البحث في...
عنوان الحوار
إسم المحاور
إسم مجري الحوار
المصدر
التاريخ
ملخص الحوار
نص الحوار
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

October / 14 / 2020  |  994اهتدى الغرب إلى العلمانية لينهي التصادم بين السياسة والدين

الحوار مع :أ. د. محمد سبيلا
اهتدى الغرب إلى العلمانية لينهي التصادم بين السياسة والدين

لم يكن الحوار مع الدكتور محمّد سبيلا مركوزاً في إطار واحد. جالت الأسئلة والأجوبة في فضاءات شتّى، سوى أنّها تلمُّ بجملة من القضايا الفكريّة التي تؤسّس لمقاربات عميقة للإشكاليّات الفلسفيّة التي تواجه حركة الفكر الغربيّ وكذلك الفكر العربيّ والمشرقيّ في لحظتهما الراهنة.

سوف يلاحظ القارئ وكأنّنا في حوارنا وإيّاه كنّا على عجلة من أمرنا. جاءت الحصيلة جامعة ومكثّفة؛ ربما لأنّ الزمن الذي نحن فيه اليوم يمضي كبرق خاطف، إلا أنّه في الآن عينه يمتلئ بما لا حصر من مسائل تنتظر إجابات ناجزة ومُطَمْئِنة.


* ماذا لو كان مدخل حوارنا معكم السؤال عن سبب توقّف مجلّة «مدارات فلسفيّة» التي كانت تصدرها الجمعيّة الفلسفيّة المغربيّة والتي تولّيتم الإشراف عليها.. آلت إلى مدارات حزينة؟ هل هي أزمة البيئة الحاضنة للقول الفلسفيّ؟

ـ «مدارات فلسفيّة» المجلّة التي كانت تصدرها الجمعيّة الفلسفيّة المغربيّة هي نتيجة مجهود شاهقٍ استكتاباً وجمعاً وطبعاً. أنت تعرف أنّ المآلات البهيجة هي نتيجة مجهود إراديّ، ولكنّ المآلات الحزينة هي بمثابة أقدار قد تكون وراءها نيّات خبيثة، وقد تكون نتيجة استنفاذ الطاقة.

من المنظور الشموليّ بعيد الأمد يبدو أنّ ثقافة مثخنة بالأجوبة وتطفح بالحلول والأجوبة الجاهزة ولديها تفسيرات لكلّ شيء، هي ثقافة تتضايق من الأسئلة القلقة ومن التساؤلات والتفكيكات.

* لندخل معكم  ـ إذاً ـ  إلى فضاء المشكلة الأوسع للقول الفلسفيّ الراهن: هل ترى أنّ الدرس السوسيولوجيّ في مداه المختصر وفي تحليل الاستبانات قد هيمن على الروح التأمّليّة.. ثمّ ما مصير الفلسفة في سياق هيمنة العلوم الاجتماعيّة على فروعها النظريّة والتطبيقيّة؟

ـ هناك تناقض قويّ بين الروح الفلسفيّة التي هي روح تراجعيّة تتعارض موضوعاً ومنهجاً مع التناول العلميّ الذي يحاول أن يكون مضبوطاً في خطواته. ولا ننسى أنّ الكثير من العلوم الاجتماعيّة  ـ وعلى رأسها السوسيولوجيا ـ  نشأت باستقلالها عن الفلسفة موضوعاً ومنهجاً وهي لا تـني تردّد تبرَّمها من الأصل الفلسفيّ، وبأنّها حقّقت قطيعة إبستمولوجيّة مع الفلسفة، وأنّ التناول العلميّ يتّسم بالتحدِّيد والضبط والدقّة مقابل الفلسفة التي كانت تقدّم نفسها كعلم كلّيّ شامل للتاريخ وللطبيعة ولما بعد الطبيعة؛ أي أنّ الروح العلميّة السارية في كثير من العلوم الاجتماعيّة هي روح وضعيّة.

نعم، تستطيع السوسيولوجيا التخلّص من الطريقة التأمّليّة للفلسفة، ومن عموميّة موضوعاتها، لكنّها لا تستطيع أن تتملّص أو تتخلّص من المضامين الفلسفيّة؛ بل من الخلفيّات الميتافيزيقيّة وأسسها الكامنة في ما وراء العلم والروح العلميّة. فكلّ علم يضمر خلفيّات فلسفيّة ومسلماتها وجذورها بحيث يصعب عليه تحليلها ذاتيّاً. لكن لكلّ صنف معرفيّ جذوره الأنثروبولوجيّة، فالفكر الإنسانيّ في حاجة دوماً إلى الفلسفة. فأسئلة العلم وتساؤلاته تدور حول مقولة كيف، في حين يذهب الهمّ الفلسفيّ إلى مقولة لماذا؟ الفلسفة إذاً، حاجة إنسانيّة عميقة في الفكر الإنسانيّ.

* على ما يُلاحظ، لم يعد أحد يأبه للمفاهيم... هل يعني ذلك نهاية الزمن الفلسفيّ الجميل حيث كانت المفاهيم والاشتغال عليها هو المدخل الرسميّ للفكر الفلسفيّ؟ هل هي نهاية عصر المفاهيم؟

ـ نحن نعيش عصر الثقافة الجماهيريّة.. كانت الثقافة والكتابة في العصور الشفويّة وفي العصور الكتابيّة شأناً نخبويّاً لا يبلغه إلا الراسخون. الجديد اليوم هو أنّنا دخلنا مع التطوّر التكنولوجيّ عصرَ الثقافة الجماهيريّة. لاحظ أنّ المنخرطين اليوم في الشبكة العنكبوتيّة والذين يدونوّن مدوّناتهم وتغريداتهم ونقراتهم هم بمئات الملايين، كم يكتب من الكلمات في اليوم الواحد وكم يستهلك «القارئ الفرجوي» من مئات الكيلومترات من الأشرطة والفيديوهات؟! لاحظ  ـ مع تكاثر القنوات الفضائيّة ـ  تضخّم عدد الخبراء والمحلّلين والمعلّقين الجيّدين والرديئين، ألسنا أمام تغيّر جوهريّ في خريطة القراءة والكتابة؟... هذا قانون اقتصاديّ.. فكلّما شاعت البضاعة قلَّ ثمنها، وربّما جودتها، وخاصّة «البضاعة» الثقافيّة، وقد حلّل الألمان، مثل: إدورنو بنيامين وانتقدوا بما فيه الكفاية «الصناعات الثقافيّة» والثقافة الجماهيريّة. المفاهيم صناعة فلسفيّة بامتياز فهي شغل نخبة النخبة وهذا قدرها.

الترجمة بوصفها استضافة

* طالما تحدّثنا عن الترجمة.. ما الإشكالات الإبستمولوجيّة التي يتركها تعريب المفاهيم على مستوى الخطاب الفلسفيّ في المغرب؟ وهل من سياسة لإدارة أزمة المصطلحات؟

ـ الترجمة بلغة سياسيّة ودبلوماسيّة استضافة، لا من أجل مجرّد الاستضافة، لكنّها فعليّاً استضافة من أجل التهوية والتلقيح والتخصيب. وهي بالتالي تهوية للنرجسيّة الثقافيّة. كانت قد شاعت منذ عقود مقولة سوّقتها التيّارات الفكريّة الارتداديّة هي «الغزو الثقافيّ» قياساً على الغزو السياسيّ، وذلك بموازاة موجات إعادة ضخّ الحياة في التقليد وكنتيجة مباشرة لدعم الفكر التقليديّ بعد الطفرة، أو الوليمة النفطيّة التي وجّهت أقساطاً كبيرة من مواردها لإحياء الثقافة التقليديّة. حالة الترجمة سيّئة في الفضاء العربيّ؛ بسبب كونها تجارة مربحة.

* كنتم قد اشتغلتم على الأيديولوجيا.. ربّما وجدتم فيها كما تناهى إلينا المعنى والوظيفة التي يلعبها السحر في المجتمعات القديمة أو البدائيّة.. هل ما زلتم على رأيكم، من حضور هذا السحر، خصوصاً في زمن قيل عنه  ربّما زوراً  أنّه زمن نهاية الأيديولوجيا؟

ـ  أنا لم أختر موضوع الأيديولوجيا للدراسة كاختيار نظريّ صرف، بل إنّ هذا الموضوع كان يقلقني نتيجة ملاحظة دور الأيديولوجيا (الأيديولوجيا الماركسيّة في الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي) في مَغْنَطَة الأشخاص وتكييف الأفكار وقولبتها، ومظاهر التعبئة والحشد والشحذ التي تمارسها القناعات الإيديولوجيّة، فموضوع الدراسة هي انعكاس لهمٍّ شخصيّ.

بعد التفرّغ عدّة سنوات لدراسة الأيديولوجيا، وتتبع مفاصلها المنطقيّة واللغويّة والسياسيّة والعقديّة والذاتيّة الواعية واللاواعية، وكذا الخلفيّات الميتافيزيقيّة للموضوع مع الانفتاح على البنيويّة والماركسيّة والوجوديّة وعلم الاجتماع، والفلسفة، والتحليل النفسيّ والمنطق وكلّ الأدوات التي يمكن أن تساهم في تسليط الضوء على الظاهرة الإيديولوجيّة في مختلف جوانبها.. انتهيت إلى عدّة خلاصات، أهمّها وأبرزها: أنّ الأيديولوجيا بنية فكريّة شعوريّة تتراوح بين الوعي واللاوعي وهذه البنية لها صفات المعتقد الدينيّ وشروطه، ممّا يضفي عليها صفة المعتقد، لكنّه معتقد مماثل في بنيته للمعتقد الدينيّ من حيث التكوين والوظائف؛ مع فارق أساسيّ هو أنّه معتقد دنيويّ في مضمونه (حتّى وإن غابت عنه جذوره الميتافيزيقيّة) من هذه الزاوية فالأيديولوجيا عقيدة أو أقرب ما تكون إلى العقيدة في شكلها بمحتويات دنيويّة.

* ترجمتم التعريف الفيبري الأثير للحداثة بوصفها نزع الابتهاج عن العالم.. لماذا نزع الابتهاج وليس السحريّة أو الساحريّة عن العالم؟

ـ  الفرنسيّون حاروا في ترجمة المصطلح الفيبري (Entzauberung) فنحتوا مصطلح (Désenchantement) الذي هو مصطلح لا يخلو من غموض. ولعلّ كلمة نزع الابتهاج هي أقرب للمصطلح الفرنسيّ وقد استعملت أيضًاً نزع الزهور.

وأخيراً، عاد الفرنسيّون في الترجمات المتأخّرة إلى استعمال لفظ (Demagification) وهو أقرب إلى المصطلح الفيبري.

وهنا تسعفنا العربيّة كثيراً؛ لأنّ السحر في العربيّة ذو دلالتين: السحر بمعنى (la Magie) والسحر بمعنى الفتنة، وبذلك يعتبر مصطلح نزع السحر بمعنييه مستوفياً للدلالة.

النظرة السحريّة والميثولوجيّة للعالم تجعله مأهولاً بكائنات وقوى تؤنس الإنسان وتعطي معنى ما لحياته ومصيره وتنثر أزهاراً ووروداً، في حين أنّ النظرة العلميّة من حيث هي نقيض المنظور السحريّ تخلّي العالم وتفرّغه من «ساكنيه»، وتجعله أشبه ما يكون بهيكل عظميّ تتجاذبه  ـ فقط ـ  القوى الفيزيائيّة والتفاعلات الكيميائيّة.

الحداثة الجارفة

* ما مصير الحداثة في المجال العربيّ وبالتحدِّيد داخل ما يمكن التعبير عنه بـ «لعبة القطائع الملوّنة»؟

ـ  عندما نتحدّث عن الحداثة يجب أن نحدّد أوّلاً، هل نحن نتحدّث عن المصطلح، أم عن المفهوم، أم عن الشعار، أم عن الفترة الزمنيّة والتاريخيّة، أم عن الواقع القائم وراء اللفظ...

ثانياً، يستحسن أن نتحدّث عن سيرورة الحداثة، وعن صيرورتها أكثر من الحديث عن مصيرها؛ ذلك لأنّ التصوّر الغائيّ بعيد عن مضمونها. الحداثة العربيّة خليط أو تفاعل حادّ بين الاستمراريّة والقطيعة، بين القفز والتلكؤ، بين التقدّم والتراجع، المهم هو أنّ ديناميّتها الداخليّة متوتّرة بين جاذبيّتين (بالمعنى الفيزيائيّ) جاذبيّة قويّة إلى الخلف وجاذبيّة (وديناميّة) لا تقلّ قوّة إلى الأمام.

الحداثة ديناميّة كونيّة شاملة تجرف حتّى أولئك الذين يرفضونها، فكلّ المجتمعات ذائقة للحداثة ومتورّطة فيها. العرب تارة يقفزون إلى الأمام وتارة يرجعون إلى الخلف؛ مرّة بإرادتهم ورغبتهم في المتابعة والتكيّف والتطوّر، ومرّة بفعل ديناميّات التقليد وتثاقلاته أو بفعل ديناميّات الحداثة نفسها، ولعلّ الديناميّات أقوى من الإرادات في النهاية. والتاريخ هو تركيب معقّد للمكر المزدوج: مكر الحداثة ومكر التقليد معاً.

استعصاء العلمنة العربيّة

* لا يزال مفهوم العلمانيّة يعاني الكثير من الالتباس.. السياقات الإيديولوجيّة والسياسيّة تغيّرت.. لماذا العقل العربيّ ينتج انسدادات إيديولوجيّة سواء على مستوى الوصل بين الدين والسياسة، أو على مستوى الفصل بينهما.. هل العقل العربيّ عقل أزمويّ؛ ذلك على الرغم من أنّ وظيفة الأيديولوجيا هي التحفيز والعمل... ؟

ـ  يبدو أنّ العلمانيّة هي الحلّ الذي اهتدت إليه الثقافة الغربيّة لحلّ النزاع الطويل والقاتل بين الدين والسياسة، أو بين السلطة الروحيّة والسلطة الزمنيّة.

ويبدو أنّ هذا الحلّ مرفوض في الثقافة الإسلاميّة العربيّة الحديثة وبخاصّة لدى التيّارات الدينيّة على أساس أنّ الدين الإسلاميّ دين ودولة، بل تذهب بعض التيّارات إلى اعتبار الدولة من الأركان الأساسيّة في الإسلام.

كان ثمن إقرار العلمانيّة في الغرب سيلان دماء كثيرة، ويبدو اليوم أنّ وصول العنف السياسيّ المستند إلى الدين ذروته اليوم في العالم الإسلاميّ حيث تمارس داعش أكثر أشكال العنف دمويّة وإرهابيّة سيسهم في إمكان تهيئة النفوس للقبول بقدر من التقسيم الذي يمكن أن يحدّ قليلاً من الغلواء والتطرّف. من فلاسفة الحداثة من يقول: ما دام ليس ثمّة دم فليس ثمّة تاريخ، بمعنى أنّ التحوّلات التاريخيّة العميقة ليست نتيجة حكمة أو عقل أو رأي بل نتيجة صراع دمويّ. فهل تسري هذه المقولة على مسألة العلاقة بين الدين والسياسة في الثقافة السياسيّة العربيّة الإسلاميّة؟

* هل ظاهرة الإرهاب هي ردّ فعلنا على الحداثة أم هي صفقة صدّرتها مراكز الحداثة إلى هوامشها؟..

ـ  لو جرّدنا مصطلح الإرهاب من خلفيّاته الجيواستراتيجيّة فهو استعمال العنف الدينيّ في السياسة. وتاريخ البشريّة هو  ـ بالضبط ـ  الصراع الدينيّ السياسيّ. الفرق اليوم هو في أدوات العنف بحكم التطوّر التكنولوجيّ المذهل الناتج في جزء كبير منه عن الدوافع الحربيّة وبحكم العولمة والأنترنت (ولا ننسى أنّ جذور الأنترنت هي جذور عسكريّة وحربيّة في الأصل، فهي إحدى اختراعات الجيش الأميركيّ).

فالحداثة ليست هي التي اخترعت العنف الدينيّ السياسيّ، فالعنف يضرب بجذوره في الطبيعة البشريّة ذاتها. والتاريخ البشريّ وتاريخ الشعوب هو مدوّنة عنف، والدم هو غذاء التاريخ. فحتّى الأدوات الفكريّة التي كانت في الأصل أدوات سلام كالديانات تحوّلت إلى أدوات حرب بمعنى أنّ الطبيعة (البشريّة هنا) أقوى من الثقافة بمحتواها الأخلاقيّ والميتافيزيقيّ. وإذاً، السياسة هي محرّك الإرهاب، والثقافة الدينيّة غذاؤه، والتقنيّة أداته.

* يبدو أنّك تحرص كثيراً على الوضوح اللغويّ والفكريّ في كتاباتك، لماذا؟

ـ  إذا افترضنا أنّ ذلك صحيح، فالوضوح ناتج عن عدّة عوامل:

أوّلاً: التجربة التعليميّة لما يقارب 40 سنة، الوضوح والإيضاح من المقتضيات المهنيّة الأساسيّة في تجربة التدريس.

ثانياً: الوضوح قيمة فكريّة يكتسبها المرء من خلال احتكاكه بالتجارب الفلسفيّة. فالوضوح  ـ مثلاً ـ  هو «شعار» ديكارت في منهجه وفلسفته.

ثالثاً: تاريخنا القريب والبعيد مكانيّاً مليء بالدجل، والدجل ذو مستويات: دجلٌ لغويّ، دجلٌ فكريّ ودجلٌ إيديولوجيّ. ومن الغريب أنّ الدجل يستهوي فئات كبيرة من المتعلّمين حتّى ليبدو  ـ أحياناً ـ  وكأنّه حاجة ومطلب.

سرّ الشغف بهايدغر

* ما سرّ اهتمامكم الأخير بالفيلسوف الألمانيّ مارتن هايدغر؟

ـ  للعودة إلى هايدغر عدّة دلالات: منها أنّها عودة إلى الفلسفة، وذلك بعد مرحلة هيمنت فيها على الفكر والثقافة إيديولوجيّاتٌ وفلسفاتٌ إيديولوجيّة (الماركسيّة البنيويّة في مغزاها الفلسفيّ) وفلسفاتٌ خفيفة Light Philosophies (الوجوديّة الشخصانيّة..). إنّها عودة إلى حضن الفلسفة بمعناها العميق أي إلى الصناعة الفلسفيّة الثقيلة: مسألة الكينونة تعريف الإنسان والنزعة الإنسانيّة، مسألة التقنيّة والميتافيزيقا الكامنة وراءها، مسألة الحداثة، العقل والتاريخ والحقيقة. وقد اقترنت العودة إلى هايدغر بالعودة إلى نيتشه أي  ـ في النهاية ـ  إلى فلسفات تنتقد الحداثة والعقل والنزعة الإنسانيّة.

وقد خصّ هايدغر نيتشه باهتمام كبير ودخل مع فلسفة هذا الأخير في نقاش يعتبر  ـ في نظري ـ  أقوى نقاش وأعمقه في تاريخ الفكر العالميّ.

وبشكل شخصيّ، فإنّ اهتمامي بهايدغر يرجع من جهة إلى الاستلهام والوِرد (بكسر الواو) عامّة، وإلى استثمار تشخيص هايدغر للحداثة فلسفيّاً، ممّا يجعلنا نخرج من التشخيص السوسيولوجيّ للحداثة إلى أعماقها الفلسفيّة والفكريّة.

ثم لا ننسى في الصورة الإجماليّة أنّ فلسفة هايدغر هي محاولة لتفكيك الأسس الفكريّة للغرب انطلاقاً من نسيان الحدث الأصليّ الذي ينبع منه هذا الفكر، وهو مسألة الكينونة. وفي هذا السياق يتمّ الكشف عن الموروث الفكريّ الغربيّ منذ الإغريق، من حيث إنّه محاولة من طرف الذاتيّة الإنسانيّة المهيمنة والتي تتحوّل إلى قوّة إرادة، أو إرادة قوّة تُخضِعُ الواقعَ وتستعملُه. وهذا ما يمثّله عقل الأنوار والعلوم والتقنيّات، وقيم تدبير المجتمع عبر قيم الديمقراطيّة ودولة القانون والحقّ... وبالتالي فإنّ فكر هايدغر هو تأمّل نقديّ عميق في ماهيّة العصور الحديثة.

* يبدو أنّ الفكر الغربيّ حائر أمام ظاهرة كان يعتقد أنّها في طور الأفول فإذا بها تنفجر، أعني الظاهرة الدينيّة، ما رأيك؟

ـ  الظاهرة الدينيّة ظاهرة مركّبة ومتشعّبة إلى حدٍّ كبير؛ إذ هي ذات أبعاد سيكولوجيّة فرديّة وجماعيّة، ووشائج اقتصاديّة وسياسيّة، وأبعاد ميتافيزيقيّة من حيث إنّ الدين يعطي معنى للحياة ومعنى للموت، ويفسّر العالم الآخر ويعطي للإنسان معنًى وأملاً ورعاية وبعداً روحيّاً أو متعالياً يميّزه عن بقيّة الكائنات. لكنّ الفكر النقديّ الغربيّ لا يستثني الدين والمعتقدات الروحيّة من الخضوع لفحوصات الفكر النقديّ. فالتحليل النفسيّ ينظر إلى الدين من زاوية كونه عصاباً جماعيّاً، وفويرباخ قبله اعتبر الدين مجموعة إسقاطات فكريّة بشريّة على عالم كماليّ مفترض، حيث ينسب الإنسان لنفسه كلّ كمالات هذا العالم، فالدين عالم مقلوب. أمّا الماركسيّة فتعتبر الدين وهماً إنسانيّاً جماعيّاً وأداة في يد الطبقات السائدة لتضليل الطبقات المستغَلّة (بفتح الغين) إلى غير ذلك من التشخيصات بما في ذلك التصوّر الوضعيّ.

مع ازدهار حركة الأنوار في أوروبا ساد تصوّرٌ مؤدّاه أنّ تطوّر المجتمعات الغربيّة بفعل تقدّم التكنولوجيا سيجعل الأفراد يستغنون عن الحاجة إلى الدين، وبالتالي فهو في طريقه إلى الزوال.

لكنّ توقعات علم الاجتماع الغربيّ، وإن تحقّقت جزئيّاً وببطء في المجتمعات الغربيّة، فقد فوجئت بانفجار مدوٍّ لظاهرة الاعتقاد الدينيّ في المجتمعات النامية؛ ذلك لأسباب عديدة متداخلة بلغت أحياناً حدّ العنف الأعمى، ممّا طرح على الفكر الغربيّ مهمّة إعادة التفكير في الظاهرة الدينيّة في شموليّتها وتعدّد أبعادها ووظائفها.

* يخطر لي أن يكون لديكم ميلاً إلى اعتبار حقل تاريخ الفكر هو حقل صراع بين الجهابذة، خاصّة وأنّك استعملت هايدغر في مواجهة ماركس؟

ـ  الحقيقة أنّهما معاً مفكّران كبيران، ولديهما حدس عميق. فماركس لمس عمق الحياة في المجتمع من خلال مقولة الصراع الطبقيّ، بمعنى أنّ الحياة الاجتماعيّة هي صراع بين الناس من أجل الممتلكات، وأنّ هذا الصراع يحكم على كلّ مفاصل الحياة الاجتماعيّة وينعكس عليها ممّا يجعله أقرب إلى أن يكون مفكّراً اجتماعيّاً. في حين أنّ هايدغر ينطلق من فكرة قوامها أنّ البشريّة عبر تجاربها الفكريّة الأساسيّة (الإغريق الرومان المسيحيّة (العرب) الغرب الحديث) وباستثناء لحظة ما قبل السقراطيّين قد وَجَّهت اهتمامها نحو الموجود لا نحو فعل الوجود أو الانوجاد (الكينونة)، بل أنكرت وجود الوجود أو الكينونة (لقول نيتشه نفسه: إنّ فعل الوجود هو مجرّد غاز يتبخّر) وركّزت اهتمامها على نمط وجود الموجود. فبالنسبة لها إنّ تاريخ الفكر هو تاريخ العدميّة أو نسيان الكينونة. وقد صرّح هايدغر ذات مرّة بأنّ ماركس ليس فيلسوفاً؛ لأنّ مسألة الكينونة لا تعني بالنسبة له شيئاً. المسألة الثانية أنَّه رغم القول بأنّ ماركس هو فيلسوف التقنية كما قال كوستاس أكسيلوس في كتابه «ماركس مفكِّر التقنية» فهو لم يفهم عمق التقنيّة، ولم يفكّر في ماهيّتها، بل هو مفكّر التقنيّة من حيث إنّه ينظر للإنسان كمنتوج لعمله. فالإنسان هو الكائن الذي ينتج نفسه (ومجتمعه) عبر إنتاجه لنفسه Autoproduction، فهو يستعمل مفهوم الإنتاج لكنّه لا يدري خلفيّاته الفكريّة. ويذهب هايدغر إلى حدّ القول بأنّ الإنتاج الذاتيّ للإنسان هو خراب ذاتيّ (Autoproduction=Autodestruction) إلى غير ذلك من الكلمات القويّة التي يوجّهها لماركس بصدد مسألة التاريخ وصناعته بين التأويل والتحويل. والحقيقة أنّ الخلافات والاختلافات الفكريّة العميقة بين الفلاسفة الألمان الكبار والنقاش العميق الجاري بينهم بصمت (ماركس هايدغر هايدغر نيتشه) هو أعلى وأرقى مستوى فكريّ عرفه تاريخ البشريّة.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف