعيّ نظرة مخالفة فيها كثير من النفي، فضلاً عن نظرة الجمهور التي تقلّل من المثاليّة وتنظر لها نظرة

(45)

استخفاف، لكن على الجانب الآخر فإنّ كانط قدّم مصطلح المثاليّة باعتباره تسمية ذاتيّة، أو مدلولاً يختلف عن الماديّة والواقعيّة، إلّا أنّنا لا نستطيع القول أنّ مفهوم المثاليّة قد تبلور تماماً في محيطه الألمانيّ وممثّلته الفلسفة الألمانيّة المثاليّة، بل ظلّ يتأرجح كثيراً؛ ذلك أنّ الفلاسفة الألمان المثاليّين كانوا يعملون دومًا على الدفاع عن مصطلحهم تجاه الندّ الأكبر وهو الواقعيّة، في الوقت ذاته الذي كانوا يحاولون جاهدين ترسيخ المفهوم الصحيح للمثاليّة التي يتبنّونها، لكي يضعوا حدوداً فاصلة بينه وبين المصطلح المضادّ، ويوضحوا خصائصه التي تميّزه عن الواقعيّة، بخاصّة أنّ المثاليّة ليست على نوع واحد، فهناك المثاليّة الذاتيّة، وهناك اللاماديّة، وهناك النقديّة، وهناك المتعالية، وهناك التأمليّة، وهناك المطلقة، وهذا كلّه يمثّل ثراء في الفلسفة المثاليّة تجاه الواقعيّة.

ومن الأكيد أنّه لم يُدخَل مصطلح مثاليّة ألمانيّة إلّا في العقد الرابع من القرن التاسع عشر، ويرجع الفضل في ذلك إلى المعارضين الماديّين الذين كانوا يدافعون عن نزعتهم الإنسانيّة التي كانوا يعدّونها حقيقة في مقابل ما أسموه بعدوّتهم الروحيّة، أو المثاليّة التأمّليّة التي تستبدل بالفرد الإنسانيّ الحقيقيّ الوعي بالذات أو الروح، فتدعو إلى العقيدة القائلة إنّ الروح هي التي تحيا، أمّا الجسد فلا حاجة إليه، ومن زعماء المعارضة للمثاليّة في تلك الفترة كارل ماركس وفريدرش إنجلز.[1]

بيد أنّ المثاليّة الألمانيّة لم تسلم من أعدائها المادّيّين، فقد حملوا عليها حملة شعواء، فقد عدّ كلّ من ماركس وإنجلز أنّ التنوير الفرنسيّ

(46)

في القرن الثامن عشر قد انتصر بما انطوى عليه من ماديّة على ميتافيزيقا القرن السابع عشر، غير أنّهما ذهبا إلى أنّ هذه الميتافيزيقا عادت مرّة أخرى في ثوب الفلسفة الألمانيّة، خصوصاً الفلسفة الألمانيّة التأمّليّة التي تنتمي للقرن التاسع عشر، فقد كانا يريان أنّ هيجل واصل هجومه على الميتافيزيقا التأمّليّة، وعلى كلّ ميتافيزيقا، ومن ثمّ ذهبا إلى أنّ الماديّة هزمت كلّ ميتافيزيقا سابقة، وستهزم كلّ ميتافيزيقا لاحقة؛ لأنّ الماديّة عندهما تتطابق مع النزعة الإنسانيّة.[1]

ولقد واصلا الهجوم على مصطلح المثاليّة الألمانيّة بشدّة، حتّى إنّهما عدّا هذه المثاليّة من قبيل الأيديولوجيا، “فالمثاليّة الألمانيّة لا تختلف كثيراً عن الأيديولوجيا التي تدين بها الشعوب الأخرى، ولا تتميّز عنها بأيّ ميزة أو خصوصيّة، لأنّ هذه الشعوب تنظر للعالم على أنّه تقوده مجموعة من الرؤى والأفكار والتصوّرات لكونها أُسساً محدّدة ومبادئ واحدة مثل نهج الفلاسفة في تفسير العالم المادّيّ، خلافاً لهيجل الذي أكمل تحقيق المثاليّة الإيجابيّة، إنّ زعماء الفلسفة الألمانيّة الذين فقدوا عالم أحلامهم المثاليّ القائم على عالم الأفكار والتصوّرات في نظرتهم لتفسير العالم المادّيّ، بل إنّ دراسي الفلسفة الألمانيّة يدّعون أنّ المثاليّة بأفكارها وتصوّراتها لا تزال لها المسيطرة على البشريّة إلى الآن، وأن العالم المادّيّ أنّ هو إلّا نتيجة لعالم الأفكار المثاليّ”.[2]

(47)

ونحن مع القول بأن المثاليّة ـ مثلها في ذلك مثل أيّ اتّجاه فكريّ ـ لا تخلو من نزعة أيديولوجيّة، قلّت أم كثرت، ظهرت أم خفيت، وهذا يفسّر لنا تعدّد التعريفات التي تناولت المصطلح، فلا يوجد مصطلح واحد للمثاليّة يكون محلّ قبول الجميع، إلّا أنّه على كلّ حال قد اتّقفت على مجموعة من المبادئ والأفكار التي تدلّ على اتّفاق المضمون بعض الشيء وإن اختلفوا من ناحية اللفظ أو الشكل.

 

الخيال وعلاقته بالمثاليّة الغربيّة:

لا يمكن إنكار دور الخيال في المثاليّة الغربيّة، أو أيّ من المثاليّات السابقة لها، فبدءًا من ظهور المصطلح على يد باركلي فإنّ المثاليّة ما ظهرت إلّا بناء على خيال فلسفيّ وفكريّ واسع،  فالمثاليّ حالم لا يقنع بما يقدّمه الواقع؛ إذ لو رضى بما هو في الواقع لكان واقعيّاً، ومن ثَمَّ كانت الحلول التي يقدّمها تحوي العديد من الرؤى البعيدة التي لا يستطيع الوصول إليها إلّا بخيال خصب.

لكنّنا لا نقصد بالخيال هنا ذلك الأمر الذي يسمّى بالوهم أو التوهّم؛ لأنّ ذلك لا ينتج مثاليّة، وإنّما ينتج أوهاماً، وبالنظر إلى ما قدّمه باركلي من فكرة اللاماديّة نجد أنّها في الأساس فكرة قائمة على نوع من الخيال الخصب الذي قد نختلف في مضمون هذه الفكرة وقامت عليه من بعد مثاليّ، لكن لا يمكن أنّ نختلف في دور الخيال الخصب في الإتيان بهذه الفكرة بما تنطوي عليه من محاور.

هذا الخيال نجده بصور أخرى أشدّ وضوحاً في صورة الفكر والوجود عند ديكارت، من خلال الكوجيتو الشهير: أنا أفكر إذن أنا

(48)

موجود، وهي فكرة وإن كان لها أصل في الوجود، فإنّها قائمة أساساً على الخيال، فالربط بين الفكر والوجود قائم على الخيال.

ولقد كانت هذه النزعة المثاليّة الديكارتيّة بما قامت عليه من قاعدة الربط بين الفكر والوجود البعد الخيالي البناء الذي بُنِيت عليها الفلسفة المثاليّة عنده، فقد كان هذا الخيال سبباً في تحديده لقضيّة النفس والجسم، والتمييز بينهما، حيث انتهى إلى أنّه من الممكن أن يتصوّر الإنسان أعضاء الجسد غير موجودة، بيد أنّه من الاستحالة أن يتصوّر أنّه غير موجود، ما دام قادراً على التفكير وشاكّاً في الأشياء من حوله، فما دام يفكّر ويشكّ فهو إذن موجود، أمّا إذا لم أكن قادراً على التفكير، وانقطعت بي السبل عنه، فأنا في هذه الحالة غير موجود طبقاً للنهج الديكارتيّ. ومن ثمّ أنتهي من خلال هذه القاعدة إلى أنّ جوهر الجسم هو الامتداد، وجوهر الذات الإنسانيّة الفكر، وجوهر الذات الإلهيّة الكمال.

ويمكن القول أنّ المثاليّة الكانطيّة كانت تمثّل فلسفة قائمة بذاتها بين المثاليّة الذاتيّة عند ديكارت وباركلي وبين المثاليّة التأمُّليّة أو المثاليّة المطلقة عند هيجل، هذه المثاليّة الكانطيّة كانت مثاليّة قائمة على الخيال بالدرجة الأولى، فقد اشتهرت بين الفلاسفة والدارسين اللاحقين بعدّة مسميّات منها: الفلسفة النقديّة باعتبارها مثاليّة كانت قائمة على النقد، ولا سيّما أنّ الإنتاج الفكريّ لكانط كان يعتمد على الفلسفة النقديّة بصورة بارزة، فمن مؤلّفاته: نقد العقل العمليّ، الذي استند فيه إلى نقد المذاهب الأخلاقيّة بما اشتملت عليه من أسس ومعايير أخلاقيّة، ومنها نقد العقل الخالص، الذي خصّصه لنقد القوانين العقليّة بما اشتملت عليه من مبادئ العلوم، وثالث

(49)

هذه المؤلّفات هو نقد ملكة الحكم، وقد خصّصه لنقد القواعد التي تقوم عليها عمليّة الذوق، وهي كتب نقديّة كان الخيال المشترك الرئيسي مع المثاليّة فيها، بل لم يكن الفكر المثاليّ الوارد في هذه الكتب إلّا نتيجة عقل واعٍ وخيال خصيب.

ويحسب لفيتشه ونحن بصدد الربط بين المثاليّة والخيال تأكيده فكرة الأنا، فقد عدّ الأنا كائناً مقدّساً، لا متناهي الصغر، وعليه فهو تصعُب معرفته، وهذا ما يجعل الأنا في مرحلة بحث دائم عن الكمال والحبّ. هذا البحث الدائم جعل من فلسفة فيتشه فلسفة منفصلة عن العالم من حولها، ومن ثمّ فقد كان إهمال الطبيعة صفة مميّزة لهذه الفلسفة المثالية، لانكفائها على النفس والتقوقع داخل الذات، وهذه المثاليّة كانت متعالية لكونها تعالت على الواقع بصورة لا مثيل لها، لكون الخيال كان في أوج عطائه عند فيشته في هذه المثاليّة.

كما تقوم المثاليّة المطلقة عند هيجل على أساس الخيال، فالفكرة الرئيسة فيها هي الاعتقاد بأنّ هناك عقلاً مطلقاً، أو عقلاً إلهيّاً موجوداً في الطبيعة، بما يعني أنّ الطبيعة عنده هي المطلق، والفكر صورة أو مظهر لهذا المطلق، وتعدّ هذه المثاليّة ردّاً على مثاليّة باركلي الذاتيّة التي ربط الوجود بشرطية إدراكه.

 

(50)

 

 

 

 

 

 

المبحث الثالث

المثاليّة:

مبادئها - أهدافها - أنواعها

 

(51)

أولاً: مبادئ المثاليّة:

تقوم الفلسفة المثاليّة على مجموعة من المبادئ التي تعدّ مرتكزات تنطلق منها، وهي على النحو الآتي:

أولاً: تُقسّم المثاليّة العالم إلى عالمين: عالم المثل أو ما يسمّى عالم الأفكار، وهذا العالم عند المثاليّين هو العالم الحقيقيّ، وعالم المادّة وهو في نظرهم عالم شكلانيّ، لا يستمدّ وجوده وكيانه إلّا من عالم الروح، ومن ثمّ فهي تنظر نظرة ازدواجيّة للعالم.

ثانياً:  تعلّق المثاليّة وجود المادّة على وجود العقل الذي يدركها.

ثالثاً: كما أنّ المثاليّة تنظر للعالم نظرة فيها ازدواجيّة، فهي كذلك تنظر للإنسان نظرة ازدواجيّة، فهو مكوّن من روح وجسد، وللروح أو العقل أو النفس المكانة السامية في الفكر المثاليّ.

رابعاً: الحقائق في الفكر المثاليّ لا توجد في العالم المادّيّ، وإنّما توجد في عالم الروح عالم الأفكار.

خامساً: هذه الحقائق تتّسم بكونها مطلقة وثابتة وأزليّة؛ لأنّها من عالم الروح، وليست من العالم المادّيّ، لا يتدخّل في وجودها الفرد أو الجماعة، ومن ثمّ فهي صالحة لكل زمان ومكان.

سادساً: هذه الحقائق لا يمكن إدراكها بوسائل الإدراك الماديّة، وإنّما تُدرَك عن طريق العقل المطلق.

سابعاً: الحقيقة المعرفيّة التي تراها المثاليّة تحصل عن طريق العقل أو الحدس أو الإلهام، أي إنّها تتبع العقل أو الذهن أو الروح.

(52)

ثامناً: الإعلاء من قيمة العلوم العقليّة على حساب العلوم الطبيعيّة، أي إنّها تهتمّ بعلوم مثل الفلسفة والرياضيات على حساب علوم الفيزياء والكيمياء وغيرها. وهذا تأكيد لنهجها المثاليّ.

تاسعاً: التركيز في العقل لا الجسد، ولذا يستحوذ الأوّل على الاهتمام كلّه.

عاشراً : القيم صالحة لكلّ زمان ومكان، ومن ثمّ فإنّه في حالة أيّ تضارب فإنّه لا يعود إليها، وإنّما يعود إلى الأفراد أو المجتمعات من خلال توجّهاتهم الخاطئة.

حادي عشر: تركز المثاليّة في قيم كبرى: كالحقّ المطلق، الجمال المطلق، الخير المطلق.

 

ثانياً: أهداف المثاليّة:

للمثاليّة العديد من الأهداف التي يؤكّد فيها المثاليّون أنّ المثاليّة ما جاءت إلّا لها، ومن هذه الأهداف:

أولاً ـ تحقيق الكمال الإنسانيّ:

ترى المثاليّة أنّ النفس الإنسانيّة جاءت من عالم الخلود، وستعود إليه حتماً عاجلاً أم آجلاً، فيكون مصيرها حينها إمّا إلى جنّة، وإمّا إلى نار، وهذا المصير تحدّده الأفعال السلوكيّة للإنسان، فإن كانت أفعاله حسنة، وصارت به إلى مرحلة الطهر، وارتقت نفسه إلى عالم الملكوت.

(53)

ثانياً ـ إكساب الإنسان القيم الفاضلة:

تسعى المثاليّة إلى العمل الدؤوب على الانتقال بالإنسان إلى مرحلة أعلى من التمسّك بالقيم العليا، وهذا ما كانت تحاول أنّ ترسيه المثاليّات المختلفة سواء أكانت هذه القيم قيماً سلوكيّة أخلاقيّة، أم قيماً معرفيّة تؤدّي إلى سلوك فاضل في العلم أو الأخلاق أو غيرهما. وهذا ما وجدنا باركلي يحاول أنّ يقتفي أثره، وقد سبقه لذلك كلّ من كونفوشيوس كممثّل للفكر الشرقيّ القديم، وسقراط وأفلاطون كممثّلين للفكر اليونانيّ، وهذا ما وجدنا عليه كانط وغيره من الفلاسفة المثاليّين على اختلاف مذاهبهم وتوجّهاتهم.

ثالثاً ـ تنمية الجانب الروحيّ والتنشئة على المثل العليا.

اهتمّت المثاليّة بالروح على حساب المادّة، والمثاليّ على حساب الواقعيّ، والعقليّ على حساب الحسيّ، فقد كان الهدف الرئيس الذي ترنو إليه المثاليّة هو الروح، ومن ثمّ نلاحظ لماذا تصنّف المثاليّة على أنّها اتّجاه روحي، فهي كانت تحلم بإنسان تقوده الروح ولا تقوده المادّة، ومن ثمّ عوّلت عليها كمنطلق أساسيّ لتحصيل السلوك والمعرفة أيضاً.

رابعاً ـ التركيز في بناء الشخصيّة النموذجيّة التي تؤمن بالقيم الروحيّة.

وهذا ظهر جليّاً في معنى المثاليّ من الناحية اللغويّة، فقد أجمعت المعاجم اللغويّة العربيّة والغربيّة على أنّ من معاني المثاليّ الرئيسة النموذجيّ، ومن ثمّ سواء استندنا إلى الجانب اللغويّ أو الجانب الاصطلاحيّ، فإنّ بناء الشخصيّة النموذجيّة هدف أساسي

(54)

للمثاليّة، وهذا ما حاول أفلاطون تأكيده في جمهوريّته الفاضلة، وهذا ما حاول باركلي إرساءه في الجانب المعرفيّ خاصّة، سواء اتّفقنا معه أم لم نتّفق، كذلك ظهر هذا الأمر جليّاً في الجانب الأخلاقيّ  والقيميّ عند الفيلسوف الألمانيّ كانط.

خامساً ـ إشاعة روح الاحترام بين الناس.

من أهداف المثاليّة، العمل على إشاعة روح الاحترام، وهذا الهدف يظهر جليّاً في علاقة المثاليّة بالمنظومة التربويّة، فما يمكن أن نسمّيه المثاليّة التربويّة التي لها علاقة رئيسة بالتربية يهتمّ اهتماماً كبيراً بقيم الاحترام للنفس وللغير، وإشاعة السلوكيّات الحميدة بين الأفراد.

سادساً ـ الإعلاء من قيم الولاء والانتماء.

وهي من أعظم الأهداف التي ترمي إليها المثاليّة، فمن المؤكّد أنّه كلّما ازدادت موجات الماديّة، ازدادت تبعاً لذلك موجات من عدم الولاء والانتماء للأفراد والأسر والمجتمعات؛ لأنّ المادّة تعمل على الإجهاز على هذين الأمرين، ففي مجتمع سادت فيه المصلحة الماديّة فإنّ قيم الولاء والانتماء ستظلّ مفقودة. في حين تنمي المثاليّة هذا الجانب؛ لأنها تقوم على الإعلاء من الجانب الروحيّ على ما عداه، وباهتمامها بالقيم الإنسانيّة والمبادئ الأخلاقيّة.

سابعاً ـ البحث عن الحقائق الكليّة والقوانين الخفيّة: فالفلسفة المثاليّة تبحث فيما وراء المادّيّ المحسوس، أي تبحث عن الحقائق الباطنة الخفيّة وراء هذا الكيان المادّيّ الظاهر شكليّاً، وهي بذلك تقترب من هدف العلم ذاته الذي يبحث عن القوانين الكلّيّة الثابتة.

ثامناً ـ الكفاح ضد المادة: تمثّل الفلسفة المثاليّة مرحلة من

(55)

مراحل الكفاح ضدّ المادّيّة المفرطة في هذا العالم المحسوس، فهي ترى أنّ العالم المادّيّ يخفي عنّا الكثير والكثير من الحقائق.

تاسعاً ـ السعي الدائم للوصول إلى الحقائق الكامنة:

من المعلوم أن الفلسفة المثاليّة فتحت أبواب الخيال غير المتناهي على مصراعيه للكشف عن تفسير أصل الكون، مع البحث عن العلاقة بين مكوّناته، وتأكيد أنّ هناك حقائق ثابتة في الوجود، ومن ثمّ انطلقت المثاليّة إلى إمكانيّة معرفة هذه الحقائق أمام التيّارات الانهزاميّة في تاريخ المعرفة، كلّ ذلك أبدع من خلاله الفلاسفة فكرة العلم، ورسخوا هيمنة الإنسان على جوانب مهمّة من الكون لا يمكن الاستهانة بها؛ لأنّها كشفت عن العديد والعديد من أسرار الطبيعة، فكان ذلك بمثابة قفزة للإنسان من الحياة الحسّيّة العمياء إلى حياة تعقل الموجودات، وكشف العلاقة بينها وبين تطوّرها.[1]

وهذا دليل على أنّ هناك قوانين وراء العالم المادّيّ المحسوس، ولا يمكن الوصول إليها إلّا من خلال العقل باعتباره الوسيلة المنفتحة على ما وراء الحسّ، والقادر على إحكام السيطرة على الماديّة المفرطة، وتوجيهها إلى جانب روحيّ.

عاشراً ـ استقلاليّة الذات:

لا شكّ في أنّ الفلسفة المثاليّة تؤكّد استقلاليّة الذات، استناداً إلى النور الفطريّ الموجود داخل ذواتنا، الذي يرفعها إلى الأعالي متعاليةً عن العالم الماديّ المحسوس.

(56)

ثالثاً ـ أنواع المثاليّة:

هناك العديد من المثاليّات التي ظهرت عبر تاريخ الفكر العالميّ، والتي كان لها تأثير كبير في العديد من التيّارات الفكريّة التي تأثّرت بها. وهناك من الباحثين من يقسّم الفلسفة إلى عمليّة ونظريّة، ويقصد بالعمليّة تلك المثاليّة التي تحمل على المعنى العامّيّ، أمّا النظريّة فيقصد بها التقليديّة والذاتيّة والنقديّة والمطلقة إلى غير ذلك من أنواع الفلسفة المثاليّة.

فالمثاليّة العمليّة لا علاقة لها بالفكر الفلسفيّ ولا بأيّ نوع آخر من الفكر النظريّ إلّا فيما ندر، وإنّما هي نتاج احتكاكات مع الواقع، فعندما يقال رجل مثاليّ، فإنّما يقصد بذلك ذلك الرجل الذي يتخذ أسلوباً في التعامل مع القضايا الحياتيّة، يختلف كثيراً عمّا يتبعه الناس، فلا يتأقلم لتكون أفعاله منسجمة مع ظروف الوضع الاجتماعيّ السائد، ولا تكون أفعالة نتيجة السعي وراء المصلحة الشخصيّة أو المنفعة الذاتيّة، فهو يتّخذ موقفه من القضايا نتيجة وازع يكمن في ذاته، وممّا يحسب له أنّه عندما تستحوذ قضيّة ما على عقله فإنّه يتعامل معها بتعمّق، في حين يتعامل غيره مع تلك القضيّة أو غيرها بنوع من اللامبالاة، أو بنوع من التسطيح والتهميش، ومن ثمّ ينظر إلى المثاليّ في هذه البيئة وكأنه وحيدٌ لا أنيس يشاركه ولا جليس يؤيّده، وينظر له الناس على أنّه نبت غريب لا أصل له، “فالمثاليّة هنا تساوي اللاواقعيّة؛ لأنّها تتعامل مع الأحداث بأقيسة منطقيّة لم يعد يفهمها الناس، وبقواعد أخلاقيّة لم يعبأ بها الكثيرون، وهنا يصبح المثاليّ في نظر الآخرين رجلاً شاذّاً، بل مثاراً للسخريّة والتهكّم، فهو أشبه بالعالم في مجتمع الجهلاء المتعنّتين، وبالشريف

(57)

بين زمرة من اللصوص والمحتالين، وبالعفيف بين نفر من الطامعين الجشعين المفرطين في الأثرة على حساب الإيثار، فعندما تنحطّ القيم ويتفشّى الفساد، ويألف المجتمع شيئاً فشيئاً القيم السلبيّة الجديدة... هنا لا يبقى من الناس إلّا نزر قليل، يشذّ عن روح المجتمع الجديد بتمسّكهم بالقيم الكلاسيكيّة القائمة على التأمّل والتمحيص في دقائق الأمور، والتشبّث بروح الفضيلة التي تجاوزها زمانهم، وهنا ينظر إليهم على أنّهم شواذّ أو غريبو الأطوار أو مثاليّون، فهم غير واقعيّين في وقت خلع فيه المجتمع في غالبيّته ثوب الحشمة، وارتدي هندام التبرّج والتحلّل من القيم المثلى التي على رأسها الضرب عُرض الحائط بكلّ ما يخالف الممارسات الحياتيّة اليوميّة، حتّى لو كانت تلك المخالفات تمثّل الحقّ الضئيل في غمرة حشد من الباطل».[1]

فالمثاليّة العمليّة مثاليّة أخلاقيّة؛ لأنّ المثاليّ فيها يصل بين النظريّة والتطبيق،  فيعمل على تطبيق النظريّة، في الوقت الذي ارتضى فيه الكثيرون أن يظلّوا قابعين داخل أفكارهم النظريّة وحسب، فهو يعمل على إنزال فكره على أرض الواقع تجسيداً وتطبيقاً، وكأنّ المثاليّ تحوّل إلى الواقعيّ، والخياليّ إلى الحقيقيّ، لكنّ الاحتكاك مع الواقع قد يجعل المثاليّ يضادّ اتّجاهه، أو أن يناقض نفسه؛ لأنّ الواقع مرير، وتغييره صعب جدّاً، وهذا بدوره قد يدفعه إلى محاولة تغييره على أساس من تبنّي قضية العنف، محاولة منه للتغلّب على أمر سائد فيه من البؤس ما فيه، وفيه من الشقاء ما فيه، وهذا بلا شكّ، أمر غير مقبول البتّة، “هنا لا يمكن تحقيق المثال في الواقع، إلّا بالضغط العمليّ على الواقع لتغييره وفقاً لقوانينه الخاصّة، هو أمر

(58)

قد يعطي تبريراً لإرهاب الدولة أو الأفراد من أجل فرض آرائهم، لهذا يصعب على المثاليّ الذي حقّق مثاله أوشرع في تحقيقة في الواقع العودة عن هذا الواقع، على اعتبار أنّه قد أصبح أسيراً لشقاء الضمير الدافع إلى التزام أخلاقيّ نحو هذا الواقع، ومن هنا تنشأ عند الفرد أو الزمرة التشبثيّة فكرة الهيمنة على السلطة بالأساليب التي تتولّد منها مفاهيم الديكتاتوريّة والاستبداد في عالم السياسة».[1] 

ولكن هل تعترف المثاليّة العمليّة أو الأخلاقيّة بخطورة هذا النهج الذي يقضي بالكليّة على فكرة المثاليّة بما تشمله من سموّ وعلوّ عن الصغائر والشرور؟! يجب الاعتراف قبل الإجابة عن هذا السؤال بأنّ الأوضاع المعيشة في الجوانب السياسيّة  والاجتماعيّة والاقتصاديّة وغيرها تعد حجر عثرة تمنع من وصول المثاليّة إلى مبتغاها، فهذه الأوضاع تمثّل عائقاً أمامها، ومن ثمّ فلا بديل سوى تغيير هذه الأوضاع، إلّا أنّه في حالة بقاء هذه الأوضاع على حالها ـ وهذا هو المتحقّق بالفعل ـ فإنّ المثاليّ يصاب بالقهر النفسيّ والمعنويّ، الذي قد يقوده إلى عكس ما تدعو إليه المثاليّة، فيكون عاملاً في زعزعة الأمن والاستقرار، ويتّخذ من الإرهاب الفكريّ أو غيره منهجاً وسبيلاً، “فينشأ عن هذا الإرهاب إرهابٌ آخر في صورة مثاليّة، يسعى أتباعه إلى تحقيق مثالهم في أرض الواقع بأساليب لم يعد غيرها سبيلاً؛ لتغيير الواقع وتحقيق المثال، ومن هنا يتّضح لنا أنّ المثاليّة الأخلاقيّة كغيرها من المثاليّات، ليست ضرباً من العبث، أو الترفع عن الواقع أو نكرانه، بقدر ما هي ثورة عارمة لتغيير هذا

(59)

الواقع، حتّى لو استدعى أمر الوصول إلى هذه الغاية استخدام وسائل تتنافى مع طابع المثاليّة.[1]

لكن ليست المثاليّة تقف عند هذا المظهر السابق وحسب، فإذا كان المظهر السابق يتّخذ من العنف سبيلاً، فإنّ هناك مظهراً آخر يتّخذ من السلبيّة سبيلاً، فيتعلّق بالماضي، ويتقوقع داخل الذات، راضياً لنفسه بمزيد من الوحدة، منفصلاً عن مجتمعه، وكأنّه هنئ بحالة الاغتراب التي ارتآها لنفسه برغبته في الظاهر، وبدافع الظروف السائدة في الباطن.

لكن «قد يكتسب مصطلح المثاليّة مفهوماً أرقى عند عامّة الناس تحدّده في الغالب درجة رقيّ المجتمع، وتطوّره الأخلاقيّ  والثقافيّ وفقاً لمعايير اجتماعيّة يحترمها الناس، وقوانين يتساوى أمامها الجميع في الحقوق والواجبات مساواة نسبيّة يستحقّ فيها الفرد ما له وما عليه، وفقًا لإمكانيّاته الإنتاجيّة، ومواهبه وقدراته التي تميّزه عن الآخرين، وفي هذه المرحلة من حياة المجتمع يجد الفرد نفسه مستظلّاً بمظلّة المجتمع العادل، الذي تقوم فيه المنافسة الشريفة وفقاً لقوانين عادلة، وهنا يتخلّص الفرد بإرادته من كثير من العادات السيّئة، وعلى رأسها رذيلة الحسد التي منشأها شعور الفرد بأنّ الآخرين يحصلون على نعمتهم بدون وجه حقّ، والمثاليّة في هذه البيئة العادلة تعني عند عامّة الناس القدوة أو النموذج المثير لإعجاب الآخرين، والدافع للاقتداء بهم وفقاً للمعايير الاجتماعيّة، والقيم الأخلاقيّة في ظلّ القوانين المعمول بها، ومن هنا تكتسب المثاليّة مفهومها الأقرب للمفهوم الفلسفيّ، فالإنسان

(60)

المثاليّ رجلاً كان أو امرأة يثير إعجاب الناس واحترامهم، بدلاً من سخريّتهم، ويتمنّى الآخرون على الأقلّ ـ إن لم يسعوا لتجسيد هذا التمنّي ـ أنّ يكونوا مثله في تعامله مع أحداث الحياة، وهم في ذلك راغبون عن حسن نيّة في بلوغ درجات أرقى في سلّم الكمال».[1]

فيما عدا المثاليّة العمليّة أو الأخلاقيّة فإنّ المثاليّات على اختلاف مذاهبها وأنواعها تسمّى مثاليّة نظريّة، وهي تلك المثاليّة التي تصاغ في إطار فلسفيّ فكريّ، يحاول أن يستشرف عالماً جديداً، عالماً يريده المثاليّ عالماً أفضل ممّا هو كائن.

 

ومن أبرز المذاهب المثاليّة النظريّة:

أ - المثاليّة التقليديّة:

وهذه المثاليّة تعرف بالمثاليّة المفارقة، كما تعرف بالمثاليّة الإلهيّة، وهي المثاليّة التي تنسب للفيلسوف اليونانيّ أفلاطون، الذي انطلقت فكرته من تفريقه بين عالمي: المثل والحسّ، وعالم المثل هو العالم الحقيقيّ عنده، ومن ثمّ فالمثاليّة عنده عبارة عن المثل أو الصور التي توجد للأشياء في عالم الواقع، وهذه المثل مفارقة للأشياء، وتوجد في عالم إلهيّ لديه هذه الصور وتلك المثل العليا، فالأشياء التي نراها في الواقع، ما هي عند أفلاطون إلّا صورة منقوصة للمثل الكاملة في عالم الحقيقة، فحقيقة الأشياء لا توجد في عالم الحسّ، وإنّما توجد عنده في عالم المثل، بما يعني أنّ المعرفة لا توجد عن طريق الحسّ، وإنّما

(61)

توجد عن طريق العقل وحده، ومن هنا جاءت تسمية هذه المثاليّة بالمفارقة حيناً وبالإلهيّة حيناً آخر.

وهناك من يطلق على هذه المثاليّة مصطلح المثاليّة الوجوديّة، على اعتبار أنّها تربط بين الفكر والوجود، مع الأخذ في الاعتبار أنّها تضع حدّاً فاصلاً بين وجود الفكر وفكر الوجود، الوجود الحسّيّ عند أفلاطون ليس موضوعاً للفكر، لأنّ الوجود الحقيقيّ عنده هو عالم الأفكار، فالوجود يكمن في الفكر، وليس الفكر هو الذي يكمن في الوجود.

ب. المثاليّة الذاتيّة:

وإذا كانت المثاليّة التقليديّة تنتمي إلى المذهب الأفلاطونيّ، فإنّ المثاليّة الذاتيّة من أشهر أعلامها رينيه ديكارت، وجورج باركلي.

    • المثاليّة الذاتيّة عند ديكارت René Descartes (1596-1650):

ومن الجدير بالذكر أنّ أغلب المؤرّخين يعتبرون ديكارت طيلة القرون الأربعة الماضية «أباً للفلسفة الحديثة»[1]، ويذكر كوتنجهام Cottingham أنّه معروف بهذا عالميّاً.[2]

الدكتور حسن حنفيّ ذهب إلى أنّ فلسفة ديكارت المثاليّة في ذاتها تنطوي على مواقف متعارضة[3]، ولذا يتساءل: „هل موقف

(62)

ديكارت بالنسبة للدين موقف المفكّر الحرّ أو موقف المبرر التقليديّ ولكنْ بأسلوب أذكى وبطريقة أوضح“؟[1].

وقد ظهر الموقف اللاهوتيّ للمثاليّة الديكارتيّة في أكثر من موقف وأكثر من نصّ، يقول ديكارت: „يكفينا نحن معشر المؤمنين أنّ نعتقد بطريق الإيمان بأنّ هنالك إلهاً وبأنّ النفس الإنسانيّة لا تفنى بفناء الجسد، فيقيني أنّه لا يبدو في الإمكان أنّ نقدر على إقناع الكافرين بحقيقة دين من الأديان، بل ربّما بفضيلة من الفضائل الأخلاقيّة، أن لم نثبت لهم أولاً هذين الأمرين بالعقل الطبيعيّ“.[2]

 كما يقول: «...غير أنّ مجمع لتران المنعقد برياسة البابا ليون العاشر، وما قرّره من إدانة هؤلاء [أي الكافرين] ودعوته الفلاسفة المسيحيّين دعوة صريحة إلى الردّ على أقوالهم، واستعمال أقصى ما تملك عقولهم من قوّة لإظهار الحقّ، كلّ هذا قد جرّأني على محاولة ذلك في هذا الكتاب»[3]

ومن ثمّ يتجدّد السؤال: هل أقام ديكارت مثاليّته على عقلانيّة مظهريّة أكثر ممّا هي جوهريّة؟ ولا سيّما أنّ ديكارت يستحضر أطروحات العقيدة المسيحيّة الكاثوليكيّة، فضلاً عن آليّاتها التقليديّة، مثل آليّة مواجهة الشيطان الماكر بمساندة الإله الصادق. ومادام فرض الإله الصادق حاضر في التفكير، فإنّ النتيجة معلومة

(63)

مسبقاً؛ حيث أنّ الإله الصادق سيقدّم للإنسان آليّة النجاة، أو على الأقل سيدعم آليّة الإنسان الخاصّة في النجاة، على أنّ هذه الآليّة الخاصّة، أعنى الفكر، غير كافية بذاتها، بل بحاجة دوماً لضمان إلهيّ. وهذا الضمان الإلهيّ مسلم به منذ البدء في إحدى أهمّ لحظات بناء المذهب الديكارتيّ[1]

وأيّاً ما كان الأمر فإنّ المثاليّة الذاتيّة الديكارتيّة تنطلق من الكوجيتو الديكارتيّ: أنا أفكّر إذن أنا موجود، ذلك أنّها تظهر تجاوباً من نوع ما بين المثاليّ الذاتيّ والتفكير العمليّ المؤسّس على التأمّل الفلسفيّ، فأنا أفكّر يعني في التحليل الأخير أنّني موجود، فالوجود الديكارتيّ مرتبط بالفكر، ولكن على معنى مغاير لما ذهب إليه أفلاطون، „ فعبارة أنا أفكّر. . التي يمثّل فيها الوجود أوّل حقيقة متعارف عليها، فهي تطرح نفسها كعنصر عقليّ لمن يقوم بهذه العمليّة، أي عمليّة التفكير وفي إطار التفكير الفلسفيّ أيضاً، ومن هنا تبحث الفلسفة عن أساس الوجود المعروف، من حيث هو وجود معروف، وفي إطار المعرفة ذاتها، وهنا يتحوّل فكر الوجود إلى نظريّة معرفة في الوجود، ولذا يمكن أنّ يطلق على هذه الفلسفة في هذه الحالة اسم المثاليّة الذاتيّة، لكن إخراج هذه الفلسفة الأخيرة من إطارها لا يمكن أن يتم إلّا عن طريق الفلسفة الاستشراقيّة»[2]

العقل بهذا الشكّ المنهجيّ الديكارتيّ هو أساس لأيّ معرفة، كما أنّه أساس لأيّ مثاليّة ذاتيّة، إنّ الهدف من قاعدته الشهيرة: أنا أفكّر أنا إذن موجود، هو العمل على طرح كلّ الآراء السابقة،

(64)

وأنا بصدد معالجة أيّ قضيّة من القضايا، أو أيّ موضوع من الموضوعات، والشكّ في كلّ الطرائق والمناهج والأدوات التي جرى التوصّل من خلالها إلى تلك المعارف، وكأن الهدف من ذلك الوصول بالعقل إلى مرحلة يكون فيها مجرّداً خالصاً، حتّى يصدر حكمه على الأمور. لا شكّ في أنّ ديكارت كان يدرك أنّ العقل واحد بين جميع البشر، لكن بما أنّ العقل يتحقّق في كل البشر بالتساوي، فلماذا نختلف؟ الإجابة عند ديكارت تكمن في الطرائق والأدوات والمناهج التي يسير عليها البشر في استخدام عقولهم، فالاختلاف ناتج من هذه، وليس بحال ناتجاً من العقل ذاته.

لكن يبقى سؤال آخر يتعلّق بتلك القاعدة الديكارتيّة التي بنى عليها مثاليّته الذاتيّة مؤدّاه! هل الشكّ لذاته وفي ذاته؟ الإجابة بالنفي؛ لأنّ ديكارت لم يكن يريد من هذه القاعدة شكّاً لذاته أو تكذيباً لمعارفنا السابقة، وإنّما كان يقصد إجراء عمليّة اختبار لهذه المعارف وتلك الطرائق والقوى التي توصّلنا بها إليها، حتّى نكون على يقين من الخطأ والصواب فيها، وديكارت لم يكن يقصد بشكّه المنهجيّ في قاعدته الشهيرة التفصيلات الجزئيّة، بحيث يستقصيها جزءًا جزءًا، وإنّما هدفه اختبار القضايا الكبرى والمبادئ العامّة، التي إن ثبت خطأها فهذا يعني بالضرورة خطأ الأفكار والآراء والحلول التي بُنيت عليها.

إذن معنى هذا أنّ ديكارت يشكّ في الحواس؛ لأنّها تخدعه في أحيان كثيرة، ومن باب أولى يجب عدم الركون إلى حكم الحواسّ إلّا بعد اتّخاذ الطرائق الكفيلة بتأكيد ما وصلت إليه الحواسّ من عدمه، ومن هنا يؤكّد عثمان أمين أنّه لمّا كان

(65)

مطلوب ديكارت هو بلوغ درجة اليقين، الذي يمكن أنّ يقيم عليه بناء العلم كلّه، فإنّه كان شديد التصميم على الشكّ في كلّ ما تعلّمه من قبل، وأن يمضي في شكّه هذا إلى أبعد حدوده، بادئاً النظر كلّه من جديد، وكأنّ عينيه تتفتّحان لأوّل مرّة على العالم من حوله، ومن ثمّ كانت الخطوة الأولى التي يقضي بها المنهج الفلسفيّ هي تعليق آرائنا على الأشياء، ووقف الحكم عليها، إلى أنّ نتبيّن من حقيقتها.[1]

ومن ثمّ وجدنا الدكتور يوسف كرم يؤكّد أنّ ديكارت اتّخذ من هذه القاعدة مبدأ أوّل للفلسفة، وأنّه اتّخذ الفكر مبدأ؛ لأنّه وجود معلوم قبل وجوده، وعلمه أوضح من علم كلّ وجود، ومهما نعلم فنحن بفكرنا أعلم، „فمثلاً لو اعتقدت أنّ هناك أرضًا بسبب أنّي ألمسها وأبصرها، فيجب أن أعتقد من باب أولى أنّ فكري موجود، إذ قد أفكّر أنّي ألمس الأرض من دون أن يكون هناك أرض، ولكن ليس من الممكن إلّا أكون في الوقت الذي أفكّر فيه. ثمّ أنا أتّخذ هذه الحقيقة الأولى معيارًا لكلّ حقيقة، فكلّ فكرة تعرض لي بمثل هذا الوضوح أعتبرها صادقة».[2]

ومن ثمّ كانت الفلسفة الديكارتيّة فلسفة مثاليّة؛ ذلك أنّ الفكر في الكوجيتو يحتلّ المكانة الأولى والرئيسيّة، وهذا الفكر كان أساسًا تفيض منه كلّ الحقائق، فضلاً عن أنّها مثاليّة؛ لأنّه لا وجود للوجود إلّا في دائرة الفكر، بمعنى الوجود الديكارتيّ لا يدخل حيّز الوجود الفعليّ إلّا إذا كان مادّة للتفكير عن طريق تعقّل العقل له.

(66)

فالوجود في الفلسفة الديكارتيّة عبارة عن مجموعة من الوقائع، والفلسفة التي تنظر للوجود على أنّه وقائع تعدّ - في التحليل الأخير- فلسفة واقعيّة، وهذا ما جعل أحد الباحثين يرى - فيما ما يشبه التأكيد - أنّ المثاليّة الديكارتيّة تحوي في جانب منها على واقعية من نوع ما، „ويبدو أنّ هذه الواقعيّة الديكارتيّة قد فرضت نفسها من حيث إنّ الكوجيتو: (أنا أفكّر) كشيء يقوم بالتفكير، جعل من الممكن للفكرة idea التي هي موضوع المعرفة أنّ تكون أداة للمعرفة أيضًا، وذلك جريًا على تقليد الفلسفة الواقعيّة، ومع ذلك فلا بدّ لنا من أن نسلّم بأنّ تحليل الفلسفة الذاتيّة المنصبّ على فلسفة الوجود ينساق أيضًا على تحليل وجود للوجود، وخاصّة فيما يتعلّق بوجود المعرفة، هذا التداخل المريب بين الفلسفة الذاتيّة والفلسفة الواقعيّة يظهر لنا حقيقة واحدة، إنّها تسليم كلّ منهما بوجود جوهر جسمانيّ، وبوجود وحدة جوهريّة بينه وبين الجوهر المفكّر».[1]

فالله في المثاليّة الديكارتيّة كان نقطة البدء التي بدأ فيها ديكارت باستعمال شكّه المنهجيّ، فبدون معرفة الله: صفاته ووجوده، فإنّ ديكارت كان يرى أنّه لن يكون في مقدرة الإنسان تأكيد أيّ شيء مطلقًا. ففكرة الله عنده تُلّخص في كونه الكامل، ومن لوازم الكمال الصدق، فالله صادق لا يخدع؛ لأنّ الخداع نقص، والنقص لا يجوز في حقّ الله تعالى؛ لأنّه كامل، فقد كان ديكارت على يقين بأنّ الله خلق العقل مستأهلاً ومؤهّلاً لإدراك الصواب أيّاً كان مصدره، وليس عليه إلّا أن يبذل جهده لإدراك الفكرة الواضحة الصحيحة، بما يعني أنّ فكرة الضمان الإلهيّ، وفكرة الوضوح في الأفكار كانتا تستحوذان

(67)

على عقليّة ديكارت في مثاليّته الذاتيّة بجوار نظريّته في الشكّ، حيث تمثّل الثلاثة المنهج الذي قامت عليه هذه المثاليّة.

    • المثاليّة الذاتيّة (اللاماديّة) عند باركلي:

أمّا المثاليّة الذاتيّة أو اللاماديّة التي تنسب إلى الفيلسوف جورج باركلي، فتنطلق هذه المثاليّة من الاعتقاد بأنّ إدراك الشيء يعني وجوده، وبأنّ الأشياء ليس لها وجود مستقلّ عن إدراك الإنسان، فلا وجود للمادّة؛ إذ هي عند باركلي مجرّد وهم باطل، وجب التخلّص منه، ومن ثمّ فإنّ المدركات الحسّيّة مستقلّة عن العقل، وهذا يفسّر لنا لماذا تنطلق مثاليّته من منطلقي: العقل والروح، فالعالم الخارجيّ بكلّ مدركاته موجود في العقل الإلهيّ.

والوجود في هذه المثاليّة لا ينفصل عن الإدراك، فالموجود عند باركلي هو المدرك، أي الذي تأكّد إدراكه بالعقل، وهذا يعني عند باركلي أن ما ليس مدركًا فإنّه غير موجود، بما يعني أنّ هناك علاقة طردية بين الوجود والإدراك، ومن ثمّ وبناء على ذلك فقد رفض وجود الأفكار المجرّدة في أرض الواقع، وأهمّ هذه الأفكار فكرة الجوهر المادّيّ، وهي الفكرة الي كانت الشغل الشاغل لمفكّري العصور الوسطى، “والغريب في الأمر هو أنّ باركلي لكي يثبت عدم تجريد هذه الأفكار، كان قد دلّل على ارتباطها بالواقع المادّيّ، فالصفات الأوليّة كالصفات الثانويّة على سبيل المثال جميعها مرتبطة بالأشياء المادّيّة، وليس كما يزعم جون لوك من أنّ الثانويّة منها لا علاقة لها بالأشياء، واعتقد بعضهم أنّ باركلي قد وقع في مأزق منطقيّ، إذ كيف يتسنّى له نفي الأفكار المجرّدة بربطها بالعالم المادّيّ، في الوقت الذي يدعو فيه إلى نكران الوجود المادّيّ في

(68)

الخارج، لكنّ باركلي يفاجئ الجميع بقوله: إنّ الأشياء في الخارج تنبعث من ذواتنا، وبالتالي فهي ذاتيّة، أما المزيّة الثانيّة فهي نقده اللاذع والمنطقيّ لفكرة العليّة باعتبارها كبرى الأفكار المجرّدة الجديرة بالنقد على حد تعبيره».[1]

 ج- المثاليّة النقديّة:

وهي المثاليّة التي ظهرت على يد الفيلسوف الألمانيّ إيمانويل كانط، الذي جعل مثاليّته تدور في شقّين جوهريّين: العقل القائم على التجربة الممكنة والإرادة الخيرة، والمثاليّة عنده نقديّة باعتبارها جعلت العقل مصدرها الرئيس، مع وضعها شروطاً له يسير بمقتضاها ولا يتعدّاها، في الوقت الذي جعل التجربة الممكنة جزءًا رئيسًا من مثاليّته، ومن ثمّ فقد حدّد مجموعة من الشروط التي تسمح بإمكانيّة التجربة، وهي في التحليل الأخير شروط عقليّة، تعمل على تنظيم عمليّة المعرفة التي تمرّ بالحواسّ، بما يعني أنّ المعرفة عنده تقوم على رافدي: العقل والحسّ.

وإذا كان كانط مؤسّس المثاليّة النقديّة، فقد «نأى بنفسه مرارًا وتكرارًا عن تلك المثاليّة التي تصوّرها ج. باركلي،، من أجل التحذير من الإلحاد في تجربته الذهنيّة المتأخّرة، والتي تقبل الوصف بكونها تجربة الانطواء، والقول إنّ ذات الشيء هي ما المدرك؟ وفي ذلك كتب كانط: (وهكذا فالأنانيّة والمثاليّة محاولة شكاكيّة لا ينفي صاحبها وجود الأشياء، بل يلغي الثقة في الحواسّ، فكون الحواسّ لا يمكن أنّ تمدّنا بأيّ برهان أمر جيّد جدّاً. . في نظر الفلسفة، أمر تفصل فيه البحوث، لكنّ العقل في الحقيقة يستطيع أنّ يضيف شيئًا

(69)

إلى صدقيّة الحواسّ؛ ذلك أنّه عندما تتغيّر الأشياء فإنّه لا بدّ من أنّ توجد علّة لهذا التغيّر، وبذلك تبقى الأنانيّة والمثاليّة مسألتين إشكاليّتين في الفلسفة».[1]

ففي كتاب نقد العقل الخالص نقد كانط ما أسماه بالمثاليّة الماديّة نقدًا شديدًا، قائلاً: “إنّ المثاليّة الماديّة تنظر لوجود الأشياء على أنّه خارج الذات، بل ترى هذا الأمر مشكوكاً فيه من الأساس، فضلاً عن كونه غير قابل للبرهنة العقلية، وقد تفسره على أنه غير ممكن، والنظرة الأولى هي نظرة ديكارت الذي يرى أنّه لا توجد أيّ أمور إلّا وهي قابلة للشكّ من جهة الذات، أمّا النظرة الثانية فهي النظرة الدوغمائيّة الباركليّة، التي تنظر للمكان بكلّ ما يعجّ فيه من أشياء، الذي يعدّ شرطاً ضروريّاً لا يقبل النقاش، يعدّه أمرًا غير ممكن من جهة الذات، ومن ثمّ عد هذه الأشياء مجرّد خيالات ليس إلا، فالمثاليّة الدوغمائيّة لا مهرب منها عندما ينظر المرء للمكان على أنّه صفة يجب أنّ توسم بها الأشياء، . .. بيد أنّ أساس هذه المثاليّة زُحزِحَ في الحسّ المتعالي، والمثاليّة الإشكاليّة هي التي لا تستطيع القدرة على الجزم بوجود الأشياء، وإنّما يقف دورها عند حدود تأكيد عدم القدرة على إثبات وجود خارج وجودنا بواسطة التجربة المباشرة التي تقوم على بعدين لا غنى عنهما: مثاليّ وعقليّ”.[2]

وهذا يفسّر لنا الفكرة القائمة على أنّ المثاليّة عند كانط حركة دائريّة، فهي مثاليّة ذاتيّة يتولد عنها واقعيّة شرفيّة، استناداً إلى أنّ الفكر الكانطيّ يميّز في ذاته بين إرادة العقل الحرّة وعمليّة استقباله

(70)

للحسّيّات، وهذه العمليّة المزدوجة تطرح افتراضًا عند كانط لحالة وجود محايدة لا تنتمي للعقل ولا للمادّة الخام، هذه الحالة يسمّيها كانط الوجود في ذاته، الذي يزوّد عالم الحسّ بالمادّة الخام، أي مادّة الظواهر غير المشكلة، التي لا علاقة للعقل بها، فالشيء في ذاته عند كانط غير قابل للمعرفة، بيد أنّه الفاعل الأصليّ لعمليّة خلق المعرفة، وموضوعها الذي هو الشيء الحسّيّ، وهذه العمليّة تجري في عنصر آخر غيره، أي في عنصر الوجود.[1]

فالمعرفة عند كانط كانت تقوم على محورين: المادّة والصورة، وليست على المادّة وحدها، أو الصورة وحدها، فنحن إذن أمام نوع من الفكر لا تكون فيه المادّة بدون صورة، فليس هناك وظيفة للمادّة دون الاتّحاد بالصورة، فالصورة في نفسها ليس لها أي قيمة تذكر، فكانط لم يكن يشكّك في الوجود، أو يميل إلى إنكاره بأيّ حال. وهذه المعرفة الكانطيّة إنّما تأتي من العقل الخالص، ولذا وجدناه يفرّق بين التصوّر القديم وتصوّره، ومن ثمّ فإنّ قضيّة التصوّر بين الجديرين بهذا الاسم من المدرسة الإيليّة إلى الأسقف باركلي، هي أنّ كلّ معرفة حسيّة فهي ظاهريّة، وأنّ الحقيقة لا توجد إلّا في معاني العقل؛ لأنّ العقل عندهم حدسيّ ومعانيه موضوعات حقّة، بينما المبدأ المهيمن على مذهب كانط التصوريّ هو أنّ كلّ معرفة آتية من العقل الخالص فهي ظاهرة، وأنّ الحقيقة لا توجد إلّا في التجربة؛ لأنّ العقل عنده صوريّ ووظيفة معانيه توحيد التجربة.[2]

(71)

إنّ نظرة كانط للمثاليّة يقيسها بالنظر إلى المثاليّات التي سبقته من المدرسة الإيليّة انتهاء بباركلي، والتي قوامها: أنّ كلّ معرفة قائمة على أساس الحواسّ، والتجربة مجرّد معرفة ظاهريّة، في حين أنّ المبنيّة على أساس العقل هي المعرفة الحقيقية. إلّا أنّه لا يفهم من ذلك أنّ مثاليّة كانط قائمة على العقل وحسب، بل إنّه يقيمها على أساس من رافدين: العقل والتجربة الحسّيّة. فكلّ معرفة عند كانط مؤسّسة على العقل الخالص ليست شيئًا آخر غير الظاهر الخالص أو الحسّ الخالص، فالحقيقة عنده مرتبطة بالعقل والتجربة.

فالمعاني عند كانط لا تستفاد من الأشياء كما يذهب إلى ذلك أصحاب الاتّجاه الحسّيّ، كما أنّ الأشياء بدورها لا تستفاد من المعاني؛ إذ إنّ المعاني لا تنتج أشياء كما يذهب إلى ذلك أصحاب الاتّجاه العقليّ، وإنّما المعاني عنده كانت عبارة عن مجموعة من المبادئ الأوّليّة التي تشترط في عمليّة المعرفة الحسّيّة، وبالنظر إلى معنيي الزمان والمكان مثلاً، فهما ليسا بشيئين محسوسين عنده، وإنّما هما ظواهر عندما يطبقان على الكيفيّات المحسوسة. ومن ثمّ ينتهي كانط إلى «أنّ الفكر حاصل بذاته على شرائط المعرفة، وأنّ الأشياء تدور حوله؛ لكي تصير موضوع إدراك وعلم، ولا يدور هو حولها كما كان المعتقد من قبل، وهذه هي الثورة التي أحدثها كانط في عالم الفكر، وشبهها بالثورة التي أحدثها كوبرنك في عالم الفلك».[1]

فمثاليّة كانط إذن مثاليّة خاصّة تنظر لإشكاليّة الزمان والمكان المرتبطة بالأشياء نظرة مختلفة عن ذي قبل، فهو اعتمد في حلّ هذه

(72)

الإشكاليّة على أساس أنّ الزمان والمكان بكلّ ما يشتملان عليه ليسا الأشياء ولا صفات الأشياء الذاتيّة، وإنّما لهما علاقة بظاهريّاتها، أي الظاهر منها، أمّا السابقون عليه، وعلى رأسهم باركلي فينظرون للمكان على أنّه تصوّر تجريبيّ مثل الظاهريّات، وهذا المكان في نظرهم لا يعرف إلّا من خلال واسطة، هذه الواسطة هي الحسّ والتجربة. في حين أنّ المكان بكلّ محدّداته والزمان اللذين لم يهتمّ بهما باركلي - كان كانط يرى إمكانيّة علمه علمًا قبليّاً، لأنّه يوجد قبل كلّ إدراك حسّيّ أو تجربة باعتباره صورة إحساساتنا، ومن ثمّ فهو يجعل كلّ ظهور ممكنًا. ومن ثمّ وجدنا كانط ذاته يُعرّف بمثاليّته قائلاً: «وهكذا فمثاليّتي المسمّاة بالمثاليّة النقديّة بحقّ، ليست إلّا نوعًا خاصّاً بحقّ، بمعنى أنّها على نحو يزيزل أركان المثاليّة التقليديّة، وإلى المثاليّة النقديّة يرجع الفضل في المقام الأوّل، لكونها تنال كلّ المعارف فيها بما في ذلك الهندسة حقيقتها الموضوعيّة، التي ما كان حتّى لأكثر الواقعيّين دافعيّة أن يدّعيها من دون مثاليّة المكان والزمان التي أقامت الدليل عليها، وقد أحببت - بسبب قرابة الأمور هذه، حتّى أتجنب كلّ سوء تفاهم - لو كان في مقدرتي أنّ أسمّي مفهومي هذا باسم آخر، لكن تغييره التغيير التامّ ذلك ما لم أكن أريد حصوله، فليسمح لي إذن أن أسمّيه مستقبلاً بالمثاليّة النقديّة، كما سبق أن وضّحت ذلك؛ لكي أميّزه عن كلّ من مثاليّة باركلي الدوغمائيّة ومثاليّة ديكارت الظنيّة».[1]

ومن ثمّ ننتهي إلى القول بأنّ المثاليّة النقديّة عند كانط هي مثاليّة متعالية، شرحها في كتابه: نقد العقل الخالص، فنظام العقل

(73)

الخالص بما ينطوي عليه من مثاليّة يقول عنه: «ليس لمثل هذا أن يسمّى مذهبًا علميّاً، بل هوينبغي إلّا يسمّى إلّا نقد العقل الخالص، فلا تكون فائدته الفعليّة إلّا فائدة سلبيّة؛ إذ هو لا يستهدف توسيع مجال العقل، بل تطهيره وحفظه من الأخطاء، وفي ذلك الكثير من النفع، والمعروف أنّ كلّ معرفة لا تنشغل بالموضوعات بل تنشغل خاصّة بتصوّراتنا القبليّة عنها أسمّيها معرفة متعالية، من ثمّ فمن الواجب أنّ تسمّى الفلسفة التي تشمل هذا فلسفة متعالية».[1]

وتبلغ مثاليّة كانط أقصى مداها عند الحديث عن فلسفة الأخلاق عنده، فكانط فيلسوف أخلاقيّ، كتب بعض مؤلّفاته الشهيرة في هذا المجال، منتهيًا إلى ما أسماه مبدأ الواجب الكانطيّ، وكانط كتب في ذلك مصنّفين شهيرين: الأوّل تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، والثاني نقد العقل العمليّ، وهما المصنّفان المعبِّران عن نظريّة كانط الأخلاقيّة.

وقد كان هناك انسجام وتوافق في فلسفة كانط المثاليّة، فهي من ناحية المعرفة مصدرها العقل، وكذلك فلسفة الأخلاق مصدرها العقل، وليس شيئًا آخر، فليس مصدر الأخلاق التجربة ولا الحسّ الباطن، ومن ثمّ فقد كانت وجهة نظره في الواجب تنحصر في صدوره من منبع العقل، فالعقل أساس الواجب الكانطيّ، وهذا الواجب بدوره هو أساس الأخلاق عنده، ومن ثمّ رفض كلّ الفلسفات الأخلاقيّة قبله وهو بصدد بناء المثاليّة الأخلاقيّة؛ استنادًا إلى أنّها كانت ترتكز على قضيّة الغاية، التي عاداها عداءً شديدًا، ومن ثمّ رفض اعتبار كلّ المعاني الدينيّة مثل: الخلود والنفس وغيرهما

(74)

كأساس لأيّ بناء أخلاقيّ، ومن ثمّ كان كتاباه في نقد العقل موجّهين لنقد الفلسفات التي تقيم الأخلاق على أساس ميتافيزيقيّ، في حين كان يرى أنّ الميتافيزيقيّ هو الذي يجب أن يخضع للأخلاقيّ.

ويحسب لكانط أنّ فلسفته المثاليّة تقوم على ثلاثة روافد:

الرافد الأول ـ البناء النظريّ للمعرفة، ويعبّر عن هذا الرافد كتاب: نقد العقل الخالص.

الرافد الثاني ـ البناء الأخلاقيّ، ويعبر عنه كتابه: تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، وكتاب: نقد العقل العمليّ.

الرافد الثالث ـ بناء فلسفة الجمال والغائيّة، ويعبّر عنها كتابه: نقد ملكة الحكم.

والرافد الثالث الخاصّ بفلسفة الجمال يؤكّد فيه أحد الباحثين أنّ العقل هو الحقّ الذي يمثّل مظهره الضرورة والآليّة في الطبيعة، إذ إنّ موضوع الإرادة الخيّرة بواسطة الحريّة، ولدينا قوّة أخرى حاكمة بالجمال والغائيّة، بمعنى أنّها تضع نسبة بين ما هو كائن، وما يجب أن يكون، أي بين الضرورة الطبيعيّة والحريّة، على اعتبار أنّ الجمال والغائيّة معلومان للحريّة التي تعمل في مادّة خاضعة لقوانين الآليّة، فهذه القوّة متوسّطة بين الخير والشرّ، كما أنّها متوسّطة بين العقل والإرادة، وترجع تسميتها بملكة الحكم إلى المماثلة بين مظاهرها وبين الحكم المنطقيّ، فهي كالحكم تنزل حكمًا بين شيئين مختلفين، علمًا بأنّ الحكم بالجمال وقتيّ وتلقائيّ، والحكم بالغائيّة وليد التجربة والاستدلال، والحكمان ذاتيّان، ليس لهما قيمة من الناحية الموضوعيّة، بيد أنّهما صادران بموجب تركيب

(75)

الفكر، خاصّة إذا نظرنا إلى عالم الأحياء، فالغائيّة تكمل الآليّة، فهي الواسطة بين العلم الآليّ والإيمان بالله الذي هدتنا إليه الأخلاق، وأداة الوصل بين الطبيعة والحرّيّة.[1]

ومن ثمّ كان من أهميّة المثاليّة الكانطيّة وأثرها في الفلسفة الألمانيّة، والفلسفات الأخرى المناظرة لها أنّها كان لها الدور الأكبر في تحديد مسيرة الفلسفة المثاليّة الألمانيّة بعده، فقد صار كانط علامة فارقة في التاريخ الفلسفيّ بغضّ النظر عن اتّفاقنا معه من عدمه في كثير من القضايا، حتّى صارت النقديّة أو الكانطيّة أو الترنسندنتاليّة علامة مميّزة للمثاليّة الكانطيّة، تأثّر بها من جاء بعده، حتى صارت المنطلق الأساس للفلسفة الألمانيّة.

فهي أولًا مثاليّة كانطيّة، نسبة للشخص الذي حملت أفكاره العديد من مظاهر الجدّة والطرافة في تناول الموضوعات ووضع الحلول لها، وهي ثانيًا نقديّة؛ لأنّ طابع النقد هو السمة الأساسيّة فيها، فقد اعتمد كانط على العقل، واتّخذه أساسًا لنقد التيّارات الفلسفيّة التي سبقته وكذلك التيّارات التي عايشها، حيث هاله الاختلافات فيما بينها، وطريقة توصّلها للحقيقة الفلسفيّة، وقامت النقديّة الكانطيّة بالأساس على التمييز بدقّة بين الذات المفكّرة والقضيّة موضوع التفكير، وناهضت بشدّة الأخلاق المرتبطة بغاية أو منفعة، مستندة إلى أنّ القانون الأخلاقيّ  هو الذي ينحصر في مبدأ الواجب ليس إلّا، وهو المبدأ الذي تظهر فيه المثاليّة الكانطيّة في جانبها الأخلاقيّ، وهي ثالثة ترنسندنتاليّة، بمعنى أنّها تصوّر المبادئ الأوليّة والمعاني والصور في خضمّ تعلّقها بالتجربة، تأكيدًا

(76)

لكونها مثاليّة نقديّة لا تناصب التجربةَ العِداءَ، ولا هي متعالية عليها.

ومن ثمّ فإنّه إذا كان الشكّ قد قاد ديكارت إلى اليقين، فإنّ النّقد قد ساق كانط إلى الإيمان، فكلا الفكرين يمثّلان فكرًا إيجابيّاً بنّاءً، حيث كانت غاية كانط الأساسيّة تأسيس وتشييد وبناء، في مجالات: العلم، الأخلاق، الفنّ، السياسة، الدين، إذ كان على يقين بقدرة الإنسان على بلوغ حقائق العلم، وبأنّ القانون الأخلاقيّ  يمليه الضمير، في حين يفرض الجمال نفسه على الناس بضرورة شاملة، وأنّ العقل ينكر أنّ تكون الحرب سبيلاً من سبل الحقّ، ويفرض السلم كشعار واجب على كلّ دولة، وأنّ الدين يلائم طموحات الإنسان المترسّخة في شعوره وعقله.[1]

فالمثاليّة الكانطيّة لم ترفض التجربة، ولم تعلِ من شأنها على حساب العقل، كما أنّها لم تكن بحال متعالية على هذه التجربة، فالتجربة جزء لا يتجزّأ وعامل لا يمكن الاستغناء عنه عند المثاليّ، والتجربة المقصودة هنا ليست التجربة المعلميّة في معامل الاختبار، وإنّما التجربة عند كانط هي ما اختبره الإنسان بعقله وجرّبه، وثبت له صحّته من عدمها، إذن فالشيء المثاليّ ليس له وجود مستقلّ من الناحية الأنطولوجيّة، أو هيكل منفصل منغلق على ذاته، بل هو المتمّم لدور التجربة، بحيث يخلع عليها صفة المنهجيّة والتناسق.

د- المثاليّة المطلقة:

وتنسب هذه المثاليّة إلى الفيلسوف هيجل، الذي هاله كمّ التناقض الظاهر في الفلسفة الحديثة، وربّما الفلسفات السابقة أيضًا،

(77)

فيما يتعلّق بالمعرفة والعقل والطبيعة والمجتمع والسلطة والإيمان وغيرها، ومن ثمّ قامت مثاليّته على أساس القضاء على هذا التناقض من خلال نسق عقلاني يشمل حلولاً لكلّ هذه التناقضات، من وجهة نظره من خلال ما أسماه المعرفة المطلقة أو الفكرة المطلقة، أو ما يمكن تسميته المثاليّة المطلقة.

وتنطلق المثاليّة المطلقة من فكرة أنّ الوعي يسبق المادّة، خلافًا للنظريّات التي كانت ترى المادّة سابقة للوعي، وهو ما ذهب إليه ماركس، بما يعني أنّ هيجل لم يهمل المادّة، وإنّما جعلها في مرتبة متأخّرة عن الوعي، فالوعي أوّلاً والمادّة ثانيًا. ومن هنا كان هيجل يرى أنّ هناك مجموعة من الحقائق التي ينطوي عليها هذا الكون، ودور العقل البشريّ أن يكون مركبّاً من الوعي والمادّة لاكتشاف هذه الحقائق، التي لا تستطيع المادّة وحدها إدراكها؛ لأنّها تتعدّى المادّة التي لها حدود تقف عندها، ولا يمكن أن تتعدّاها.

فالروح المطلق عند هيجل وفقًا لتصوّره المثاليّ من خلال تداخله مع الطبيعة، فإنّه يتطوّر بالتدرّج مقدّمًا ثلاث مراحل متدرّجة، أو ثلاث صور متنوّعة:

أوّلاً ـ الروح الذاتيّ، ويعني به الروح الإنسانيّ في ذاته بما يعتلج فيه من ظواهر في الشعور.

ثانياً ـ الروح الموضوعيّ، ويعني به الروح لذاته، والمقصود المجتمع.

ثالثاً ـ الروح الذاتيّ الموضوعيّ، ويعني به الروح في ذاته

(78)

ولذاته، وهي مرحلة الاتّحاد بين الروح الذاتيّ من جانب والروح الموضوعيّ من جانب آخر.

ففيما يتعلّق بالروح الذاتيّ كان هيجل يدرك أنّ جوهر الإنسان روح، والروح عنده شعور في جانب منها، وحريّة في الجانب الآخر، ولكنّ هذا الروح على ثلاث مراحل متدرّجة، هي:[1]

الأولى: وهي المرحلة الأدنى، مرحلة جسميّة الروح، وهي المرحلة التي  يرتبط فيها الروح بالجسد نموّاً ونضجًا وكبرًا وهرمًا وشيخوخة، فيسيران في كلّ هذه المراحل جنبًا إلى جنب، وتنطوي هذه المرحلة على إحساسات غامضة وانفعالات غامضة.

الثانية: مرحلة الشعور الواضح، وفيها يدرك الفرد ذاته، ويدرك الأشياء من حوله بواسطة الفهم الذي يجعل الحسّ خاضعًا للقوانين الأوليّة.

الثالثة: وهي أعلاها، مرحلة العقل، وهي المرحلة التي يجري التأليف فيها بين جسميّة الروح والشعور الواضح، فالعقل يجعل من قوانين الشعور قوانين للحياة، فيتّخذ الروح من ذاته موضوعًا لإرادته، فيتحوّل النظريّ إلى عمليّ، ومن ثمّ فإنّ الروح الذاتيّ عند هيجل عندما يقر بالحقيقة والقانون، فإنّه يقرّ بسمو الروح الموضوعيّ، ويقدّمه على نفسه.

وفيما يتعلّق بالروح الموضوعيّ فإنّه يقوم على ثلاثة مكوّنات: الحقّ والواجب والمؤسّسات الاجتماعيّة، ويقصد بالأخيرة الأسرة

(79)

والمجتمع المدنيّ والدولة، فالأنانيّة وحبّ التملّك والسيطرة هي سمات حالة الطبيعة، ويراها هيجل مرحلة البدائيّة الأولى التي ظلّ الإنسان فيها فترة طويلة من الزمن، والتى حاول وسعه القضاء عليها، وقدّم الكثير من النقود ضدّها، في حين تخضع هذه الأنانيّة لمنطق القانون أو فلسفة الحقّ في حالة الاجتماع؛ لأنّ الإنسان حينها يدرك أنّه في حاجة إلى أقرانه، وأنّه لا بد من أن يتنازل عن بعض حقوقه للآخرين نظير هذا الاجتماع، ويجعل لحرّيّته حدّاً في علاقته بهم في عقد اجتماعيّ سماه هيجل التعاقد.

أمّا الأسرة فهي عنده تتّسم بالحبّ والوئام والتوافق، فهي تمثّل الانسجام الذي يعدّ الصفة الأساسيّة في تكوين الأسر، ومن ثَمَّ فإنّ المجتمع المدنيّ يخرج للنور في مرحلة ما يسمّى بالروح الموضوعيّ، بين الأسرة والدولة، وصولاً إلى الدولة الحيّة الأخلاقيّة أو الأخلاق الاجتماعيّة، وهي التي تناولها هيجل في الجزء الثالث من كتابه أصول فلسفة الحقّ.[1]

أمّا وظيفة الدولة عند هيجل فتتمثّل في إقامة التوازن بين الفرديّ والجماعيّ الذاتيّ والكلّيّ، إقامة التوازن بين المصلحة الخاصّة والمصلحة العامّة، وتنظيم المجتمع المدنيّ ومراقبته بحيث يكون فاعلاً ومؤثرًا، إلّا أنّ الدولة عنده كانت مهيمنة على المجتمع المدنيّ، إذ لم يكن ينظر إليه على أنّه قطب في مواجهة الدولة، وإنّما هو مجرّد مرحلة تؤدّي إلى الدولة، فهو اللحظة الثانية من الحياة الأخلاقيّة أو الأخلاق الاجتماعيّة، بخلاف اللحظة الأولى وهي الأسرة،

(80)

واللحظة الثالثة والنهائيّة هي الدولة، فالأخيرة هي الأساس الحقّ للأسرة والمجتمع المدني.[1]

وهذا يؤكّد أنّ المجتمع المدنيّ عند هيجل لا يعمل بمعزل عن الدولة، فالدولة عنده هي التي ترفع العوائق التي تحيط به، بما يعني أنّ نقطة البدء عنده هي الدولة، فهي المحور الذي تدور حوله الأسرة والمجتمع المدنيّ. بيد أنّ هيجل رفع من شأن الدولة كثيرًا إلى حدّ الاستبداد، حيث يجعل الدولة مسيطرة على الفرد سيطرة تامّة، ومن ثمّ فإنّ خضوع الفرد لها خضوع جبريّ، فليس له أن ينتقد أو يشير إلى تغيير من نوع ما، فوصل بالدولة إلى مرحلة الدولة الاستبداديّة التي يكون فيها الحاكم كّأنه حاكم إلهيّ.

وفيما يتعلّق بالروح الذاتيّ الموضوعيّ معًا ـ وهي فكرة رئيسة في علاقة المثاليّة بالمطلق عنده -  فهي تلك التي تظهر فيها الحياة الروحيّة عند هيجل متجلّية في الفنّ والدين والفلسفة، وهنا تظهر مثاليّة المطلق بصورة واضحة عنده، وإن ظهرت بصورة مغالية؛ إذ يتجاوز مرحلة الدولة، حتّى لو كانت الدولة الكاملة، أو دولة الكمال، فمرحلة الروح في الذات وللذات أعلى من الدولة عنده، وهي مرحلة الذات الروحيّ الموضوعيّ في أن واحد، وفيه تتّجه هذه الذات إلى تحقيق ما ترتئيه في نفسها من مثل عليا، مثل الله، الجمال، الحقيقة، فيتوّلد عن ذلك الفنّ والدين والفلسفة، ومن ثمّ يتحقّق الروح المطلق فعليّاً في نفس الإنسان.[2]

(81)

والفنّ ـ كتعبير عن المثاليّ ـ عند هيجل له صور متعدّدة: الفنّ الموضوعيّ كالنحت والتصوير والعمارة، والفنّ الذاتيّ كالموسيقى والشعر، وبالفنّ انتصر الإنسان على المادّة، “بالفنّ أحرز الإنسان أوّل انتصار على المادّة، قبل أن ينتصر عليها انتصارًا كليّاً بالعلم، فإنّ الفنّ إنزال فكرة في مادّة وتشكّلها على مثالها، ولكنّ مطاوعة المادّة متفاوتة، وهذا أصل تعدّد الفنون الجميلة تتدرج من الماديّة إلى الروحيّة».[1] ومع ذلك كان هيجل يدرك أنّ التعبير عن الفنّ من خلال الصور الماديّة لا تصل فيه هذه الصور إلى مرحلة المطابقة مع المثل الأعلى، وأنّى لها أن تطابقه؟ فكيف يستطيع الفنّ مثلاً أن يطابق مثلاً أعلى دينيّاً على سبيل المثال، فأنّى للفن أن يتخيّل الحياة الأبديّة مثلاً بصورة مطابقة لما ستكون عليه في الحقيقة؟ فمثل هذه الأمور أعلى منزلة وأرقى من أن نعبّر عنها من خلال المادّة، ومن ثمّ فإنّ هذا عند هيجل يصيب الإنسان بالعجز واليأس خاصّة إذا كان يربط فنّه بعقيدته، ومن ثمّ يزدري المادّة التي لم تستطع أن تعينه على تصوير المثل العليا، وينكفئ على الروح بكلّ كيانه.

وهذا يفسّر لنا الشعور بالعجز وعدم القدرة عن الاستعانة بالمادّة في تصوير المثل العليا؟ ويرى هيجل أنّ هذا الشعور هو أصل الدين؛ لأنّ موضوع الدين عنده هو المثل العليا أو اللامتناهيات مدركة في الباطن، في حين أنّ موضوع الفنّ هو التعبير عنه في الظاهر. وقد انطلق من هذه المقدّمة لينتهي إلى نتيجة من الخطورة بمكان، وهي

(82)

أنّ الدين بما هو دين منبثق عن الفنّ!! وأنّ الفنّ محاولة أوليّة على طريق الدين!! وأنّ الوثنيّة هي حلقة الوصل بين الفنّ والدين!![1]

وإذا كان هيجل يقصد بذلك الأديان الوضعيّة، فلا بأس في ذلك؛ لأنّ هذه الأديان جسّدت المثل العليا الخاصّة بها في صور ماديّة، فكان السحر أوّل مظاهر تجسيد المثل العليا، ثمّ كانت البوذيّة التي تتصوّر إلهاً روحيّاً في شكل صنم، ثمّ كانت الزاردشتية التي جعلت إلهًا للنور وآخر للظلمة. وربّما هذا ما فطن إليه هيجل نفسه الذي فرق بين الديانات الوضعيّة والديانات الروحيّة، وقد مثّل على الأخيرة باليهوديّة التي يسّميها الموسويّة، والديانة اليونانيّة والديانة الرومانيّة، الأولى تثبت والثانية تنفي والثالثة تجمع بين النفي والإثبات. وعلى الرغم من خلط هيجل الواضح بين ما هو وضعيّ وما هو سماويّ، فإنّه لا يصنّفها من حيث هذا الأساس، ولكنّه يصنّفها تصنيفًا آخر يعتمد على التفريق في الأديان بين ما تصوّر المثل العليا في مادّة فيسمّيها أديان اللاشخصيّة الروحيّة، وما لا تصوّر المثل العليا في مادة باعتبارها روحيّة، ويسمّيها أديان الشخصيّة الروحيّة، فالموسويّة لم تسمح بالتعبير عن اللامتناهي، فحرّمت الأوثان، ومنعت تصوير اللامتناهي بأيّ شكل من الأشكال الماديّة، وإن سمحت بتصوّره كما هو في الديانات الشرقيّة مفارقًا متعاليًا عن الخلق. غير أنّ وصف هيجل لديانات الشرق ـ وهو يقصد من نقده أهمّ هذه الديانات لا شك هو الإسلام ـ ينمّ عن جهل شديد بالدين الإسلاميّ، فهيجل يتصوّر خطأ أنّ إله الشرق شبيه بملوك

(83)

الشرق: فهو المتصرّف الأوحد، الذي يحيي ويميت، والذي يرفع ويخفض، فعّال لما يريد، وليس على الإنسان إلّا التسليم. وهذا حقّ في الإسلام، لكنّ الإشكاليّة أنّ هيجل يحاول أنّ يرمي العقيدة الإسلاميّة بأنّها قائمة على فكرة الاستبداد، وأنّ الإنسان ليس له من أمره شيء، وهذا خطأ كبير؛ ذلك أنّ الإسلام لم يجبر أحدًا على أفعاله، وإنّما تقف عقيدة القضاء والقدر على معنى أنّها تعني أسبقيّة العلم الإلهيّ لا أكثر، فالله يعلم مذ خلق هذا الإنسان أنّه سيفعل كذا وكذا بسابق علمه الأزليّ، ولا يعني ذلك أنّ الله تعالى أجبره على فعل الشرّ أو الخير، بدليل الإرادة التي وضعها الله في الإنسان، فالله وضع للإنسان إرادة يستطيع من خلالها اختيار ما يريد من الأفعال، إن شاء خيرًا اختار، وإن شاء شرّاً اختار، فحريّة الإرادة مكفولة، حتّى في أشدّ الأمور أهميّة في حياة الإنسان، وهو العقيدة، حيث قال تعالى: «ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، وغيرها من الآيات التي تبيّن موقف الإسلام من علاقة الأفعال الإنسانيّة بالله والإنسان. يكفي أنّ يتطلّع الإنسان على الكتب التي تناولت هذا الموضوع، خاصّة في علم الكلام المعاصر ليدرك إلى أيّ مدى كان الإسلام منصفًا للإنسان كرامة وحريّة وإرادة.

ولم يقف هيجل عند الإسلام، بل نقد الديانة اليونانيّة؛ حيث اعتبرت الله على شاكلة الإنسان، فبرغم أنّهم حيّوا في الإنسان عقله، إلّا أنّهم في رأيه أخضعوا الإنسان للقدر، وجعلوه بمثابة اللامتناهي، كما لم تسلّم الديانة الرومانيّة من نقده باعتبارها في رأيه قد صورت الآلهة على أنّهم حرّاس الضمير الإنسانيّ والقائمين على حمايته.

وبرغم ذلك ـ ووفقًا للتعصّب العقديّ الذي لم يكن ليخفيه ـ

(84)

اعتبر الديانة المسيحيّة هي الديانة الوحيدة الي جمعت الصورتين المتعارضتين: صورة اللاشخصيّة كما في البوذيّة والزرادشتيّة، وصورة الشخصيّة الروحيّة كما في الديانات الشرقيّة واليونانيّة والرومانيّة، فذهب إلى أنّ الصورتين تنسجمان في الديانة المسيحيّة، باعتبار أنّها تقوم على أنّ المسيح إله وإنسان، فتصوّر الإله اللامتناهي بصورة الإنسان في حركاته وسكناته، فهو ينزل عن العرش، ويحيا ويموت، ويتألّم ويأكل ويشرب، ثمّ بعد موته يبعث من جديد حاملاً شارة المجد، وهذا التصوّر يرى فيه هيجل إثباتاً ونفياً وتركيباً، كما يراه التصوير الذي يلخّص الأديان وينقّيها ويكمّلها في آن واحد، كما يختصر الشعر الفنون الجميلة، ومن ثمّ اعتبر الدين المسيحيّ الدين المطلق.[1]

ومع ذلك فليست الديانة المسيحيّة عنده القمّة التي ينتهي عندها الروح المطلق، ذلك أنّه يرى أنّ الفنّ والدين يؤديّان إلى الفلسفة وينسجمان معها، “الثلاثة تقول إنّ كلّ شيء صادر عن روح لامتناه، ولكنّ الفنّ والدين وليدا العاطفة والمخيّلة، أمّا الفلسفة فتحقيق ما يرمزان إليه، هي انتصار العقل الخالص يفهم الوجود فيتحرّر منه، كانت الطبيعة وقواها والدولة ومؤسّساتها تبدو كأنّها أشياء خارجيّة مفروضة على الإنسان، والأن ترى الفلسفة في أفعال الطبيعة أفعال العقل أي أفعال الإنسان، وفي المؤسّسات الاجتماعيّة صورة السلطة الأخلاقيّة التي يحملها في نفسه، فليست ترمي الفلسفة إلى محو المعاني الدينيّة، بل إلى إحالتها معاني عقليّة، وفي الفلسفة وحدَها يتحقّق الروح المطلق أو الله تمام التحقّق؛ لأنّ فيها تصل الثقافة

(85)

الإنسانيّة إلى أقصاها، وما المذاهب الفلسفيّة التي يسجّلها التاريخ إلّا حلقات في سلسلة التقدّم نحو هذا النصر النهائي»[1]

ومن ثمّ نفهم أنّ الروح المطلق أو المثاليّة المطلقة عند هيجل لا تتحقّق إلّا مع الفلسفة، لا مع أيّ شيء آخر، فإذا كان قد وقف عند المسيحيّة معتبرها الحالة الدينيّة التي تمثّل الدين المطلق، فسرعان ما نفض هذا التوجّه الدينيّ، ليرى في الفلسفة المثل والنموذج الذي يتحقّق فيه كمال معرفتنا بالروح المطلق، ويستند هيجل إلى الكمّ المعرفيّ والثقافيّ الذي وصلت إليه الإنسانيّة على يد مفكّريها، فالمذاهب الفلسفيّة عنده من أقدمها إلى أحدثها تتآلف فيما بينها، وكأنّها عنده البنيان المعرفيّ الذي يضع فيه كلّ مذهب فكريّ ما أو مفكّر ما فيه لبنة، فإذا كانت الفلسفة اليونانيّة فلسفة دراسة المادّة، فإنّ فلسفة العصور الوسطى كانت فلسفة دراسة الروح، حتّى إذا جاءت الفلسفة الحديثة فقد ألّفت من وجهة نظره بينهما في رباط واحد، ومن ثمّ كانت الفلسفة الحديثة بمثابة الفلسفة التي حوت الفلسفات السابقة عليها، ومن ثمّ فهي القادرة على إدراك الروح المطلق.

وبرغم ما قد يبدو من محاولة هيجل إيهامنا بتناسق فكرته عن الروح المطلق ودور الفلسفة والفنّ والجمال في إبرازه فإنّها تبقى محاولة هشّة يعتورها الكثير من ضروب النقد، وهي ما سيجري في المبحث الأخير الخاصّ بنقد وتحليل مصطلح المثاليّة.

(86)

 

 

 

 

 

 

المبحث الرابع

المؤسّس للمصطلح

وأهمّ المنظّرين له

(87)

يمكن القول إنّ المثاليّة ظهرت في القرن الثامن عشر الميلاديّ، على يد مجموعة من أبرز الفلاسفة والمفكّرين الذين كان لهم الدور الأكبر في بلورة هذا المذهب، فضلاً عن التأثير المباشر في حركة الفلسفة الغربيّة والفكر الغربيّ بصفة عامّة، ومن هؤلاء:

1 ـ جورج باركلي (1685 - 1753):

جورج باركلي فيلسوف بريطانيّ نشأ وعاش في عصر النهضة الأوروبيّة عصر العلم والعقل والمواطنة، حيث ولد في عام 1685م وتُوفّي في عام 1753م، يعتبر مفهوم الألوهيّة هو جوهر فلسفة باركلي المثاليّة، وهي تلك الفلسفة التي ترجع كلّ شيء إلى الله تعالى، على نحو لاهوتيّ صرف، وبالنظر إلى ما آل إليه مفهوم الألوهيّة عند أرسطو، نجد أنّ إله أرسطو محرّك لا يتحرّك بما تحمله هذه الجملة من تقييد لقدرة الله تعالى المطلقة، ومن ثمّ فقد انتهى ذلك الفيلسوف اليونانيّ إلى وصف الله تعالى حاشاه بالعجز، في حين أنّ مفهوم الألوهيّة عند باركلي فيه إعلاء من قيمة الذات الإلهيّة؛ حيث جعله العلّة الفاعلة بكلّ ما في الكون، فقضية الألوهيّة عند باركلي بها أهميّة قصوى لما تتفرّع عنه من قضايا فرعيّة تكشف عن فلسفة باركلي المثاليّة عن الكون والله.

وقد اتّخذ باركلي من قضيّة الله تعالى كأساس للوجود وقضيّة إنكار المادّة أو الجوهر المادّيّ وقضيّة التجريد والأفكار المجرّدة محاور تدور حولها فلسفته المثاليّة،[1] إذ ممّا لا شك فيه أنّه من

(88)

فرط اهتمام هذا الفيلسوف البريطانيّ الأيرلنديّ بقضيّة الألوهيّة فقد جعلها لبّ فلسفته؛ حيث عدّ الهدف الأساسيّ من أعماله هو النظر في الله وفي واجبنا، ومن هنا كان من الطبيعيّ عنده أنّ كل أعماله ستكون عقيمة ما لم تلهم قارئيه بالمعني الدينيّ عن وجود الله. وكان عليه وهو بصدد تأكيد تلك القضيّة أن ينكر وجود المادّة، في تأكيد واضح لنزوعه المثاليّ، فاتّخذ موقفًا جديدًا منها يخالف ما انتهى إليه الفلاسفة التجريبيّون وأهل النقل، فالفلاسفة ورجال الدين أقرّوا بأمرين: وجود المادّة واستقلاليّة العالم المادّيّ عن العقل، أمّا هو فقد كان يرى أنّ التسليم بهما في مذاهب الفلاسفة السابقين عليه من أمثال : هوبز واسبينوزا وجون لوك وشافتسبري قد صنع تدهورًا وتأثيرًا سلبيّاً في الدولة والسلوك والتديّن، وإليه أرجع ذلك التدهور والانحلال الأخلاقيّ  والروحيّ الناتج من التأثّر بهؤلاء الفلاسفة، نتيجة ما ترتّب على مذاهبهم من نزعات الإلحاد والشكّ التي تفشت في المجتمع الغربيّ في ذلك العصر، ولا غضاضة أن نقول وإلى الآن أيضًا. ومن ثمّ فلم يكن أمام باركلي من سبيل إلّا الاتّجاه إلى إنكار هذين الأمرين[1]؛ لأنّهما يمثّلان الأساس الذي قامت عليه مذاهب هؤلاء الفلاسفة بما تنطوي عليه من إشكاليّات وجد بركلي أنّها ذات تأثير سلبيّ على علاقة الإنسان بربّه والمجتمع الذي يعيش فيه، وبإنكار هذين الأمرين وهدمهما تسترد الألوهيّة دورها ومكانتها في الطبيعة والمجتمع وداخل الذات الإنسانيّة عنده، ومن ثمّ لا يكون هناك وجود أو علّة فاعلة لغير الروح فقط.

(89)

حتّى إنّ مبدأ التجريد لم يسلم من نقد باركلي ـ وصولاً إلى تأكيد فكرته عن الوجود الإلهيّ وعلّته الوحيدة الفاعلة داخل الكون، إذ عمد إلى شنّ حرب شعواء على هذا المبدأ، باعتبار أنّ باركلي كان يقوم مذهبه على أنّ كلّ فكرة في العقل تعدّ فكرة جزئيّة محسوسة؛ لأنّ العقل عنده يعجز عن تشكيل أيّ أفكار مجرّدة أو معانٍ للأشياء، ومن ثمّ نستند إلى ذلك الرأي الباركلي لتأكيد القول بأنّ مبدأ التجريد يعتبر عند باركلي من المبادئ الزائفة بل هو أساس كلّ المجادلات في العلم، باعتباره يقود العلماء للبحث عن طبيعة أشياء توهّموا وجودها خلف الفروض التي يستخدمونها في تفسير ظواهر الطبيعة وفهمها؛ لأنّهم توهّوا أنّ هذه الفروض كالقوّة الجاذبة، تعبّر عن كيانات واقعيّة موجودة كامنة في الأشياء، كما أثار مبدأ التجريد كذلك الكثير من المجادلات في مجال اللاهوت والعقيدة؛ باعتبار أنّ الفلاسفة توهّموا أنّ لديهم أفكارًا عن الروح والألوهيّة، فضلاً عن أنّهم عدّوا مبادئ العقيدة أفكارًا مجرّدة فأخضعوها للتأويل والتفسير والتعقّل[1] وكان نتيجة ذلك - فيما رأى باركلي- أنّ ساد التشكيك في العقيدة وانتشر الدين الطبيعيّ، «ولذلك يعتبر باركلي أنّ اليقين الذي نسلّم من خلاله بالعقيدة ليس هو يقين النفي والإثبات، بل هو الاحتمال واليقين العمليّ، أمّا يقين النفي والإثبات فإنّما هو يخصّ الإدراك المباشر أي الإدراك الحسّيّ، ومن ثمّ هو يقين  الوجود المُدرَك ـ بفتح الراء ـ»[2].

كما ارتبطت مثاليّة باركلي بقضية ما من فلسفة من الفلسفات

(90)

القديمة والحديثة التي تناولت موضوع الألوهيّة إلّا واعتنت بها وحاولت أنّ تدلي فيها بدلوها وهي قضية صلة الأفعال الإنسانيّة بالله والعالم، وهذه القضية ترتبط عند باركلي ارتباطًا شديدًا بقضايا ذات خصوصيّة شديدة عنده، وهي قضايا: الأنا المتناهي، والأنا المطلق، وقضية التوجّه الدينيّ والسياسيّ الذي يدين به هذا الفيلسوف البريطانيّ الشهير، فالأنا المتناهي عن باركلي لا تكون فيها الأفكار تصوّرات لهذا الأنا ـ وإنّما هي موجودة فيها بواسطة العقل الإلهيّ، لأنّه هو الذي يثير الأفكار في العقول الإنسانيّة، بيد أنّ هذا لا ينفي مطلقًا، فكرة الأنا الوحديّة، فالأفكار تنتقل بين العقول كما يرى باركلي بإرادة الله تعالى، ولكنّها ليست بمعزل عن العقل، ومن ثمّ تؤكّد الدكتورة فريال حسن تلك الفكرة قائلة: «ومن ثمّ فإنّ المغزى والمضمون الحقيقيّ لفكرة الأنا وحيدة، في فلسفة باركلي لا يخصّ إلّا الأنا المطلق أي الذات الإلهيّة؛ حيث العالم عالمه، وحركة العالم ترتبط بإرادته، وفكرة الأنا المطلق هي فكرة ذات بعد سياسيّ دينيّ، يُردّ إلى رفض باركلي لحركات العصر وتطوّراته سواء في الجوانب السياسيّة  والاجتماعيّة أو الفكريّة، وهو يريد أن يحدّ من حركة هذا التطوّر؛ لأنّها لا تسير في المسار الروحيّ والدينيّ، وبهذا يربط باركلي وجود الكون وحركته بالعقل والإرادة الإلهيّة، ومن ثمّ يجب على الإنسان الخضوع والرضا؛ لأنّ إرادة التغيير التي تحقّق خير البشريّة، هي إرادة الأنا المطلق، هي إرادة صانع هذا العالم ومسيّره، ومن ثمّ فأفكارنا وعالمنا معلول لفاعليّة وإرادة العقل الإلهيّ، لهذا ولكي يحدّد باركلي قيمة العقل الإنسانيّ والإرادة الإنسانيّة يجعل إدراكنا للأشياء رهنًا بالإرادة الإلهيّة، وذلك بهدف أن ينفي أيّة فاعليّة يمكن أن توجد إلى جانب فاعليّة الذات

(91)

الإلهيّة».[1] كل ذلك وغيره يؤكّد من خلاله باركلي إنكار وجود المادّة، وإنكار العلية الطبيعيّة؛ لأنّه ليس هناك إرادة غير إرادة الذات الإلهيّة، فالمحافظة على الألوهيّة والحياة الروحيّة عند باركلي تستلزم إلّا يكون هناك وجود لعلّة فاعلة ثابتة تتحكّم في مجريات الكون وتسيّره، إلّا الإرادة الإلهيّة.

 ومن أهمّ القضايا التي عالجها باركلي بالدراسة - وهو بصدد شرح فلسفته المثاليّة - قضية وجود الله وأدلّة إثبات وجوده، والصفات الإلهيّة، فاللامادّيّة التي نادى بها باركلي بمعنى إنكار المادّة، ومن ثمّ فإنّه لم يجد بديلاً لإثبات وجود الله سوى تلك الأفكار المحسوسة، التي يثيرها الله تعالى في حواسّنا، فإنّنا لا نستطيع معرفته إلّا عن طريق الأفكار المثارة فينا، بما فيها من ثبات وتناسق وترابط بديع، وذلك يؤكّد وجود علّة عاقلة غير مرئيّة، فالله عند باركلي ليس موضوعًا للإدراك؛ إذ عدّ ذلك من قبيل الاستحالة، ولكنّه أكّد طريقاً آخر يمكن من خلاله السير إلى معرفة الله والإقرار بوجوده، وهو طريق التأمّل والتفكير، بيد أنّ هذا الطريق البرهانيّ ليس بمعزل عن المعرفة الحسّيّة التي هي بالتحليل الأخير شرط ضروريّ تنطلق منه النفس في التفكير للوصول إلى معرفة وجود الله وإثباته.[2]

غير أنّ من أهمّ ما يمكن أن ينتج من هذه الفلسفة الباركليّة من مثالب إنّما تنحصر في كونها:

(92)

جردت الإرادة الإنسانيّة من حرّيّتها وفاعليّتها؛ إذ في الوقت الذي أقرّت فيه للإرادة الإلهيّة بفاعليّتها، فإنّها نزعت عن الإنسان ـ في الغالب - عليته التي تؤهّله ليكون مسؤولاً عن أفعاله، وهي بذلك تكون في الطريق المعاكس الذي تبناه فلاسفة هذا العصر.

إنّ هذه الفلسفة تطلب من الإنسان التسليم بوجود الله تعالى وإن كانت قد وضعت أمام الإنسان جدارًا فاصلاً يمنع من معرفته أو الاتّصال به.

وننتهي من هذا كلّه إلى القول بأنّ باركلي ـ وهو في ذلك يمثّل الفكر الدينيّ المحافظ الذي يوجد عند بعض الجماعات في كلّ دين من الأديان -  يمثّل رجل الدين اللاهوتيّ الذي كان يرى في كلّ تطوّر ماديّ أو في الدعوة إلى الدين الطبيعيّ عدوّاً يجب حماية العقيدة المسيحيّة منه، وإلّا فلن يكون لها دور في المجتمع وفي حياة الإنسان.

2 ـ إيمانويل كانط (1724 ـ 1804):

إيمانويل كانط فيلسوف ألمانيّ، يعدّ من أشهر الفلاسفة على مرّ التاريخ الفلسفيّ الإنسانيّ، ترك لنا مجموعة كبيرة من المؤلّفات في مجال الفلسفة، منها: نقد العقل العمليّ، ونقد العقل الخالص، والدين في حدود العقل وحده، وغيرها من المؤلّفات، ويعدّ كانط المؤسّس لنظريّة المثاليّة النقديّة.

وفي كتاب نقد العقل الخالص عرض كانط الأعراض الميتافيزيقيّة التقليديّة، وقد نقدها من خلال مجموعة من المثل، أسماها المثل المتعالية الثلاثة: الله  والنفس والعالم، وقد جعلها

(93)

مثلاً هادية، تهدي العقل إلى العقليّات والمعارف، إذ إنّ هذه المثل تمدّ العقول الإنسانيّة بالعلوم، وتوجّهها الوجهة الصحيحة، فهداية العقل كانت الهدف الرئيس من وراء تصنيف كانط لكتابه نقد العقل الخالص[1]، وهذا يفسّر لنا لماذا حاول كانط استبعاد المطلق اللامشروط، فحاول أن لا يرتبط فكره بمطلق لا مقيد بشرط، ليتغلّب في ظنّه على الحدود الفاصلة بين الميتافيزيقا والمثاليّة، وكأنّه جعل العلاقة بين المثاليّة والميتافيزيقا علاقة ذات حدود موضوعة بدقّة.

وقد جعل كانط نقطة بدئه الوقائع المقرّرة أو المعطيات وإخضاعها للتحليل، ومن ثمّ استخلاص عناصرها الأوليّة المكونة لها، وهذا التحليل كما يقول عثمان أمين ليس تحليلاً سيكولوجيًا صرفًا أو منطقيّاً صرفًا، وإنّما هو عنده تحليل ترنسندنتاليّ باصطلاح كانط، بمعنى أنّه شارطي كامن جواني باصطلاحنا نحن، وهو بذلك يرمي إلى أنّ يحدّد أولانيًا ـ أي عقليّاً، مبدئيّاً وقبل كلّ تجربة ـ الشروط الضامنة لأن تكون معرفتنا ممكنة، وأن يحدّد حدود هذه المعرفة ومداها، «فطابع النقد الكانطي هو ما سميّ بالصوريّة الجوانيّة، إنّه لا يضع في بنية الذات الناظرة أو العاملة أفكارًا مفطورة أو مبادئ أوليّة، بل يضع صورًا خالصة، ومن ثمّ فقوام العقل النظريّ أو العمليّ عند كانط هو القدرة على التأليف، بواسطة الصور الخاصّة التي يقدّمها العقل نفسه للتجربة، والمقولات الأولانيّة التي تصبّ فيها مادّة التجربة بعد ذلك».[2] وهذا دليل على البعد المنهجيّ الذي كان يؤسّس كانط عليه فكره، فهو لا يضع أفكارًا مسبقة، في العقل،

(94)

ولكن يضع صور الأشياء، ومهمّة العقل هو التركيب بين هذه الصور والتأليف بينها ويقدّمها للتجربة، بما يعني أنّ العقل يقوم بالدور الرئيس سواء في وضع الصور أوالتأليف بينها، وتقديمها للتجربة التي لا تقوم عند كانط إلّا على العقل في فهم ظروفها ومعطياتها ونتائجها.

وفي باب المعرفة اهتمّ كانط كثيرًا ببيان موقفه المثاليّ من الميتافيزيقا، وهي من القضايا الرئيسة التي تظهر فيها مسألة النقديّة عنده كأبرز خصائص مثاليّته، ورافد رئيس من روافدها، فالميتافيزيقا عند كانط ذات جانبين: جانب إيجابيّ، وجانب سلبيّ، أمّا الجانب الإيجابيّ فهي أن تكون بمعنى تمحيص العناصر الأولانيّة في المعرفة والسلوك، وقد ظهر هذا الجانب في كتابات كانط: نقد العقل النظريّ، وتأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ونقد العقل العمليّ.[1] وأمّا الجانب السلبيّ فهو دراسة قضايا خارجة عن نطاق التجربة، والادّعاء بالإلمام بها وإدراك كنهها.

ويفسّر يوسف كرم موقف كانط هنا في إبطال الميتافيزيقا في جانبها السلبيّ؛ لأنّها في اعتبار كانط تذهب بغير حقّ من الأشياء كما تبدو لنا خلال صورنا الفكريّة، إلى الأشياء كما هي في أنفسها، متابعًا في هذه الفكرة أصحاب المذهب الحسّيّ، ويطبّق المبدأ التصوّري بكلّ دقّة، فيخالف بذلك كلّاً من ديكارت ومالبرانش وليبنتز وباركلي، في أنّ العقل واقع على صور الموجودات وذاهب

(95)

منها إلى أصولها، ومن ثمّ كان من الطبيعيّ أن يرفض كانط قبول الميتافيزيقا كعلم بالشيء بالذات بعد النتائج التي خرج بها من تحليل عمليتيّ الحسّ والفهم، فضلاً عن أن الواقع يدلّ على أنّ الميتافيزيقا ليست مقبولة عند الجميع، كالرياضيات والعلم الطبيعيّ، وهذا يدّل في عرف المثاليّة الكانطيّة على أنّه لو كان لنا حدس عقليّ لكانت الميتافيزيقا كالعلمين السابقين.[1]

وهذا يفسّر لنا اختلاف المثاليّة الكانطيّة على غيرها من المثاليّات التي ظهرت قبله، بل أنّ مثاليّته ومعالجته للقضايا تعدّ طريقًا اتّبعه اللاحقون لكانط في المثاليّة الألمانيّة فيما بعد، وغيرها من المثاليّات الغربيّة.

3 ـ جوهان فيشته (1762 ـ 1814م):

يعدّ جوهان فيشته أشهر تلامذة  كانط، درس وتتلمذ على يديه، خاصّة في مجاليّ: اللاهوت والفلسفة، وقد اهتمّ فيشته بقضيّة الشيء في ذاته التي تركها كانط دون أنّ يقدّم لها حلّاً مقنعًا، ذلك أنّ التسليم بهذه القضيّة يعني أنّ هناك حدودًا للمعرفة يصعب - أنّ لم يكن من المستحيل - تجاوزها، بما يعني أنّ هناك قيودًا من نوع ما تقف حجرة عثرة أمام العقل الإنسانيّ. «ويعتقد فيشته في هذه المسألة أنّ العقل المجرّد. ... ينعكس في صورة تأمّل على العقل العامّ، وهو في ذلك ينتقل من فكرة عن الوجود لا بدّ للعقل من أن يتعقّلها لتوضيح ذاته وحدوده كعقل، وحدود العقل هنا تتمثّل في كونه لا يستطيع أن يتعرّف إلى الشيء إلّا بالقدر الذي تستقبل فيه مقولاته محتوى معيّنًا من المادّة الحسّيّة، وهذا يتضمّن الشعور الذاتيّ للعقل اللامتناهي الذي يتولّد عنه المحتوى كمادّة

(96)

وكشكل لمعرفته، هذا العقل الحدسيّ أو الحدس العقليّ للموضوع لا يكون عادة حسيّاً خالصًا، ولا عقليّاً محضًا، ولا يمكن تفسيره بالعقل البشريّ، ... وباختصار فالشيء في ذاته هو نوع من التحديد الذاتيّ يظهر في صورة اللامحدوديّة، ويوحي بالذات المطلقة تمامًا كالذات الواعية للفلسفة الشرفيّة».[1]

وأيّاً ما كان الأمر بخصوص قضيّة تحديد الشيء في ذاته، فإنّها تعدّ من المسائل المهمّة التي بني عليها الفكر المثاليّ عند فيشته، وحاول معالجتها بطريقة مختلفة، حاول من خلالها أنّ ينطلق إلى التفريق بين الفلسفة المثاليّة والفلسفة الواقعيّة، فإذا كانت الفلسفة الواقعيّة هي الفلسفة العمليّة والفلسفة المثاليّة هي الفلسفة العقليّة المنصبّة في الأساس على التعامل مع الحياة العمليّة بنظرة مستقبليّة وعقليّة ناضجة، فإنّ هناك ارتباطًا بين الفلسفتين من نوع ما، إذْ إنّ المثاليّة هي المعرفة الذاتيّة للحياة أي للفلسفة الواقعيّة، بما يعني أنّ المثاليّة ليست مجرّد اتّجاه حالم بالأفضل، ولكنّها فضلاً عن ذلك هي نظريّة في المعرفة.

حاول فيشته أنّ يقوم بدور المفسّر لما غمض من مثاليّة كانط، حيث عمل على تطوير بعض الأفكار، خصوصاً تلك التي تتعلّق بقابليّة الأشياء في ذاتها للمعرفة من عدمه، ومن ثمّ بدأ فيشته بتحديد المحاور الرئيسة التي تدور حولها مثاليّته، وهذا ما نجده في قوله: «المثاليّة تقوم بالأساس على تفسير محدّدات الوعي، على أساس من فعل العقل، هذا العقل يمثّل عند هذا الوعي فاعلاً ومطلقًا، لا منفعلاً؛ أمّا أنّه غير منفعل،

(97)

فليس لكونه لا يتقدّم عليه شيء يمكن أنّ يصدر من خلال أيّ انفعال يمكن تفسيره، كما لا ينسب إليه وجود فعليّ أو قيام فعليّ؛ لأنّ هذا القيام يكون نتيجة ما لتأثير متبادل، ولا يوجد شيء من حيث الوجود أو الأدراك يمكن أنّ يدخل مع العقل في علاقة تأثير متبادل؛ لأنّ العقل بالنسبة إلى المثاليّة مجرّد فعل، ولا يتعدّى ذلك بأيّ حال من الأحوال، ومن غير الواجب أن نعدّه فاعلاً؛ لأنّ هذا الوصف معناه أنّ هناك شيئًا تحلّ فيه الفاعليّة، إذ ليس للمثاليّة أيّ علّة تفترض مثل هذا الأمر».[1]

وهذا يفسّر لنا كيف كان فيشته مهتمّاً بتفسير المثاليّة في علاقتها بالواقعيّة؛ إذ كان مدركاً أبعاد المعركة الحقيقيّة بين المثاليّة والواقعيّة، ويقصد بذلك المعركة التي يخوضها المرء للوصول إلى مرحلة التصوّر الحقيقيّة، ما هي؟[2] أمّا المحور الأساسيّ للمثاليّة المتعاليّة عند فيشته فهو أنّ كلّ الموجودات علم.[3]

ومن هذا المنطلق تعدّ مثاليّة فيشته خاصّة والمثاليّة الألمانيّة عامّة الضدّ الحقيقيّ للعقلانيّة الوثوقيّة لميتافيزيقا العصر الحديث في بداياته، بيد أنّ فيشته قد أصابت نظريّته العديد من مراحل التطوّر، حيث «ظهر لديه ميل متزايد ليس إلى اعتبار الأنا من حيث هو العلم المؤسّس لذاته، ولعلم العالم بما ينبغي وصفه بالعلم المطلق فحسب، بل باعتباره - كذلك في آنّ - تأمّلاً لمطلق إلهيّ قائم في الحاضر، إلّا أنّ فيشته لم يسع إلى تحصيل العالم الحاصل

(98)

في الواقع جاعلاً منه بصورة مباشرة علمًا مطلقًا، بوصفه علم الوجود الإلهيّ، كما يعيب ذلك على اسبينوزا من دون وجه حقّ».[1]

ففيشته حدّد وجهته من العقل والمطلق بدءًا، عندما فصل بين أمرين: الماهيّة والمطلق، وتحديدًا بين الماهيّة وقابليّة هذا المطلق للصورة، بمعنى قابليّته للتصوّر من قبل العقل، «وعرّف الثانية بكونها الظهور الأوّل الذي يعرض بنحو ما الصورة الأصليّة، أو المثيل الأصليّ، ولا يتجلّى المطلق ذاته إلّا بفضل هذا الوسيط، فيبدو بنحو ما باعتبار ظهور ذاته (تفكّر) في العلم الحاصل في الواقع، من حيث يتمثّل فيه، أو يعبّر عن ذاته بفضله».[2]

ومن ثمّ كان لذلك تأثيره في نظريّة المعرفة عنده، فالعقل القائم بعمليّة المعرفة ينبغي أن يكون عنده حرّاً، وتكمن حرّيّته في كونه يضع الذات وموضوعها بعيدًا عن أيّ تأثير خارجيّ أي خارج الذات، هذا الفعل العقليّ يجعل من الذات ذاتًا عارفة، «فالعقل ينبغي أن يكون حرّاً في أنّ يضع ذاته وموضوعها، وبمعزل عن تحديد خارجيّ، وستكون الذات العارفة الآن مجهّزة بخاصيّة تمكنها بفضل العمل العقليّ، ذاتيّ التحديد للذات إيجابًا وسلبًا، من أن تكون في أن الواقع باعتباره اللاأنا، وبفضل اللاأنا هذا وضع الأنا حدّاً لذاته بوسعه أن يتجاوزه بمجرّد أن يدرك اللاأنا بوصفه منتج عمله الذاتيّ، إنّ العلم ذاته ليس هو عند فيشته إلّا ما ليس بمشروط (من المعرفة)، أعني ما لا يردّ (منها) إلى أيّ أساس غيره، فعل العمل أي الوضع ووجود

(99)

الأنا هو الشيء نفسه، إنّ إشكاليّة هذا الموقف يعيها فيشته حق الوعي».[1]

4 ـ شيلنج:

المثاليّة التي قال بها شيلنج صنّفها الدارسون على أنّها مثاليّة موضوعيّة، وهي تلك المثاليّة القائمة على الربط بين العلّة والمعلول في الطبيعة، وهذه المثاليّة تحاول التغلّب على نواحي النقص في مثاليّة فيشته، من خلال التأسيس لفلسفة الطبيعة التي تبيّن كيف أثّرت العلّة في المعلول استناداً إلى عمليّة ذات تطوّر ما  لها طابع مثاليّ. بيد أنّ هذه المثاليّة في فلسفة شيلنج قد أصابها العقم، باعتمادها على منهج جدليّ قال عنه هيجل ذاته بأنّه كليل حالك السواد، تكون فيه كلّ الأفكار مصطبغة باللون الأسود.

وقد انتقد شيلنج تلك المنهجيّة التي اعتمد عليها فيشته في مذهبه المثاليّ، متهمّاً إيّاه بأنّه قضى على الطبيعة، فعمد إلى محاولة إحياء العناصر الواقعيّة في مثاليّته، محاولاً البحث عن نوع ما من التآلف والانسجام بين الطبيعة والمثاليّة، إذ كان يرى أنّه كما أنّ علم الطبيعة ينتج المثاليّة؛ استناداً إلى أنّه يخرجها من الواقعيّة استناداً إلى القيام بعمليّة روحنة ـ إن صحّ التعبير ـلقوانين الطبيعة التي هي بالأساس تسيّرها قوانين عقليّة، أوباعتبار ما تخلعه من صوريّ على الماديّ، أو من الصوريّة على الماديّة، فكذلك فلسفته المتعالية من المثاليّة يراها تضفي الجانب المادّيّ على قوانين العقل بجعلها المادّيّ صوريّاً.[2]

(100)

ومن ثمّ فالمثاليّة عند شيلنج كانت وستظلّ كلّ الفلسفة، إذ لا يمكن فهم الواقعيّة إلّا بمقتضاها، كما لا يمكن فهم المثاليّة إلّا بمقتضاها، ولا يمكن عنده أن نخلط بين المثاليّة الأولى وغيرها من المثاليّات الأخرى؛ لأنّ المثاليّة الحقيقيّة هي التي تضيف للواقعيّة.[1] ومن ثمّ نفهم أنّ أيّ مثاليّة عند شيلنج ينبغي أن تكون متضمّنة الواقعيّة في داخلها، فإن لم تتّخذ منها أساسًا حيّاً ومباشرًا لها فإنّها عنده ستكون خاوية، وذات نسق خاو كنسق ليبنتز وسبينوزا وأيّ نسق دغمائيّ في رأيه، «إنّ الفلسفة الأوروبيّة الحديثة يعتريها هذا النقص الكبير، إذ كانت تنظر للطبيعة على أنّها غير موجودة، ولا تستند لأيّ أساس متين، ولذا كانت واقعيّة سبينوزا ومثاليّة ليبنتز على الدرجة نفسها سواء من الناحية التجريديّة، فعلاقة المثاليّة والواقعيّة بالفلسفة، علاقة الروح والجسد، فالمثاليّة الروح والواقعيّة الجسد، ولا تكون الحياة إلّا في الجمع بينهما».[2]

ومن حيث موقفه من العقل والمطلق في اتّجاهه المثاليّ نظر شيلنج للعقل نظرة فيها الكثير من الخصوصيّة، فقد عدّ العقل عقلاً مطلقًا، وأطلق له العنان للتفكير، دون أنّ يجبره بالوقوف عند مركز لا نهائي أو عند حدود معينة، وهذا المركز يرتبط بالعقل في كونه يمثل له الهو هويّة المطلقة، ويقصد بها هويّة الهويّة، ولكن لا يمنع هذا العقل من البحث عن التنوّع، فالبحث عن النوع كانت عنده المهمّة الأولى التي يضطلع بها كلّ عقل مفكّر.

أقام شيلنج نظريّته في المعرفة على أساس الانطلاق من مجموعة

(101)

من التساؤلات الجوهريّة، كان الغرض الرئيس منها توجيه النقد إلى مثاليّة فيشته:

الأوّل، ما الذي يمكن فعله للمثاليّة الكانطيّة، من أجل تطويرها والعمل على اتّساع آفاقها؟

الثاني، كيف يصبح هناك عالم موضوعيّ واقع بالنسبة إلى ذواتنا؟

الثالث، كيف يجد هذا العالم من خلال النسق المنهجيّ في الفلسفة الكانطيّة طريقة إلى الذات الإنسانيّة المفكّرة؟

 

5 - جورج فلهلم هيجل (1770 ـ 1831م):

فيلسوف ألمانيّ شهير كان يرى في الوجود المادّيّ مظهرًا للروح، وهو مؤسّس الفلسفة المثاليّة المطلقة، والتي يسمّيها بعض الباحثين الفلسفة المثاليّة التأمليّة، ويمكن القول إنّها تمثّل مزيجًا من الفلسفة المثاليّة الذاتيّة عند فيشته، والفلسفة المثاليّة الموضوعيّة عن شيلنج، «إنّ تحليلات المثاليّة الهيجليّة تختلف تمامًا عن سابقاتها، فقد اعتقد هيجل أنّ فلسفته جاءت لسد النقص في الفلسفات السابقة، والمثاليّة منها خصوصاً، فقد هرب هيجل من فكرة الشيء في ذاته، المشبوهة بتوحيد العقل والوجود، إذ لم يعد عند هيجل وجود للفيزيقا والميتافيزيقا، وإذا كان لا بدّ من هذه المفاهيم فيمكن وصف مثاليّة هيجل بأنها فيزيقا وأنتروفيزيقا، إذا صحّ التعبير، وكانت عبقريّة هيجل متمثّلة في مفهومه للفكر على أنّه يشمل الوجود برمّته في صورة وحدة الوحدة والاختلاف».[1]

(102)

ونفهم من ذلك أنّ الفكر هو حقيقة الوجود، وقد اعتمد في تأكيد هذه الفكرة على المنهج الجدليّ الذي اشتهر به، وهذا المنهج الجدليّ يستند إلى ثلاثة مكوّنات: الفكرة والفكرة المضادّة والمزيج الذي ينتج من الفكرتين.

فالروح المطلق عند هيجل مقولة فلسفيّة، لها قيام ذاتيّ، وفكرته هنا مبنيّة على التفرقة الأزليّة بين الروح والمادة، والروح المطلق أو ما يسمّيه أيضًا الروح الخالق ما أن يتبدّى في جسم الإنسان عنده حتّى تفيض عليه الكنوز الروحيّة، وهذا الروح المطلق في معارضة متواصلة مع الطبيعة، فهو عقلها المفكّر.

أمّا من حيث الأخلاق عند هيجل وعلاقتها بالمثاليّة فإنّه أوّلاً لم يكن يشغل باله فلسفة الأخلاق كثيرًا؛ بدليل أنّه عرض لها في فصل واحد فقط من كتابه: أصول فلسفة الحقّ، وعلى الرغم من ذلك نظر بعض الباحثين إلى الأخلاق الهيجليّة على أنّها تمثّل حلقة وسيطة بين القانون الخاصّ والأحكام العامّة (المعروف والمنكر)، حيث إنّ هيجل ينكر على كانط وفيشته فلسفتهما الأخلاقيّة إنكارًا لا مواربة فيه، وخصوصاً منزلتها عندهما، بل يجعلها عبارة عن جهاز- ليس إلّا ـمجرّد من المبادئ يوجّه إلى حقيقة ضدّ حقيقة تاريخيّة يعانيها النقص الخلقيّ، ومن ثمّ فإنّ الذي يتصدّر الواجهة عند هيجل القانون والتاريخ باعتبارهما التحقيق الموضوعيّ للعقل، ومن ثمّ فالأخلاق بدورها أدرجتفي بناء فلسفة عقليّة للقانون والتقاليد الخلقية.[1]

(103)

6 - آرثر شوبنهور(1788 ـ 1860م):

وهو فيلسوف ألمانيّ، كان لمثاليّة أفلاطون تأثير كبير فيه، أظهر تأثّرًا واضحًا بالبوذيّة، ولكنّه رفض مذهب تناسخ الأرواح. حتّى أنّه عد فيلسوف التشاؤم وباعث البوذيّة في الفلسفة الحديثة، فقد تمسّك هذا الفيلسوف بالزهد على المعنى البوذيّ، وإن كان هذا لم يمنعه من التأثّر بالزهد في الديانة المسيحيّة، فإذا كانت البوذيّة تعتمد في زهدها على الفناء التامّ، فإنّه في المسيحيّة يعتمد على إماتة الغرائز وكبتها، للحصول على المعاني الروحيّة، والاتّصال بالعالم الإلهيّ.

يرى شوبنهورـ وهو ينطلق في تأسيس مثاليّته ـ أنّ المادّة تعدّ فكرة من أفكارنا نحن، وليست الماديّة شيئًا آخر غير تصوّرنا للمادّة، ومن ثمّ فإن العالم هو الوجهة الخارجيّة للوجود، إذ لو كنّا ذاتًا عارفة فحسب لما عرفنا عن العالم سوى أنّه تصوّر، بيد أنّنا نشعر في داخلنا بميول وغرائز، كما أنّنا ندرك أنّ الإرادة جوهر الإنسان، ومن ثمّ فإنّ شوبنهور يذهب إلى ضرورة ربط التجربة الظاهرة بالتجربة الباطنة، من أجل فهم العالم بواسطة الإنسان، وحينذاك ندرك أنّ الإرادة هي جوهر العالم، وأنّ العليّة الطبيعيّة من جنس إرادتنا، ذلك أنّ الإرادة هي الشيء بالذات يتجلّى في مختلف الموجودات.[1]

وتبدو النظرة التشاؤميّة في مثاليّة شوبنهور عندما يجزم بأنّ الحياة شرّ[2]، متعلّلاً في ذلك بالشواهد التي تقدمها التجربة، خاصّة فيما

(104)

يتعلّق باللذّة والألم، وهما الأمران اللذان ينظر لهما نظرة فيها الكثير من الغرابة، فالألم عنده انفعال إيجابيّ، واللذّة انفعال سلبيّ، أمّا أنّ الألم انفعال إيجابيّ؛ فلأنّه تعبير عن حاجة مفيدة للحياة، ودور اللذّة ينحصر في إرضاء هذه الحاجة وتلطيف مؤقّت، بما يعني أنّ اللذّة عنده هي ردّ فعل مؤقّت وغير دائم يهدف إلى التخفيف من أثر الشرّ أو الألم الذي هو دائم وغير منقطع، فاللذّة على هذا الفهم ليست إلّا مسكّن مؤقّت للألم ليس إلّا، وليس هو العلاج الناجع لها.

ولكن إذا كانت اللذّة تظهر للإنسان كحالة إيجابيّة، فكيف تكون حالة سلبيّة؟ يرى شوبنهور ـ وفقًا لنهجه التشاؤميّ ـ أنّ هذه الإيجابيّة أمر شكلانيّ ظاهريّ؛ لأنّها ليست إلّا وسيلة من وسائل خداع الإرادة الكلّيّة، ويحاول شوبنهور أنّ يقنع من يقرأه بفكرته، فيذهب إلى أنّه بالمقارنة بينانفعالات الألم الإيجابيّة وانفعالات اللذّة السلبيّة، فإنّه يرى أنّ انفعالات الأولى أقوى، تُلاحَظ، ولا تُلاحَظ الانفعالات الثانية، مستدّلاً بأنّ الإنسان لا يلاحظ الصحّة والشباب والسلامة والحرّيّة إلّا بعد فقدانها، فضلاً عن أنّ التعوّد على اللذّة يقلّل من حدّة الشعور بها، في حين أنّ انقطاع مثل هذا التعوّد يؤدّي إلى آلام جديدة تحيق بالإنسان[1]، وهذه النظرة التشاؤميّة عند شوبنهور نظرة غريبة، لكونها تنتهي إلى أنّ الشرّ هو الأصل في هذا العالم، وهذا لا شكّ أمر غير صحيح مطلقًا، نعم الشرّ موجود، ولكن لا يعني ذلك أنّه الأصل، ثمّ إنّه يحيل ذلك إلى الإرادة الكلّيّة في الطبيعة،

(105)

وكأنّ الطبيعة عنده لها إرادتها التي تفعل من خلالها ما تشاء من أشياء، وهذا شبيه بالنفس الكلّيّة التي قال بها إخوان الصفا وبعض الفلاسفة، ولكنّ إخوان الصفا وإن عزوا الأفعال الكونيّة إلى هذه النفس، فإنّهم كانوا يؤكّدون أنّ هذه النفس إنّما تعمل في ظلّ الإرادة الإلهيّة، ووفق مقتضياتها، وليت شوبنهور قد فعل ذلك.

وللتحرّر من الإرادة الكلّيّة اتّجه إلى الفنّ والأخلاق، فالفنّ والأخلاق عنده هما المعوّل عليهما في التحرّر من الألم، بل لقد كان يرى أنّ الفكر الإنسانيّ لديه القدرة على أن يتحرّر من الإرادة الكليّة لبناء معرفته الإنسانيّة، وذلك عن طريق الفنّ، فالتأمّل الفنيّ يقضي على الشعور بالألم والشعور بالانعزاليّة، ولذا كانت الفنون على اختلاف أنواعها من وحي هذه الإرادة الكليّة، وقد ربط شوبنهور كلّ فنّ بالدرجة التي تقابله في الطبيعة. ففنّ العمارة يصوّر لنا الدرجات الدنيا في الطبيعة: الثقل والطبيعة والمقاومة، والنحت يصوّر الإنسانيّة في حالة الحركة، والتصوير يمثّل الأخلاق، وهناك أيضًا الشعر والموسيقى.[1]

لكن هل التحرّر بالفنّ من الإرادة الكليّة أمر متاح للجميع؟ الإجابة بالنفي من خلال فهمنا للاستقراء العام لفكر الرجل، إنّ هذا التحرّر لا يتحقّق عند شوبنهور ولا يتسنّى إلّا لفئة واحدة من الناس هي فئة العباقرة، ومع ذلك فقد أتاح بعضًا من الأمل للجميع للوصول إلى مرحلة التحرّر، ولا يتحقّق ذلك إلّا بالقضاء على الأنانيّة التي تدفع إليها الإرادة، ولن يستطيع الإنسان ذلك ما لم يكن مؤمنًا بوحدة البشر، وما لم يكن على يقين بأنّ الفردانيّة وهم خادع، وبأنّ الفضيلة

(106)

في محبّة الإنسانيّة، فهو يرى أنّه لما كانت اللذّة محو الألم، فإنّ كلّ ما تستطيعه المحبّة التلطيف من الألم، لذا تبدو المحبّة في صورة الشفقة، فالشفقة الظاهرة الأخلاقيّة الأوليّة، وهي تدلّ على وحدة النوع الإنسانيّ، ولا تفسّر إلّا بهذه الوحدة، أمّا الفضائل المتعارفة فما هي إلّا صور للأنانيّة يتوخّى منها الناس تحسين أحوالهم، بينما الشفقة ميل عن الذات إلى الغير، فلا يبلغ إلى الراحة التامّة إلّا الذين ينكرون إرادة الحياة إنكارًا باتّاً، ويستسلمون لبطش الإرادة الكليّة، أولئك هم الزهّاد والقدّيسون، الذين يعتبرون الزهد محو الميل إلى بقاء الذات والنوع، لا الذين يعتبرون قهر الجسم وسيلة للسعادة في حياة مقبلة، إذ ما دام الوجود شرّاً، فإنّ إرادة الوجود شرّ، والذي يجرّب ألم الحياة ووهم الفرديّة يفقد كلّ داعٍ للعمل، ومتى علمت إرادتنا ذلك من عقلنا وجب عليها أنّ تنكر نفسها وتفنى في النرفانا.[1]

وهكذا فإنّ الحياة بناءً على هذا التصوّر بؤس وشقاء وشرّ لا بدّ منه؛ لأنّه من صنع الإرادة الكليّة، وكأن هذه الإرادة إرادة لا تفهم لا تعقل لا تكترث، وكأنّها بلهاء عمياء لا ينتج من فعلها أيّ خير، وإذا كانت هذه الإرادة على هذا النحو الذي صوره، فما ردّه على مظاهر النظام والإتقان في الكون؟ هل تكون هذه المظاهر ناتجة من هذه الإرادة الخرفاء ؟ أم هذا كان أدعى لشوبنهور أن يغيّر رأيه، أو على الأقلّ يعدّل فيه وفق مقتضيات الطبيعة ذاتها. ثمّ إنّ هناك أمرًا آخر مؤدّاه: أنّ العقل الإنسانيّ عقل مفكّر، وناتج من تأثيرات الإرادة الكليّة وفق التصوّر الشوبنهوريّ، فكيف ينتج العقل من اللاعقل،

(107)

فإذا كانت هذه الإرادة جاهلة والإنسان عاقلاً، فكيف ينتج اللاعقل عقلاً ؟! وكيف يثمر اللانظام نظامًا؟! أليس في ذلك تناقض لا يخفي على القارئ العاديّ فضلاً عن المتأمّل؟

وهذا التساؤل يترتّب عليه شيء من الأهميّة بمكان وهو: كيف نتحرّر من هذه الإرادة الكليّة؟ إلّا يعدّ هذا التحرّر في حاجة إلى إرادة؟ فمن أين تأتي إرادة إنكار إرادة حياة؟ وهل الشفقة هي النتيجة المنطقيّة لمبدأ المذهب؟ أم المنطق يؤدّي إلى وجوب ترك الضعفاء إلى مصيرهم، أو التعجيل بالقضاء عليهم، مادام الوجود شرّاً بالذات؟.[1]

ومن الأمور التي توجّه لها النقد أيضًا في فلسفة شوبنهور المثاليّة قضيّة الزواج وعلاقته بنظرته التشاؤميّة، وقضيّة موقفه من صلب المسيح وعلاقتها بنظرته للإرادة، فالقضيّة الأولى يرى فيها أهميّة العزلة والعزوبيّة، بينما الزواج عنده شرّ، علمًا بأنّ هذا الرأي مخالف للمسيحيّة التي كان يدين بها، ذلك أنّ بولس أعلى من شأن العزوبيّة على الزواج وفق تصوّره المسيحيّ، بيد أنّه لم يقل مطلقًا بأنّ الزواج شرّ، وإنّما فاضل بين الأمرين وكلاهما خير، وأعلى من شأن أحدهما وهو العزوبيّة على الآخر وهو الزواج.

أمّا القضيّة الثانية، وهي القضيّة التي خالف فيها المعتقد الدينيّ، فهي ظنّه بأنّ صلب المسيح إنّما كان تضحية بجسمه الذي هو معلول إرادته، وقتل في نفسه إرادة الحياة، وهذا استدلال وإن كان يتوافق مع منهجه العامّ في فهم الحياة القائم على البعد التشاؤميّ

(108)

والإرادة الكليّة القائمة على الجهل والعمى، إلّا أنّ هذا الاستدلال يتعارض مع المسيحيّة التي تؤكّد أنّ المسيح مات ليخلص البشر، وقام من بين الأموات؟ 


7ـ توماس هـل جرين( 1836م):

 وهو فيلسوف إنجليزي، عمل على إيجاد علاقة أو رابطة بين عدّة أمور:

الأوّل، المثاليّة والنصرانيّة.

الثاني، المثاليّة والأفكار السياسيّة  الحرّة.

الثالث، المثاليّة والأخلاق.

من أهمّ مؤلّفاته: كتاب «المدخل إلى هيوم»، وكتاب «مقدّمة للأخلاق»، وهما الكتابان اللّذان حاول من خلالهما أن يقدّم الأفكار الرئيسة لمثاليّته.

فمثاليّة جرين من ناحية المعرفة ترفض الحسّ والمذهب التجريبيّ الذي بدا عليه مذهب هيوم، ومن ثمّ كانت المعرفة عنده عقليّة، فلا قيام لمعرفة لا تستند إلى العقل، ومهمّة العقل هي الربط بين الظواهر للكشف عن العلاقات التي تؤلّف بينها، ومن ثمّ إدراك المبادئ التي تقوم عليها المعرفة.

كما انتقد جرين المذاهب الماديّة السابقة عليه، تلك المذاهب التي تعتمد على الحسّ، كما انتقد ما انبنت عليه من ماديّة مفرطة، كما انتقد المذاهب الإلحاديّة في مجال الإيمان، فضلاً عن انتقاده لمذهب اللذّة في مجال الأخلاق، وقد كان يقوده في نقد المذاهب

(109)

دافع عقديّ عقليّ، فأراد أنّ يكون الله حاضرًا بقوّة في مجال الإيمان، والعقل حاضرًا بقوّة في مجال المعرفة والأخلاق.

ويرى الدكتور يوسف كرم ـ مؤكّدًا هذه الفكرة ـ أنّ الله أو المطلق موجود بقوّة بدليل أنّ الإحساس جزئيّ ناقص، يفترض علاقة بمعرفة كليّة تندرج تحتها جميع الإحساسات، وهذه المعرفة الكليّة عنده موجودة بالعقل الكلّيّ أو الله، فالله أصل لكلّ معرفة، فرجوعنا إلى أنفسنا يكشف لنا عن مثل أعلى نشعر أنّنا ملتزمون بتحقيقه، والله متضمّن في هذا الشعور بالمثل الأعلى، بل هو دليل حيّ على وجود الله، فالعقل عنده ينتهي إلى الإيمان ويكتمل به، بيد أنّ هذا الإيمان إيمان عقليّ وفق حقائق عقليّة واستدلالات منطقيّة، إذ كان مومنًا بأنّه من الخطأ فهم العقائد المسيحيّة فهمًا حرفيّاً، وإنّما هي رموز لحقائق عقليّة.[1]

ومن حيث علاقة مثاليّته بالأخلاق، فقد كان يؤكّد أنّ الأخلاق مصدرها المبدأ الإلهيّ، إذ إنّ الأنا الإنسانيّ مشارك في الأنا الكلّيّ، وتقوم الحياة الأخلاقيّة عنده على التوحيد بين الاثنين، أي نحو تأليه الإله، وهذه الغاية تتحقّق بإرضاء النزعة الجماعيّة، لا بإرضاء النزعة الفرديّة، بل إنّ الفرد يجد في المؤسّسات الاجتماعيّة عونًا في سبيل هذا التقدّم نحو الكلّيّ، ومن ثمّ فليس له معارضة مؤسّسة ما بخيره الذاتيّ، وبذلك يقف في صف هيجل عندما وقف في صف المحافظة الاجتماعيّة.[2]

(110)

8 - ف.هـ. برادلي (1846 ـ 1924م)

 وهو فيلسوف إنجليزيّ، دارت فكرته الرئيسة حول بناء فرضيّة عن وجود مطلق يفوق إطارالفكر. وقوام فلسفته هو المثاليّة المطلقة.

وتقوم مثاليّة فرنسيس هربرت برادلي على أساس عدم الاعتراف بحقيقة الذات، فإذا كان هناك العديد من النظريّات الفلسفيّة التي تثبت حقيقة الذات، فإنّ برادلي جعل نظريّته في نفي حقيقة الذات في مقابلة مع تلك النظريّات.

إنّ الشعور والإحساس حسب نظر برادلي يقع في مراكز معيّنة، ويمكن التعبير عنه بعبارات مختلفة، حتّى ينتهي إلى أن يكون غير قابل للتفسير، ولكنّ ذلك الشيء الذي لا يقبل التفسير، والذي بذلك يتجاوز الشعور، ولا يخضع له، يندرج تحت ما يسمّى بالمطلق، فالمطلق إذن هو ذلك الذي لا مجال لخضوعه للشعور، كما أنّه لا مجال لتفسيره، «ويرى برادلي أنّ ثبوت الحقيقة بعمومها، وكلّ شيء في الكائنات محدود، وكلّ محدود إضافيّ لا مطلق، فهو خداع نظر، وبالتالي فهو باطل، وهذا يعني أنّ كلّ مركز للشعور محدود، فكلّ مفرد خدّاع نظر وباطل».[1]

وترتبط قضيّة الحريّة بالمثاليّة عند برادلي بصورة واضحة؛ ذلك أنّ نظرته للحريّة تُبنى على بعد مثاليّ بارز، ويشرحها أحد الباحثين قائلاً: «إنّ الحريّة تعني المصادفة، فأنت حرّ؛ لأنه لا يوجد ثمّة سبب يمكن به تفسير أفعالك الخاصّة، ولا يستطيع أحد في العالم أنّ يعرف، كما لا تستطيع أنت نفسك أنّ تعرف، ماذا ستفعل بعد ذلك

(111)

أو لا تفعل، وباختصار أنت مسؤول عن أفعالك؛ لأنّك مخلوق لا يمكن تعليله بالكامل».[1]

 

9 ـ هوسرل:

وهو صاحب المثاليّة الظاهراتيّة، التي تردّ المعرفة إلى الحدس، فجواهر الأشياء والمفاهيم كلّها تردّ علينا من الحدس، ويقف دور التجربة عند حدود إظهار طبيعة هذه الجواهر وإيضاحها لا أكثر.

ويعدّ هوسرل رائد الفلسفة المثاليّة الفينومينولوجيّة، ويحد تعريف الفينومينولوجيا باعتباره مثاليّة ترنسندنتاليّة فينومينولوجيّة، ولم يكن هوسرل يقصد بالمثاليّة الترنسندنتاليّة تكرار الآراء والأفكار المثاليّة التي نادى بها كانط من قبل في كتاب نقد العقل الخالص، «ويمكن إثباته أيضا من خلال الشرح الذي يُقترح أحياناً للترابط الوثيق بين معنى الترنسندنتاليّ ومعنى الفنومنولوجيّ في فنومنولوجيا هوسّرل، وهو شرح يفضي في الغالب إلى ردّ المعنى الأوّل إلى الثاني. فالأصل في مثاليّة هوسّرل إذا ليس الترنسندنتاليّ بل الفنومنولوجيّ. ولذلك يمكن فهم إثباته: «إنّ كلّ برهنة على المثاليّة هي الفنومنولوجيا ذاتها»، والذي ورد في الفقرة 40 من التأمّلات7، على أنّه إنّما يدلّ تحديداً على المعنى ذاته الذي عنونت به تلك الفقرة، أي»التأويل الفنومنولوجيّ الذاتيّ للأنا أفكّر بصفته مثاليّة ترنسندنتاليّة»، وهو معنى يفصّله هوسّرل كما يلي: «إنّه توضيح لمعنى تعالي الطّبيعة والثقافة والعالم عامّة، وليس هذا التوضيح

(112)

إلّا إظهاراً نسقيّاً للقصديّة المقوّمة ذاتها».[1]

تُبنى المثاليّة الفينومينولوجيّة عند هوسرل على أساس الربط بين الوعي والوجود، فكلّ ما له صفة الوجود في الوعي فهو كائن وموجود، وكلّ ما ليس له وجود داخل الوعي، بل خارجه إنّما هو مجرّد عدم. فكما يذهب أحد الباحثين أنّ المنهج الفينومينولوجيّ بلحظتييه الإبوكيّه (Epokhe) بما هي تعليق الحكم، والردّ بما هو إجراء يقضي بإرجاع المعنى إلى الوعي ينبغي أنّ ينتهي بمقتضي التعاليم الترنسندنتاليّة إلى الصيغة المكتملة لأطروحة الفينومينولوجيا الترنسندنتاليّة، ذلك أنّ التعالي (Transzendanz)، وكذلك كلّ تعالٍ لا يمكن أنّ يفهم إلّا بصفته تعالياً ضمن المحايثة (Immanenz)، أي تعالياً متقوّماً ضمن محايثة مخصوصة هي محايثة الوعي.[2]

ولكن ما علاقة الفينومينولوجيّ بالترنسندنتاليّ؟ الإجابة عن هذا التساؤل تفضي إلى وضع تصوّر للمداخل بينهما؛ حيث «إنّ منهج الفنومنولوجيّ هو الردّ (Reduktion) الترنسندنتاليّ. وقد حرص هوسّرل على بيان أمرين هامّين في شأنه: إنّه منهج الفنومنولوجيا الأساسيّ والوحيد، الوحيد لأنّ هوسّرل يختلف مثلاً عن غيره من الفنومنولوجيّين اللاحقين الذين يعتبرونه مجرّد خطوة من خطوات البحث (هيدغير مثلاً يضيف إلى ذلك المنهج إجراءين: الإنشاء

(113)

(Konstruktion) والتهديم (Destruktion12)، والأساسيّ لأنّه لا توجد فنومنولوجيا من دون ردّ، ولأنّه يعدّ الفارق النوعيّ لها عن بقيّة الفلسفات الأخرى، بل إنّ بقاء تاريخ الفلسفة دون تحديد حقيقيّ للمشكل الترنسندنتاليّ، يرجع في قسمه الأكبر إلى غياب منهج الردّ الترنسندنتاليّ في إجراءاتها النّظريّة».[1]

والمثاليّة الفينومينولوجيا عند هوسرل ليست نبتًا بلا بذر، فلم تخرج فجأة لتظهر في الفلسفة الغربيّة، حيث كان يَرى لها تاريخًا كبيرًا عنده، بل كان يرى فيها مركز الفلسفة الحديثة وترمومتر التفلسف الحديث إن صحّ التعبير، بدليل قوله: «إنّ الفينومينولوجيا هي الملهم الخفيّ للفلسفة الحديثة كلّها»[2]، كدليل على اهتمام هوسرل بالتأريخ للفكر الفينومينولوجيّ، باعتباره جانباً من جوانب الفلسفة لا يقلّ بحال عن جوانبها الأخرى.

ويربط هوسرل ربطًا واضحًا بين المثاليّة والفينومينولوجيا، وهو يؤكّد فكره هنا من خلال نصيّن ظاهرين:

الأوّل، قوله: «إنّ كلّ برهنة للمثاليّة هي الفنومنولوجيا ذاتها»، والذي ورد في الفقرة 40 من التأمّلات.[3]

والثاني، قوله: «إنّه توضيح لمعنى تعالي الطّبيعة والثقافة والعالم عامّة، وليس هذا التوضيح إلّا إظهارا نسقيّاً للقصديّة المقوّمة ذاتها».[4]

(114)

 

 

 

 

 

 

المبحث الخامس

الأسباب والمناخ الذي أدّى

إلى ظهور المصطلح

 

(115)

لا شكّ في أنّ المثاليّة كمصطلح وكفلسفة لم تنشأ هكذا دون مقدّمات أو أسباب تمهّد لها، وتبيّن كيفيّة سيرورتها وتطوّرها عبر تاريخ الفكر الفلسفيّ الإنسانيّ، وهذه الأسباب منها ما يتعلّق بطبيعة المرحلة الزمانيّة التي عاش فيها أصحابها، ومنها ما يتعلّق بشخصيّة الفيلسوف الذي قام بإنتاج فلسفته المثاليّة، ومنها ما يتعلّق بحركة التطوّر التي تعتور الفكر الإنسانيّ، ويمكن أن نفصّل بعض هذه الأسباب فنجعلها في قسمين:

الأول ـ الأسباب الثانويّة في ظهور المثاليّة:

أولاً ـ إنّ الفلسفة المثاليّة عندما نشأت فإنّما كان يرجع ذلك إلى مرحلة الفضيلة، لا إلى مرحلة الفوضويّة والانغماس في الملذّات التي أرساها السُفسطائيّون وغيرهم في الفكر اليونانيّ في تلك الفترة، لقد كان البحث عن الفضيلة من أهمّ الأسباب التي دعت أفلاطون إلى المثاليّة، حتّى في موضوع عالم المثلـ وهو موضوع مثاليّ من الدرجة الأولى - فإنّه في الأساس موضوع قيميّ أخلاقيّ خلافاً لكونه معرفيّ أبستمولوجيّ؛ لأنّ أفلاطون كان يهدف من وراء عالم المثل تأكيد أنّ عالم المثل هو عالم الحقيقة وعالم الفضيلة الذي يجب أنّ نتأسّى به في عالم الحسّ، ونعمل من أجله. وقد تطوّر الأمر عند كانط حين حاول أنّ ينطلق بالفضيلة أو الأخلاق في عالم من المثاليّة التي سمّيت بالمثاليّة النقديّة، فالبحث عن الفضيلة إذن كان أحد البواعث المهمّة التي دفعت الفلاسفة والمفكّرين في كلّ عصر إلى المثاليّة.

ثانياً ـ يرى بعض الباحثين أنّ من أسباب انتشار مصطلح المثاليّة

(116)

عبر مختلف العصور، يرجع إلى كونها مدرسة لشرح الأديان السماويّة بطريقة عقليّة وغير مباشرة، وخصوصاً ما ورد منها في فلسفة أفلاطون.

ثالثاًـ الابتعاد عن الواقع الأليم بكلّ أدرانه كان من ضمن الأسباب الرئيسة لنشأة المثاليّة.

رابعاًـ البحث عمّا هو أفضل وأصلح للفرد والمجتمع، وكذلك البشريّة جمعاء كان من أهمّ تلك الأسباب.

خامساًـ القضاء على الماديّة المفرطة التي أحالت حياة الناس إلى البحث الدائم عن المصلحة، وأحالت حياة الدول بينها وبين بعض إلى سياسات زائفة قائمة على المصالح المتبادلة التي لا مكان فيها لمبادئ الخير والحقّ.

سادساًـ وضع أبعاد  سياسيّة  أخلاقيّة تتعلّق بالحاكم والرعيّة وعلاقة الحاكم بالرعيّة، وعلاقة الدول بعضها ببعض.

الثاني ـ الأسباب الجوهريّة لظهور المثاليّة:

أولاًـ من ضمن هذه الأسباب البحث عن قراءة أنطولوجيّة جديدة تطرح تفسيرًا للكون توضح علاقة المثاليّة بنظريّة الوجود.

فللمثاليّة نظرة خاصّة للوجود، فهناك علاقة وثيقة بين الوجود والإدراك، فوجود الأشياء في أرض الواقع يتوقّف على إدراك الذات لها، فإذا أدركت الذات العارفة الأشياء فقد ثبت وجودها في المنظور المثاليّ، بما يعني استحالة تصوّر وجود الشيء دون إدراكه، فهناك علاقة تلازميّة بين الوجود والمعرفة، فالوجود والمعرفة عند المثاليّة

(117)

وجهان لعملة واحدة، فلا وجود لأحد وجهيها دون الآخر. وهذا الأمر ينطبق على الأشياء المحسوسة، فالفكر يسبق الحسّ، والأفكار تسبق المحسوسات المطابقة لها، والمعاني الكليّة في المثاليّة تسبق المعاني الجزئيّة. وهذه الجزئيّة نراها أكثر وضوحًا عند أبي الفلسفة الحديثة ديكارت.

ويمكن القول إنّ المثاليّة في علاقتها بالوجود ترتكز على مجموعة من الأمور:

    • ارتباط وجود الشيء بإدراكه:

يرتبط وجود الشيء في المثاليّة بإدراكه، فالفلاسفة المثاليّون يرون أنّ وجود الأشياء فعليًا مرتبط بإدراك الذات العارفة له، أي الذات التي تدركها، وتصبح فرضيّة وجود الذات لا جدوى منها ما لم تدركها الذات، وهذا يدّل على أنّ هناك علاقة تلازميّة بين الوجود والمعرفة في المثاليّة، وكأنّهما معًا كيان واحد.

    • أسبقيّة الأفكار للموجودات:

الأفكار في الفكر المثاليّ تسبق الموجودات المحسوسة التي تطابقها، بيد أنّ هذه الأخيرة يستحيل وجودها ما دامت لم تدركها الذات العارفة.

    • أسبقيّة الكليّ للجزئيّ:

فأسبقيّة الكليّ للجزئيّ والمعاني الكليّة للجزئيّات ركيزة أساسيّة في فهم المثاليّة للوجود.

    • ارتباط ماهيّة الشيء بوجوده:
(118)

لكلّ نوع من الموجودات سماته وخصائصه الذاتيّة التي ينضوي تحتها جميع أفراده، والتي تميّزهم عن غيرهم، ومن ثمّ فلا يفهم وجود الشيء في العالم المادّيّ المحسوس من دون ربطه بماهيّته وخصائصه الذاتيّة.

ثانياً - وضع المثاليّة رؤيتها لفهم الإنسان:

وهذا يمثّل السبب الثاني؛ ذلك أنّ المثاليّة في موقفها من الإنسان ترتكز على مجموعة من المرتكزات هي:

    • النظرة الثنائيّة للإنسان:

تنظر المثاليّة للإنسان على أنّه يحوي بداخله ثنائيّة، على اعتبار أنّه يتكوّن من روح وجسد، الروح جاءت من عالم السماء، ثمّ حلّت بالجسد المادّيّ في هذا العالم المادّيّ، وستعود إلى عالمها الأوّل في نهاية المطاف.

وقد استطاع الفكر الميتافيزيقيّ المؤيّد لخلود النفس أن يبيّن هذه الثنائيّة بوضوح كبير، استنادًا إلى أنّ الشيء المعلوم بصورة مباشرة له وجوده المتمايز عن وجود الشيء المعلوم بطريق الواسطة، والنفس من ذلك النوع الذي يعلم ذاته بطريقة مباشرة، في حين أنّ الجسم من ذلك النوع الذي لا يعلم إلّا بواسطة، وهذه الواسطة هي النفس، ومن ثمّ فالنفس متمايزة عن الجسم ومختلفة عنه، وجوهرها مخالف لجوهره. وقد واجه هذا القياس معارضة كبيرة من كانط، ذلك النقد الذي يظهر فيه اتّخاذه موقفًا سلبيّاً من قضيّة خلود النفس، ويشرح الدكتور يوسف كرم موقف كانط قائلاً : «هذا القياس يذهب من المعرفة إلى الوجود: أنا أعرف الأنا متمايزًا من

(119)

اللا أنا، ولكن هل تعني هذه المعرفة أنّ الأنا مستقلّ حقّاً عن اللا أنا ؟ أليس من الممكن أنّ تكون لدي هذه المعرفة وأنا مركب من نفس وجسم؟ وهذا القياس مبنيّ على تمايز النفس والجسم، مع أنّ الجسم تصوّر حاصل في الحساسيّة بتأثير علّة مجهولة، وليس التصوّر شيئًا خارجًاعن الذات المتصوّرة حتّى نقول بإدراك مباشر وإدراك غير مباشر، وقد تكون العلّة المجهولة روحًا، وقد لا يكون هناك إلّا جوهر مشترك، هو جسم في صورة المكان، وروح في صورة الزمان، ما دام إدراك الشيء بالذات ممتنعًا علينا».[1] ومن الواضح أنّ كانط هنا يرمي إلى شيء من الخطورة بمكان، فالمثاليّة النقديّة عنده تقضي بالكليّة على التمايز بين النفس والجسم، كما تقضي على التمايز في العلاقة بينهما، فقد ظنّ أنّ مذهب ديكارت ولاحقيّه من المتأثّرين به لا يقدّم حلّاً لهذه القضيّة؛ لأنّها ليست قابلة للحلّ، ومن ثمّ انطلق إلى نتيجة غير مقبولة دينًا أو عقلاً، وهي أنّه ليس في استطاعتنا برهنة وجود النفس وحقيقة الخلود، كما أنكر على الماديّين إمكان برهنة عدم وجود النفس وعدم الخلود، بما يعني أنّ كانط وقف موقفًا لاأدريًا، أي لا يدري هل خلود النفس حقيقيّ أم لا؟ وهل في استطاعتنا برهنة وجود النفس أو لا؟

    • الإنسان كائن روحيّ:

فباركلي مثلاً نظر إلى الإنسان متأثّرًا بالنظرة المسيحيّة على أنّه كائن روحيّ خالد، وأنّ هذه الروح إنّما خلقت للعيش في عالم الخلود بعد أنّ تفارق الجسد بالموت. وهي النظرة نفسها التي نظرها

(120)

هيجل، عندما نظر للإنسان على أنّه ومضة من عالم الخلود الذي سيعود إليه حتمًا.

    • الإنسان حرّ مسؤول:

فهو عند المثاليّين كائن روحيّ يتميّز بالحريّة والإرادة والاختيار، ومن ثمّ فهو مسؤول عن أفعاله التي يؤدّيها قولاً أو عملاً. وهذه المسألة من أكثر النقاط بروزًا في الفكر الفلسفيّ قديمًا وحديثًا، فالفلسفة اليونانيّة في تناولها للإنسان على سبيل المثال أكّدت حريّة الإنسان وإراته المختارة، ومن ثمّ يكون أهلاً للمسؤوليّة، وتحمّل نتيجة أفعاله، وهذا المعنى هو ما أكّده الفلاسفة المسلمون الكبار، الذين أكّدوا هذه القضية تحت إلحاحات عقديّة وعقليّة، الأمر ذاته نجده عند زعماء الفلسفة اللاهوتيّة أو الفلسفة المسيحيّة، الذين كان يحرّكهم في هذه القضيّة بعدهم العقديّ. وفي الفلسفة الحديثة والفلسفة المعاصرة، لم يختلف الأمر من هذه القضيّة بأيّ حال، وقد أكّد كانط نفسه ـ سبيل المثال ـ هذه الحريّة، وإن كان قد أخضعها لقانون الحتميّة الطبيعيّة.

ثالثاً ـ ومن أهمّ هذه الأسباب طرح نظريّة أبستمولوجيّة جديدة تتجاوز الأفكار العتيقة التي سبقتها في ربط واضح بين المثاليّة والمعرفة

ففي نظرة المثاليّة للمعرفة تواجهنا مجموعة من المدارس على النحو التالي:

 

(121)
    • مدرسة أفلاطون[1]:

وهذه المدرسة تحصر المعرفة في الأنواع الأتية:

أ ـ المعرفة الحسّيّة الماديّة: وهي المعرفة المرتبطة بالأجسام الماديّة في الطبيعة، وهي معرفة متغيّرة نتيجة تغيّر المادّة التي ترتبط بها.

ب ـ المعرفة الظنيّة: وهي معرفة تقوم على الظنّ والتخمين، وهي تتعلّق بالأجسام من جهة محسوسيّتها.

ج ـ المعرفة الاستدلاليّة: وهي المعرفة المرتبطة بالموضوعات الرياضيّة أو الحقائق الرياضيّة، وهي موضوعات كليّة ذات حقائق عقليّة، وهذا النوع من المعرفة لم يكن يروق بحال لأفلاطون.

د ـ المعرفة العقليّة: وهي المعرفة التي ينصب موضوعها على الماهيّات المجرّدة من المادّة، وهذا النوع من المعرفة هو الذي أكّده أفلاطون، حيث كان يرى أنّ الحقيقة كامنة في أفكار العقل وليس في العالم الماديّ المحسوس.

    • مدرسة كانط:

ربط كانط بين النظام العقليّ الذي يفرضه العقل على الحواسّ فرضًا وبين نظام  المقولات، ولكي يدرك العقل العالم ينبغي أن يتبع نظام المقولات.

    • مدرسة هيجل:

ارتبطت نظريّة المعرفة عند هيجل بنظرته عن الجدل، انتهى

(122)

من خلالها أنّه لا معرفة لما لا يمكن بحال معرفته. ويقوم جدل هيجل على افتراض وجود ثلاث فرضيّات: الأولى، الفكرة موضوع البحث، والثانية الفكرة المناقضة لها، والثالثة الفكرة المؤلّفة، التي تؤلّف بين الفكرتين في جدل لا نهاية له.

رابعاًـ محاولة إرساء منظومة قيميّة تهتدي بها البشريّة، وتقتفي أثرها، لمحاولة الخلاص من مرحلة سوء الأخلاق الذي تتردّى فيه البشريّة؛ ذلك أنّ المثاليّة لها رؤيتها الواضحة في نظريّة الأخلاق والقيم.

قبل الحديث عن نظرة المثاليّة للأخلاق والقيم، يجب تأكيد أولاً نظرة المثاليّة للإنسان، فالإنسان عند التيار المثاليّ عامّة كائن يتّسم بالإرادة الحرّة المختارة، ومن ثمّ فهو لا شكّ يتحمّل مسؤوليّة أفعاله، والواقع أنّ المثاليّ لم ينظر للإنسان نظرة أحاديّة الجانب؛ إذ لم ينظر إليه على أنّه ذلك الكائن الذي يجمع الطبائع الحيوانيّة وحسب، كلّ عضو من أعضائه مكلّف بدور سلوكيّ معيّن، فإذا تخلّف عن أدائه فسد مزاجه واعتلّت صحّته، كما أنّه لم ينظر إليه فقط على أنّه ذلك الكائن الذي قوامه عقل لا جسد، وهي النظرة التي تقوم على ضرورة دراسة الإنسان وطبيعته بعيدًا عن الطبائع الجسديّة الحيوانيّة؛ ذلك أنّ الإنسان ميّزه الله بجوهر قوامه العقل والروح. فالفارابيّ على سبيل المثال يقول: “ إنّ الإنسان شكل من جوهرين: أحدهما مصوّر مكيّف مقدّر متحرّك ساكن، متجسّد منقسم، والثاني مباين للأوّل في هذه الصفات غير مشارك له في حقيقة الذات، يناله العقل

(123)

ويعرض عنه الوهم. . وهو سرّ وعلن، أما علنه فهو الجسم المحسوس بأعضائه.. وأمّا سرّه فقوى روحه.[1]

ومن ثمّ فإنّ موقف المثاليّ هنا لم يكن ليقتصر على أحد الجانبين: الجسد والروح دون الآخر، وإن نظر للإنسان على أنّه نتاج جسد وروح، ومن ثمّ فهو يجمع بين الشهوات الحيوانيّة والاستعدادات الفطريّة من جانب والسمات العقليّة والمعرفيّة من جانب آخر[2] وإذا كان ازدواج الطبيعة البشريّة مبدأً يوجد عند الفلاسفة اليونان: سقراط وأفلاطون وأرسطو على اختلاف قليل أو كثير بينهم، فإنّه يوجد عند أشهر الأخلاقيّين  في العصر الحديث، حتّى إنّ كانط ربط مفهوم الواجب عنده بشرطين أساسيين ـ عوّل عليهما كثيرًا ـ هما: الحريّة، وازدواج الطبيعة البشريّة[3]. وهذا ديكارت قد اعتبر النفس جوهرًا يتميّز كلّ التميّز عن البدن[4].

وفي موقف المثاليّة من القيم نجد الآتي:

    ◾ القيم ثابتة ومطلقة وغير قابلة للتغيّر.

(124)

    ◾ المثل العليا (حقّ ـ خير ـ جمال) ليست من صنع البشر.

    ◾ لا معنى للقيم دون ارتباطها بالحقيقة.

   ◾ القيم لا تتحقّق إلّا في مجتمع مثاليّ كمجتمع المدينة الفاضلة الذي أشار إليه أفلاطون والفارابيّ.

وتقوم العلاقة بين المثاليّة والقيم عند الاتّجاهات المثاليّة على أساس فكرتهم عن الكمال الإنسانيّ، بخلاف الاتّجاهات الحسيّة التي قامت على فكرة المنفعة والسعادة الشخصيّة، أو ما يمكن تسميته اللذّة، والاتّجاه الحسّيّ يقيم اللذّة أو المنفعة على أساس الحسّ الطبيعيّ، وهذا هو الاتّجاه الذي سار عليه كلّ من أبيقور وهوبز، ومن سار على ضربهما ممّن أتيَ بعدهما، وهناك من اعتمد أخلاق تقوم على ما يسمّى العاطفة الأخلاقيّة إلى غير ذلك من الاتّجاهات.

ولكن يبقى السؤال: هل المثاليّة في جانبها القيميّ أو الأخلاقيّ  تقيم الأخلاق على أساس اللذّة أو المنفعة أو التجربة أو غيرها من المعايير الأخلاقيّة أو الإلزامات الأخلاقيّة؟ الإجابة عن هذا السؤال هنا بالنفي؛ لأنّ مبدأ اللذّة يقوم على أساس إشباع الرغبات والملذّات، فما كان فيه لذّة فهو خير، وما كان فيه ألم فهو شرّ، وبذلك تتحوّل الحياة إلى حياة أشبه بحياة البهائم، بخلاف الحياة الأشبه بالملائكيّة التي تدعو إليها المثاليّة المعتدلة، ومن ثمّ فإنّ هذا المبدأ أو هذا المعيار يتنافى تمامًا مع مساعي المثاليّة، في حين اختلف المثاليّون بين الإقرار بمبدأ السعادة القصوى أي السعادة الأخرويّة، وبين مبدأ اللاغاية أو مبدأ الواجب.

(125)

والجدير بالذكر أنّ مسألة غاية الأخلاق من المسائل التي انتابها جدل كبير في محيط الدراسات الأخلاقيّة بين مؤيّد لكون الأخلاق غاية في حدّ ذاتها، وبين مؤكّد أنّها وسيلة لتحقيق غاية أرفع وأسمى، بيد أنّه ما من نظريّة أخلاقيّة إلّا قد بيّنت موقفها من الغاية الأخلاقيّة، سواء أكانت مؤيّدة أو معارضة لها؛ لأنّها من الأسس التي تقوم عليها أيّ نظريّة أخلاقيّة.

   فالدراسات الأخلاقيّة منذ بدء نشأتها على يد المفكّرين من اليونان تناولت غاية الأخلاق بكثير من العناية والاهتمام، على الرغم من سقوط بعضها في بحر اللذّة والشهوة، وقد ظهر هذا الاتّجاه على يد السُفسطائيّين، ثمّ تطوّرت هذه الدراسات إلى يومنا هذا، غير أنّه ظهر بعض المفكّرين الذين أنكروا أنّ تكون للأخلاق غاية، وكان على رأس هؤلاء الفيلسوف الألمانيّ كانط، فالأخلاق عنده هي أداء الواجب، ومن ثمّ فقد رفض مبدأ الغاية، مستندًا في ذلك إلى أنّ الإنسان عاجز عن أنّ يحدّد بيقين كامل السعادة الحقّة؛ لأنّه سيحتاج حينئذ ـ في نظره ـ إلى المعرفة الكليّة التي تحيط بكلّ شيء.[1] وبالقطع هذا محال؛ لأنّ الإنسان مهما بلغ علمه، فإنّه لا يستطيع إدراك المعرفة الكليّة التي تحيط بكلّ شيء، بل لقد بلغت المثاليّة بكانط حدّاً مفرطًا عندما أكّد أن الفعل الخلقيّ إذا لم يصدر عن مبدأ الواجب، وحدث أنّ اتفقت نتائجه مع مقتضيات الواجب، فإنّه لا يوصف بأنّه فعل أخلاقيّ.[2] وإن كان هناك من الباحثين من حاول أن

(126)

يخفّف من هذه الحدّة، ففسّر الأمر على أنّ السعادة عند كانط ليست خيرًا إلّا باتفاقها والسلوك الأخلاقيّ  الحسن.[1]

    وعلى النقيض تمامًا من كانط نجد أنّ أكثريّة الدارسين في الدراسات الأخلاقيّة يقرّون بأن للأخلاق غاية، ولكنّهم اختلفوا في تحديد هذه الغاية، ومن ثمّ اختلفت اتّجاهاتهم إلى ثلاثة:

أ ـ الاتّجاه الأوّل يرى أنّ غاية الأخلاق هي اللذّة مثل السُفسطائيّين.

ب ـ الاتّجاه الثاني يرى أنّ غاية الأخلاق هي المنفعة كبنتام ومل ومذهب الوضعيّة التجريبيّة عامّة.

ج ـ الاتّجاه الثالث يرى أنّ غاية الأخلاق هي السعادة القصوى والخير الأسمى.

إذن فنحن أمام فريقين مثاليّين بصدد علاقة المثاليّة بالقيم الأخلاقيّة، فريق يقيم مثاليّته القيميّة على مبدأ السعادة القصوى، وهذا التيار ذاع صيته في الفكر الأفلاطونيّ والفارابيّ وغيرهما، وبرغم أنّ هذا التيّار يعترف بالسعادة القصوى الأخرويّ إلّا أنّه يؤوّلها تأويلاً عقليّاً يكاد أن يفرغها من معناها الدينيّ، وفريق يرفض ذلك، ويقيم مثاليّته القيميّة على مبدأ الواجب، وإمام هذا الفريق هو كانط.

أولاً ـ المثاليّة القيميّة ومبدأ السعادة:

فالمتأمّل في فكر أفلاطون المثاليّ يجده يؤكّد مراراً أنّ العصاة والمجرمين الذين لم ينالوا جزاءهم في الدنيا سوف ينالون هذا

(127)

الجزاء اللائق بهم في دار الآخرة؛ إذ إنّ عدل الله يوجب أنّ العاصي والمجرم إن لم ينالا عقابهما في الدنيا كان حتمًا عليهما أن ينالاه في الآخرة.[1] بما يعني أنّه يقرّ بمبدأ الخلود، غير أنّه لم يفهم كيفيّة هذا الخلود عنده، في حين أنّ المتأمّل في الفكر المثاليّ للفكر للفارابيّ يجده يؤكّد ربط قضيّة الغاية بفكره المثاليّة، فالجزاء عند الفارابي يحمل معنى السعادة لذوي الأخلاق الفاضلة، ومعنى العدم والشقاء لذوي الأخلاق القبيحة، وقد كان هذا الرأي مناط خلاف بين الفلاسفة والمفكّرين اللاحقين للفارابيّ؛ إذ نفهم منه إنكاره خلود النفس بعد الموت لبعض الفئات الضالّة، ومن ثمّ فقد «اختلف الباحثون في موقف الفارابي من خلود النفس بعد الموت”.[2]

ثانياً ـ المثاليّة القيميّة ومبدأ الواجب:

ويمثّل ذلك تحديدًا الفيلسوف الألمانيّ كانط الذي يختلف موقفه تمامًا مع الموقف السابق الرابط بين السعادة والقيم والأخلاق، فكانط يقرّر أوّلاً أنّ فلسفة الأخلاق يجب أن نلتمس مبادئها في العقل الخالص، رافضًا الخلط المزيّف بين الظواهر التجريبيّة والمعاني العقليّة، ولقد رفض كلّ التيّارات التي فسّرت الأخلاق قبله بدءًا من الفلسفة اليونانيّة سواء الفلاسفة الثلاثة الكبار أو المدارس الفلسفيّة السابقة عليهم، وإن استفاد استفادة كبيرة منها.

لقد رفض كانط مذهب اللذّة الفرديّة التي شاعت في الفكر

(128)

اليونانيّ القديم، التي اعتمدت على معيار اللذّة الحسيّة في الحكم على الأشياء، استنادًا إلى أنّ الحسّ لا يستطيع إصدار أحكام كليّة، أو قوانين واعية لفلسفة الأخلاق، فالخير عند أصحاب هذا الاتّجاه في اللذّة والمنفعة الشخصيّة ليس إلّا، كما رفض المذهب القائم على تغليب العاطفة الأخلاقيّة، أو ما يمكننا تسميته الضمير؛ لأنّه يهدف إلى تحقيق لذّة حسيّة، هي الرضا النفسيّ؛ واستنادًا إلى أنّ العاطفة نسبية بين البشر وأحكامها متغيّرة، ومن ثمّ فهي ليست مؤهّلة لأن تكون معيارًا للخير أو الشرّ.

وبالنظر إلى مذهب الكمال فإنّه يمثّل حالة أفضل من المذهبين السابقين؛ ذلك أنّ المقياس أو المعيار الأخلاقيّ  ليس للحسّ دخل فيه من قريب أو بعيد، وإنّما المعيار معيار العقل، لكنّ المشكلة الي واجهت كانط هي أنّ فكرة الكمال فكرة ليست محدّدة معيّنة، سواء من جهة الغاية التي تقصد إليها، أو من جهة حدود هذا الكمال، “فإنّ الكمال الذي يكتسبه الإنسان هو كفاية ما لتحقيق غاية، وليست هذه الغاية غاية أخلاقيّة دائمًا، فلا بد من علامة غريبة عن الكمال؛ للحكم عليه حكمًا أخلاقيّاً، فنخرج من المذهب، وينكشف نقصه، وإذا اعتبرنا هذا المذهب في صورته الثانية أو اللاهوتيّة، رأينا من الجهة الواحدة أنّه لمّا لم يكن لنا حدس بالكمال الإلهيّ، فإنّنا لا نستطيع تعيين الكمال إلّا بمعانينا نحن فنقع في دور، أو نعود إلى الصورة السابقة، ورأينا من جهة أخرى أنّ الإرادة الإلهيّة إن لم تعرف أوّلاً بصفات أخلاقيّة أمكن تصوّرها مصدر أوامر ونواه عديمة الصلة بالخلقيّة أو معارضة لها، وإذا تصوّرناها مطابقة للخلقيّة، فقد قدّمنا الخلقيّة عليها، ولم تعد هناك حاجة لتبرير الخلقيّة نفسها، والبحث

(129)

لها عن دعامة غريبة عنها. فمن العبث ومن الخطأ محاولة إخضاع القانون الأخلاقيّ لموضوع ما أو لسلطان موجود أعلى».[1]

  ونفهم من ذلك أنّ كانط يرفض قياس الغائب على الشاهد، أو قياس العالم الإلهيّ على العالم الإنسانيّ، بالاستناد إلى مجموعة من الأقيسة المنطقيّة التي عبّر عنها النصّ السابق، والتي تصبّ في النهاية في اتّجاهه الرافض رفضًا قاطعًا لأن يكون القانون الأخلاقيّ  يسند إلى سلطة عليا أو إلى غاية، إذ إنّ فعل الأخلاق خوفًا من سلطة عليا أو رجاء كسب رضاها ليس عند كانط من القانون الأخلاقيّ في شيء، كما أنّ أيّ فعل مبنيّ على غاية لا يعدّ عنده من قبيل الأفعال الأخلاقيّة، ولا يخضع للقانون الأخلاقيّ الذي أعدّه كانط هو ذاته.

وإذا كان كانط يرفض كلّ الفلسفات السابقة من حيث معالجتها للمعيار الأخلاقيّ  أو القانون الأخلاقيّ، فما هو الحلّ الذي ارتآه هو لتلك القضيّة؟ إذا كان كانط قد رفض وجود سلطة عليا للقانون الأخلاقيّ أو غاية من ورائه فإنّه ارتضى الإرادة الخيّرة باعتبارها المبدأ الأخلاقيّ الذي ليس عليه أيّ تحفظ من أي نوع.[2] والإرادة الخيّرة عنده ليس وسيلة خيّرة لغاية ما، أو وسيلة سيّئة لغاية مغايرة، كما أنّها لا تكون خيّرة حيناً وغير ذلك حينًا آخر، وإنّ مصدر خيريّتها ليس مرتبطًا بعلاقتها بظروف ما أو بغاية ما أو لرغبة ما، وهي من هذا

(130)

المنطلق خير مطلق، وغير مرتبط بشرط أو وصف أو تحديد، وإنّما خيريّتها في ذاتها.[1]

وعليه فإنّ الإرادة الخيّرة أو الصالحة هي خير مطلق، فإذا كان هناك مجموعة من الخيرات المتعدّدة والتي يتمتّع الإنسان بها، فإنّه لا يمكن بحال اعتبارها خيرات مطلقة، أو خيرات في حدّ ذاتها، لسبب ظاهر وهو أنّها قد تستخدم في الخير، وقد تستخدم في الشرّ. أمّا الإرادة الخيّرة فهي خير في حدّ ذاتها سواء نجحت في الوصول إلى مهمّتها، أو أخفقت في أدائها[2]، ومن ثمّ فإنّ الإرادة الخيّرة هي تلك التي اعتادت أنّ تفعل باستمرار الخير، وهي بذلك تختلف عن الحاسّة الخلقيّة والضمير؛ ذلك أنّ الحاسّة الخلقيّة عبارة عن مجموع الغرائز والانفعالات والعواطف والوجدانيّات التي يشعر صاحبها عند أداء الخير بالارتياح، ويشعر عند أداء الشرّ بعدم الارتياح، في حين أنّ الضمير قوّة حدسيّة دراكة تتميّز عن غيرها من قوى النفس، وتسيطر على دوافع الإنسان وشهواته، بحيث إنّها تقوم بدورها من دون الحاجة إلى خبرات سابقة أو أيّ نوع من التأمّل الاستدلاليّ.[3]

وهذه الإرادة الخيّرة يرجعها كانط إلى معنى الواجب، فالإرادة الصالحة هي إرادة الفعل بمقتضى الواجب، من دون النظر لأيّ

(131)

اعتبارات أخرى،  فعندما نذهب إلى أنّ الإرادة الخيّرة تعمل وفق مقتضى الواجب، “فعلينا بالضرورة أن نفرّق بين نوعين من الإرادة الخيّرة، هما: الإرادة الخيّرة غير الكاملة، والإرادة الخيّرة الكاملة، حيث إنّ الأولى لا تعمل ابتغاء الواجب؛ لأنّ في فكرة الواجب فكرة ما ينبغي التغلّب عليه من الميول والرغبات. إنّ الإرادة الخيّرة تعمل من تلقاء نفسها ولنفسها، وتتجلّى في الأفعال الخيّرة من دون أن تكون في حاجة لقمع الميول الطبيعيّة».[1]

  ومن ثمّ كان التمييز بين الفعل الصادر عن الواجب حقيقة والفعل الصادر عن الواجب شكلاً مع أنّه ينطلق من دافع المنفعة أو المصلحة؛ حيث إنّ هذا الفعل الأخير وغيره من الأفعال التي تقوم على المنفعة ليس له أدنى صفة خلقيّة، في حين يرى كانط أنّ الصعوبة تكمن في صدور الفعل عن الواجب والعاطفة على حدّ سواء، ومن ثمّ فإنّ الإرادة الخيّرة عنده لا تظهر جليّة إلّا عندما تدخل في صراع مع الرغبات والعواطف والأهواء، فيظهر تمسّكها بالواجب.[2]

من ثمّ فإنّ الواجب عند كانط يحمل معنى عقليّاً، يمثّل دافعاً نفسيّاً نحو أداء الفعل، ويرى كانط أنّه واسطة من نوع ما بين العقل والحسّ، ذلك أنّ هناك عاطفة مختلفة عن العواطف الأخرى، تنبعث عن المؤثّرات الحسيّة، غير أنّها على صلة وثيقة بتصوّر الواجب، إنّها العاطفة التي يسمّيها كانط عاطفة الاحترام، ومن ثمّ

(132)

يكون الواجب هو لزوميّة أداء الفعل احتراماً للواجب.[1] ومن ثمّ فإنّ الاحترام من حيث طبيعته ومصدره ومهمّته - كما يذهب يوسف كرم ـ يمثّل عاطفة أصيلة بالمرء، في حين أنّ سائر العواطف ترجع إلى الميل أو إلى الخوف، بيد أنّه ـ أي الاحترام ـ بينه وبين الخوف أو الميل بعض المماثلة، فالمماثلة بينه وبين الخوف تقوم في نسبته إلى قانون مفروض على من حيث إنّه الشعور لخضوعنا لسلطة القانون الخلقيّ، وتقوم المماثلة بينه وبين الميل في نسبته إلى قانون صادر عن الإرادة نفسها، من حيث إنّها الشعور بمشاركتنا فيما للقانون من قيمة لا متناهية. فإذا كانت من الوجهة الأولى فإنّ ذلك يحطّ من قدرنا، أمّا إذا كانت من الوجهة الثانية فإنّ ذلك بناء على فكر كانط يشعرنا بكرامتنا، فالاحترام يتّجه للقانون ليس غير، حيث إنّه لا يتّجه مطلقًا إلى الأشياء، وإن بدا عليه حيناً تجاهه للأشخاص؛ فلأنّهم يبدون بفضيلتهم أمثلة للقانون، ومن ثمّ يكون الاحترام منبعثاً عن العقل وحده بناءً على القانون الأخلاقيّ.[2] 

(133)
(134)

 

 

 

 

 

 

المبحث السادس

نقد وتحليل المصطلح

 

(135)

أولاً ـ الرؤية التحليليّة:

أوّل ما يمكننا قوله هنا هو خطأ الاعتقاد بأنّ المثاليّة اتّجاه غير عمليّ أو غير واقعيّ، أو بأنّه اتّجاه لا أثر يذكر له، أو على أنّه يقوم على نوع من التفكير الذي ليس له أيّ أهميّة من الناحية العمليّة، بالنظر إلى الماديّة المفرطة التي انتشرت في عالمنا، وأصبح البحث عن المنفعة أو الفائدة الشخصيّة هو الأمر الغالب، وعليه فقد تراجعت القيم الأخلاقيّة والمثل العامّة والمبادئ الإنسانيّة، ظنّاً بأنّ المثاليّة اتّجاه خياليّ غير ذي جدوى.

إنّ المثاليّة تبدو عند هذا الفريق أشبه بالتفكير غير العقلانيّ، وقد نسوا في الغالب أنّ المثاليّة تعني فيما تعنيه تمام العقلانيّة وكمالها، غير أنّ الواقع الاجتماعيّ وكذلك الأخلاقيّ  في كثير من هذه المجتمعات يتهرّب من هذه العقلانيّة بما فيها من مسؤوليّة، وهذه المثاليّة تعدّ عند الغالبيّة حملاً ثقيلاً يتهرّب منه بعضهم باللجوء إلى اللامبالاة والخروج عن القيم التي آمن بها الكثيرون، وهم في ذلك يتهرّبون من قاعدة الحضارة الأساسيّة أي أداء الواجب الأخلاقيّ  والاجتماعيّ والسياسيّ، مبرّرين ذلك خطأ بأنّ الدولة لم تعد القدوة التي يفترض فيها ذلك، ومن ثمّ كان انهيار الدولة واقتفاء الشعب لأثرها في هذا الانهيار سببًا رئيسًا في سقوط الحضارات، وهذه هي اللامثاليّة واللاعقلانيّة بعينها.[1]

(136)

والشيء بالشيء يذكر فإنّ المثاليّة في علاقتها بالواقعيّة تفترض أنّ العالم المثاليّ الذي ترنو إليه سوف يخضع لمجال التطبيق إذا توافرت ظروف ظهوره ونشأته، ومن ثمّ ذهب بعض الباحثين - تأكيدًا لهذه العلاقة - إلى القول بأنّ «كلّ فلسفة هي مثاليّة بما فيها تلك التي يطلق عليها الفلسفة الواقعيّة؛ لأن المثاليّة ليست محتوى أو نظريّة فلسفيّة خاصّة، وإنّما هي تعبير عن الصورة أو التطبيق الكليّ الذي يطرح نفسه في عمليّة تكوين الوجود الواقعيّ، فالفلسفة الواقعيّة لا يمكن أن تخلو من المثاليّة، لأنّ التفكير الواقعيّ يبدأ بالتفكير المجرّد لتخيّل العلاقة بين الشيء وغيره من ناحية، ولإدراك العلاقة الداخليّة التي تترابط بها جزئيّات الشيء أو الأحداث من ناحية أخرى، وعليه فالمثاليّة النظريّة تعبّر عن مسيرة ينتقل فيها الفكر من لحظة واقعيّة إلى أخرى مثاليّة، والعكس بدون انقطاع».[1]

ومن ثمّ كان من الطبيعيّ ونحن بصدد الحديث عن المثاليّة أن نتطرّق إلى مصطلح الماديّة أو الواقعيّة، خصوصاً أنّ الفلسفة الماديّة أوقعت في إشكاليّات جمّة لا يزال يعانيها الفكر العالميّ إلى الآن، فالماديّة كان لها دور رئيس في تغذية الإلحاد، خاصّة بعدما انتهي الأمر إلى النظر إلى الماديّة من قبل زعمائها على أنّها نفي وجود الجواهر الروحيّة، “وقد تبنّى تسادلار سنة 1739م في الجزء التاسع عشر من معجمه الكونيّ الكبير الجامع لكلّ العلوم والفنون ما حرّره فالش حول الماديّة، لكنه في مادّة (الماديّون) التي لم تكن موجودة في معجم فالش، صاغ المعاني النقديّة الحافة، والتي ستصبح في

(137)

المستقبل اتّهامًا للماديّين بوصفهم فرقة خبيثة من بين الفلاسفة، تخلّت بنفيها الفرق بين النفس والجسم عن الحريّة، وتخلّت معها عن خلود النفس، والتي يعد كلّ فكرها مهملاً للدين وللفضيلة، ومن ثمّ فمن البدايات نجد بعد - وبصورة جوهريّة بفضل الاستعمال المتواطئ للماديّة والآلويّة والطائفيّة - العداء للدين والأخلاق».[1]

ومن ثمّ تبرز أهميّة المثاليّة كاتجاه يقف أمام المدّ المادّيّ في الفكر الغربيّ خاصّة والفكر العالميّ عامّة، باعتباره اتّجاهًا روحيّاً يدعو إلى التمسّك بالجوانب الروحيّة والأخلاقيّة في الإنسان، ويميل به إلى الاعتناء بالنفس الإنسانيّة والارتقاء بها فوق الملذّات والشهوات التي تمثّل جانياً ماديّاً يعوّقها عن الوصول إلى الكمال الأخلاقيّ الذي نادت به الفلاسفة قديماً وحديثاً.

 

ثانياً ـ الرؤية النقديّة:

أ ـ سلبيّات المثاليّة والمآخذ عليها من جهة المصطلح:

وإذا نظرنا إلى المثاليّة من جهة المصطلح فإنّنا نجد الاختلافات الكثيرة حول مدلوله، فالمثاليّة مصطلح عام ينضوي تحته اتّجاهات مختلفة متشعّبة، وبالتالي يختلف المدلول باختلاف الأيديولوجيّة التي تتبنّاها هذه الاتّجاهات، ومن ثمّ يصعب الانتهاء إلى مفهوم واحد للمصطلح، ومن ثمّ فإنّ هذا يفسّر الموقف الرافض للفكر

(138)

المثاليّ والفلسفة المثاليّة، إلّا أنّه يمكن النظر إلى نقد المثاليّة من ناحية المصطلح من خلال الآتي:

أولاً: إنّ المثاليّة على مستوى المصطلح وعلى مستوى المضمون لم تنل حظّها من الدراسة والبحث، نعم هناك العديد من الدراسات التي خرجت في هذا السياق إلّا أنّها ليست كافية للكشف عن المثاليّة عند مؤسّسيها الأوائل قديمًا وحديثًا، وخاصّة المثاليّة حديثًا، فالبنظر إلى كانط وفيشته وشلنج وهيجل ممثّلي المثاليّة الألمانيّة مثلاً، فإنّ الدراسات التي أجريت حولهم في حاجة إلى المزيد للكشف عن طبيعة المفهوم بينهم وتداخلاته مع المفاهيم الأخرى، والثقافات السابقة واللاحقة لهم، وهذا الأمر يقال أيضًا على باركلي وغيره من رواد المثاليّة الغربيّة.

ثانياً: إنّ مصطلح المثاليّة يقدّمه أصحابه على أنّه مصطلح ناصع البياض في مفهومه، في حين أنّه مر بمجموعة من المراحل التي واجه فيها العديد من العقبات التي قابلته، ومن ثمّ فإنّ تبسيط الأمور واعتبار المثاليّة تعبيرًا عن كلّ تلك المراحل من دون تفصيل، فإنّه أمر غير مقبول، إذ من الواجب الإشارة إلى مدلول المفهوم في الفلسفة الأفلاطونيّة، وفي فلسفة باركلي وفي فلسفة الألمان كلّ على حدّة، وغيرها من المثاليّات، ذلك أنّ اعتماد المثاليّة بمفهومها العامّ يتجاهل كليّة الردود والمناقشات والاعتراضات التي واجهت المصطلح في كلّ بيئة من بيئاته السابقة، والتي كشفت عن المفهوم بما له وما عليه.

(139)

ثالثاً: من المهمّ تأكيد أنّ الفلسفة المثاليّة لم تكن مجرّد فلسفة سامية فحسب، بل كانت فضلاً عن ذلك لها مواقفها التي تنقد فيها ذاتها بذاتها، وصولاً إلى نظريّات لها وجود واقعيّ، فالمثاليّ الحقيقيّ لم يكن مجرّد حالم بعالم هلاميّ لا وجود له، وإنّما كان يريد بمثاليّته تغيير الواقع من حوله إلى الأفضل. وخير دليل على ذلك المثاليّة الألمانيّة التي كانت تجري حوارًا من داخلها، كحوار كانط مع الماديّين من أمثال فوستر وفيورباخ.

رابعاً: الفلاسفة المثاليّون كانوا على تواصل دائم مع الثقافات الأخرى، في فلسفاتها وتوجّهاتها الفكريّة وعاداتها المعرفيّة وتقاليدها الأخلاقيّة، بل كانوا على تواصل دائم مع معاصريهم من الماديّين التجريبيّين والميتافيزيقيّين وغيرهم من الفلاسفة الذين تعجّ بهم صفحات التاريخ الفكريّ والفلسفيّ.

خامساً: وهناك إشكاليّة شديدة الخطورة ترتبط بالمصطلح والتاريخ له وصولًا إلى مدلول واضح، فقد يظنّ بعضهم خطأً أن تتابع الفلاسفة المثاليّون زمنيّاً معناه أنّهم يسيرون في مسار إلزاميّ، ولنأخذ مثالاً على ذلك بالمثاليّة الألمانيّة، فهناك «خطر أكبر في كون التوالي الزمانيّ يمكن أنّ يفهم باعتباره مسارًا ضروريّاً، فتظنّ الطريقة الموصلة من كانط إلى هيغل ذات تطوّر مشدود إلى غاية، والخطر يزداد عظمه لكون هيغل نفسه قد استعمل هذا التأويل في دروسه حول تاريخ الفلسفة، حتّى يبرّر نظريته الخاصّة بوصفها قد كانت الغاية من عمليّة جدليّة وضروريّة، ولو عاش سلف هيغل بعده خلفًا له لما قبلوا

(140)

بذلك، والمعلوم أنّ شلنغ الذي امتدّ به العمر بعد هيغل قد ناقضه بحماسة شديدة».[1]

ب ـ المآخذ الجوهريّة على الفلسفة المثاليّة:

أولاً - ترتكز المثاليّة على الجانب الروحيّ، مهملة الجانب الماديّ، كما أنّها ترتكز كذلك على المستوى المعرفيّ، متغافلة عن المستويات الأخرى من الفكر.

ثانياً ـ الابتعاد في كثير من الأحيان عن الواقع، والتوغّل بقوّة في طريق الأحلام، الذي كثيرًا ما كانت الأفكار المترتّبة عليه بعيدة عن التطبيق الواقعيّ.

ثالثاً ـ المنهج المثاليّ في الغالب منهج ثابت لا يتغيّر؛ لأنّه يُبنَى على الفضائل والمبادئ التي لا تتغيّر، بالاستناد إلى الطبيعة الإنسانيّة ثابتة، ولا تتغيّر مطلقًا، ومن ثمّ ينظر له على أنه منهج غير مرن.

ج ـ المآخذ على المدارس المثاليّة الفلسفيّة:

وسوف نعرض في هذه السطور للمآخذ التي أخذت على أهمّ المدارس الفلسفيّة المثاليّة، لا كلّ هذه المدارس، وهذه المآخذ يمكن عرضها على النحو التالي:

أولاً ـ المآخذ على المثاليّة التقليديّة الأفلاطونيّة:

فإذا تأمّلنا في الفلسفة المثاليّة الأفلاطونيّة وجدنا أنّها لا تسلم من النقد؛ ذلك أنّها تفصل فصلاً تامًا بين الوجود الحقيقيّ والوجود

(141)

المثاليّ، حتّى لو قيل أنّ أفلاطون حاول معالجة هذه القضيّة في محاورة طيماوس وغيرها، فعمد إلى توضيح العلاقة بين عالمي المثل والحسّ، وكيفيّة خروج الموجودات المحسوسة من الفكرة المطلقة أي الله، فإنّ الفصل ظلّ قائمًا، لأنّه مع فرض أنّ هناك مثلاً في السماء تقابل الموجوات الحسّيّة على الأرض، فإنّه يبقى السؤال: هل لنا معرفة كيفيّة الالتقاء بين هذه وتلك؟!

ويمكن القول إنّ المثاليّتين الأفلاطونيّة والكانطيّة ـ ومن سار على نهجيهما من المثاليّات ـ وإن كان بينهما العديد من نقاط الخلاف، فإنّ بينهما العديد من نقاط الاتّفاق، وهي وإن كانت تقرب بين المثاليّتين، فإنّها لا تعني بأيّ حال التوحّد بينهما، إذ إنّ هناك من القضايا التي تدّل على الاختلاف الشديد والتباين الواضح بينهما، “لكنا نستطيع مع ذلك أنّ نلاحظ أنّنا في كلا الضربين من المثاليّة نجد الفكر مستقّلاً عن الموضوعات والأشياء، ذلك لأنّ المثاليّة الحديثة ترى أنّ ما فينا من قوّة على تعقل الأشياء يجعل وجود هذه الأشياء أمرًا ثانويّا».[1]

فهاتان المثاليّتان تعدّان مذهبين في المعرفة، هذا المذهب يقوم على أنّ كلّ الموجودات يمكن أنّ تكون متعقلّة، ومن ثمّ فهما لا تقنعان بما هو موجود بالفعل، فليست ملاحظة الموجودات سبيلهما، ولا وصف الأشياء منهجهما، وإنّما سبيلهما البحث عن جوهر الأشياء وماهيّتها، ومنهجهما تحرّي ما يجب أن يكون، لا ما هو كائن بالفعل. كما أنّ المثاليّة على اختلاف صورها تربط بين

(142)

وجود الأشياء في ذاتها والفكر، إذ ليست الأول بمعزل عن الثاني، ذلك أنّ ما يعدّ خارجًا عن الفكر لا يكون متعقّلاً بطبيعة الحال، وهذا ما أكّده عثمان أمين عندما ذهب إلى أنّ كلّ تفسير وكلّ قضيّة تفترض وجود الفكر، وهذا شيء أصبح مسلّماً به عند العامّة والخاصّة على حدّ سواء، ألسنا نسمع الناس يصفون من يقول كلامًا ليس وراءه معنى محصّل بأنّه كلام فارغ؟ فالناس جميعًا يسلّمون بأنّه لا بدّ من فكر وراء كلّ قول، وهذا ما يذهب إليه الفيلسوف على العموم، والفيلسوف المثاليّ خصوصاً، وكلّ ما في الأمر أنّ الفيلسوف لا يقف عند هذا الأمر موقفًا سلبيّاً، وإنّما يعقد النيّة على أن يفسّر كلّ شيء بالفكر.

ويذهب العديد من المفكّرين إلى أنّ الأفلاطونيّة مهّدت لظهور المذهب العقليّ ولمذهب المثاليّة الحديثة، بما يعني أنّ المثاليّة القديمة مهّدت لظهور المثاليّة النقديّة، فالفكرة ـ التي كانت في الأصل هي الفكرة الإلهيّة نفسها ـ  أصبحت هي فكرة الله بالنسبة إلى العالم الذي نعرفه، ثمّ أصبحت هي الفكرة الإنسانيّة المحضة التي خلقها الله فينا، ثمّ صارت هي الفكرة المفطورة فينا، وقد لاحظ هؤلاء المفكّرين أنّ الوحدة كانت كاملة بين المثال والوجود في أوّل التحوّل، ثمّ ابتعدت هذه الفكرة عن الوجود بمعناه الدقيق، فقد ابتعدت أوّلاً بدون انفصال، ثمّ ابتعدت بقطع الصلة بين أفكار الإنسان وعلم الله، ومن ثمّ انحصار نظرنا في أفكارنا وحدنا، وأخيرًا ظهرت الوحدة في الوعي الإنسانيّ.[1]

(143)

ومن أهمّ المآخذ التي تؤخذ على فلسفة أفلاطون المثاليّة ترفعه عن العالم الماديّ، عالم الحواسّ، وتحليقه في عالم العقل، مخالفًا بذلك قواعد المنطق ومعارضاً الفطرة الإنسانيّة التي أُهْلِتْ بملكات الإدراك. فأفلاطون يسبح في سماء الخيال، ولذا فإنّه جعل من عالم الخيال واقعاً ومن الواقع عالماً للخيال، وهو في كل هذا لم يستطع أن يشرح الكيفيّة التي يرتبط بها العالم الماديّ بالعالم العقليّ. وفكرة ثنائيّة الوجود هذه لم تنل رضا تلميذه أرسطو ولم تحظ بتأييده، فهو يرفضها ويبني فلسفته الجديدة على فكرة وحدة الوجود.[1]

كما أنّه من المآخذ التي تؤخذ على المثاليّة الأفلاطونيّة فصلها التامّ بين الماديّ والعقليّ، فالعقل في مرحلة متقدّمة على المادّة عنده، بمعنى أنّه يسبقها، مخالفًا بذلك الاتّجاه القائل بأنّ المادّة أساس الوجود، وأنّها سابقة العقل، وكلا الاتّجاهين يوسم بالمغالاة.

ومن ثمّ كانت المثاليّة الأفلاطونيّة تنطوي على سلبيّة بارزة، وهي تحجيم دور البدن والنظر إليه على أنّه عائق يعوّق العقل عن الوصول إلى مبتغاه، في حين يجب النظر إليهما على أنّهما: «وحدة واحدة متلازمان: المادّة الأساس الخام والعقل الصفة المميّزة لمرحلة التطوّر التي بلغتها المادّة من خلال الصورة التي انطبعت عليها. فالعقل لا يمكن أنّ يوجد بمفرده وبمعزل عن المادّة، مثلما لا يمكن أنّ توجد المادّة الحيّة العاقلة، الإنسان، بدون صفته المميّزة له عن

(144)

النبات والحيوان: العقل. فالإنسان من دون عقل ليس إنساناً بتاتاً، كما أنّه ليس هذا الإنسان من دون عقله حتماً”.[1]

ونفهم من ذلك أنّه لا مثاليّة عند أفلاطون بدون فكر، فالإنسان لا يمكنه إدراك الموجودات دون فكر، فلا نستطيع أن نتصوّر شيئاً ما خارج الذهن، وهذا ما تتميّز به المثاليّة الحديثة أيضًا، لذا وجدنا كانط ذاته يقرّر أنّ تصوّرات بدون حدوس تكون فارغة، وحدوسًا بدون تصوّرات تكون عمياء، بما يعني أنّ الفكر لا بد أن يعتمد على الواقع الخارجيّ بمعطياته، فالمثالية تؤكّد الوجود الخارجيّ ولا تنكره بحال، والواقع «أنّ فريقًا من الفلاسفة قد عرفوا الحقيقة بأنّها مطابقة الصورة التي في الذهن للشيء الموجود خارج الذهن، ولكن ممّا هو واضح أنّ الإنسان لا يستطيع أن يخرج من الفكر، لكي يكتشف مطابقة الفكر للوجود، وواضح كذلك أنّ الحقيقة ليست موجودة خارج الفكر، وليست الحقيقة برانيّة، عن الفكر، بل هي مباطنة له، جوانيّة فيه: لأنّ النموذج أو المثال، الذي يراد أن يطابقه الفكر موجود، على نحو ما، في الفكر نفسه، وإن يكن بلوغه مشروطًا بشروط معيّنة».[2]

يقول عثمان أمين: «السمة الأولى في كلّ مثاليّة هي أنّها تفسر الواقع الذي نواجهه، وتنظر إليه على أنّه ذو معنى، وعلى أنّه فكرة، بغضّ النظر عن مظهره الخارجيّ المحسوس، والمثاليّة تفترض

(145)

أنّ هذا المعنى الجوانيّ، هو قوام حقيقة الواقع وصميم ماهيّته، وأحسب أنّ هذا المعنى الذي أراده هيجل من قوله (الواقعيّ كلّه عقليّ، والعقليّ كلّه واقعيّ)”.[1]

 

ثانياً: المآخذ على المثاليّة الذاتيّة:
أـ نقد المثاليّة الذاتيّة الديكارتيّة:

أنكر العديد من المفكّرين على ديكارت اتّخاذه قاعدة: (أنا أفكّر أنا إذن موجود) مبدأ أول ـ وهي الأساس الرئيس في المثاليّة  الديكارتيّة - بالاستناد إلى أنّ هذه العبارة ذات قياس إضماريّ حذفت منه المقدّمة الكبرى، التي مؤدّاها: (ما يفكّر فهو موجود)، وأنّ الأولى وضع هذه المقدّمة موضع المبدأ الأول، وبرغم ردّ ديكارت بأنّ هذه العبارة ليست قياسًا، وإنّما حدس يدرك وجود المفكّر في الفكر، ويرى أحد المفكّرين أنّه يمكن رؤيتها كذلك إذا اعتبرنا الفكر قوّة مدركة للوجود، أمّا إذا اعتبرناها إدراك أفكار أو ظواهر، فإنّه يتعيّن علينا أن ندلّل على وجود المفكّر، مستدلّاً بأنّ لوك وهيوم وكانط ينازعون في صحّة هذا التدليل[2].

ومن أوجه النقد التي يمكن أن توجّه إلى ديكارت هنا فكرته عن وضوح الفكرة، إذ من المعروف أنّه بنى منهجه المثاليّ على ثلاثة

(146)

مبادئ: الشكّ المطلق، الفكرة الواضحة، الضمان الإلهيّ، فديكارت عندما يطرح أطروحة هل الأفكار صادقة؟ أم لها موضوعات في الخارج؟ فإنّه طبقًا لنهجه المثاليّ في قاعدته الشهيرة يجعل الأوليّة للأولى، بالاستناد إلى أنّ الفكرة الواضحة صادقة ويقابلها موضوع ما، أم الفكرة الكاذبة فليست غير انفعال ذاتيّ لا أكثر، وهذا الأمر يترتّب عليه نقد من الخطورة بمكان؛ إذ إنّ هذا ينتهي بنا في التحليل الأخير إلى القول بأنّ الموضوعات الخارجيّة أو العالم الخارجيّ لا يعرف إلّا بعد فكري أنا، بمعنى أنّ أفكاري سابقة على العالم الخارجيّ، وما موضوعات العالم الخارجيّ إلّا على مثال ما يملي به تفكيري، وهذا الأمر يترتّب عليه نتيجة أشدّ خطورة، وهي أنّ الحقيقة سابقة في عقلي عن الوجود ذاته، وأنّها عبارة عن قنطرة تصل الأفكار المعلومة قبلاً والأفكار المعلومة لاحقًا، استنادًا إلى تصوّره المثاليّ الذاتيّ، وهذا محال.

ولكن ماذا فعل ديكارت للخروج من هذا المأزق الخطير؟ اتّجه ديكارت إلى فكرة الضمان الإلهيّ؛ إذ ظنّ ـ كما يذهب يوسف كرم ـ أنّ صدق الله تعالى يحلّ المسألتين، ويردّ إلى المعرفة قيمتها، والواقع أنّه كان يهدمها هدمًا؛ لأنّه لو كان لدينا وسيلة طبيعيّة للمعرفة الحقيقيّة لما افتقرنا بحال إلى الضمان الإلهيّ، ولو كانت قوانا العارفة تقوم بدورها كالواجب، وتسير بالطبع إلى الحقيقة، لحملت في ذاتها أدّلة صدقها، ولَأكّدنا ذلك قبل اللجوء إلى فكرة الضمان الإلهيّ، التي يبدو أنّها أقحمت إقحامًا من قبل ديكارت رجاء كسب ودّ الكنيسة ورجالها اللاهوتيّين، في حين أنّ اللجوء إلى

(147)

ضامن خارج العقل والحواسّ أدعى إلى التشكيك في الله وحكمته ووجوده.[1]

وفي التصور المثاليّ الديكارتيّ لإثبات وجود الله نجد أنّ هناك صورًا من النقد يمكن أنّ توجّه إلى هذا التصوّر، حيث نجده يستند إلى الفكرة نفسها التي طرحها قبله رجال اللاهوت والفلاسفة والتي تستند إلى مبدأ العليّة، فالله تعالى وفق النهج الديكارتيّ العلّة الأولى لهذا العالم؛ لأنّ الموجودات لا بدّ لها من علّة، إلّا أنّ سلسلة العلل يجب أن تقف عند علّة أولى، لكنّ الإشكاليّة هنا هل الكائن المتناهي (الإنسان) يستطيع أن يدرك اللامتناهي؟ بمعنى آخر هل يستطيع العقل القاصر أن يدرك الإله الكامل؟ ديكارت نفسه حاول التغلّب على هذه الإشكاليّة قائلاً: «أجل إنّي لا أفهم اللامتناهي، وإنّي أجهل أمورًا كثيرة فيه، ولكنّي متى علمت أنّه حاصل على جميع الكمالات التي أتصوّرها، وفهمت حقّ الفهم أنّ تمام الإحاطة باللامتناهي ممتنع على موجود متناه مثليّ، فقد حصلت على فكرة عنه جليّة جدّاً، ولو أنّها ناقصة جدًا».[2] إنّ أيّ فكرة نحصلها عن الله تعالى اللامتناهي، فإنّها حتمًا ستكون فكرة ناقصة، ولا تتعدّى فكرتنا عنه سوى أنّه موجود، وله صفات الكمال اللائقة به، أمّا ما عدا ذلك فإنّه يعدّ أحكامًا أو أفكارًا يصدرها العقل القاصر عن الله، ولا تفيد معرفته حقّ المعرفة أو ما يسمّى إدراك الذات الإلهيّة.

(148)

وعليه انتقدت المثاليّة الديكارتيّة في موقفها من الألوهيّة، على اعتبار أنّ الفكرة التي نُكوّنها عن اللامتناهي تصدر عن عقل ناقص قاصر، يحاول أن يكوّن فكرة عن الكامل، وهذا ما جعل الدكتور يوسف كرم يُوجّه سهام نقده لديكارت هنا، مستندًا إلى أنّ ديكارت ذاته يذهب إلى أنّ فكرتنا عن الإله محصّلة، ومن ثمّ فهو يخلط بينها وبين موضوعها، ذلك أنّ هذا الموضوع الذي هو الله موجود على الحقيقة، “أمّا فكرتنا عنه، فليست صورة أو معنى شبيهًا به، وإلّا كانت تظهرنا على حقيقة اللامتناهي إظهارًا كليّاً كما قلنا، وهذا غير صحيح، ولكنّ ديكارت ـ وقد قطع الصلة بين الفكر والوجود ـ اضطرّ لوضع الأفكار موضع الموجودات واعتبارها أشياء قائمة بأنفسها، وهو بقوله إنّ فكرة الله محصلة، وبفصله بينها وبين الاستدلال الذي ينتجها ويصوغها، يمهّد السبيل لاعتبارها مجرّد صورة فكريّة أو وهمًا ضروريّاً كما يقول كانط، أو تشخيصّاً للمجتمع كما يقول الاجتماعيّون، أو ما إلى ذلك من أقاويل».[1]

وبسقوط هذه الفكرة الديكارتيّة تسقط إحدى الأفكار الرئيسة التي قامت عليها المثاليّة الديكارتيّة، وهي أدلّة وجود الله تعالى التي ساقها تبعًا لها، فإذا ثبت وجود الله تعالى، فقد ثبت أنّ الوجود واجب له، في حين أنّ الانتقال من الوجود المتصوّر إلى الوجود الواقعيّ فإنّه يعدّ مغالطة، وقد أشار إلى ذلك توما الأكوينيّ في معرض ردّه على دليل القديس أنسلم، وإذا ما كانت فكرتنا عن الله تعالى ناقصة وقاصرة ومكتسبة بالاستدلال فهذا نقد جوهريّ يمكن

(149)

أن يوجّه للدليل الثاني الديكارتيّ على وجود الله، إذ ليست في حاجة إلى علّة لا متناهية، كما أنّه لا يمتنع أنّ تصدر عن الموجود المتناهي الذي يتصوّرها، إذ يتصوّرها بحكم ينفي الحدّ ويطلق الوجود من كلّ قيد، وبالنظر إلى الدليل الثالث نجد النقد الموجه له ينحصر في أنّه ليس هناك مسوّغ للانتقال من وجودي المتناهي إلى الوجود اللامتناهي، حيث إنّ الانتقال عند ديكارت لا يجري بتطبيق مبدأ العليّة على الوجود، بل بحصول فكرة اللامتناهي، في فكر متناه لو أنّه خلق نفسهلخلقها كاملة لا متناهية، فإذا كانت فكرتي إذن عن اللامتناهي ليست لامتناهية، فقد بطل الاستدلال، ولم يبق منه شيء إلّا أن أكون قد خلقت نفسي، أي قد أكون، وأنا موجود متناه حاصل على أفكار متناهية، خلقت نفسي متناهيًا، وهذا هو التناقض الذي وقع فيه ديكارت وهو بصدد إثبات وجود الله وصفاته.[1]

ومن ثمّ نفهم أنّ طريقة ديكارت ومنهجيّته في الاستعاضة عن منطق أرسطو بالمنهج الرياضيّ، وهذا يتبعه عدم وجود حقائق ضروريّة، وهذا بدوره فتح المجال للشكّ في حقائق العقل، قد أحدث نوعًا من التغيير في اتّجاه الفكر العالميّ، حيث كان العقل في الفلسفات السابقة على ديكارت يدرك الموجودات، في حين صار في الفلسفة المثاليّة منكبّاً على الذات المفكّرة، وهذه أخطر ما نتج من هذه المثاليّة؛ لأنّ الفلاسفة بعده ساروا على هذا التصوّر المثاليّ، ومن ثمّ أباحوا لأنفسهم، فأنكروا العالم الخارجيّ، ومبدأي: العليّة والفاعليّة، وهذا انتهى بهم إلى إنكار وجود الله تعالى والنفس والجوهر.

(150)

وهذا الفصل بين الفكر والوجود تبعه الفصل بين العلم الواقعيّ والفلسفة، فأضحى العلم لا يعرف له موضوع غير الامتداد والحركة، وعليه حصرت الفلسفة محيطها في الفكر، فصارت تأليفًا ذاتيّاً أو نوعًا من الفنّ، وانقسم الفلاسفة قسمين: القسم الأوّل يأخذ بالعلم فيردّ الفكر إلى حركة ماديّة، والقسم الثاني ينحاز إلى الفلسفة، من ثمّ يردّ المادّة والحركة إلى الفكر، وهذه الثنائيّة ما زالت تطلّ برأسها بما ترتّب عليها من إشكاليّات حتى يومنا هذا.[1]

وفيما يتعلّق بإثبات وجود النفس وجوهريّتها في المثاليّة الديكارتيّة فإنّنا نجد مبدأ: (أنا أفكّر إذن أنا موجود) حاضرًا بقوّة، فديكارت يدلّل ميتافيزيقيًا على جوهريّة النفس بالقياس القائم على أنّ الشيء الذي لا يتصوّر كذات فليس له وجود كذات، وبناءً عليه فهو جوهر، والشيء المفكّر فيه لا يتصوّر إلّا كذات، ومن ثمّ فهو لا يوجد إلّا كجوهر. وقد انتقد ديكارت هذا القياس مُعتبراً إيّاه من قياسات الأغاليط، “هذا القياس غلط؛ لأنّ المقصود بالذات في المقدّمة الكبرى هو الشيء الذي يتصوّر كذات، أي الذات التي تدرك كذلك، أو الذات التي هي في الوقت نفسه موضوع إدراك، وفي الصغرى ليس المقصود شيئًا، من حيث إنّ قولنا الموجود المفكّر، أو أنا أفكّر لا يتضمّن موضوع فكر، بل يعني الشرط الضروريّ لإمكان الحكم وإحداث وحدة الشعور، فإنّ أنا أفكّر هي الصورة التي تجمع الظواهر في فكر واحد بعينه، ذلك بأن ليس لنا حدس بنفسنا كذات مفكّرة، وكلّ ما ندركه هو فكرنا متعلقّاً بموضوعات لا مستقلّاً، فإذا

(151)

طبّقنا المقولات على (أنأ أفكّر) كان هذا التطبيق فعلاً منطقيّاً صرفًا عاطلاً من أيّ قيمة موضوعيّة، من حيث إنّ المقولات لا تطبّق تطبيقًا موضوعيّاً إلّا على الحدوس الحسّيّة، فلا يسوّغ الانتقال من وحدة الفكر كشرط منطقيّ إلى وحدة جوهر متقوّم بذاته».[1]

وبرغم هذا النقد للمثاليّة الديكارتيّة إلّا أنّ هذا لا يمنع من كون مثاليّته قد حرّرت العقل من سلطة الوجود، فديكارت كان منهجه قائمًا على أساس أنّ الفكر يخضع للفكر، ولا شيء سواه، فجعل الوجود تابعًا للفكر، بعدما كان الفكر في السابق هو الذي يتبع الوجود، وهذه ليست فردانيّة سلبيّة، وإنّما فردانيّة إيجابيّة، تنطلق بالفكر من مرحلة العاطفة والفوضويّة إلى مرحلة الحقّ والقانون.

ب ـ نقد المثاليّة الذاتيّة عند باركلي:

تعدّ المثاليّة الباركليّة مثاليّة مغالية إلى حدّ التطرّف، فقد ألّف باركلي كتابًا تحت مسمّى (اللاماديّة)، أكّد فيه وجود علاقة وثيقة بين الذات المفكّرة والعالم الخارجيّ، رافضًا أنّ يكون هناك وجود للعالم الخارجيّ منفصل عن الذات[2]، في تأكيد واضح للرابط بين الوجود والفكر، ومن ثمّ شغلته فكرة الذات كمنبع للفكر، أو كمصدر رئيس للأفكار، التي هي بدورها مصدر لوجود العالم الخارجيّ، ومن ثمّ فقد حكم المتخصّصون على هذا النوع من المثاليّة بأنّها مثاليّة لا ماديّة أو بأنّها مثاليّة ذاتيّة.

(152)

لكنّ أهمّ ما يوجه لباركلي في مثاليّته من نقد هو رفضه لقانون السببيّة أو العليّة، لأنّ هذا القانون ساعد في تقدّم العلم البشريّ لربطه بين الأشياء وأسبابها الموجودة في الكون، إلّا أنّ باركلي نقد هذا القانون تحت دواعي لاهوتيّة صرفة، فذهب إلى أنّ القول بلزوميّة وجود علّة لكلّ معلول فكرة خاطئة، لأن الله هو علّة العلل والعلّة الأولى والوحيدة لكلّ معلول، وهذا الموقف الباركلي ينقد في جانب منه، فالله تعالى لا شكّ هو علّة العلل ومسبّب الأسباب، فكلّ شيء هو سبب وجوده وعلّته الأولى، إلّا أنّ الله تعالى وضع أسبابًا في الكون وربط كل معلول بعلّته، ودعا الناس للبحث والتأمّل في الكون لاكتشاف هذه العلل وتلك الأسباب، ولو أغفلنا هذه العلّيّة لأغفلنا دون أنّ ندري الأسباب والمسبّبات التي تدلّ على وجود الله تعالى ذاته، خصوصاً أنّ الأمر لو تعلّق بعلاقة السببيّة بالأفعال الإنسانيّة لسرنا دون أنّ ندري الإقرار بالجبر، وهذا الأمر بدوره يناقض أسس الثواب والعقاب، ومبدأ التكليف الشرعيّ. ونعتقد أنّ ابن رشد قد وصل إلى حلّ مقنع في هذه القضيّة، وينحصر هذا الحلّ في أنّ الله خلق للإنسان القدرة على الفعل، غير أنّ تلك القدرة ليست مطلقة، وإنّما هي مقيّدة بالأسباب الخارجيّة التي جعلها الله في الكون، وتلك الأسباب قد تساعد على إتمام الفعل، وقد تعمل على الوقوف في سبيله، وهذه الأسباب تتعلق بالأفعال الاضطراريّة والاختياريّة على حدّ سواء.[1]

من المآخذ الرئيسة التي تؤخذ على المثاليّة الباركليّة محاولة

(153)

تحويله المعاني إلى أشياء خلافًا لما هو سائد عند العامّة والخاصّة من محاولة تحويل الأشياء إلى معانٍ، وإذا كان وجود الشيء مرتبطًا بإدراكه ووجوده في الذهن، فإنّ باركلي بذلك قد قدّم للشكّاك والملحدين هدية على طبق من فضّة، إذ إنّ رأيه يفضي بالتبعيّة إلى عدم وجود الله تعالى، وهذا محال، كما يفضي بالتبعيّة إلى إنكار وجود الروح، وإنّها ليس لها وجود، وهذا محال ثان، بل لقد جعل من الإدراك ذاته أمرًا ليس له وجود، وهذا محال ثالث.

إذا كان الموجود هو ما يدركه الذهن، فكيف يتلّقى الإنسان إحساساته بصورة مستمرّة من العالم من حوله؟ّ! فنحن من حولنا نسمع أشياء، ونرى أشياء من حولنا، ولا إرادة لها في إيجاد هذه الأشياء من قريب أو بعيد، وهذا يعني أنّ هذه الأشياء لها وجودها الحقيقيّ، والذي وجد، ولكن ليس على أساس الفكرة التي قال بها باركلي، وهذا معنى فساد الفكرة. وإلّا فمن أين تأتي كلّ هذه الأشياء التي تخضع لإحساسنا بطريقة متواصلة ونحن لا ندركها، ومن غير إرادة منّا حسب الزعم الباركلي؟ حتّى مع ردّ باركلي على كل ذلك بأنّ العلّة في هذه الإحساسات المتواصلة هو الله الذي يخلق كلّ هذه الأشياء، فإنّه أبقى الأمر بعيدًا عن دائرة العقل، ولم يقدّم تفسيرًا علميّاً فلسفيّاً لما انتهى إليه، وهذا دليل على ضعف الفكرة التي قامت عليها مثاليّته.

ومن ثمّ انتقدت هذه الفلسفة المثاليّة على أساس أنّ فلسفة باركلي المثاليّة متطرّفة في الإعلاء من شأن العقل. فبحسب هذه الفلسفة المثاليّة، فإنّ وجود كلّ الأشياء مرهون بوجود العقل الذي

(154)

يدركها. إلّا أنّ اللاماديّة التي تقوم عليها هذه الفلسفة لا تعني في الواقع أنّ وجود الأشياء والصور مرهون بعقل هذا الشخص أو ذاك، فللأشياء، باعتقاده أيضاً، وجود حقيقيّ، مستقلّ عن العقل البشريّ، وقوله إنّ الأشياء لا وجود لها إلّا بوجود عقل يدركها، يعني أنّ للأشياء، لكلّ الأشياء، وجوداً حقيقيّاً، لأنّ هناك عقلاً إلهيّاً يدركها، فهي إذن موجودة حقيقة، حتّى إن لم يدركها العقل البشريّ.[1]
ومن ثمّ كان العقل الإلهيّ اللامتناهيّ هو الذي يعرض علينا هذه الأشياء ويرشدنا عن طريق الأحاسيس للتعرّف إليها وسبر غورها، “فالعقل البشريّ ليس علّة، أيّ سبب، وجود هذه الأشياء، ولا مصدرها أو المتحكّم في وجودها وظهورها واختفائه، وفي الواقع العمليّ تؤدّي فلسفة باركلي المثاليّة الصرفة إلى عكس ما كانت ترمي إليه.

إذًا لم يبق أمام المرء، بعد ظهور فلسفة باركلي، إلّا الاختيار بين نظريّتين متناقضتين لا وسط بينهما: النظرة المثاليّة الصرفة التي ترى أنّ الإنسان كائن محدّد بوعيه وإدراكه، والنظرة الماديّة التي تعترف بإمكانيّة الإنسان في التعرّف إلى عالم له وجود حقيقيّ. ولقد اختار الكثير من فلاسفة ذلك العصر الرأي الثاني. ونالت هذه الفلسفة تأييداً أكبر خاصّة بعد ظهور فلسفة هيوم”.[2]

(155)
ثالثاً: المآخذ على المثاليّة النقديّة:

لم تسلم المثاليّة النقديّة الكانطيّة من سهام النقد التي وجّهت لها، حتّى من معاصريها، إذا لم تكن مثاليّة كانط تعمل في جوّ من الموافقة والتأييد لأفكاره المثاليّة الجديدة، وإنّما كانت تلقى العديد من أوجه المعارضة، بل واجهت العديد من العقبات، خصوصاً أنّها لم تكن في الساحة بمفردها، بل كانت هناك العديد من المدارس المعارضة من أمثال: المدرسة الدوغمائيّة الباركليّة، والمدرسة الظنيّة الشكّيّة الديكارتيّة، وغيرها من المدارس التي كان يعجّ بها ذلك العصر.

ويمكن إيجاز عوامل نقد المثاليّة الكانطيّة من قبل المعاصرين واللاحقين في الآتي:

أ ـ عدم الثقة بالفكر العقليّ النظريّ.

ب ـ الرغبة عن اليقين العقديّ والتراث.

ج ـ نقد المثاليّة باسم المسيحيّة.

د- اتّهام مثاليّته بأنّها جرّدت الطبيعة من التقديس.

هـ - الاستناد إلى نقد داخليّ مبني على استقراء الفلسفة المثاليّة.

كما أنّ نظريّة المعرفة في المثاليّة الكانطيّة خاصّة والمثاليّة الألمانيّة عامة ندركها عن إجابته على سؤال مؤدّاه: ما التنوير؟ «فإن جواب كانط عن مسألة: ما التنوير؟ يحدّد أسسًا عمليّة، كيف يمكن للبشر أن يتحرّروا من القصور الذي كاد أنّ يصبح طبيعة ثانية لهم؟

(156)

وقد ركّز كانط في المقام الأوّل في نقد العقل الخالص، الذي يؤدّي إلى تجديد نظريّة المعرفة، والذي يسهم كثيرًا في تغيير الثقافة العقليّة العامّة، فالنقد يعني سبر المجال لميتافيزيقا مستقبليّة علميّة وغير تجريبيّة، حتّى يقدّم جوابًا موثوقًا عن سؤال مركزيّ: ماذا يمكن أن أعلم؟ وهمّه الأوّل لم يكن طلب تكوينيّة تجريبيّة، ولا موضوعاتها، بل هو الشروط المتعاليّة لإمكانيّة المعرفة».[1]

وأشدّ ما يمكن أن يوجّه إلى مثاليّة كانط من نقد دعوته المتبطّنة بإنشاء دين عالميّ تنضوي تحت لوائه كلّ الأديان؛ بحيث لا يكون هناك فوارق بين الأديان، ومن ثمّ كانت هذه الدعوة إلى دين الإنسانيّة مقدّمة للقضاء على الدين الإسلاميّ خاصّة، ولذا نجد هناك نوعين من الدين عند كانط: الدين التاريخيّ، والدين العقليّ الأخلاقيّ.

لقد كان كانط يظنّ أنّ الدين الأخلاقيّ هو الدين الحقّ، استنادًا إلى فكرته القائمة على أنّ الأخلاق أساس الدين، فقد جعل الأخلاق قائمة بذاتها، ولا أساس للدين فيها، حيث تؤسّس على رافدين: تصوّر حريّة الإنسان، والتصوّر العقليّ، ومن ثمّ فإنّ هذا الدين العقليّ الأخلاقيّ عنده لا يخضع لأيّ نوع من القوانين غير المشروطة، بل ليس في حاجة إلى كائن أعلى؛ ليعرف منه الواجب، ولا يحتاج إلى أيّ دافع آخر غير القانون، لكي يراعيه؛ وذلك برعاية العقل العملي المحض.([2]) وهذا ما وضّح جليّاً في كتاب: الدين في حدود العقل

(157)

وحده، الذي عالج فيه الدين بكلّ مكوّناته: الوحي، الشريعة، الرموز، المعجزات، المعتقدات.[1] حيث عدّه أحد الباحثين التكملة المنطقيّة لكتاب: نقد العقل العمليّ.[2]

وهذا يفسّر لنا لماذا كانت المقابلة بين الدين التاريخيّ كما أسماه والدينيّ العقليّ الأخلاقيّ حاضرة بقوّة في ذهن كانط ؟ فهو لم يكن يعالج فكرة الدين الأخلاقيّ العقليّ إلّا وهو يستحضر معه فكرته عن الدين التاريخيّ، ليذهب إلى الاعتقاد بالدين الأخلاقيّ مؤسّس على العقل وحده، في حين أنّ قوانينه هي قوانين قبليّة لا تقوم على أيّ وقائع تاريخيّة أو أسس تجريبيّة، هذا الدين الأخلاقيّ يسري فيه القانون الأخلاقيّ، فهو دين يؤمن بوجود إله من دون وحي.[3]

فكانط يعلي من قيمة الدين العقليّ على الدين الموحي الذي يسمّيه الدين التاريخيّ تقليلاً من شأنه وتهميشًا لدوره الأخلاقيّ، وهو لا يستحضر المقارنة بينهما إلّا من أجل هذه الغرض؛ لكي يوحي لقارئيه بأنّه أمام نوعين من الدين أحدهما عقليّ أخلاقيّ يسهم في شيوع روح السلام، ويؤسّس لاتّجاه عقلانيّ في قراءة

(158)

الدين التاريخيّ، والآخر تاريخيّ يتّهمه بكلّ نقيصة، بكلٍّ يكاد يجزم مُتجنيّاً بأنه سبب التخلّف والرجعيّة، وأنّ أيّ اتّجاه يتمسّك بهذا النوع من الدين أنّ هو إلّا اتّجاه يعيش في الماضي.

كما يمكن نقد فكرة الواجب عند كانط ورفضه تأسيس الأخلاق على الغاية. إذ يمكن القول إنّ مسألة غاية الأخلاق من المسائل التي انتابها جدل كبير في محيط الدراسات الأخلاقيّة بين مؤيّد لكون الأخلاق غاية في حدّ ذاتها، وبين مؤكّد على أنّها وسيلة لتحقيق غاية أرفع وأسمى، بيد أنّه ما من نظريّة أخلاقيّة إلّا قد بيّنت موقفها من الغاية الأخلاقيّة، سواء أكانت مؤيّدة أو معارضة لها؛ لأنّها من الأسس التي تقوم عليها أيّ نظريّة أخلاقيّة.

      فالدراسات الأخلاقيّة منذ بدء نشأتها على يد المفكّرين من اليونان تناولت غاية الأخلاق بكثير من العناية والاهتمام، على الرغم من سقوط بعضها في بحر اللذّة والشهوة، وقد ظهر هذا الاتّجاه على يد السُفسطائيّين، ثمّ تطوّرت هذه الدراسات إلى يومنا هذا، غير أنّه ظهر بعض المفكّرين الذين أنكروا أن تكون للأخلاق غاية، وكان على رأس هؤلاء الفيلسوف الألمانيّ كانط، فالأخلاق عنده هي أداء الواجب، ومن ثمّ فقد رفض مبدأ الغاية، مستندًا في ذلك إلى أنّ الإنسان عاجز عن أن يحدّد بيقين كامل السعادة الحقّة؛ لأنّه سيحتاج حينئذ - في نظره - إلى المعرفة الكليّة التي تحيط بكلّ شيء.[1] وبالقطع هذا محال؛ لأنّ الإنسان مهما بلغ علمه، فإنّه لا يستطيع إدراك المعرفة الكليّة التي تحيط بكل شيء، بل لقد بلغت

(159)

المثاليّة بكانط حدّاً مفرطًا عندما أكّد أنّ الفعل الخلقيّ إذا لم يصدر عن مبدأ الواجب، وحدث أن اتّفقت نتائجه مع مقتضيات الواجب، فإنّه لا يوصف بأنّه فعل أخلاقيّ.[1] وإن كان هناك من الباحثين من حاول أن يخفّف من هذه الحدّة، ففسّر الأمر على أنّ السعادة عند كانط ليست خيرًا إلّا باتّفاقها والسلوك الأخلاقيّ  الحسن.[2]

وعلى النقيض تمامًا من كانط نجد أنّ أكثريّة الدارسين في الدراسات الأخلاقيّة يقرّون بأنّ للأخلاق غاية، ولكنّهم اختلفوا في تحديد هذه الغاية، ومن ثمّ اختلفت اتّجاهاتهم إلى ثلاثة:

أ ـ الاتّجاه الأوّل يرى أنّ غاية الأخلاق هي اللذّة مثل السُفسطائيّين.

ب ـ الاتّجاه الثاني يرى أنّ غاية الأخلاق هي المنفعة كبنتام ومل ومذهب الوضعيّة التجريبيّة عامّة.

ج ـ الاتّجاه الثالث يرى أنّ غاية الأخلاق هي السعادة القصوى والخير الأسمى.

 أمّا السعادة أو غاية الأخلاق في الإسلام فهي ذات خصوصيّة، فلم يجعل الغاية من الأخلاق النفع الدنيويّ أو اللذّة كما قالت به بعض المذاهب الأخلاقيّة البشريّة؛[3] لأنّ الإسلام في كلّ قضاياه ينظر إليها نظرة شموليّة ودقيقة، ومن ثمّ فقد كانت غاية الأخلاق

(160)

فيه تتناسب مع جوهر الدين الحنيف. فالسعادة في الإسلام لها أنواع كثيرة: فهناك سعادة أو خيرات نفسيّة، وهناك سعادة أو خيرات بدنيّة، وهناك سعادة أو خيرات دنيويّة، وهناك سعادة أو خيرات أخرويّة، وتسمية هذه الخيرات سعادات، إمّا لأنّها معاونة في بلوغ السعادة المطلقة، وإمّا لكونها نافعة فيها، وإذا كان للسعادة أنواع فإنّ أعلاها وأشرفها السعادة الحقيقيّة وهي السعادة الأخرويّة، ولئن كانت السعادة الأخرويّة هي الغاية العليا للأخلاق، فإنّ هذه السعادة تتضمّن أنواع الغايات والأهداف الأخرى.[1]

ومع ذلك فالغاية الأخلاقيّة في الإسلام تجمع بين المثاليّة والواقع، فقد كانت الأخلاق فيه تقوم على الأسس الواقعيّة، حيث تعترف للإنسان بدوره في اتّخاذ طريقه الأخلاقيّ الذي يريده، فأقر بوجود الطبع ووجود الاكتساب وحريّة الإرادة الإنسانيّة، ومراعاة الطبيعة البشريّة، وعناصر المعيار الأخلاقيّ، ومصادر الإلزام الأخلاقيّ، فكان الإسلام واقعيّاً أن جعل الإنسان يكتسب أخلاقه، ولا ترد عليه من خارج، وجعل اكتسابه قائمًا على حريّة الإرادة، وراعى الطبيعة البشريّة، فلم يتخيّلها طبيعة مثاليّة بعيدة عن الواقع، وإن أقرّ بوجود بدن وروح من عالمين مختلفين، ولا قوام لأحدهما في سبيل تحصيل أخلاقه إلّا بالآخر، وحدّد عناصر المعيار الأخلاقيّ على أسس واقعيّة، فجعلها في الضمير الأخلاقيّ والعقل ومعيار وغيرهما، بل جعل مصادر الإلزام متماشية مع شرائعه، فحدّدها في العقل ووازع السلطان والترغيب والترهيب والشرع إلى غير ذلك من مصادر الإلزام.

(161)
رابعاً - المآخذ على مثاليّة العمل:

تقوم مثاليّة العمل عند فيشته بالأساس على مبدأ الأنا الخالص القائم على التحرّر من توابع الحسّ، واتّباع تعاليم العقل، والأخذ بسبل التفكير، إلّا أنّ هذا المبدأ قام على العديد من الأوهام التي لا يرتضيها صاحب عقل سليم.

فالمذهب المثاليّ عند فيشته ينبني على تناقض رئيس، إذ إنّ كلّ ما خلا الأنا فهو من خلق الأنا الخالص، والأنا الخالص إنّما يخلق من أجل التحقّق، أي لكي يتحقّق، فهو ينقسم إلى كثرة من الأناوات التجريبيّة، ويتحقّق فيما بينها من علاقات أخلاقيّة، ولكن ما هذا الأنا الذي يضع اللاأنا ليحدّ به ذاته، ويفرضه على نفسه ليقاومه، ويحاول التغلّب عليه ليمحوه، فيحقق ماهيّته التي قوامها الحريّة؟ الإجابة أوهام في أوهام، وأضغاث أحلام، وهذا ما تناوله شيلنج بالنقد والتحليل.[1]

 

خامساً: المآخذ على المثاليّة المطلقة:

يمكن القول إنّه على الرغم من أنّ هيجل استطاع أنّ يقيم فلسفة واسعة، جابت الفكر العالميّ شرقًا وغربًا، واستطاعت أن تصنع نوعًا من الحراك حولها حتّى الآن بما تبنته من أفكار، بغضّ النظر عن اتّفاقنا معه من عدمه، وبما استندت إليه من منهج ظلّ واضحًا في كتاباته، إلّا أنّ هذا لا يمنع من القول بأنّها احتوت على العديد

(162)

من جوانب الضعف خاصّة فيما يتعلّق فيما نحن بصدده من قضيّة المثاليّة.

فقد انتقدت مثاليّته من حيث أنّ المنهج الذي استخدمه هيجل فيها صناعيّ، وإنّ ثلاثيّاته التي قدّمها لنا إن هي إلّا ثلاثيّات مفتعلة، فالانتقال من الفلسفة الطبيعيّة إلى الفلسفة الروحيّة يجري من خلال محو الصورة الخارجيّة التي اتّخذتها الروح في الطبيعة، ومن ثمّ يحلّ الشعور محل المادّة، ونحن نطالعه في ذاتنا، كما أنّ الدرجات الثلاثة في الطبيعة لا يجدها الفيلسوف في الروح إلّا لأنّه وجدها في الواقع، ومن ثمّ فليس الأمر أمر استنباط حقيقيّ، وهذا الأمر ينطبق على كل ثلاثيّات هيجل، وهذا يفسّر لنا لماذا أخفق في بيان إمكانيّة معرفة الوجود معرفة أوليّة كما يحتّم ذلك مذهب وحدة الوجود؟ إذ إنّ الطبيعة كانت وما زالت إحدى الصور الممكنة للوجود، فرفعها هو إلى مقام الصورة الضروريّة، وأنّى لمنهج كائن ما كان أنّ يقلب الممكن ضروريّاً؟[1]

يمكن نقد هيجل في فكرته عن العلاقة بين الدين والفنّ والفلسفة كتعبير عن الروح المطلق، التي جعلها من محاور مثاليّته المطلقة؛ لأنّه ظنّ أنّ الفنّ هو الذي يخرج معنى الدينيّ الذي في باطننا من الباطن إلى الظاهر، وهذا الظنّ ينطوي على خطأ كبير؛ لأنّه يعدّ تجسيم للإله بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى وإنزاله حاشاه من مرحلة القدسيّة والتنزيه إلى مرحلة التشبيه والتكييف، فما معنى أنّ الفنّ لديه القدرة على تصوير المثل العليا، التي هو بالأساس

(163)

لم يدرك كنهها، ولا طبيعتها، باعتبار العقل ناقصًا؟ وأنّي للعقل الإنسانيّ ذلك وهو يتحدّث عن عالم الباطن عالم الغيب؟ بما يعني أنّ الزعم بأنّ الروح المطلق في المثاليّة المطلقة قابل للتصوير من قبل العقل الإنسانيّ فهذا محال، بالاستناد إلى أنّ قياس الغائب على الشاهد في هذه القضيّة أمر خاطئ بالضرورة، وهذا ما حذّر منه الفيلسوف ابن رشد من قبل.

ثمّ أنّ هناك تساؤلاً يوجه إلى هيجل في مثاليّته المطلقة مؤدّاه: أنّى للفنّ أن يتخيّل الحياة الأبديّة مثلاً بصورة مطابقة لما ستكون عليه في الحقيقة؟ وهل يمكن تصوير هذه المثل بصور ماديّة بداعي تقريب المتخيّل المطلق إلى أذهان الناس؟  إنّ مثل هذه الأمور أعلى منزلة وأرقَى من أن نعبّر عنها من خلال المادّة، فكيف يستطيع الفنّ مثلاً أن يطابق مُثلاً أعلى دينيّاً على سبيل المثال، فأنّى للفنّ أن يتخيّل الحياة الأبديّة بصورة مطابقة لما ستكون عليه في الحقيقة؟ فهل له أن يرسم لنا صورة مطابقة عن يوم الحساب مثلاً، أو حياة الإنسان البرزخيّة؟ أم هل له أن يصوّر لنا الجنّة والنار بصورة مطابقة لما ستكون عليه فعليّاً؟

من الأفكار التي يمكن أن يوجّه لها النقد قوله بأنّ الدين بما هو دين منبثق عن الفنّ!! وإنّ الفنّ محاولة أوليّة على طريق الدين!! وإنّ الوثنيّة هي حلقة الوصل بين الفنّ والدين!![1] بالطبع هذا الكلام

(164)

لا يصدر إلّا عن شخص لا يفهم طبيعة الدين، أو إنّه يقول كلامًا للتقليل من شأن هذا الدين، نعلم أنّ الفكر الفلسفيّ الغربيّ عموماً كان يقف من الفكر الدينيّ الكنسيّ موقفًا متشدّدًا، وينظر إليه على أنّه السبب الرئيس، إن لم يكن الوحيد الذي كان يعوّق الغرب عن التقدّم الفكريّ والحضاريّ، وهذا حقّ، بيد أنّ الباطل بعينه أن تخلع هذا الموقف السلبيّ على كلّ الأديان، وأن تضعها جميعًا في خانة واحدة، بحيث يكون الكلّ عنده سواء وهذا خطأ ـ أقول نعلم هذا، لكن هذا ليس مسوّغًا له لكي يمجّد عبادة الأوثان في العالم باعتبار تواصل مع المطلق المثاليّ، ومحاولة تصويره لتقريبه للأذهان، ويعتبرها المحاولة الفنيّة الأولى التي تصل الفنّ بالدين، كما أنّه ليس مسوّغًا له لكي يعتبر صور تجسيم الإله وتشبيهه في الديانات الأخرى، وخصوصاً النصرانيّة، أعلى صور تصوير الروح المطلق، مع أنّه في واقع الأمر فيلسوف يتمسّك بالعقل، فلماذا لم يتمسّك بعقلانيّته المزعومة لتأكيد أنّ هذا مخالف للعقل، وكيف يبيح له عقله أن يصوّر الإله السامي في صورة البشر، يفعل أفعالهم، ويتكلّم بلسانه كلامًا ككلامهم.

غير أنّ تمسكّه بهذه الفكرة لم يكن ناتجًا إلّا من تديّن مزعوم، أو ربّما كان ناتجًا من لا تدين أصلاً؛ لأنّه سرعان ما تخلّى عنه، ليرى في الفلسفة القائمة على العقل وحده النموذج الذي لا يتحقّق الروح المطلق إلّا معه، ومن ثمّ نفهم أن الروح المطلق أو المثاليّة المطلقة عند هيجل لا تتحقّق إلّا مع الفلسفة، وكأنه هنا يرى أنّ هناك مرحلة بدائيّة لتحقّق المطلق في الأذهان، وهذه مرحلة الأديان التي ارتبطت

(165)

بما يمليه التصوّر العقدي، وهي المرحلة التي كانت - فيما يؤدي إليه توجّهه الفكريّ- مرتبطة بفترة زمانيّة محدّدة، ومن ثمّ ليس عليه في ظنّه أن نتمسّك بتصوّر هذه المرحلة، في حين هناك مرحلة أعلى قادرة على تصوير المثل العليا بصور متطابقة، وهي مرحلة الفلسفة الحديثة لاعتمادها على العقل، ومثل هذا الكلام ليس له أساس من الصحّة؛ نعلم أنّ الفلسفة ولا سيّما الحديثة منها قد وجّهت الفكر الإنسانيّ وجهة أفادته من عدّة وجوه، إلّا أنّها مع ذلك نزعت منه الجانب الإيمانيّ فيه، وجعلت هناك سدّاً منيعاً بين الإنسان ودينه؛ لأنّها جعلته في نهاية اهتمامتها، هذا إذا فترضنا جدلاً أنّها أعارته أدنى اهتمام.

ومن ثمّ فإذا قلنا إنّ كلام هيجل ليس له أساس من الصحّة، فلأنّ تجسيم المطلق ليس في مصلحة الفكر، لأنّنا - دون أن نشعر وربّما ونحن نشعر- نكون قد حوّلنا الروحيّ إلى حسّيّ، والمثاليّ إلى مادّيّ، فنكون بذلك قد اتّجهنا اتّجاهًا غير الذي كنا نريده، بل الصحيح أنّه اتّجاه معاكس له.

كما أنّ فكرة هيجل عن الفلسفة والتواصل الثقافيّ تعدّ أحد صور الدعوة إلى الديانة الإنسانيّة العالميّة التي نادى بها كانط قبله. فهو أوّلاً يكاد يكون قد صوّر المعرفة الإنسانيّة بالبناء الذي شارك كلّ عصر من العصور الفكريّة في تشييده، حتّى إذا كانت الفلسفة الحديثة فقد اكتمل هذا البنيان من وجهة نظره، هذه العصور الفكريّة مرّت بتفكير دينيّ وانتهت بالتفكير العقليّ، ومن ثمّ وجب عنده التواصل بين الفكر السابق واللاحق، لينتهي في النهاية إلى أنّ الفلسفة هي القادرة وحدها على إدراك الروح المطلق، لكنّ

(166)

الأمر عند هيجل كان أبعد من ذلك؛ إذ فكرته المثاليّة هنا تجعل من الفلسفة دينًا أعلى من الدين الموحى، وهو في نظره دين العقل، ففضلاً عن أنّها تعدّ مرحلة من مراحل تفضيل العقل على الوحي، أو الفيلسوف على النبيّ، وهي الفكرة نفسها التي ظهرت في الفلسفة الإسلاميّة خاصّة، وتبعتها فيها الفلسفات الأخرى التالية لها، فإنّها تُبنَى على الإعلاء من العقل لدرجة أعلى من درجة الوحي في نظرنا، وجعلت الفلسفة الحديثة خاتمة الفلسفات، واللبنة الأخيرة في البناء المعرفيّ الإنسانيّ الذي يجب الإيمان به واقتفاء أثره، وجعله بديلاً للديانات القديمة في ظنّه، فهي الدين البديل الذي يجب الإيمان به.

كما أنّ المثاليّة المطلقة عند هيجل تنطلق من فكرة العقل الإلهيّ الموجود في الطبيعة، وهذه الفكرة تعد إحدى صور وحدة الوجود، غير أنّها وحدة وجود منقوصة، وعلى الرغم من رفضنا لفكرة وحدة الوجود عند أعلامها في الفلسفة الإسلاميّة وغيرهم ممّن سار على الدرب نفسه، فإن رفضنا أشدّ لها في المثاليّة المطلقة؛ كونها تحاول أنّ تساوي بين الله تعالى والطبيعة؛ لأنّ فكرته تنطلق في بعض الأحيان من الإيحاء بأنّ الطبيعة هي الروح المطلق، وهذا فيه الكثير من الخلط والتناقض.

 

(167)

المصادر والمراجع

أولاً ـ المراجع العربيّة:

ـ إبراهيم عاتي، الإنسان في الفلسفة الإسلاميّة، ط الهيئة العامّة للكتاب، 1993م

ـ إبراهيم مدكور، في الفلسفة الإسلامية، منهج وتطبيقه، ط دار المعارف، القاهرة، ج 1.

ـ ابن سينا، الإنصاف، ضمن كتاب أرسطو عند العرب، للدكتور عبد الرحمن بدوي، ط مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1947م، ج1.

ـ ابن سينا، منطق المشرقيّين، ط المكتبة السلفيّة، ومطبعة المؤيد، القاهرة، 1910م.

ـ ابن طفيل، حي بن يقظان، تحقيق وتقديم د. عبد الحليم محمود، الثانية، الأنجلو، القاهرة، بدون.

ـ  أبو الوفا التفتازاني، مدخل إلى التصوف الإسلامي، ط دار الثقافة، القاهرة، 1974م.

ـ  أرسطو، كتاب النفس، ترجمة د أحمد فؤاد الأهواني، راجعه على اليونانية د. الأب قنواتي، تحقيق د. عبد الرحمن بدوي، ط عيسى الحلبي، ودار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1949م.

ـ أفلاطون،، جمهوريّة أفلاطون، ترجمة د. فؤاد زكريا، ط المؤسّسة المصريّة العامّة للتأليف والنشر، ودار الكتاب العربي للطباعة والنشر، 1968م.

ـ  أفلاطون، محاورة فيدون، تحقيق د. عزت قرني، ط دار قباء، الثالثة، 2001م.

(168)

ـ  إمام عبد الفتاح إمام، فلسفة الأخلاق، القاهرة، دار الثقافة العربيّة للنشر والتوزيع، بدون تاريخ.

ـ باركلي، المحاورات الثلاثة بين هيلاسي وفيلونوس، ترجمة د. يحيى هويدي، ط القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1976م.

ـ برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية: الفلسفة الحديثة، ترجمة د.محمد فتحي الشنيطي، القاهرة، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1977.

ـ توفيق الطويل، فلسفة الأخلاق نشأتها وتطورها، القاهرة، دار الثاقة للنشر والتوزيع، ط الرابعة، 1985م.

ـ  حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب، القاهرة، الدار الفنية،1991.

ـ حسن حنفي، قضايا معاصرة في الفكر الغربي المعاصر، الجزء الثاني، بيروت، دار التنوير، ط1، 1982.

ـ حسن الشافعي، التيار المشائي في الفلسفة الإسلامية، ط دار الثقافة العربية، 1418هـ - 1998م.

ـ  د. خليل الجر، د. حنا الفاخوري، تاريخ الفلسفة العربية، ط دار الجيل، بيروت، الثالثة، 1993م،ج 1.

ـ ديكارت، التأمّلات في الفلسفة الأولى، ترجمة د.عثمان أمين، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1980.

ـ ديكارت، مبادئ الفلسفة، ترجمة د. عثمان أمين، ط مكتبة النهضة العربيّة، القاهرة، 1962م.

ـ  رينيه سرو وجاك دوندت، هيجل، ترجمة جوزيف سماحة، بيروت، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، 1974م.

ـ  د. زكريا إبراهيم، مبادئ الفلسفة والأخلاق، ط مطبعة وزارة التربية والتعليم بالقاهرة، 1963م.

(169)

ـ زكريا إبراهيم، المشكلة الخلقيّة، مكتبة مصر بالفجالة، القاهرة، 1969 م.

ـ  سعيد زايد، الفارابي، ط دار المعارف، الثالثة، بدون.

ـ  عبد الرحمن بدوي، شوبنهور، الكويت وكالة المطبوعات، بيروت، دار القلم،  بدون تاريخ.

ـ عبد القادر محمود، الفلسفة الصوفيّة في الإسلام، ط دار الفكر العربي، القاهرة.

ـ عثمان أمين، رواد المثاليّة في الفلسفة الغربية، القاهرة، ط دار المعارف، 1967م.

ـ عز العرب لحكيم بناني، الحرية والمسؤولية والخطيئة في فلسفة الدين الكانطية، دراسة منشورة بكتاب : التأصيل النقدي للحداثة وما بعدها،  المغرب، الدار البيضاء، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط الطبعة الأولى، 2005م.

ـ  غيضان السيد علي، أثر الأخلاق الكانطية في مثاليّة توفيق الطويل المعدلة، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية الآداب، جامعة القاهرة، 2011م.

ـ  الفارابي، التعليقات،، (الفارابي الأعمال الفلسفية) تحقيق وتقديم وتعليق د جعفر آل ياسين، ط دار المناهل، بيروت، لبنان، الأولى، 1413هـ - 1992م.

ـ  الفارابي،الدعاوى القلبية، ط حيدر آباد، الهند، 1346هـ.

ـ الفارابي،آراء أهل المدينة الفاضلة، طبع بمعرفة الشيخ فرج الله زكي الكردي والشيخ مصطفى القباني الدمشقي، الطبعة الأولى، مطبعة النيل، مصر، بدون.

ـ الفارابي،السياسة المدنية الملقب بمبادئ الموجودات، تحقيق د. فوزي النجار، ط المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1964م.

ـ  الفارابي، الرد على جالينوس فيما ناقض فيه أرسطو طاليس، تحقيق

(170)

د. عبد الرحمن بدوي، ضمن كتاب رسائل فلسفية، ط بيروت، 1980م

ـ  الفارابي، كتاب إيساغوجي / المدخل، نشرة دنلوب، مجلة The Islamic Oual 01955 - Vol0 2 ـ p 124   نقلاً عن الفارابي في حدوده ورسومه.

ـ  الفارابي، المسائل الفلسفيّة والأجوبة عنها، ضمن كتاب المجموع للمعلم الثاني، ط مطبعة السعادة، القاهرة، 1325هـ - 1907م.

ـ  الفارابي، كتاب قاطيغورياس أي المقولات، تحقيق نهاد كلكيك، مجلة المورد، المجلد الرابع، العدد الثالث، بغداد، 1975م، .

ـ  الفارابي، فصوص الحكم، ضمن كتاب الثمرة المرضية، ط ليدن، 1890م.

ـ  فرح أنطون، فلسفة ابن رشد، ط، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993 م.

ـ  فريال حسن خليفة، الدين والسلام عند كانط، القاهرة، مصر العربيّة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2001م.

ـ  فريال حسن خليفة، فكرة الألوهية في فلسفة باركلي، القاهرة، مكتبة الجندي، الأولى، 1997م.

ـ  كانط، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق،ترجمة  د. عبد الغفار مكاوي، مراجعة د. عبد الرحمن بدوي، ط الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1965م.

ـ محمد الجبر، الفكر الفلسفي والأخلاقي عند اليونان، أرسطو نموذجًا، ط دار دمشق، الأولى، 1994م.

ـ  محمد عابد الجابري، نقد العقل العربي « تكوين العقل العربي «، ط دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الأولى، 1984م.

ـ  محمد عثمان الخشت، أقتعة ديكارت العقلانية تساقط، دار قباء، 1998م.

(171)

ـ  محمد علي أبو ريان، أصول الفلسفة الإشراقية، ط الأنجلو المصرية، القاهرة، الأولى، 1959م

ـ  محمد المصباحي، من العقل الخالص إلى الإيمان الخالص ـ قراءة في كتاب الدين في حدود بساطة العقل، دراسة منشورة بكتاب التأصيل النقدي للحداثة وما بعدها، المغرب، الدار البيضاء، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط الطبعة الأولى، 2005م.

ـ  محمود قاسم، في النفس والعقل، ط الأنجلو، بدون تاريخ.

ـ  محمود قاسم، دراسات في الفلسفة الإسلامية، ط دار المعارف، الثالثة، 1970م.

ـ  محمود كيشانه، محمود قاسم ومنهجه في دراسة الفكر الإسلامي، رسالة ماجستير، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، 2007 م.

ـ  مراد وهبة، المذهب عند كانط، ترجمة نظمي لوقا، مكتبة الأنجلو المصرية، 1974م.

ـ مراد وهبة، المذهب عند كانط، ترجمة نظمي لوقا، مكتبة الأنجلو المصرية، 1974م.

ـ  توفيق الطويل، الفلسفة الخلقية نشأتها وتطورها، ط مكتبة مصر، 1967م.

ـ  مراد وهبه، ملاك الحقيقة المطلقة، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

ـ  مصطفى غالب،  الفارابي في سبيل موسوعة فلسفية، ط دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1998م.

ـ  هالة أبو الفتوح أحمد، فلسفة الأخلاق والسياسة، المدينة الفاضلة عند كونفوشيوس، ط دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2000 م.

ـ  هنس زندكولر (محرّر)، المثاليّة الألمانيّة، ترجمة أبو يعرب المرزوقي وآخرون، الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، بيروت، الأولى، 2012م.

(172)

ـ  هيجل، أصول فلسفة الحق،، ترجمة د. إمام عبد الفتاح، القاهرة، طبعة مدبولي، 1996م..

ـ هيجل، الفن الرمزي، الكلاسيكي الرومانسي، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1986م، ص 84.

ـ  هيجل، مدخل إلى علم الجمال، فكرة الجمال، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1988م.

ـ  هيجل، موسوعة العلوم الفلسفية، ترجمة د. إمام عبد الفتاح، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1985م.

ـ  وفيق غريزي، شوبنهور وفلسفة التشاؤم، ط دار الفارابي، الأولى، 2008م .

ـ  يوسف حامد الشين، الفلسفة المثاليّة قراءة جديدة، منشورات جامعة قاريونس، الأولى، 1998م.

ـ  يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، القاهرة، طبعة دار المعارف،  الخامسة، بدون تاريخ.

 

ثانياً ـ المراجع الأجنبيّة:

- Berkeley، Atreatise Conccrning The Principles of Human Knowledge. Ed، A. Aluce. T. E. Jessap، published by T. Nel Son and Sons Ltd New york، London، 1964، S. 156، p. 113.

Berkeley، philosophical commantries S 429، p 52، 53.

- Fichte،Erste Einleitung in die Wissenschaftslehre (1797)،SW 1S. 440

-Fichte، Grundlage der gesammten Wissenschaftslehre (1794)، SW 1، S، 155f

(173)

-   Fichte، Darstellung der Wissenschaftslehre، (1801)، SW 2، s. 35.

-D. E. Cooper، World Philosophies: An Historical Introduction، Oxford، Blackwell، 1996. P. 242.

-H،J، Paton : the Categorical Imperative، Astudy in Kant`s moral philosophy Hutchinson`s University Library، oxford، 1946، p. 34.

- J. Cottingham، “Introduction” To Descartes: Selected Philosophical Writings، Cambridge: Cambridge University Press، 1988. P. Vii.

 -  Kant، Religion    Boundary    of  Pure the reason

، translated by j.w semple، university of Toronto Library، 1995

- Kant، Critique of practical reasons، translated by Thomas kungsmill Abbott in Great books of the western world (kant 39) fifth printing، United States of America، 1994.

-Kant، Fundamental of the Metaphysic of Morals، translated by Thomas kingsmill Abbott in Great Books of the Western World (Kant 39) fifth printing United States of America. 1994، p 256.

 -Kant، Kritik der rienen venunft، 2 ed، 1787 B 274f.

 -Kant، Critique of pure Rwason، translated by Norman kemp Smith، Macmillan and co- limited، 1950، p. 114

-Kant، Prolegomena zu einer jeden kunftigen Metaphysik (1783)، AAIV، S.274f

(174)

-Kant، Kritik der rienen venunft، 2 ed، 1781 A 11f.

- Karl Marx und Friedrich Engels، Die hilighe Familie oder Kritik der kristchen Kritek Goldsmiths ـ kress libraray of economic literature، no. 34462 (Frankfurt A\M : Literarische Anstalt، 1845)، NEW Bd. S. 7 und 132 Hervorh.  

-Karl Marx und Friedrich Engels، Die Deutsche Ideologie، NEW (Berlin Dietz Verlag 1958)Bd.، 3 s. 36.

- Schelling،System des transzendentalen، Idealismus، (1800)، SW III، s. 352

-Schelling، Ideen zu einer Philosophie der natur (1797)، SWI II، S. 67

-Schelling، Philosophische Untersuchungen uber das Wesen der Menschlichen Freiheit، 1809، SW VII، S.356

 

ثالثاً ـ المعاجم:

ـ  أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفيّة، دار عويدات للنشر والتوزيع، الأولي، 2012م.

ـ  قاموس أكسفورد، الصادر في إنجلترا، مطبعة جامعة أكسفورد 1989 م،

ـ  معجم الرائد، ط دار العلم للملايين، 1992م، مادة مثالية.

ـ  معجم اللغة العربيّة المعاصر، ط عالم الكتب، القاهرة، 2008م، مادة مثل.

ـ  المعجم الوسيط، ط مطابع الأوفست، القاهرة، ط الثالثة، 1985م، مادة مثل.

(175)
المؤلف في سطور محمود كيشانه باحث مصري ، ومدرس محاضر للفلسفة الإسلامية بكلية الآداب ، جامعة القاهرة ، فرع الخرطوم . دكتوراه في العلوم الإسلامية مادة فلسفة إسلامية ، كلية دار العلوم ، جامعة القاهرة 2013 . من مؤلفاته : 1- الأسس الفكرية والمنهجية في الفلسفة الإسلامية المعاصرة (نموذج محمد عثمان الخشت) دار رهف ، القاهرة ، الاولى ،2014م . 2- الدين والنهضة ، قراءة في إشكالية التخلف الحضاري عند المسلمين ، مطبعة الفرج ، مصر ، الأولى ، 2014م . 3- علم الكلام ونشأة الأيديولوجية الفكرية ، ط مكتبة شاكر للنشر والتوزيع ، 2015 م . 4- فلسفة الأخلاق عند إخوان الصفا ، دراسة تحليلية مقارنة ، بيروت - الجزائر ، ط روافد وابن النديم ، الأولى ، 2017 م . 5- بين النزعة العقلية والنزعة الدينية في القراءات الرشدية المعاصرة ، ابن رشد في فكر محمود قاسم ، ألمانيا ، ط نور للنشر ، 2016 م . 6- النزعة النقدية في الفلسفة العربية المعاصرة نموذج وتطبيقه ، الأردن ، ط دار الوراق للطباعة والنشر ، 2017م . (تحت الطبع) . 7- حرية الإنسان في فلسفة الطبع والاكتساب ، الجزائر ، ط دار النشر الجامعي ، 2017م . 8- قراءات في الفلسفة العربية المعاصرة ، الجزائر ، ط دار النشر الجامعي 2017 م . 9- الدعارة الفكرية ، دراسة في نقد الفكر العربي المعاصر ، ألمانيا ، ط نور للنشر ، 2017 م . 10- المجتمع المدني ، دراسة نقدية في بناء المفهوم ، المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية والسياسيات، بيروت ، لبنان ، (تحت الطبع) . 11- منهجية النقد ، دار قناديل العلم للنشر والتوزيع ، السعودية ، (تحت الطبع) .
هذا الكتاب المثالية مفهومها وأنواعها وفلاسفتها تحاول الدراسة الإجابة على مجموعة من الإشكاليات والتساؤلات عن مصطلح المثالية ومراحل تطوره والمدارس الفلسفية التي أظهرت العديد من الجهود والأفكار التي ساهمت في بنائه ، ومن هذه الإشكاليات: ما معنى المثالية لغة واصطلاحا ؟ وهل هناك فرق بين المعنى هنا والمعنى هناك ؟ هل المثالية نوع واحد ؟ أم هي مجموعة متعددة من الأنواع ؟ وهل هي مختلفة فيما بينها من حيث الجوهر أم من حيث الظاهر ؟ وإذا كانت متعددة فما أنواعها ؟ من المنظرين الذين تناولوا مصطلح المثالية بالدراسة والتحليل؟ وما إسهام كل منهم في هذا الشأن ؟ من خلال البحث التاريخي ومتابعة جذور المصطلح كيف نحكم عليه وعليها ؟ أي عليه كمصطلح وعليها كجذور ؟ المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية http://www.iicss.iq islamic.css@gmail.com
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف